المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (10)

- ‌المحرم - 1325ه

- ‌فاتحة السنة العاشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌قيمة الاشتراك في السنة العاشرة

- ‌اللائحة الثالثةمن لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية

- ‌تمثيل القصص أو التياترو

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌صفر - 1325ه

- ‌الهوى والهدىأو اللذة والمنفعة [*]

- ‌سنن الاجتماعفي الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم

- ‌إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج

- ‌فتاوى المنار

- ‌التعليم الديني

- ‌كلمة إنصاف واعتراف

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌استقالة اللورد كرومر وتقريره

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌ربيع أول - 1325ه

- ‌تاريخ المصاحف(2)

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق [*]

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌تشبيه كتاب الإحياء بالقرآن

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌إخلاص ابن سعود

- ‌ربيع الآخر - 1325ه

- ‌خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

- ‌أسئلة من بعض أهل العلم بتونس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌المشروبات الروحية وتأثيرها

- ‌آراء الناس في مكاتبتنا مع لورد كرومر

- ‌حادثة دمياطفي طي الأرض، تقبيل أعتاب القبور، صناديق النذور

- ‌جمادى أول - 1325ه

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

- ‌الأشربة الروحية

- ‌أسئلة من الحجاز

- ‌استفتاء عن الكشف الطبي على الميت

- ‌أسئلة من الهند

- ‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌بدعة غريبة في مصر

- ‌جمادى الآخر - 1325ه

- ‌العسر المالي والربا والبنوك

- ‌أسئلة من القاهرة عن الربا

- ‌الجنة والنار

- ‌القسم برب موسى وعيسى وإبراهيم

- ‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

- ‌رجب - 1325ه

- ‌بغداد في القرن السادس

- ‌هلال الصوم والفطر

- ‌سؤالان أو أسئلة من جاوه

- ‌العصبية الجنسية واللواء

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1325ه

- ‌السنوسية والجامعة الإسلامية [*]

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌أبو حامد الغزالي(2)

- ‌أثارة من التاريخ

- ‌نموذج من إنجيل برنابا(2)

- ‌فتاوى المنار

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رمضان - 1325ه

- ‌نموذج من إنجيل برنابا(3)

- ‌بحث في المؤتمر الإسلامي

- ‌النسخ في الشرائع الإلهية

- ‌خطبة إسماعيل بك عاصم المحامي

- ‌أبو حامد الغزالي(3)

- ‌المؤتمر الإسلامي

- ‌رزيئة مصر بحسن باشا عاصم

- ‌الاحتفال بالعقد الأول من عمر المنار

- ‌شوال - 1325ه

- ‌الماديون والإلهيون [

- ‌التدوين في الإسلام

- ‌إصلاح الأزهر

- ‌الأحزاب في مصر

- ‌أوربا والإسلام

- ‌أعمال حسن باشا عاصم

- ‌رزيئة مصر بحسن باشا عبد الرازق

- ‌أقوال الجرائد اليومية في الاحتفال بالمنار

- ‌ذو القعدة - 1325ه

- ‌كتابان سياسيان لحكيم الإسلامالسيد جمال الدين الأفغاني [*]

- ‌كتابان سياسيان للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

- ‌نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية

- ‌حياة اللغة العربية

- ‌أوربا والإسلام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌شيء من سيرة حسن باشا عبد الرزاق

- ‌مصائب الأمة الإسلامية بفقد رجالها

- ‌ذو الحجة - 1325ه

- ‌خطاب الشيخ أحمد الإسكندري في اللغة العربية

- ‌رأي كبار ساسة الغرب في الحركة المدنية الجديدةفي الشرق

- ‌أبو حامد الغزالي(4)

- ‌تعريف وكلام عام في العربية والاستعرابوالتعريب والإعراب [*]

- ‌رأي الشيخ أحمد المنوفي في الإصلاح ورجاله

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌نادي دار العلوم الخديوية

- ‌ترجمة فقيد الإصلاح ذكاء الملك

- ‌فاجعة أدبية

- ‌خاتمة المجلد العاشر

الفصل: ‌صفر - 1325ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة العاشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم أنبيائه، وعلى

آله وصحبه، وأهل وداده وقربه، وعلى كل عبد مصطفى من جميع الورى، أما

بعد: فإن المنار قد دخل بهذا الجزء في سنته العاشرة، فقطع مرحلة الأعداد المفردة،

ووقف بباب الأعداد المركبة، فكان نموه، وثباته، وتغذيه بما يحفظ عليه حياته،

وقوته على دفع عوارض العلل التي تواثبه، ومقاواته لما يناهضه ويناصبه؛ آيات

بينات على أنه كائن حي، يرجى أن يبلغ منتهى العمر الطبيعي، الذي يكون لمثله

بالاستعداد الموهوب والمكسوب، وتوفيق الله المطلوب، وبإسعاد محبي الإصلاح

الذي يدعو إليه، والحق الذي يناضل دونه، وما إسْعَادهم إلا الدعوة به وإليه،

والنصيحة له، والدفاع عنه، فالدعوة حياة المذاهب في الفلسفة، والسياسات،

والأديان، وكل ما يرتقي به شأن هذا الإنسان، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ

وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .

المنار يدعو جميع المسلمين بكتاب الله إلى سعادة الدارين: بتقويم فطرة الله،

ومعرفة سنن الله، وينهاهم به عن التفرق في الدين، ويأمرهم بالاعتصام بحبله

المتين، فالدين والفطرة صنوان، والشريعة والطبيعة شقيقتان، فمُنزِّل القرآن، هو

مُنْزِل الفرقان والميزان، وواضع الشريعة هو خالق الطبيعة؛ فالقرآن هداية

وعرفان، وعروج بالأرواح إلى الروح والريحان، بالعبودية المؤدية إلى رضا

الرحمن، والانتهاء باضطراب أمواج النزعات البشرية إلى مستقر السكينة

والاطمئنان، {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) .

والفرقان عقل يفرق بين الحق والأباطيل، ويدرك أسرار الخليقة وفقه التنزيل،

فهو المخاطب بإقامة الشريعة، وهو المطالب بالتصرف في الطبيعة، فيأخذ منها

بقدر اجتهاده، على حسب استعداده، والميزان عدل عام، في الأخلاق والأفكار

والأحكام، به ينفذ حكم القرآن والفرقان، حتى يلتئم شمل الإنسان؛ فيعطي كل ذي

حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه، وإن لربه عليه حقًّا، ولنفسه عليه

حقًّا، ولزوجه عليه حقًّا، ولأهله عليه حقًّا، ولقومه عليه حقًّا، ولأمته عليه حقًّا،

ولمجموع الناس عليه حقًّا، فالقرآن يهدي إلى الحقوق ويبين، والفرقان يفرق

بين المتشابهات ويعين، وإنما القسمة بالميزان، وبالثلاثة تكمل فطرة الديان،

فالقرآن كتاب مسطور، وضياء ونور، وبالفرقان نقرأ وندرس، ونجتلي ونقبس،

وبالميزان نعمل بالعلم، ونقوم بالقسط، ومن شذ عن هذه الثلاثة فلم يهتد بالنقل

والعقل، ولم يخضع لسلطان العدل، فقد أنزل الله لعلاجه الحديد، الجامع بين

المنافع والبأس الشديد، فيؤدب بقوة السلاح، حتى يستقيم أمر الإصلاح {وَلَا

تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا

يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} (الإسراء: 33) .

{الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ

يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 1-4) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا

رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ

بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} (الحديد: 25) ؛ فهذا بيان للناس؛ بأن بناء معاشهم،

ومعادهم، يقوم على أربعة أركان: الكتاب، والعقل، والعدل، والقوة، وهي

هي القرآن والفرقان، والميزان، والحديد. وقد هدم التقليد الأربعة الأركان، استبدل

بها قول فلان وفلان، أسماء سماها المقلدون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.

فأما ركن الكتاب فبزعمهم أن فهمه، والاهتداء به خاص بنفر يسمون

المجتهدين، وأنهم انقرضوا وقد عقم الزمان عن مثلهم إلى يوم الدين. وأما ركن

الفرقان فيما أهملوا من الحكمة العقلية والدينية، والعلوم النظرية والعملية. وأما ركن

الميزان فبإباحة الاستبداد لذوي السلطان، وتحتيم طاعتهم، ولو في الإثم والعدوان.

وأما ركن الحديد: فبالإعراض عن الأعمال الصناعية، وما تتوقف عليه من

الفنون الرياضية والطبيعية، فمتى يثبت لشعوبهم ودولهم بنيان، وقد هدموا

جميع هذه الأركان، وفسقوا عن هداية القرآن، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا

مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .

فالمنار يدعو المسلمين إلى إقامة الأركان الأربعة باسم الإسلام، من حيث

يحتجون على هدمها بالإسلام. وإنما إقامتها أن يكون أمر الأمة بأيدي أهل القرآن

العرفاء، وأصحاب الفرقان الحكماء، ومقيمي الميزان في السياسة والقضاء، وحملة

الحديد لمدافعة الأعداء ومنع الاعتداء، وهؤلاء الأصناف هم: أولو الأمر، الذين لم

يجب أن يرد إليهم كل أمر، وهم أهل الإجماع الجديرون بالاتباع، وهم أحل الحل

والعقد الذين ينقضون ويبرمون، ويحلون ويعقدون، وهم أهل الشورى الذين

ينصبون الخلفاء والأمراء، ويضعون الأحكام في السياسة والإدارة والقضاء، وعلى

هذا أراد النبي تربية المؤمنين واتبعه بقدر الاستعداد الخلفاء الراشدون، وبترك هذا

حل ما حل من البلاء بالمسلمين {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ

لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .

بهذه الأركان الأربعة كان الإسلام دين الفطرة، والهادي بسنن الشريعة إلى

كمال سنن الطبيعة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا

تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)

فالمسلم من يقيم دين الله، بإقامة سنن فطرة الله، ومن يجمع بين العلم بما أنزل

الله، والعلم بما خلق الله، ويفقه الاتفاق بين قوله:{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس: 64)، وقوله:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30) ، ومن ذهب إلى

التفريق بين دين الله وفطرته، وزعم أن العلم بكتاب الله لا يتفق مع العلم بخليقته،

فقد جهل الخالق والخليقة، والشريعة والحقيقة، وكان حجابًا دون الإيمان، يصد

عنه أولي العلم والعرفان، فما بال من يزعم أن العلم والدين ضدان، أولئك أعداء

القرآن، وأولياء الشيطان {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً

مُّبِيناً} (النساء: 119){يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} (النساء: 120) .

أيحسب هؤلاء الهائمون في أودية الأوهام؛ أن هذا الشيء الذي يسمونه فقهًا

هو الإسلام؟ أليس أصل هذا الإسلام هو القرآن؟ أليست السنة من قبيل العمل به

والبيان؟ فما بالهم قد حصروا الدين فيما لم يحفل بأكثره الكتاب، ولم يفصل فيه

شيء مما وضعوا له من الفصول أو فتحوا من الأبواب؟ أرأيتك كم سورة أو آية

نزلت في أحكام البيع والإيجار، والكفالة والحوالة والجعالة والإقرار، والمساقاة

والمزارعة، والشفعة والوديعة والرهان، والحجر والصلح والغصب والضمان؟ بل

أين ما أكثرتم من أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس؟ وما أطلتم به من الكلام

على الطهارة والطهارات والأنجاس؟ وما جئتم به في جميع العبادات من الرأي

والقياس؟ هل أنزل الله في ذلك كله عشر معشار ما أنزل من الأمر بالنظر في

المخلوقات، واجتلاء آياته في الأرض والسموات من تصريف الرياح والبحار،

وتفجير الينابيع والأنهار، وإنبات الحدائق والجنات متشابهات وغير متشابهات،

وتسخير الدواب والأنعام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، ونصب الجبال

كالأوتاد، وبناء السبع الشداد، ورفع السماء ووضع الميزان، وجعل الشمس والقمر

بحسبان؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ

عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ

سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا

مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} (الفرقان: 45-49) .

فكيف تحصرون جميع أمور الدين، فيما سكت عنه الكتاب أو أجمله أو فوضه

إلى المستنبطين، وتجعلون ما فصل الإرشاد إليه، وجعل المعوَّل في معرفته تعالى

عليه، هو الذي يأتي بنيانه من القواعد، ويقتلع أصول أحكامه والعقائد، أليس هذا

منتهى التفريط في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء؟ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ

تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ

إِلَاّ كُفُوراً} (الفرقان: 50) .

إذا شغلك الفقه عن آيات الله التي بين يديك، فهل يصح أن يشغلك عن آياته

في نفسك التي بين جنبيك، ألم يرشد القرآن إلى السير في الأرض؛ لاستطلاع

العبر؟ ألم ينبئك بسننه في نظام البشر، ألم يهدك إلى أنه- تعالى -لا يهلك

المصلحين؟ وإن كانوا في العقيدة مشركين، وأنه لا يبقي على الظالمين، وأن

العاقبة للمتقين، فما لك لا تعد من هذا الدين معرفة تواريخ الأمم الغابرة، واختبار

أحوال الأمم الحاضرة، ومعرفة الأقطار والبقاع، والعلم بشؤون الاجتماع، أليس

هذا من إقامة القرآن، واستعمال الفرقان والميزان؟ أليس قد أنزل الثلاثة لترقية

شأن الإنسان؟ فكيف تشغلك أحكام حركات الأبدان، ومعاملات الأقران، عن حكم

الديان، في الأناسي والأكوان؟ {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا

مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً

فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الفرقان: 53-54) .

ألا ليت الذين يجعلون هذا الفقه معظم الدين، عنوا به بعض عناية أهل

القوانين، فطابقوا بينه وبين مصالح الناس، من جميع الشعوب والأجناس، وقربوه

من الأفهام، وأبعدوه عن الأوهام، إذًََََََا لبقي لهم ذكرًا وشرفًا، ولم تجد حكامهم عنه

منصرفًا، وها نحن أولاء، نراهم قد نسخوا أحكامه السياسية والمدنية والجنائية، ولم

يتركوا للمسلمين إلا ما يعتقدون من الأحوال الشخصية، وهل كانت أحكام فقهائهم فيها

مرضية، أم تتألم الحكومة منها، وتتألم الرعية؟ ألا إنهم قد نَفَّرُوا الناس من الفقه

والدين، ولولا الجرايات والعسكرية؛ لأعرض عن ممارسة كتبهم أكثر هؤلاء

الشراذم المقبلين، ولو رجعوا إلى هداية القرآن، وأقاموا الفرقان والميزان، وتركوا

التقليد وأحسنوا الحديد، لولَّوا عن هذه الكتب نفورًا، وأوتوا الحكمة {وَمَن يُؤْتَ

الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) {وَإِذَا

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} (الإِنسان: 20) .

إن بعد رجال الدين عن علوم القرآن والفرقان؛ والميزان والحديد، وجمودهم

على ما أوجبوه على أنفسهم من التقليد، جعلهم بمعزل من الزعامة، وحرمهم مقام

الأسوة والإمامة، فلم يبق لهم شيء من الأمر والنهي، وباتوا لا يقصد إليهم في

الاستشارة والرأي، ولا يستفتون في إدارة المصالح ودرء المفاسد، ولا يعتمد عليهم

في نظام التربية والتعليم في المدارس والمكاتب، فَقلَّتْ بعدم الثقة بهم ثقة الناس

بالدين، وكثر الفسق في الجاهلين والكفر في المتعلمين، انحلت رابطة جامعته

الجنسية، وكادت تنفصم عروة أخوته الروحية، وأنشأت الشعوب تتعصب لجنسيتها

الجاهلية، في الأنساب واللغات، والأوطان والجهات، يتسللون منه لِوَاذًا ويفارقون

الجماعة أفذاذًا، فسهل على الأجانب تخطفهم شعبًا شعبًا، وانتقاص بلادهم قطرًا

قطرًا، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} (الإسراء:

41) .

اللهم قد ثقلت علينا الأوزار، فأحاطت بنا النوائب والأخطار، ولا نكاد نرى

فينا علماء يدعون إلى القرآن، ولا حكماء يرفعون شأننا في علوم الفرقان، ولا

حكام يقيمون القسط بالميزان، ولم نشكر نعمتك بإنزال الحديد، ففاتنا معظم ما فيه

من المنافع والبأس الشديد، بل لم نشكر لك شيئًا مما أنزلت علينا، فأنزلت بسنتك

العادلة ما أنزلت بنا.

اللهم إنك تعلم أن مثار بلائنا، ومنشأ ضعتنا وشقائنا، لا يرجع إلى الأجراء

والزُّراع، وإلى السوقة والصناع، ولا إلى الصعاليك والرعاع، اللهم إنك تعلم أن

مثاره سادتنا المستبدون، وكبراؤنا المترفون، 33: 67 {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا

سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .

اللهم إننا أطعناهم مضطرين أو جاهلين، لا مختارين ولا متعمدين، وقد

أيقظنا بلاؤك من رقدتنا، ونبهتنا سنتك من سِنَتِنا، فأنشأنا نفكر في إقامة ما أنزلت

من البينات والهدى، والشكر لك على ما آتيت من المواهب والقوى، بإرشاد

المقلدين، وإرجاع المستبدين {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ * رَبَّنَا

لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة:

4-

5) {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن

لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} (الإسراء: 80) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

السيد محمد رشيد رضا الحسيني

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان في الدين، حافظتان لجميع

الفرائض، ومرغبتان في جميع الفضائل، وتركهما معصيتان كبيرتان، مسهلتان

للفسوق والعصيان، فالمنار يدعو كل من ينظر فيه، إلى انتقاد ما يرون أنه ينتقد

عليه ويعد المنتقدين بأنه ينشر ما يرسلونه إليه، إذا كان مقرونًا بالدليل والبرهان

ولا برهان في الدين إلا السنة المتبعة والقرآن، ومن يتبدل الغيبة بالنصيحة،

وينصرف عن الهداية إلى الغواية، فيخوض فيما نكتبه مع الخائضين، ويزعم أنه

مخالف لهدي الدين، فهو الذي خالف كتاب الله فترك ما أمره به، وفعل ما نهاه عنه،

فإنه فرض النصيحة، وحرم الغيبة والوقيعة.

_________

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قيمة الاشتراك في السنة العاشرة

قد جعلنا قيمة الاشتراك على أهل القطرين مصر والسودان ستين قرشًا

صحيحًا، وعلى عمال البريد منهم ثلاثين قرشًا، وأبقيناها في سائر الأقطار كما

كانت.

_________

ص: 9

الكاتب: محمد عبده

‌اللائحة الثالثة

من لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية

للأستاذ الإمام

يظهر أنه كتبها؛ لأجل إقناع أولي الأمر في مصر بالعناية بالتربية الدينية بعد

عودته من سوريا، وعفو الأمير عنه، وقد وجدت مسودتها بخطه بالعنوان الذي

تراها مفتتحه به. وجامع الكتاب وضع سائر العنوانات قال- رحمه الله تعالى-:

هذا مجمل أفكار فيما يجب الالتفات إليه من نظام التربية بمصر

(ويمكن تفصيله عند إرادة العمل به)

إذا كان الناس في حاجة إلى صلاح الحاكم؛ فما حاجة الحاكم إلى صلاحهم؛

بأخف من حاجتهم إلى صلاحه، فإن السلطة سلطتان: جيدة ورديئة، فالجيدة ما

كانت على المحكومون للمحكومين. والرديئة ما أخذ بها المحكومون لغاية الحاكم،

وقضاء غرضه الثابت.

أما الأولى: فإن منزلتها من المحكومين منزلة الروح من الجسد، لها التدبير

وعلى أعضاء الجسد وظائف العمل، وغاية التدبير والعمل حفظ حياة الكائن الحي،

وهو مجموع الروح والبدن، فكل يستفيد من الآخر ما به بقاؤه ونماؤه.

وكما تحتاج الآلات البدنية إلى سلامة الروح من العلل النفسية: كالجنون

والخمود والجهل ونحو ذلك، تحتاج الروح إلى سلامة الآلات البدنية من الآفات؛

التي تعطلها عن الحركة: كالشلل والخدر والتشنج وما شابه ذلك، وماذا يمكن

للروح السليمة أن تأتيه في بدن؛ تعطلت آلاته وفسدت أعضاؤه.

وأما السلطة الثانية: فمنزلتها منهم منزلة الصانع من آلته، فصاحب السلطة

صانع والمحكوم آلته في الصنع، فهو كاتب مثلاً والمحكومون قلمه، أو هو حارث

والمحكوم محراثه، وكما أن الآلة لا تعمل إلا بالعامل، ولا يظهر أثرها إلا في يده

كذلك العالم لا يمكن له العمل إلا بآلته. وكما يجب أن تكون اليد العاملة قادرة على

إدارة الآلة، يجب أن تكون الآلة وأجزاؤها صالحة للعمل، فإن فقد أحد الأمرين

امتنع العمل أو نقصت ثمرته، فكل من السلطتين في حاجة إلى صلاح المحكوم،

فكما يطلب المحكوم في كل حال؛ أن يكون حاكمه صالحًا لأن يحكمه، كذلك يطلب

صاحب السلطة في أي منزلة كان؛ أن يكون المحكوم بحيث ينقاد إلى كل ما يحكم

به، وعلى الصفات التي تنساق به إلى الغاية التي يذهب إليها حاكمه.

أما ما رسخ في خيال بعض الشرقيين، ومن اغتر بحالهم ممن خالطهم من

الأوروبيين، من أن صاحب السلطة قوته علوية، والمحكوم طبيعته سفلية، ولا

نسبة بينهما إلا أن الأول قاهر والثاني مقهور، وأن الثاني في حاجة إلى صلاح

الأول؛ ليكون به رؤوفًا رحيما، وأن الأول لا حاجة به إلى صلاح الثاني؛ لأنه

مقهور له على كل حال، فذلك منشؤه الغرور والجهل بطبيعة الجمعيات الإنسانية

ونظامها القطري. ولذلك نرى أرباب هذا الاعتقاد من ذوي السلطة، لا تدوم له

دولة، ولا يثبت لهم سلطان؛ لتخبطهم في سيرهم بجهلهم منزلتهم من محكوميهم،

وتصرفهم فيهم على خلاف ما يجب أن يصرفوهم فيه، وتغافلهم عن استطلاع

طباعهم بما يؤهلهم للعمل على ما يريدون منهم.

يقال: إن الرعية في كثير من البلاد آلة للحاكم في بلوغ مقاصده في دولته،

فقد يكون ذلك حقًّا لكنها آلة ذات شعور وإرادة، وما له شعور وإرادة فجميع أعماله

إنما تكون عن شعوره وإرادته، فتصلح الأعمال بصلاح الشعور والإرادة، وتفسد

بفسادهما، فلا يمكن أن تكون تلك الآلة صالحة للعمل، إلا إذا كان الشعور والإرادة

صالحين له، وصلاحهما بأن يكون الشعور وجدانًا للفرق بين النافع والضار،

وبين النظام والاختلال؛ ليكون ما يقرره الحاكم من القوانين وأصول الإدارة معروفًا

عند أغلب الرعية، وأن تكون الإرادة صادرة عن هذا الوجدان، حتى يكون النظام

منها في مكانة الاحترام.

فإذا كان الشعور مختلاًّ والإرادة فاسدة، كانت الأحلام طائشة، والأهواء

متحكمة، ومداخل السوء كثيرة، فويل لذي السلطة من تلك الرعية وبعيد عليه أن

يستقر لسلطانه فيها قرار، وكل ما يتخيله إصلاحًا لهم أو له فيودعه في أصول

حكومته، فهو كالنقش على الماء، أو الرسم في الهواء.

طبيعة مصر والمصريين

أرض مصر ضيقة عن حاجة أهلها، فمساحة الصالح منها للسكنى لا تزيد عن

حاجة الساكنين زيادة بينة، وهي محاطة من أطرافها بالصحاري الجدبة والمياه

المالحة، وليس فيها من الغابات ما يعوذ به الوحشي من الحيوان؛ فضلاً عن

الإنسان؛ ولذلك نرى كثيرًا من أنواع الوحوش؛ التي كُنا نراها كثيرة في البلاد من

نحو أربعين سنة: كالضباع والذئاب والخنازير، قد كادت تنقرض بإصلاح

الأراضي الزراعية؛ وانتشار الإنسان في أطرافها وتعهدها بالزرع والعمارة، وأهل

مصر لا يعرفون معنى المهاجرة من دار إلى دار، ولا يمكن أن يتصوروا ذلك ما دام

في أرضهم نبات ينبت، فإذا أمحلت أرضهم فضلوا الموت فيها على المهاجرة

منها، وتاريخ الماضي وشاهد الحال ينطقان بذلك.

ولذلك كان أهل مصر سكان أرضهم من آلاف من السنين، وكل قادم إليهم

امتزج بهم، وغلبت عليه عوائدهم وأطوارهم، وانتسب نسبتهم فصار مصريًّا،

وأحرز جميع خواص المصريين، ونسي أصله وغاب عن أعقابه منشؤه، ثم إن

طباعهم مرنت على الاحتمال وألفت مقاومة القهر بالصبر، فلو أن سيف المتغلب كان

أعدى من سيف المماليك، وجوره أشد من جور إسماعيل باشا، لما أمكنه أن ينقص

من عددهم مقدارًا يذكر، ولا أن يزيلهم عن مواقفهم مسافة تعتبر؛ ولهذا كان المتغلبون

يفنون فيهم وهم باقون.

أهل مصر قوم سريعو التقليد، أذكياء الأذهان، أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل

الفطرة، فما أيسر أن تفعل الحوادث فيهم؛ فتنبههم إلى الأخذ بما يحفظ عليهم حياتهم

في ديارهم من أي الوجوه، فلا يبيدون من حاجة، فأهل مصر على ذلك هم رعية

حاكمهم، ولا يمكن لحاكمهم أن يستبدل بهم رعية أخرى في بلادهم.

فحاكمهم إذا كان رأسًا فهم بدنه، وإذا كان عاملاً فهم آلته، فلا بد من

استصلاحهم، حتى يستقر سلطانه عليهم زمنًا مديدًا، ترمي إليه أنظار الدول السامية

المقام في المدنية.

أهل مصر في موقع عرف كل الناس منزلته في الأرض، وهو ممر أهل

المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى المشرق، وهو في حلق أوروبا تتلاقى فيه

سيارة الأمم، فقلما توجد بلاد يكثر فيها اختلاط الأمم مثل هذه البلاد.

الأمم العظيمة الأوروبية يحسد بعضها بعضا؛ على التمكن في أرض مصر أو

الفوز بإحراز المنافع السياسية أو المالية فيها، فالوساوس والدسائس لا تنقطع نفثاتها

من أولئك الأحزاب، يبثونها بين المصريين؛ ليوغروا صدورهم على من علت

كلمته فيهم. وأعظم فاعل في نفوسهم (وأغلبهم مسلمون) أن يقال: إن صاحب

هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه وانتهاز الفرص؛ لكشف

سلطانه متى أمكنت.

أهل مصر شديدو الانفعال بما يلقى إليهم؛ كثيرو التذكار لما ينطبق على

أهوائهم، فلكل كلمة من هذا القبيل مكان من نفوسهم، ولكن ربما لا يظهر أثر ذلك؛

لاحتجابه بحجاب العجز أحيانًا، غير أن طباع المصريين كالكرة المرنة تتأثر

بالضغط، فينخفض بعض سطحها قليلاً من الزمن، ثم لا يلبث أن يعود إلى حاله،

فالله يعلم متى يظهر أثر تلك الانفعالات؛ التي يمكن أن تتأثر بها نفوسهم بما يُلقى

إليهم.

يقال: إن أهل مصر ضعفاء، ولكن قد أظهر التاريخ أنه متى وُجِدَ القائد؛

كانوا أشد على الخصم من أشجع الأمم؛ وأثبتهم قدمًا في المواطن، ولا يعلم متى

يوجد القائد، ومن أي جنس يكون، إذا تركت أهواؤهم بغير تهذيب تجري، حيث

تجد سبيلاً للاندفاع، ثم لا يقدرون النظام قدره، مهما كان بالغًا من الصلاح؛ ولا

يبالون به، بل يعتقدون أن كل نظام حبر على ورق، فلا يستطيع حاكمهم أن يثبت

سلطته عليهم على أمر مكين، بل هم دائمًا في التواء عليه بالمخالفة، متى أمكنت

الفرصة، إلا إذا أخذوا بتربية صحيحة، فهناك تنضبط أحوالهم، وينشئ النظام

احترامه في قلوبهم، ويهتدي صاحب السلطة إلى طرق تصريفهم.

احتقار أمر النظام والتأثر بالوساوس؛ إذا لم يكن مبعثهما الحق، ينشآن عند

المصريين من أمرين: الأول: بُعد جمهورهم عن المعرفة بوجوه المصالح. والثاني:

حرمانهم من التربية التي تطبع في نفوس أغلبهم الاستقامة والتؤدة والتبصر في

العواقب، ومرجع الأمرين إلى سوء العقيدة، وظن ما ليس بواجب واجبًا، وظن

الواجب غير واجب، فما دامت هذه حالهم فهم رعية غير صالحة، فلا يصلحون

بدنًا لرأس ولا آلة لعامل؛ لاختلال المدارك وفساد الإرادات.

أهل مصر لم يأتهم التاريخ القديم بذي سلطة يَفْهَمُ هذا السر، وتَنْفَذ بصيرته

إلى هذه الحقيقة، فلذا لم تثبت فيهم دولة لقبيل زمنًا يُعْتد به، وكل إصلاح نظامي

نشأ فيهم كان كالبناء على الهواء، فالسلطة التي تسعى في أن تجعلهم رعية

صالحة، تكون قد فتحت في نفوسهم فتحًا جديدًا، وظفرت ببغيتها منهم ظفرًا

مبينًا، وأمنت كل غائلة تخشى من دسائس الأعداء ووساوسهم.

أهل مصر قوم أذكياء كما قلنا، يغلب عليهم لين الطباع؛ واشتداد القابلية

للتأثر، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا

كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها وإلا ماتت

البذرة بدون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على البذرة وصحتها، وإنما

العيب على الباذر.

أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين، حتى صار طبعًا فيها، فكل من

طلب إصلاحها من غير طريق الدين، فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه

فيها، فلا ينبت ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك؛ ما شوهد من

أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم

يزدادوا إلا فسادًا، وإن قيل: إن لهم شيئًا من المعلومات، فما لم تكن معارفهم

العامة وآدابهم مَبْنِيَّة على أصول دينهم، فلا أثر لها في نفوسهم.

ولا أتكلم عن إصلاح لدين غير الإسلام في مصر، فإن غير المسلمين فيها

العدد القليل، والجمهور الأغلب من المسلمين.

الدين الإسلامي الحقيقي ليس عدو الأُلفة، ولا حرب المحبة، ولا يحرم

المسلمين من الانتفاع بعمل من يشاركهم في المصلحة، وإن اختلف عنهم في الدين

وفي آدابه كفاية لتعريف الآخذ به بوجوه المصالح، وإرشاده إلى مظان الفوائد

والبصر بالعواقب، وتقويمه بفضائل الأخلاق، وبالجملة فهو أفضل كافل لجعل

الرعية صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل. وقد أرشدتنا التجربة إلى أن

كل عارف بحقيقة الدين الإسلامي، كان أوسع نظرًا في الأمور، وأطهر قلبًا من

التعصب الجاهلي، وأقرب إلى الألفة مع أبناء الملل المختلفة، وأسبق الناس إلى

ترقية المعاملة بين البشر، وإنما يبعد المسلم عن غيره جهله بحقيقة دينه، وهذه

آيات القرآن شاهدة على ما نقوله، اللهم لمن يفهمها كما جاءت، ويعرف معناها كما

وردت.

إن القرآن وهو منبع الدين، يقارب بين المسلمين وأهل الكتاب، حتى يظن

المتأمل فيه أنهم منهم، لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام قليلة، ولكن عرض

على الدين زوائد؛ أدخلها عليه أعداؤه اللابسون ثياب أحبائه، فأفسدوا قلوب أهاليه

ولا قلوب أقرب إلى الإصلاح من قلوب أهل مصر.

أهل مصر مضى عليهم الزمن الطويل والقرون العديدة، ولم يروا مربيًا

يأخذهم بدينهم، فحرموا خيره، ولم يبق عندهم إلا ما فيه المضرة لهم ولغيرهم،

تحت اسم الدين وليس بدين. على أنه ليس فيهم من ينكر أن القرآن كلام الله، وأنه

ينبوع الدين، ولكن ليس لهم من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية،

ومدرسة الأزهر الدينية، وليس في الجهتين ما يهديهم لما يجعلهم رعية صالحة،

وهم الآن على غاية الاستعداد لقبول ما يصلحهم.

من يتوجه من ذوي السلطان إلى ذلك، لا يجد أقل مقاومة من العامة ولا أغلب

الخاصة، وفي مصر فرصة لا توجد في غيرها لمن أراد ذلك، فإن بلادًا غير مصر؛

يوقف فيها مثل هذا الأمر على همة أهل الدين وسلامة أفكارهم، ونشاطهم لفتح

المدارس الدينية على الطرق المناسبة لحالة البلاد. أما مصر فلها مدارس أميرية؛

يمكن أن يسلك فيها أي مسلك يُخْتار للتربية، وليس عليها رقيب سوى أهل السلطة

السياسية لا غير، فلهم أن يأخذوا من الدين أصوله، ويغرسوها في المدارس،

ويحملوا نفوس طلاب العلم عليها، ولا يتعرضون لما زاد عنها لا بالنفي ولا

بالإثبات، ويندبون لتدريس ذلك ذوي قدرة على صرف الأذهان عما وقر فيها،

وتطهيرها مما علق بها من الزوائد الضارة، ولا يجدون معارضًا لهم من أهل الدين؛

لأنهم لا يهتمون بما لا يقع تحت نظرهم مباشرة، وما دامت الأصول محفوظة،

فأنظارهم عن غيرها منصرفة، وأكبر دليل على ما نقول، سكوت أهل الدين عن

نوع التربية المعروف في المدارس؛ على ما فيه من مباينة الدين، والانتهاء إلى

خلعه بالمرة.

المدارس الأميرية

المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية؛ ولا التربية

الصحيحة. هذه المدارس أنشأها محمد علي باشا بإشارة بعض الفرنسويين؛ لتعليم

بعض أولاد الأرناؤوط والأتراك والمورلية؛ ليكون منهم رجال عندهم إلمام ببعض

الفنون المحتاج إليها في نظام الحكومة التي أسسها، وأهم تلك الفنون: الهندسة

والطب والترجمة، أماغيرها من العلوم فما كان إلا وسيلة إليها، ثم لم يشترط في

العلم بها أن يكون تامًّا. أما التربية على أخلاق سليمة، فلم تخطر له ولا لمن تولى

إدارة هذه المدارس على بال، ثم لما لم يكن في أبناء تلك الأجناس وفاء لمطلبه في

الوظائف، أدخل في تلك المدارس بعض المصرين جبرًا، وما كان يدخل مجبورًا

إلا الذين لا قوة لهم من الفقراء، وكان دخول المدارس أشبه بدخول العسكرية في

ثقله على المصرين.

ثم جاء خلف محمد علي من عباس وسعيد فأهملوا النظر في المدارس بالمرة،

حتى جاء إسماعيل فوسع نطاقها، وزاد فيها من المعارف ما له دخل في الإدارة

والقضاء، وله تعلق بتثقيف العقول في ظاهر الأمر. غير أن جميع ما أتاه من ذلك

كان صوريًّا، ليقال: إن له في حكومته مثل ما لأوربا في حكوماتها، ولم يكن القصد

منه تربية العقول، ولا تهذيب النفوس، ولا تحصيل رجال يصلحون لتولي أعمال

الحكومة.

وفي زمن إسماعيل باشا كثرت رغبة الناس في المدارس، ولكن من الأعيان

الذين يطلبون لأولادهم مساند في الحكومة، يحتاج في الوصول إليها إلى بعض

الفنون، ومن الفقراء الذين لا يجدون ما يقتات به أبناؤهم؛ فيرسلونهم إلى المدارس؛

ليستريحوا من نفقتهم. ولم يكن القصد من جميع تلك الأحوال إلا أن يتعلم التلميذ

ما يؤهله للقيام بعمل ما من أعمال الحكومة، أو بعبارة أخرى: ليكون في يده شهادة

تبيح له أن يشغل كرسيًّا من كراسي أقلام الدواوين. أما تكوينه بالتعليم والتربية

رجلاً صالحًا في نفسه، يحسن القيام بالعمل الذي يفوض إليه في الحكومة أو في

غيره، فذلك لم يخالط عقول المعلمين، ولا من ولاهم أمر التعليم، فسرى ذلك من

السابقين إلى اللاحقين حتى اليوم.

ولو كشفنا عن أذهان التلامذة، لم نجد فيها غاية لتعلمهم سوى أن يعيشوا كما

عاش غيرهم على أي صفات كانوا، ولو استفرغنا أذهان المعلمين، لم نجد فيها

من المقاصد سوى أنهم يلقون ما يجدونه في الكتب المقررة للتلامذة، ويطالبونهم

بحفظه، وفهم عبارته إن كان ليعيدوا يوم الامتحان تلاوة ما ألقي إليهم حتى تتم

مدتهم في المدرسة، ولا يسألونهم مرة واحدة عن مجال أفكارهم، هل هو في صالح

أو فاسد؟ ولا مطامح أنظارهم، هل إلى نافع أو ضار؟ وذلك رسم يؤديه

المعلمون؛ ليأخذوا مرتباتهم الشهرية لا غير. ولهذا لا يكون تلامذتها في آخر الأمر

إلا صناعًا، أو ناطقين ببعض الألسنة، ولا ثقة في الأغلب بشيء من عقولهم ولا

أخلاقهم، إلا من كانت له فطرة سليمة، وله موهبة طبيعية، فأولئك تؤدبهم الأيام،

وتهذبهم التجارب، وعلى مثل ذلك كانت مكاتب الأوقاف، ولا تزال. فإن استمر

السير على الطريقة المعروفة الآن، كانت النتيجة دائمًا كما بيناه، فلا يؤول ذلك

بالمصرين إلى أن يكونوا رَعِيَّة صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لصانع.

المدارس الأجنبية

وأما المدارس الأجنبية على تنوعها؛ فاختلاف المذاهب بين المعلمين

والمتعلمين في الأغلب، يضعف أثر تلك المدارس من التربية العمومية، فقليل من

المصرين من يرغب في تعليم أولاده فيها، ومن أرسل بولده إليها داوم نصيحته بعدم

الالتفات إلى ما يقوله المعلمون فيها؛ حفظًا لاعتقاده، ثم ذلك يحدث من الاضطراب

في طبيعة الفكر، والتزلزل في الأخلاق، ما يكون ضره أكثر من نفعه. وقد غلط

من زعم: أن لتلك المدارس الأجنبية أثرًا سياسيًّا أو أدبيًّا في مصر بل قد أحدثت

بعض النفرة في قلوب المسلمين من رؤساء تلك المدارس وأممهم، ولذلك تاريخ

في البلاد معروف فهي ضارة بالألفة، مبعدة للمحبة، رغمًا عما يزعمه أربابها مما

يخالف ذلك، فلا يصح الاكتفاء بها في التربية عن المدارس الأهلية على اختلافها.

الجامع الأزهر

الجامع الأزهر مدرسة دينية عامة، يأتي إليها الناس: إما رغبة في تعليم

علوم الدين؛ رجاء ثواب الآخرة. وإما طمعًا في بعض الامتيازات لطلاب العلم فيه.

ولا يزال بعضها إلي اليوم، ولكن مما يؤسف عليه: أنه لا نظام لها في دروسها،

ولا يسأل فيها التلميذ أيام الطلب عن شيء من أعماله، ولا يبالي أستاذه حضر عنده

في الدرس أم غاب، فَهِم أم لم يفهم، صلحت أخلاقه أم فسدت، ويمر عليه الزمان

الطويل، لا يسمع فيه نصيحة من أستاذه؛ تعود عليه بالإصلاح في دنياه أو دينه،

وإنما يسمع منه ما يملأ القلب بغضا؛ لكل من لم يكن على شاكلته في الاعتقاد حتى

من بني ملته، ويطبق علي الذهن غفلته، ويستفزه الطيش لتصديق كل ما يسمع؛

إذا كان موافقًا لمبدأ التعصب الجاهلي، فأغلب الأوقات تمر على أهل الجد منهم في

فهم مباحثات لبعض المتأخرين لا فائدة فيها، ولا يتعلمون من الدين إلا بعض

المسائل الفقهية، وطرفًا من العقائد على نهج يبعد عن حقيقته أكثر مما يقرب منها.

وجل معلوماتهم تلك الزوائد التي عرضت على الدين، ويخشى ضررها، ولا

يرجى نفعها، ثم إن المعروفين بالعلماء؛ وهم الذين يتممون دروسهم في هذه

المدرسة، ويؤذن لهم بالتدريس فيها؛ هم قدوة الناس وأئمتهم مع أنهم أقرب للتأثر

بالأوهام، والانقياد إلى الوساوس من العامة، وأسرع إلى مشايعتها منهم؛ وذلك بما

ينشؤون عليه من التعليم الرديء، والتربية المختلفة التي لا ترجع إلى أصل صحيح

فبقاؤهم فيما هم عليه اليوم، مما يؤخر الرعية عن تقدير السلطة الصالحة قدرها.

إصلاح مدرسة الأزهر لابد أن يكون بالتدريج؛ في تغير نظام الدروس

وجعلها في الابتداء تحت قواعد ساذجة قريبة من الحالة الحاضرة فيها، بحيث

يقرر فيها أن كل من أدرج اسمه في جدول الطلبة، يلزم بالحضور في الدروس وإلا

حرم الامتياز. وكل أستاذ يسأل عن طلبته، ثم يجعل ما ينالونه من المنافع الطفيفة

منوطًا بالفهم لا بالكتب، وتغيير بروغرام الدروس، ويزاد عليه أصناف من الكتب،

بحيث يدخل فيه تدريس الآداب الدينية المفقود الآن بالكلية، ويكلف الأستاذ بتعهد

أخلاق تلميذه؛ لتكون منطبقة على تلك الآداب بقدر الإمكان، ويجعل شيخ الجامع

رقيبًا على الأساتذة والتلامذة في ذلك، ثم يعدل نظام الامتحان النهائي وشروطه،

وكل ذلك يكون على طرق بسيطة، لا تستلفت الأذهان إلى شيء خلاف المصلحة،

وتفصيلها يكون في لائحة مخصوصة.

ولا بأس أن يجعل نظام هذه المدرسة مرتبطا بالمعارف العمومية أو بإدارة

الأوقاف على قواعد تفصل في اللائحة المختصة به، وقد يظن بعض من لم يتفكر

في حالة البلاد ومرتبتها الأدبية والدينية، أن إصلاح الأزهر لا يمكن؛ لأنه يترتب

على مجرد الشروع فيه تشويش أذهان العلماء والعامة على أثرهم، فهذا ظن فاسد

لا يؤيده دليل، ولم تقض به تجربة، إلا ما كان من بعض الرؤساء من مدة نحو

عشرين سنة، عند ما أراد إدخال بعض العلوم الصناعية فيه، فقاومه بعض من

كان موجودًا من العلماء، فيئس من الإصلاح وترك الأمر إلى اليوم، فقد كان ذلك

قبل أن تتقلب الحوادث على مصر، ولم يكن بالتدريج اللائق، أما الآن فقد تغيرت

الأحوال، وأصبح الإصلاح فيه أهون منه في جميع المصالح، وكل رئيس للنظار

يمكنه أن يأتي هذا الإصلاح بمجرد التوجه إليه، وما يعجز عنه من ذلك، فصاحب

هذا الفكر هو الكفيل بتنفيذه، إذا فوض ذلك إليه، على أن العناء في ذلك لا يطول،

إذا صلحت المدارس الأميرية، فإن الناس لا يختارون الأزهر؛ إلا لسوء ظنهم

بالمدارس، أو لاعتقادهم أن الأزهر أحفظ للدين منها، فإذا حصل الإصلاح فيها،

وجدوها أدنى إلى المنفعة منه، فعند ذلك تنفرد بكونها معاهد التعليم ويصبح الناس

كلهم في طريق واحدة.

الكتاتيب الأهلية

المدارس الأميرية يتعلق النظر فيها بنظارة المعارف، ولا يتم لها إحسان

النظر من وجه التربية؛ إلا بتوجيه العناية أولاً إلى الكتاتيب الصغيرة المنتشرة في

القرى والمدن؛ فإنها هي المغذية للمكاتب المنتظمة التابعة للمعارف وللمدارس

الأميرية وللأزهر، فإن كان الغذاء فاسدًا كان المزاج المتغذي أشد فسادًا. وقد

خطر ببال أحد نظار المعارف أن ينظر فيها، ولكن من الوجه التعليمي وإصلاح

الأمكنة، بحيث تكون أوفق للصحة، لا من الوجه التهذيبي، والثاني هو أهم

مطلوب دون الأول، فإنما ينظر إليه من حيث هو وسيلة للثاني. فالمعلمون في تلك

الكتاتيب يسمون الفقهاء وهم لا يعرفون شيئًا سوى حفظ القرآن لفظًا بغير معنى.

وإذا كان في أذهانهم شيء باسم الدين؛ فما هو إلا الزائد الضار دون الأصل النافع،

وقد عُرفوا بأنهم أفسد حالاً من العامة. على أن الكتاتيب يرد عليها أبناء الأهالي

جميعا إلا القليل، ثم يرجع الغالب إلى ما كان عليه آباؤهم، فهي منابت للعامة،

ولكنها لا تنبت الآن إلا جهلاً.

ولا يمكن إصلاح تلك الكتاتيب إلا بإصلاحهم (أي: الفقهاء) ، وإصلاحهم مرة

واحدة أو إبدالهم بخير منهم متعسر، ولكن إذا وجهت العناية إليهم أمكن إصلاحهم،

وإصلاح طرق تعليمهم بالتدريج في بضع سنين، ثم إن ذلك الإصلاح يستدعي عملاً

يتعلق بعضه بالمعارف وبعضه بالأوقاف، من حيث إن أولئك المعلمين خطباء

المساجد في الأغلب، فلا بد أن ينظر في انتخابهم من المستعدين للفهم، وقبول

الإصلاح بقدر الإمكان، وهو يقتضي سعيًا حثيثًا، وتدقيقًا شديدًا وسيرًا في أرض

مصر أجمعها، ونظرًا في كل قرية من قراها، وهو ليس بعسير على الشخص

الواحد؛ فضلاً عن أشخاص كثيرين، متى وجهت العناية بذلك.

ثم يلزم لذلك تقرير بعض المعلومات التي لا يستغني عنها مصري، مما يزاد

على تعليمه القرآن في تلك الكتاتيب، حتى إذا خرج التلميذ من الكُتَّاب كان

شاعرًا بأنه في أي جمعية محكومة بأي طريقة فإذا دخل المدرسة أو الأزهر كان

نماء معلوماته على ذلك الأساس، وذلك يستدعي تقرير بعض الكتب الصغيرة،

وتعيين ما يدرج فيها على نمط سهل؛ يفهمه الصغير والكبير بأن تبين لهم فيه

نسبتهم إلى: المأمور، والمدير، والناظر، والمهندس، والطبيب، والعالم، وإلى

المقام الخديوي، وغير ذلك.

وتحدد الطريقة التي يتعلم بها الفقهاء هذه الأمور القريبة من الأذهان، والمكان

الذي يتعلمون فيه، والوقت الذي يخصص لذلك، والمعلم الذي يعلمه، ثم تقرير

العلاقة بين أولئك الفقهاء، وبين إدارة الأوقاف، ونظارة المعارف.

المكاتب الرسمية الابتدائية

تلامذة هذه المكاتب لا يزالون إلى الآن من الأطفال الذين يقصد كفلاؤهم

بتعليمهم التوصل بهم إلى خدمة الحكومة، سواء نالوا ما قصدوا أم لا، إلا أنهم

في الغالب لا يستطيعون أن يذهبوا إلى نهاية التعليم المعد لذلك، فيرجع الوالد إلى

أبيه أو من يقوم مقامه بعد نهاية المكتب عارفًا ببعض مبادئ العلوم التي لا يجد لها

موضعًا تستعمل فيه، فلا يلبث أن ينساها، فيضيع الزمن الذي شغله بالتحصيل بلا

فائدة، ثم إنه يعود بأخلاق أشد فسادًا من أخلاق الذين بقوا على الفطرة، لم يمسهم

التعليم، ويجد في نفسه نفرة وعجزا عن العمل فيما كان يعمل والده وأهله من قبله،

فيقضي عمره في البطالة أو ما يقرب منها، فتزداد أخلاقه فسادًا، وأفكاره اختلالاً،

ويقف نفسه على عبادة الأوهام، وخدمة الدسائس التي تنبهه على طلب ما يغير الحالة

التي عليها الناس؛ طمعًا في تغيير حالة نفسه بلا تعقل، فيكون زيادة في أمراض

البلاد، بدل أن يكون عضوًا نافعًا.

فأول ما يجب لإصلاح هذه المكاتب ووضعها على أساس يفيد العامة: أن

يراعى في البروجرام إدخال مبادئ العلوم من وجهها العملي الذي ينطبق على

المعاملات الجارية في البلاد، فقواعد الحساب مثلاً تؤخذ من وجهها العملي مطبقة

على المعروف في المعاملات التجارية، وحساب الصيارفة الأميريين، وغيرهم،

فيتعلمون طريقة وضع المدفوع من الأموال في الأوراق والدفاتر، وطرق التحصيل

لأموال الحكومة، ونحو ذلك، ويدخل فيها فن الأوزان والمكاييل، وإن كانت مبادئ

هندسية، فليدخل فيها شيء من المساحة على الطريقة المعروفة في البلاد، أو على

أفضل منها. وما يؤخذ من قواعد العربية، يكون مصحوبًا بالعمل في المكاتبات

العادية، والمشارطات المتداولة بين الأهالي، حتى إذا انفصل التلميذ من المكتب،

يكون عنده ما يحتاج إليه شخصه أو عائلته وأقاربه وأهل بلده، فلا ينقطع عن

العمل به؛ لكثرة ما يرد عليه منه.

ثم يضم إلى ذلك تعويده على بعض الأعمال الزراعية أو الصناعية في

أوقات الرياضة، أو يخصص لذلك يوم في الأسبوع؛ ليعلم كفلاء التلامذة أن للتعليم

غاية سوى خدمة الحكومة، وأنهم إذا لم ينالوا الخدمة، فإن لهم شأنًا سوى البطالة،

والتفرغ للأوهام الرديئة، ثم يضاف إلى البروجرام مبادئ العقائد الدينية على

الأصل الصالح وأصول الآداب الدينية على ما يجمع الألفة، ويعرف وجه المصلحة

في المعاملة والمخالطة، وشيء من تاريخ البلاد، وما كانت تعانيه في

سابق زمنها، وما صارت إليه من الراحة في هذه الأوقات، وشيء من القواعد

العامة للنظام الذي هم فيه؛ ليعلم التلميذ أنه من أي جنس، وفي أي شكل من أشكال

الحكومة، فيتعلم الخضوع والانقياد لكل مسند فيما يصدر منه، ثم يكون أهم العناية

بحمل التلامذة على العمل بما يعلمونه من الآداب، وتشديد المراقبة عليهم في ذلك،

وتوضع لهذا لائحة مخصوصة؛ يحدد فيها البروغرام اللازم للمكاتب الابتدائية

وطريق التعليم، ويبين فيها المسلك الذي يتخذه المربي المفوض إليه مراقبة أخلاق

التلامذة، وملاحظة أعمالهم، فإذا أتم التلميذ مدة المكتب الابتدائي، ولم يتيسر له أن

ينتهي إلى غاية التعليم، رجع إليه بشيء نافع، ونمت الأخلاق الصالحة، والأفكار

الحسنة، وانطبع قلبه على الخير والسلامة، وكانت له بصيرة في وجوه المعاملة مع

من يشترك معهم في المصلحة، ونبت في قلبه احترام النظام الذي يضبط مصلحته،

ومصلحة بني وطنه، ونشأ على محبة العمل والرغبة فيه، فلا يكون إلى فؤاده

سبيل للوساوس، ولا منفذ للدسائس.

المدارس التجهيزية والمدارس العالية

لا أتكلم في بروغرامات دروس الفنون التي تقرأ فيها؛ لأن النظر في ذلك

يتعلق بالغرض الذي جعلته الحكومة غاية لإقامة تلك المدارس، وإنما كلامي فيها

منحصر فيما يتعلق بالتربية وتهذيب الفكر، وغرس مبدأ الصلاح في نفوس التلامذة

ليحسنوا في استعمال ما تعلموا.

قلنا فيما سبق: إن التربية مفقودة في تلك المدارس، لا يخطر ببال أحد أن

يعتني بها عناية حقيقية، وإنما الموجود فيها صور ورسوم تغر الناظر فيها، وهي

بمعزل عن الحقيقة، فالذي يجب لتأسيس التربية فيها؛ تعليم العقائد الدينية على

الأصل الصحيح، تعليم الآداب الدينية على الطريق الصالحة، إلزام التلامذة

في تصرفهم بموافقة ما تعلموا، كل ذلك على نمط أرقى مما كان في المكاتب

الابتدائية. تعليمهم الإجادة في الكتابة كل في فنه الذي يريد الوصول إلى غاية

التعليم فيه تعليمهم أصول النظام العام، ثم زيادة التوسع لكل فيما يتعلق بفنه من

النظام، فالقانونيون يتوسع لهم في أصول النظام المتعلق بالقضاء والإدارة، وهو

شيء غير نفس القانون. والمهندسون في أصول النظام المتعلق بالري وتدبير النيل،

وهو شيء غير الهندسة وعلى هذا القياس.

والمربي في كل ذلك يودع في أفكارهم أن القيام بهذه الأعمال مما يطالب به

الدين، وأن فوائدها ليست قاصرة على خدمة الحكومة، بل هي من لوازم الحياة

الطيبة، ويورد الأدلة على ذلك وهي كثيرة لا تعد، حتى إذا بلغ التلميذ نهاية التعليم،

أمكنت الثقة به، واؤتمن على عمل يفوض إليه، وكانت الأنفس مطمئنة من جهته؛

لعلمه أن للنظام علاقة بحياته الروحانية، كما له علاقة بحياته الجسدانية، فإن لم

يكن له نصيب في خدمة الحكومة وجد سبيلاً آخر للعمل، وهو في رضى عن

النظام المحيط بأعمال وطنه، فيكون بذلك عضوًا صالحًا، ويقوم بينه وبين

الدسائس حجاب منيع من الاستقامة الفكرية والخلقية، حتى لو أن التلميذ بعد ذلك

حمله الشطط في الفكر على خلع العقيدة الدينية، بقيت فيه ملكات الأخلاق الفاضلة

طبيعة ثابتة، لا تتبدل بتبدل العقيدة.

المعلمون والمربون ومدرسة دار العلوم

وجود مثل هؤلاء المعلمين عسير، كما يقوله كثير ممن له تعب في البلاد،

ولم يتفكر في حالتها، ولم يدقق البحث في مصلحتها، أما أنا فلا أرى في ذلك

صعوبة بقدر ما يتصورونها، كما أن كثيرًا مثلي لا يرون ذلك.

أما أولاً: فلأن بلادًا واسعة مثل مصر، لا تعدم أفرادًا متفرقين في أنحائها،

يعرفون من الدين حقيقته، وللزمان ما يلزم له، وإنما يجمعهم البحث والتنقيب،

وكما ساح ناظر المدرسة الزراعية؛ ليختبر الأرض، ويعرف الطرق المسلوكة في

البلاد لخدمتها واستنباتها، كذلك يجب أن يسيح مدير التربية في الأطراف؛ ليعرف

الصالحين لتوليها. على أن المعروف منهم ليس دون الكفاية للابتداء في العمل، فإن

لم يكن الموجود بالغًا الغاية في المقصود، فلا أقل من أن يكون قريبًا منها. وأما

ثانيا: فلأنه يمكن تكوين جماعة كثيرة ممن يحتاج إليهم في الغرض بطريقة هي

مرسومة الآن، ولكن لم يطبق العمل منها على الرسم الحقيقي، على أن في الرسم

نقصًا يجب تتميمه، وتلك الطريقة قد رسمت في المدرسة المسماة بدار العلوم.

دار العلوم مدرسة ابتدعها سعادة علي باشا مبارك من نحو خمس عشرة سنة،

وشرط أن يكون تلامذتها من طلبة الأزهر، وأن يكونوا حصلوا من العلوم المقررة

فيه مبلغًا يكاد يؤهلهم للتدريس، ثم جعل في دروس تلك المدرسة دروسًا لجميع ما

كانوا يقرؤونه في الأزهر من العلوم الدينية؛ ليتمموه على وجه أجلى وأنفع،

وأضاف إلى ذلك أطرافًا من الفنون الصناعية كالطبيعة والكيمياء، والحساب،

والهندسة، وشيئا من الجغرافية، والتاريخ، وقدَّر غاية الدراسة أن يكون التلميذ

المتمم لدروسه فيها صالحًا لأن يكون أستاذًا في العلوم العربية والدينية في المكاتب

والمدارس الرسمية، ولكن جاءت على تلك المدرسة أدوارًا كثيرة أسقطتها عن

مرتبتها التي كانت تنبغي لها، ثم لم يوضع فيها أساس للتربية التي كان يجب أن

تكون أهم شيء يُقصد من الانتظام فيها، ولهذا كان يخرج تلامذتها على ما يخرج

عليه تلامذة غيرها من الأخلاق والأفكار، لا يمتازون عنهم إلا قليلاً، وإن كانت مع

ذلك، أنشأت أفرادًا من أهل العلم والأدب هم الآن معروفون تشهد لهم حالهم بأنهم

أفضل من جميع الناشئين في غير تلك المدرسة، ولكنهم أقل عددًا مما كان ينتظر.

ثم من غريب التصرف، أن هذه المدرسة مع أنه لم يكن الغرض منها إلا

تكوين أساتذة قادرين على التربية عارفين بالعلوم الدينية والعربية حق المعرفة، لا

يقيمون عليها من النظار إلا جاهلاً بالدين واللغة العربية، بل غير معتقد بالدين

بالكلية كما فعلوا سابقًا، ويريدون أن يفعلوا في هذه الأيام، ولا يعينون فيها من

المعلمين للدروس الدينية إلا من يقصد تعيشهم بمرتباتهم، وفيهم من لا تجوز معاشرة

التلامذة له؛ فضلاً عن أخذهم العلم عنه، وفيهم من لا يحسن أداء ما كلف به،

وليس فيهم أهل لوظيفته إلا شخصان فقط. والكل لا عناية له بأمر التربية، ولا

يهمه فساد أخلاق التلامذة أو صلاحها، ولا استقامة عقولهم وأفهامهم أو اعوجاجها،

وتعليمهم الدين على ما هو المعروف في الأزهر لا يغيرون منه فاسدًا، ولا

يزيدون عليه صالحًا، وسائر المعلمين للفنون يؤدونها نقلاً من الكتب، لا يبينون

للتلامذة الغاية من تعلمها.

وليس العيب في ذلك راجعًا إليهم، ولكن إلى من لم يضع أصلاً لسيرهم في

تعليمهم، ولم يؤسس قاعدة ترجع إليها جميع الأعمال صادرة من المعلمين أو

المتعلمين، ولم يقم على تلك القاعدة خبيرًا بالبناء عليها، عارفًا بالغاية التي توجه

المدرسة إليها، حكيمًا في تصرفه بأذهان التلامذة والأساتذة، حتى يقيم للتربية بناءً

معنويًّا حقيقيًّا، يأوي إليه كل معلم ومتعلم، يأتي من بعده.

هذه المدرسة تصلح أن تكون ينبوعًا للتهذيب النفسي والفكري والديني

والخلقي، ويمكن أن ينتهي أمرها إلى أن تحل محل الأزهر، وعند ذلك يتم توحيد

التربية في مصر ولكن يلزم لذلك أمور:

(الأول) إصلاح البروجرام، وحذف بعض العلوم التي اشتغل بها التلامذة

في الأزهر، والاكتفاء بتمرينهم على العمل بها، وتقدير ما يلزم من الفنون الباقية،

وزيادة بعض علوم ليست فيها الآن منها علوم الآداب الدينية، وفن أصول النظام مع

تعلقه بالدين.

(الثاني) تغيير طريقة تدريس تفسير القرآن، وتعلم الأحاديث النبوية.

(الثالث) اختيار معلمين صالحين للقيام بالعمل الموصل إلى الغاية المطلوبة

للمدرسة.

(الرابع) تعيين ناظر للمدرسة قد ملأ قلبه، وغمر فكره الميل إلى المقصد

الذي وضعت له المدرسة عالمًا بالدين ولغته موثوقًا به عند العامة.

(الخامس) إعطاء تلامذتها بعد نهاية التعلم حق التدريس في الأزهر.

(السادس) توسيعها إلى ما يسع مائة تلميذ.

(السابع) أن يزاد في مدتها سنة بعد الدراسة للتمرين على التعليم في نفس

المدرسة.

(الثامن) وهو أهم ما يجب - أن يكونوا تحت نظام شديد في التهذيب،

وملازمة العمل بما يعلمون.

(التاسع) أن تكون وظائف التدريس في المدارس والمكاتب منحصرة فيهم.

(العاشر) أن تكون درجتهم في الوظائف على حسب أدبهم واقتدارهم على

التأديب.

(الحادي عشر) أن يكون للموظف منها في مدرسة ما سلطة تامة على تهذيب

التلامذة، وتربية نفوسهم، وتقويم أخلاقهم وطباعهم، وأرقاهم وظيفة في تلك

المدرسة يكون رئيسًا لمن دونه.

(الثاني عشر) أن يبقوا بلباسهم الذي هو لباس أهل الدين، مهما ترقوا في

الوظائف.

ثم إنه يلزم لهذا المشروع كتب تؤلف جديدًا، ولوائح تنظم للعمل على

مقتضاها، وذلك كله يمكن بعد العزم على الإجراء.

نفقات الإصلاح

يمكن أن يظن أنه يلزم للإصلاح زيادة نفقات، ولكن إذا دبرت مصاريف

المعارف على الوجه اللائق، فلا أظن أنه يحتاج إلى زيادة، على أنه لو احتج إليها لا

يثقل احتمالها بعد اليقين بأن هذا الإصلاح يؤول إلى تمكن السلطة، وجعل الرعية

صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل، وأظن أن بذل النفقات في هذا السبيل

وهو سبيل حياة السلطة وحياة الرعية أفضل منه في جميع السبل، فإن كانوا

يصرفون آلافًا من الجنيهات على بعض المباني الخربة؛ بدعوى أنه أحفظ للآثار

القديمة، فأولى أن يصرف بعض تلك المبالغ على حفظ الذين تبقى لأجلهم تلك الآثار

فإن التربية هي الحصن الحقيقي للبلاد، والذي يصونها من جيش الفساد، وهي

آلة صاحب السلطة في الانتفاع بالمحكومين بفائدة أعم من الفوائد التي جاء بها مشروع

السيد أحمد خان في الهند، وهو أبعد من ذلك المشروع عن سوء الظن.

شبهة من يعارض المشروع ومكانته في نفسه

ربما يوجد أشخاص خصوصًا من الرؤساء، يقولون: إن هذه الطريق بعيدة

النهاية لا توصل إلى الغاية. كما قالوا ذلك من قبل فنقول لهم: إن الطريق التي

سلكوها وسلكها أسلافهم من محمد علي إلى الآن، قد جربت فلم تعد بخير على البلاد

فليسلكوا الآن هذه الطريق على سبيل التجربة بعض سنوات، فليس هناك ضرر

ينتظر، فإن لم تكن فائدة فلا خوف من المضرة.

إن من يزعم العجز إنما يلجأ إليه؛ لأنه لم يتصور ما يرد من الأمر عليه،

فإن كانت له أدلة فليوردها، ولا نعدم لها من الحقيقة دافعًا، فإن أبى إلا العجز،

فربما يوجد من لو وكِّل إليه الأمر قام به، ولم يعجز عنه، والتجربة مشرق الحقيقة

إن شاء الله - تعالى - على أنه يمكنني أن أضمن كل ضرر يتصور في هذا

المشروع، وأكفل أن يكون له من النفع، ما هو أوفر من الفائدة المطلوبة في السبر

الحاضر.

وإني لا أزال أكرر أن غارس هذا الغرس، يجني ثمرته الطيبة، وأن فوائده

ربما نقلت إلى أقطار أخر فعادت بجزيل الخير على من نماه، وفي الزمن القريب

يبدو صلاحه لصاحب السلطة وللمحكومين له، ويسهل له تقرير أمره فيمن صلحوا

بإصلاحه على قاعدة المحبة والألفة، لا على طائشة الإخافة والرهبة، ويكون

بذلك قد كون لنفسه شعبًا جديدًا يعينه في الشدة، وينصره في الفتنة، ويعضده فى

ساعة المحنة، ويمحو من نفسه خيال التعلق بغيره، وتزول من طريقة عقبات

تعصب الجاهلية، وحمية الحماقة اللابسة ثوب الحمية الدينية، وفي ظني أن من

عارض هذا المشروع؛ فقد عادى سلطته وعرض نفسه لغير الزمان، وسياسته

لنفوذ شياطين الفتن من مقاوميه. والله ولي الأمر وبيده كل شيء يهدي من يشاء

إلى صراط مستقيم اهـ.

يقول جامع الكتاب

نقلت هذه اللائحة عن مسودة للإمام غير منقحة، ولا معروضة للنشر كما

سبقت الإشارة، بل كتبت لأجل أن تترجم، وهي مع ذلك آية في البلاغة وحسن

العبارة.

ومن كان حديد الفهم، بعيد الغوص في أسرار الكلام، يعلم أنها لامست سماء

الإعجاز- أو كادت - على عدم العناية فيها بزينة اللفظ وزخرف القول، ذلك إنه لا

يرى لعقله مذهبًا آخر أرجى من مذهب الإمام فيها لإقناع السلطة في مثل هذه

البلاد بالتربية الإسلامية التي كانت قصده في أمته مع الصدق في القول والإخلاص

في النية، وإذا قارن هذه اللائحة باللائحتين قبلها تجلى له معنى (لكل

مقام مقال) فغرض إمامنا في الإصلاح الديني واحد؛ ولكنه كان يتوسل إليه في كل

بلاد بأقرب الوسائل التي يرجى أن ترضى بها السلطة وهو ما يجعله موافقًا

لمصلحتها، وتلك هي الحكمة البالغة والبلاغة السابقة.

ناهيك بما تومئ إليه مقدمة هذه اللائحة من الرسوخ في علوم العمران

كطبائع الأمم وأخلاقها، ونظام التربية، والتعليم والسياسة، فيا ليت الأستاذ الإمام

فرغ للتأليف؛ لم يشغله عنه الإصلاح العملي، ومحاولة تربية الأزهر، وإصلاح

الشورى والمحاكم، إذًا لكان لنا منه مصنفات تفعل في النفوس بعد وفاته، أكثر مما

كان يريد أن يعمله في حياته رحمه الله تعالى على نيته وحسناته.

(المنار)

هذا ما نبهنا به على مكان اللائحة في جزء المنشآت من تاريخه الذي نطبعه،

وقد طال هذا الجزء أكثر مما كنا نظن؛ لأننا وجدنا من آثاره ما لم نكن عثرنا عليه

عند الشروع في الطبع. أما جزء التأبين والمراثي فقد تم أو كاد؛ وسيشرع في

جمعه قبل صدور هذا الجزء إن شاء الله.

_________

ص: 20

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تمثيل القصص أو التياترو

(س1) من الشيخ محمد نجيب التونتاري الأستاذ المدرس بالمدرسة الشمسية

بروسيا.

بسم الله تعالى

حضرة الأستاذ العلامة السيد الرشيد مولانا: محمد رشيد رضا - سلمه الله -

وأدام فيضه. أرجوكم حل هذه المسألة الآتية، ببيان حكمها الشرعي بيانًا فلسفيًّا،

بسبكها في القالب العصري؛ لكي يؤثر في الجميع، ولا يرتاب أحد في حكمها،

لا زلتم مرشدين ومأجورين، وهو أن النابتة العصرية بيننا، أنشؤوا في هذه الأيام

تياترو مليًّا ببلدة قزان، مثلوا فيه القصص الغرامية، فحضرت الممثلات المسلمات

فيما بينهم، وقد أنكر ذلك العلماء، وعدوه من الملاهي المحرمة، ونحن وإن لم

ننكر فائدة التمثيل، من حيث كونه عبرة وعظة، ودرسًا تاريخيًّا مليًّا.

ولكن لا يمكننا أن نكابر في مضراته المحسوسة، من ابتذال النساء، ورقصهن

مع الرجال مما ينافي الآداب الإسلامية، ويهيج الشهوات البهيمية، وقد قرر

العلماء أن المجموع الذي يتضمن المحذور، يكون محذورًا لا محالة، وأن درء

المفاسد يقدم على جلب المصالح، فبناء على ذلك، أظن أنه يجب النهي والانتهاء عن

ذلك، نعم إن سائر مجالسنا ربما لا تخلو من ضرر أيضًا، فإن مجالس العلماء بيننا

قلما تخلو من فضول الكلام، بل من الشتم والغيبة والبهتان، تلك الأمور المحرمة

قطعًا، ولكن إذ اعتادوها، أصبحوا لا يرون فيها بأسًا، ويجري الأمر من غير نكير،

وعسى أنها تصلح بصلاح العلماء، ولو بعد أمد بعيد - إن شاء الله تعالى- وقد

أورد الأستاذ الوجدي هذه المسألة في دائرة المعارف، وبسط القول في حكمها،

ولكني أحب أن أراها في صفحات المنار، بأظهر مجاليها والله الموفق.

(ج) (الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من

الناس) كما ورد في الحديث، وهذه المشتبهات هي التي يسأل عنها ويستفتى فيها.

وما جعل هذه المسألة من قبيل المشتبهات، إلا ما يعبرون عنه بروح العصر، وهو

انفعال نفوس المتعلمين على الطريقة الجديدة، ومن يقلدونهم بجمال مدنية أوروبا،

وتوجهها إلى تقليد الأوروبيين في كل ما يسهل التقليد فيه، وأي شيء أسهل من

التقليد في الزينة، والزخرف، واللهو، واللعب؟

نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير بعولتهن أو آبائهن،

وغيرهم من المحارم، فهل يشتبه بعد هذا في إبداء الزينة مع ما هو شر منها، وهو

الرقص مع الأجانب، ومطارحتهم الغرام، وتمثيل معاملتهم معاملة الأزواج تارة،

والأخدان تارة أخرى؟ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه،

والمساعدة لأهله، بل وفي إقرارهم عليه والسكوت عن إنكاره عليهم. ولا حاجة

إلى البحث في مفاسده فإنها بديهية. ولكن المفتونين بالتقليد يستحبون ترك هذه

الآداب الإسلامية، والحكم بأن المحافظة عليها ضارة بالمسلمين؛ لأنها تحرمهم من

منافع تمثيل القصص التي هي أنفع منها. وينقسم هؤلاء إلى قسمين:

(الأول) المارقون من الدين؛ الذين يودُّون لو يمرق منه سائر المسلمين،

فهؤلاء يهزؤون بمن يخالفهم في كل ما يسمونه تمدنًا، وإن كان مما يشكو منه

عقلاء وفلاسفة أئمتهم الأوروبيين، فهم كما قال الشاعر:

عُمي القلوب عموا عن كل فائدة

لأنهم كفروا بالله تقليدا

وقد كثر عددهم في الترك وهم يكثرون في مصر، ولا يمكن إقناع هؤلاء

بشيء من طريق الدين، فالحلال والحرام عندهم سيان، وإنما يمكن إقناع أذكيائهم

الذين يقدرون جنسية الدين قدرها؛ بأن كذا ضار بالأمة أو نافع لها في سياستها،

ومصالحها الاجتماعية.

(الثاني) المؤمنون بأصل الدين، الراغبون في التوفيق بينه وبين المدنية

الحديثة؛ بالتساهل في بعض أحكامه والتأويل لبعض نصوصه، كما فعل أهل

الكتب الدينية من كل أمة، في كل زمان يغلب عليه روح خاص، يسري في

الكبراء والخواص، وهؤلاء هم الذين يحاولون الموازنة، بين منافع (التياترو)

ومضاره التي يعترفون بأن أهمها هتك النساء المسلمات لصيانة الحجاب،

ومخالفتهن للنصوص الصريحة في الكتاب، وهؤلاء يسهل إقناعهم بالدلائل الدينية

والعقلية جميعًا.

هؤلاء هم الذين يقولون: إننا لا نرتاب في عصيان المرأة؛ بإبداء خفي زينتها

في المتمثَّل (ملهى التمثيل) ورقصها مع الرجال، ولا في عصيان من يغريها بذلك،

ولكن التمثيل الذي يوجد فيه العاصيات والعاصون لله عمل نافع في نفسه،

فالمعصية فيه قاصرة على أهله، ولا حرج على المؤمنين في شهوده؛ بنية الاستفادة

من الغرض والمقصد منه، دون نية الإسعاد على الوسيلة المحرمة، كما أنه لا

حرج على من يشاهد الصور والتماثيل، وإن كان صانعوها آثمين في عملهم.

ولعل هذا أقوى ما نبين به شبهتهم في شهود التمثيل، وما هو بالذي يقنع

الفقيه فيفتي بنفي الحرج؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض.

فكيف تباح المفسدة اليقينية لأجل مصلحة وهمية؟ إن أمكن إثبات حصرها في

التمثيل، فلا سبيل إلى إثبات معارضتها لمنع المسلمات من هتك حرمة الشرع

والخروج عن أدب الدين؛ إذ يمكن أن يكون هذا التمثيل المفيد من الرجال خاصة،

وإن كان لا بد من وجود النساء، فيمكن استخدام غير المسلمات فيه كما يفعلون في

مصر، وهؤلاء النساء غير مكلفات بفروع الشريعة عند الحنفية ومَنْ وافقهم، ولا

يحرم النظر إليهن بغير سوء، أو يمكن للنساء المسلمات فيه أن لا يبدين زينتهن إلا

ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان، وأن لا يرقصن مع الرجال، ولا يأتين بمنكر

آخر معهم، فالحرص على إتيانهن في المتمثل بكل ما يأتي به غير المسلمات، لا

يمكن أن يكون لأجل المصلحة المزعومة، التي بنينا هذا الإلزام على التسليم بها

جدلاً.

فثبت أن الغرض من ذلك تغذية الشهوة واتباع الهوى؛ تقليدًا للأوروبيين في

شيء فيه إثم لكم ولهم، ومنافع لهم لا لكم؛ لأنهم جروا في هذا التمثيل على جعل

لهوهم ولعبهم الذي لا خروج فيه عن عاداتهم وآدابهم المُقَومَة لشعوبهم، مشتملاً على

بعض الفوائد والعبر، بعد الارتقاء في العلوم والآداب، وسائر مقومات الاجتماع، فإن

كنتم مقلديهم ولا بد، فاعفونا من التحريف والتأويل في الدين، فما أنتم إلا عون عليه

لأولئك المارقين.

وأما المارقون من الدين من حيث هو دين، الراضون به من حيث هو رابطة

اجتماعية كالجنس، واللغة. فيقال لهم: إن تحويل النساء عن الآداب، والعادات

الإسلامية اتباعًا وتقليدًا لغير المسلمين مبدأ لقطع الرابطة الإسلامية، وهدم هذه

الجنسية، فليس ضررها محصورًا في عصيان بعض النساء لأمر الله، وجرأتهن

على انتهاك محارمه؛ إذ يستحيل أن لا تعصي امرأة من الأمة ربها قط، ولا شك

أن معصية بعضهن بما ذكر، لا تستلزم عصيان سائرهن به؛ إذ جعل كل امرأة

ممثلة محال، فلا خوف على الأمة من عصيان قليل من أفرادها، وإنما الخوف

عليها محصور في: الانتقال من طورإلى طور؛ بتأثير روح أجنبي غايته تحويل

المسلمين عن دينهم وجنسهم، وجذبهم إلى غيرهما بالإقناع والاستحسان، حتى

يكونوا غذاء له، ومادة تمده في نمائه وبقائه.

مَثَل المُقَلِد مع المُقَلَد: كَمَثَل الطفل مع الرجل، يحسب الطفل أن كل ما يفعله

الرجل مفيد له، إذا هو حاكاه فيه ساواه في فائدته منه، فإذا رآه يدخن حاول

التدخين مثله ما لم يمنعه مانع، وربما كان في التدخين هلاكه؛ إذ لا يحتمل بدنه من

سم الدخان ما يحتمله بدن الكبير المعتاد عليه، وما كل ما يفعله الرجل نافعًا له، وما

كل نافع له ينفع الطفل والدارج، ولا اليافع والشارخ، وقد تكون وسيلة المنفعة

الواحدة للرجل غير وسيلتها هي للطفل، فالتغذية منفعة ووسيلتها للطفل اللبن.

وللدارج الطعام اللطيف، وأما الرجل الأيِّد فإنه يستفيد من الطعام الكثيف من الغذاء

ما ربما يكون ممرضًا لمن دونه.

هكذا شأن الأمم الجاهلة الضعيفة مع الأمم العالمة القوية، تظن الأولى أن كل

ما تفعله الثانية مفيد لها فتحاول تقليدها فيه، غير شاعرة بأنها تقلد على غير بصيرة

تامة، ولا اكتناه للمقاصد البعيدة - وإنما الأمور بمقاصدها -، فتقع في الخسران

المبين من حيث ترجو الفلاح العظيم، كما نقلدهم الآن في الأزياء، والعادات التي

تزيد في ثروتهم، وتذهب بثروتنا. والآداب التي ترسخ بها جنسيتهم من حيث

تضعضع جنسيتنا، وأهم هذه العادات ما أدى إلى تركنا للدين، وإرخاء عنان التفرنج

للنساء في التهتك والخلاعة.

تدخل المرأة النصرانية المُتمثل ولا شعور عندها، بأنها قد أحدثت في جنسيتها

حدثًا، أو جاءت في دينها أمر فَرِيَّا. وأما المسلمة فإنها تشعر إذا فعلت ذلك، بأنها قد

انسلخت من قديم مرغوب عنه، ودخلت في جديد مرغوب فيه، ويسري هذا الشعور

منها وممن تربى مثل تربيتها إلى سائر نساء قومها، ورجالهم الذين يألفون عملها،

ويقرونه.

أنقلدهم بهذا؟ ولا نقلدهم في تربية النساء الدينية، التي نرى أقوى شعوبهم،

وأعزها، وأعلمها كالجرمانيين، والسكسونيين، هم أشد عناية بها ممن دونهم، بلغ

من رسوخ الشعور الديني عند نسائهم: أن المرأة التي يقذفها الفقر في مهواة البغاء،

تعلق صورة المسيح أو أمه في بيتها؛ لإحياء ذكرى الدين في قلبها، فإذا همت بالمنكر

فيه، حولت وجه الصورة إلى جهة الجدار استحياءً وأدبًا.

إذا صح أن هذا التياترو يفيد مسلمي روسيا في آدابهم وأخلاقهم، مثل ما يزعم

الإفرنج أنهم يستفيدون منه؛ فما هذه الفائدة المدعاة إلا من الأمور التي تسمى

تحسينية أو كمالية؛ أي: مما يطلب وراء الضروريات والحاجات التي لم يستكملوا

شيئًا منها. وقد دعاني إلى رؤية هذا التمثيل العربي بمصر بعض الفضلاء أول مقدمي

إليها، وبعد رؤيته سئلت عن فائدته. فقلت: إنني لم أر له فائدة وراء التسلية إلا

تمرين أسماع من يحضره من العوام على كلام عربي، هو وسط بين كلامهم وبين

العربية الفصحى. ثم رأيت أن بعض القصص لا تخلو من فائدة وعبرة.

أقول هذا وأنا أعلم أن المقلدين، يضيع عندهم البرهان إن خوطبوا به، فكيف

ولا سبيل إلى مخاطبتهم بما يفهمون. وقد كان يكون هذا مفيدًا، لو كان للمسلمين

زعماء عقلاء يدبرون أمرهم، ويديرون بالرأي والروية مصالحهم، ولكنهم أضحوا

فوضى، لا سراة لهم إلا أننا نرجو الخير من بعض العلماء وأصحاب الصحف.

فنسأل الله أن يوفقهم لخير الإرشاد، وينفع بهم العباد.

_________

ص: 38

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من جاوه

إسلام من دون البلوغ

(س2) السيد عقيل بن عثمان بن يحيى في (تيمور كونغ - جاوه) .

ما قولكم في إسلام من دون البلوغ من اللقطاء، وأولاد الكفار، وأهل الكتاب،

هل تجري عليه أحكام الشرع، كالمكلف في حياته وموته، أم ينفرد بأحكام تخصه؟

(ج) قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة - وفي

لفظ: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وفي رواية: على فطرة الإسلام، وفي

رواية زيادة: حتى يُعْرِبَ عنه لسانه - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)

الحديث رواه أحمد والشيخان واستدل به على أن الصغير لا يحكم عليه قبل التمييز

إلا بالإسلام الذي هو دين الفطرة، حتى يميز ويعبر عن فكره فإنه يحكم له بالملة التي

يختارها. وهو المراد برواية جابر عن أحمد: (حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب

عنه لسانه: فإما شاكرًا، وإما كفورًا) .

وينقل أهل الأثر صحة إسلام المميز عن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن شيبة

وعدمها عن الشافعي وزفر. واستدل على هذا بحديث (رُفِع القلم عن ثلاثة) ، وذكر

منهم الصبي حتى يبلغ. والحديث حسنه الترمذي، وفيه بحث وأجيب عنه: بأن

الإسلام يكتب له لا عليه، وإنما يدل الحديث على أنه يؤاخذ لا على أنه لا

يقبل إسلامه، كيف وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم يقبل إسلام الصغار لا

يرد أحدًا، ومن المشهور الذي لا يرده أحد من المختلفين في المسألة، إسلام علي - كرم الله وجهه - وهو دون البلوغ. قال عروة: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان

سنين، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير، لسبع أو ثمان سنين.

وقد يصح الاستدلال بالحديث على أن من دون البلوغ؛ لا تصح ردته عن الإسلام.

وهي رواية عن أحمد والمذهب: الأول؛ أي: أن المميز يصح إسلامه وردته.

وفي رواية ثالثة: لا يصح شيء منهما.

على أن المميز الذي في حجر والديه يكون تابعًا لهما في الأحكام الدنيوية،

وإن قلنا بصحة إسلامه على المختار، حتى يبلغ سن الرشد أو يخير، كما

أمر النبي- صلى الله عليه وسلم بتخيير أولاد أصحابه؛ الذين كانوا متهودين مع

بني النضير وكانوا أرادوا إكراههم على الإسلام، وفيهم نزل {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) راجع تفسير الآية في المجلد التاسع ص 161.

***

حمل الميت على عربة

(س3) ومنه: هل يجوز حمل الميت على عربة تجرها الخيل أو الرجال،

إذا قيل: إن هناك مصلحة كبعد القبر، أو خفة المؤنة. وهل فيه إزراء بالميت أو

تشبه غير محمود؟ المسألة ذات بال، فمن القوم من يشدد النكير، ومنهم من يقول

بالتيسير.

(ج) إنما جعل المسألة ذات بال التقاليد والعادات، ولا يهتم الناس من جميع

الأمم بشيء من العادات، كالعادات في تجهيز الموتى ودفنهم وزيارتهم، حتى

إن الذين ينسلخون من الأديان ويتركون العبادات وسائر التقليد، يظلون محافظين

على ما درج عليه أهل ملتهم؛ من التقاليد والعادات المتبعة في هذا الأمر.

لا دليل في الكتاب ولا في السنة على تحريم حمل الميت على عربة من غير

تشبه بغير المسلمين في دينهم؛ لا سيما إذا كان هناك مصلحة؛ لأن المراد بحمله

نقله وإيصاله إلى القبر ليدفن، وقد كانوا يحملون النعش في صدر الإسلام بالكيفية

المعروفة في زمنهم، ولم يقل الشارع: إن هذه الكيفية تعبدية، لا ترفعها المشقة

التي تجلب التيسير. ولو كانت الوسائل العادية التي كانوا يفعلونها واجبة على سبيل

التعبد بمجرد جريهم عليها، لوجب علينا أن لا نقاتل إلا بمثل سلاحهم، وإن سحقتنا

المدافع سحقًا، وأن لا نلبس إلا مثل ملابسهم، وإن سبقتنا الأمم في النشاط سبقًا،

أما التشبه المحظور في مثل هذا العمل، فهو ما يشتبه فيه المتشبه بالمتشبه به في

أمر من أمور دينه، ويكون ذلك عن قصد، وما أغنى المسلمين عن هذا؛ إذ

يحتاجون إلى نقل ميتهم على عربة، فالعربات التي ينقل عليها أهل الكتاب أمواتهم

لها شكل مخصوص مزين بالتماثيل، لا يحتاج المسلم إلى مثله قط. ولا نفتيه

باتخاذه، وإن لم يقصد التشبه بهم.

على أن هذا الشكل من عاداتهم لا من عباداتهم، والمسلمون لم يسلَموا في أكثر

البلاد من التشبه بهم، فيما هو عندهم من قبيل العبادة المحضة والتقاليد الدينية

الخالصة كحمل المباخر والقماقم أمام الجنازة، والترنم بالأناشيد الدينية. ويفعل

المسلمون هذه البدع التي سرت إليهم ممن جاورهم من أهل الكتاب في مصر

وغيرها لغير حاجة إليها، ويزعمون - إن اعترض عليهم بالتشبه -: أنها لا تشبه

فيها؛ لأن أناشيد أهل الكتاب هي غير أناشيدنا، وهم يضعون في مباخرهم البخور

ونحن نضع فيها الزهور، وأنت ترى أنه يمكن أن تكون مسافة البعد عن التشبه في

العربة أوسع؛ بأن تكون العربة التي تحمل عليها أموات المسلمين من قبيل عربات

النقل، ولكنها أنظف وأكثر ارتفاعًا، ويوضع التابوت عليها بالهيئة التي يحمل بها

على الأكتاف عادة، وبهذا ينتفي التشابه بالمرة، لكنه لا ينتفي في البدع المعتادة بما

ذكر آنفا؛ لأن الفرق بين أناشيدنا وأناشيدهم المتحدة في الظاهر، ليس بذي شأن،

لا سيما إذا كانوا يمدحون المسيح والحواريين، ويستعينون بهم، ويطلبون الرحمة

من الله للميت، فأكثر أناشيدنا المتبعة من هذا القبيل؛ لأنهم ينشدون قصيدة البردة

ونحوها، ومدح النبي وأصحابه من قبيل مدح المسيح وحواريه عليهم السلام

أجمعين.

وبهذا نعلم أن المسألة مسألة عادات وتقاليد، لا مسألة حرص على السنة، فإن

ما خالفوا فيه السنة، وأخذوا فيه بالبدعة لا حاجة إليه، وما حرصوا فيه على العادة قد

يحتاج إلى تركه لمصلحة، ونحن نتبع المصلحة في العادات، ومتبع المصلحة لا

يسمى متشبهًا بمن سبقه إليها، ولا مقلدًا له على أن تشبهنا بغيرنا في عادة له لم يحرم

علينا، ما لم يكن فيه مفسدة وضرر فله حينئذ حكمه.

***

رهن العقار والديار على مديري الكنائس والأديار

(س4) ومنه: ما قولكم فيمن يرهن عقاره أو دياره على مديري أموال

الكنائس والأديار؛ ويوفيهم ما اصطلح معهم عليه من ربح المال شهريًّا؛ ويَدَّعي أن

ذلك ليس من المعاملات الربوية. ما هو حكمه؟ هل يفسق بهذا الفعل أو هذا

الاعتقاد، أم له فيه فسحة أو مسامحة؟ وما يقال في مساهمة أو معاملة من هذا

ديدنه؟

إن أشبعتم الفصل والنقل في هذا الباب فهو من المهم في الدين؛ لتساهل أهل

هذه الجهة في الاحتياط والورع، بل تقادعهم في الحرام السحت والطغيان،

وتعاقدهم على الإثم والعدوان، وتقاعدهم عن المبرات والإحسان، فصارت معاملتهم

كلها فاسدة بما يدعونه صحيحًا، وقد عم الربا هذا القطر (جاوى) من غير مبالاة،

فعسى أن يحصل لهم بما تضعونه ارتداع، ولكم ثواب الدلالة على الهدى وإيضاح

الحق.

(ج) مديرو الكنائس والأديار كغيرهم من الناس في المعاملات المالية ما

خصهم الدين بأحكام في العقود والمعاوضات، فالرهن عندهم كالرهن عند غيرهم، إن

جائزًا في نفسه فجائز معهم، وإن ممنوعًا فممنوع. والدين قد حرم الربا؛ لما فيه من

قساوة القلب وترك التعاطف والمواساة للمحتاج، كما بيَّنا ذلك بالتفصيل في تفسير

آيات الربا، وبيَّنا ما هو الربا المحرم بالنص، فيراجع في المجلد التاسع.

واعلم أنك إذا عددت كل ما يقوله المصنفون في كتب الأحكام التي يسمونها فقهًا

من أمور، وحكمت بفسق التارك لبعض شروطهم في هذه المعاملات الدنيوية، فإنك

تقذف بالمسلمين في مأزق من الحرج، لا قبل لهم به ولا طاقة لهم باحتماله. إن الدين

حرم الربا والغش والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، والضرر والضرار،

وكل ما فيه إفساد للأخلاق وتدنيس للأرواح، وأوجب عليهم الوفاء بالعقود، وأقرهم

على عقودهم ما لم تحل حرامًا أو تحرم حلالاً، وأباح لهم بعد ذلك أن يتعاملوا كيف

أرادوا بالتراضي بينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا، وهم غير مكلفين بالعمل بآراء الفقهاء

واجتهادهم، التي لا دليل عليها في النص، إلا إذا أمر الحكام بالقضاء فيها، فحينئذ

تتبع لأجل أن تكون المعاملات نافذة تدينًا وتعبدًا، مثال ذلك: اشتراط الإيجاب

والقبول في البيع مثلاً لما يتعبدنا الله به، وقد قال به من قال؛ اجتهادًا لما رآه من

المصلحة فيه. فإذا تعارف الناس على نوع من المعاطاة وتراضوا به، جاز لهم ذلك

دينًا، ولكنهم يضطرون إلى التزام الإيجاب والقبول، إذا أرادوا أن يكون البيع نافذًا

عند حاكم يشترطه.

***

حُكم شرب البيرا وعصير الزبيب

(س 5و6) ومنه: ما هذا الشراب المسمى (بيرا) ؟ وما حكمه؟ وما مادة

أخذه؟ وهل يقال: إنه من الأجزاء الدوائية، أو غير المسكرات، أو يحل تناوله؟

وهل هو أنواع؟ وهل في عصير الزبيب ما يجوز شربه؟

(ج) البيرا هي (الجعة) ؛ أي: الشراب المأخوذ من ماء الشعير، ويقال:

إنها تخمر بحشيشة الدينار، وهي أنواع ولا شك في كونها من المسكرات، ولكن

يقال: إن القليل منها لا يسكر لا سيما بعد الاعتياد، والصحيح المختار عند

جماهير المسلمين ومنهم الشافعية الذين يقلدهم أهل بلادكم، أن ما أسكر كثيره فقليله

حرام وهي ليست من الأدوية، ولكنها تفيد في تحليل البول، وفي الحلال ما يغني

عنها في ذلك كالبقدونس. ومن مرض بحصر البول، ولم يجد محللاً غيرها، حل

له التداوي بها بقدر الحاجة.

وعلمت أنه يوجد نوع منها يستعمل للتحليل، لا يسكر قليله ولا كثيره ولكنه

قليل المكث؛ يشرب عقب صنعه، فإذا طال عليه الأمد أيامًا، فسد وذهبت فائدته.

وأما عصير الزبيب: فلا يحرم إلا إذا اختمر وصار مسكرًا، وقد عجبت من

هذا السؤال في غير شبهة، وما زال المسلمون مذ كانوا يشربون ماء الزبيب

وغيره منبوذًا ومعصورًا؛ ما لم يمكث زمنًا يتخمر فيه ويصير مسكرًا، وله في

مصر وغيرها مواضع يباع فيها هو وماء الخروب وعرق السوس وغير ذلك.

***

يانصيب

(س7) ومنه: (يا نصيب) لم نعرف ما هيته، ولم نر استئناسًا لتعاطيه

أو دليلاً على حله. فما هو؟ وما حكمه هو وأشباهه؟

(ج) هو نوع من أنواع القمار، كيفيته أن يضع امرؤ أو شركة

قراطيس صغيرة فيها أرقام تسمى نمرًا؛ أي: أعدادًا، يذكر في كل قرطاس منها ما

يدل على أن كذا من هذه النمر؛ يسحب في يوم كذا من شهر كذا وأن طائفة منها

(أي: النمر) يربح كذا قرشًا أو جنيهًا أو فرنكًا، وكذا منها يربح كذا؛ أي: أقل من

ذلك. ويبيعون هذه القراطيس بثمن قليل، بالنسبة إلى ما يُرجى من بعضها،

ويشتريها من يشتريها؛ آملاً أن تكون النمرة فيما يشتريه من النمر الرابحة، وإذًا

يكون أعطى قليلاً وأخذ كثيرًا. وكيفية السحب: أن توضع بطائق عليها أرقام تلك

النمر في وعاء مستدير فيه ثقب، يفتح بعد أن تخضخض البطائق في الوعاء؛ فينزل

منه بطاقة بعد أخرى أمام شهود يصيح صائحهم: ببيان نمرة كل بطاقة تنزل؛ إذ

تكون رابحة حتى إذا تم عدد ما كتب على القراطيس أنه ربح يكون السحب قد تم

وعرف الرابح من غيره. مثال ذلك: أن تكون النمر التي قدر لها الربح عشرة من

مائة، فالمعنى أن البطائق العشر التي تسقط أولاً هي التي تكون رابحة، ومن العادة

أن تكون الأولى أوفر سهمًا، وهذا العمل من القمار؛ أي: الميسر المحرم في الدين

كما هو معلوم.

_________

ص: 42

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

] نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [[*]

قال الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله تعالى -: (يستحيل بقاء الأزهر

على حاله: فإما أن يصلح، وإما أن يسقط) ، وكان - أكرم الله مثواه - باذلاً جُلَّ

عنايته في إصلاحه؛ حذرًا من سقوطه وحرمان المسلمين مما يرجى بإصلاحه، وكان

أقدر من عرفنا من الناس على هذا الإصلاح وسائله ومقاصده، وأحكمهم في تنفيذه،

إلا أنه أخطأ في أمر واحد لولاه لتم له ما أراد من الإصلاح؛ وهو فوق ما طلب منه

ذلك الأمر هو محاولة إصلاحه برضى كبراء شيوخه، واستعمالهم فيه بالإقناع

دون السلطة، إلا ما بدأ به من وضع قانون لإدارته، والسعي في إصدار إرادة من

الأمير به بناءً على قرار من مجلس النظار؛ لعلمه أن العمل بدون ذلك متعذر.

ولا محل لشرح ذلك هنا بل موضعه الجزء الأول من تاريخه الذي نعتني بطبعه

الآن، وإنما نريد أن نبين أنه كان يحاول تنفيذ هذا القانون بدون استعانة بسلطة

التنفيذ في البلد؛ بل بمجرد رضى شيخ الأزهر وأعضاء الإدارة.

كان الشيخ حسونة النواوي أول من ولي المشيخة، واختير للعمل بهذا القانون

مع المرحوم وسائر من اختيروا للإدارة، وكان المرحوم هو الذي اختاره، وسعى

لدى الأمير بتعيينه وكيلاً للشيخ الإنبابي المرحوم ثم أصيلاً، وقد استعان على هذا

ببعض أصدقائه كالمرحوم أمين باشا فكري. ذلك أنه كان يعتقد أن الشيخ حسونة

أمثل الشيوخ وأرجاهم لقبول الإصلاح، علمت ذلك منه أول مقدمي لمصر سنة

1315؛ إذ قلت له: سمعت من بعض مجاوري الأزهر الطرابلسيين أن شيوخ

الأزهر قد امتعضوا من جعل الشيخ حسونة شيخًا للأزهر؛ لأنهم لا يعدونه من كبار

العلماء.

فقال: إن كانوا يعنون بذلك أنه لا يقدر على إيراد الاحتمالات الكثيرة في مثل

عبارة جمع الجوامع؛ فهذا صحيح ولكن هذه الاحتمالات التي يوردونها ليست من

العلم في شيء، والشيخ حسونة أمثلهم. وقد دلت التجارب على صدق هذا القول-

ولا ننسى فضل المرحوم السيد علي الببلاوي الذي ظهر من فضله فوق ما كان يظن

فيه - فإن ما جرى على يد الشيخ حسونة أولاً وآخرًا، لم يجر على يد غيره

مثله.

نعم كان الشيخ حسونة يرجئ بعض ما يقترح المرحوم؛ عملاً بالتدريج عن

رأي واعتقاد، ولكنه لم يكن يقرر الشيء ولا ينفذه؛ كما فعل من جاء بعده ما عدا

الببلاوي، وقد تقلب على الأزهر في هذه المدة عدة شيوخ، كان أشهرهم في علوم

الأزهر أبعدهم عن الإصلاح. فالشيخ سليم البشري من أشهرهم لم يجر على يده

شيء، بل كان معارضًا لكل شيء فأرضى أمثاله من المحافظين على القديم،

وأغضب طلاب الجديد، والشيخ عبد الرحمن الشربيني أشهرهم على الإطلاق وهو

لم يفعل شيئا، ولم يرض طائفة من الطائفتين.

قلت للأستاذ الإمام مرة: إن قرار مجلس إدارة الأزهر هو كقرار كل مجلس

رسمي وكل محكمة يطالب القانون بتنفيذه ويعاقب على تركه، فلماذا لا تطالب

بتنفيذ هذه القرارات الكثيرة التي يمتنع شيخ الأزهر من تنفيذها بصفة رسمية؟

فلو فعلت هذا مرة واحدة؛ لنفذ كل قرار. فقال: إن هذا لا يكون إلا بسلطة

الحكومة، وإنني أرجو أن لا أدع الحكومة تتداخل في الأزهر ما دمت فيه، فكيف

أكون أنا الذي يدعوها إلى ذلك؟ فنحن ندعو الشيوخ بالإقناع معتصمين بالصبر.

وكان يكره أن يكون (للمعية) أصبع في الأزهر، كما يكره أن يكون

للحكومة يد فيه؛ لاعتقاده أن خير الإصلاح في العلم والدين؛ ما كان بعيدًا عن

السياسة فائضًا عن اقتناع العلماء به واستقلالهم فيه، ولكن (المعية) ولعت بالأزهر

ولوعًا كاد يكون عشقًا وغرامًا، ولما رأت أن تمتعها بهذا المعشوق لا يتم مع وجود

هذا العذول الرقيب، طفقت تناهضه حتى كان ما كان من أمر استقالته من إدارة

الأزهر، وكان ما كان بعده من الخلل في هذا المكان، حتى أدى ذلك إلى إقامة نائب

عن شيخه الشربيني، يدبر الأمر من دونه عدة أشهر ثم إلى استقالته، وإعادة الشيخ

حسونة إلى المشيخة وعلى يد الشيخ حسونة تم مشروع مدرسة القضاء الشرعي،

وصدر به الأمر العالي فصدق قول المرحوم فيه: إنه أمثلهم في حياته وبعد مماته.

مما كان ينويه من إصلاح الأزهر إنشاء قسم قضائي فيه يرشح فيه الطلاب

لمنصب القضاء. زاده حرصًا عليه اقتراح المستر سكوت - المستشار القضائي

الأول - إصلاح المحاكم الشرعية، وجواز جعل المتخرجين في مدرسة الحقوق

الخديوية قضاة شرعيين. لم أر الأستاذ مهتمًّا في مقاومة شيء كاهتمامه في حمل

الحكومة على الإغضاء عن جعل متخرجي الحقوق قضاة للشرع. سعى في ذلك.

وحاول إقناع كبراء الشيوخ بأن يسعوا معه، فلم ير منهم مبالاة فكان يتململ ويقول:

إذا نفذ هذا المشروع، قضي على الأزهر، وقد نجح سعيه فلم ينفذ.

وعندما حاولت الحكومة تعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية للمحكمة

الشرعية العليا بمصر، ولم يتم ذلك قوي عزمه، وظن أن الفرصة سنحت لإنشاء

القسم القضائي، وقد فتحنا كوة للبحث في ذلك؛ إذ أنشأنا مقالة في المنار الذي صدر

في ذي الحجة سنة 1316؛ نقترح فيه إنشاء هذا القسم القضائي، ولكن حال دون

إنشائه عزل الشيخ حسونة من المشيخة، وتولية الشيخ عبد الرحمن القطب في 24

المحرم سنة 1317، ولم يلبث هذا أن توفي بعد شهر من توليته، وولي الشيخ سليم

البشري الذي وقف في عهده سير الإصلاح، وكان من أمر (المعية) من أول عهده

إلى الآن ما أشرنا آنفًا إلى أنه انتهى باستقالة المصلح العظيم من إدارة الأزهر،

وبهذا انقطع رجاء الحكومة من إصلاح حال القضاة الشرعيين الذين ضجت منهم

الأمة طالبة بلسان الجمعية العمومية ولسان مجلس الشورى إصلاح المحاكم

الشرعية، فعهدت إليه بوضع مشروع إنشاء مدرسة قضائية، يتولى هو بنفسه

أمرها.

وكان هذا المشروع آخر عمل إصلاحي عمله؛ إذ تم في أوائل مرض

الموت. وما كان يؤلمه من هذا المشروع إلا انفصاله عن الأزهر، وقصارى ما

أمكنه من وصله به، جعله تحت نظر مفتي الديار المصرية دائما، وكان للحكومة

معه وقفة في هذه المسألة.

تبارك ناصر المخلصين، أحياء وميتين. فقد قضت حكمته عز وجل أن

يقوم بتنفيذ المشروع، ويجعله أشد صلة بالأزهر سعد باشا زغلول ناظر المعارف لهذا

العهد، ولا يجهل أحد من المصريين من هو سعد باشا من الأستاذ الأمام، وأن يكون

ذلك في عهد مشيخة الشيخ حسونة وبعد موافقته عليه، وجعله تحت نظره، وقد علم

القراء اعتقاد المرحوم في الشيخ حسونة، وما كان من نيته في أيام مشيخته الأولى،

وهاك نص القانون في ذلك:

مشروع أمر عال

بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي

نحن خديوي مصر:

بعد الاطلاع على قانون الجامع الأزهر الصادر به الأمر العالي بتاريخ 20 محرم سنة 1314 (أول يوليه سنة 1896) . نمرة 3

وبناء على ما عرضه علينا ناظر المعارف العمومية، وموافقة رأي مجلس

النظار، أمرنا بما هو آت:

المادة الأولى - يخصص قسم من الأزهر؛ لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء

ووكلاء دعاوي وكتبة للمحاكم الشرعية، ويسمى (مدرسة القضاء الشرعي) .

المادة الثانية - تكون هذه المدرسة باعتبار كونها قسمًا من الأزهر تحت

إشراف شيخه، وتكون لطلبتها من الامتيازات ما لغيرهم من الأزهريين، ويتولى

إدارتها ناظر، يعينه ناظر المعارف، ويكون لها محل مخصوص.

المادة الثالثة - تنقسم هذه المدرسة إلى قسمين: القسم الأول لتخريج كتبة للمحاكم الشرعية. والقسم الثاني لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء ووكلاء دعاوي للمحاكم الشرعية أيضًا.

القسم الأول

المادة الرابعة - يشترط فيمن يدخل القسم الأول من مدرسة القضاء الشرعي

ما يأتي:

أولاً - أن يكون طالب علم في الأزهر أو أحد ملحقاته مدة ثلاث سنين، وأن

يكون حميد السيرة.

ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم، سليمًا من العاهات.

ثالثًا - أن ينجح في امتحان الدخول في المواد الآتية:

(أ) حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل.

(ب) المطالعة في الكتب السهلة مع الصحة وفهم المعنى.

(ج) الإملاء.

(د) النحو.

(هـ) الفقه.

(و) مبادئ علم الحساب.

المادة الخامسة - يكون امتحان الدخول في هذا القسم تحت رياسة شيخ الجامع

الأزهر، أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من

عضوين ينتخبهما ناظر المعارف العمومية؛ بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في

المادة 18.

المادة السادسة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم خمس سنوات.

المادة السابعة - تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:

التفسير - الحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - التوثيقات الشرعية -

التوحيد - المنطق - آداب وأخلاق دينية - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف

والمجالس الحسبية ونظام القضاء والإدارة - اللغة العربية - الحساب والهندسة

- التاريخ والجغرافيا - الخط.

المادة الثامنة - الامتحان النهائي للقسم الأول: يكون تحت رياسة شيخ الجامع

الأزهر أو من ينيبه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من عضوين

ينتخبهما ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في المادة 18.

المادة التاسعة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الأول تحريريًّا

وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.

المادة العاشرة - تعطى لمن نجح في الامتحان النهائي لهذا القسم شهادة الأهلية

الأزهرية، ويكون أهلاً بموجبها لأن يعين كاتبًا بالمحاكم الشرعية؛ فضلاً عن

المزايا المقررة لها بحسب قانون الأزهر.

القسم الثاني

المادة الحادية عشرة - يشرط فيمن يدخل القسم الثاني من مدرسة القضاء

الشرعي ما يأتي:

أولاً - أن يكون حاملاً لشهادة القسم الأول.

ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم سليمًا من العاهات.

ثالثًا - أن يكون حميد السيرة؛ لم يسبق الحكم عليه بسبب أمر مخل بالشرف

وأن يكون عاملاً بأمور دينه.

المادة الثانية عشرة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم أربع سنين.

المادة الثالثة عشر- تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:

تفسير وحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - حكمة التشريع - الأصول على

مذهب أبي حنيفة - آداب البحث - توحيد - منطق - آداب وأخلاق دينية - أصول

القوانين - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية ونظام القضاء

والإدارة - محاضرات عامة ودراسة بعض القضايا ذات المبادئ الشرعية - اللغة

العربية - العلوم الرياضية - التاريخ - تقويم البلدان - الخواص التي أودعها الله

تعالى في الأجسام.

المادة الرابعة عشرة - الامتحان النهائي للقسم الثاني يكون تحت رياسة شيخ

الجامع الأزهر أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال،

وتتألف كل لجنة من خمسة أعضاء ينتخبون من علماء الأزهر وأرباب المعارف

الفنية بمعرفة ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة. المبينة في المادة 18.

المادة الخامسة عشرة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الثاني

تحريريًّا وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.

المادة السادسة عشرة - يصدر لمن نجح في الامتحان النهائي للقسم الثاني:

البيورلدي العالي - المنوه عنه في المادة 53 من قانون الأزهر- وزيادة عما

لحامله من المز يا، يصير أهلاً بموجبه لأن يكون وكيل دعاوى أو قاضيًا أو عضوًا

أو نائبًا بالمحاكم الشرعية.

أحكام عمومية

المادة السابعة عشرة - يكون للمدرسة لجنة إدارية تسمى لجنة الإدارة،

وتتألف من: شيخ الجامع الأزهر أو من ينوب عنه رئيسًا، ومن مفتي الديار

المصرية، ومن ناظر المدرسة، ومن عضوين آخرين ينتخبهما ناظر المعارف

بالاتفاق مع ناظر الحقانية.

المادة الثامنة عشرة - تختص لجنة الإدارة بما يأتي:

أولاً - تحرير اللائحة الداخلية.

ثانيًا - وضع برجرامات الدراسة وتوزيعها على السنين والأوقات المختلفة

وبيان درجات كل علم.

ثالثًا - انتخاب المدرسين بالمدرسة.

رابعًا -انتخاب أعضاء لجان الامتحانات المختلفة.

خامسًا - تقرير ما ينبغي صرفه من الإعانات الشهرية لطلبة القسم الأول

والثاني.

سادسًا - تقرير الأجازات التي تعطل فيها الدارسة.

سابعًا - ما يطلب منها ناظر المعارف النظر فيه.

قرارات هذه اللجنة تكون نافذة بعد تصديق ناظر المعارف عليها.

المادة التاسعة عشرة - مرتبات الموظفين والمدرسين بهذه المدرسة تقدر على

حسب أهمية وظائفهم، وأهمية الدروس التي يكلفون بإلقائها، ويعطى لطلبتها

إعانة شهرية.

المادة العشرون- لا يصح أن ينتخب مدرس في هذه المدرسة من غير علماء

الأزهر، إلا إذا كان مسلمًا حميد السيرة، ومشهودًا له بالبراعة في الفن المعين

لتدريسه.

المادة الحادية والعشرون - ناظر المدرسة هو المكلف بضبطها، ونظامها،

وتنفيذ قرارات لجنة الإدارة فيها.

أحكام وقتية

المادة الثانية والعشرون - إذا ظهر من نتيجة امتحان الدخول في القسم الأول

في أثناء السنوات الأربع الأولى التالية لافتتاح المدرسة؛ وجود طلبة مستعدين لتلقي

دروس أي سنة من السنة الأولى وعددهم كاف لتشكيل هذه السنة، جاز تشكيلها

وذلك بطريق الاستثناء، من أحكام المادة 6.

المادة الثالثة والعشرون - يجوز في أثناء السنوات الخمس الأولى التالية

لافتتاح المدرسة، أن يقبل بالقسم الثاني طلبة الأزهر ممن قضوا ثمان سنوات بدون

شهادة الأهلية أو العالمية إذا توفرت فيهم الشروط الأخرى المنصوصة في تلك

المادة وذلك استثناء من أحكام المادة (11) .

المادة الرابعة والعشرون -على ناظر المعارف تنفيذ هذا القانون.

(المنار)

عرض هذا المشروع على كبيري العلماء ورئيسهم الشيخ حسونة شيخ الأزهر

والشيخ بكر الصدفي مفتي الديار المصرية؛ قبل عرضه على الحكومة رسميًّا، وبعد

مذاكرة بينهما وبين ناظر المعارف وبعد تحوير اقترحاه، فأجابهما

الناظر إليه أقرَّا المشروع. ثم أرسل ناظر المعارف نسخة إلى (المعية) والنظار

ووصل بعضها إلى جريدة اللواء فنشرته. وبعد أيام من نشره لم يسمع له فيها

صوت انبرى بعض المدرسين في الأزهر إلى انتقاد بعض مواده في الجرائد،

وكتبوا إلى ناظر المعارف عريضة. ذهب وفد منهم فقدمها إليه في النظارة، فطلب

منهم أن يختاروا أربعة منهم للكلام معه، فوعد الأربعة بإجابتهم إلى ما طلبوا، وأهمه

عدم امتحان من يطلب الدخول في المدرسة من حاملي شهادة العالمية، وكان ذلك حتمًا

مقضيًّا في المشروع، ثم ذهبت طائفة أحرى من المجاورين النبهاء، فشكوا إلى

الناظر من اشتراط كون طالب الدخول حنفي المذهب، وكونه حاملاً لشهادة العالمية،

فوعدهم بإجابة طلبهم، فانقلبوا كسابقيهم مسرورين شاكرين، وقد وفى الناظر

بوعده للفريقين.

ثم إننا سمعنا بعد ذلك من جانب الأزهر دندنة وجمجمة، وقيل: إن بعض

المشايخ جاء من خارج القاهرة فطاف على كبار الشيوخ، واجتهد في إقناعهم

بمعارضة المشروع حتى إنه ظاهر بين المتدابرين؛ لأجل الاتفاق. وتحدث الناس

بأن صدور الأمر العالي بالمشروع سيرجأ، وذكرت الجرائد ما يدل على ذلك قبل

اجتماع مجلس النظار برياسة الأمير بيوم أو يومين. ولكن المشروع عرض على

المجلس وصدر الأمر العالي به، وقضى الله أمرًا كان مفعولاً، وانفتح لطلاب

العلوم الدينية باب النظام في التعليم، وباب علوم الكون وذلك فتح مبين، ومبدأ

تاريخ في المسلمين جديد.

ولا نزال نسمع عن الشيوخ أنباء الائتمار والدعوة إلى الاتفاق على طلب

نسخ بعض مواد هذا القانون؛ بناءً على المقرر في الأصول من جواز نسخ الحكم

المشروع قبل العمل به، وإذا جاز في الدين؛ فلأن يجوز في القوانين أولى.

والمشتغل منهم بالسياسة، والمتحرك فيهم بالسياسة يقول: إن الأمر العالي الذي

صدر بتعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية في المحكمة الشرعية العليا، قد

أوقف تنفيذه لما كان من معارضتهم. وإننى أخشى إن استرسلوا في هذا الغرور،

وغرهم بما يغريهم به الغرور، أن يلجئوا الحكومة إلى السيطرة عليهم، وتعيين

مدير للأزهر يدبر أمر التعليم وينفذ القانون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولكن

الرجاء في الشيخ حسونة - وقد حنكه الزمان وهو أعلم منهم بما كان - أن يتلافى

ذلك بالحكمة، ويرضي بحسن إدارته الحكومة والأمة.

_________

(*)(الصف: 13) .

ص: 48

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(وقائع الحرب)

نظم فارس أفندي الخوري أحد كتاب الشام وشعرائها المشهورين أربع

قصائد في تاريخ الحرب بين الروس واليابان؛ التي كان مبدأها أوائل فبراير

(شباط) سنة 1904 ونهايتها في أوائل سبتمبر (أيلول) سنة 1905. وأهداها

إلى صديقه الدكتور حسين أفندي حيدر فطبعها هذا طبعًا متقنًا بمطبعة الأخبار

بمصر، وهي تباع بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بقرشين صحيحين.

وإننا نورد بعض الفصول من هذه القصائد؛ لما فيها من الفائدة والعبرة في

ثوب الفكاهة والتسلية؛ ومنها يعلم القارئ درجة الناظم في القدرة على نظم

الوقائع وضبطها مع الإنصاف، والأمانة في النقل، وتحري تنبيه الذهن وإنارة

العقل، قال في القصيدة الأولى وهو الفصل 5، 6، 7 (وما في الهوامش من

تفسير بعض الكلم منقول من الأصل؛ إذ وضع في آخره جدول لذلك) .

(نكبة الروس بغرق الأميرال مكروف على الدارعة بتروبالسك في 13

نيسان سنة 1904)

سعى طوغو على مكروف يوم الـ

ـلقا، وأعد تدبيرًا مريرا

أقام له الفخاخ بكل وجه

يؤججه بها نارًا حرورا

وناصبه بعرض البحر حربًا

فكر عليه لا يخشى نكيرا

أثارته الشهامة عن عرين

ويأبى الليث إلا أن يثورا

فقاتله وناضله بقلب

يريه كل معتاص يسيرا

ولكن قلما عدد قليل

يفوز ويغلب العدد الكثيرا

تدفقت الكرات عليه حتى

رأى في الكر موقفه مبيرا [1]

فدار إلى الخليج يريد أمنًا

وكان بواره في أن يدورا

مضى يجتاز فوق فخاخ طوغو

كملاح يحاذر أن يجورا

إلى أن شقت الغمرات فاهًا

وأصعدت البلايا والسعيرا

فشاهد تحت أخمصه جحيمًا

وقد فتحت قذائفه حفيرا [2]

كأن جهنما وجدت سبيلاً

ومطوياتها لقيت نشورا

كأن هناك بركانًا تلظى

وأطلق في الفضا نارًا ونورا

كأن البحر غضبان عليهم

لما جروا على الدنيا شرورا

طوى بضميره حنقًا، فلما

دنا مكروف كاشفة الضميرا

هوت فيه السفينة في خليج

وكانت قبل تخترق البحورا

على مكروف، قد بكت البواكي

وأطلقت المدامع والشعورا

ففاض له بأرض الروس دمع

يؤلف لو يضم معًا غديرا

بمصرعه عزوم الروس خارت

وحق لها بذلك أن تخورا

رجاء القوم معقود عليه

ليدفع عنهم الخطب العسيرا

أميرهُمُ وعند أشد ضيق

يراد لكشفه فقدوا الأميرا

فكان بهديه قمرًا مضيئًا

وكان بكره أسد مزيرا [3]

وإن الروس لا يسلون عنه

ولو وجدوا له فيهم نظيرا

(6)

(الوقعة البرية الأولى على نهر يالو في 1 أيار سنة 1904)

أقام الروس في يالو قلاعًا

على تحصينها صرفوا شهورا

مسيل النهر دونهم فظنوا الـ

ـعدى لا يستطيعون العبورا

ومن خاض البحور إلى الأعادي

أيأبى أن يخوض لهم نهورا؟

مشى اليابان لا يخشون بؤسًا

وماء النهر يكتنف الصدورا

بجيش كل من فيه جريء

تمنى للأعادي أن يطيرا

وصبوا من مدافعهم كرات

يفلق عزم صدمتها الصخورا

لئن صبرت جيوش الروس شيئًا

فبعد هنيهة ولت ظهورا

وأبقت من ذخائرها نهابا

ومن أعتادها شيئًا كثيرا [4]

ولليابان في الآثار

شد

فكم قتلوا وكم أخذوا أسيرا

أتوا أَنْطُنْغَ بالرايات، حتى

على أسوارها خطرت خطيرا

لعمرك ليس يحمي السور مُدْنًا

إذا عدمت من التدبير سورا

فهل حدثت في أخبار دلني

وما شادوا بساحتها قصورا

وما قد أنفقوا عملاً ومالاً

على المرسى وكيف جرى أخيرا

أباحوها إلى اليابان غنمًا

وما نالوا على نصب أجورا

ولا عجب لمختال مدل

إذا أخلى الحواضر والثغورا

إذا غفل الرعاة عن المواشي

فمن ذا يدرأ الأسد الهصورا

وإن الخاشع اليقظان يكوي

بحد حسامه البطل الفخورا

كذلك من توخى البغي متنًا

تراه بدون معثرة عثورا

(7)

(وقعة كنشو)

وكنشو بالمدافع منعوها

وولوا حفظها جيشًا كبيرا

وظنوا أنها تبقى طويلاً

وتثبت في خفارتهم دهورا

أغار الخصم منقضًّا عليها

ونار الروس تكتسح المغيرا

إلى أن كوروا القتلى تلالاً

وأوشكت المعاقل أن تمورا [5]

رأوا أن العدو يموت طوعًا

ولا يأبى التقحم والكرورا

ومن رغب المنية وانتحاها

يبيت عدوه عنها نفورا

بدا للروس أن الفتح دان

يغذ فلا معين ولا مجيرا [6]

فولوا تاركين على الروابي

ذخائرهم لأعداهم نصيرا

لقد شمخوا على اليابان لما

رأوا جنديهم قزما زميرا [7]

وقالوا: سوف نطحنهم فتغدو

قبورهم الضواري والنسورا

ولكنا على يالو وكنشو

وجدنا القول بهتانًا وزورا

فعرض الجسم لا يغني فتيلاً

وطول القد لا يجدي نقيرا

ألست ترى الوليد وفيه حزم

يسوم الفيل خسفًا والبعيرا

رهام الطير تنخلع ارتياعًا

إذا رأت البواشق والصقورا

***

وقال في أول القصيد الثانية:

(الوقعة الكبرى في جوار مكدن في 15 شباط سنة 1905)

(1)

بمكدن كور بتكن لَمَّ جيشًا

وشاد له المعاقل والحصونا

رأى الأعتاد وافرة لديه

فظن مقامه حرزًا حصينا

ولكن رأي أوياما أراه

أمورًا خيبت تلك الظنونا

أقام له المراصد في الصياصي

وبين جفونه بث العيونا [8]

تخبره بما اصطنعوا دفاعًا

لحوزتهم وكيف يدبرونا

أعد الخطة المثلى ليوم

يروع حر أزمته السنينا

ورتب للهجوم عليه رأيًا

يكون لمجد رايته ضمينا

وهز جناحي الجيش التفافًا

على أعدائه المتحصنينا

رمى اليسرى بكوركي فندزو

فأكو ثم في نوجي اليمينا

(2)

ودارت للمنون رحى طحون

لها الأجساد قد صارت طحينا

وطبق كل ناحية دخان

كثيف أسود يعمي العيونا

وصوت القذف أوقر كل أذن

فإن سمعته تحسبه طنينا

فليس بمبصر أحد أخاه

وما هو سامع منه الأنينا

فصار الحزن من دك سهولاً

وصار السهل من جثث حزونا

لو انقشع الدخان بدت أمور

ترد المرد شيبًا منحنينا

جيوش كيفما العين استدارت

تراهم يظهرون ويختفونا

كأن الأرض بالأبطال حبلى

تدفعهم حيارى صارخينا

فلا حجر تراه العين إلا

يحجب خلفه منهم جنينا

كأن حجارها الصم استحالت

رجالاً بالحديد مسربلينا

فلا واد بتك الأرض إلا

ويخرج من معاطفه كمينا

كأن عقولهم ذهبت شعاعًا

فليس لهم بها ما يرهبونا

فكل فتى غدا أسدًا هصوراً

وموطئ رجله أضحى عرينا

***

(حديث عيسى بن هشام أو قرة من الزمن)

لمحمد بك المويلحي مقالات أدبية، كان ينشرها في جريدة مصباح

الشرق بأسلوب مقامات البديع والحريري، وراويتها عيسى بن هشام. وكان

يتمنى كثير ممن قرأها من محبي الأدب لو تجمع في كتاب فكان لهم ما تمنوا.

جمع الكاتب نفسه هذه المقالات ونقَّحها، وزاد فيها ونقص منها وطبعها، فكانت

كتابًا صفحاته 336، وقد قال في (إهداء الكتاب) ما يأتي:

(أَلِفَ المؤلفون والكُتَّاب أن يبدؤوا كتبهم عند نشرها بإهدائها إلى بعض

ذوي الشأن والفضل، والضعيف العاجز يهدي هذا الكتاب إلى كل من يقرأه من

أديب يجد فيه طرفًا من الأدب، وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة، وعالم

يبصر فيه شذرة من العلم، ولغوي يصادف فيه أثرًا من الفصاحة، وشاعر

يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال. وأهديه إلى أرواح المرحومين -

الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي

الشنقيطي والشاعر البارودي، أولئك الذين أنعم الله عليهم، وأولئك الذين تأدبت

بأدبهم وأخذت عنهم) اهـ. ونقول: إن هذا العبارة أبلغ ما في الكتاب من خيال

الشعر الفصيح، ولمحات الحكمة في التلويح، ثم ذكر صورة كتاب كانت عنده

من السيد جمال الدين بخطه وهي:

حبيبي الفاضل

تقلبك في شؤون الكمال يشرح الصدور الحرجة من حسراتها، وخوضك

في فنون الآداب يريح قلوبًا علقت بك آمالها، وليس بعد هذا الإرهاص إلا

الإعجاز ولك يومئذ التحدي، ولقد تمثلت اللطيفة الموسوية في مصر كرة

أخرى، وهذا توفيق من الله - تعالى -، فاشدد أزرها، وأبرم بما أوتيت من

الكياسة والحذق أمرها، حتى تكون كلمة الحق هي العليا، ولا تكن كالذين

غرتهم أنفسهم بباطل أهوائها، وساقتهم الظنون إلى مهواة شقائها، وحسبوا

أنهم يحسنون صنعًا، ويصلحون أمرًا، كن عونًا للحق ولو على نفسك، ولا

تقف في سيرك إلى الفضائل عند عجبك، لا نهاية للفضيلة ولا حد للكمال، ولا

موقف للعرفان، وأنت بغريزتك السامية أولى بها من غيرك والسلام.

...

...

...

جمال الدين الحسيني الأفغاني

***

(الدقائق في الحقائق)

ألف يعقوب أفندي جبرائيل مراد، مترجم وسكرتير إدارة دائرة

بوالينودرانبت باشا بكفر الدوار كتابًا سماه بهذا الاسم، أودع فيه أفكاره في

النفس والروح والقدرة الإلهية والأديان، وقد أهدى إلينا نسخة مطبوعة منه،

فنظرنا في بعض صفحاتها من أوائلها وأواخرها، فرأينا فيها فكرة حسنة،

سبق المؤلف فيها أناس؛ ولكنه لم يأت بها تقليداً بل هداه إليها النظر والفكر،

فتقبلها بقبول حسن، بل أدهشه حسنه وجمالها، وراعته عظمتها وجلالها،

فملكت قلبه وفتنت لبه، حتى ظن أنها إلهام، أفاضه عليه ذو الجلال والإكرام؛

لأن مثلها لا يأتي من الفطنة ولا يستفاد بالتعليم، كما قال عاشقات يوسف: {مَا

هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) ثم سرت منها عدوى الافتتان

بها، إلى الهيام بالعبارة المؤدية لها، فتخيل أن الإعجاز ينطوي في كلامه،

الناشر لإلهامه أو المعبر لأحلامه.

أما الفكرة الحسنة: فهي الجمع بين الكتب المنزلة - التوراة والزبور

والإنجيل والقرآن - وإزالة التفرق بين متبعيها. هذا ما دعا إليه الإسلام،

ونادى به القرآن، وهو وحي الرحمن، فكل من دعا إليه فقد دعا إلى المقصد

الحق، وإن أخطأ في الوسيلة، ولا بد لكل قول من تأثير في نفوس مستعدة

له فإذا كان في الناس من يعد هذا الكتاب، كما قال الأستاذ الإمام في بعض

الجرائد (نوبات عصبية) فلا بد أن يوجد فيهم، من يعده حكمة مرضية.

***

(القول المتين في الرد على المخالفين)

رسالة للشيخ قاسم بن سعيد الشماخي صاحب مجلة نبراس المشارقة

والمغاربة، طبعت في العام الماضي، وأهدانا نسخةً منها في هذه الأيام،

فرأينا في فاتحتها، أنه يَرُد فيها على مجلة اسمها الإسلام، يصدرها في بعض

الأحيان رجل اسمه الشيخ أحمد علي الشاذلي وكأن الشيخ قاسمًا ظن أن لهذه

المجلة شأنًا، أو لما تكتبه وقعًا، فعني بالرد عليها وما هي مما يرد عليه،

ولو عرف حقيقتها، لما بذل شيئًا من الزمن في قراءتها بله الرد عليها، وقد

ألقيت إلينا مرة نسخة منها. قيل لنا: إن فيها ردًّا علينا، فلم يحركنا ذلك إلى

تناولها، حرصًا على الوقت أن يضيع في قراءة شيء منها.

وقد وقع نظري في هذه الفاتحة على اسم المنار، فقرأت أسطراً من الكلام

الذي ذكر فيه، فإذا هو حكاية عن رجل هندي، أنكر على المنار إنكار التقليد،

والدعوة إلى معرفة الدين بالدليل. عرفت ذلك الهندي، وما هو بهندي، إن

هو إلا رجل مصري، كان يبيع الكتب في أسواق مصر وشوارعها، وملاهيها -

كما قيل لي- ثم طوحت به الطوائح إلى كلكته، وهناك عين إمامًا في مسجد، وما

هو ممن يحفل بقوله ولا باعتراضه، فعسى أن يسامحني الشماخي إذا لم أجبه إلى

قراءة ما كتبه في هذه الرسالة، وقد علمت أنه دافع عني، فأنا أشكر له ذلك،

وأسأل الله لي وله التوفيق.

***

(فتاة مصر)

قصة وضعها الدكتور يعقوب أفندي صروف، وجعلها ذيلاً للمقتطف في

مجلد سنة 1905، وهي قصة لا كالقصص، فإن أكثر القصص لغو وما عساه

يوجد فيها من الفائدة، فهو كما قيل في الخروب: درهم عسل في قنطار خشب،

وأما هذه القصة فكثيرة الفوائد، وترجع فوائدها إلى شيئين عظيمين: أحدهما

مالي، والآخر أدبي اجتماعي.

أما الأول: ففيه بيان مكانة المال في هذا العصر، وقوة رجاله وما لهم من السلطان في عالم السياسة، حتى صور الكاتب أن الحرب اليابانية الروسية،

ما أشعل نارها إلا رجال المال في أوروبا وفيه بيان تلاعب رجال بيوت المال

المعروفة (بالبورص) بالأغنياء، وابتزاز أموالهم بالمكايد، وفي ذلك عبرة

لأغنياء مصر المفتونين بالبورصة والقمارا، إن كانوا يعتبرون.

وأما الثاني: ففيه تصوير لمعاشرة الوجهاء: من المسلمين، والنصارى،

واليهود، بعضهم لبعض، ورغبة بعضهم في مصاهرة بعض. وجعل من رجال

القصة شيخًا عبر عنه بالشيخ أحمد والإمام أحمد كان يرجع إليه في المسائل التي

لها علاقة بالإسلام فيتكلم بالحكمة، وما يليق بالإسلام من حب الألفة والسلام، وقد

انتقد الناس من القصة بعض ما جاء في موضوع ألفة الطوائف، ورغبة بعضها في

مصاهرة بعض، زاعمًا أن فيه تمثيلاً لا ينطبق على الحقيقة، فإن صح هذا صحَّ

أن يجاب عنه بأن القصص النافعة قسمان: قسم يصور الواقع لمعرفة التاريخ.

وقسم يصور مع الواقع ما ينبغي أن يكون، كأنه كائن واقع، ترغيبًا فيه، أو إيلافًا

له، وتقريبًا منه.

وجملة القول: إن القصة مفيدة، وقد طبعها على حدتها إسحاق أفندي

صروف أحد محرري المقطم، وهي تطلب منه، وثمنها عشرة قروش.

***

(مرآت علوم)

مجلة تركية، تبحث في العلوم والفنون وشؤون الاجتماع، أنشأها فئة من

الكتاب الفضلاء، وعهدوا بإدارتها إلى أحدهم رفيق بك العظم الشهير،

والغرض الأول منها: إسعاد مسلمي روسيا في نهضتهم العلمية الجديدة،

فنحث قراء اللغة التركية العذبة في كل مكان على الاشتراك في هذه المجلة؛

وقيمته أربعون قرشًا في السنة، وهي قليلة جدًّا لا تفي بنفقات المجلة إلا إذا

كثر المشتركون كثرة عظيمة، وأحسنوا الأداء.

***

(سلام الإسلام)

رسالة للشيخ محمد نسيم العازار كتبها؛ لبيان ما تنويه دول أوروبا

وتحاوله من ابتلاع بلاد المسلمين وطريق تلافيه. أما الكاتب فهو من بيت

العازار من (أميون) بلدة أو قرية في الكورة من أعمال جبل لبنان، وهو بيت

معروف بالوجاهة، يدين بمذهب الأرثوذكس من مذاهب النصرانية، وقد دخل

الكاتب في الإسلام من عهد قريب دخولاً رسميًّا في محاكم مصر الشرعية،

وهو شاعر ناثر. فرأى أن يكون أول ما يخطه بعد الدخول في الإسلام،

إنهاض همة المسلمين بالنثر والنظم وبيان رأيه السياسي في أمرهم. وأما هذا

الرأي فهو ما قاله في رسالة (سلام الإسلام) بعد التمهيد له وهو (كما في ص

9، 10، 11 منها) :

(إن ما يجب عمله بسيط جدًّا، ولكنه في بساطته يضمن للإسلام عمومًا

القاطنين في أنحاء الأرض جميعها، والمستظلين تحت ظلال أعلام دولهم،

وألوية الدول الأجنبية راحتهم وسعادتهم، وذلك العمل هو:

أن يشكل الإسلام مجلسًا نيابيًّا، يؤلف من كافة المقاطعات الإسلامية

وغير الإسلامية، فينتخب له رجال سياسيون، قد خبروا الدهر فحنكهم، وعلماء

عاملون، لا توجلهم شدة، ولا تقعدهم معضلة، ولا تبيعهم غاية، وتجعل إقامة

هذا المجلس في مدينة، تطلق يديه لأعماله الجليلة، وتقرب المواصلات بينه

وبين أهل تلك المقاطعات النائب عنها، والمشكل من رجالها للذود عن مصالحهم

وحقوقهم، إبان الضرورة وفي كل حين ومكان.

أما فضائل هذا المجلس وأعماله فكثيرة وعظيمة الفائدة، وبما أن المقام لا

يسمح باستيعابها كلها، فأقتصر على ذكر الأخص منها الذي يبين الغاية

المقصودة من تشكيله، والنتيجة المطلوبة التي يؤتيها وبذلك كفاية لأولي

البصائر، الذين لا أخالهم يتقاعدون عن الاهتمام بتأليفه في أقرب وقت

ممكن؛ لكيلا تفوت الغاية منه، والفرصة السانحة له.

أولاً: إن تشكيل هذا المجلس من تلك الأجناس المختلفة، يجعل جامعة

حقيقية للأمم الإسلامية المرتبطة بالدين؛ ارتباط الأجسام بالأعصاب والشرايين.

ثانيًا: يجعل لتلك الأمم المتباعدة بالوطنية رابطة سياسية، تجمع أوطانهم

إلى وطن واحد، ومصالحهم المتباينة إلى مصلحة واحدة هي: الدفاع بالاشتراك

والتعاون عن راحة الإسلام، وسلامة كيانهم بين الأمم الحية الراقية.

ثالثًا: يحسن أخلاق الأفراد ومشاربهم، فيقوي الصالح فيهم، وينفي

الفاسد منهم، ويجلب النافع لهم، وبالجملة فإنه يجعلهم أمة عصر النشاط والقوة

والكمال.

رابعًا: يسهل سبل الرقي الأدبي والمادي بأنواعهما، ويمهد طرق

الإصلاح في الممالك الإسلامية المفتقرة للإصلاح الذي يرفع شأنها بين العالم،

ويؤيد كيانها أبدًا.

خامسًا: يدافع عن حقوق الأمم الخاضعة للدول الأجنبية أمام مجالسها العالية

في عواصم ممالكها إذا ما اهتضمت تلك الحقوق في مستعمرة من المستعمرات،

أو لحق بتلك الأمم شيء من الاستبداد فيها الذي لا تخلو منه مملكة من

الممالك المختلفة الأجناس والمذاهب.

سادسًا: يمهد سبيل انضمام الممالك الإسلامية المستقلة إلى بعضها،

واستظلالها في ظل أكبر مملكة بينها (ولا شك في أن أكبرها الدولة العثمانية

المشيدة الأركان) ، كما انضمت إلى بعضها الممالك الجرمانية والولايات

الأميركية وكثير غيرهما، وإذا كان ثم مانع لانضمامها فلا أقل من أن يؤلف

بينها، ويجمع كلمتها المتفرقة فتتضامن وتتكاتف على العمل معًا، وواحدة من

هاتين الحالتين كافية لجعل هذه الدول الضعيفة بإزاء الدول الأوروبية دولة

واحدة، عظيمة السلطان، منيعة الجانب، تقتسم السراء، وتشترك مع بعضها

في الضراء.

(المنار)

هذا الرأي ليس بدعًا من الآراء كما يحسب الكاتب، بل هو مسبوق

بتصوير أقرب إلى الحصول، ودعوة أجذب للقلوب وأخلب للعقول، واحتراس

يحول دون مناهضة الأعداء، وتؤمن معه مغاضبة الأودَّاء، وما صادف شيء

من ذلك استعدادًا، وما كان إلا هداية لبعض العقلاء ورشادًا، وإن أبعد

المسلمين عن قبول دعوة الاتحاد ملوكهم وأمراؤهم المفتونون بالاستبداد، فما

قال: إنه (بسيط جدًّا) هو مركب تركيبًا لا سبيل إلى تحليله، ولا استعداد

فيمن دعوا إليه لقبوله، وإن الأمل في إصلاح أكبر هؤلاء المستبدين لدولته،

وترقيته لشعبه ورعيته، قد أصبح من الأحلام والأماني، أو من قبيل العنقاء

والخل الوفي، فكيف نرجو من هؤلاء المخربين، عناية بإقامة بناء المسلمين.

إلا أنه لا سلامة للمسلمين من البلاء المؤصد، والعدو الواقف لهم في كل

مرصد، إلا في تربية الأمة الملية، وجمعها بين العلوم الكونية والروحية،

وأمانة التقليد وإحياء اللغة العربية، ثم اتفاق شعوبهم في كل قطر مع سائر

الشعوب، على حفظ الموجود واسترجاع المسلوب، وإلزام حكوماتهم بقوة

الاتحاد، على استبدال العدل بالاستبداد، مع إلقاء الطاعة إليها، وتأمينها من

تفضيل غيرها عليها، فإن هذا شرط لإمكان العمل الواجب، لا سيما في

الشعوب التي تحت سلطة الأجانب.

***

(كتاب السجل المصري)

يؤلف علي أفندي يوسف الكريدلي كتابًا بهذا الاسم، قال في وصفه: كتاب

دوري يصدر في منتصف كل شهر أفرنجي مشتملاً على كل ما حدث

في الشهر السابق، من الحوادث، والوقائع، وأعمال الحكومة من أوامر عالية،

ومنشورات، ولوائح، وتنقلات ورتب ونياشين ووفيات ومواليد، وأفراح

إلخ.

وقد صدر الجزء الأول من السنة الأولى وهو لشهر يناير، فكان هذا

الكتاب ملخص لأخبار الجرائد اليومية رسمية وغير رسمية، يغني عن حفظها

لأجل ما فيها من أخبار التاريخ، وقد بلغت صفحات هذا الجزء 184 صفحة

صغيرة، فإذا ضربناها في 12 كان الحاصل 2408، وذلك تاريخ لأخبار السنة

(جامع للذرة، وأذن الجرة) ، وقيمة الاشتراك فيه إلى سنة كاملة 60 قرشا،

وثمن كل جزء منه خمسة قروش على نسبة الاشتراك.

***

(الإحياء)

مجلة ذات ثمان صفحات أنشئت بالجزائر في غرة هذا العام (1325)

وهي تصدر في الشهر العربي مرتين، قيمة الاشتراك فيها أربعة فرنكات في

قطري الجزائر وتونس وفي جميع بلاد فرنسا وخمسة فرنكات في سائر

الممالك وقد كتب عليها (مجلة إسلامية أدبية إخبارية) ، ولكن لم يكتب عليها

اسم منشئها، ولا مديرها، ولا محررها، والعبرة عند المحققين بالقول لا بالقائل،

وإننا قد سررنا بهذه المجلة، ونسأل الله - تعالى - أن يجعلها نافعة للمسلمين،

وحجة على الذين يعتقدون في هذه البلاد وغيرها أن حكومة الجزائر تضرب بين

مسلمي الجزائر وبين العلم والدين حجبًا لا تخرق؛ إذ لا حجة أقوى من العمل

المشهود، والأمر الموجود، كما نبهنا على ذلك فيما مضى. وإننا نعتقد أنه لا

سبيل إلى التآلف بين فرنسا وبين المسلمين إلا هذه السبيل، فعسى الله أن يوفق

بين الحكام والمحكومين لهم بما فيه الخير، والمصلحة للإنسانية.

***

(شوراي عثماني)

جريدة سياسية أصدرتها في القاهرة جمعية الشورى العثمانية، التي

تكلمنا عنها في آخر المجلد التاسع؛ لتكون لسانها الناطق بدعوتها، ولذلك جعلتها

بأشهراللغات التي يعرفها قراء العثمانيين: وهي التركية والعربية في الأكثروالفرنسية

والأرمنية والرومية أحيانًا؛ أي: إن كل عدد منها يكتب بعدة لغات وقيمة الاشتراك

فيها عشرة فرنكات أو أربعون قرشًا مصريًّا، وقد رأيناها أقرب إلى الاعتدال من

سائر ما رأينا من جرائد أحرار الترك، وطلاب الإصلاح ونرجو أن تلتزم الاعتدال

دائماً؛ لأنه أقوى تأثيرًا وأكثر نصيرًا، هذا وإن الاشتراك في هذه الجريدة والسعي

في نشرها، يعد خدمة للدولة العلية، وللأمة العثمانية، لا لشخص معين؛ لأن ما

يأتي من الجريدة ينفق على الجمعية، وجميع أعضاء الجمعية ومحرري الجريدة

يبذلون المال مع الوقت في هذه السبيل.

***

(جريدة الأخبار)

كان الشيخ يوسف الخازن أنشأ منذ بضع سنين جريدة سياسية سماها

(الأخبار) ، نشرت زمنًا، وطويت زمنًا، وقد عاد صاحبها إلى نشرها في هذه

الأيام، فسر بذلك العارفون بمكانة الخازن في هذا العمل، واستعداده الغريزي الذي

ارتقت به التجارب؛ وحرية قلمه في التعبير عن رأيه، وقد اختار أن ينشرها في

الصباح، فنتمنى له أحسن الفوز والنجاح.

***

(الجريدة)

كنا ذكرنا في الجزء السادس من المجلد التاسع (ص 477) خبر تأسيس

شركة من وجهاء القطر؛ لإنشاء جريدة يومية، وأنهم اختاروا أن يسموها

(الجريدة) ، وأن بعض أصحاب الصحف أرجفوا بهذه الجريدة، وأساؤوا الظن

بها من حيث نحسنه، ويسرنا أن ننوه بصدورها في أول جزء من هذه السنة،

مصدقة لظننا، مكذبة لظنون المرجفين، يسرنا أن نذكر في جزء واحد خبر

ظهور مشروعين عظيمين، كان شيخنا الأستاذ الإمام روَّح الله روحه متوجهًا

إلى القيام بهما في آخر حياته، وقد علم القارئ أنهما مدرسة القضاة الشرعيين

وهذه (الجريدة) .

صدر العدد الأول منها في 24 المحرم (19 مارث) ، والشمس مقبلة

على برج الحمل، والأرض تستقبل الربيع الذي هو خير الفصول وأبهجها،

فكان ذلك فألاً بأن (الجريدة) ستكون عنوان حياة أدبية بهيجة، كما تتجدد

نشأة الحياة لكل حي في هذا الفصل البهيج. وقد اتفق اجتماع شهر المحرم

بشهر مارث لأول مرة من تاريخ الهجرة الشريفة في عام 13، وفيه أمر أبو

بكر بعد استشارة الصحابة - عليهم الرضوان - بجمع القرآن في مصحف واحد

وفي ذلك ما فيه من الحياة الدينية والدنيوية فهذا فأل آخر روحاني، أحسن من

ذلك الفأل الطبيعي. وإن شئت أن أزيدك فكاهة تاريخية أخرى، أذكرك بأن

عمرو بن العاص بنى مسجده وهو أول مسجد أسس في مصر في 23 المحرم،

وهو اليوم الذي وضعت فيه الجريدة في المطبعة، وإن صدرت في اليوم

الثاني.

افتتح العدد الأول من الجريدة بفاتحة بليغة لمديرها أحمد لطفي بك السيد

قال فيها:

ولقد اختلف القوم في أمر الجريدة منذ وضع مشروعها، وقدر بعضهم

لها مذهبًا ما لهم به من علم إلا اتباع الظن {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ

لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} (الحجرات: 5) ، وأجدر بحفظ الكرامة لكبراء رجال وطنهم،

وأدنى إلى عدم الفت في أعضاد الجامعة الوطنية، ولكنهم لا يصبرون.

ولو وقف الأمر عند غير العالمين لهان، ولكن بعض الكتاب أبى إلا أن

ينتقص الجريدة قبل ظهورها، فخلق لها نسبًا لا نعرفه؛ إذ يقول: إنها أنشئت

بوحي من جناب اللورد كرومر، أو أنها متحيزة إلى طرف دون آخر، على

أنها من كل ذلك براء.

ومهما يكن من الأمر، فإنا نمر بتلك المغامز مرًّا؛ إذ لا نقصد درء شبهة

ولا أن نقف بأحد موقفًا أظهرنا فيه على صاحبه، أخسرنا لوقته. وكل في

حل مما قال: هنيئًا مريئًا غير داء مخامر.

ثم ذكر اختلاف الناس في الرأي بطبعهم، ومكان الصحف من التذكير،

بما يكوِّن الرأي العام في البلاد الحديثة العهد بالرقي، ثم حاجة الصحف إلى

الرقابة عليها من الجماعة، وكون أولى الجماعة بذلك الشرفاء بالفضل، أو

علو النسب، كمؤسسي الجريدة ثم قال في هؤلاء المؤسسين:

ولما أنهم كثيرو العلاقات بالحكومة؛ بسبب مراكزهم واشتراكهم معها في

كثير من الأعمال العامة، وأن أمثالهم لا يجتمعون لعمل ذي أثر سياسي، إلا

أحاطت به الشكوك، رأوا أن يكاشفوا الحكومة في أمر المشروع؛ دفعًا لتلك

الشكوك المحتملة، وأخذًا بأقوم الطرق إلى نيل ما عساهم يطلبونه من تقويم

معوج أو إصلاح خطأ؛ لأن الحكومة قد تجيب الطلب مما يهون عليها، إذا

أقنعت بأنه لمصلحة الأمة.

وإن أسهل سبل الإقناع وآكدها في الوصول إلى الغرض: هو سبيل

المحاسنة التي لا تجَّر إلى ترك حق، أو تزيين باطل، وهي أجلى مظاهر

الاعتدال الذي يجب أن يكون دعامة العلاقات بين أمة وحكومة كلتاها في طور

التكون؛ لئلا يقع بينهما من الجفاء ما يحجب الحكومة من الوقوف على مواطن

المصلحة، وآمال الأمة، ويحجب الأمة عن الاطلاع على مقاصد الحكومة،

فتعطل بذلك أسباب الرقي التي يتوقف جلها على اشتراط الطرفين.

والجريدة أحسن الجرائد اليومية ورقًا وطبعًا، وألطفها شكلاً؛ لأنها وسط بين

كبراها وصغراها. وإن عبر بعضهم عنها بلفظ الصغر أو الأصغر وليست الكبرى

بأكثر منها مادة؛ لأن الجريدة ليس فيها الآن إعلانات، ثم إن اشتراكها أقل من

اشتراك صغراها وهو 120 قرشًا في السنة - لأهل القطر المصري،

و150 قرشًا لسائر الأقطار.

***

(جريدة العجائب)

أتمت هذه الجريدة سنتها الخامسة، ودخلت في السادسة، ويدل انتظامها

على أنها من الجرائد الحية الثابتة، فنتمنى لها طول البقاء، مع التوفيق لما يفيد

القراء.

_________

(1)

المبير: المهلك.

(2)

الحفير: القبر.

(3)

المزير: الشديد القلب والقوي النافذ.

(4)

أعتاد الحرب: أدواتها وعدتها.

(5)

المعاقل: الحصون ، وتمور: تهتز وتميل إلى السقوط.

(6)

يغذ: يسرع في السير.

(7)

القزم: الزمير القميء الصغير الجثة الذي لا غناء عنده.

(8)

الصياصي: جمع صيصية وهي مرتفعات الأرض والمشارق التي يمتنع بها.

ص: 61

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(علماء تونس ومصر وجامع الزيتونة والأزهر)

كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- يقول: إن مسلمي تونس سبقونا (يعني

أهل الأزهر) إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة

خيرًا مما عليه أهل الأزهر. ولما عاد من سفره الأخير إلى تونس، كتب مذكرات

عن حال التعليم فيها، وجاء ببعض الأوراق الرسمية في ذلك، وقال لي غير مرة:

إنني سأعطيك ما عندي في ذلك؛ لأجل أن تضم إليه رأيي وما تراه، وتنشره

بالمنار في مقال يكتب في المقابلة بين جامع الزيتونة والجامع الأزهر. وكنا نرى

أن هذا مما يجب في شرعة الإصلاح على التراخي؛ ولكن أَجَل المصلح لم يكن

على التراخي، بل عاجله الأجل قبل أن يفرغ من الأهم إلى هذا المهم.

* * *

(وزراء تونس من العلماء)

ذكرنا بهذا ما رأيناه في الجرائد التونسية الأخيرة من خبر وفاة الوزير الأكبر

وجعل وزير القلم والاستشارة خلفًا له، وجعل رئيس محكمتي الاستئناف من قبل

خلفًا لهذا. فالوزير المتوفى كان نابغًا في العلوم العربية والدينية؛ إذ تلقاها في

جامع الزيتونة. حتى قيل: إنه يعد من طبقة أهل الترجيح في الفقه، وكذلك وزير

القلم الجديد وهو الشيخ يوسف جعيط فهو من أشهر المتخرجين في ذلك الجامع، وقد

درس فيه ثم اشتغل بالسياسة، وتقلب في المناصب حتى صار اليوم وزير القلم

والاستشارة، فهذان الوزيران قد دخلا باب السياسة، وهما شيخان زيتونيان بكل

معنى الكلمة كما يقول الغربيون، حتى ارتقيا إلى منصة الوزارة. فهل يخطر في

بال أحد من مدرسي الأزهر، أن يستعد لمثل ذلك حتى يكون أهلاً للوزارة، أو لما

دونها من أعمال الحكومة؟ كلا إن أحدًا منهم لا يفكر في مثل هذا الاستعداد، ولو

فعله أحد منهم لكان خيرًا لهم، وأشد تثبيتًا في العلم والدين، فإن لم يولوا من تلك

الأعمال شيئًا؛ لأن نظام الحكومة المصرية لا يسمح بذلك، فربما كانوا أنفع لأمتهم

مع البعد عن الحكومة منهم، وهم لها عاملون.

ههنا يخطر في البال أن سعد باشا زغلول ناظر المعارف العمومية بمصر

كان أزهريًّا، وقد ارتقى في الحكومة إلى أعلى مرتبة في القضاء، ومنها إلى

الوزارة، ونرى الأزهريين يفاخرون به لا سيما بعد أن رأوا الأمة مبتهجة،

والجرائد متفقة على الثناء عليه عندما ولي الوزارة، والحكومة نفسها تكاد تمن

على الأمة باختياره، ولكن سعد باشا وزير المعارف بمصر، ليس عريقًا في

الأزهرية كعراقة الشيخ يوسف حعيط وزير القلم والاستشارة بتونس بالزيتونية،

فإن الشيخ يوسف تعلم في الزيتونة على الطريقة المألوفة راضيًا بها، حتى

صار مدرسًا، وقرأ المطول فيه درسًا وهو أعلى كتب البلاغة. والأزهريون

يقرؤون مختصره لأهل النهاية، ويمتحنونهم به.

وسعد زغلول صحب الأستاذ الإمام في أول المجاورة، وأدرك السيد

جمال الدين فأخذ عنهما، واعتقد في أول نشأته العلمية أن طريقة الأزهر في

التعليم رديئة، فتبع الحكيمين المصلحين، قبل أن تطبع الطريقة الأزهرية ملكتها

في نفسه، ولم يرض أن يجري عليها إلى منتهى شوطها، ويأخذ شهادة العالمية،

ويصير من المدرسين، بل أخرجه الأستاذ الإمام من الأزهر، عندما ولي هو رياسة

تحرير الجريدة الرسمية، وجعله محررًا معه، ثم كان من أمره ما هو معروف. ومنه

أنه تعلم اللغة الفرنسية وهو قاض، ودرس علم الحقوق بها حتى أدى الامتحان في

فرنسا، وأخذ منها شهادة (الليسانس) ، وهو يَعُدُّ مثل المطول والمختصر من

الكتب، التي تبعد عن البلاغة وتحول دون ملكتها. على أننا لا نقصد الآن إلى بيان

طريقة التعليم في الجامعين والمفاضلة بينهما. وإنما غرضنا من المقابلة والتنظير أمران:

(أحدهما) بيان أن العالم الديني إذا اختبر الأحوال العامة ونظر في طرق

نظام الحكومة التي تتولى أمره، وتناول شيئًا من العلوم الدنيوية يكون أقدر على

خدمة بلاده وأمته، سواء تقلد الأحكام الدنيوية أم لم يتقلدها، وقد كان كثير من

الناس يعتقدون أن الأستاذ لو ترك خدمة الحكومة ومنصب الإفتاء؛ لأمكنه أن

يعمل للأمة الإسلامية عامة، وللشعب المصري خاصة، أضعاف ما كان يعمل وهو

في الحكومة.

(وثانيهما) التنبيه إلى شيء من الفرق بين تونس ومصر، في حال علماء

الدين، ونسبتهم إلى الحكومة. وإليك ما هو أبلغ من ذلك.

* * *

(جمعية طلاب جامع الزيتونة)

ألف بعض النبهاء من جامع الزيتونة جمعية، يعلم غرضهم منها من الخطبة

الآتية وقد ساعدهم على ذلك بعض شيوخهم الفضلاء. وقد اجتمعوا في اليوم الرابع

من هذا الشهر (المحرم) في المدرسة الخلدونية؛ للمذاكرة في قانون الجمعية،

وحضر اجتماعهم هذا كثير من كبار المدرسين، وكانوا قد اختاروا أحد العلماء،

رئيسًا لعملهم في التأسيس ووضع القانون وهو الشيخ الطاهر النيفر، فافتتح الجلسة

بخطاب بليغ في الموضوع.

فقام الشيخ الخضري بن الحسين من العلماء الحاضرين، فشكر له وللتلاميذ

الذين نهضوا بهذا العمل النافع، ثم وزعت الرقاع لانتخاب رئيس وأعضاء

للجمعية، فأجمعت الآراء على اختيار الشيخ محمد رضوان للرياسة، وهو من العلماء

الفضلاء أصحاب الرأي والروية، كما يؤخذ من بعض الجرائد التونسية، وفيها أنه

متقن للغة الفرنسية، ولما يرتق طلاب الأزهر إلى مثل هذا العمل.

ورأينا في جريدة (لسان الأمة) التي صدرت حديثًا في تونس صورة

خطبة للشيخ محمد النخلي من كبار العلماء المشهورين، كان أعدها ليلقيها في هذا

الاجتماع، فحال دون ذلك مانع من الحضور، فأحببنا أن ننشر هذه الخطبة برمتها

لما لنا من الحرص على معرفة آراء علماء الدين في الأمور الاجتماعية، ولما فيها

من بيان حقيقة الجمعية، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) .

أيها السادة العلماء، والأفاضل الأعيان:

يحسن في هذا المقام أن أصدر هذا الخطاب الوجيز بكلمات حكمية، سارت

سير الأمثال: ليس أحد بأقل من أن يعين، ولا بأكبر من أن يعان. لا تكال الرجال

بالقفزان، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه لا بقميصه وطيلسانه.

ليس الحداثة في سن بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

وهي أمثال إذا تأملنا معانيها، وتدبرنا مغازيها، أكسبتنا حسن الظن، وكامل

الثقة بالمشروع، الذي هيأه لنا أبناؤكم بجامع الزيتونة، وقضت علينا أن نمد لهم يد

المشاركة والمساعدة؛ لإحداث مشروع، افتكره هؤلاء التلامذة؟ ولزمنا بمقتضى

قاعدة الإنصاف، التي هي أخص حلاكم التي تحليتم بها، أن نطهر ضمائرنا من

احتقار الأفكار، وأن نلاحظ المصالح بقطع النظر عن مصدرها، بعين ملؤها

التوقير والاعتبار، هذا وإن نخبة من ناشئة تلامذة الجامع الأعظم دار العلوم

الشرعية أدام الله عمرانه، وشيد بحسن عنايتكم أركانه، انبعث فيهم شعور شريف،

نهض بعزائمهم إلى الشروع في تأسيس جمعية تحت اسم (جمعية تلامذة جامع

الزيتونة) ، واقترحوا على العبد العاجز: أن ألقي خطابًا في الموضوع ونتائجه

وألحوا، وقالوا: إن المؤمن أخو المؤمن. وحقًّا ما قالوا.

أيها السادة: لا أقصد بهذا الخطاب أن أعلمكم ما تجهلون، أو أفيدكم ما أنتم

عنه غافلون، وإنما هو ذكرى لكم ببعض ما تعلمون، والذكرى تنفع المؤمنين،

وتؤكد يقين المستيقنين.

ليست ألسنة التقليد للغير هي التي تأمرنا بلم شعثنا، ومد يد الإعانة لبعضنا،

وإقامة التعارف مقام التناكر، والتواصل مكان التفاصل، حتى نحيي رابطة العلم أو

نمي هذا الشعور،، بل لسان الدين الحنيف الذي نزاول علومه آناء الليل وأطراف

النهار في هذه المدرسة الزاهرة هو الذي يأمرنا بذلك في عمومه وخصوصه،

وتصريحه وتلويحه، لمن سبر أغواره، واستقرأ آثاره، كيف ولا يعزب عنكم ذلك

وأنتم علماء الدين وحملة الشريعة المطهرة.

ألم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مجالس يحضرها أصحابه الكرام؟

وكانت تلك المجالس مجالس هدي وإرشاد، وتعميم نفع للعباد، وكانت أحيانًا مهبط

الوحي، فيها يتلقون تعاليم الدين، وعنها يصدرون فائزين، وكذلك خلفاؤه

الراشدون من بعده، وأذكركم بنادي عمر بن الخطاب فإنه كان غاصًّا بالشيوخ،

والكهول، والشبان. وكان يقول: لا يمنع أحدكم حداثة السن أن يبدي رأيه. في

هذه النوادي يتعارفون، ويتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، ويتعاونون على

البر والتقوى.

أما إذا أردنا أن نثبت ما للجمعيات من الفوائد العامة والخاصة بلسان التاريخ

فإن البحث في هذا الموضوع، يستدعي حشد مجلدات عما تأسس في العالم المتمدن

من الجمعيات، وما كان لها من النتائج على اختلاف الأحزاب والمقاصد، حتى

بالحاضرة التونسية. نحن - وإن كنا يجمعنا الجامع - متفرقون، وإن وجد بيننا

رحم علم - فنحن والحق يقال - متقاطعون، ولا أكلكم إلا للمشاهدة، وربما كانت

المشاهدة تفصح لكم عن الحالة الحاضرة أكثر مما أفصح لكم عنه هذا اليراع الكليل.

هل عملنا بالآية التي توجنا بها هذا الخطاب؟ هل عملنا بقوله تعالى: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) هل عملنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا

تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا) هل عملنا بقوله صلى الله

عليه وسلم: (ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟

أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلَفُون) ونحن أبناء العلم

الديني أحق بالعمل، هل نحن أبناء العلم نألف ونؤلف، وهو من صفات الأحبين

الأقربين؟ أظن أن المجافاة بلغت بيننا النهاية، والمنافرة من غير سبب شرعي

رمتنا إلى أبعد غاية.

فهلم بنا إلى العمل بديننا القويم. وأن يصافح أحدنا الآخر مصافحة الودود

المخلص الكريم، كما جاء ذلك في حديث صاحب الخلق العظيم.

عزم إخواننا في الدين، وأبناؤكم في تلقي علومه على إحداث هذه الجمعية

المباركة، ودعوكم للانتخاب والمشاركة في العمل. الغرض من هذه الجمعية:

أولاً - إيجاد روابط الألفة والوداد بين كل من أنبتته هذه المدرسة الإسلامية.

ثانيًا - تمكينهم من وسائل التعاون بينهم، على ما فيه مصلحتهم العامة

والخاصة.

ثالثًا - إسعاف فقراء التلامذة، وصونهم من معيشة الابتذال التي يعيشونها

اليوم بفضل الإهمال والغفلة.

وأنتم تعلمون أن قسمًا عظيمًا من تلامذة جامع الزيتونة، كادوا يتكففون،

وأنهم لا يجدون القوت الضروري إلا بطرق ممتهنة، لا ترضاها معزة العلم بل

والكرامة الإنسانية، وإن قسمًا مهمًّا منهم يسكن حيث مرابط الحيوانات المعدة لذلك؛

لأن عدد المدارس التونسية - لتكاثر التلامذة - صار غير كاف لإيوائهم أجمعين،

وسيكون هذا الموضوع أهم المواضيع التي تداول الجمعية البحث فيها، وتطرق

أبواب المساعدة من همم الرجال لنوالها.

هذا أنموذج من مقاصد هذه الجمعية، وهي - وايم الله- مقاصد سامية محتاجة

إلى همم الرجال وبذل المال؛ لأنه قوام الأعمال، فمن ساعد فقد امتثل لأوامر إنفاق

المال في سبيل الله، واستحق رضاء الله وثناء الناس.

الناس خصوصًا الجمعيات الأخر يَزِنُون هممنا، ويقدرون عزائمنا، بما يكون

من نتيجة هذا المشروع، وما يحبطه من الفشل والخيبة - لا قدر الله - وهم

ينتظرون ما يكون في مشروع هيأه أمثالكم، فهل يقارنه النشاط فالعمل فالنجاح، أو

يقذفه اليأس في مهواة السقوط؟ فإن كانت الأخرى - لا قدر الله - حققتم ما خامر

بعض الأفكار، من أن حملة العلم الديني جهال بالحياة الاجتماعية، بعداء بمراحل

عن تأسيس المشروعات الخيرية - لا قدر الله وأستغفر الله -.

أنتم أكثر من كل جمعية بتونس وأوفر عددًا، فهل أنتم أقوى عددًا، وأعلى

همة، وأقوى استعدادا، وأسمى مدارك ونظرًا للمصالح؟

منكم أهل المجلس العلي الشرعي - أيده الله - ومنكم مدرسو جامع الزيتونة

الأعلام، ومنكم قضاة الإيالة ومفاتيها، ومنكم مدرسوها، وكثير من عدولها، ومنكم

كثير من متوظفي الوزارة، وجمعية الأوقاف، وإدارة المال، فلن تفشلوا من قلة

متى كان هؤلاء الجماهير مساعدين على تحسين حال إخوانهم التلامذة متظارفين

والأمل وطيد في بقية إخوانكم التونسيين، ولا ينقصنا إلا الاجتماع والتعاضد،

والسعي والعمل، وهي نتائج الهمم السامية، والغيرة المتوقدة، والإنسانية الكاملة،

وأنتم أحق بها وأهلها، ونعوذ بالله أن يصدق علينا قول الشاعر:

ما أكثر الناس، لا بل ما أقلهم

والله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على كثير، ولكن لا أرى أحدا

ونرجو الله الذي لا يخيب الآمال، ولا يمنع من قرع بيد السعي أبواب

الاستكمال، أن تكون جمعيتكم مصداقًا لقول الشاعر:

ولله قوم، كلما جئت زائرًا

وجدت قلوبًا كلها ملئت حلما

إذا اجتمعوا، جاؤوا بكل فضيلة

ويزداد بعض القوم من بعضهم علما

(المنار)

نحيي الجمعية الزيتونية المباركة، ونحمد الله أن وجد في علمائنا مثل هذا

الخطيب، وعسى أن يكون لطلاب الأزهر جمعية مثلها.

* * *

(مشيخة الأزهر)

قد علم مما كتبناه في باب التربية والتعليم عن الأزهر وهذه المدرسة،

أن الشيخ حسونة النواوي الشهير عين شيخًا للأزهر بعد إقالة الشيخ عبد الرحمن

الشربيني من المشيخة وإننا نعتقد أنه أمثل كبراء الشيوخ الذين يرشحون لإدارة

الأزهر ولعله لم يتول هذه المشيخة أحد في هذا العصر وكان مرضيًّا عند الأزهريين

وغيرهم إلا الشيخ حسونة في هذه الكرة فنسأل الله تعالى أن يجعل التوفيق رائده

وقائده في إدارة هذا المكان، الذي صار أمره شغلاً شاغلاً للمسلمين في هذا الزمان،

وهنا نصرّح بأننا لا نريد بمدح الشيخ حسونة تعريضًا بغيره ولا نعني بما سبق عن

الأستاذين الكبيرين البشري والشربيني إلا أنهما شديدا المحافظة على القديم وهذا

يوجد في كل أمة وزمن فكلامنا بيان للواقع مع احترام الشيخين.

* * *

(مدرسة القضاة بين الأزهر والمعارف)

قد علم القراء مما كتبنا عن الأزهر وهذه المدرسة أن أهل الأزهر في أمر

مريج من هذه المدرسة، وقد رأينا بعد ذلك في جريدة الحكومة الرسمية صورة

كتاب أرسله ناظر المعارف إلى شيخ الأزهر، وصورة كتاب من شيخ الأزهر إلى

الناظر جوابًا عنه، فرأينا أن ننقلهما في المنار حاذفين كلمات الخطاب الرسمية

وهما:

الكتاب الأول: من ناظر المعارف

تبين لي من المكالمة الأخيرة مع فضيلتكم، أن هناك أوهامًا بشأن لائحة

مدرسة القضاء الشرعي؛ ولذلك أردت أن أكتب لفضيلتكم هذا الخطاب؛ إزالة لتلك

الأوهام.

إن الغرض من هذه المدرسة هو تخريج قضاة متصفين بالأوصاف الحميدة،

جامعين بين المعارف الدينية الصحيحة والمعارف الدنيوية، والقصد من ربطها

بالأزهر ليس هو التداخل في شؤونه بأي وجه من الوجوه، وإنما الغرض منه أن

تستظل هذه المدرسة بظل الأزهر الشريف، وأن يكون للمتخرجين منها بواسطة

انتسابهم إليه منزلة في قلوب العامة والخاصة، حتى لا يجد المتقاضون أمامهم حرجًا

في صدورهم من قضائهم.

إن القصد من الامتيازات التي نصت المادة الثانية على أنها تكون لطلبة هذه

المدرسة إنما هي الامتيازات المعنوية، لا الحقوق في الجرايات والمرتبات، فإن

طلبة هذه المدرسة، لا يكون لهم شيء منها بمقتضى هذه اللائحة بعد التحاقهم

بالمدرسة، وعلى فرض أن يكون لواحد منهم أو أكثر حق في شيء منها؛ بسبب

شرط واقف أو غيره. فإن نظارة المعارف لا دخل لها فيه، وإنما الشأن يرجع فيه

إلى مشيخة الأزهر دون سواها.

إنه لا صحة مطلقًا لما قيل من أن المراد بأصول القوانين الواردة في المادة

الثالثة عشرة هو القانون الروماني، وإنما المراد بها مقدمة القوانين التي تشتمل على:

تعريف القوانين، وكيفية صدورها، ووقت وجوب العمل بها، والحوادث التي

تنطبق هي عليها، وما أشبه ذلك من المبادئ الأولية للقوانين الوضعية، التي لا

يستغني واحد من القضاة الشرعيين وغيرهم عن معرفتها.

إن لسيادتكم السلطة التامة في إبطال تدريس كل علم؛ لم يكن واردًا في

اللائحة المذكورة، وكل درس يكون موضوعه القانون الروماني، ولسيادتكم الرأي

الأعلى في نشر خطابي هذا على الأزهريين، إذا وجدتم في نشره فائدة للحقيقة.

...

...

...

...

... ناظر المعارف

الكتاب الثاني من شيخ الأزهر

وصلني مكتوب سعادتكم بتاريخ 22 محرم سنة 1325، مسفرًا عن حسن

نواياكم فيما جاء بمشروع مدرسة القضاء، مما أنف منه بعض الناظرين، وأزلتم

بما أبنتموه -لله الحمد- الشبه التي كان يظن أنها تحتك بالأزهر احتكاك العادين،

فشكر الله صنيعكم، وأحسن بيانكم، وجزاكم عن الأمة خيرًا. وعهدي وآمال الناس -

ولا سيما الأزهريين - بناظر المعارف أن يكون أول قائم بما يجب عليه، أمام

أمته وأمام أئمة الدين، وأن يسود في وقته كل معهد من معاهد العلم ولا سيما معهد

الأزهر، الذي له اليد البيضاء على الأفاضل من أكابر المسلمين. وفي الختام أسأل

الله -سبحانه- أن يوفقنا وإياكم لصالح العمل. 24 محرم سنة 1325 خادم العلم

والفقراء بالأزهر حسونة النواوي.

***

(الجريدة واللواء)

زعمت جريدة اللواء: أن (الجريدة) ترى المحاسنة المطلقة في مطالبة

الحكومة بمصلحة الأمة، وقامت تعنفها على هذا الإطلاق وتنكره عليها، محتجة بأن

حكومة مصر الآن حكومة أجنبية، تظلم الأمة وتحقرها

والجريدة ما قالت

بمحاسنة مطلقة كما زعم صاحب جريدة اللواء، وإنما قالت بمحاسنة مقيدة بكونها لا

تجرّ إلى ترك حق، أو تزيين باطل. فهل نقول: إن صاحب جريدة اللواء لا يفرق

بين المطلق والمقيد. أم نقول: إنه لا يتحامى أن يسمي المقيد مطلقًا عامدًا متعمدًا؟

وإذا كان الثاني هو الصواب، فهل يظن أن قرَّاء جريدته، لا يفهمون هذا الخطأ

الصريح؛ لأنهم من العوام الجاهلين، أم يعتقد أنه يرضيهم كل ما يقول؛ لأنهم من

المبطلين، أم هو لا يبالي باعتقادهم بخطئه وإن كانوا مصيبين؟

***

(تقريظ واقتراح من عالم شاب يحب الإصلاح)

بسم الله الرحمن الرحيم

هنيئًا لك أيها المنار الأغر، فلقد قضيت تسع سنين، أخرجت فيها الأمة من

الظلمات، وهديتها إلى سبيل الرشاد؛ الذي لا عوج فيه ولا أَمْتَا، وخدمت الملة

الحنيفية بما يخلده لك التاريخ، ويسطره قلم الثناء {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) .

والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها لقد وضح بك السبيل، واهتدت بك أفكار

بعد أن هامت في أودية الأضاليل، جعلت أكبر همتك البحث عما يحيي عظام أمتك

وهي رَمِيم، واعتمدت على مبدع الكائنات، حتى أنتج سعيك {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ

فَهُوَ حَسْبُه} (الطلاق: 3) ، ولقد جاهدت في سبيل الله حتى هزمت أعداءه،

ونصرت أولياءه، وهل {يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ

وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 95) أفلم تدفع من الشبه عن الإسلام؛ ما قد

يدع اللبيب في حيرة ما له منها من محيص، فشكرًا لك بعد شكر، وثناءً بعد ثناء،

على مديرك الرجل الوحيد الذي نصبك لتهدي الساري في الليل البهيم، ويرشده إلى

الصراط المستقيم، ورضي عن والده الذي استنار به فكره، وانشرح لتلقي المبادي

الشريفة صدره.

ولك الهناء بالعام الجديد الذي سترينا فيه - إن شاء الله - ما يذهلنا عن الماضي

ونود لو يحليك حضرة مديرك بشيء من التاريخ مما فيه عظة وعبرة، ويضمنك

بنبذ مما وعد به؛ من تخطيط فصل لمقاومة تيار البدع، والخرافات، والتقاليد،

والعادات، فإن آخر ما رأيناه في هذا الموضوع ما نشر في الجزء الثاني من المجلد

(التاسع) .

ولسنا نرجو لك من الله إلا أن يطيل عمرك، ويتم نعمته عليك - وهذا دعاء

للبَرية شامل -.

***

(المنار)

نشرنا هذا؛ لاعتقادنا بأن كاتبه عبر عن شعوره وفكره في حب الإصلاح،

وإن نشره مما يزيد في هذا الشعور قوة، والفكر رسوخًا، ولما فيه من الاقتراح،

فأما اقتراح التاريخ فقد اقترحه آخرون بالقول، ولعلنا بعد إتمام تاريخ الأستاذ الإمام

نكتب في تاريخ الإسلام، وأما باب البدع والخرافات فسنعود إليه كرة بعد أخرى.

***

(تاريخ الأستاذ الإمام)

قد تم طبع جزء التأبين والرثاء من تاريخ الأستاذ الإمام، وهو الذي كتبنا في

المجلد الثامن من المنار (ص640) ، أننا شرعنا في طبعه قبل جزئي الترجمة

والمنشآت، وقلنا فيه: إنه متى تم طبعه، نجعل لكل مشترك في المنار الحق في

أخذ نسخة منه مجانًا، إذا كان قد أدى قيمة الاشتراك تامة. ومعنى قولنا: (له

الحق) أنه إذا طلبه يعطاه لا أنه يرسل إليه. ومعنى تأدية القيمة تامة: أن لا

يكون أداها ناقصة كعمال البريد. إذًا كل من أدى قيمة الاشتراك في المنار في هذه

السنة تامة؛ أي: (60 قرشًا) ، فله الحق بأن يحضر أو يرسل من شاء؛ ليأخذ

نسخة من الجزء الذي تم.

وهذا الجزء كتاب مؤلف من 424 صفحة من كلام أشهر الكتاب والشعراء في

مصر والشام وتونس، وغيرها من الأقطار الغربية والشرقية؛ مع تراجم

أقوال الجرائد الفارسية والتركية والإفرنجية، وكل ذلك في موضوع واحد

وسنعين ثمنه في جزء آخر، ونعلن ذلك في الجرائد.

أما جزء منشآت الإمام، فقد طبع منه نحو الجزء الذي تم وظهر لنا آثار

غير التي كنا نعرفها، وما بقي دون ما طبع، ونحن الآن شارعون في إتمامه وفي

طبع جزء الترجمة.

_________

ص: 71