المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (10)

- ‌المحرم - 1325ه

- ‌فاتحة السنة العاشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌قيمة الاشتراك في السنة العاشرة

- ‌اللائحة الثالثةمن لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية

- ‌تمثيل القصص أو التياترو

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌صفر - 1325ه

- ‌الهوى والهدىأو اللذة والمنفعة [*]

- ‌سنن الاجتماعفي الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم

- ‌إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج

- ‌فتاوى المنار

- ‌التعليم الديني

- ‌كلمة إنصاف واعتراف

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌استقالة اللورد كرومر وتقريره

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌ربيع أول - 1325ه

- ‌تاريخ المصاحف(2)

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق [*]

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌تشبيه كتاب الإحياء بالقرآن

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌إخلاص ابن سعود

- ‌ربيع الآخر - 1325ه

- ‌خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

- ‌أسئلة من بعض أهل العلم بتونس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌المشروبات الروحية وتأثيرها

- ‌آراء الناس في مكاتبتنا مع لورد كرومر

- ‌حادثة دمياطفي طي الأرض، تقبيل أعتاب القبور، صناديق النذور

- ‌جمادى أول - 1325ه

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

- ‌الأشربة الروحية

- ‌أسئلة من الحجاز

- ‌استفتاء عن الكشف الطبي على الميت

- ‌أسئلة من الهند

- ‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌بدعة غريبة في مصر

- ‌جمادى الآخر - 1325ه

- ‌العسر المالي والربا والبنوك

- ‌أسئلة من القاهرة عن الربا

- ‌الجنة والنار

- ‌القسم برب موسى وعيسى وإبراهيم

- ‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

- ‌رجب - 1325ه

- ‌بغداد في القرن السادس

- ‌هلال الصوم والفطر

- ‌سؤالان أو أسئلة من جاوه

- ‌العصبية الجنسية واللواء

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1325ه

- ‌السنوسية والجامعة الإسلامية [*]

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌أبو حامد الغزالي(2)

- ‌أثارة من التاريخ

- ‌نموذج من إنجيل برنابا(2)

- ‌فتاوى المنار

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رمضان - 1325ه

- ‌نموذج من إنجيل برنابا(3)

- ‌بحث في المؤتمر الإسلامي

- ‌النسخ في الشرائع الإلهية

- ‌خطبة إسماعيل بك عاصم المحامي

- ‌أبو حامد الغزالي(3)

- ‌المؤتمر الإسلامي

- ‌رزيئة مصر بحسن باشا عاصم

- ‌الاحتفال بالعقد الأول من عمر المنار

- ‌شوال - 1325ه

- ‌الماديون والإلهيون [

- ‌التدوين في الإسلام

- ‌إصلاح الأزهر

- ‌الأحزاب في مصر

- ‌أوربا والإسلام

- ‌أعمال حسن باشا عاصم

- ‌رزيئة مصر بحسن باشا عبد الرازق

- ‌أقوال الجرائد اليومية في الاحتفال بالمنار

- ‌ذو القعدة - 1325ه

- ‌كتابان سياسيان لحكيم الإسلامالسيد جمال الدين الأفغاني [*]

- ‌كتابان سياسيان للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

- ‌نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية

- ‌حياة اللغة العربية

- ‌أوربا والإسلام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌شيء من سيرة حسن باشا عبد الرزاق

- ‌مصائب الأمة الإسلامية بفقد رجالها

- ‌ذو الحجة - 1325ه

- ‌خطاب الشيخ أحمد الإسكندري في اللغة العربية

- ‌رأي كبار ساسة الغرب في الحركة المدنية الجديدةفي الشرق

- ‌أبو حامد الغزالي(4)

- ‌تعريف وكلام عام في العربية والاستعرابوالتعريب والإعراب [*]

- ‌رأي الشيخ أحمد المنوفي في الإصلاح ورجاله

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌نادي دار العلوم الخديوية

- ‌ترجمة فقيد الإصلاح ذكاء الملك

- ‌فاجعة أدبية

- ‌خاتمة المجلد العاشر

الفصل: ‌شعبان - 1325ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة العاشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم أنبيائه، وعلى

آله وصحبه، وأهل وداده وقربه، وعلى كل عبد مصطفى من جميع الورى، أما

بعد: فإن المنار قد دخل بهذا الجزء في سنته العاشرة، فقطع مرحلة الأعداد المفردة،

ووقف بباب الأعداد المركبة، فكان نموه، وثباته، وتغذيه بما يحفظ عليه حياته،

وقوته على دفع عوارض العلل التي تواثبه، ومقاواته لما يناهضه ويناصبه؛ آيات

بينات على أنه كائن حي، يرجى أن يبلغ منتهى العمر الطبيعي، الذي يكون لمثله

بالاستعداد الموهوب والمكسوب، وتوفيق الله المطلوب، وبإسعاد محبي الإصلاح

الذي يدعو إليه، والحق الذي يناضل دونه، وما إسْعَادهم إلا الدعوة به وإليه،

والنصيحة له، والدفاع عنه، فالدعوة حياة المذاهب في الفلسفة، والسياسات،

والأديان، وكل ما يرتقي به شأن هذا الإنسان، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ

وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .

المنار يدعو جميع المسلمين بكتاب الله إلى سعادة الدارين: بتقويم فطرة الله،

ومعرفة سنن الله، وينهاهم به عن التفرق في الدين، ويأمرهم بالاعتصام بحبله

المتين، فالدين والفطرة صنوان، والشريعة والطبيعة شقيقتان، فمُنزِّل القرآن، هو

مُنْزِل الفرقان والميزان، وواضع الشريعة هو خالق الطبيعة؛ فالقرآن هداية

وعرفان، وعروج بالأرواح إلى الروح والريحان، بالعبودية المؤدية إلى رضا

الرحمن، والانتهاء باضطراب أمواج النزعات البشرية إلى مستقر السكينة

والاطمئنان، {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) .

والفرقان عقل يفرق بين الحق والأباطيل، ويدرك أسرار الخليقة وفقه التنزيل،

فهو المخاطب بإقامة الشريعة، وهو المطالب بالتصرف في الطبيعة، فيأخذ منها

بقدر اجتهاده، على حسب استعداده، والميزان عدل عام، في الأخلاق والأفكار

والأحكام، به ينفذ حكم القرآن والفرقان، حتى يلتئم شمل الإنسان؛ فيعطي كل ذي

حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه، وإن لربه عليه حقًّا، ولنفسه عليه

حقًّا، ولزوجه عليه حقًّا، ولأهله عليه حقًّا، ولقومه عليه حقًّا، ولأمته عليه حقًّا،

ولمجموع الناس عليه حقًّا، فالقرآن يهدي إلى الحقوق ويبين، والفرقان يفرق

بين المتشابهات ويعين، وإنما القسمة بالميزان، وبالثلاثة تكمل فطرة الديان،

فالقرآن كتاب مسطور، وضياء ونور، وبالفرقان نقرأ وندرس، ونجتلي ونقبس،

وبالميزان نعمل بالعلم، ونقوم بالقسط، ومن شذ عن هذه الثلاثة فلم يهتد بالنقل

والعقل، ولم يخضع لسلطان العدل، فقد أنزل الله لعلاجه الحديد، الجامع بين

المنافع والبأس الشديد، فيؤدب بقوة السلاح، حتى يستقيم أمر الإصلاح {وَلَا

تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا

يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} (الإسراء: 33) .

{الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ

يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 1-4) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا

رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ

بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} (الحديد: 25) ؛ فهذا بيان للناس؛ بأن بناء معاشهم،

ومعادهم، يقوم على أربعة أركان: الكتاب، والعقل، والعدل، والقوة، وهي

هي القرآن والفرقان، والميزان، والحديد. وقد هدم التقليد الأربعة الأركان، استبدل

بها قول فلان وفلان، أسماء سماها المقلدون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.

فأما ركن الكتاب فبزعمهم أن فهمه، والاهتداء به خاص بنفر يسمون

المجتهدين، وأنهم انقرضوا وقد عقم الزمان عن مثلهم إلى يوم الدين. وأما ركن

الفرقان فيما أهملوا من الحكمة العقلية والدينية، والعلوم النظرية والعملية. وأما ركن

الميزان فبإباحة الاستبداد لذوي السلطان، وتحتيم طاعتهم، ولو في الإثم والعدوان.

وأما ركن الحديد: فبالإعراض عن الأعمال الصناعية، وما تتوقف عليه من

الفنون الرياضية والطبيعية، فمتى يثبت لشعوبهم ودولهم بنيان، وقد هدموا

جميع هذه الأركان، وفسقوا عن هداية القرآن، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا

مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .

فالمنار يدعو المسلمين إلى إقامة الأركان الأربعة باسم الإسلام، من حيث

يحتجون على هدمها بالإسلام. وإنما إقامتها أن يكون أمر الأمة بأيدي أهل القرآن

العرفاء، وأصحاب الفرقان الحكماء، ومقيمي الميزان في السياسة والقضاء، وحملة

الحديد لمدافعة الأعداء ومنع الاعتداء، وهؤلاء الأصناف هم: أولو الأمر، الذين لم

يجب أن يرد إليهم كل أمر، وهم أهل الإجماع الجديرون بالاتباع، وهم أحل الحل

والعقد الذين ينقضون ويبرمون، ويحلون ويعقدون، وهم أهل الشورى الذين

ينصبون الخلفاء والأمراء، ويضعون الأحكام في السياسة والإدارة والقضاء، وعلى

هذا أراد النبي تربية المؤمنين واتبعه بقدر الاستعداد الخلفاء الراشدون، وبترك هذا

حل ما حل من البلاء بالمسلمين {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ

لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .

بهذه الأركان الأربعة كان الإسلام دين الفطرة، والهادي بسنن الشريعة إلى

كمال سنن الطبيعة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا

تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)

فالمسلم من يقيم دين الله، بإقامة سنن فطرة الله، ومن يجمع بين العلم بما أنزل

الله، والعلم بما خلق الله، ويفقه الاتفاق بين قوله:{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس: 64)، وقوله:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30) ، ومن ذهب إلى

التفريق بين دين الله وفطرته، وزعم أن العلم بكتاب الله لا يتفق مع العلم بخليقته،

فقد جهل الخالق والخليقة، والشريعة والحقيقة، وكان حجابًا دون الإيمان، يصد

عنه أولي العلم والعرفان، فما بال من يزعم أن العلم والدين ضدان، أولئك أعداء

القرآن، وأولياء الشيطان {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً

مُّبِيناً} (النساء: 119){يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} (النساء: 120) .

أيحسب هؤلاء الهائمون في أودية الأوهام؛ أن هذا الشيء الذي يسمونه فقهًا

هو الإسلام؟ أليس أصل هذا الإسلام هو القرآن؟ أليست السنة من قبيل العمل به

والبيان؟ فما بالهم قد حصروا الدين فيما لم يحفل بأكثره الكتاب، ولم يفصل فيه

شيء مما وضعوا له من الفصول أو فتحوا من الأبواب؟ أرأيتك كم سورة أو آية

نزلت في أحكام البيع والإيجار، والكفالة والحوالة والجعالة والإقرار، والمساقاة

والمزارعة، والشفعة والوديعة والرهان، والحجر والصلح والغصب والضمان؟ بل

أين ما أكثرتم من أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس؟ وما أطلتم به من الكلام

على الطهارة والطهارات والأنجاس؟ وما جئتم به في جميع العبادات من الرأي

والقياس؟ هل أنزل الله في ذلك كله عشر معشار ما أنزل من الأمر بالنظر في

المخلوقات، واجتلاء آياته في الأرض والسموات من تصريف الرياح والبحار،

وتفجير الينابيع والأنهار، وإنبات الحدائق والجنات متشابهات وغير متشابهات،

وتسخير الدواب والأنعام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، ونصب الجبال

كالأوتاد، وبناء السبع الشداد، ورفع السماء ووضع الميزان، وجعل الشمس والقمر

بحسبان؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ

عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ

سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا

مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} (الفرقان: 45-49) .

فكيف تحصرون جميع أمور الدين، فيما سكت عنه الكتاب أو أجمله أو فوضه

إلى المستنبطين، وتجعلون ما فصل الإرشاد إليه، وجعل المعوَّل في معرفته تعالى

عليه، هو الذي يأتي بنيانه من القواعد، ويقتلع أصول أحكامه والعقائد، أليس هذا

منتهى التفريط في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء؟ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ

تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ

إِلَاّ كُفُوراً} (الفرقان: 50) .

إذا شغلك الفقه عن آيات الله التي بين يديك، فهل يصح أن يشغلك عن آياته

في نفسك التي بين جنبيك، ألم يرشد القرآن إلى السير في الأرض؛ لاستطلاع

العبر؟ ألم ينبئك بسننه في نظام البشر، ألم يهدك إلى أنه- تعالى -لا يهلك

المصلحين؟ وإن كانوا في العقيدة مشركين، وأنه لا يبقي على الظالمين، وأن

العاقبة للمتقين، فما لك لا تعد من هذا الدين معرفة تواريخ الأمم الغابرة، واختبار

أحوال الأمم الحاضرة، ومعرفة الأقطار والبقاع، والعلم بشؤون الاجتماع، أليس

هذا من إقامة القرآن، واستعمال الفرقان والميزان؟ أليس قد أنزل الثلاثة لترقية

شأن الإنسان؟ فكيف تشغلك أحكام حركات الأبدان، ومعاملات الأقران، عن حكم

الديان، في الأناسي والأكوان؟ {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا

مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً

فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الفرقان: 53-54) .

ألا ليت الذين يجعلون هذا الفقه معظم الدين، عنوا به بعض عناية أهل

القوانين، فطابقوا بينه وبين مصالح الناس، من جميع الشعوب والأجناس، وقربوه

من الأفهام، وأبعدوه عن الأوهام، إذًََََََا لبقي لهم ذكرًا وشرفًا، ولم تجد حكامهم عنه

منصرفًا، وها نحن أولاء، نراهم قد نسخوا أحكامه السياسية والمدنية والجنائية، ولم

يتركوا للمسلمين إلا ما يعتقدون من الأحوال الشخصية، وهل كانت أحكام فقهائهم فيها

مرضية، أم تتألم الحكومة منها، وتتألم الرعية؟ ألا إنهم قد نَفَّرُوا الناس من الفقه

والدين، ولولا الجرايات والعسكرية؛ لأعرض عن ممارسة كتبهم أكثر هؤلاء

الشراذم المقبلين، ولو رجعوا إلى هداية القرآن، وأقاموا الفرقان والميزان، وتركوا

التقليد وأحسنوا الحديد، لولَّوا عن هذه الكتب نفورًا، وأوتوا الحكمة {وَمَن يُؤْتَ

الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) {وَإِذَا

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} (الإِنسان: 20) .

إن بعد رجال الدين عن علوم القرآن والفرقان؛ والميزان والحديد، وجمودهم

على ما أوجبوه على أنفسهم من التقليد، جعلهم بمعزل من الزعامة، وحرمهم مقام

الأسوة والإمامة، فلم يبق لهم شيء من الأمر والنهي، وباتوا لا يقصد إليهم في

الاستشارة والرأي، ولا يستفتون في إدارة المصالح ودرء المفاسد، ولا يعتمد عليهم

في نظام التربية والتعليم في المدارس والمكاتب، فَقلَّتْ بعدم الثقة بهم ثقة الناس

بالدين، وكثر الفسق في الجاهلين والكفر في المتعلمين، انحلت رابطة جامعته

الجنسية، وكادت تنفصم عروة أخوته الروحية، وأنشأت الشعوب تتعصب لجنسيتها

الجاهلية، في الأنساب واللغات، والأوطان والجهات، يتسللون منه لِوَاذًا ويفارقون

الجماعة أفذاذًا، فسهل على الأجانب تخطفهم شعبًا شعبًا، وانتقاص بلادهم قطرًا

قطرًا، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} (الإسراء:

41) .

اللهم قد ثقلت علينا الأوزار، فأحاطت بنا النوائب والأخطار، ولا نكاد نرى

فينا علماء يدعون إلى القرآن، ولا حكماء يرفعون شأننا في علوم الفرقان، ولا

حكام يقيمون القسط بالميزان، ولم نشكر نعمتك بإنزال الحديد، ففاتنا معظم ما فيه

من المنافع والبأس الشديد، بل لم نشكر لك شيئًا مما أنزلت علينا، فأنزلت بسنتك

العادلة ما أنزلت بنا.

اللهم إنك تعلم أن مثار بلائنا، ومنشأ ضعتنا وشقائنا، لا يرجع إلى الأجراء

والزُّراع، وإلى السوقة والصناع، ولا إلى الصعاليك والرعاع، اللهم إنك تعلم أن

مثاره سادتنا المستبدون، وكبراؤنا المترفون، 33: 67 {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا

سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .

اللهم إننا أطعناهم مضطرين أو جاهلين، لا مختارين ولا متعمدين، وقد

أيقظنا بلاؤك من رقدتنا، ونبهتنا سنتك من سِنَتِنا، فأنشأنا نفكر في إقامة ما أنزلت

من البينات والهدى، والشكر لك على ما آتيت من المواهب والقوى، بإرشاد

المقلدين، وإرجاع المستبدين {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ * رَبَّنَا

لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة:

4-

5) {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن

لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} (الإسراء: 80) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

السيد محمد رشيد رضا الحسيني

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان في الدين، حافظتان لجميع

الفرائض، ومرغبتان في جميع الفضائل، وتركهما معصيتان كبيرتان، مسهلتان

للفسوق والعصيان، فالمنار يدعو كل من ينظر فيه، إلى انتقاد ما يرون أنه ينتقد

عليه ويعد المنتقدين بأنه ينشر ما يرسلونه إليه، إذا كان مقرونًا بالدليل والبرهان

ولا برهان في الدين إلا السنة المتبعة والقرآن، ومن يتبدل الغيبة بالنصيحة،

وينصرف عن الهداية إلى الغواية، فيخوض فيما نكتبه مع الخائضين، ويزعم أنه

مخالف لهدي الدين، فهو الذي خالف كتاب الله فترك ما أمره به، وفعل ما نهاه عنه،

فإنه فرض النصيحة، وحرم الغيبة والوقيعة.

_________

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قيمة الاشتراك في السنة العاشرة

قد جعلنا قيمة الاشتراك على أهل القطرين مصر والسودان ستين قرشًا

صحيحًا، وعلى عمال البريد منهم ثلاثين قرشًا، وأبقيناها في سائر الأقطار كما

كانت.

_________

ص: 9

الكاتب: محمد عبده

‌اللائحة الثالثة

من لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية

للأستاذ الإمام

يظهر أنه كتبها؛ لأجل إقناع أولي الأمر في مصر بالعناية بالتربية الدينية بعد

عودته من سوريا، وعفو الأمير عنه، وقد وجدت مسودتها بخطه بالعنوان الذي

تراها مفتتحه به. وجامع الكتاب وضع سائر العنوانات قال- رحمه الله تعالى-:

هذا مجمل أفكار فيما يجب الالتفات إليه من نظام التربية بمصر

(ويمكن تفصيله عند إرادة العمل به)

إذا كان الناس في حاجة إلى صلاح الحاكم؛ فما حاجة الحاكم إلى صلاحهم؛

بأخف من حاجتهم إلى صلاحه، فإن السلطة سلطتان: جيدة ورديئة، فالجيدة ما

كانت على المحكومون للمحكومين. والرديئة ما أخذ بها المحكومون لغاية الحاكم،

وقضاء غرضه الثابت.

أما الأولى: فإن منزلتها من المحكومين منزلة الروح من الجسد، لها التدبير

وعلى أعضاء الجسد وظائف العمل، وغاية التدبير والعمل حفظ حياة الكائن الحي،

وهو مجموع الروح والبدن، فكل يستفيد من الآخر ما به بقاؤه ونماؤه.

وكما تحتاج الآلات البدنية إلى سلامة الروح من العلل النفسية: كالجنون

والخمود والجهل ونحو ذلك، تحتاج الروح إلى سلامة الآلات البدنية من الآفات؛

التي تعطلها عن الحركة: كالشلل والخدر والتشنج وما شابه ذلك، وماذا يمكن

للروح السليمة أن تأتيه في بدن؛ تعطلت آلاته وفسدت أعضاؤه.

وأما السلطة الثانية: فمنزلتها منهم منزلة الصانع من آلته، فصاحب السلطة

صانع والمحكوم آلته في الصنع، فهو كاتب مثلاً والمحكومون قلمه، أو هو حارث

والمحكوم محراثه، وكما أن الآلة لا تعمل إلا بالعامل، ولا يظهر أثرها إلا في يده

كذلك العالم لا يمكن له العمل إلا بآلته. وكما يجب أن تكون اليد العاملة قادرة على

إدارة الآلة، يجب أن تكون الآلة وأجزاؤها صالحة للعمل، فإن فقد أحد الأمرين

امتنع العمل أو نقصت ثمرته، فكل من السلطتين في حاجة إلى صلاح المحكوم،

فكما يطلب المحكوم في كل حال؛ أن يكون حاكمه صالحًا لأن يحكمه، كذلك يطلب

صاحب السلطة في أي منزلة كان؛ أن يكون المحكوم بحيث ينقاد إلى كل ما يحكم

به، وعلى الصفات التي تنساق به إلى الغاية التي يذهب إليها حاكمه.

أما ما رسخ في خيال بعض الشرقيين، ومن اغتر بحالهم ممن خالطهم من

الأوروبيين، من أن صاحب السلطة قوته علوية، والمحكوم طبيعته سفلية، ولا

نسبة بينهما إلا أن الأول قاهر والثاني مقهور، وأن الثاني في حاجة إلى صلاح

الأول؛ ليكون به رؤوفًا رحيما، وأن الأول لا حاجة به إلى صلاح الثاني؛ لأنه

مقهور له على كل حال، فذلك منشؤه الغرور والجهل بطبيعة الجمعيات الإنسانية

ونظامها القطري. ولذلك نرى أرباب هذا الاعتقاد من ذوي السلطة، لا تدوم له

دولة، ولا يثبت لهم سلطان؛ لتخبطهم في سيرهم بجهلهم منزلتهم من محكوميهم،

وتصرفهم فيهم على خلاف ما يجب أن يصرفوهم فيه، وتغافلهم عن استطلاع

طباعهم بما يؤهلهم للعمل على ما يريدون منهم.

يقال: إن الرعية في كثير من البلاد آلة للحاكم في بلوغ مقاصده في دولته،

فقد يكون ذلك حقًّا لكنها آلة ذات شعور وإرادة، وما له شعور وإرادة فجميع أعماله

إنما تكون عن شعوره وإرادته، فتصلح الأعمال بصلاح الشعور والإرادة، وتفسد

بفسادهما، فلا يمكن أن تكون تلك الآلة صالحة للعمل، إلا إذا كان الشعور والإرادة

صالحين له، وصلاحهما بأن يكون الشعور وجدانًا للفرق بين النافع والضار،

وبين النظام والاختلال؛ ليكون ما يقرره الحاكم من القوانين وأصول الإدارة معروفًا

عند أغلب الرعية، وأن تكون الإرادة صادرة عن هذا الوجدان، حتى يكون النظام

منها في مكانة الاحترام.

فإذا كان الشعور مختلاًّ والإرادة فاسدة، كانت الأحلام طائشة، والأهواء

متحكمة، ومداخل السوء كثيرة، فويل لذي السلطة من تلك الرعية وبعيد عليه أن

يستقر لسلطانه فيها قرار، وكل ما يتخيله إصلاحًا لهم أو له فيودعه في أصول

حكومته، فهو كالنقش على الماء، أو الرسم في الهواء.

طبيعة مصر والمصريين

أرض مصر ضيقة عن حاجة أهلها، فمساحة الصالح منها للسكنى لا تزيد عن

حاجة الساكنين زيادة بينة، وهي محاطة من أطرافها بالصحاري الجدبة والمياه

المالحة، وليس فيها من الغابات ما يعوذ به الوحشي من الحيوان؛ فضلاً عن

الإنسان؛ ولذلك نرى كثيرًا من أنواع الوحوش؛ التي كُنا نراها كثيرة في البلاد من

نحو أربعين سنة: كالضباع والذئاب والخنازير، قد كادت تنقرض بإصلاح

الأراضي الزراعية؛ وانتشار الإنسان في أطرافها وتعهدها بالزرع والعمارة، وأهل

مصر لا يعرفون معنى المهاجرة من دار إلى دار، ولا يمكن أن يتصوروا ذلك ما دام

في أرضهم نبات ينبت، فإذا أمحلت أرضهم فضلوا الموت فيها على المهاجرة

منها، وتاريخ الماضي وشاهد الحال ينطقان بذلك.

ولذلك كان أهل مصر سكان أرضهم من آلاف من السنين، وكل قادم إليهم

امتزج بهم، وغلبت عليه عوائدهم وأطوارهم، وانتسب نسبتهم فصار مصريًّا،

وأحرز جميع خواص المصريين، ونسي أصله وغاب عن أعقابه منشؤه، ثم إن

طباعهم مرنت على الاحتمال وألفت مقاومة القهر بالصبر، فلو أن سيف المتغلب كان

أعدى من سيف المماليك، وجوره أشد من جور إسماعيل باشا، لما أمكنه أن ينقص

من عددهم مقدارًا يذكر، ولا أن يزيلهم عن مواقفهم مسافة تعتبر؛ ولهذا كان المتغلبون

يفنون فيهم وهم باقون.

أهل مصر قوم سريعو التقليد، أذكياء الأذهان، أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل

الفطرة، فما أيسر أن تفعل الحوادث فيهم؛ فتنبههم إلى الأخذ بما يحفظ عليهم حياتهم

في ديارهم من أي الوجوه، فلا يبيدون من حاجة، فأهل مصر على ذلك هم رعية

حاكمهم، ولا يمكن لحاكمهم أن يستبدل بهم رعية أخرى في بلادهم.

فحاكمهم إذا كان رأسًا فهم بدنه، وإذا كان عاملاً فهم آلته، فلا بد من

استصلاحهم، حتى يستقر سلطانه عليهم زمنًا مديدًا، ترمي إليه أنظار الدول السامية

المقام في المدنية.

أهل مصر في موقع عرف كل الناس منزلته في الأرض، وهو ممر أهل

المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى المشرق، وهو في حلق أوروبا تتلاقى فيه

سيارة الأمم، فقلما توجد بلاد يكثر فيها اختلاط الأمم مثل هذه البلاد.

الأمم العظيمة الأوروبية يحسد بعضها بعضا؛ على التمكن في أرض مصر أو

الفوز بإحراز المنافع السياسية أو المالية فيها، فالوساوس والدسائس لا تنقطع نفثاتها

من أولئك الأحزاب، يبثونها بين المصريين؛ ليوغروا صدورهم على من علت

كلمته فيهم. وأعظم فاعل في نفوسهم (وأغلبهم مسلمون) أن يقال: إن صاحب

هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه وانتهاز الفرص؛ لكشف

سلطانه متى أمكنت.

أهل مصر شديدو الانفعال بما يلقى إليهم؛ كثيرو التذكار لما ينطبق على

أهوائهم، فلكل كلمة من هذا القبيل مكان من نفوسهم، ولكن ربما لا يظهر أثر ذلك؛

لاحتجابه بحجاب العجز أحيانًا، غير أن طباع المصريين كالكرة المرنة تتأثر

بالضغط، فينخفض بعض سطحها قليلاً من الزمن، ثم لا يلبث أن يعود إلى حاله،

فالله يعلم متى يظهر أثر تلك الانفعالات؛ التي يمكن أن تتأثر بها نفوسهم بما يُلقى

إليهم.

يقال: إن أهل مصر ضعفاء، ولكن قد أظهر التاريخ أنه متى وُجِدَ القائد؛

كانوا أشد على الخصم من أشجع الأمم؛ وأثبتهم قدمًا في المواطن، ولا يعلم متى

يوجد القائد، ومن أي جنس يكون، إذا تركت أهواؤهم بغير تهذيب تجري، حيث

تجد سبيلاً للاندفاع، ثم لا يقدرون النظام قدره، مهما كان بالغًا من الصلاح؛ ولا

يبالون به، بل يعتقدون أن كل نظام حبر على ورق، فلا يستطيع حاكمهم أن يثبت

سلطته عليهم على أمر مكين، بل هم دائمًا في التواء عليه بالمخالفة، متى أمكنت

الفرصة، إلا إذا أخذوا بتربية صحيحة، فهناك تنضبط أحوالهم، وينشئ النظام

احترامه في قلوبهم، ويهتدي صاحب السلطة إلى طرق تصريفهم.

احتقار أمر النظام والتأثر بالوساوس؛ إذا لم يكن مبعثهما الحق، ينشآن عند

المصريين من أمرين: الأول: بُعد جمهورهم عن المعرفة بوجوه المصالح. والثاني:

حرمانهم من التربية التي تطبع في نفوس أغلبهم الاستقامة والتؤدة والتبصر في

العواقب، ومرجع الأمرين إلى سوء العقيدة، وظن ما ليس بواجب واجبًا، وظن

الواجب غير واجب، فما دامت هذه حالهم فهم رعية غير صالحة، فلا يصلحون

بدنًا لرأس ولا آلة لعامل؛ لاختلال المدارك وفساد الإرادات.

أهل مصر لم يأتهم التاريخ القديم بذي سلطة يَفْهَمُ هذا السر، وتَنْفَذ بصيرته

إلى هذه الحقيقة، فلذا لم تثبت فيهم دولة لقبيل زمنًا يُعْتد به، وكل إصلاح نظامي

نشأ فيهم كان كالبناء على الهواء، فالسلطة التي تسعى في أن تجعلهم رعية

صالحة، تكون قد فتحت في نفوسهم فتحًا جديدًا، وظفرت ببغيتها منهم ظفرًا

مبينًا، وأمنت كل غائلة تخشى من دسائس الأعداء ووساوسهم.

أهل مصر قوم أذكياء كما قلنا، يغلب عليهم لين الطباع؛ واشتداد القابلية

للتأثر، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا

كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها وإلا ماتت

البذرة بدون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على البذرة وصحتها، وإنما

العيب على الباذر.

أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين، حتى صار طبعًا فيها، فكل من

طلب إصلاحها من غير طريق الدين، فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه

فيها، فلا ينبت ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك؛ ما شوهد من

أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم

يزدادوا إلا فسادًا، وإن قيل: إن لهم شيئًا من المعلومات، فما لم تكن معارفهم

العامة وآدابهم مَبْنِيَّة على أصول دينهم، فلا أثر لها في نفوسهم.

ولا أتكلم عن إصلاح لدين غير الإسلام في مصر، فإن غير المسلمين فيها

العدد القليل، والجمهور الأغلب من المسلمين.

الدين الإسلامي الحقيقي ليس عدو الأُلفة، ولا حرب المحبة، ولا يحرم

المسلمين من الانتفاع بعمل من يشاركهم في المصلحة، وإن اختلف عنهم في الدين

وفي آدابه كفاية لتعريف الآخذ به بوجوه المصالح، وإرشاده إلى مظان الفوائد

والبصر بالعواقب، وتقويمه بفضائل الأخلاق، وبالجملة فهو أفضل كافل لجعل

الرعية صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل. وقد أرشدتنا التجربة إلى أن

كل عارف بحقيقة الدين الإسلامي، كان أوسع نظرًا في الأمور، وأطهر قلبًا من

التعصب الجاهلي، وأقرب إلى الألفة مع أبناء الملل المختلفة، وأسبق الناس إلى

ترقية المعاملة بين البشر، وإنما يبعد المسلم عن غيره جهله بحقيقة دينه، وهذه

آيات القرآن شاهدة على ما نقوله، اللهم لمن يفهمها كما جاءت، ويعرف معناها كما

وردت.

إن القرآن وهو منبع الدين، يقارب بين المسلمين وأهل الكتاب، حتى يظن

المتأمل فيه أنهم منهم، لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام قليلة، ولكن عرض

على الدين زوائد؛ أدخلها عليه أعداؤه اللابسون ثياب أحبائه، فأفسدوا قلوب أهاليه

ولا قلوب أقرب إلى الإصلاح من قلوب أهل مصر.

أهل مصر مضى عليهم الزمن الطويل والقرون العديدة، ولم يروا مربيًا

يأخذهم بدينهم، فحرموا خيره، ولم يبق عندهم إلا ما فيه المضرة لهم ولغيرهم،

تحت اسم الدين وليس بدين. على أنه ليس فيهم من ينكر أن القرآن كلام الله، وأنه

ينبوع الدين، ولكن ليس لهم من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية،

ومدرسة الأزهر الدينية، وليس في الجهتين ما يهديهم لما يجعلهم رعية صالحة،

وهم الآن على غاية الاستعداد لقبول ما يصلحهم.

من يتوجه من ذوي السلطان إلى ذلك، لا يجد أقل مقاومة من العامة ولا أغلب

الخاصة، وفي مصر فرصة لا توجد في غيرها لمن أراد ذلك، فإن بلادًا غير مصر؛

يوقف فيها مثل هذا الأمر على همة أهل الدين وسلامة أفكارهم، ونشاطهم لفتح

المدارس الدينية على الطرق المناسبة لحالة البلاد. أما مصر فلها مدارس أميرية؛

يمكن أن يسلك فيها أي مسلك يُخْتار للتربية، وليس عليها رقيب سوى أهل السلطة

السياسية لا غير، فلهم أن يأخذوا من الدين أصوله، ويغرسوها في المدارس،

ويحملوا نفوس طلاب العلم عليها، ولا يتعرضون لما زاد عنها لا بالنفي ولا

بالإثبات، ويندبون لتدريس ذلك ذوي قدرة على صرف الأذهان عما وقر فيها،

وتطهيرها مما علق بها من الزوائد الضارة، ولا يجدون معارضًا لهم من أهل الدين؛

لأنهم لا يهتمون بما لا يقع تحت نظرهم مباشرة، وما دامت الأصول محفوظة،

فأنظارهم عن غيرها منصرفة، وأكبر دليل على ما نقول، سكوت أهل الدين عن

نوع التربية المعروف في المدارس؛ على ما فيه من مباينة الدين، والانتهاء إلى

خلعه بالمرة.

المدارس الأميرية

المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية؛ ولا التربية

الصحيحة. هذه المدارس أنشأها محمد علي باشا بإشارة بعض الفرنسويين؛ لتعليم

بعض أولاد الأرناؤوط والأتراك والمورلية؛ ليكون منهم رجال عندهم إلمام ببعض

الفنون المحتاج إليها في نظام الحكومة التي أسسها، وأهم تلك الفنون: الهندسة

والطب والترجمة، أماغيرها من العلوم فما كان إلا وسيلة إليها، ثم لم يشترط في

العلم بها أن يكون تامًّا. أما التربية على أخلاق سليمة، فلم تخطر له ولا لمن تولى

إدارة هذه المدارس على بال، ثم لما لم يكن في أبناء تلك الأجناس وفاء لمطلبه في

الوظائف، أدخل في تلك المدارس بعض المصرين جبرًا، وما كان يدخل مجبورًا

إلا الذين لا قوة لهم من الفقراء، وكان دخول المدارس أشبه بدخول العسكرية في

ثقله على المصرين.

ثم جاء خلف محمد علي من عباس وسعيد فأهملوا النظر في المدارس بالمرة،

حتى جاء إسماعيل فوسع نطاقها، وزاد فيها من المعارف ما له دخل في الإدارة

والقضاء، وله تعلق بتثقيف العقول في ظاهر الأمر. غير أن جميع ما أتاه من ذلك

كان صوريًّا، ليقال: إن له في حكومته مثل ما لأوربا في حكوماتها، ولم يكن القصد

منه تربية العقول، ولا تهذيب النفوس، ولا تحصيل رجال يصلحون لتولي أعمال

الحكومة.

وفي زمن إسماعيل باشا كثرت رغبة الناس في المدارس، ولكن من الأعيان

الذين يطلبون لأولادهم مساند في الحكومة، يحتاج في الوصول إليها إلى بعض

الفنون، ومن الفقراء الذين لا يجدون ما يقتات به أبناؤهم؛ فيرسلونهم إلى المدارس؛

ليستريحوا من نفقتهم. ولم يكن القصد من جميع تلك الأحوال إلا أن يتعلم التلميذ

ما يؤهله للقيام بعمل ما من أعمال الحكومة، أو بعبارة أخرى: ليكون في يده شهادة

تبيح له أن يشغل كرسيًّا من كراسي أقلام الدواوين. أما تكوينه بالتعليم والتربية

رجلاً صالحًا في نفسه، يحسن القيام بالعمل الذي يفوض إليه في الحكومة أو في

غيره، فذلك لم يخالط عقول المعلمين، ولا من ولاهم أمر التعليم، فسرى ذلك من

السابقين إلى اللاحقين حتى اليوم.

ولو كشفنا عن أذهان التلامذة، لم نجد فيها غاية لتعلمهم سوى أن يعيشوا كما

عاش غيرهم على أي صفات كانوا، ولو استفرغنا أذهان المعلمين، لم نجد فيها

من المقاصد سوى أنهم يلقون ما يجدونه في الكتب المقررة للتلامذة، ويطالبونهم

بحفظه، وفهم عبارته إن كان ليعيدوا يوم الامتحان تلاوة ما ألقي إليهم حتى تتم

مدتهم في المدرسة، ولا يسألونهم مرة واحدة عن مجال أفكارهم، هل هو في صالح

أو فاسد؟ ولا مطامح أنظارهم، هل إلى نافع أو ضار؟ وذلك رسم يؤديه

المعلمون؛ ليأخذوا مرتباتهم الشهرية لا غير. ولهذا لا يكون تلامذتها في آخر الأمر

إلا صناعًا، أو ناطقين ببعض الألسنة، ولا ثقة في الأغلب بشيء من عقولهم ولا

أخلاقهم، إلا من كانت له فطرة سليمة، وله موهبة طبيعية، فأولئك تؤدبهم الأيام،

وتهذبهم التجارب، وعلى مثل ذلك كانت مكاتب الأوقاف، ولا تزال. فإن استمر

السير على الطريقة المعروفة الآن، كانت النتيجة دائمًا كما بيناه، فلا يؤول ذلك

بالمصرين إلى أن يكونوا رَعِيَّة صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لصانع.

المدارس الأجنبية

وأما المدارس الأجنبية على تنوعها؛ فاختلاف المذاهب بين المعلمين

والمتعلمين في الأغلب، يضعف أثر تلك المدارس من التربية العمومية، فقليل من

المصرين من يرغب في تعليم أولاده فيها، ومن أرسل بولده إليها داوم نصيحته بعدم

الالتفات إلى ما يقوله المعلمون فيها؛ حفظًا لاعتقاده، ثم ذلك يحدث من الاضطراب

في طبيعة الفكر، والتزلزل في الأخلاق، ما يكون ضره أكثر من نفعه. وقد غلط

من زعم: أن لتلك المدارس الأجنبية أثرًا سياسيًّا أو أدبيًّا في مصر بل قد أحدثت

بعض النفرة في قلوب المسلمين من رؤساء تلك المدارس وأممهم، ولذلك تاريخ

في البلاد معروف فهي ضارة بالألفة، مبعدة للمحبة، رغمًا عما يزعمه أربابها مما

يخالف ذلك، فلا يصح الاكتفاء بها في التربية عن المدارس الأهلية على اختلافها.

الجامع الأزهر

الجامع الأزهر مدرسة دينية عامة، يأتي إليها الناس: إما رغبة في تعليم

علوم الدين؛ رجاء ثواب الآخرة. وإما طمعًا في بعض الامتيازات لطلاب العلم فيه.

ولا يزال بعضها إلي اليوم، ولكن مما يؤسف عليه: أنه لا نظام لها في دروسها،

ولا يسأل فيها التلميذ أيام الطلب عن شيء من أعماله، ولا يبالي أستاذه حضر عنده

في الدرس أم غاب، فَهِم أم لم يفهم، صلحت أخلاقه أم فسدت، ويمر عليه الزمان

الطويل، لا يسمع فيه نصيحة من أستاذه؛ تعود عليه بالإصلاح في دنياه أو دينه،

وإنما يسمع منه ما يملأ القلب بغضا؛ لكل من لم يكن على شاكلته في الاعتقاد حتى

من بني ملته، ويطبق علي الذهن غفلته، ويستفزه الطيش لتصديق كل ما يسمع؛

إذا كان موافقًا لمبدأ التعصب الجاهلي، فأغلب الأوقات تمر على أهل الجد منهم في

فهم مباحثات لبعض المتأخرين لا فائدة فيها، ولا يتعلمون من الدين إلا بعض

المسائل الفقهية، وطرفًا من العقائد على نهج يبعد عن حقيقته أكثر مما يقرب منها.

وجل معلوماتهم تلك الزوائد التي عرضت على الدين، ويخشى ضررها، ولا

يرجى نفعها، ثم إن المعروفين بالعلماء؛ وهم الذين يتممون دروسهم في هذه

المدرسة، ويؤذن لهم بالتدريس فيها؛ هم قدوة الناس وأئمتهم مع أنهم أقرب للتأثر

بالأوهام، والانقياد إلى الوساوس من العامة، وأسرع إلى مشايعتها منهم؛ وذلك بما

ينشؤون عليه من التعليم الرديء، والتربية المختلفة التي لا ترجع إلى أصل صحيح

فبقاؤهم فيما هم عليه اليوم، مما يؤخر الرعية عن تقدير السلطة الصالحة قدرها.

إصلاح مدرسة الأزهر لابد أن يكون بالتدريج؛ في تغير نظام الدروس

وجعلها في الابتداء تحت قواعد ساذجة قريبة من الحالة الحاضرة فيها، بحيث

يقرر فيها أن كل من أدرج اسمه في جدول الطلبة، يلزم بالحضور في الدروس وإلا

حرم الامتياز. وكل أستاذ يسأل عن طلبته، ثم يجعل ما ينالونه من المنافع الطفيفة

منوطًا بالفهم لا بالكتب، وتغيير بروغرام الدروس، ويزاد عليه أصناف من الكتب،

بحيث يدخل فيه تدريس الآداب الدينية المفقود الآن بالكلية، ويكلف الأستاذ بتعهد

أخلاق تلميذه؛ لتكون منطبقة على تلك الآداب بقدر الإمكان، ويجعل شيخ الجامع

رقيبًا على الأساتذة والتلامذة في ذلك، ثم يعدل نظام الامتحان النهائي وشروطه،

وكل ذلك يكون على طرق بسيطة، لا تستلفت الأذهان إلى شيء خلاف المصلحة،

وتفصيلها يكون في لائحة مخصوصة.

ولا بأس أن يجعل نظام هذه المدرسة مرتبطا بالمعارف العمومية أو بإدارة

الأوقاف على قواعد تفصل في اللائحة المختصة به، وقد يظن بعض من لم يتفكر

في حالة البلاد ومرتبتها الأدبية والدينية، أن إصلاح الأزهر لا يمكن؛ لأنه يترتب

على مجرد الشروع فيه تشويش أذهان العلماء والعامة على أثرهم، فهذا ظن فاسد

لا يؤيده دليل، ولم تقض به تجربة، إلا ما كان من بعض الرؤساء من مدة نحو

عشرين سنة، عند ما أراد إدخال بعض العلوم الصناعية فيه، فقاومه بعض من

كان موجودًا من العلماء، فيئس من الإصلاح وترك الأمر إلى اليوم، فقد كان ذلك

قبل أن تتقلب الحوادث على مصر، ولم يكن بالتدريج اللائق، أما الآن فقد تغيرت

الأحوال، وأصبح الإصلاح فيه أهون منه في جميع المصالح، وكل رئيس للنظار

يمكنه أن يأتي هذا الإصلاح بمجرد التوجه إليه، وما يعجز عنه من ذلك، فصاحب

هذا الفكر هو الكفيل بتنفيذه، إذا فوض ذلك إليه، على أن العناء في ذلك لا يطول،

إذا صلحت المدارس الأميرية، فإن الناس لا يختارون الأزهر؛ إلا لسوء ظنهم

بالمدارس، أو لاعتقادهم أن الأزهر أحفظ للدين منها، فإذا حصل الإصلاح فيها،

وجدوها أدنى إلى المنفعة منه، فعند ذلك تنفرد بكونها معاهد التعليم ويصبح الناس

كلهم في طريق واحدة.

الكتاتيب الأهلية

المدارس الأميرية يتعلق النظر فيها بنظارة المعارف، ولا يتم لها إحسان

النظر من وجه التربية؛ إلا بتوجيه العناية أولاً إلى الكتاتيب الصغيرة المنتشرة في

القرى والمدن؛ فإنها هي المغذية للمكاتب المنتظمة التابعة للمعارف وللمدارس

الأميرية وللأزهر، فإن كان الغذاء فاسدًا كان المزاج المتغذي أشد فسادًا. وقد

خطر ببال أحد نظار المعارف أن ينظر فيها، ولكن من الوجه التعليمي وإصلاح

الأمكنة، بحيث تكون أوفق للصحة، لا من الوجه التهذيبي، والثاني هو أهم

مطلوب دون الأول، فإنما ينظر إليه من حيث هو وسيلة للثاني. فالمعلمون في تلك

الكتاتيب يسمون الفقهاء وهم لا يعرفون شيئًا سوى حفظ القرآن لفظًا بغير معنى.

وإذا كان في أذهانهم شيء باسم الدين؛ فما هو إلا الزائد الضار دون الأصل النافع،

وقد عُرفوا بأنهم أفسد حالاً من العامة. على أن الكتاتيب يرد عليها أبناء الأهالي

جميعا إلا القليل، ثم يرجع الغالب إلى ما كان عليه آباؤهم، فهي منابت للعامة،

ولكنها لا تنبت الآن إلا جهلاً.

ولا يمكن إصلاح تلك الكتاتيب إلا بإصلاحهم (أي: الفقهاء) ، وإصلاحهم مرة

واحدة أو إبدالهم بخير منهم متعسر، ولكن إذا وجهت العناية إليهم أمكن إصلاحهم،

وإصلاح طرق تعليمهم بالتدريج في بضع سنين، ثم إن ذلك الإصلاح يستدعي عملاً

يتعلق بعضه بالمعارف وبعضه بالأوقاف، من حيث إن أولئك المعلمين خطباء

المساجد في الأغلب، فلا بد أن ينظر في انتخابهم من المستعدين للفهم، وقبول

الإصلاح بقدر الإمكان، وهو يقتضي سعيًا حثيثًا، وتدقيقًا شديدًا وسيرًا في أرض

مصر أجمعها، ونظرًا في كل قرية من قراها، وهو ليس بعسير على الشخص

الواحد؛ فضلاً عن أشخاص كثيرين، متى وجهت العناية بذلك.

ثم يلزم لذلك تقرير بعض المعلومات التي لا يستغني عنها مصري، مما يزاد

على تعليمه القرآن في تلك الكتاتيب، حتى إذا خرج التلميذ من الكُتَّاب كان

شاعرًا بأنه في أي جمعية محكومة بأي طريقة فإذا دخل المدرسة أو الأزهر كان

نماء معلوماته على ذلك الأساس، وذلك يستدعي تقرير بعض الكتب الصغيرة،

وتعيين ما يدرج فيها على نمط سهل؛ يفهمه الصغير والكبير بأن تبين لهم فيه

نسبتهم إلى: المأمور، والمدير، والناظر، والمهندس، والطبيب، والعالم، وإلى

المقام الخديوي، وغير ذلك.

وتحدد الطريقة التي يتعلم بها الفقهاء هذه الأمور القريبة من الأذهان، والمكان

الذي يتعلمون فيه، والوقت الذي يخصص لذلك، والمعلم الذي يعلمه، ثم تقرير

العلاقة بين أولئك الفقهاء، وبين إدارة الأوقاف، ونظارة المعارف.

المكاتب الرسمية الابتدائية

تلامذة هذه المكاتب لا يزالون إلى الآن من الأطفال الذين يقصد كفلاؤهم

بتعليمهم التوصل بهم إلى خدمة الحكومة، سواء نالوا ما قصدوا أم لا، إلا أنهم

في الغالب لا يستطيعون أن يذهبوا إلى نهاية التعليم المعد لذلك، فيرجع الوالد إلى

أبيه أو من يقوم مقامه بعد نهاية المكتب عارفًا ببعض مبادئ العلوم التي لا يجد لها

موضعًا تستعمل فيه، فلا يلبث أن ينساها، فيضيع الزمن الذي شغله بالتحصيل بلا

فائدة، ثم إنه يعود بأخلاق أشد فسادًا من أخلاق الذين بقوا على الفطرة، لم يمسهم

التعليم، ويجد في نفسه نفرة وعجزا عن العمل فيما كان يعمل والده وأهله من قبله،

فيقضي عمره في البطالة أو ما يقرب منها، فتزداد أخلاقه فسادًا، وأفكاره اختلالاً،

ويقف نفسه على عبادة الأوهام، وخدمة الدسائس التي تنبهه على طلب ما يغير الحالة

التي عليها الناس؛ طمعًا في تغيير حالة نفسه بلا تعقل، فيكون زيادة في أمراض

البلاد، بدل أن يكون عضوًا نافعًا.

فأول ما يجب لإصلاح هذه المكاتب ووضعها على أساس يفيد العامة: أن

يراعى في البروجرام إدخال مبادئ العلوم من وجهها العملي الذي ينطبق على

المعاملات الجارية في البلاد، فقواعد الحساب مثلاً تؤخذ من وجهها العملي مطبقة

على المعروف في المعاملات التجارية، وحساب الصيارفة الأميريين، وغيرهم،

فيتعلمون طريقة وضع المدفوع من الأموال في الأوراق والدفاتر، وطرق التحصيل

لأموال الحكومة، ونحو ذلك، ويدخل فيها فن الأوزان والمكاييل، وإن كانت مبادئ

هندسية، فليدخل فيها شيء من المساحة على الطريقة المعروفة في البلاد، أو على

أفضل منها. وما يؤخذ من قواعد العربية، يكون مصحوبًا بالعمل في المكاتبات

العادية، والمشارطات المتداولة بين الأهالي، حتى إذا انفصل التلميذ من المكتب،

يكون عنده ما يحتاج إليه شخصه أو عائلته وأقاربه وأهل بلده، فلا ينقطع عن

العمل به؛ لكثرة ما يرد عليه منه.

ثم يضم إلى ذلك تعويده على بعض الأعمال الزراعية أو الصناعية في

أوقات الرياضة، أو يخصص لذلك يوم في الأسبوع؛ ليعلم كفلاء التلامذة أن للتعليم

غاية سوى خدمة الحكومة، وأنهم إذا لم ينالوا الخدمة، فإن لهم شأنًا سوى البطالة،

والتفرغ للأوهام الرديئة، ثم يضاف إلى البروجرام مبادئ العقائد الدينية على

الأصل الصالح وأصول الآداب الدينية على ما يجمع الألفة، ويعرف وجه المصلحة

في المعاملة والمخالطة، وشيء من تاريخ البلاد، وما كانت تعانيه في

سابق زمنها، وما صارت إليه من الراحة في هذه الأوقات، وشيء من القواعد

العامة للنظام الذي هم فيه؛ ليعلم التلميذ أنه من أي جنس، وفي أي شكل من أشكال

الحكومة، فيتعلم الخضوع والانقياد لكل مسند فيما يصدر منه، ثم يكون أهم العناية

بحمل التلامذة على العمل بما يعلمونه من الآداب، وتشديد المراقبة عليهم في ذلك،

وتوضع لهذا لائحة مخصوصة؛ يحدد فيها البروغرام اللازم للمكاتب الابتدائية

وطريق التعليم، ويبين فيها المسلك الذي يتخذه المربي المفوض إليه مراقبة أخلاق

التلامذة، وملاحظة أعمالهم، فإذا أتم التلميذ مدة المكتب الابتدائي، ولم يتيسر له أن

ينتهي إلى غاية التعليم، رجع إليه بشيء نافع، ونمت الأخلاق الصالحة، والأفكار

الحسنة، وانطبع قلبه على الخير والسلامة، وكانت له بصيرة في وجوه المعاملة مع

من يشترك معهم في المصلحة، ونبت في قلبه احترام النظام الذي يضبط مصلحته،

ومصلحة بني وطنه، ونشأ على محبة العمل والرغبة فيه، فلا يكون إلى فؤاده

سبيل للوساوس، ولا منفذ للدسائس.

المدارس التجهيزية والمدارس العالية

لا أتكلم في بروغرامات دروس الفنون التي تقرأ فيها؛ لأن النظر في ذلك

يتعلق بالغرض الذي جعلته الحكومة غاية لإقامة تلك المدارس، وإنما كلامي فيها

منحصر فيما يتعلق بالتربية وتهذيب الفكر، وغرس مبدأ الصلاح في نفوس التلامذة

ليحسنوا في استعمال ما تعلموا.

قلنا فيما سبق: إن التربية مفقودة في تلك المدارس، لا يخطر ببال أحد أن

يعتني بها عناية حقيقية، وإنما الموجود فيها صور ورسوم تغر الناظر فيها، وهي

بمعزل عن الحقيقة، فالذي يجب لتأسيس التربية فيها؛ تعليم العقائد الدينية على

الأصل الصحيح، تعليم الآداب الدينية على الطريق الصالحة، إلزام التلامذة

في تصرفهم بموافقة ما تعلموا، كل ذلك على نمط أرقى مما كان في المكاتب

الابتدائية. تعليمهم الإجادة في الكتابة كل في فنه الذي يريد الوصول إلى غاية

التعليم فيه تعليمهم أصول النظام العام، ثم زيادة التوسع لكل فيما يتعلق بفنه من

النظام، فالقانونيون يتوسع لهم في أصول النظام المتعلق بالقضاء والإدارة، وهو

شيء غير نفس القانون. والمهندسون في أصول النظام المتعلق بالري وتدبير النيل،

وهو شيء غير الهندسة وعلى هذا القياس.

والمربي في كل ذلك يودع في أفكارهم أن القيام بهذه الأعمال مما يطالب به

الدين، وأن فوائدها ليست قاصرة على خدمة الحكومة، بل هي من لوازم الحياة

الطيبة، ويورد الأدلة على ذلك وهي كثيرة لا تعد، حتى إذا بلغ التلميذ نهاية التعليم،

أمكنت الثقة به، واؤتمن على عمل يفوض إليه، وكانت الأنفس مطمئنة من جهته؛

لعلمه أن للنظام علاقة بحياته الروحانية، كما له علاقة بحياته الجسدانية، فإن لم

يكن له نصيب في خدمة الحكومة وجد سبيلاً آخر للعمل، وهو في رضى عن

النظام المحيط بأعمال وطنه، فيكون بذلك عضوًا صالحًا، ويقوم بينه وبين

الدسائس حجاب منيع من الاستقامة الفكرية والخلقية، حتى لو أن التلميذ بعد ذلك

حمله الشطط في الفكر على خلع العقيدة الدينية، بقيت فيه ملكات الأخلاق الفاضلة

طبيعة ثابتة، لا تتبدل بتبدل العقيدة.

المعلمون والمربون ومدرسة دار العلوم

وجود مثل هؤلاء المعلمين عسير، كما يقوله كثير ممن له تعب في البلاد،

ولم يتفكر في حالتها، ولم يدقق البحث في مصلحتها، أما أنا فلا أرى في ذلك

صعوبة بقدر ما يتصورونها، كما أن كثيرًا مثلي لا يرون ذلك.

أما أولاً: فلأن بلادًا واسعة مثل مصر، لا تعدم أفرادًا متفرقين في أنحائها،

يعرفون من الدين حقيقته، وللزمان ما يلزم له، وإنما يجمعهم البحث والتنقيب،

وكما ساح ناظر المدرسة الزراعية؛ ليختبر الأرض، ويعرف الطرق المسلوكة في

البلاد لخدمتها واستنباتها، كذلك يجب أن يسيح مدير التربية في الأطراف؛ ليعرف

الصالحين لتوليها. على أن المعروف منهم ليس دون الكفاية للابتداء في العمل، فإن

لم يكن الموجود بالغًا الغاية في المقصود، فلا أقل من أن يكون قريبًا منها. وأما

ثانيا: فلأنه يمكن تكوين جماعة كثيرة ممن يحتاج إليهم في الغرض بطريقة هي

مرسومة الآن، ولكن لم يطبق العمل منها على الرسم الحقيقي، على أن في الرسم

نقصًا يجب تتميمه، وتلك الطريقة قد رسمت في المدرسة المسماة بدار العلوم.

دار العلوم مدرسة ابتدعها سعادة علي باشا مبارك من نحو خمس عشرة سنة،

وشرط أن يكون تلامذتها من طلبة الأزهر، وأن يكونوا حصلوا من العلوم المقررة

فيه مبلغًا يكاد يؤهلهم للتدريس، ثم جعل في دروس تلك المدرسة دروسًا لجميع ما

كانوا يقرؤونه في الأزهر من العلوم الدينية؛ ليتمموه على وجه أجلى وأنفع،

وأضاف إلى ذلك أطرافًا من الفنون الصناعية كالطبيعة والكيمياء، والحساب،

والهندسة، وشيئا من الجغرافية، والتاريخ، وقدَّر غاية الدراسة أن يكون التلميذ

المتمم لدروسه فيها صالحًا لأن يكون أستاذًا في العلوم العربية والدينية في المكاتب

والمدارس الرسمية، ولكن جاءت على تلك المدرسة أدوارًا كثيرة أسقطتها عن

مرتبتها التي كانت تنبغي لها، ثم لم يوضع فيها أساس للتربية التي كان يجب أن

تكون أهم شيء يُقصد من الانتظام فيها، ولهذا كان يخرج تلامذتها على ما يخرج

عليه تلامذة غيرها من الأخلاق والأفكار، لا يمتازون عنهم إلا قليلاً، وإن كانت مع

ذلك، أنشأت أفرادًا من أهل العلم والأدب هم الآن معروفون تشهد لهم حالهم بأنهم

أفضل من جميع الناشئين في غير تلك المدرسة، ولكنهم أقل عددًا مما كان ينتظر.

ثم من غريب التصرف، أن هذه المدرسة مع أنه لم يكن الغرض منها إلا

تكوين أساتذة قادرين على التربية عارفين بالعلوم الدينية والعربية حق المعرفة، لا

يقيمون عليها من النظار إلا جاهلاً بالدين واللغة العربية، بل غير معتقد بالدين

بالكلية كما فعلوا سابقًا، ويريدون أن يفعلوا في هذه الأيام، ولا يعينون فيها من

المعلمين للدروس الدينية إلا من يقصد تعيشهم بمرتباتهم، وفيهم من لا تجوز معاشرة

التلامذة له؛ فضلاً عن أخذهم العلم عنه، وفيهم من لا يحسن أداء ما كلف به،

وليس فيهم أهل لوظيفته إلا شخصان فقط. والكل لا عناية له بأمر التربية، ولا

يهمه فساد أخلاق التلامذة أو صلاحها، ولا استقامة عقولهم وأفهامهم أو اعوجاجها،

وتعليمهم الدين على ما هو المعروف في الأزهر لا يغيرون منه فاسدًا، ولا

يزيدون عليه صالحًا، وسائر المعلمين للفنون يؤدونها نقلاً من الكتب، لا يبينون

للتلامذة الغاية من تعلمها.

وليس العيب في ذلك راجعًا إليهم، ولكن إلى من لم يضع أصلاً لسيرهم في

تعليمهم، ولم يؤسس قاعدة ترجع إليها جميع الأعمال صادرة من المعلمين أو

المتعلمين، ولم يقم على تلك القاعدة خبيرًا بالبناء عليها، عارفًا بالغاية التي توجه

المدرسة إليها، حكيمًا في تصرفه بأذهان التلامذة والأساتذة، حتى يقيم للتربية بناءً

معنويًّا حقيقيًّا، يأوي إليه كل معلم ومتعلم، يأتي من بعده.

هذه المدرسة تصلح أن تكون ينبوعًا للتهذيب النفسي والفكري والديني

والخلقي، ويمكن أن ينتهي أمرها إلى أن تحل محل الأزهر، وعند ذلك يتم توحيد

التربية في مصر ولكن يلزم لذلك أمور:

(الأول) إصلاح البروجرام، وحذف بعض العلوم التي اشتغل بها التلامذة

في الأزهر، والاكتفاء بتمرينهم على العمل بها، وتقدير ما يلزم من الفنون الباقية،

وزيادة بعض علوم ليست فيها الآن منها علوم الآداب الدينية، وفن أصول النظام مع

تعلقه بالدين.

(الثاني) تغيير طريقة تدريس تفسير القرآن، وتعلم الأحاديث النبوية.

(الثالث) اختيار معلمين صالحين للقيام بالعمل الموصل إلى الغاية المطلوبة

للمدرسة.

(الرابع) تعيين ناظر للمدرسة قد ملأ قلبه، وغمر فكره الميل إلى المقصد

الذي وضعت له المدرسة عالمًا بالدين ولغته موثوقًا به عند العامة.

(الخامس) إعطاء تلامذتها بعد نهاية التعلم حق التدريس في الأزهر.

(السادس) توسيعها إلى ما يسع مائة تلميذ.

(السابع) أن يزاد في مدتها سنة بعد الدراسة للتمرين على التعليم في نفس

المدرسة.

(الثامن) وهو أهم ما يجب - أن يكونوا تحت نظام شديد في التهذيب،

وملازمة العمل بما يعلمون.

(التاسع) أن تكون وظائف التدريس في المدارس والمكاتب منحصرة فيهم.

(العاشر) أن تكون درجتهم في الوظائف على حسب أدبهم واقتدارهم على

التأديب.

(الحادي عشر) أن يكون للموظف منها في مدرسة ما سلطة تامة على تهذيب

التلامذة، وتربية نفوسهم، وتقويم أخلاقهم وطباعهم، وأرقاهم وظيفة في تلك

المدرسة يكون رئيسًا لمن دونه.

(الثاني عشر) أن يبقوا بلباسهم الذي هو لباس أهل الدين، مهما ترقوا في

الوظائف.

ثم إنه يلزم لهذا المشروع كتب تؤلف جديدًا، ولوائح تنظم للعمل على

مقتضاها، وذلك كله يمكن بعد العزم على الإجراء.

نفقات الإصلاح

يمكن أن يظن أنه يلزم للإصلاح زيادة نفقات، ولكن إذا دبرت مصاريف

المعارف على الوجه اللائق، فلا أظن أنه يحتاج إلى زيادة، على أنه لو احتج إليها لا

يثقل احتمالها بعد اليقين بأن هذا الإصلاح يؤول إلى تمكن السلطة، وجعل الرعية

صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل، وأظن أن بذل النفقات في هذا السبيل

وهو سبيل حياة السلطة وحياة الرعية أفضل منه في جميع السبل، فإن كانوا

يصرفون آلافًا من الجنيهات على بعض المباني الخربة؛ بدعوى أنه أحفظ للآثار

القديمة، فأولى أن يصرف بعض تلك المبالغ على حفظ الذين تبقى لأجلهم تلك الآثار

فإن التربية هي الحصن الحقيقي للبلاد، والذي يصونها من جيش الفساد، وهي

آلة صاحب السلطة في الانتفاع بالمحكومين بفائدة أعم من الفوائد التي جاء بها مشروع

السيد أحمد خان في الهند، وهو أبعد من ذلك المشروع عن سوء الظن.

شبهة من يعارض المشروع ومكانته في نفسه

ربما يوجد أشخاص خصوصًا من الرؤساء، يقولون: إن هذه الطريق بعيدة

النهاية لا توصل إلى الغاية. كما قالوا ذلك من قبل فنقول لهم: إن الطريق التي

سلكوها وسلكها أسلافهم من محمد علي إلى الآن، قد جربت فلم تعد بخير على البلاد

فليسلكوا الآن هذه الطريق على سبيل التجربة بعض سنوات، فليس هناك ضرر

ينتظر، فإن لم تكن فائدة فلا خوف من المضرة.

إن من يزعم العجز إنما يلجأ إليه؛ لأنه لم يتصور ما يرد من الأمر عليه،

فإن كانت له أدلة فليوردها، ولا نعدم لها من الحقيقة دافعًا، فإن أبى إلا العجز،

فربما يوجد من لو وكِّل إليه الأمر قام به، ولم يعجز عنه، والتجربة مشرق الحقيقة

إن شاء الله - تعالى - على أنه يمكنني أن أضمن كل ضرر يتصور في هذا

المشروع، وأكفل أن يكون له من النفع، ما هو أوفر من الفائدة المطلوبة في السبر

الحاضر.

وإني لا أزال أكرر أن غارس هذا الغرس، يجني ثمرته الطيبة، وأن فوائده

ربما نقلت إلى أقطار أخر فعادت بجزيل الخير على من نماه، وفي الزمن القريب

يبدو صلاحه لصاحب السلطة وللمحكومين له، ويسهل له تقرير أمره فيمن صلحوا

بإصلاحه على قاعدة المحبة والألفة، لا على طائشة الإخافة والرهبة، ويكون

بذلك قد كون لنفسه شعبًا جديدًا يعينه في الشدة، وينصره في الفتنة، ويعضده فى

ساعة المحنة، ويمحو من نفسه خيال التعلق بغيره، وتزول من طريقة عقبات

تعصب الجاهلية، وحمية الحماقة اللابسة ثوب الحمية الدينية، وفي ظني أن من

عارض هذا المشروع؛ فقد عادى سلطته وعرض نفسه لغير الزمان، وسياسته

لنفوذ شياطين الفتن من مقاوميه. والله ولي الأمر وبيده كل شيء يهدي من يشاء

إلى صراط مستقيم اهـ.

يقول جامع الكتاب

نقلت هذه اللائحة عن مسودة للإمام غير منقحة، ولا معروضة للنشر كما

سبقت الإشارة، بل كتبت لأجل أن تترجم، وهي مع ذلك آية في البلاغة وحسن

العبارة.

ومن كان حديد الفهم، بعيد الغوص في أسرار الكلام، يعلم أنها لامست سماء

الإعجاز- أو كادت - على عدم العناية فيها بزينة اللفظ وزخرف القول، ذلك إنه لا

يرى لعقله مذهبًا آخر أرجى من مذهب الإمام فيها لإقناع السلطة في مثل هذه

البلاد بالتربية الإسلامية التي كانت قصده في أمته مع الصدق في القول والإخلاص

في النية، وإذا قارن هذه اللائحة باللائحتين قبلها تجلى له معنى (لكل

مقام مقال) فغرض إمامنا في الإصلاح الديني واحد؛ ولكنه كان يتوسل إليه في كل

بلاد بأقرب الوسائل التي يرجى أن ترضى بها السلطة وهو ما يجعله موافقًا

لمصلحتها، وتلك هي الحكمة البالغة والبلاغة السابقة.

ناهيك بما تومئ إليه مقدمة هذه اللائحة من الرسوخ في علوم العمران

كطبائع الأمم وأخلاقها، ونظام التربية، والتعليم والسياسة، فيا ليت الأستاذ الإمام

فرغ للتأليف؛ لم يشغله عنه الإصلاح العملي، ومحاولة تربية الأزهر، وإصلاح

الشورى والمحاكم، إذًا لكان لنا منه مصنفات تفعل في النفوس بعد وفاته، أكثر مما

كان يريد أن يعمله في حياته رحمه الله تعالى على نيته وحسناته.

(المنار)

هذا ما نبهنا به على مكان اللائحة في جزء المنشآت من تاريخه الذي نطبعه،

وقد طال هذا الجزء أكثر مما كنا نظن؛ لأننا وجدنا من آثاره ما لم نكن عثرنا عليه

عند الشروع في الطبع. أما جزء التأبين والمراثي فقد تم أو كاد؛ وسيشرع في

جمعه قبل صدور هذا الجزء إن شاء الله.

_________

ص: 20

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تمثيل القصص أو التياترو

(س1) من الشيخ محمد نجيب التونتاري الأستاذ المدرس بالمدرسة الشمسية

بروسيا.

بسم الله تعالى

حضرة الأستاذ العلامة السيد الرشيد مولانا: محمد رشيد رضا - سلمه الله -

وأدام فيضه. أرجوكم حل هذه المسألة الآتية، ببيان حكمها الشرعي بيانًا فلسفيًّا،

بسبكها في القالب العصري؛ لكي يؤثر في الجميع، ولا يرتاب أحد في حكمها،

لا زلتم مرشدين ومأجورين، وهو أن النابتة العصرية بيننا، أنشؤوا في هذه الأيام

تياترو مليًّا ببلدة قزان، مثلوا فيه القصص الغرامية، فحضرت الممثلات المسلمات

فيما بينهم، وقد أنكر ذلك العلماء، وعدوه من الملاهي المحرمة، ونحن وإن لم

ننكر فائدة التمثيل، من حيث كونه عبرة وعظة، ودرسًا تاريخيًّا مليًّا.

ولكن لا يمكننا أن نكابر في مضراته المحسوسة، من ابتذال النساء، ورقصهن

مع الرجال مما ينافي الآداب الإسلامية، ويهيج الشهوات البهيمية، وقد قرر

العلماء أن المجموع الذي يتضمن المحذور، يكون محذورًا لا محالة، وأن درء

المفاسد يقدم على جلب المصالح، فبناء على ذلك، أظن أنه يجب النهي والانتهاء عن

ذلك، نعم إن سائر مجالسنا ربما لا تخلو من ضرر أيضًا، فإن مجالس العلماء بيننا

قلما تخلو من فضول الكلام، بل من الشتم والغيبة والبهتان، تلك الأمور المحرمة

قطعًا، ولكن إذ اعتادوها، أصبحوا لا يرون فيها بأسًا، ويجري الأمر من غير نكير،

وعسى أنها تصلح بصلاح العلماء، ولو بعد أمد بعيد - إن شاء الله تعالى- وقد

أورد الأستاذ الوجدي هذه المسألة في دائرة المعارف، وبسط القول في حكمها،

ولكني أحب أن أراها في صفحات المنار، بأظهر مجاليها والله الموفق.

(ج) (الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من

الناس) كما ورد في الحديث، وهذه المشتبهات هي التي يسأل عنها ويستفتى فيها.

وما جعل هذه المسألة من قبيل المشتبهات، إلا ما يعبرون عنه بروح العصر، وهو

انفعال نفوس المتعلمين على الطريقة الجديدة، ومن يقلدونهم بجمال مدنية أوروبا،

وتوجهها إلى تقليد الأوروبيين في كل ما يسهل التقليد فيه، وأي شيء أسهل من

التقليد في الزينة، والزخرف، واللهو، واللعب؟

نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير بعولتهن أو آبائهن،

وغيرهم من المحارم، فهل يشتبه بعد هذا في إبداء الزينة مع ما هو شر منها، وهو

الرقص مع الأجانب، ومطارحتهم الغرام، وتمثيل معاملتهم معاملة الأزواج تارة،

والأخدان تارة أخرى؟ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه،

والمساعدة لأهله، بل وفي إقرارهم عليه والسكوت عن إنكاره عليهم. ولا حاجة

إلى البحث في مفاسده فإنها بديهية. ولكن المفتونين بالتقليد يستحبون ترك هذه

الآداب الإسلامية، والحكم بأن المحافظة عليها ضارة بالمسلمين؛ لأنها تحرمهم من

منافع تمثيل القصص التي هي أنفع منها. وينقسم هؤلاء إلى قسمين:

(الأول) المارقون من الدين؛ الذين يودُّون لو يمرق منه سائر المسلمين،

فهؤلاء يهزؤون بمن يخالفهم في كل ما يسمونه تمدنًا، وإن كان مما يشكو منه

عقلاء وفلاسفة أئمتهم الأوروبيين، فهم كما قال الشاعر:

عُمي القلوب عموا عن كل فائدة

لأنهم كفروا بالله تقليدا

وقد كثر عددهم في الترك وهم يكثرون في مصر، ولا يمكن إقناع هؤلاء

بشيء من طريق الدين، فالحلال والحرام عندهم سيان، وإنما يمكن إقناع أذكيائهم

الذين يقدرون جنسية الدين قدرها؛ بأن كذا ضار بالأمة أو نافع لها في سياستها،

ومصالحها الاجتماعية.

(الثاني) المؤمنون بأصل الدين، الراغبون في التوفيق بينه وبين المدنية

الحديثة؛ بالتساهل في بعض أحكامه والتأويل لبعض نصوصه، كما فعل أهل

الكتب الدينية من كل أمة، في كل زمان يغلب عليه روح خاص، يسري في

الكبراء والخواص، وهؤلاء هم الذين يحاولون الموازنة، بين منافع (التياترو)

ومضاره التي يعترفون بأن أهمها هتك النساء المسلمات لصيانة الحجاب،

ومخالفتهن للنصوص الصريحة في الكتاب، وهؤلاء يسهل إقناعهم بالدلائل الدينية

والعقلية جميعًا.

هؤلاء هم الذين يقولون: إننا لا نرتاب في عصيان المرأة؛ بإبداء خفي زينتها

في المتمثَّل (ملهى التمثيل) ورقصها مع الرجال، ولا في عصيان من يغريها بذلك،

ولكن التمثيل الذي يوجد فيه العاصيات والعاصون لله عمل نافع في نفسه،

فالمعصية فيه قاصرة على أهله، ولا حرج على المؤمنين في شهوده؛ بنية الاستفادة

من الغرض والمقصد منه، دون نية الإسعاد على الوسيلة المحرمة، كما أنه لا

حرج على من يشاهد الصور والتماثيل، وإن كان صانعوها آثمين في عملهم.

ولعل هذا أقوى ما نبين به شبهتهم في شهود التمثيل، وما هو بالذي يقنع

الفقيه فيفتي بنفي الحرج؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض.

فكيف تباح المفسدة اليقينية لأجل مصلحة وهمية؟ إن أمكن إثبات حصرها في

التمثيل، فلا سبيل إلى إثبات معارضتها لمنع المسلمات من هتك حرمة الشرع

والخروج عن أدب الدين؛ إذ يمكن أن يكون هذا التمثيل المفيد من الرجال خاصة،

وإن كان لا بد من وجود النساء، فيمكن استخدام غير المسلمات فيه كما يفعلون في

مصر، وهؤلاء النساء غير مكلفات بفروع الشريعة عند الحنفية ومَنْ وافقهم، ولا

يحرم النظر إليهن بغير سوء، أو يمكن للنساء المسلمات فيه أن لا يبدين زينتهن إلا

ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان، وأن لا يرقصن مع الرجال، ولا يأتين بمنكر

آخر معهم، فالحرص على إتيانهن في المتمثل بكل ما يأتي به غير المسلمات، لا

يمكن أن يكون لأجل المصلحة المزعومة، التي بنينا هذا الإلزام على التسليم بها

جدلاً.

فثبت أن الغرض من ذلك تغذية الشهوة واتباع الهوى؛ تقليدًا للأوروبيين في

شيء فيه إثم لكم ولهم، ومنافع لهم لا لكم؛ لأنهم جروا في هذا التمثيل على جعل

لهوهم ولعبهم الذي لا خروج فيه عن عاداتهم وآدابهم المُقَومَة لشعوبهم، مشتملاً على

بعض الفوائد والعبر، بعد الارتقاء في العلوم والآداب، وسائر مقومات الاجتماع، فإن

كنتم مقلديهم ولا بد، فاعفونا من التحريف والتأويل في الدين، فما أنتم إلا عون عليه

لأولئك المارقين.

وأما المارقون من الدين من حيث هو دين، الراضون به من حيث هو رابطة

اجتماعية كالجنس، واللغة. فيقال لهم: إن تحويل النساء عن الآداب، والعادات

الإسلامية اتباعًا وتقليدًا لغير المسلمين مبدأ لقطع الرابطة الإسلامية، وهدم هذه

الجنسية، فليس ضررها محصورًا في عصيان بعض النساء لأمر الله، وجرأتهن

على انتهاك محارمه؛ إذ يستحيل أن لا تعصي امرأة من الأمة ربها قط، ولا شك

أن معصية بعضهن بما ذكر، لا تستلزم عصيان سائرهن به؛ إذ جعل كل امرأة

ممثلة محال، فلا خوف على الأمة من عصيان قليل من أفرادها، وإنما الخوف

عليها محصور في: الانتقال من طورإلى طور؛ بتأثير روح أجنبي غايته تحويل

المسلمين عن دينهم وجنسهم، وجذبهم إلى غيرهما بالإقناع والاستحسان، حتى

يكونوا غذاء له، ومادة تمده في نمائه وبقائه.

مَثَل المُقَلِد مع المُقَلَد: كَمَثَل الطفل مع الرجل، يحسب الطفل أن كل ما يفعله

الرجل مفيد له، إذا هو حاكاه فيه ساواه في فائدته منه، فإذا رآه يدخن حاول

التدخين مثله ما لم يمنعه مانع، وربما كان في التدخين هلاكه؛ إذ لا يحتمل بدنه من

سم الدخان ما يحتمله بدن الكبير المعتاد عليه، وما كل ما يفعله الرجل نافعًا له، وما

كل نافع له ينفع الطفل والدارج، ولا اليافع والشارخ، وقد تكون وسيلة المنفعة

الواحدة للرجل غير وسيلتها هي للطفل، فالتغذية منفعة ووسيلتها للطفل اللبن.

وللدارج الطعام اللطيف، وأما الرجل الأيِّد فإنه يستفيد من الطعام الكثيف من الغذاء

ما ربما يكون ممرضًا لمن دونه.

هكذا شأن الأمم الجاهلة الضعيفة مع الأمم العالمة القوية، تظن الأولى أن كل

ما تفعله الثانية مفيد لها فتحاول تقليدها فيه، غير شاعرة بأنها تقلد على غير بصيرة

تامة، ولا اكتناه للمقاصد البعيدة - وإنما الأمور بمقاصدها -، فتقع في الخسران

المبين من حيث ترجو الفلاح العظيم، كما نقلدهم الآن في الأزياء، والعادات التي

تزيد في ثروتهم، وتذهب بثروتنا. والآداب التي ترسخ بها جنسيتهم من حيث

تضعضع جنسيتنا، وأهم هذه العادات ما أدى إلى تركنا للدين، وإرخاء عنان التفرنج

للنساء في التهتك والخلاعة.

تدخل المرأة النصرانية المُتمثل ولا شعور عندها، بأنها قد أحدثت في جنسيتها

حدثًا، أو جاءت في دينها أمر فَرِيَّا. وأما المسلمة فإنها تشعر إذا فعلت ذلك، بأنها قد

انسلخت من قديم مرغوب عنه، ودخلت في جديد مرغوب فيه، ويسري هذا الشعور

منها وممن تربى مثل تربيتها إلى سائر نساء قومها، ورجالهم الذين يألفون عملها،

ويقرونه.

أنقلدهم بهذا؟ ولا نقلدهم في تربية النساء الدينية، التي نرى أقوى شعوبهم،

وأعزها، وأعلمها كالجرمانيين، والسكسونيين، هم أشد عناية بها ممن دونهم، بلغ

من رسوخ الشعور الديني عند نسائهم: أن المرأة التي يقذفها الفقر في مهواة البغاء،

تعلق صورة المسيح أو أمه في بيتها؛ لإحياء ذكرى الدين في قلبها، فإذا همت بالمنكر

فيه، حولت وجه الصورة إلى جهة الجدار استحياءً وأدبًا.

إذا صح أن هذا التياترو يفيد مسلمي روسيا في آدابهم وأخلاقهم، مثل ما يزعم

الإفرنج أنهم يستفيدون منه؛ فما هذه الفائدة المدعاة إلا من الأمور التي تسمى

تحسينية أو كمالية؛ أي: مما يطلب وراء الضروريات والحاجات التي لم يستكملوا

شيئًا منها. وقد دعاني إلى رؤية هذا التمثيل العربي بمصر بعض الفضلاء أول مقدمي

إليها، وبعد رؤيته سئلت عن فائدته. فقلت: إنني لم أر له فائدة وراء التسلية إلا

تمرين أسماع من يحضره من العوام على كلام عربي، هو وسط بين كلامهم وبين

العربية الفصحى. ثم رأيت أن بعض القصص لا تخلو من فائدة وعبرة.

أقول هذا وأنا أعلم أن المقلدين، يضيع عندهم البرهان إن خوطبوا به، فكيف

ولا سبيل إلى مخاطبتهم بما يفهمون. وقد كان يكون هذا مفيدًا، لو كان للمسلمين

زعماء عقلاء يدبرون أمرهم، ويديرون بالرأي والروية مصالحهم، ولكنهم أضحوا

فوضى، لا سراة لهم إلا أننا نرجو الخير من بعض العلماء وأصحاب الصحف.

فنسأل الله أن يوفقهم لخير الإرشاد، وينفع بهم العباد.

_________

ص: 38

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من جاوه

إسلام من دون البلوغ

(س2) السيد عقيل بن عثمان بن يحيى في (تيمور كونغ - جاوه) .

ما قولكم في إسلام من دون البلوغ من اللقطاء، وأولاد الكفار، وأهل الكتاب،

هل تجري عليه أحكام الشرع، كالمكلف في حياته وموته، أم ينفرد بأحكام تخصه؟

(ج) قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة - وفي

لفظ: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وفي رواية: على فطرة الإسلام، وفي

رواية زيادة: حتى يُعْرِبَ عنه لسانه - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)

الحديث رواه أحمد والشيخان واستدل به على أن الصغير لا يحكم عليه قبل التمييز

إلا بالإسلام الذي هو دين الفطرة، حتى يميز ويعبر عن فكره فإنه يحكم له بالملة التي

يختارها. وهو المراد برواية جابر عن أحمد: (حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب

عنه لسانه: فإما شاكرًا، وإما كفورًا) .

وينقل أهل الأثر صحة إسلام المميز عن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن شيبة

وعدمها عن الشافعي وزفر. واستدل على هذا بحديث (رُفِع القلم عن ثلاثة) ، وذكر

منهم الصبي حتى يبلغ. والحديث حسنه الترمذي، وفيه بحث وأجيب عنه: بأن

الإسلام يكتب له لا عليه، وإنما يدل الحديث على أنه يؤاخذ لا على أنه لا

يقبل إسلامه، كيف وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم يقبل إسلام الصغار لا

يرد أحدًا، ومن المشهور الذي لا يرده أحد من المختلفين في المسألة، إسلام علي - كرم الله وجهه - وهو دون البلوغ. قال عروة: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان

سنين، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير، لسبع أو ثمان سنين.

وقد يصح الاستدلال بالحديث على أن من دون البلوغ؛ لا تصح ردته عن الإسلام.

وهي رواية عن أحمد والمذهب: الأول؛ أي: أن المميز يصح إسلامه وردته.

وفي رواية ثالثة: لا يصح شيء منهما.

على أن المميز الذي في حجر والديه يكون تابعًا لهما في الأحكام الدنيوية،

وإن قلنا بصحة إسلامه على المختار، حتى يبلغ سن الرشد أو يخير، كما

أمر النبي- صلى الله عليه وسلم بتخيير أولاد أصحابه؛ الذين كانوا متهودين مع

بني النضير وكانوا أرادوا إكراههم على الإسلام، وفيهم نزل {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) راجع تفسير الآية في المجلد التاسع ص 161.

***

حمل الميت على عربة

(س3) ومنه: هل يجوز حمل الميت على عربة تجرها الخيل أو الرجال،

إذا قيل: إن هناك مصلحة كبعد القبر، أو خفة المؤنة. وهل فيه إزراء بالميت أو

تشبه غير محمود؟ المسألة ذات بال، فمن القوم من يشدد النكير، ومنهم من يقول

بالتيسير.

(ج) إنما جعل المسألة ذات بال التقاليد والعادات، ولا يهتم الناس من جميع

الأمم بشيء من العادات، كالعادات في تجهيز الموتى ودفنهم وزيارتهم، حتى

إن الذين ينسلخون من الأديان ويتركون العبادات وسائر التقليد، يظلون محافظين

على ما درج عليه أهل ملتهم؛ من التقاليد والعادات المتبعة في هذا الأمر.

لا دليل في الكتاب ولا في السنة على تحريم حمل الميت على عربة من غير

تشبه بغير المسلمين في دينهم؛ لا سيما إذا كان هناك مصلحة؛ لأن المراد بحمله

نقله وإيصاله إلى القبر ليدفن، وقد كانوا يحملون النعش في صدر الإسلام بالكيفية

المعروفة في زمنهم، ولم يقل الشارع: إن هذه الكيفية تعبدية، لا ترفعها المشقة

التي تجلب التيسير. ولو كانت الوسائل العادية التي كانوا يفعلونها واجبة على سبيل

التعبد بمجرد جريهم عليها، لوجب علينا أن لا نقاتل إلا بمثل سلاحهم، وإن سحقتنا

المدافع سحقًا، وأن لا نلبس إلا مثل ملابسهم، وإن سبقتنا الأمم في النشاط سبقًا،

أما التشبه المحظور في مثل هذا العمل، فهو ما يشتبه فيه المتشبه بالمتشبه به في

أمر من أمور دينه، ويكون ذلك عن قصد، وما أغنى المسلمين عن هذا؛ إذ

يحتاجون إلى نقل ميتهم على عربة، فالعربات التي ينقل عليها أهل الكتاب أمواتهم

لها شكل مخصوص مزين بالتماثيل، لا يحتاج المسلم إلى مثله قط. ولا نفتيه

باتخاذه، وإن لم يقصد التشبه بهم.

على أن هذا الشكل من عاداتهم لا من عباداتهم، والمسلمون لم يسلَموا في أكثر

البلاد من التشبه بهم، فيما هو عندهم من قبيل العبادة المحضة والتقاليد الدينية

الخالصة كحمل المباخر والقماقم أمام الجنازة، والترنم بالأناشيد الدينية. ويفعل

المسلمون هذه البدع التي سرت إليهم ممن جاورهم من أهل الكتاب في مصر

وغيرها لغير حاجة إليها، ويزعمون - إن اعترض عليهم بالتشبه -: أنها لا تشبه

فيها؛ لأن أناشيد أهل الكتاب هي غير أناشيدنا، وهم يضعون في مباخرهم البخور

ونحن نضع فيها الزهور، وأنت ترى أنه يمكن أن تكون مسافة البعد عن التشبه في

العربة أوسع؛ بأن تكون العربة التي تحمل عليها أموات المسلمين من قبيل عربات

النقل، ولكنها أنظف وأكثر ارتفاعًا، ويوضع التابوت عليها بالهيئة التي يحمل بها

على الأكتاف عادة، وبهذا ينتفي التشابه بالمرة، لكنه لا ينتفي في البدع المعتادة بما

ذكر آنفا؛ لأن الفرق بين أناشيدنا وأناشيدهم المتحدة في الظاهر، ليس بذي شأن،

لا سيما إذا كانوا يمدحون المسيح والحواريين، ويستعينون بهم، ويطلبون الرحمة

من الله للميت، فأكثر أناشيدنا المتبعة من هذا القبيل؛ لأنهم ينشدون قصيدة البردة

ونحوها، ومدح النبي وأصحابه من قبيل مدح المسيح وحواريه عليهم السلام

أجمعين.

وبهذا نعلم أن المسألة مسألة عادات وتقاليد، لا مسألة حرص على السنة، فإن

ما خالفوا فيه السنة، وأخذوا فيه بالبدعة لا حاجة إليه، وما حرصوا فيه على العادة قد

يحتاج إلى تركه لمصلحة، ونحن نتبع المصلحة في العادات، ومتبع المصلحة لا

يسمى متشبهًا بمن سبقه إليها، ولا مقلدًا له على أن تشبهنا بغيرنا في عادة له لم يحرم

علينا، ما لم يكن فيه مفسدة وضرر فله حينئذ حكمه.

***

رهن العقار والديار على مديري الكنائس والأديار

(س4) ومنه: ما قولكم فيمن يرهن عقاره أو دياره على مديري أموال

الكنائس والأديار؛ ويوفيهم ما اصطلح معهم عليه من ربح المال شهريًّا؛ ويَدَّعي أن

ذلك ليس من المعاملات الربوية. ما هو حكمه؟ هل يفسق بهذا الفعل أو هذا

الاعتقاد، أم له فيه فسحة أو مسامحة؟ وما يقال في مساهمة أو معاملة من هذا

ديدنه؟

إن أشبعتم الفصل والنقل في هذا الباب فهو من المهم في الدين؛ لتساهل أهل

هذه الجهة في الاحتياط والورع، بل تقادعهم في الحرام السحت والطغيان،

وتعاقدهم على الإثم والعدوان، وتقاعدهم عن المبرات والإحسان، فصارت معاملتهم

كلها فاسدة بما يدعونه صحيحًا، وقد عم الربا هذا القطر (جاوى) من غير مبالاة،

فعسى أن يحصل لهم بما تضعونه ارتداع، ولكم ثواب الدلالة على الهدى وإيضاح

الحق.

(ج) مديرو الكنائس والأديار كغيرهم من الناس في المعاملات المالية ما

خصهم الدين بأحكام في العقود والمعاوضات، فالرهن عندهم كالرهن عند غيرهم، إن

جائزًا في نفسه فجائز معهم، وإن ممنوعًا فممنوع. والدين قد حرم الربا؛ لما فيه من

قساوة القلب وترك التعاطف والمواساة للمحتاج، كما بيَّنا ذلك بالتفصيل في تفسير

آيات الربا، وبيَّنا ما هو الربا المحرم بالنص، فيراجع في المجلد التاسع.

واعلم أنك إذا عددت كل ما يقوله المصنفون في كتب الأحكام التي يسمونها فقهًا

من أمور، وحكمت بفسق التارك لبعض شروطهم في هذه المعاملات الدنيوية، فإنك

تقذف بالمسلمين في مأزق من الحرج، لا قبل لهم به ولا طاقة لهم باحتماله. إن الدين

حرم الربا والغش والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، والضرر والضرار،

وكل ما فيه إفساد للأخلاق وتدنيس للأرواح، وأوجب عليهم الوفاء بالعقود، وأقرهم

على عقودهم ما لم تحل حرامًا أو تحرم حلالاً، وأباح لهم بعد ذلك أن يتعاملوا كيف

أرادوا بالتراضي بينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا، وهم غير مكلفين بالعمل بآراء الفقهاء

واجتهادهم، التي لا دليل عليها في النص، إلا إذا أمر الحكام بالقضاء فيها، فحينئذ

تتبع لأجل أن تكون المعاملات نافذة تدينًا وتعبدًا، مثال ذلك: اشتراط الإيجاب

والقبول في البيع مثلاً لما يتعبدنا الله به، وقد قال به من قال؛ اجتهادًا لما رآه من

المصلحة فيه. فإذا تعارف الناس على نوع من المعاطاة وتراضوا به، جاز لهم ذلك

دينًا، ولكنهم يضطرون إلى التزام الإيجاب والقبول، إذا أرادوا أن يكون البيع نافذًا

عند حاكم يشترطه.

***

حُكم شرب البيرا وعصير الزبيب

(س 5و6) ومنه: ما هذا الشراب المسمى (بيرا) ؟ وما حكمه؟ وما مادة

أخذه؟ وهل يقال: إنه من الأجزاء الدوائية، أو غير المسكرات، أو يحل تناوله؟

وهل هو أنواع؟ وهل في عصير الزبيب ما يجوز شربه؟

(ج) البيرا هي (الجعة) ؛ أي: الشراب المأخوذ من ماء الشعير، ويقال:

إنها تخمر بحشيشة الدينار، وهي أنواع ولا شك في كونها من المسكرات، ولكن

يقال: إن القليل منها لا يسكر لا سيما بعد الاعتياد، والصحيح المختار عند

جماهير المسلمين ومنهم الشافعية الذين يقلدهم أهل بلادكم، أن ما أسكر كثيره فقليله

حرام وهي ليست من الأدوية، ولكنها تفيد في تحليل البول، وفي الحلال ما يغني

عنها في ذلك كالبقدونس. ومن مرض بحصر البول، ولم يجد محللاً غيرها، حل

له التداوي بها بقدر الحاجة.

وعلمت أنه يوجد نوع منها يستعمل للتحليل، لا يسكر قليله ولا كثيره ولكنه

قليل المكث؛ يشرب عقب صنعه، فإذا طال عليه الأمد أيامًا، فسد وذهبت فائدته.

وأما عصير الزبيب: فلا يحرم إلا إذا اختمر وصار مسكرًا، وقد عجبت من

هذا السؤال في غير شبهة، وما زال المسلمون مذ كانوا يشربون ماء الزبيب

وغيره منبوذًا ومعصورًا؛ ما لم يمكث زمنًا يتخمر فيه ويصير مسكرًا، وله في

مصر وغيرها مواضع يباع فيها هو وماء الخروب وعرق السوس وغير ذلك.

***

يانصيب

(س7) ومنه: (يا نصيب) لم نعرف ما هيته، ولم نر استئناسًا لتعاطيه

أو دليلاً على حله. فما هو؟ وما حكمه هو وأشباهه؟

(ج) هو نوع من أنواع القمار، كيفيته أن يضع امرؤ أو شركة

قراطيس صغيرة فيها أرقام تسمى نمرًا؛ أي: أعدادًا، يذكر في كل قرطاس منها ما

يدل على أن كذا من هذه النمر؛ يسحب في يوم كذا من شهر كذا وأن طائفة منها

(أي: النمر) يربح كذا قرشًا أو جنيهًا أو فرنكًا، وكذا منها يربح كذا؛ أي: أقل من

ذلك. ويبيعون هذه القراطيس بثمن قليل، بالنسبة إلى ما يُرجى من بعضها،

ويشتريها من يشتريها؛ آملاً أن تكون النمرة فيما يشتريه من النمر الرابحة، وإذًا

يكون أعطى قليلاً وأخذ كثيرًا. وكيفية السحب: أن توضع بطائق عليها أرقام تلك

النمر في وعاء مستدير فيه ثقب، يفتح بعد أن تخضخض البطائق في الوعاء؛ فينزل

منه بطاقة بعد أخرى أمام شهود يصيح صائحهم: ببيان نمرة كل بطاقة تنزل؛ إذ

تكون رابحة حتى إذا تم عدد ما كتب على القراطيس أنه ربح يكون السحب قد تم

وعرف الرابح من غيره. مثال ذلك: أن تكون النمر التي قدر لها الربح عشرة من

مائة، فالمعنى أن البطائق العشر التي تسقط أولاً هي التي تكون رابحة، ومن العادة

أن تكون الأولى أوفر سهمًا، وهذا العمل من القمار؛ أي: الميسر المحرم في الدين

كما هو معلوم.

_________

ص: 42

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

] نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [[*]

قال الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله تعالى -: (يستحيل بقاء الأزهر

على حاله: فإما أن يصلح، وإما أن يسقط) ، وكان - أكرم الله مثواه - باذلاً جُلَّ

عنايته في إصلاحه؛ حذرًا من سقوطه وحرمان المسلمين مما يرجى بإصلاحه، وكان

أقدر من عرفنا من الناس على هذا الإصلاح وسائله ومقاصده، وأحكمهم في تنفيذه،

إلا أنه أخطأ في أمر واحد لولاه لتم له ما أراد من الإصلاح؛ وهو فوق ما طلب منه

ذلك الأمر هو محاولة إصلاحه برضى كبراء شيوخه، واستعمالهم فيه بالإقناع

دون السلطة، إلا ما بدأ به من وضع قانون لإدارته، والسعي في إصدار إرادة من

الأمير به بناءً على قرار من مجلس النظار؛ لعلمه أن العمل بدون ذلك متعذر.

ولا محل لشرح ذلك هنا بل موضعه الجزء الأول من تاريخه الذي نعتني بطبعه

الآن، وإنما نريد أن نبين أنه كان يحاول تنفيذ هذا القانون بدون استعانة بسلطة

التنفيذ في البلد؛ بل بمجرد رضى شيخ الأزهر وأعضاء الإدارة.

كان الشيخ حسونة النواوي أول من ولي المشيخة، واختير للعمل بهذا القانون

مع المرحوم وسائر من اختيروا للإدارة، وكان المرحوم هو الذي اختاره، وسعى

لدى الأمير بتعيينه وكيلاً للشيخ الإنبابي المرحوم ثم أصيلاً، وقد استعان على هذا

ببعض أصدقائه كالمرحوم أمين باشا فكري. ذلك أنه كان يعتقد أن الشيخ حسونة

أمثل الشيوخ وأرجاهم لقبول الإصلاح، علمت ذلك منه أول مقدمي لمصر سنة

1315؛ إذ قلت له: سمعت من بعض مجاوري الأزهر الطرابلسيين أن شيوخ

الأزهر قد امتعضوا من جعل الشيخ حسونة شيخًا للأزهر؛ لأنهم لا يعدونه من كبار

العلماء.

فقال: إن كانوا يعنون بذلك أنه لا يقدر على إيراد الاحتمالات الكثيرة في مثل

عبارة جمع الجوامع؛ فهذا صحيح ولكن هذه الاحتمالات التي يوردونها ليست من

العلم في شيء، والشيخ حسونة أمثلهم. وقد دلت التجارب على صدق هذا القول-

ولا ننسى فضل المرحوم السيد علي الببلاوي الذي ظهر من فضله فوق ما كان يظن

فيه - فإن ما جرى على يد الشيخ حسونة أولاً وآخرًا، لم يجر على يد غيره

مثله.

نعم كان الشيخ حسونة يرجئ بعض ما يقترح المرحوم؛ عملاً بالتدريج عن

رأي واعتقاد، ولكنه لم يكن يقرر الشيء ولا ينفذه؛ كما فعل من جاء بعده ما عدا

الببلاوي، وقد تقلب على الأزهر في هذه المدة عدة شيوخ، كان أشهرهم في علوم

الأزهر أبعدهم عن الإصلاح. فالشيخ سليم البشري من أشهرهم لم يجر على يده

شيء، بل كان معارضًا لكل شيء فأرضى أمثاله من المحافظين على القديم،

وأغضب طلاب الجديد، والشيخ عبد الرحمن الشربيني أشهرهم على الإطلاق وهو

لم يفعل شيئا، ولم يرض طائفة من الطائفتين.

قلت للأستاذ الإمام مرة: إن قرار مجلس إدارة الأزهر هو كقرار كل مجلس

رسمي وكل محكمة يطالب القانون بتنفيذه ويعاقب على تركه، فلماذا لا تطالب

بتنفيذ هذه القرارات الكثيرة التي يمتنع شيخ الأزهر من تنفيذها بصفة رسمية؟

فلو فعلت هذا مرة واحدة؛ لنفذ كل قرار. فقال: إن هذا لا يكون إلا بسلطة

الحكومة، وإنني أرجو أن لا أدع الحكومة تتداخل في الأزهر ما دمت فيه، فكيف

أكون أنا الذي يدعوها إلى ذلك؟ فنحن ندعو الشيوخ بالإقناع معتصمين بالصبر.

وكان يكره أن يكون (للمعية) أصبع في الأزهر، كما يكره أن يكون

للحكومة يد فيه؛ لاعتقاده أن خير الإصلاح في العلم والدين؛ ما كان بعيدًا عن

السياسة فائضًا عن اقتناع العلماء به واستقلالهم فيه، ولكن (المعية) ولعت بالأزهر

ولوعًا كاد يكون عشقًا وغرامًا، ولما رأت أن تمتعها بهذا المعشوق لا يتم مع وجود

هذا العذول الرقيب، طفقت تناهضه حتى كان ما كان من أمر استقالته من إدارة

الأزهر، وكان ما كان بعده من الخلل في هذا المكان، حتى أدى ذلك إلى إقامة نائب

عن شيخه الشربيني، يدبر الأمر من دونه عدة أشهر ثم إلى استقالته، وإعادة الشيخ

حسونة إلى المشيخة وعلى يد الشيخ حسونة تم مشروع مدرسة القضاء الشرعي،

وصدر به الأمر العالي فصدق قول المرحوم فيه: إنه أمثلهم في حياته وبعد مماته.

مما كان ينويه من إصلاح الأزهر إنشاء قسم قضائي فيه يرشح فيه الطلاب

لمنصب القضاء. زاده حرصًا عليه اقتراح المستر سكوت - المستشار القضائي

الأول - إصلاح المحاكم الشرعية، وجواز جعل المتخرجين في مدرسة الحقوق

الخديوية قضاة شرعيين. لم أر الأستاذ مهتمًّا في مقاومة شيء كاهتمامه في حمل

الحكومة على الإغضاء عن جعل متخرجي الحقوق قضاة للشرع. سعى في ذلك.

وحاول إقناع كبراء الشيوخ بأن يسعوا معه، فلم ير منهم مبالاة فكان يتململ ويقول:

إذا نفذ هذا المشروع، قضي على الأزهر، وقد نجح سعيه فلم ينفذ.

وعندما حاولت الحكومة تعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية للمحكمة

الشرعية العليا بمصر، ولم يتم ذلك قوي عزمه، وظن أن الفرصة سنحت لإنشاء

القسم القضائي، وقد فتحنا كوة للبحث في ذلك؛ إذ أنشأنا مقالة في المنار الذي صدر

في ذي الحجة سنة 1316؛ نقترح فيه إنشاء هذا القسم القضائي، ولكن حال دون

إنشائه عزل الشيخ حسونة من المشيخة، وتولية الشيخ عبد الرحمن القطب في 24

المحرم سنة 1317، ولم يلبث هذا أن توفي بعد شهر من توليته، وولي الشيخ سليم

البشري الذي وقف في عهده سير الإصلاح، وكان من أمر (المعية) من أول عهده

إلى الآن ما أشرنا آنفًا إلى أنه انتهى باستقالة المصلح العظيم من إدارة الأزهر،

وبهذا انقطع رجاء الحكومة من إصلاح حال القضاة الشرعيين الذين ضجت منهم

الأمة طالبة بلسان الجمعية العمومية ولسان مجلس الشورى إصلاح المحاكم

الشرعية، فعهدت إليه بوضع مشروع إنشاء مدرسة قضائية، يتولى هو بنفسه

أمرها.

وكان هذا المشروع آخر عمل إصلاحي عمله؛ إذ تم في أوائل مرض

الموت. وما كان يؤلمه من هذا المشروع إلا انفصاله عن الأزهر، وقصارى ما

أمكنه من وصله به، جعله تحت نظر مفتي الديار المصرية دائما، وكان للحكومة

معه وقفة في هذه المسألة.

تبارك ناصر المخلصين، أحياء وميتين. فقد قضت حكمته عز وجل أن

يقوم بتنفيذ المشروع، ويجعله أشد صلة بالأزهر سعد باشا زغلول ناظر المعارف لهذا

العهد، ولا يجهل أحد من المصريين من هو سعد باشا من الأستاذ الأمام، وأن يكون

ذلك في عهد مشيخة الشيخ حسونة وبعد موافقته عليه، وجعله تحت نظره، وقد علم

القراء اعتقاد المرحوم في الشيخ حسونة، وما كان من نيته في أيام مشيخته الأولى،

وهاك نص القانون في ذلك:

مشروع أمر عال

بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي

نحن خديوي مصر:

بعد الاطلاع على قانون الجامع الأزهر الصادر به الأمر العالي بتاريخ 20 محرم سنة 1314 (أول يوليه سنة 1896) . نمرة 3

وبناء على ما عرضه علينا ناظر المعارف العمومية، وموافقة رأي مجلس

النظار، أمرنا بما هو آت:

المادة الأولى - يخصص قسم من الأزهر؛ لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء

ووكلاء دعاوي وكتبة للمحاكم الشرعية، ويسمى (مدرسة القضاء الشرعي) .

المادة الثانية - تكون هذه المدرسة باعتبار كونها قسمًا من الأزهر تحت

إشراف شيخه، وتكون لطلبتها من الامتيازات ما لغيرهم من الأزهريين، ويتولى

إدارتها ناظر، يعينه ناظر المعارف، ويكون لها محل مخصوص.

المادة الثالثة - تنقسم هذه المدرسة إلى قسمين: القسم الأول لتخريج كتبة للمحاكم الشرعية. والقسم الثاني لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء ووكلاء دعاوي للمحاكم الشرعية أيضًا.

القسم الأول

المادة الرابعة - يشترط فيمن يدخل القسم الأول من مدرسة القضاء الشرعي

ما يأتي:

أولاً - أن يكون طالب علم في الأزهر أو أحد ملحقاته مدة ثلاث سنين، وأن

يكون حميد السيرة.

ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم، سليمًا من العاهات.

ثالثًا - أن ينجح في امتحان الدخول في المواد الآتية:

(أ) حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل.

(ب) المطالعة في الكتب السهلة مع الصحة وفهم المعنى.

(ج) الإملاء.

(د) النحو.

(هـ) الفقه.

(و) مبادئ علم الحساب.

المادة الخامسة - يكون امتحان الدخول في هذا القسم تحت رياسة شيخ الجامع

الأزهر، أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من

عضوين ينتخبهما ناظر المعارف العمومية؛ بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في

المادة 18.

المادة السادسة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم خمس سنوات.

المادة السابعة - تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:

التفسير - الحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - التوثيقات الشرعية -

التوحيد - المنطق - آداب وأخلاق دينية - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف

والمجالس الحسبية ونظام القضاء والإدارة - اللغة العربية - الحساب والهندسة

- التاريخ والجغرافيا - الخط.

المادة الثامنة - الامتحان النهائي للقسم الأول: يكون تحت رياسة شيخ الجامع

الأزهر أو من ينيبه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من عضوين

ينتخبهما ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في المادة 18.

المادة التاسعة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الأول تحريريًّا

وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.

المادة العاشرة - تعطى لمن نجح في الامتحان النهائي لهذا القسم شهادة الأهلية

الأزهرية، ويكون أهلاً بموجبها لأن يعين كاتبًا بالمحاكم الشرعية؛ فضلاً عن

المزايا المقررة لها بحسب قانون الأزهر.

القسم الثاني

المادة الحادية عشرة - يشرط فيمن يدخل القسم الثاني من مدرسة القضاء

الشرعي ما يأتي:

أولاً - أن يكون حاملاً لشهادة القسم الأول.

ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم سليمًا من العاهات.

ثالثًا - أن يكون حميد السيرة؛ لم يسبق الحكم عليه بسبب أمر مخل بالشرف

وأن يكون عاملاً بأمور دينه.

المادة الثانية عشرة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم أربع سنين.

المادة الثالثة عشر- تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:

تفسير وحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - حكمة التشريع - الأصول على

مذهب أبي حنيفة - آداب البحث - توحيد - منطق - آداب وأخلاق دينية - أصول

القوانين - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية ونظام القضاء

والإدارة - محاضرات عامة ودراسة بعض القضايا ذات المبادئ الشرعية - اللغة

العربية - العلوم الرياضية - التاريخ - تقويم البلدان - الخواص التي أودعها الله

تعالى في الأجسام.

المادة الرابعة عشرة - الامتحان النهائي للقسم الثاني يكون تحت رياسة شيخ

الجامع الأزهر أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال،

وتتألف كل لجنة من خمسة أعضاء ينتخبون من علماء الأزهر وأرباب المعارف

الفنية بمعرفة ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة. المبينة في المادة 18.

المادة الخامسة عشرة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الثاني

تحريريًّا وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.

المادة السادسة عشرة - يصدر لمن نجح في الامتحان النهائي للقسم الثاني:

البيورلدي العالي - المنوه عنه في المادة 53 من قانون الأزهر- وزيادة عما

لحامله من المز يا، يصير أهلاً بموجبه لأن يكون وكيل دعاوى أو قاضيًا أو عضوًا

أو نائبًا بالمحاكم الشرعية.

أحكام عمومية

المادة السابعة عشرة - يكون للمدرسة لجنة إدارية تسمى لجنة الإدارة،

وتتألف من: شيخ الجامع الأزهر أو من ينوب عنه رئيسًا، ومن مفتي الديار

المصرية، ومن ناظر المدرسة، ومن عضوين آخرين ينتخبهما ناظر المعارف

بالاتفاق مع ناظر الحقانية.

المادة الثامنة عشرة - تختص لجنة الإدارة بما يأتي:

أولاً - تحرير اللائحة الداخلية.

ثانيًا - وضع برجرامات الدراسة وتوزيعها على السنين والأوقات المختلفة

وبيان درجات كل علم.

ثالثًا - انتخاب المدرسين بالمدرسة.

رابعًا -انتخاب أعضاء لجان الامتحانات المختلفة.

خامسًا - تقرير ما ينبغي صرفه من الإعانات الشهرية لطلبة القسم الأول

والثاني.

سادسًا - تقرير الأجازات التي تعطل فيها الدارسة.

سابعًا - ما يطلب منها ناظر المعارف النظر فيه.

قرارات هذه اللجنة تكون نافذة بعد تصديق ناظر المعارف عليها.

المادة التاسعة عشرة - مرتبات الموظفين والمدرسين بهذه المدرسة تقدر على

حسب أهمية وظائفهم، وأهمية الدروس التي يكلفون بإلقائها، ويعطى لطلبتها

إعانة شهرية.

المادة العشرون- لا يصح أن ينتخب مدرس في هذه المدرسة من غير علماء

الأزهر، إلا إذا كان مسلمًا حميد السيرة، ومشهودًا له بالبراعة في الفن المعين

لتدريسه.

المادة الحادية والعشرون - ناظر المدرسة هو المكلف بضبطها، ونظامها،

وتنفيذ قرارات لجنة الإدارة فيها.

أحكام وقتية

المادة الثانية والعشرون - إذا ظهر من نتيجة امتحان الدخول في القسم الأول

في أثناء السنوات الأربع الأولى التالية لافتتاح المدرسة؛ وجود طلبة مستعدين لتلقي

دروس أي سنة من السنة الأولى وعددهم كاف لتشكيل هذه السنة، جاز تشكيلها

وذلك بطريق الاستثناء، من أحكام المادة 6.

المادة الثالثة والعشرون - يجوز في أثناء السنوات الخمس الأولى التالية

لافتتاح المدرسة، أن يقبل بالقسم الثاني طلبة الأزهر ممن قضوا ثمان سنوات بدون

شهادة الأهلية أو العالمية إذا توفرت فيهم الشروط الأخرى المنصوصة في تلك

المادة وذلك استثناء من أحكام المادة (11) .

المادة الرابعة والعشرون -على ناظر المعارف تنفيذ هذا القانون.

(المنار)

عرض هذا المشروع على كبيري العلماء ورئيسهم الشيخ حسونة شيخ الأزهر

والشيخ بكر الصدفي مفتي الديار المصرية؛ قبل عرضه على الحكومة رسميًّا، وبعد

مذاكرة بينهما وبين ناظر المعارف وبعد تحوير اقترحاه، فأجابهما

الناظر إليه أقرَّا المشروع. ثم أرسل ناظر المعارف نسخة إلى (المعية) والنظار

ووصل بعضها إلى جريدة اللواء فنشرته. وبعد أيام من نشره لم يسمع له فيها

صوت انبرى بعض المدرسين في الأزهر إلى انتقاد بعض مواده في الجرائد،

وكتبوا إلى ناظر المعارف عريضة. ذهب وفد منهم فقدمها إليه في النظارة، فطلب

منهم أن يختاروا أربعة منهم للكلام معه، فوعد الأربعة بإجابتهم إلى ما طلبوا، وأهمه

عدم امتحان من يطلب الدخول في المدرسة من حاملي شهادة العالمية، وكان ذلك حتمًا

مقضيًّا في المشروع، ثم ذهبت طائفة أحرى من المجاورين النبهاء، فشكوا إلى

الناظر من اشتراط كون طالب الدخول حنفي المذهب، وكونه حاملاً لشهادة العالمية،

فوعدهم بإجابة طلبهم، فانقلبوا كسابقيهم مسرورين شاكرين، وقد وفى الناظر

بوعده للفريقين.

ثم إننا سمعنا بعد ذلك من جانب الأزهر دندنة وجمجمة، وقيل: إن بعض

المشايخ جاء من خارج القاهرة فطاف على كبار الشيوخ، واجتهد في إقناعهم

بمعارضة المشروع حتى إنه ظاهر بين المتدابرين؛ لأجل الاتفاق. وتحدث الناس

بأن صدور الأمر العالي بالمشروع سيرجأ، وذكرت الجرائد ما يدل على ذلك قبل

اجتماع مجلس النظار برياسة الأمير بيوم أو يومين. ولكن المشروع عرض على

المجلس وصدر الأمر العالي به، وقضى الله أمرًا كان مفعولاً، وانفتح لطلاب

العلوم الدينية باب النظام في التعليم، وباب علوم الكون وذلك فتح مبين، ومبدأ

تاريخ في المسلمين جديد.

ولا نزال نسمع عن الشيوخ أنباء الائتمار والدعوة إلى الاتفاق على طلب

نسخ بعض مواد هذا القانون؛ بناءً على المقرر في الأصول من جواز نسخ الحكم

المشروع قبل العمل به، وإذا جاز في الدين؛ فلأن يجوز في القوانين أولى.

والمشتغل منهم بالسياسة، والمتحرك فيهم بالسياسة يقول: إن الأمر العالي الذي

صدر بتعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية في المحكمة الشرعية العليا، قد

أوقف تنفيذه لما كان من معارضتهم. وإننى أخشى إن استرسلوا في هذا الغرور،

وغرهم بما يغريهم به الغرور، أن يلجئوا الحكومة إلى السيطرة عليهم، وتعيين

مدير للأزهر يدبر أمر التعليم وينفذ القانون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولكن

الرجاء في الشيخ حسونة - وقد حنكه الزمان وهو أعلم منهم بما كان - أن يتلافى

ذلك بالحكمة، ويرضي بحسن إدارته الحكومة والأمة.

_________

(*)(الصف: 13) .

ص: 48

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(وقائع الحرب)

نظم فارس أفندي الخوري أحد كتاب الشام وشعرائها المشهورين أربع

قصائد في تاريخ الحرب بين الروس واليابان؛ التي كان مبدأها أوائل فبراير

(شباط) سنة 1904 ونهايتها في أوائل سبتمبر (أيلول) سنة 1905. وأهداها

إلى صديقه الدكتور حسين أفندي حيدر فطبعها هذا طبعًا متقنًا بمطبعة الأخبار

بمصر، وهي تباع بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بقرشين صحيحين.

وإننا نورد بعض الفصول من هذه القصائد؛ لما فيها من الفائدة والعبرة في

ثوب الفكاهة والتسلية؛ ومنها يعلم القارئ درجة الناظم في القدرة على نظم

الوقائع وضبطها مع الإنصاف، والأمانة في النقل، وتحري تنبيه الذهن وإنارة

العقل، قال في القصيدة الأولى وهو الفصل 5، 6، 7 (وما في الهوامش من

تفسير بعض الكلم منقول من الأصل؛ إذ وضع في آخره جدول لذلك) .

(نكبة الروس بغرق الأميرال مكروف على الدارعة بتروبالسك في 13

نيسان سنة 1904)

سعى طوغو على مكروف يوم الـ

ـلقا، وأعد تدبيرًا مريرا

أقام له الفخاخ بكل وجه

يؤججه بها نارًا حرورا

وناصبه بعرض البحر حربًا

فكر عليه لا يخشى نكيرا

أثارته الشهامة عن عرين

ويأبى الليث إلا أن يثورا

فقاتله وناضله بقلب

يريه كل معتاص يسيرا

ولكن قلما عدد قليل

يفوز ويغلب العدد الكثيرا

تدفقت الكرات عليه حتى

رأى في الكر موقفه مبيرا [1]

فدار إلى الخليج يريد أمنًا

وكان بواره في أن يدورا

مضى يجتاز فوق فخاخ طوغو

كملاح يحاذر أن يجورا

إلى أن شقت الغمرات فاهًا

وأصعدت البلايا والسعيرا

فشاهد تحت أخمصه جحيمًا

وقد فتحت قذائفه حفيرا [2]

كأن جهنما وجدت سبيلاً

ومطوياتها لقيت نشورا

كأن هناك بركانًا تلظى

وأطلق في الفضا نارًا ونورا

كأن البحر غضبان عليهم

لما جروا على الدنيا شرورا

طوى بضميره حنقًا، فلما

دنا مكروف كاشفة الضميرا

هوت فيه السفينة في خليج

وكانت قبل تخترق البحورا

على مكروف، قد بكت البواكي

وأطلقت المدامع والشعورا

ففاض له بأرض الروس دمع

يؤلف لو يضم معًا غديرا

بمصرعه عزوم الروس خارت

وحق لها بذلك أن تخورا

رجاء القوم معقود عليه

ليدفع عنهم الخطب العسيرا

أميرهُمُ وعند أشد ضيق

يراد لكشفه فقدوا الأميرا

فكان بهديه قمرًا مضيئًا

وكان بكره أسد مزيرا [3]

وإن الروس لا يسلون عنه

ولو وجدوا له فيهم نظيرا

(6)

(الوقعة البرية الأولى على نهر يالو في 1 أيار سنة 1904)

أقام الروس في يالو قلاعًا

على تحصينها صرفوا شهورا

مسيل النهر دونهم فظنوا الـ

ـعدى لا يستطيعون العبورا

ومن خاض البحور إلى الأعادي

أيأبى أن يخوض لهم نهورا؟

مشى اليابان لا يخشون بؤسًا

وماء النهر يكتنف الصدورا

بجيش كل من فيه جريء

تمنى للأعادي أن يطيرا

وصبوا من مدافعهم كرات

يفلق عزم صدمتها الصخورا

لئن صبرت جيوش الروس شيئًا

فبعد هنيهة ولت ظهورا

وأبقت من ذخائرها نهابا

ومن أعتادها شيئًا كثيرا [4]

ولليابان في الآثار

شد

فكم قتلوا وكم أخذوا أسيرا

أتوا أَنْطُنْغَ بالرايات، حتى

على أسوارها خطرت خطيرا

لعمرك ليس يحمي السور مُدْنًا

إذا عدمت من التدبير سورا

فهل حدثت في أخبار دلني

وما شادوا بساحتها قصورا

وما قد أنفقوا عملاً ومالاً

على المرسى وكيف جرى أخيرا

أباحوها إلى اليابان غنمًا

وما نالوا على نصب أجورا

ولا عجب لمختال مدل

إذا أخلى الحواضر والثغورا

إذا غفل الرعاة عن المواشي

فمن ذا يدرأ الأسد الهصورا

وإن الخاشع اليقظان يكوي

بحد حسامه البطل الفخورا

كذلك من توخى البغي متنًا

تراه بدون معثرة عثورا

(7)

(وقعة كنشو)

وكنشو بالمدافع منعوها

وولوا حفظها جيشًا كبيرا

وظنوا أنها تبقى طويلاً

وتثبت في خفارتهم دهورا

أغار الخصم منقضًّا عليها

ونار الروس تكتسح المغيرا

إلى أن كوروا القتلى تلالاً

وأوشكت المعاقل أن تمورا [5]

رأوا أن العدو يموت طوعًا

ولا يأبى التقحم والكرورا

ومن رغب المنية وانتحاها

يبيت عدوه عنها نفورا

بدا للروس أن الفتح دان

يغذ فلا معين ولا مجيرا [6]

فولوا تاركين على الروابي

ذخائرهم لأعداهم نصيرا

لقد شمخوا على اليابان لما

رأوا جنديهم قزما زميرا [7]

وقالوا: سوف نطحنهم فتغدو

قبورهم الضواري والنسورا

ولكنا على يالو وكنشو

وجدنا القول بهتانًا وزورا

فعرض الجسم لا يغني فتيلاً

وطول القد لا يجدي نقيرا

ألست ترى الوليد وفيه حزم

يسوم الفيل خسفًا والبعيرا

رهام الطير تنخلع ارتياعًا

إذا رأت البواشق والصقورا

***

وقال في أول القصيد الثانية:

(الوقعة الكبرى في جوار مكدن في 15 شباط سنة 1905)

(1)

بمكدن كور بتكن لَمَّ جيشًا

وشاد له المعاقل والحصونا

رأى الأعتاد وافرة لديه

فظن مقامه حرزًا حصينا

ولكن رأي أوياما أراه

أمورًا خيبت تلك الظنونا

أقام له المراصد في الصياصي

وبين جفونه بث العيونا [8]

تخبره بما اصطنعوا دفاعًا

لحوزتهم وكيف يدبرونا

أعد الخطة المثلى ليوم

يروع حر أزمته السنينا

ورتب للهجوم عليه رأيًا

يكون لمجد رايته ضمينا

وهز جناحي الجيش التفافًا

على أعدائه المتحصنينا

رمى اليسرى بكوركي فندزو

فأكو ثم في نوجي اليمينا

(2)

ودارت للمنون رحى طحون

لها الأجساد قد صارت طحينا

وطبق كل ناحية دخان

كثيف أسود يعمي العيونا

وصوت القذف أوقر كل أذن

فإن سمعته تحسبه طنينا

فليس بمبصر أحد أخاه

وما هو سامع منه الأنينا

فصار الحزن من دك سهولاً

وصار السهل من جثث حزونا

لو انقشع الدخان بدت أمور

ترد المرد شيبًا منحنينا

جيوش كيفما العين استدارت

تراهم يظهرون ويختفونا

كأن الأرض بالأبطال حبلى

تدفعهم حيارى صارخينا

فلا حجر تراه العين إلا

يحجب خلفه منهم جنينا

كأن حجارها الصم استحالت

رجالاً بالحديد مسربلينا

فلا واد بتك الأرض إلا

ويخرج من معاطفه كمينا

كأن عقولهم ذهبت شعاعًا

فليس لهم بها ما يرهبونا

فكل فتى غدا أسدًا هصوراً

وموطئ رجله أضحى عرينا

***

(حديث عيسى بن هشام أو قرة من الزمن)

لمحمد بك المويلحي مقالات أدبية، كان ينشرها في جريدة مصباح

الشرق بأسلوب مقامات البديع والحريري، وراويتها عيسى بن هشام. وكان

يتمنى كثير ممن قرأها من محبي الأدب لو تجمع في كتاب فكان لهم ما تمنوا.

جمع الكاتب نفسه هذه المقالات ونقَّحها، وزاد فيها ونقص منها وطبعها، فكانت

كتابًا صفحاته 336، وقد قال في (إهداء الكتاب) ما يأتي:

(أَلِفَ المؤلفون والكُتَّاب أن يبدؤوا كتبهم عند نشرها بإهدائها إلى بعض

ذوي الشأن والفضل، والضعيف العاجز يهدي هذا الكتاب إلى كل من يقرأه من

أديب يجد فيه طرفًا من الأدب، وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة، وعالم

يبصر فيه شذرة من العلم، ولغوي يصادف فيه أثرًا من الفصاحة، وشاعر

يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال. وأهديه إلى أرواح المرحومين -

الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي

الشنقيطي والشاعر البارودي، أولئك الذين أنعم الله عليهم، وأولئك الذين تأدبت

بأدبهم وأخذت عنهم) اهـ. ونقول: إن هذا العبارة أبلغ ما في الكتاب من خيال

الشعر الفصيح، ولمحات الحكمة في التلويح، ثم ذكر صورة كتاب كانت عنده

من السيد جمال الدين بخطه وهي:

حبيبي الفاضل

تقلبك في شؤون الكمال يشرح الصدور الحرجة من حسراتها، وخوضك

في فنون الآداب يريح قلوبًا علقت بك آمالها، وليس بعد هذا الإرهاص إلا

الإعجاز ولك يومئذ التحدي، ولقد تمثلت اللطيفة الموسوية في مصر كرة

أخرى، وهذا توفيق من الله - تعالى -، فاشدد أزرها، وأبرم بما أوتيت من

الكياسة والحذق أمرها، حتى تكون كلمة الحق هي العليا، ولا تكن كالذين

غرتهم أنفسهم بباطل أهوائها، وساقتهم الظنون إلى مهواة شقائها، وحسبوا

أنهم يحسنون صنعًا، ويصلحون أمرًا، كن عونًا للحق ولو على نفسك، ولا

تقف في سيرك إلى الفضائل عند عجبك، لا نهاية للفضيلة ولا حد للكمال، ولا

موقف للعرفان، وأنت بغريزتك السامية أولى بها من غيرك والسلام.

...

...

...

جمال الدين الحسيني الأفغاني

***

(الدقائق في الحقائق)

ألف يعقوب أفندي جبرائيل مراد، مترجم وسكرتير إدارة دائرة

بوالينودرانبت باشا بكفر الدوار كتابًا سماه بهذا الاسم، أودع فيه أفكاره في

النفس والروح والقدرة الإلهية والأديان، وقد أهدى إلينا نسخة مطبوعة منه،

فنظرنا في بعض صفحاتها من أوائلها وأواخرها، فرأينا فيها فكرة حسنة،

سبق المؤلف فيها أناس؛ ولكنه لم يأت بها تقليداً بل هداه إليها النظر والفكر،

فتقبلها بقبول حسن، بل أدهشه حسنه وجمالها، وراعته عظمتها وجلالها،

فملكت قلبه وفتنت لبه، حتى ظن أنها إلهام، أفاضه عليه ذو الجلال والإكرام؛

لأن مثلها لا يأتي من الفطنة ولا يستفاد بالتعليم، كما قال عاشقات يوسف: {مَا

هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) ثم سرت منها عدوى الافتتان

بها، إلى الهيام بالعبارة المؤدية لها، فتخيل أن الإعجاز ينطوي في كلامه،

الناشر لإلهامه أو المعبر لأحلامه.

أما الفكرة الحسنة: فهي الجمع بين الكتب المنزلة - التوراة والزبور

والإنجيل والقرآن - وإزالة التفرق بين متبعيها. هذا ما دعا إليه الإسلام،

ونادى به القرآن، وهو وحي الرحمن، فكل من دعا إليه فقد دعا إلى المقصد

الحق، وإن أخطأ في الوسيلة، ولا بد لكل قول من تأثير في نفوس مستعدة

له فإذا كان في الناس من يعد هذا الكتاب، كما قال الأستاذ الإمام في بعض

الجرائد (نوبات عصبية) فلا بد أن يوجد فيهم، من يعده حكمة مرضية.

***

(القول المتين في الرد على المخالفين)

رسالة للشيخ قاسم بن سعيد الشماخي صاحب مجلة نبراس المشارقة

والمغاربة، طبعت في العام الماضي، وأهدانا نسخةً منها في هذه الأيام،

فرأينا في فاتحتها، أنه يَرُد فيها على مجلة اسمها الإسلام، يصدرها في بعض

الأحيان رجل اسمه الشيخ أحمد علي الشاذلي وكأن الشيخ قاسمًا ظن أن لهذه

المجلة شأنًا، أو لما تكتبه وقعًا، فعني بالرد عليها وما هي مما يرد عليه،

ولو عرف حقيقتها، لما بذل شيئًا من الزمن في قراءتها بله الرد عليها، وقد

ألقيت إلينا مرة نسخة منها. قيل لنا: إن فيها ردًّا علينا، فلم يحركنا ذلك إلى

تناولها، حرصًا على الوقت أن يضيع في قراءة شيء منها.

وقد وقع نظري في هذه الفاتحة على اسم المنار، فقرأت أسطراً من الكلام

الذي ذكر فيه، فإذا هو حكاية عن رجل هندي، أنكر على المنار إنكار التقليد،

والدعوة إلى معرفة الدين بالدليل. عرفت ذلك الهندي، وما هو بهندي، إن

هو إلا رجل مصري، كان يبيع الكتب في أسواق مصر وشوارعها، وملاهيها -

كما قيل لي- ثم طوحت به الطوائح إلى كلكته، وهناك عين إمامًا في مسجد، وما

هو ممن يحفل بقوله ولا باعتراضه، فعسى أن يسامحني الشماخي إذا لم أجبه إلى

قراءة ما كتبه في هذه الرسالة، وقد علمت أنه دافع عني، فأنا أشكر له ذلك،

وأسأل الله لي وله التوفيق.

***

(فتاة مصر)

قصة وضعها الدكتور يعقوب أفندي صروف، وجعلها ذيلاً للمقتطف في

مجلد سنة 1905، وهي قصة لا كالقصص، فإن أكثر القصص لغو وما عساه

يوجد فيها من الفائدة، فهو كما قيل في الخروب: درهم عسل في قنطار خشب،

وأما هذه القصة فكثيرة الفوائد، وترجع فوائدها إلى شيئين عظيمين: أحدهما

مالي، والآخر أدبي اجتماعي.

أما الأول: ففيه بيان مكانة المال في هذا العصر، وقوة رجاله وما لهم من السلطان في عالم السياسة، حتى صور الكاتب أن الحرب اليابانية الروسية،

ما أشعل نارها إلا رجال المال في أوروبا وفيه بيان تلاعب رجال بيوت المال

المعروفة (بالبورص) بالأغنياء، وابتزاز أموالهم بالمكايد، وفي ذلك عبرة

لأغنياء مصر المفتونين بالبورصة والقمارا، إن كانوا يعتبرون.

وأما الثاني: ففيه تصوير لمعاشرة الوجهاء: من المسلمين، والنصارى،

واليهود، بعضهم لبعض، ورغبة بعضهم في مصاهرة بعض. وجعل من رجال

القصة شيخًا عبر عنه بالشيخ أحمد والإمام أحمد كان يرجع إليه في المسائل التي

لها علاقة بالإسلام فيتكلم بالحكمة، وما يليق بالإسلام من حب الألفة والسلام، وقد

انتقد الناس من القصة بعض ما جاء في موضوع ألفة الطوائف، ورغبة بعضها في

مصاهرة بعض، زاعمًا أن فيه تمثيلاً لا ينطبق على الحقيقة، فإن صح هذا صحَّ

أن يجاب عنه بأن القصص النافعة قسمان: قسم يصور الواقع لمعرفة التاريخ.

وقسم يصور مع الواقع ما ينبغي أن يكون، كأنه كائن واقع، ترغيبًا فيه، أو إيلافًا

له، وتقريبًا منه.

وجملة القول: إن القصة مفيدة، وقد طبعها على حدتها إسحاق أفندي

صروف أحد محرري المقطم، وهي تطلب منه، وثمنها عشرة قروش.

***

(مرآت علوم)

مجلة تركية، تبحث في العلوم والفنون وشؤون الاجتماع، أنشأها فئة من

الكتاب الفضلاء، وعهدوا بإدارتها إلى أحدهم رفيق بك العظم الشهير،

والغرض الأول منها: إسعاد مسلمي روسيا في نهضتهم العلمية الجديدة،

فنحث قراء اللغة التركية العذبة في كل مكان على الاشتراك في هذه المجلة؛

وقيمته أربعون قرشًا في السنة، وهي قليلة جدًّا لا تفي بنفقات المجلة إلا إذا

كثر المشتركون كثرة عظيمة، وأحسنوا الأداء.

***

(سلام الإسلام)

رسالة للشيخ محمد نسيم العازار كتبها؛ لبيان ما تنويه دول أوروبا

وتحاوله من ابتلاع بلاد المسلمين وطريق تلافيه. أما الكاتب فهو من بيت

العازار من (أميون) بلدة أو قرية في الكورة من أعمال جبل لبنان، وهو بيت

معروف بالوجاهة، يدين بمذهب الأرثوذكس من مذاهب النصرانية، وقد دخل

الكاتب في الإسلام من عهد قريب دخولاً رسميًّا في محاكم مصر الشرعية،

وهو شاعر ناثر. فرأى أن يكون أول ما يخطه بعد الدخول في الإسلام،

إنهاض همة المسلمين بالنثر والنظم وبيان رأيه السياسي في أمرهم. وأما هذا

الرأي فهو ما قاله في رسالة (سلام الإسلام) بعد التمهيد له وهو (كما في ص

9، 10، 11 منها) :

(إن ما يجب عمله بسيط جدًّا، ولكنه في بساطته يضمن للإسلام عمومًا

القاطنين في أنحاء الأرض جميعها، والمستظلين تحت ظلال أعلام دولهم،

وألوية الدول الأجنبية راحتهم وسعادتهم، وذلك العمل هو:

أن يشكل الإسلام مجلسًا نيابيًّا، يؤلف من كافة المقاطعات الإسلامية

وغير الإسلامية، فينتخب له رجال سياسيون، قد خبروا الدهر فحنكهم، وعلماء

عاملون، لا توجلهم شدة، ولا تقعدهم معضلة، ولا تبيعهم غاية، وتجعل إقامة

هذا المجلس في مدينة، تطلق يديه لأعماله الجليلة، وتقرب المواصلات بينه

وبين أهل تلك المقاطعات النائب عنها، والمشكل من رجالها للذود عن مصالحهم

وحقوقهم، إبان الضرورة وفي كل حين ومكان.

أما فضائل هذا المجلس وأعماله فكثيرة وعظيمة الفائدة، وبما أن المقام لا

يسمح باستيعابها كلها، فأقتصر على ذكر الأخص منها الذي يبين الغاية

المقصودة من تشكيله، والنتيجة المطلوبة التي يؤتيها وبذلك كفاية لأولي

البصائر، الذين لا أخالهم يتقاعدون عن الاهتمام بتأليفه في أقرب وقت

ممكن؛ لكيلا تفوت الغاية منه، والفرصة السانحة له.

أولاً: إن تشكيل هذا المجلس من تلك الأجناس المختلفة، يجعل جامعة

حقيقية للأمم الإسلامية المرتبطة بالدين؛ ارتباط الأجسام بالأعصاب والشرايين.

ثانيًا: يجعل لتلك الأمم المتباعدة بالوطنية رابطة سياسية، تجمع أوطانهم

إلى وطن واحد، ومصالحهم المتباينة إلى مصلحة واحدة هي: الدفاع بالاشتراك

والتعاون عن راحة الإسلام، وسلامة كيانهم بين الأمم الحية الراقية.

ثالثًا: يحسن أخلاق الأفراد ومشاربهم، فيقوي الصالح فيهم، وينفي

الفاسد منهم، ويجلب النافع لهم، وبالجملة فإنه يجعلهم أمة عصر النشاط والقوة

والكمال.

رابعًا: يسهل سبل الرقي الأدبي والمادي بأنواعهما، ويمهد طرق

الإصلاح في الممالك الإسلامية المفتقرة للإصلاح الذي يرفع شأنها بين العالم،

ويؤيد كيانها أبدًا.

خامسًا: يدافع عن حقوق الأمم الخاضعة للدول الأجنبية أمام مجالسها العالية

في عواصم ممالكها إذا ما اهتضمت تلك الحقوق في مستعمرة من المستعمرات،

أو لحق بتلك الأمم شيء من الاستبداد فيها الذي لا تخلو منه مملكة من

الممالك المختلفة الأجناس والمذاهب.

سادسًا: يمهد سبيل انضمام الممالك الإسلامية المستقلة إلى بعضها،

واستظلالها في ظل أكبر مملكة بينها (ولا شك في أن أكبرها الدولة العثمانية

المشيدة الأركان) ، كما انضمت إلى بعضها الممالك الجرمانية والولايات

الأميركية وكثير غيرهما، وإذا كان ثم مانع لانضمامها فلا أقل من أن يؤلف

بينها، ويجمع كلمتها المتفرقة فتتضامن وتتكاتف على العمل معًا، وواحدة من

هاتين الحالتين كافية لجعل هذه الدول الضعيفة بإزاء الدول الأوروبية دولة

واحدة، عظيمة السلطان، منيعة الجانب، تقتسم السراء، وتشترك مع بعضها

في الضراء.

(المنار)

هذا الرأي ليس بدعًا من الآراء كما يحسب الكاتب، بل هو مسبوق

بتصوير أقرب إلى الحصول، ودعوة أجذب للقلوب وأخلب للعقول، واحتراس

يحول دون مناهضة الأعداء، وتؤمن معه مغاضبة الأودَّاء، وما صادف شيء

من ذلك استعدادًا، وما كان إلا هداية لبعض العقلاء ورشادًا، وإن أبعد

المسلمين عن قبول دعوة الاتحاد ملوكهم وأمراؤهم المفتونون بالاستبداد، فما

قال: إنه (بسيط جدًّا) هو مركب تركيبًا لا سبيل إلى تحليله، ولا استعداد

فيمن دعوا إليه لقبوله، وإن الأمل في إصلاح أكبر هؤلاء المستبدين لدولته،

وترقيته لشعبه ورعيته، قد أصبح من الأحلام والأماني، أو من قبيل العنقاء

والخل الوفي، فكيف نرجو من هؤلاء المخربين، عناية بإقامة بناء المسلمين.

إلا أنه لا سلامة للمسلمين من البلاء المؤصد، والعدو الواقف لهم في كل

مرصد، إلا في تربية الأمة الملية، وجمعها بين العلوم الكونية والروحية،

وأمانة التقليد وإحياء اللغة العربية، ثم اتفاق شعوبهم في كل قطر مع سائر

الشعوب، على حفظ الموجود واسترجاع المسلوب، وإلزام حكوماتهم بقوة

الاتحاد، على استبدال العدل بالاستبداد، مع إلقاء الطاعة إليها، وتأمينها من

تفضيل غيرها عليها، فإن هذا شرط لإمكان العمل الواجب، لا سيما في

الشعوب التي تحت سلطة الأجانب.

***

(كتاب السجل المصري)

يؤلف علي أفندي يوسف الكريدلي كتابًا بهذا الاسم، قال في وصفه: كتاب

دوري يصدر في منتصف كل شهر أفرنجي مشتملاً على كل ما حدث

في الشهر السابق، من الحوادث، والوقائع، وأعمال الحكومة من أوامر عالية،

ومنشورات، ولوائح، وتنقلات ورتب ونياشين ووفيات ومواليد، وأفراح

إلخ.

وقد صدر الجزء الأول من السنة الأولى وهو لشهر يناير، فكان هذا

الكتاب ملخص لأخبار الجرائد اليومية رسمية وغير رسمية، يغني عن حفظها

لأجل ما فيها من أخبار التاريخ، وقد بلغت صفحات هذا الجزء 184 صفحة

صغيرة، فإذا ضربناها في 12 كان الحاصل 2408، وذلك تاريخ لأخبار السنة

(جامع للذرة، وأذن الجرة) ، وقيمة الاشتراك فيه إلى سنة كاملة 60 قرشا،

وثمن كل جزء منه خمسة قروش على نسبة الاشتراك.

***

(الإحياء)

مجلة ذات ثمان صفحات أنشئت بالجزائر في غرة هذا العام (1325)

وهي تصدر في الشهر العربي مرتين، قيمة الاشتراك فيها أربعة فرنكات في

قطري الجزائر وتونس وفي جميع بلاد فرنسا وخمسة فرنكات في سائر

الممالك وقد كتب عليها (مجلة إسلامية أدبية إخبارية) ، ولكن لم يكتب عليها

اسم منشئها، ولا مديرها، ولا محررها، والعبرة عند المحققين بالقول لا بالقائل،

وإننا قد سررنا بهذه المجلة، ونسأل الله - تعالى - أن يجعلها نافعة للمسلمين،

وحجة على الذين يعتقدون في هذه البلاد وغيرها أن حكومة الجزائر تضرب بين

مسلمي الجزائر وبين العلم والدين حجبًا لا تخرق؛ إذ لا حجة أقوى من العمل

المشهود، والأمر الموجود، كما نبهنا على ذلك فيما مضى. وإننا نعتقد أنه لا

سبيل إلى التآلف بين فرنسا وبين المسلمين إلا هذه السبيل، فعسى الله أن يوفق

بين الحكام والمحكومين لهم بما فيه الخير، والمصلحة للإنسانية.

***

(شوراي عثماني)

جريدة سياسية أصدرتها في القاهرة جمعية الشورى العثمانية، التي

تكلمنا عنها في آخر المجلد التاسع؛ لتكون لسانها الناطق بدعوتها، ولذلك جعلتها

بأشهراللغات التي يعرفها قراء العثمانيين: وهي التركية والعربية في الأكثروالفرنسية

والأرمنية والرومية أحيانًا؛ أي: إن كل عدد منها يكتب بعدة لغات وقيمة الاشتراك

فيها عشرة فرنكات أو أربعون قرشًا مصريًّا، وقد رأيناها أقرب إلى الاعتدال من

سائر ما رأينا من جرائد أحرار الترك، وطلاب الإصلاح ونرجو أن تلتزم الاعتدال

دائماً؛ لأنه أقوى تأثيرًا وأكثر نصيرًا، هذا وإن الاشتراك في هذه الجريدة والسعي

في نشرها، يعد خدمة للدولة العلية، وللأمة العثمانية، لا لشخص معين؛ لأن ما

يأتي من الجريدة ينفق على الجمعية، وجميع أعضاء الجمعية ومحرري الجريدة

يبذلون المال مع الوقت في هذه السبيل.

***

(جريدة الأخبار)

كان الشيخ يوسف الخازن أنشأ منذ بضع سنين جريدة سياسية سماها

(الأخبار) ، نشرت زمنًا، وطويت زمنًا، وقد عاد صاحبها إلى نشرها في هذه

الأيام، فسر بذلك العارفون بمكانة الخازن في هذا العمل، واستعداده الغريزي الذي

ارتقت به التجارب؛ وحرية قلمه في التعبير عن رأيه، وقد اختار أن ينشرها في

الصباح، فنتمنى له أحسن الفوز والنجاح.

***

(الجريدة)

كنا ذكرنا في الجزء السادس من المجلد التاسع (ص 477) خبر تأسيس

شركة من وجهاء القطر؛ لإنشاء جريدة يومية، وأنهم اختاروا أن يسموها

(الجريدة) ، وأن بعض أصحاب الصحف أرجفوا بهذه الجريدة، وأساؤوا الظن

بها من حيث نحسنه، ويسرنا أن ننوه بصدورها في أول جزء من هذه السنة،

مصدقة لظننا، مكذبة لظنون المرجفين، يسرنا أن نذكر في جزء واحد خبر

ظهور مشروعين عظيمين، كان شيخنا الأستاذ الإمام روَّح الله روحه متوجهًا

إلى القيام بهما في آخر حياته، وقد علم القارئ أنهما مدرسة القضاة الشرعيين

وهذه (الجريدة) .

صدر العدد الأول منها في 24 المحرم (19 مارث) ، والشمس مقبلة

على برج الحمل، والأرض تستقبل الربيع الذي هو خير الفصول وأبهجها،

فكان ذلك فألاً بأن (الجريدة) ستكون عنوان حياة أدبية بهيجة، كما تتجدد

نشأة الحياة لكل حي في هذا الفصل البهيج. وقد اتفق اجتماع شهر المحرم

بشهر مارث لأول مرة من تاريخ الهجرة الشريفة في عام 13، وفيه أمر أبو

بكر بعد استشارة الصحابة - عليهم الرضوان - بجمع القرآن في مصحف واحد

وفي ذلك ما فيه من الحياة الدينية والدنيوية فهذا فأل آخر روحاني، أحسن من

ذلك الفأل الطبيعي. وإن شئت أن أزيدك فكاهة تاريخية أخرى، أذكرك بأن

عمرو بن العاص بنى مسجده وهو أول مسجد أسس في مصر في 23 المحرم،

وهو اليوم الذي وضعت فيه الجريدة في المطبعة، وإن صدرت في اليوم

الثاني.

افتتح العدد الأول من الجريدة بفاتحة بليغة لمديرها أحمد لطفي بك السيد

قال فيها:

ولقد اختلف القوم في أمر الجريدة منذ وضع مشروعها، وقدر بعضهم

لها مذهبًا ما لهم به من علم إلا اتباع الظن {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ

لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} (الحجرات: 5) ، وأجدر بحفظ الكرامة لكبراء رجال وطنهم،

وأدنى إلى عدم الفت في أعضاد الجامعة الوطنية، ولكنهم لا يصبرون.

ولو وقف الأمر عند غير العالمين لهان، ولكن بعض الكتاب أبى إلا أن

ينتقص الجريدة قبل ظهورها، فخلق لها نسبًا لا نعرفه؛ إذ يقول: إنها أنشئت

بوحي من جناب اللورد كرومر، أو أنها متحيزة إلى طرف دون آخر، على

أنها من كل ذلك براء.

ومهما يكن من الأمر، فإنا نمر بتلك المغامز مرًّا؛ إذ لا نقصد درء شبهة

ولا أن نقف بأحد موقفًا أظهرنا فيه على صاحبه، أخسرنا لوقته. وكل في

حل مما قال: هنيئًا مريئًا غير داء مخامر.

ثم ذكر اختلاف الناس في الرأي بطبعهم، ومكان الصحف من التذكير،

بما يكوِّن الرأي العام في البلاد الحديثة العهد بالرقي، ثم حاجة الصحف إلى

الرقابة عليها من الجماعة، وكون أولى الجماعة بذلك الشرفاء بالفضل، أو

علو النسب، كمؤسسي الجريدة ثم قال في هؤلاء المؤسسين:

ولما أنهم كثيرو العلاقات بالحكومة؛ بسبب مراكزهم واشتراكهم معها في

كثير من الأعمال العامة، وأن أمثالهم لا يجتمعون لعمل ذي أثر سياسي، إلا

أحاطت به الشكوك، رأوا أن يكاشفوا الحكومة في أمر المشروع؛ دفعًا لتلك

الشكوك المحتملة، وأخذًا بأقوم الطرق إلى نيل ما عساهم يطلبونه من تقويم

معوج أو إصلاح خطأ؛ لأن الحكومة قد تجيب الطلب مما يهون عليها، إذا

أقنعت بأنه لمصلحة الأمة.

وإن أسهل سبل الإقناع وآكدها في الوصول إلى الغرض: هو سبيل

المحاسنة التي لا تجَّر إلى ترك حق، أو تزيين باطل، وهي أجلى مظاهر

الاعتدال الذي يجب أن يكون دعامة العلاقات بين أمة وحكومة كلتاها في طور

التكون؛ لئلا يقع بينهما من الجفاء ما يحجب الحكومة من الوقوف على مواطن

المصلحة، وآمال الأمة، ويحجب الأمة عن الاطلاع على مقاصد الحكومة،

فتعطل بذلك أسباب الرقي التي يتوقف جلها على اشتراط الطرفين.

والجريدة أحسن الجرائد اليومية ورقًا وطبعًا، وألطفها شكلاً؛ لأنها وسط بين

كبراها وصغراها. وإن عبر بعضهم عنها بلفظ الصغر أو الأصغر وليست الكبرى

بأكثر منها مادة؛ لأن الجريدة ليس فيها الآن إعلانات، ثم إن اشتراكها أقل من

اشتراك صغراها وهو 120 قرشًا في السنة - لأهل القطر المصري،

و150 قرشًا لسائر الأقطار.

***

(جريدة العجائب)

أتمت هذه الجريدة سنتها الخامسة، ودخلت في السادسة، ويدل انتظامها

على أنها من الجرائد الحية الثابتة، فنتمنى لها طول البقاء، مع التوفيق لما يفيد

القراء.

_________

(1)

المبير: المهلك.

(2)

الحفير: القبر.

(3)

المزير: الشديد القلب والقوي النافذ.

(4)

أعتاد الحرب: أدواتها وعدتها.

(5)

المعاقل: الحصون ، وتمور: تهتز وتميل إلى السقوط.

(6)

يغذ: يسرع في السير.

(7)

القزم: الزمير القميء الصغير الجثة الذي لا غناء عنده.

(8)

الصياصي: جمع صيصية وهي مرتفعات الأرض والمشارق التي يمتنع بها.

ص: 61

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(علماء تونس ومصر وجامع الزيتونة والأزهر)

كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- يقول: إن مسلمي تونس سبقونا (يعني

أهل الأزهر) إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة

خيرًا مما عليه أهل الأزهر. ولما عاد من سفره الأخير إلى تونس، كتب مذكرات

عن حال التعليم فيها، وجاء ببعض الأوراق الرسمية في ذلك، وقال لي غير مرة:

إنني سأعطيك ما عندي في ذلك؛ لأجل أن تضم إليه رأيي وما تراه، وتنشره

بالمنار في مقال يكتب في المقابلة بين جامع الزيتونة والجامع الأزهر. وكنا نرى

أن هذا مما يجب في شرعة الإصلاح على التراخي؛ ولكن أَجَل المصلح لم يكن

على التراخي، بل عاجله الأجل قبل أن يفرغ من الأهم إلى هذا المهم.

* * *

(وزراء تونس من العلماء)

ذكرنا بهذا ما رأيناه في الجرائد التونسية الأخيرة من خبر وفاة الوزير الأكبر

وجعل وزير القلم والاستشارة خلفًا له، وجعل رئيس محكمتي الاستئناف من قبل

خلفًا لهذا. فالوزير المتوفى كان نابغًا في العلوم العربية والدينية؛ إذ تلقاها في

جامع الزيتونة. حتى قيل: إنه يعد من طبقة أهل الترجيح في الفقه، وكذلك وزير

القلم الجديد وهو الشيخ يوسف جعيط فهو من أشهر المتخرجين في ذلك الجامع، وقد

درس فيه ثم اشتغل بالسياسة، وتقلب في المناصب حتى صار اليوم وزير القلم

والاستشارة، فهذان الوزيران قد دخلا باب السياسة، وهما شيخان زيتونيان بكل

معنى الكلمة كما يقول الغربيون، حتى ارتقيا إلى منصة الوزارة. فهل يخطر في

بال أحد من مدرسي الأزهر، أن يستعد لمثل ذلك حتى يكون أهلاً للوزارة، أو لما

دونها من أعمال الحكومة؟ كلا إن أحدًا منهم لا يفكر في مثل هذا الاستعداد، ولو

فعله أحد منهم لكان خيرًا لهم، وأشد تثبيتًا في العلم والدين، فإن لم يولوا من تلك

الأعمال شيئًا؛ لأن نظام الحكومة المصرية لا يسمح بذلك، فربما كانوا أنفع لأمتهم

مع البعد عن الحكومة منهم، وهم لها عاملون.

ههنا يخطر في البال أن سعد باشا زغلول ناظر المعارف العمومية بمصر

كان أزهريًّا، وقد ارتقى في الحكومة إلى أعلى مرتبة في القضاء، ومنها إلى

الوزارة، ونرى الأزهريين يفاخرون به لا سيما بعد أن رأوا الأمة مبتهجة،

والجرائد متفقة على الثناء عليه عندما ولي الوزارة، والحكومة نفسها تكاد تمن

على الأمة باختياره، ولكن سعد باشا وزير المعارف بمصر، ليس عريقًا في

الأزهرية كعراقة الشيخ يوسف حعيط وزير القلم والاستشارة بتونس بالزيتونية،

فإن الشيخ يوسف تعلم في الزيتونة على الطريقة المألوفة راضيًا بها، حتى

صار مدرسًا، وقرأ المطول فيه درسًا وهو أعلى كتب البلاغة. والأزهريون

يقرؤون مختصره لأهل النهاية، ويمتحنونهم به.

وسعد زغلول صحب الأستاذ الإمام في أول المجاورة، وأدرك السيد

جمال الدين فأخذ عنهما، واعتقد في أول نشأته العلمية أن طريقة الأزهر في

التعليم رديئة، فتبع الحكيمين المصلحين، قبل أن تطبع الطريقة الأزهرية ملكتها

في نفسه، ولم يرض أن يجري عليها إلى منتهى شوطها، ويأخذ شهادة العالمية،

ويصير من المدرسين، بل أخرجه الأستاذ الإمام من الأزهر، عندما ولي هو رياسة

تحرير الجريدة الرسمية، وجعله محررًا معه، ثم كان من أمره ما هو معروف. ومنه

أنه تعلم اللغة الفرنسية وهو قاض، ودرس علم الحقوق بها حتى أدى الامتحان في

فرنسا، وأخذ منها شهادة (الليسانس) ، وهو يَعُدُّ مثل المطول والمختصر من

الكتب، التي تبعد عن البلاغة وتحول دون ملكتها. على أننا لا نقصد الآن إلى بيان

طريقة التعليم في الجامعين والمفاضلة بينهما. وإنما غرضنا من المقابلة والتنظير أمران:

(أحدهما) بيان أن العالم الديني إذا اختبر الأحوال العامة ونظر في طرق

نظام الحكومة التي تتولى أمره، وتناول شيئًا من العلوم الدنيوية يكون أقدر على

خدمة بلاده وأمته، سواء تقلد الأحكام الدنيوية أم لم يتقلدها، وقد كان كثير من

الناس يعتقدون أن الأستاذ لو ترك خدمة الحكومة ومنصب الإفتاء؛ لأمكنه أن

يعمل للأمة الإسلامية عامة، وللشعب المصري خاصة، أضعاف ما كان يعمل وهو

في الحكومة.

(وثانيهما) التنبيه إلى شيء من الفرق بين تونس ومصر، في حال علماء

الدين، ونسبتهم إلى الحكومة. وإليك ما هو أبلغ من ذلك.

* * *

(جمعية طلاب جامع الزيتونة)

ألف بعض النبهاء من جامع الزيتونة جمعية، يعلم غرضهم منها من الخطبة

الآتية وقد ساعدهم على ذلك بعض شيوخهم الفضلاء. وقد اجتمعوا في اليوم الرابع

من هذا الشهر (المحرم) في المدرسة الخلدونية؛ للمذاكرة في قانون الجمعية،

وحضر اجتماعهم هذا كثير من كبار المدرسين، وكانوا قد اختاروا أحد العلماء،

رئيسًا لعملهم في التأسيس ووضع القانون وهو الشيخ الطاهر النيفر، فافتتح الجلسة

بخطاب بليغ في الموضوع.

فقام الشيخ الخضري بن الحسين من العلماء الحاضرين، فشكر له وللتلاميذ

الذين نهضوا بهذا العمل النافع، ثم وزعت الرقاع لانتخاب رئيس وأعضاء

للجمعية، فأجمعت الآراء على اختيار الشيخ محمد رضوان للرياسة، وهو من العلماء

الفضلاء أصحاب الرأي والروية، كما يؤخذ من بعض الجرائد التونسية، وفيها أنه

متقن للغة الفرنسية، ولما يرتق طلاب الأزهر إلى مثل هذا العمل.

ورأينا في جريدة (لسان الأمة) التي صدرت حديثًا في تونس صورة

خطبة للشيخ محمد النخلي من كبار العلماء المشهورين، كان أعدها ليلقيها في هذا

الاجتماع، فحال دون ذلك مانع من الحضور، فأحببنا أن ننشر هذه الخطبة برمتها

لما لنا من الحرص على معرفة آراء علماء الدين في الأمور الاجتماعية، ولما فيها

من بيان حقيقة الجمعية، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) .

أيها السادة العلماء، والأفاضل الأعيان:

يحسن في هذا المقام أن أصدر هذا الخطاب الوجيز بكلمات حكمية، سارت

سير الأمثال: ليس أحد بأقل من أن يعين، ولا بأكبر من أن يعان. لا تكال الرجال

بالقفزان، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه لا بقميصه وطيلسانه.

ليس الحداثة في سن بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

وهي أمثال إذا تأملنا معانيها، وتدبرنا مغازيها، أكسبتنا حسن الظن، وكامل

الثقة بالمشروع، الذي هيأه لنا أبناؤكم بجامع الزيتونة، وقضت علينا أن نمد لهم يد

المشاركة والمساعدة؛ لإحداث مشروع، افتكره هؤلاء التلامذة؟ ولزمنا بمقتضى

قاعدة الإنصاف، التي هي أخص حلاكم التي تحليتم بها، أن نطهر ضمائرنا من

احتقار الأفكار، وأن نلاحظ المصالح بقطع النظر عن مصدرها، بعين ملؤها

التوقير والاعتبار، هذا وإن نخبة من ناشئة تلامذة الجامع الأعظم دار العلوم

الشرعية أدام الله عمرانه، وشيد بحسن عنايتكم أركانه، انبعث فيهم شعور شريف،

نهض بعزائمهم إلى الشروع في تأسيس جمعية تحت اسم (جمعية تلامذة جامع

الزيتونة) ، واقترحوا على العبد العاجز: أن ألقي خطابًا في الموضوع ونتائجه

وألحوا، وقالوا: إن المؤمن أخو المؤمن. وحقًّا ما قالوا.

أيها السادة: لا أقصد بهذا الخطاب أن أعلمكم ما تجهلون، أو أفيدكم ما أنتم

عنه غافلون، وإنما هو ذكرى لكم ببعض ما تعلمون، والذكرى تنفع المؤمنين،

وتؤكد يقين المستيقنين.

ليست ألسنة التقليد للغير هي التي تأمرنا بلم شعثنا، ومد يد الإعانة لبعضنا،

وإقامة التعارف مقام التناكر، والتواصل مكان التفاصل، حتى نحيي رابطة العلم أو

نمي هذا الشعور،، بل لسان الدين الحنيف الذي نزاول علومه آناء الليل وأطراف

النهار في هذه المدرسة الزاهرة هو الذي يأمرنا بذلك في عمومه وخصوصه،

وتصريحه وتلويحه، لمن سبر أغواره، واستقرأ آثاره، كيف ولا يعزب عنكم ذلك

وأنتم علماء الدين وحملة الشريعة المطهرة.

ألم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مجالس يحضرها أصحابه الكرام؟

وكانت تلك المجالس مجالس هدي وإرشاد، وتعميم نفع للعباد، وكانت أحيانًا مهبط

الوحي، فيها يتلقون تعاليم الدين، وعنها يصدرون فائزين، وكذلك خلفاؤه

الراشدون من بعده، وأذكركم بنادي عمر بن الخطاب فإنه كان غاصًّا بالشيوخ،

والكهول، والشبان. وكان يقول: لا يمنع أحدكم حداثة السن أن يبدي رأيه. في

هذه النوادي يتعارفون، ويتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، ويتعاونون على

البر والتقوى.

أما إذا أردنا أن نثبت ما للجمعيات من الفوائد العامة والخاصة بلسان التاريخ

فإن البحث في هذا الموضوع، يستدعي حشد مجلدات عما تأسس في العالم المتمدن

من الجمعيات، وما كان لها من النتائج على اختلاف الأحزاب والمقاصد، حتى

بالحاضرة التونسية. نحن - وإن كنا يجمعنا الجامع - متفرقون، وإن وجد بيننا

رحم علم - فنحن والحق يقال - متقاطعون، ولا أكلكم إلا للمشاهدة، وربما كانت

المشاهدة تفصح لكم عن الحالة الحاضرة أكثر مما أفصح لكم عنه هذا اليراع الكليل.

هل عملنا بالآية التي توجنا بها هذا الخطاب؟ هل عملنا بقوله تعالى: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) هل عملنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا

تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا) هل عملنا بقوله صلى الله

عليه وسلم: (ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟

أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلَفُون) ونحن أبناء العلم

الديني أحق بالعمل، هل نحن أبناء العلم نألف ونؤلف، وهو من صفات الأحبين

الأقربين؟ أظن أن المجافاة بلغت بيننا النهاية، والمنافرة من غير سبب شرعي

رمتنا إلى أبعد غاية.

فهلم بنا إلى العمل بديننا القويم. وأن يصافح أحدنا الآخر مصافحة الودود

المخلص الكريم، كما جاء ذلك في حديث صاحب الخلق العظيم.

عزم إخواننا في الدين، وأبناؤكم في تلقي علومه على إحداث هذه الجمعية

المباركة، ودعوكم للانتخاب والمشاركة في العمل. الغرض من هذه الجمعية:

أولاً - إيجاد روابط الألفة والوداد بين كل من أنبتته هذه المدرسة الإسلامية.

ثانيًا - تمكينهم من وسائل التعاون بينهم، على ما فيه مصلحتهم العامة

والخاصة.

ثالثًا - إسعاف فقراء التلامذة، وصونهم من معيشة الابتذال التي يعيشونها

اليوم بفضل الإهمال والغفلة.

وأنتم تعلمون أن قسمًا عظيمًا من تلامذة جامع الزيتونة، كادوا يتكففون،

وأنهم لا يجدون القوت الضروري إلا بطرق ممتهنة، لا ترضاها معزة العلم بل

والكرامة الإنسانية، وإن قسمًا مهمًّا منهم يسكن حيث مرابط الحيوانات المعدة لذلك؛

لأن عدد المدارس التونسية - لتكاثر التلامذة - صار غير كاف لإيوائهم أجمعين،

وسيكون هذا الموضوع أهم المواضيع التي تداول الجمعية البحث فيها، وتطرق

أبواب المساعدة من همم الرجال لنوالها.

هذا أنموذج من مقاصد هذه الجمعية، وهي - وايم الله- مقاصد سامية محتاجة

إلى همم الرجال وبذل المال؛ لأنه قوام الأعمال، فمن ساعد فقد امتثل لأوامر إنفاق

المال في سبيل الله، واستحق رضاء الله وثناء الناس.

الناس خصوصًا الجمعيات الأخر يَزِنُون هممنا، ويقدرون عزائمنا، بما يكون

من نتيجة هذا المشروع، وما يحبطه من الفشل والخيبة - لا قدر الله - وهم

ينتظرون ما يكون في مشروع هيأه أمثالكم، فهل يقارنه النشاط فالعمل فالنجاح، أو

يقذفه اليأس في مهواة السقوط؟ فإن كانت الأخرى - لا قدر الله - حققتم ما خامر

بعض الأفكار، من أن حملة العلم الديني جهال بالحياة الاجتماعية، بعداء بمراحل

عن تأسيس المشروعات الخيرية - لا قدر الله وأستغفر الله -.

أنتم أكثر من كل جمعية بتونس وأوفر عددًا، فهل أنتم أقوى عددًا، وأعلى

همة، وأقوى استعدادا، وأسمى مدارك ونظرًا للمصالح؟

منكم أهل المجلس العلي الشرعي - أيده الله - ومنكم مدرسو جامع الزيتونة

الأعلام، ومنكم قضاة الإيالة ومفاتيها، ومنكم مدرسوها، وكثير من عدولها، ومنكم

كثير من متوظفي الوزارة، وجمعية الأوقاف، وإدارة المال، فلن تفشلوا من قلة

متى كان هؤلاء الجماهير مساعدين على تحسين حال إخوانهم التلامذة متظارفين

والأمل وطيد في بقية إخوانكم التونسيين، ولا ينقصنا إلا الاجتماع والتعاضد،

والسعي والعمل، وهي نتائج الهمم السامية، والغيرة المتوقدة، والإنسانية الكاملة،

وأنتم أحق بها وأهلها، ونعوذ بالله أن يصدق علينا قول الشاعر:

ما أكثر الناس، لا بل ما أقلهم

والله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على كثير، ولكن لا أرى أحدا

ونرجو الله الذي لا يخيب الآمال، ولا يمنع من قرع بيد السعي أبواب

الاستكمال، أن تكون جمعيتكم مصداقًا لقول الشاعر:

ولله قوم، كلما جئت زائرًا

وجدت قلوبًا كلها ملئت حلما

إذا اجتمعوا، جاؤوا بكل فضيلة

ويزداد بعض القوم من بعضهم علما

(المنار)

نحيي الجمعية الزيتونية المباركة، ونحمد الله أن وجد في علمائنا مثل هذا

الخطيب، وعسى أن يكون لطلاب الأزهر جمعية مثلها.

* * *

(مشيخة الأزهر)

قد علم مما كتبناه في باب التربية والتعليم عن الأزهر وهذه المدرسة،

أن الشيخ حسونة النواوي الشهير عين شيخًا للأزهر بعد إقالة الشيخ عبد الرحمن

الشربيني من المشيخة وإننا نعتقد أنه أمثل كبراء الشيوخ الذين يرشحون لإدارة

الأزهر ولعله لم يتول هذه المشيخة أحد في هذا العصر وكان مرضيًّا عند الأزهريين

وغيرهم إلا الشيخ حسونة في هذه الكرة فنسأل الله تعالى أن يجعل التوفيق رائده

وقائده في إدارة هذا المكان، الذي صار أمره شغلاً شاغلاً للمسلمين في هذا الزمان،

وهنا نصرّح بأننا لا نريد بمدح الشيخ حسونة تعريضًا بغيره ولا نعني بما سبق عن

الأستاذين الكبيرين البشري والشربيني إلا أنهما شديدا المحافظة على القديم وهذا

يوجد في كل أمة وزمن فكلامنا بيان للواقع مع احترام الشيخين.

* * *

(مدرسة القضاة بين الأزهر والمعارف)

قد علم القراء مما كتبنا عن الأزهر وهذه المدرسة أن أهل الأزهر في أمر

مريج من هذه المدرسة، وقد رأينا بعد ذلك في جريدة الحكومة الرسمية صورة

كتاب أرسله ناظر المعارف إلى شيخ الأزهر، وصورة كتاب من شيخ الأزهر إلى

الناظر جوابًا عنه، فرأينا أن ننقلهما في المنار حاذفين كلمات الخطاب الرسمية

وهما:

الكتاب الأول: من ناظر المعارف

تبين لي من المكالمة الأخيرة مع فضيلتكم، أن هناك أوهامًا بشأن لائحة

مدرسة القضاء الشرعي؛ ولذلك أردت أن أكتب لفضيلتكم هذا الخطاب؛ إزالة لتلك

الأوهام.

إن الغرض من هذه المدرسة هو تخريج قضاة متصفين بالأوصاف الحميدة،

جامعين بين المعارف الدينية الصحيحة والمعارف الدنيوية، والقصد من ربطها

بالأزهر ليس هو التداخل في شؤونه بأي وجه من الوجوه، وإنما الغرض منه أن

تستظل هذه المدرسة بظل الأزهر الشريف، وأن يكون للمتخرجين منها بواسطة

انتسابهم إليه منزلة في قلوب العامة والخاصة، حتى لا يجد المتقاضون أمامهم حرجًا

في صدورهم من قضائهم.

إن القصد من الامتيازات التي نصت المادة الثانية على أنها تكون لطلبة هذه

المدرسة إنما هي الامتيازات المعنوية، لا الحقوق في الجرايات والمرتبات، فإن

طلبة هذه المدرسة، لا يكون لهم شيء منها بمقتضى هذه اللائحة بعد التحاقهم

بالمدرسة، وعلى فرض أن يكون لواحد منهم أو أكثر حق في شيء منها؛ بسبب

شرط واقف أو غيره. فإن نظارة المعارف لا دخل لها فيه، وإنما الشأن يرجع فيه

إلى مشيخة الأزهر دون سواها.

إنه لا صحة مطلقًا لما قيل من أن المراد بأصول القوانين الواردة في المادة

الثالثة عشرة هو القانون الروماني، وإنما المراد بها مقدمة القوانين التي تشتمل على:

تعريف القوانين، وكيفية صدورها، ووقت وجوب العمل بها، والحوادث التي

تنطبق هي عليها، وما أشبه ذلك من المبادئ الأولية للقوانين الوضعية، التي لا

يستغني واحد من القضاة الشرعيين وغيرهم عن معرفتها.

إن لسيادتكم السلطة التامة في إبطال تدريس كل علم؛ لم يكن واردًا في

اللائحة المذكورة، وكل درس يكون موضوعه القانون الروماني، ولسيادتكم الرأي

الأعلى في نشر خطابي هذا على الأزهريين، إذا وجدتم في نشره فائدة للحقيقة.

...

...

...

...

... ناظر المعارف

الكتاب الثاني من شيخ الأزهر

وصلني مكتوب سعادتكم بتاريخ 22 محرم سنة 1325، مسفرًا عن حسن

نواياكم فيما جاء بمشروع مدرسة القضاء، مما أنف منه بعض الناظرين، وأزلتم

بما أبنتموه -لله الحمد- الشبه التي كان يظن أنها تحتك بالأزهر احتكاك العادين،

فشكر الله صنيعكم، وأحسن بيانكم، وجزاكم عن الأمة خيرًا. وعهدي وآمال الناس -

ولا سيما الأزهريين - بناظر المعارف أن يكون أول قائم بما يجب عليه، أمام

أمته وأمام أئمة الدين، وأن يسود في وقته كل معهد من معاهد العلم ولا سيما معهد

الأزهر، الذي له اليد البيضاء على الأفاضل من أكابر المسلمين. وفي الختام أسأل

الله -سبحانه- أن يوفقنا وإياكم لصالح العمل. 24 محرم سنة 1325 خادم العلم

والفقراء بالأزهر حسونة النواوي.

***

(الجريدة واللواء)

زعمت جريدة اللواء: أن (الجريدة) ترى المحاسنة المطلقة في مطالبة

الحكومة بمصلحة الأمة، وقامت تعنفها على هذا الإطلاق وتنكره عليها، محتجة بأن

حكومة مصر الآن حكومة أجنبية، تظلم الأمة وتحقرها

والجريدة ما قالت

بمحاسنة مطلقة كما زعم صاحب جريدة اللواء، وإنما قالت بمحاسنة مقيدة بكونها لا

تجرّ إلى ترك حق، أو تزيين باطل. فهل نقول: إن صاحب جريدة اللواء لا يفرق

بين المطلق والمقيد. أم نقول: إنه لا يتحامى أن يسمي المقيد مطلقًا عامدًا متعمدًا؟

وإذا كان الثاني هو الصواب، فهل يظن أن قرَّاء جريدته، لا يفهمون هذا الخطأ

الصريح؛ لأنهم من العوام الجاهلين، أم يعتقد أنه يرضيهم كل ما يقول؛ لأنهم من

المبطلين، أم هو لا يبالي باعتقادهم بخطئه وإن كانوا مصيبين؟

***

(تقريظ واقتراح من عالم شاب يحب الإصلاح)

بسم الله الرحمن الرحيم

هنيئًا لك أيها المنار الأغر، فلقد قضيت تسع سنين، أخرجت فيها الأمة من

الظلمات، وهديتها إلى سبيل الرشاد؛ الذي لا عوج فيه ولا أَمْتَا، وخدمت الملة

الحنيفية بما يخلده لك التاريخ، ويسطره قلم الثناء {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) .

والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها لقد وضح بك السبيل، واهتدت بك أفكار

بعد أن هامت في أودية الأضاليل، جعلت أكبر همتك البحث عما يحيي عظام أمتك

وهي رَمِيم، واعتمدت على مبدع الكائنات، حتى أنتج سعيك {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ

فَهُوَ حَسْبُه} (الطلاق: 3) ، ولقد جاهدت في سبيل الله حتى هزمت أعداءه،

ونصرت أولياءه، وهل {يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ

وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 95) أفلم تدفع من الشبه عن الإسلام؛ ما قد

يدع اللبيب في حيرة ما له منها من محيص، فشكرًا لك بعد شكر، وثناءً بعد ثناء،

على مديرك الرجل الوحيد الذي نصبك لتهدي الساري في الليل البهيم، ويرشده إلى

الصراط المستقيم، ورضي عن والده الذي استنار به فكره، وانشرح لتلقي المبادي

الشريفة صدره.

ولك الهناء بالعام الجديد الذي سترينا فيه - إن شاء الله - ما يذهلنا عن الماضي

ونود لو يحليك حضرة مديرك بشيء من التاريخ مما فيه عظة وعبرة، ويضمنك

بنبذ مما وعد به؛ من تخطيط فصل لمقاومة تيار البدع، والخرافات، والتقاليد،

والعادات، فإن آخر ما رأيناه في هذا الموضوع ما نشر في الجزء الثاني من المجلد

(التاسع) .

ولسنا نرجو لك من الله إلا أن يطيل عمرك، ويتم نعمته عليك - وهذا دعاء

للبَرية شامل -.

***

(المنار)

نشرنا هذا؛ لاعتقادنا بأن كاتبه عبر عن شعوره وفكره في حب الإصلاح،

وإن نشره مما يزيد في هذا الشعور قوة، والفكر رسوخًا، ولما فيه من الاقتراح،

فأما اقتراح التاريخ فقد اقترحه آخرون بالقول، ولعلنا بعد إتمام تاريخ الأستاذ الإمام

نكتب في تاريخ الإسلام، وأما باب البدع والخرافات فسنعود إليه كرة بعد أخرى.

***

(تاريخ الأستاذ الإمام)

قد تم طبع جزء التأبين والرثاء من تاريخ الأستاذ الإمام، وهو الذي كتبنا في

المجلد الثامن من المنار (ص640) ، أننا شرعنا في طبعه قبل جزئي الترجمة

والمنشآت، وقلنا فيه: إنه متى تم طبعه، نجعل لكل مشترك في المنار الحق في

أخذ نسخة منه مجانًا، إذا كان قد أدى قيمة الاشتراك تامة. ومعنى قولنا: (له

الحق) أنه إذا طلبه يعطاه لا أنه يرسل إليه. ومعنى تأدية القيمة تامة: أن لا

يكون أداها ناقصة كعمال البريد. إذًا كل من أدى قيمة الاشتراك في المنار في هذه

السنة تامة؛ أي: (60 قرشًا) ، فله الحق بأن يحضر أو يرسل من شاء؛ ليأخذ

نسخة من الجزء الذي تم.

وهذا الجزء كتاب مؤلف من 424 صفحة من كلام أشهر الكتاب والشعراء في

مصر والشام وتونس، وغيرها من الأقطار الغربية والشرقية؛ مع تراجم

أقوال الجرائد الفارسية والتركية والإفرنجية، وكل ذلك في موضوع واحد

وسنعين ثمنه في جزء آخر، ونعلن ذلك في الجرائد.

أما جزء منشآت الإمام، فقد طبع منه نحو الجزء الذي تم وظهر لنا آثار

غير التي كنا نعرفها، وما بقي دون ما طبع، ونحن الآن شارعون في إتمامه وفي

طبع جزء الترجمة.

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهوى والهدى

أو اللذة والمنفعة [*]

يولد الحيوان ذا وجدانين متضادين؛ وجدان اللذة بما يلائمه، ووجدان الألم

مما لا يلائمه، وإحساس الطبيعة الحيوانية بالحاجة إلى اللذيذ يسمى (شهوة) ،

وهو يطلبه قبل وجوده، ويلتذ به بعد أن يصيبه. فالشهوة: هي الشعور الأول

للحيوان، واللذة: هي الشعور الثاني والمطلب الأول. لا فصل في هذا بين

الحيوان الأعجم والناطق؛ على أن الإنسان لا يولد ناطقًا، بل يولد أشد عجمة

وأضعف شعورًا من سائر الحيوانات.

يتعلم وليد الإنسان النطق بعد ولادته بأشهر؛ فيعبر عن شعوره وإدراكه،

ويفهم من غيره بعض ما يعبر به عما في نفسه، ثم يتولد فيه الميل إلى البحث

ومعرفة المجهولات، ثم الفكر فيما تدركه مشاعره، والتذكر، والتخيل، والقياس،

والاستنتاج؛ وهي اللذة المعنوية؛ تسوقه إليها شهوة عقلية، ينفرد بالترقي فيها دون

الحيوان الأعجم، وبذلك يميز بين النافع والضار، ويحكم بوجوب طلب الأول وإن

كان مُؤلِمًا كالدواء، واتقاء الثاني وإن كان مشتهى ومستلذًّا كالخمر والحشيش،

وكالإسراف في اللذات النافعة. كما يميز بين الحق والباطل في الاعتقاد، ويرجح

الحق على الباطل.

يرتقي الإنسان في التمييز بين النافع والضار، والحق والباطل بالتدريج،

وربما بلغ أشده واستوى، وهو يرى بعض النافع ضارًّا، وبعض الباطل حقًّا، ولا

يحيط أحد من الناس خبرًا بالمنافع والحقائق ولو لشخصه، فما قولكم -دام فضلكم-

في الباحث عن المنافع والمضار لأمة عظيمة أو دولة كبيرة.

ترتقي معرفة الناس بالمنافع والمضار بارتقاء التربية الصالحة، والتعليم النافع

وإنك لتجد أكثر المترقين في تربيتهم وتعليمهم يؤثرون اللذة على المنفعة

في كثير من شؤونهم وأحوالهم، فما بالكم بمن دونهم في ارتقائهم.

إيثار اللذة على المنفعة، والباطل على الحق: هو اتباع الهوى، وعكسه هو

اتباع الهدى، ولو كان كل لذيذ ضارًّا، أو كل نافع مؤلمًا؛ لهلك الناس باستحباب

الهوى على الهدى، ولكن أكثر اللذائذ نافعة، وأكثر المؤلمات ضارة، والحق

والخير محببان إلى النفوس البشرية طبعًا، وإنما يكرهها الجاهل بهما، أو من تربي

على ضدهما، حتى ملك الباطل أو الشر وجدانه، واستحوذ على نفسه استحواذًا.

فليس في فطرة الإنسان غريزة تصده عن الكمال في اتباع الهدى باختيار الحق

على الباطل، وترجيح النافع على الضار، فتبارك الفاطر الحكيم.

يحب الطفل اللعب وهو نافع له، وقد يؤثره في سن التمييز على التعليم،

فيظن الجاهل أن هذا إيثار للذة على المنفعة؛ لفساد في الفطرة، وما هو بفساد في

الفطرة، وإنما هو مظهر الحكمة فيها.

لا ينفر الولد من التعلم إلا إذا كان فيه إرغام للفطرة بتكليفه، فَهْمُ ما هو غير

مستعد لفهمه، وذلك ضار به، أو بمنعه من اللعب النافع له، أو بمعاملته بالشدة

العائقة له عن كماله، وهذا التحكم في عقله ونفسه كالتحكم في جسمه بسومه حمل

الأثقال ومصارعة الرجال، وأكثر الناس يعرفون درجات قوى الأجسام، دون

درجات قوى النفوس والأحلام.

جرب بعض الناس طريقة الحكمة في التعليم والتربية، وهي الطريقة التي لا

تخرج الناشئ عن طوره، فتجعل الدارج يافعًا، أو الطفل كهلاً؛ الطريقة التي لا

تحمل الطبيعة ما لا تحمل، فجذبوا الناشئين بسلاسل اللذة التي عرفوها إلى جنة

المنفعة التي جهلوها، فانجذبوا طائعين مسرورين.

هكذا يمكن للمربي الحكيم أن يجمع بين الهوى والهدى، ولولا هذا الإمكان لما

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) ،

ولكن المربي الجاهل يمد الناشئ في الهوى، ويغذيه باللذة، ويصور له الألم أو

الحرمان في المنفعة، حتى يكون من الخاسرين.

سنة الله في الأمم تشبه سنته في الأفراد، فللأمة طفولة وتمييز، وشباب

واستواء. وهي تُؤْثِرُ قبل بلوغها سن الكمال الاجتماعي اللذة على الفائدة، وتستحب

العمى على الهدى؛ للجهل بوجوه المصالح العامة، وما يرفع الأقوام وما يضعها،

وحينئذ تكون أحوج إلى المربي الحكيم من الطفل اليتيم.

ما ارتقاء الأمة إلا كثرة الحكماء والفضلاء فيها، ومهما كثر هؤلاء، فلا

يكونون في سواد الأمة إلا عدداً قليلا، فأكثر أفراد الأمم الراقية الآن يؤثرون اللذة،

ويسعون لها سعيها في عامة أحوالهم. ألم يأتك نبأ خسارة من طبع كتب الفيلسوف

(هربرت سبنسر) في علم الاجتماع، وفلسفة التربية والتعليم، وهي أنفع ما كتب

حكماء الغرب في أرقى أممه؟ ! قارن بين هذا وبين الربح العظيم الذي يناله من

يطبعون القصص الغرامية وغير الغرامية. نعلم أن الدَهْمَاء من كل أمة يتبعون

مواقع اللذة، وينفرون من النافع إذا لم يكن مستلذًّا، ولكن الأمة المرتقية لا يروج

عندها الضار بها، وإن كان لذيذا.

تربية الأمم وإرشادها أشرف الأعمال وأفضلها وأشقها وأعسرها، ويعوزه من

العلم والحكمة والإخلاص والنزاهة، ما لا يعوز غيره. فإن فتنة الهوى فيه لا يقاس

بها فتنة، حتى إن الملك العاطل من حلية هذه الصفات يتبع هواه في سياسة رعيته،

حتى يودي بشعبه ورعيته، ولو كان خساره في ذلك موازيًا لخسار الأمة في

مجموعها. آية من يتبع الهدى في إرشاد الأمة أن لا يتبع فيه هواها، ولا يتحرى ما

يرضيها وإن كان يرديها، وأن يكون كالطبيب يجرعها المر؛ ليقيها الضر، إذا

تعذر أن تجذب باللذات إلى المنافع، كما يجذب الدارج واليافع.

لا يؤمن الفرد من اتباع الهوى في سياسة الأمة، وإرشادها عن علم أو جهل

لذلك جاء الوحي بوجوب جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وبذلك ارتقت الأمم

العزيزة وينبغي لمرشديها أن يسلكوا سبيل الشورى كحاكميها، فلا يستبد أحد الأفراد

برأيه في الإرشاد، لهذا نرجو من هذه (الجريدة) من تحرير الفوائد، فوق ما

نرجو من غيرها من الجرائد، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح العقل على

الهوى.

_________

(*) كتبنا هذه المقالة وما بعدها (للجريدة) ونشرت فيها.

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سنن الاجتماع

في الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم

طبيعة الاجتماع تقضي بوجود الحكام، ما قضت بوجود النزاع والخصام،

فإذا لم يتغلب على الناس من يحكم فيهم كما يشاء، اختاروا هم لأنفسهم من يحكم

بينهم كما يشاءون؛ لأن ما قضت به سنن الوجود واقع ما له من دافع.

الحكم حاجة من حاجات الناس، يقوم به بعضهم بالنيابة عن الباقين، فهو

كسائر الحاجات من العلوم، والمهن، والحرف كالزراعة، والصناعة، والتجارة

التي يقوم بكل فرع من فروعها من يكفي المجتمع همها، كما يقوم هو بسائر

حاجاتهم، ويكفيهم ما أهمهم. فالحاكمون كغيرهم من العاملين، كل صنف يخدم

مجموع الأصناف، التي يعبر عنها بالشعب أو الأمة، من حيث يخدمونه (وكلٌ

ميسرٌ لما خُلِق له) ومسير إلى حيث يسوقه استعداده، فمن سابق ومتخلف، ومن

محسن ومسيء، ولكل جزاء، والجزاء إما مال يكفي أو يغني، وإما مال وجاه

يعلي.

جزاء الأعمال التي تتطلبها طبيعة الاجتماع طبيعي مثلها، ولولا ذلك لما

اندفع كل فريق إلى العمل الذي يزين له استعداده جزاءه والغبطة به، فمن يطلب

من الجزاء الطبيعي على العمل أكثر مما تفرضه سنة الاجتماع من الجزاء عليه فهو

باغ، متنكب صراط الحق، غير مقيم لميزان العدل، إذ يطفف لنفسه ويخسر للأمة.

البغي في اقتضاء الجزاء، يكون من الأفراد، ومن الجمعيات، والأصناف،

فالأول: لا تأثير له في إفساد الأمة وتلافيه سهل. وأما الثاني: فهو البلاء المبين؛

لأن قوة الاجتماع هي أعظم القوى. وإنما يتحقق البغي بتحديد قيم الأعمال

والأشياء تحديدًا طبيعيًّا - إن أمكن- أو قانونيًّا؛ ليكون متجاوز الحد هو الباغي الذي

يجب إرجاعه عن بغيه.

ينجح زيد في بغيه على عمرو، إذا كان أقوى منه علمًا أو جسمًا، والحاكم

يفصل بينهما، إذا رفع الأمر إليه، وإلا كان الراضي بالهضيمة مستحقًّا لها

جزاء على جهله، ومن ذلك ما يقع كثيرًا من الحوذية، يطلبون فوق ما حدد لهم في

التعريفة، فالعارف يهددهم، والجاهل قد ينقدهم، والخطب في الأمرين سهل.

وإنما الخطب الجلل: أن يتفق صِنْف من القائمين بأعمال المجتمع، فيبغون في

طلب الجزاء. ومنه ما يعرف في هذا العصر باعتصاب العمال، ولكن

هذا الاعتصاب يجري في أعمال لم تحدد أجورها تحديدًا طبيعيًّا، ولا شرعيًّا،

ومسلك العدل في تحديد القانون له دقيق، ولا أرى له وجهًا ترضى به طبيعة

الاجتماع، إلا أن يكون النسبة بين كسب المالكين وأجور العاملين، ويأبى علينا هذا

المقال أن نخوض فيه، ويرضى لنا أن نرده إلى الحاكمين.

لا نقول: إن اعتصاب العمال من البغي، ولا نقول: إن فيه خطرًا على

الشعب، وإنما الخطر العظيم في بغي الحاكمين، الذين يوكل إليهم تلافي بغي

الأفراد والجمعيات من المحكومين لهم.

ما هو نوع عمل الحكام في الأمة؟ وما هو نوع جزائهم عليه؟ جاء في

فاتحة الكلام أن الحاكم إما متغلب بالقوة؛ يحكم كما يشاء، وإما مختار من

المحكومين له؛ فيحكم بينهم بما يشاءون من الشرائع والقوانين، فالحاكم الأول يرى

أن عمله من قبيل إدارة صاحب المزرعة والماشية والعبيد لما يملك، وأن ما يأخذه هو

من قبيل الغلة والريع، وأنه يجب على المحكومين له، أن يقوموا له في مزرعته

الكبيرة (المملكة) بما يطلب، وأن يرضوا بما يفرضه لهم وعليهم والمحكومون له

يرونه سلطانًا باغيًا، يتربصون به الدوائر على حسب حالهم في العلم والقوة، أو

الجهل والضعف. والحاكم الثاني يعلم كما يعلم المحكومون له أن عمله من قبيل

عمل الأجراء، وأن ما يأحذه من الجزاء المالي عليه أجرة مفروضة، وأن الجزاء

المعنوي وهو الجاه أثر طبيعي لإحسانه في عمله كما لغيره من المحسنين إلى الأمة في

ترقية العلوم والفنون والأعمال. على حسب حال الأمة يكون حكامها في نفس الأمر

الذي تقضي به طبيعة الاجتماع (كما تكونون يولى عليكم) أما حكم الشرع والعقل

فهو يقضي بوجوب جعل الحكام أجراء للأمة، قال أبو العلاء فيلسوف الشعراء:

ملّ المقام، فكم أعاشر أمة

حكمت بغير كتابها أمراؤها

ظلموا الرعية، واستجازوا كيدها

فعدوا مصالحها، وهم أجراؤها

كذلك شأن أكثر الأجراء والوكلاء مع المالكين الجاهلين بما يجب أن يكون عليه

ملكهم، العاجزين عن تحديد أجور العمال وإلزام كل عامل أن يلزم حده؛ لذلك

أنحى الفيلسوف في شعره باللائمة على الأمة التي مكنت أجراءها من الاستبداد في

السيادة عليها، حتى تجاوزوا مصالحها، ينبهها بذلك إلى إقامة الشريعة فيهم،

وإرجاعهم إلى الكتاب العزيز الذي جعل أمر المؤمنين شورى بينهم.

ذلك حكم الشريعة والعقل، ولن تقدر الأمة على القيام به، إلا بتغيير الأفكار

التي كان من أثرها الطبيعي، أن صار الأجراء سادة مالكين، وتحصيل الأفكار

والعلوم والأخلاق التي تمكنها بالاتحاد من جعل المتغلب بقوته مختاراً لعدله

وفضيلته.

إذا أحسن الحاكم المتغلب في عمله، واقتصد فيما يتناول من مال الأمة جزاء

عليه، كان جديرًا بالجاه الصحيح، وهو ملك القلوب وقيادتها بالمحبة والتعظيم،

وبما يتبعه من الحمد والثناء، وإذا أساء عملاً وأسرف فيما يأخذ يفوته الجاه الصحيح،

ويستبدل به الجاه الباطل، وهو قهر الرعية على أن تعامله معاملة الحاكم العادل

من الثناء والتعظيم الصوري مكابرة للنفس وعصيانًا للقلب، في سبيل طاعته

الإلزامية. أما الحاكم المختار للأمة، فهي التي تفرض له برضاها أجره، وتملكه

قلوبها طائعة مختارة.

روى ابن سعد في الطبقات عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر قال

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افرضوا لخليفة رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - ما يعينه، قالوا: نعم، برداه (ثوباه) إن أخلقهما وضعهما، وأخذ

مثلهما، وظهره (أي ما يركبه) إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق على

أهله قبل أن يستخلف، قال أبو بكر: رضيت. وفي رواية أنه أراد أن يعمل في

التجارة طرفًا من النهار لأجل عياله، وينظر في أمور الناس في سائر الأوقات

فمنعوه، وقال عمر: نفرض لك، فأراد أن يتمنع فأقنعوه، وفرضوا له كواحد من

المهاجرين، لا أرقاهم ولا أدناهم، وكذلك كان ينفق قبل الخلافة.

هكذا كانت حكومة المسلمين في أول عهدها، كانت من القسم الثاني من

التقسيم المتقدم، فعرض عليها من عوارض الاجتماع ما حولها عن وضعها،

وجعلها من القسم الآخر. وكم من حكومة كانت ظالمة بالتغلب، فزحزحتها طبيعة

الاجتماع عن مكانها، ووضعتها تحت سيطرة الأمة، كحكومات الفرنجة في بلادها.

لم تكن حكومة الشورى في المسلمين أثرًا لارتقاء اجتماعي فيهم، ولذلك لم يطل

عليها العهد، وإنما كانت ائتمارًا بأمر الدين وعملاً بهدايته، وقد تغلبت العصبيات في

الأمة قبل أن يستقر هذا النوع من الحكومة، ويلقي بوانيه (أي يثبت ويقيم) بهدي

الدين، ويصير طبيعيًّا في الأمة.

للحكومات آجال مقدرة بقدر أحوال المحكومين لها الاجتماعية، ولمدبر الكون

فيها سنن لا تتبدل ولا تتحول، فما قصر أجل حكومة الشورى في المسلمين،

إلا لأن ذلك المجموع المؤلف من جميع الشعوب والأجناس لم يكن مستعدًّا لأن يكون

مسيطرًا على حاكميه لقلة معارفه الاجتماعية، ولانتفاء الوحدة التي تجعل الأمة

كرجل واحد.

وإنما يستفيد الناس من الدين والدنيا في كل زمان بقدر استعدادهم، ولو كانوا

شعبًا واحد في قطر واحد، لرجي لهم طول هذا الأجل، كما طال أجل حكومة

الرومان، ثم قضي عليها بالتوسع في العمران، ودخول الشعوب الكثيرة تحت

سلطانها.

إذا أراد الله بأمة أن تنهض إلى جعل حكومتها تحت سيطرتها، كما يجب أن

تكون، سهل لها من أسباب العلم الصحيح والتربية القويمة، ما ينير أذهانها،

ويجمع كلمتها حتى تكون أمة عاقلة حكيمة (والعاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) كما

قال الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني.

يسرنا أن نرى بوادر العلم والتربية في أفراد من أمتنا الإسلامية، في كل

شعب وكل قطر، وأن نرى بعض مرشديها يحثونها على الاستزادة منهما، ويسوءُنا

أن نرى بعض الجاهلين المرائين، يفتاتون على المرشدين المخلصين، فيعلقون

آمال الأمة بغير هذا الطريق المعبد، والصراط السوي في تقويم الحكومة، وما يجب

أن تعاملها به الأمة، ولكن قضت سنة الله بأن يغلب الحق الباطل، ويرجح النافع

على الضار ولو بعد حين.

يسهل على من أوتي الخلابة في القول والعرفان بأهواء الجماهير، أن

يغش أمة هي في طور الطفولة في الحياة الاجتماعية، وليس لها زعماء وحكماء

ترجع في الأمور العامة إليهم، ويسهل على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، أن

ينصح لها ويهديها سبل الرشاد، فإذا هي رزئت بالمختلبين وحدهم شقيت، وإذا

هي رزقت الناصحين سعدت، وإذا تنازعها الصنفان وجد صاحب الحق من

نصر العقلاء وإن قلوا، ما يفل جموع أنصار الباطل وإن كثروا، وبذلك ترتقي

الأمة ارتقاء يجعلها أهلاً لأن تختار حكامها، وتحدد لهم الجزاء المالي على

أعمالهم، وتمنحهم الجاه والشرف باختيارها؛ لأنهم يحكمونها بمشيئتها المبنية

على الحكمة والعرفان، وهي تجزيهم بمشيئتها الناشئة عن الرضا والإذعان.

_________

ص: 107

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج

للقطر المصري في هذا العصر حال لا يشاركه فيها قطر آخر من أقطار

الأرض، وهذه الحال مفيدة له من وجه، وخطر على أهله من وجه آخر، فيجب

أن يعرفوا كيف يجتنون الفوائد من الوجه الأول، ويجتنبون الغوائل من الوجه

الثاني.

الحال التي انفرد بها، هي أن جميع الأمم الراقية تنازع أهله الحياة في

المعاش أو الاقتصاد كما يقال، وفي الاجتماع والآداب، وما من أمة منها إلا وهي

أرقى من أهله في العلوم والأعمال، ولها من الحقوق فيه أكثر مما لهم، فالقوانين

المصرية تبيح للأجانب أن يملكوا من البلاد كل ما يملكه الوطني، وأن ينشروا فيها

لغاتهم، وأديانهم، ومذاهبهم، ويأتوا بعاداتهم وتقاليدهم، كما يفعل الوطني، ولكن

الحكومة المصرية ليس لها من المراقبة والسلطان على الأجنبي مثل ما لها على

الوطني، فالأجنبي أوسع حرية، وأكثر استقلالاً في أعماله كلها.

أما وجه الفائدة من هذه الحال، فهو أن الأوروبيين في مجموعهم مدرسة

جامعة في البلاد، تعلم أهلها من الأعمال المالية بأنواعها، والاجتماعية، والأدبية ما

لم يكونوا يعلمون، وتعليم العمل أقرب إلى النفع من تعليم العلم؛ إذ العمل مقصد

والعلم وسيلة إليه في الغالب، فكل عامل ينفع البلاد ويرقيها، وما كل عالم ينفع،

وما علينا - والمدرسة العملية مفتحة الأبواب، ودروسها مبذولة في كل مدينة وقرية

لكل من له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل يدرك، وقلب يتأثر - إلا أن

نتعلم كيف نكتسب، وكيف نقتصد، وكيف نؤسس الشركات، وكيف نؤلف

الجمعيات، وكيف نحافظ على الآداب والعادات، وكيف نقيم بناء وحدتنا الجنسية،

وكيف ندعو إلى عقائدنا وآدابنا الدينية، وكيف نوزع هذه الأعمال على أصناف

العاملين، وكيف نكون مع هذا التوزيع متعاونين متكافلين.

وأما وجه الخطر فهو أجلى وأظهر، فإن ضعيفًا ينازع الأقوياء الحياة،

يوشك أن ينزعوه. وواهنًا يصارع الأشداء يقرب أن يصرعوه، وإذا كان في

الأمثال المسلمة (ضعيفان يغلبان قويًّا) فما بالك بعدة أقوياء يغالبون ضعيفًا واحدًا،

ألا يكون الخطر عليه شديداً؟ بلى إنه يخشى أن تنزع هذه الشركات الأجنبية

والمصارف (البنوك) ؛ أكثر ما في أيدي المصريين من أرض مصر، حتى يكون

أكثرهم فيها أجراء، لا رزق لهم إلا ما يفيضه المالك الجديد عليهم من أجور أعمالهم

من الحرث والخدمة، ويكون الكثيرون منهم عالة، لا يجدون من جود الأغنياء ما

يسد رمقهم، ويفنى الباقون في الغالبين بالتقليد والمحاكاة، يومئذ (لا كان يومئذ) لا

يستطيع أن يقول المصري: هذه بلادي، فأنا أولى وأحق بأن أتولى أحكامها بنفسي،

وأدير نظامها بيدي.

إنما يخشى أن يسرع هذا الخطر المادي، إذا شايعه الخطر المعنوي، وأمده

في سيره وهو التهاون في أمر مقومات الأمة ومشخصاتها من الدين واللغة والآداب

والعادات الحسنة، بل أقول: لا يمكن لأمة أن تحفظ كونها إلا بالمحافظة

على عاداتها، وإن كانت غير حسنة ولا قبيحة، وأن تتروى في القبيح منها،

فتدعو إلى تركه إن تحقق قبحه بالتدريج، واستبدال النافع بالضار، ولا حسن في

عادات الأمم إلا النافع، ولا قبيح إلا الضار. ألم تروا أن أعز الأمم وأوسعها

سلطانا، هي أشد الأمم محافظة على العادات والتقاليد المشخصة لها، وإن كان

غيرها خيرًا منها. ألم تعلموا أن أكثر الأمم الأوروبية قد استنفدت حيلتها، بعد ما

استنفرت بلاغتها وفصاحتها في محاولة إقناع الإنكليز باستبدال المقياس العشري

(المتر) بمقاييسهم (اليرد) بل بتوحيد المقاييس، وناهيكم بفوائده فلم يزد ذلك

الإنكليز إلا محافظة وثباتًا على ما درجوا عليه. ألم يأتكم نبأ ما كان لاستبدال

إسماعيل باشا الخديو، التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري من الفرح والسرور في

أوروبا. قيل: إن ذلك اليوم كان عند الأوروبيين عيدًا من الأعياد، بل فتحًا مبينًا،

من أجلِّ الفتوحات في تحويل الشعوب من حال إلى حال. وهم ينظرون عيدًا ثانيًا

أو فتحًا آخر بإقناع المسلمين عامة بترك العمل يوم الأحد كما فعل بعض تجارهم.

تنتزع أراضي مصر من أهلها قطعة بعد قطعة، فلا تشعر الأمة بانتزاعها؛

لأن البلاد تبقى على حالها، لا يتغير من معالمها، ولا من شؤون عولمها شيء،

وتترك مقومات الأمة ومشخصاتها، عقيدة بعد عقيدة، وعادة بعد عادة، ولا تشعر

الأمة بتركها، وما له من الأثر في حياتها؛ لأن تحول الأمم كتحول الظل، لا يشعر

أحد بحركته، ويشعر كل أحد بعاقبته، وانتقال الثروة من الشعب الكبير كانتقالها

من الرجل الواحد الذي يغتر بكثرة ماله، فيسرف ويبذر، لا يلاحظ عند كل نفقة

ما بقي من ماله، ونسبتها إلى دخله، وإنما تنحصر ملاحظته في شيء واحد وهو

أنه يملك مليونًا، فهو اليوم ينفق عشرة آلاف، على أنها عشرة من مليون، وفى غد

ينفق عشرة أخرى على أنها عشرة من مليون، ولا يزال يرى المليون مليونًا، وإن

لم يضم إليه شيئًا، والعشرة عشرة وإن صارت بانضمامها إلى ما قبلها عشرات

فمئات، حتى تستغرق المليون فلا يبقى منه شيء، أو يبقى منه ما يكون مثله في يد

الفقير والمسكين.

لا يهولنك ما قرأت فتكون من اليائسين ولا تستهينن به فتكون من المغرورين

فإن الخطر الذي ذكرناه وإن كان صحيحاً مما يمكن اتقاؤه، وإن لمصر

على ضعفها قوة المالك المدافع عن ملكه، أو المحافظ عليه في زمن لا غصب فيه،

ولا مصادرة في المال، ولا استبداد يحول دون التربية والتعليم، والمحافظة على

مقومات الأمة من اللغة والشعائر والأخلاق، والعادات. فالخطر المخشي ليس

خطرًا اضطراريًّا لا قبل لنا به، ولا حول لنا ولا قوة على دفعه، وإنما هو خطر

نتقحم فيه بمشيئتنا واختيارنا، وإذا نحن اتقيناه كان مصدره وهو التنازع بيننا وبين

الأجانب مصدر علم وعرفان، وترقٍ في الاجتماع والعمران، نعم إنه لا يخلو من

إثم، ولكن منافعه تكون أكبر من إثمه.

كيف يُتقى هذا الخطر؟ قد علم مما مر، أن الخطر محصور في أمرين:

إضاعة الثروة، وإهمال مقومات الأمة، فأما الثروة فلها ثلاث آفات أو ثلاث

بلاليع: القمار، ومنه مضاربات البورصة، وقد فشا وباؤه في القطر المصري،

حتى لم يدع قرية ولا مزرعة (عزبة) سالمة من فتكه، وإعطاء الربا للأجانب،

وبيع الأطيان والأملاك منهم، ولا سبيل إلى إقناع الناس باتقاء هذه الآفات الثلاث،

ولكن الجرائد إذا فصلت مضارها، وكررت النذر فيها، وتتبعت الوقائع والحوادث

في تخريبها للبيوت، وإفقارها للأغنياء، وإذلالها للأعزاء، رجونا أن يقل فتكها حتى

لا يصل إلى درجة الخطر على الأمة.

وأما مقومات الأمة، فأمرها أعظم ومجال القول فيها أوسع، وإنما يخاطب في

شأنها الزعماء المصلحون، والعلماء العاملون، والأغنياء العاقلون، وأصحاب

الصحف الغيورون، والخطباء المؤثرون، إذ المدار فيها على إيجاد معاهد للتربية

والتعليم، ينشأ فيها الرجال المستقلون، والنساء القادرات على تربية الولدان وإقامة

النظام في البيوت، وهذا ما يطلب من الزعماء والأغنياء، ولا ينكر ما

للجرائد الناصحة من التأثير في الحث عليه، ثم على النصح المتتابع للأمة في

المحافظة على تلك المقومات، وإعلاء شأنها، والتقريع الشديد للذين يهملون شيئًا

منها، وهذا ما يطلب من الخطباء والكتاب.

وإني لأعجب! كيف تقصر الجرائد الوطنية في هذين الركنين العظيمين؟

حفظ ثروة الأمة، وحفظ مقوماتها الجنسية وترقيتهما. وتطيل الكلام في المسائل

الخارجية والحوادث الجزئية، فيكون أكثر ما تقوله لغوًا، لا فائدة فيه للجمهور،

أليست مصر أحوج إلى حفظ ثروتها ومقوماتها منها إلى سائر الأشياء؟ أليست هذه

الثروة والمقومات على خطر من التنازع مع سائر الأمم، يجب تداركه؟ أليست

الجرائد هي المطالبة ببيان ذلك والحث على تلافيه؟ بلى وعسى أن يكون عناية

الجريدة به أكبر من عنايتها بسواه والله الموفق.

_________

ص: 111

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

الكرامة والمعجزة

(س8) السيد محمد بن هاشم علوي (بجاوة) أسألك عن كلمة: (كل معجزة

لنبي فهي كرامة لولي) هذه الكلمة تلهج بها الناس عندنا لا سيما عبدة الخوارق، ولا

أدري هل هي حديث أو أثر وما معناها؟

(ج) العبارة ليست حديثًا ولا أثرًا عن الصحابة، وهذه الاصطلاحات

من المعجزة، والكرامة، والولاية قد حدثت بعدهم، وإنما هي كلمة لبعض

المشايخ وافقت هوى الناس، فتلقوها بالقبول، وصارت عندهم من قبيل القواعد

الدينية، وسارت بها الأمثال فيما بينهم، ونحمد الله أننا لم نعدم في شيوخ التصوف

والعلم من أنكرها.

ينقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي من أئمة الأشعرية، أنهما

وافقا المعتزلة على إنكار الكرامات. وذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى

أنه يزداد تعجبه من نسبة إنكارها إلى الأستاذ (وهو من أساطين أهل السنة

والجماعة) وكذَّب ذلك، ثم قال ما نصه:

(والذي ذكره الرجل في مصنفاته، أن الكرامات لا تبلغ مبلغ خرق العادة

قال: وكل ما جاز تقديره معجزة لنبي، لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي. قال:

وإنما مبلغ الكرامات إجابة دعوة، أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو

مضاهي ذلك مما ينحط عن خرق العادة، ثم مع هذا قال إمام الحرمين: من أئمتنا

هذا المذهب متروك. قلت: وليس بالغًا في البشاعة مبلغ مذهب المنكرين للكرامات

مطلقا، بل هو مذهب مفصل بين كرامة وكرامة، رأى أن ذلك التفصيل هو المميز

لها من المعجزات. وقد قال الأستاذ الكبير أبو القاسم القشيري في الرسالة: إن

كثيرًا من المقدورات يعلم اليوم قطعا، أنه لا يجوز أن تظهر كرامة للأولياء

لضرورة أو شبهة ضرورة يعلم ذلك، فمنها حصول إنسان لا من أبوين وقلب جماد

بهيمة أو حيوانا، وأمثال هذا كثير. انتهى، وهو حق لا ريب فيه، وبه يتضح أن

قول من قال: (ما جاز أن يكون معجزة النبي، جاز أن يكون كرامة لولي) ليس

على عمومه، وأن قول من قال:(لا فارق بين المعجزة والكرامة إلا التحدي) ليس

على وجهه اهـ. كلام السبكي هنا.

وقال بنفي العموم أيضًا في جوابه عن شبهة القائلين بأنه لو جازت الكرامة

لاشتبهت بالمعجزة. وقال في الكلام على إحياء الموتى نحوه، ومنه قوله: (ولا

أعتقد الآن أن وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمانًا طويلا، كما

عمرا قبل الوفاة، بل ولا زمنًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء، كما خالطاهم قبل

الوفاة) .

***

محو الناس للأسماء من اللوح المحفوظ

(س9) ومنه معطوفًا على السؤال السابق: وأسألك سيدي عن قول من

سمعته يقول: (فلان محينا اسمه من اللوح المحفوظ) وهذا القائل ممن يدَّعون

الكرامات والتصوف، وهو غبي عن أول ما يجب عليه، وإذا فرضنا حسن استقامته

ومعرفته، فهل يسوغ له هذا القول؟ وما معناه؟ وهل هو مدح لمحو اسمه أم ذم؟

وقد أنكرت عليه قوله فلامني الناس المتهافتون على الخزعبلات؛ لصغر سني

وعدم كبر عمامتي، وعدم قولي لمن يطلب من الدعاء، أنت في رقبتي. تفضل يا

سيدي بين لي ما أشكل علي، فقد اختلج بخاطري أنهم مصيبون في تصديقهم قوله،

وأنه ما قال منكرًا من القول، وأني مخطئ في إنكاري، وما يدريني أن الحق معهم،

أجبني يا والدي.

(ج) إنك مصيب في إنكارك وهم المخطئون، وليس الحق بكبر السن

أو العمامة، فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة

وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فاثبت على فطرتك السليمة، ولا تقبل من أحد قولاً

بغير دليل بيِّن. أما كلمة الدجالين، فلا تفهم إلا بالقرينة، فإنهم قد يريدون بمحو

الاسم الحكم بالموت، وقد يريدون به إخراج المسمى من أهل المرتبة التي هو

فيها حقيقة، كالولايات الدنيوية أي عزله منها، أو ادعاء كالذين يعترفون لهم

بالولاية.

ومهما كان المراد، فهذا القول من الجرأة على الله، لا يصدر إلا من جهول،

غرَّه افتتان العامة بدعاويه، وتقبيلهم ليديه. فصدقهم، وافتتن بنفسه، أو نسي بهذا

الجاه ربه فأنساه نفسه. وينبغي لك أن تتلطف في الإنكار على هؤلاء؛ لئلا تأخذهم

العزة بالإثم، فيؤذوك، فإنهم لخضوع العامة لهم يطغون، ويستحلون الإيذاء لاسيما

إذا أمكنهم إخفاء سببه؛ ليدعوا أن المعترض قد عاقبه الله كرامة لهم، فإن

أكثر كراماتهم المزعومة هي الإيذاء للناس، ولم نسمع أن أحداً منهم قد نال من

الكرامة أن أنقذ بعض بلاد المسلمين من الظلم أو أخرجهم من ظلمات البدع

والخرافات.

***

قتلى مسلمي الروس في الحرب اليابانية

(س10) يوسف أفندي هندي بالبريد المصري (تأخر)

ما حكم الشرع الشريف فيمن قُتل من مسلمي الجند الروسي في حرب اليابان؟

هل ماتوا طائعين أم عاصين؟ ولا أظنهم يُعدون شهداء؟ أرجو التكرم بالإفادة؛

لازلتم ملجأ لكل مستفيد.

(ج) إنني أعتقد أن محاربة مسلمي روسيا لليابان، ليست معصية لله -

تعالى - ولا ممنوعة شرعًا، وأنها قد تكون مما يثابون عليها عند الله، إذا كانت

لهم فيها نية صالحة، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، وللنية الصالحة

في حرب المسلم مع دولته غير المسلمة وجوه، منها أن طاعته إياها، تدفع

عن إخوانه من رعيتها شيئا من ظلمها وشرها، إذا كانت استبدادية ظالمة، وتساويهم

بسائر أهلها في الحقوق والمزايا، إذا كانت نيابية عادلة، أو تفيدهم ما

دون ذلك إذا كانت بين بين، ومنها أن العلوم والأعمال الحربية لا تزال من أهم

عناصر الحياة الاجتماعية في البشر، فإذا حرم منها شعب من الشعوب ضعفت

حياته، والضعيف لا يكون إلا ذليلاً مهينا. والخير للمسلمين من رعايا تلك الدول أن

يكونوا مشاركين لسائر أهل الملل فيها في جميع مقومات الحياة الاجتماعية،

أقوياء بقوتهم، أعزاء بعزتهم، لا أن يكونوا فيهم ضعفاء أذلاء بدينهم، فإن دين

الإسلام لا يبيح لأهله أن يختاروا الضعف والذلة على القوة والعزة، وإذ هم

اختاروا ذلك، عجزوا عن حفظ دينهم، فكان ذلك إضاعة للدين نفسه، فلا تلتفت

إلى متعصب جهول، يقول لك: إن المنار يبيح للمسلمين أن يعتزوا بالكافرين،

إلا إذا رأيته يعقل الكلام. فقل له: إنه ينصح للمسلمين بأن يختاروا العز على

الذل، - مهما كان مصدر العز - والقوة على الضعف، ويرى أن حفظ الإسلام

في غير داره لا يكون إلا بذلك. ويتمنى نصارى العثمانيين لو تدخلهم الدولة في

الجندية لذلك.

***

الدخان هل هو نجس وضار

(س11) من محمد أفندي زيدان بسنورس الفيوم (تأخر)

ما قولكم - جعلكم الله منار الإسلام، وينبوع العلم، ومنهل الوارد - في مسألة

الدخان التي أخذ اختلاف الناس فيها كل مأخذ، ضاربًا أطنابه على أفكارهم

وعقولهم، فأصبح معظمنا - والحمد لله - إن لم أقل الكل مغمورًا في غياهب الجهل

بكنهها مضطرب الضمير، تلعب به أيدي الخلاف على موائد الجهالات، مختلج

الصدر بالسؤال عما يكشف لثامها ويرفع نقابها، وعن بيان أحكامها، وهل

الدخان نجس، أو منع منه الإمام؟ وهل يضر؟ وهل يكون حجابًا بين العبد وربه

من الأنوار؟ وإني لأرى هذه المسألة أهم مسألة توجه إليها أنظار النظار بالبحث

في خبايا أسرارها؛ ليستخرجوا معادنها الجوهرية، ولا أرى مقدامًا على خوض

بحارها، وسلوك سباسبها إلا منار الإسلام، فوليت وجهي شطره بلسان حال الأمة؛

مريدًا بيان حقيقتها بما يسر الضمير، ويرتاح إليه الخاطر، مشدودًا نطاقه بساطع

براهين مناركم، كما عهدنا من قبل، ولازلنا نعهد نشر لواء المنارعلى عويص

المسائل، فأدحض سحاب الجهل بقوى الحجة، وبياض المحجة، فلعله يتفضل عليَّ

بل على الشعب بأسره، بنقطة من بحار علومه الفياضة، أو بشعاع من شمس

معارفه، فنهتدي بها سواء السبيل، والسلام.

(ج) قد نشرنا هذا السؤال بنصه؛ لما فيه من الفكاهة، وبيان استعداد

الناس للإحفاء والاستقصاء في كل شيء، وأن ما يراه بعضهم من الأمور التي لا يؤبه

لها، يراه آخرون ذا بال بل من أهم المهمات.

أما كون الدخان نجسًا أو غير نجس فالجواب عنه: أن هذا النبات الذي يسمى

دخانا - لأنه يستعمل إحراقًا ليتمتع بدخانه - هو كسائر النبات طاهر، ولا يوجد

في الدنيا نبات نجس، وأما كونه ضارًّا أم لا، فهذا مما يرجع فيه إلى الأطباء لا

إلى الفقهاء، والمعروف في الفقه أن كل ضار محرم على من يضره، وما كان من

شأنه أن يضر قطعًا إلا في أحوال نادرة، يمكن إطلاق القول بحرمته، أو ظنًّا يحكم

بكراهته. والمشهور عن الأطباء أن في هذا النبات المعروف بالدخان، وبالتبغ،

والتتن، وبالتنباك، مادة سامة تسمى نيكوتين، فهو لذلك يضر المصدرين قطعًا، وأن

صحيح الجسم إذا تعوده بالتدريج، فإنه لا يضره ضررًا بيِّنًا، ولا شك أن تركه خير

للصحة من استعماله. فينبغي لمن لم يُبْتَلَ به أن لا يقلد الناس فيه، فإنه إذا لم يخلُ

من ضرر ما، يكون مكروهًا شرعا، وعلى من ابتلي به أن يراجع الطبيب الحاذق

فإذا جزم بضره، وجب عليه تركه، وإذا قال: يحتمل أن يضره، استحب له تركه،

وإذا قال: إنه لا يضره مطلقًا، أبيح له استعماله، وإذا اتفق أن كان نافعًا له

لمقاومة مرض ما، كما ينفع كثير من السموم في مقاومة بعض الأمراض، صار

مطالبًا باستعماله شرعًا، وقد يكون حينئذ واجبًا، إذا جزم الطبيب بتوقف منع الضرر

على استعماله، وإلا كان مخيرًا بينه وبين ما يقوم مقامه. فعلم من ذلك كله أنه قد

تعتريه الأحكام الخمسة كما يقولون.

***

النهي عن الجمع بين الأختين

والتزوج بامرأة الأب إلا ما قد سلف

(س12) عكاشة أفندي خليل بالأبيض من السودان: أرشدني أرشدك الله إلى

الصراط المستقيم إلى تفسير قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 23) وقوله: {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22) ورجائي نشره في مناركم ولكم الثواب.

(ج) معنى قوله عز وجل: {إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22) لكن ما

سلف أي سبق لكم من ذلك في زمن الجاهلية لامؤاخذة عليه، وكانوا في الجاهلية

يجمعون بين الأختين في الزواج، ويتزوجون بنساء آبائهم إذا ماتوا عنهن، فنهى

الله عن ذلك، وبيّن أن ما سبق في الجاهلية لا يؤاخذ عليه. وهذا الاستثناء يسميه

النحاة الاستثناء المنقطع.

ويقول بعض المفسرين: إن الاستثناء متصل ولا حاجة إلى بيان قوله لمن يريد

فهم المعنى، ولا حاجة له في الاصطلاحات النحوية.

***

الحب وهل هو اختياري أم اضطراري؟

(س13)

التلميذ بمدرسة الناصرية بمصر: ما هو الحب؟ وهل هو

اختياري أم اضطراري؟ أفيدونا بأجلى بيان، وأعظم برهان، وإن شئتم فأرسلوا لنا

الرد على غير صفحات المنار، ويكون لكم الفضل، والله لا يحرمنا من أمثالكم.

(ج) ورد لنا هذا السؤال منذ سنة وشهر، ولم يأمر السائل بكتمان اسمه

ولا بالرمز إليه، وكنا ترددنا في الجواب عنه، ثم نسيناه، ولما راجعنا في هذه الأيام

ما تأخر من الأسئلة التي جاءتنا في السنة الماضية؛ ولم نجب عنها رأيناه فيها،

واستحسنا أن نجيب عنه جوابًا مفيدًا، لأمثال السائل من الناشئين الذين أنشأت بوادر

الحب تعبث بنفوسهم، وتنشئ له في مخيلاتهم جنات باسقة الأشجار، بهيجة

الأزهار، تجري من تحتها الأنهار، وتغرد من فوقها الأطيار، تتهادى في أفيائها

كواعب الأبكار، فيتراءى لهم من سعادة الحياة في مناغاة أولئك الغادات، في حدائق

هاتيك الجنات، ما قد يشغلهم عن تحصيل العلم، ويعوقهم عن تربية النفس،

ويجذبهم إلى مطالعة قصص الغرام التي تغذي تلك التخيلات والأوهام، حتى يزين

لهم التعرض للحب اختيارًا، أو يقعوا في حبالته اضطرارًا، فيجني عليهم ما

يجني مما لا محل لذكره هنا.

معنى الحب بديهي، لا يمكن تعريفه بما هو أجلى عند النفس منه، فإذا قلت

لك: إن حبك للشيء عبارة عن ميلك إليه، أو هو انفعال ارتياح، وأنس بالشيء

المحبوب، أو شعور ملائم للطبع، مثاره أو منشؤه ذلك الشيء، أو غير ذلك، لا

يزيدك ذلك معرفة بالحب، وإنما يزيدك معرفة بالألفاظ المترادفة، أو المتقاربة في

المعنى، فمن أحب شيئًا ما، عرف معنى الحب المطلق في الجملة، وحب ذلك

الشيء بالتحديد، وإذا فرضنا أنه يوجد في البشر من لا يحب شيئًا قط، فإننا نجزم

بأن إفهامه معنى الحب محال، ومن أحب شيئًا دون شيء، فإننا نعرفه معنى الحب

المجهول عنده؛ بتشبيهه بالمعروف له، ولكن هذا التعريف يكون بالتقريب لا

بالتحديد؛ لأن حب الاحترام غير حب الشفقة، وحب القرابة والصداقة، غير حب

الزوجية. وصفوة القول أن الحب من الوجدانات التي لا يعرفها إلا من ذاقها

كالسرور، والفرح، والخوف، والحزن.

وأما كونه اختياريًّا أو اضطراريًّا؛ فهو مما اختلف فيه الباحثون، فقال

بعضهم بالأول، وبعضهم بالثاني، وذهب آخرون إلى أن أوله اختياري وآخره

اضطراري، وقد نظموا هذه الآراء، واشتهرت فيها أشعارهم، وإذا رجع الإنسان

إلى نفسه، وإلى ما يعرف عن أبناء جنسه، ودقق النظر في ذلك، يتجلى له أن

لكل قول وجهًا ولكنه قاصر عن تمحيص الحقيقة؛ وذلك أن الإنسان قد يحدث له

الحب فجأة، وقد يختار معاشرة بعض من يستحسن، والتودد إليه لأجل أن يحبه

فيحبه، وقد يحب امرأً أو امرأة فجأة، أو بعد تحبب، ثم يفطن إلى أن هذا الحب لا

خير فيه، وأن تركه خير من البقاء عليه، فيتكلف السلوّ بالبعد وترك المعاشرة حتى

يسلو، وقد يكون ضعيف الإرادة فاقد العزيمة، لا يقوى على مغالبة الحب،

وإن هو اعتقد عبثه بشرفه ودينه، وذهابه بماله، وإفساده لمصالحه، فيظل مغلوبًا

له خاضعًا لسلطانه.

كل أولئك كان واقعًا معروفًا للمختبرين، وما قال من قال: إن الحب اختياري

دائما، أو اضطراري مطلقا، أو أوله اختياري وآخره اضطراري - إلا حكاية عما

يجد في نفسه، مع الغفلة عما عليه غيره من الناس، وإلا فهو جاهل بنفسه

وبغيره.

وإن شئت تفصيلاً ما لهذا الإجمال، فلا تنس أن موضع الخلاف هو حب

الشهوة الذي يسمى عشقًا: كحب الرجل للمرأة التي يشتهي أن يقترن بها، حبًّا يملك

شعوره ووجدانه، لا مطلق حب الإنسان الجميل، أو القريب، أو المحسن، أو

الفاضل، فإن الحب المطلق للجميل المستحسن من الإنسان وغير الإنسان، مما

غرز في طبائع البشر، واصطبغت به فطرتهم، لا يملكون دفعه ولا اختيار لهم فيه.

وقلما يكون العشق اضطرارًا، بل الغالب فيه أن يستحسن المستعد للعشق، من

تحسن صورته أو صورتها في عينه، وتحل محلاًّ من قلبه، فيطيل في ذلك الفكر

والتخيل، ويعود إلى النظر والتأمل، ويتدرج من ذلك إلى المكالمة والمعاشرة،

حتى يصير عاشقا، واسترساله في هذه الأمور يكون باختياره في الأكثر، وما

كان من الخواطر والتخيلات الأولى بغير اختيار، تسهل مدافعته بتكلف التفكر في

غيره قبل أن يتمكن، ولذلك عبَّرنا بلفظ الاسترسال، ومن سبر هذا وفقهه حق الفقه،

يجزم بأن أكثر الذين عشقوا ما بلغوا في ميلهم واستحسانهم إلى درجة العشق، إلا

بأعمال نفسية وبدنية، استرسلوا فيها باختيارهم، ولو شاءوا لما استرسلوا، ولو لم

يسترسلوا لما عشقوا، ولكنهم اختاروا أن يعشقوا؛ لأنهم توهموا أن في العشق غبطة

وهناء، ونعمة وسعادة.

ومن النادر الذي يبعد تصوره ويعسر تعليله، أن ينظر الإنسان إلى صورة

جميلة، فيفجأه عشقها مستغرقًا شعوره ووجدانه، مالكًا عليه أمره، سالبًا منه إرادته

واختياره، ولو قال قائل: إن هذا غير ممكن أو غير واقع، لما صلحت حكايات

(ألف ليلة وليلة) ، وأشباهها من القصص (الروايات) ناقضًا لقوله، ذلك بأن

الانفعالات التي تعرض للنفوس، لا تكون بالغة منتهى القوة والشدة إلا إذا

اصطدمت بوجدان يقابلها: كالحزن الشديد لفقد المحبوب العزيز، والفرح الشديد

بلقائه بعد اليأس منه، وكالخوف على الحياة من خطر مفاجئ.

وقد يقال أيضًا: إن داعية النسل قد تقوى في بعض الناس الذين ليس لهم

شواغل عقلية، فتحدث استعدادًا يستغرق الوجدان، ويعم تأثيره المجموع العصبي،

فيتفق أن يرى صاحب هذا الوجدان في هذه الحال من الصور ذوات الجمال ما

يشاكله، فينفعل لرؤيته انفعالاً شديدًا، ويتمكن تأثيره في نفسه لأول وهلة، فلا

يكون له اختيار فيه، ولا مطمع في تلافيه، ولكن هذا نادر كما قلنا آنفًا، والنادر

لا حكم له كما يقولون.

والغرض من هذا البيان، أن الحب الذي تثيره داعية النسل كسائر أنواع

الحب، يخضع للتربية والتهذيب، وليس من شأنه سلب الاختيار بطبيعته،

وإنما ينمو كغيره بالأعمال الاختيارية، حتى يخرج عن طوق الاختيار أحيانًا لا سيما

مع ضعفاء الإرادة، وأهل البطالة، فقد يولع المرء بلعب الشطرنج أو اللهو

بإطارة الحمام، حتى يرى تركهما فوق إرادته واختياره، فعلى السائل وأمثاله

من الناشئين أن لا يسترسلوا مع أهوائهم في الحب؛ لئلا يحكم عليهم سلطانه

الجائر حكمًا يتجرعون غصصه طول حياتهم.

_________

ص: 115

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعليم الديني

لا نعرف بلادًا إسلامية أثَّر فيها التفرنج، كما أثر في مصر. وأغرب مظاهر

هذا التأثير ما جرى منذ أشهر من الخلاف بين المسلمين، في تعليم الدين

بالمدارس، بل وفي فائدة تعليم الدين وعدم فائدته، وإمكان الاستغناء عن الدين في

تهذيب الأخلاق، وتربية النفوس.

فتحت باب البحث في ذلك الجرائد، وتبعها الناس كعادتهم فمن قائل: إن

موضع تعليم الدين البيوت لا المدارس، وإنه ينبغي للحكومة أن تبطل تعليم الدين

من مدارسها. ومن قائل: إن ما يعلم في هذه المدارس كاف، لا حاجة إلى الزيادة

عليه. ويقابل هذا القول، طلب أعضاء مجلس الشورى والجمعية العمومية زيادة

التوسع في تعليم الدين بهذه المدارس. ووراء هذه الأقوال والآراء ما كتبه بعض

الناظرين في آراء فلاسفة أوربا، ونشر في جريدة المؤيد من بيان وجه الحاجة إلى

تعليم الدين، وبيان الاستغناء عنه، ومن قال بذلك من علماء الغرب.

ومما يتشدق به المقلدون لأصحاب الآراء الفلسفية الناقصة، قولهم أنه يمكن

الاستغناء عن الدين، بالتربية الأدبية العقلية، المبنية على الإقناع بضرر الرذائل،

ونفع الفضائل، كأن يقول المعلم للتلميذ: إن الكذب قبيح، ومقترفه محتقر بين

الناس، لا يوثق بقوله، ولا يعتد بشهادته، ولا بخبره، وإن الخمر ضارة؛ تذهب

بالصحة والمال. ومن هؤلاء من يرى أن هذه الطريقة أفضل من طريقة الدين

المبنية على التخويف من عذاب الآخرة؛ لأن في هذا التخويف من إضعاف النفس،

وإيقاعها في الأوهام ما فيه على زعمهم.

ومن أهل الدين الراسخ من سرى له شيء من أوهام المتفلسفة، فصار يرى

أن تعليم الدين والتربية عليه في الصغر ضار، ولكنه يجب بعد بلوغ العقل أشده؛

لأن الدين عبارة عن فلسفة روحية، والمبتدئ ليس أهلاً لتلقي الفلسفة.

قد استعجل متفرنجو المسلمين جدًّا، في جعل مسألة التعليم الديني محل بحث

ونظر، واستعجل المتفلسفة منهم في الحكم بأن الإقناع العقلي كافٍ في تهذيب

الناشئين، ومُغنٍ عن الأخذ بالدين أو خير منه، فإن أئمتهم من غلاة الملاحدة في

أوربا لم يظفروا بإقناع شعب من شعوبهم برأيهم هذا، ولا يزال جميع

الأوربيين يقيمون بناء التربية والتعليم على أساس الدين، على أن حاجتهم إليه

دون حاجتنا لوجوه، منها انتشار التعليم الأدبي والإقناعي في جميع طبقاتهم، حتى

إن بعض بلادهم لا يوجد فيها أمي ولا أمية، ونحن عاجزون عن تعميم التعليم

بدين أو بغير دين، فهل من الصواب أن تجعل المتعلمين منا على قلتهم

غير متدينين، وهم القدوة لسائر الأمة؟ أم الصواب أن يسعى هؤلاء النفر من

المتفلسفة، إلى محو الدين من الأمة برمتها متعلمها وأميها. وهل يظنون أن جميع

أفراد الأمة يكونون حينئذ فلاسفة أو متفلسفين مثلهم، يتركون الشرور لقيام الدليل

العقلي على ضررها أو منافاتها للشرف؟

قلما تجد أحدًا من أصحاب هذا الرأي العقيم تاركًا للمعاصي والشرور؛ لأنها

ضارة بالمجتمع، أو مخلة بالشرف، ومن ترك ذلك ظاهرًا لا يتركه باطنا، إلا من

تربى منهم تربية دينية حقيقية، طبعت في نفسه ملكات الفضائل طبعًا، عجزت عن

محوه نزغات الفلسفة الناقصة.

يمكن أن يجمع للناشئ بين الإقناع والدين؛ بأن يبين له ضرر الرذائل

والمعاصي في سياق حكمة تحريمها، وبيان محاسن الفضائل ومنافعها في سياق

حكمة إيجابها أو استحبابها، وإلا تعسر الإقناع أو تعذر؛ لاختلاف الأفهام في حقيقة

الشرف، والخير، والشر، والنفع، والضر. فإذا قلت للناشئ: إن الزنا قبيح أو

مخل بالشرف، لا يمنعه ذلك أن أقنعه بأن يأتيه سرا؛ لأن أمر الشرف منوط بنظر

الناظرين وعرفهم. وإذا قلت له: إنه خطر على الصحة؛ لأنه مدعاة للإسراف،

أو مجلبة لبعض الأدواء. لم يكن لقولك من التأثير - إن أخذ بالتسليم - إلا العزم على

الاقتصاد فيه، والحذر من غشيان المصابات بالأدواء، ويظن أن ذلك مما يسهل

عليه، وربما وجد من الناصحين من يقول له: إن ترك ذلك العمل ضار بالصحة،

فكانت نصيحته أقرب إلى القبول من نصيحتك. وإذا قلت له: إن لهذه الفاحشة

غوائل اجتماعية: كاختلاط الأنساب، وقلة النسل، وإثارة الشرور بين المتنازعين

فيها عند المشاركة، فلا نطمع منه إن عقل قولك، بأن يترك لذته الثائرة حبًّا

بالمصلحة العامة. ولكن أكثر الذين يتربون تربية دينية صحيحة، لا يستحلون

الفاحشة ويستهينون بها كما يفعل من فقدوا ذلك، وإنك لتجد في كل بلد يدين أهله

بحرمة هذا الفاحشة كثيرين يتقونها خوفًا من الله عز وجل -على ضعف العلم بالدين

وعدم التربية عليه، ولولا الخرافات التي زلزلت العقائد، وشوهت وجه الأحكام:

كالاعتماد على الكفارات، والشفاعات، والغفران، لكان وقوع هذه الفاحشة من

المتدينين من النوادر.

وقل مثل ذلك في الخمر، فإن المتعلمين على الطريقة التي يطلبها المتفرنجون

والمتفلسفون؛ أعرف من غيرهم بما فيها الضرر، وهم مع ذلك أكثر شربًا لها من

سواهم. وأضف إلى ذلك جريمة القمار، وما فيها من المضار، على أن المتفرنجين

والمتفلسفين منا لا يحرِّمون بعقولهم هذه الموبقات الثلاث، التي يجاهدها فلاسفة

أوروبا بعقولهم، وعلومهم أشد الجهاد، ويعدونها شر غوائل المدنية الأوروبية، وهي

لا تزداد بالرغم منهم إلا انتشارا.

إن الجميع متفقون على قبح الكذب وضرره، وإنهم لأعجز عن إقناع الناشئين

بتركه مهما قويت حجتهم من أضعف مرشد ديني، وإن لم يأت بحجة أو حكمة وراء

النص، وقصارى ما يبلغه قولهم من نفس من يقبله، أن يحترس من الفضيحة بالكذب

الجلي، لا أن يتركه مطلقا.

أما زعم المتفلسفين: أن تربية الدين، قد تضر بالعقل أو النفس بما فيها من

الإرهاب والتخويف، فهو زعم باطل، لا يقوله إلا من يجهل الدين والناس،

وسنبين ذلك في فرصة أخرى.

وأما القول بأن الدين فلسفة لا ينبغي أن يتلقاه إلا المتعلم المستعد لتلقي

العلوم العالية فله وجه، وفيه قصور، فإن الدين له طرفان: أدنى وهو الهداية

العامة لكل مكلف، وإن أميًّا جاهلا. وطرف أعلى وهو كما قيل: حكمة وفلسفة.

والصواب أن يعلم التلميذ في المدرسة الابتدائية، ما يليق به من الطرف الأول،

ويترقى به تدريجا. يعلم في السنين الأولى مع القراءة بالحكايات عن الأشياء، أن

الله -تعالى- هو الذي أعطى كل شيء خلفه ثم هدى، فإذا كان موضوع درسه

في النحل مثلا: يذكر له بعد شرح ما يليق بفهمه من حالها وأعمالها، أن الله -

تعالى- هو الذي خلقها، وألهمها أن تعمل لحفظ حياتها هذه الأعمال، ويترقى به في

ذلك.

ويعلم مع الإلهيات على هذا النحو شيئًا وجيزًا من سيرة النبي - صلى الله

عليه وسلم - وأخلاقه، وآدابه، ويذكر له أن الله - تعالى - ميزه هو وأمثاله من

الأنبياء بعلم خاص بهم دون سائر الناس، يهدون به الناس إلى الحق والخير، كما

ميز النحل بعلم خاص بها لا يشاركها فيه غيرها، وأما العبادات: فيجب أن

يتعلمها الناشئون بالعمل لا بالقول، وكذلك العامة اتباعًا للسنة السنية (صلوا كما

رأيتموني أصلي) رواه البخاري، وأما تعليم المبتدئين فلسفة السنوسي وأمثاله في

الإلهيات: كالصفات العشرين، فهو من العبث الذي يعد جناية على الدين، من ينتقده

فإني معه أول المنتقدين، والله على ذلك من الشاهدين.

سألت أحد الفضلاء المستمسكين بالدين عن ولد له، لعله في الثانية عشرة

أيصلي؟ فقال: لا أدعه يصلي الآن؛ لأنه لا يعقل معنى الصلاة، فإذا بلغ السن

التي يفهم فيها معنى الصلاة، فإنه يصلي.

هذا الوالد الذي يرى هذا الرأي من أبناء كبار الباشوات، وقد تعلم في أوربا

وتقلد بعض الأعمال العالية في الحكومة، وهو يفهم من معنى الصلاة، ما لا يفهم

أكثر أهل الأزهر؛ لأنه قرأ الإحياء قراءة استهداء، ويقل فيهم من قرأه، وكثير من

مدرسيهم لا يعرف عدد أجزائه، ولا رأى منها شيئًا، وهو على ما نعتقد غير

مصيب، ولعمري إنه ينبغي لمن يرى رأيًا يخالف ما درجت عليه أمته، أن لا

يتعجل العمل به، بل يبحث، ويستشير، ويناظر من يعلم، أو يظن أنهم أهل

للبحث في ذلك، لعله يرجع عن رأيه أو يمضي فيه على بينه تامة، ولا يعتد في

هذا المقام بتجربة الواحد والآحاد.

نقول في الصلاة ما قلنا في الدين بجملته، إن لها طرفًا أدنى وطرفًا أعلى، ومن

فوائد حمل الناشئ المميز على الصلاة: تعويده الطهارة، والوضوء، ومنها

توليد الشعور الإجمالي بالعبادة في قلبه، وهذا شيء عرفناه بنفسنا، ورأينا أثره في

غيرنا ممن تربوا تربية دينية، فلا يصح لمن لم يذقه أن ينكره، ومنها تعويده

المحافظة على المكتوبات في أوقاتها، فإن كل عمل يؤدى بنظام في أوقات معينة،

يحتاج فيه إلى التعويد في الصغر، فقلما يحافظ الإنسان على عمل منتظم لم يتعوده،

وإن هو اعتقد نفعه في الكبر. فأنا اعتقد أن الرياضة البدنية من الضروريات لذي

الأعمال العقلية مثلي، واستحث عزيمتي للارتياض كل يوم، فلا تواتيني إلا في

بعض الأيام، وإنني أعاتب نفسي منذ سنين على هذا الإهمال والتقصير، ولو لم

أكن مواظبًا على الصلاة من الصغر، لما بعد أن أترك بعض أوقاتها تكاسلاً أو تأوّلا.

ومن فوائد المواظبة على الصلاة قبل البلوغ، أن المواظب عليها لا يقع بعد

البلوغ في مهلكة الشبان، التي يعبر عنها كتاب العصر بالعادة المضرة، وناهيك

بشرورها ومضارها، وإذا هو اجترحها لا يفرط فيها، فإن لم يتركها لأنها محرمة،

امتنع من الإسراف فيها؛ استثقالاً لتكرار الغسل، وهذا ضرب من ضروب

نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، والناس عنه غافلون.

تعليم الدين

في المدارس المصرية

بحث قوم في تعلم الدين بمدارس الحكومة، فمنهم من قال بوجوب الزيادة فيه،

ومنهم من قال: إن ما فيها كاف، ومنهم من قال: إنه لا ينبغي أن يعلَّم الدين في

المدارس، وإنما موضع تعليمه البيوت، وهم يعلمون أن تعليم البيوت منوط بالنساء،

وأن النساء المصريات لسن على شيء من علم الدين، ولا من علم الدنيا الذي يؤخذ

بالتلقين ، وقد رددت الجرائد هذه الأقوال، ولم أر فيما قرأته فيها بيانًا صحيحاً لما

يجب أن يكون عليه هذا التعليم في هذه المدارس، ولا في غيرها. وقد طلبت

الجمعية العمومية من الحكومة التوسع في تعليم الدين بمدارسها، فقررت نظارة

المعارف زيادة دروسه في المدارس الابتدائية، فانتقدت ذلك الجرائد التي لا يرضيها

من الحكومة شيء ولم تبين ما هو الصواب. وعندنا أنه يجب أن يكون معظم هذه

الدروس في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ثم في سيرة الخلفاء الراشدين إن

اتسع لها الوقت، وإلا كانت عبثا.

وقد وجد القبط فرصة في هذه الأيام لطلب كان قد سبق لهم فلم يجب، فطلبوه

فأجيب الآن، وهو أن تعلَّم الديانة النصرانية في هذه المدارس أيضا وقد عُدَّتْ إجابتهم

إلى هذا الطلب غريبة؛ إذ لا يعهد تعليم دينين في مدارس حكومة من حكومات

الأرض، بل لا تسمح حكومة أوربية أن يعلم في مدارسها مذهب من مذاهب الديانة

المشتركة بين أهل المملكة، غير مذهب الحكومة، أعني أن حكومة إنكلترا التي

تدين بمذهب البروتستانت، لا تسمح لرعيتها من الكاثوليك أن يعلموا مذهبهم في

مدارسها.

وجم المسلمون لهذا العمل وكثر كلامهم فيه، ولو خاضت الجرائد فيه لكان هو

الشغل الشاغل للقطر كله، ولكنها سكتت لما نعلم ويعلم سائر العقلاء العارفين بالمأزق

الذي وضعت فيه نفسها. وقد سألني كثير من المتفكرين عن رأيي في ذلك، وكان

منهم بعض المدرسين في المدارس والأزهر، فقلت ما حاصله: إن للمسألة وجهًا

دينيًّا، ووجهًا سياسيًّا، فهي من الوجه الديني نافعة للمسلمين؛ لأن التعليم الديني

في المدارس كان نائما فهي توقظه، أو كان ميتًا فهي تنفخ فيه شيئًا من روح الحياة.

وأما من الجهة السياسية فهي ضارة بهم؛ لأنها من أمارات كون الحكومة

ليست إسلامية، والذنب في هذا على أهل الشغب من المسلمين الذين أخذوا على

أنفسهم مناصبة القوة المحتلة، وإظهار العدوان لها، ومحاولة إقناع الجمهور بذلك،

وبأن كل من يعمل معهم، أو يعرفهم، فهو عدو للوطن خائن للأمة. ومن العجائب

أن هؤلاء المشاغبين قد ظلموا اسم الإسلام والمسلمين؛ إذ مزجوه بكلامهم، وأدخلوه

في سياستهم الأفينة حتى ظلموا المسمى، لا بتعليم دين آخر في مدارس الحكومة؛

فإن هذا نافع له غير ضار به كما قلنا آنفا، ولكن بما أحدثوا في نفوس الأوروبيين

من أن المسلمين يريدون الاجتماع باسم الإسلام؛ لمقاومة سلطتهم في الشرق، وهذا

غير صحيح، وإن تبجح بما يدل عليه طلاب المال والجاه، باسم الإسلام ومصر،

وقد رأينا بوادر شرور سياستهم، ونعوذ بالله من أواخرها.

ويظن بعض الناس أن تعليم النصرانية في المدارس، ربما يكون مثارًا

للتعصب الديني الجاهلي، ونظن أنه لا خوف من ذلك. ويظن بعضهم أن هذا يكون

سببًا لترك التلاميذ من القبط لحضور دروس القرآن، وحفظ ما يحفظ عادة منه،

وأن ذلك يكون نقصًا في اكتسابهم ملكة اللغة العربية، وهذا معقول ولكن أكثرهم

لا يتركون القرآن فيما أظن.

_________

ص: 123

الكاتب: محمد توفيق صدقي

تاريخ المصاحف

بقلم الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره

(1)

لما لهذا الموضوع من العلاقة الكبرى بجميع مباحثي في الإسلام التي سبق

نشرها في المنار الأغر، رأيت أن أفيض القول فيه بما يزيل ما ران على قلوب

كثير من الناس من الشبهات والإشكالات التي يقذف بها المسلمين دعاةٌ من

المسيحيين، لا يميزون بين الغث والسمين. ولإيضاح المسألة إيضاحًا تامًّا، رأيت

أن أضع مقدمة هامة تمهيدًا للبحث، ودعامة للفحص، فنقول: غير خاف على أحد

أن الأمة العربية قبل الإسلام كانت أمة أمية، يقل فيها وجود من يعرف القراءة

والكتابة معرفة جيدة، وكان جل اعتمادهم في جميع ما يروونه من أنسابهم

وأشعارهم وغيرها على حفظهم لها في صدورهم، ولم يعرف أنه كان عندهم كتاب ما

من الكتب في أي موضوع كان، وغاية ما كانوا يفهمونه من لفظ (كتاب) أنه أي

صحيفة مكتوب عليها؛ من نحو الجلود أو العظام أو الحجارة أو الجريد، بل إن

الصالح للكتابة من كل هذه الأشياء كان لديهم قليلاً؛ ولذلك لم يستغنوا بنوع واحد

منها عن باقيها، ولم يكن عندهم الورق الذي نعرفه الآن، وهذا اللفظ ما كان يطلق

عندهم إلا على ورق الشجر وعلى رقاع من الجلود رقيقة، والإطلاق الأخير

مستعار من الأول.

ولا تجد في اللغة العربية اسمًا خاصًّا بما يشبه ورقنا المعروف سوى لفظ

واحد وهو (الكاغد) وهو فارسي معرب، وقد أدخلته العرب في لغتها بعد النبي

صلى الله عليه وسلم؛ فلذا لم يرد في كلامهم قبله عليه السلام ولا في عصره، ولم يرد في أحاديثه ولم نسمع أنه كان مما يكتب عليه القرآن في حياته عليه السلام، والغالب أن هذا اللفظ دخل في اللغة العربية بعد فتح المسلمين لبلاد فارس، وأما لفظ

(القرطاس) فهو أقدم في اللغة، وورد في القرآن الشريف، وكان معناه عندهم

الصحيفة من الأشياء التي كانوا يستعملونها للكتابة، ثم أطلقوه فيما بعد على

الكاغد أيضًا حينما عرفوه، وصاروا يسمون به كل ما يكتبون عليه من الصحف،

هذا وإن ما ورد في كلامهم من لفظ (كتاب) كانوا يريدون به ما يطلق عليه في

عرفنا اليوم لفظ (خطاب) أو جواب، ومنه قوله تعالى في قصة سليمان: {اذْهَب

بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم} (النمل: 28) ، ومنه كتب النبي صلى الله عليه وسلم

إلى الملوك؛ يدعوهم إلى الإسلام، ومثل الكتاب: السفر والزبور والسجل والدفتر،

فإن معانيها كلها متقاربة، وما كانوا يفهمونها كما نفهمها الآن؛ ولذلك لما جمع القرآن

بعد النبي، اختلفت الصحابة في ماذا يسمونه به وتوقفوا؛ لأنهم لم يعهدوا مثله من

قبل، ثم استقر رأيهم أخيرًا على تسميته بالمصحف؛ تبعًا لأهل الحبشة في تسمية

مجموعاتهم بذلك، والمصحف: الكتاب، بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن عند الإطلاق؛

لأنه مأخوذ من أصحف أي جمع الصحف. وكل صحيفة كتاب عند العرب كما

ذكرنا، وكانت أيضًا كتب بعض الأمم غير العربية عبارة عن قطع من الجلود أو

القماش، يختلف عرض الواحدة منها من 12 إلى14 قيراطًا، وكانوا يلفونها على

قضيب من الخشب ملصق بأحد أطرافها كما تلف الخرائط الجغرافية الآن. وهذا هو

الطي المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب} (الأنبياء:

104) ولا تزال التوراة مطوية كذلك عند السامريين إلى اليوم.

هذا الذي تقدم، ليس خاصًّا بمشركي العرب، بل يشمل أيضًا أهل الكتاب

منهم، ولذلك لا نسمع بوجود نسخه كاملة من التوراة أو الإنجيل بينهم كالنسخ

الموجودة الآن، ولم يكن عندهم سوى أجزاء قليلة منهما مكتوبة على قطع متفرقة

من الجلود أو العظام أو الخشب أو نحوه. فلذا وصفهم القرآن الشريف بقوله:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَاب} (آل عمران: 23)، وخاطبهم بقوله:

{يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} (المائدة: 15) وقال فيهم: {وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) وقال

لهم:] قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ [1] الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ

قَرَاطِيسَ [أي صحفًا متفرقة (الأنعام: 91) ] تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ

تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ [وقال أيضًا: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ

هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا

يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) وهذا كله يدل على أن كتبهم المقدسة ما كانت تامة ولا

محصورة بين دفتين، بحيث لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وإنما كانت مبعثرة في

رقاع منثورة، وأن بعض صحفهم كان حقًّا والبعض الآخر كان باطلاً. أما ما ورد في

القرآن من نحو قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّه} (المائدة: 43) ، فمعناه أن عندهم أجزاء من التوراة فيها حكم الله في المسألة التي

تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكما يطلق لفظ القرآن ويراد به أجزاء

منه، كذلك يطلق لفظ التوراة أو الإنجيل ويراد به بعضها أو أجزاء منها، وهذه مسألة

شائعة في القرآن الشريف وفى اللغة، ومن ذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي

أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} (البقرة: 185) أي بعضه أو جزء منه.

قدمنا لك هذه المقدمة؛ لتعلم أن العرب ما كانت تعرف الكتاب ولا

الورق بمعنييهما عندنا، وأوضحنا لك فيها درجة معرفتهم القراءة والكتابة، وذكرنا

لك ما كانوا عليه يكتبون.

بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم وحالتهم كما علمت، وأوحي إليه

هذا القرآن ليبلغهم إياه، فانظر ماذا فعله هذا الرسول الأمين حتى نشر بينهم

الكتاب المبين.

علم قوة ذاكرتهم واعتمادهم عليها في نقل أخبارهم وأشعارهم، حتى إن

كثيرًا منهم كان يسمع الأبيات من الشعر أو القصيدة الطويلة تتلى عليه فيحفظها من

أول مرة، فداوم صلى الله عليه وسلم على حضهم على تلاوة القرآن، وبالغ في

حثهم على حفظه وضبطه. وفرض عليهم قراءته في الصلوات، وبقي على هذه

الحالة بضعًا وعشرين سنة حتى كثر فيهم القراء، وكانت السورة الواحدة يحفظها

الألوف من الناس، والقرآن كله يحفظه الكثيرون منهم. لم يكتف صلى الله عليه

وسلم بذلك؛ بل أمر بكتابته، واختار طائفة منهم لتكتبه له على ما تيسر له إذ ذاك

من الجلود والعظام والجريد والحجارة وغيره مما كانوا يعرفونه، وأكثر في ترغيبهم

في التعلم ومدح القراءة والكتابة بنحو قوله: يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدماء

الشهداء، ومثل ذلك في الأحاديث كثير. ورد في القرآن الشريف أيضًا قوله

تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) وقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي

عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) وذم الله تعالى أهل الكتاب

بقوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (البقرة:

78) وألزم تعالى المؤمنين بكتابة الدَّين في الآية المشهورة في آخر سورة البقرة؛

وبذلك وجدت فيهم الرغبة في تعلم القراءة والكتابة، وأخذ عدد الكاتبين بينهم يزداد

شيئًا فشيئًا، وكتب كل ما نزل من القرآن كثير من المسلمين في عهده عليه الصلاة

والسلام. ولم يمت إلا بعد أن كانت جميع السور مرتبة الآيات، مكتوبة في السطور

عند الكثير منهم، محفوظة في صدور الجماهير وبعد أن سمعوها منه مرات عديدة في

الصلوات والخطب وغيرها، وسمعها هو أيضًا منهم. والخلاصة أن النبي عليه

السلام تبع أقرب الطرق لتعميم نشر القرآن المجيد بين أفراد الأمة العربية، وعمل

أحسن ما يمكن عمله بالنسبة لمعلوماتهم وحالتهم.

سمت نفوسهم بعد ذلك للعلا بما بثه فيهم واستعدت للرقي، فلما كثر اختلاطهم

بمن جاورهم من الأمم، أخذوا ينقبون ويفتشون في أحوالهم بعيون مبصرة

وعقول مفكرة؛ كي يعثروا على جديد يقتبسونه أو إصلاح إلى بلادهم يسوقونه،

فبصروا بما لم يبصروا به من قبل. ووجدوا أن لتلك الأمم طريقة أخرى في

تدوين معلوماتهم لم تكن تخطر على بالهم. وهي أن يكتبوها على صفحات صحف من

نوع واحد، يضمون بعضها إلى بعض مرئية على حسب ترتيب عباراتها،

وربما رأوا أنواعًا أخرى من القرطاس أحسن من التي كانوا يعرفونها؛ كأوراق

البردي بمصر مثلاً.

دعاهم داعي الفزع عند قتل سبعين من القراء يوم اليمامة إلى المبادرة

والإسراع في جمع القرآن على طريقة تلك الأمم؛ خوفًا عليه من الضياع من تلك

الرقاع المختلفة، فعقدوا في الحال اجتماعًا، واستقر رأيهم إجماعًا على العمل

على تلك الطريقة. وهكذا جمع القرآن، ووجد بين العرب أول كتاب بالمعنى الذي

نفهمه نحن الآن، وتحقق وعد الرحمن:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) .

اختلف المسلمون في ترتيب سور القرآن وطرق قراءته. وتبع ذلك اختلاف

مصاحفهم؛ لأن الرسول لم يلزمهم باتباع ترتيب مخصوص في السور، ولم يجمعهم

على قراءة واحدة، سور القرآن كل منها ككتاب قائم بذاته كما قال تعالى: {رَسُولٌ

مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (البينة: 2-3) فليس ثم فائدة كبيرة

في التزام ترتيب مخصوص، ولفظ (سورة) مأخوذ من سور المدينة سميت به

القطعة المخصوصة من القرآن؛ لأنها طائفة مستقلة بذاتها. فكأنه صلى الله عليه وسلم

ترك بين المسلمين 114 كتابًا، كل منها محفوظ مكتوب مرتبة آياته، وجمعها

بالطريقة الحاضرة لم يكن معروفًا في عهده، وإنما حدث بعده بقليل، وإن كانت في

زمنه مجموعة عند بعضهم في الصحف المتنوعة التي ذكرناها.

أما اختلاف القراءات فهو نوعان: اختلاف بسبب اللهجات كالإمالة

وعدمها، واختلاف آخر في الكلمات كتغيير شكلها أو إعرابها أو بعض حروفها أو

نحو ذلك، ولكل من النوعين فوائد، ففوائد الاختلاف بسبب اللهجات هي:(1)

تسهيل نطقه وفهمه وحفظه لقبائل العرب (2) إظهار أنهم يعجزون جميعًا عن

الإتيان بمثل سورة منه كما تحداهم بذلك، ولو بلغاتهم المختلفة، وأن عجزهم عن

المعارضة ليس ناشئًا عن نزوله بلهجة واحدة لا يعرفها كثير منهم. وفوائد اختلاف

الكلمات هي: (1) تسهل حفظه على كل أحد. وبيان ذلك أن من أراد حفظ

القرآن كثيرًا ما يسبق لسانه بنطق مخصوص. فإذا علم أن هذا خطأ جاهد نفسه

لتقويم لسانه، ولكن إذا علم أن قراءته جائزة لم يحتج إلى هذا العناء مثلاً إذا أراد أن

يحفظ قوله تعالى: {كَلَاّ بَل لَاّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الفجر: 17- 18) فيجهد نفسه في العدول عن ذلك، ولكنه إذا علم أن هذه

قراءة جائزة لا يحتاج إلى التعب. وهذا الأمر يدركه جيدًا من عانى حفظ القرآن

الشريف. ومن ألزم بإصابة غرض واحد لا غير، ليس كمن أبيح له إصابة أي

غرض من بين بضعة أغراض. ولا تنس ما لتسهيل حفظ القرآن على الأمة من

الفوائد، فإنه أعظم طريقي القرآن في نقله وروايته، وخصوصًا في الأزمنة القديمة

وبين الأمم الساذجة. (2) تكثير المعاني، فبتعدد القراءات تكثر المعلومات وتزداد

الفوائد. وقد يكون بعض المعاني مبينًا للبعض الآخر. (3) تخفيف بعض

الأحكام فمثلاً قوله تعالى في آية الوضوء: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) بالكسر، يفهمنا أن الغسل المفهوم من قراءة الفتح غير واجب على

التعيين وأن المسح يكفي. فلهذه الأسباب ولغيرها كان الرسول صلى الله عليه

وسلم يقرئ المسلمين القرآن بأوجه مختلفة؛ ولذلك قال كما تواتر عنه (أنزل

القرآن على سبعة أحرف) الحديث، ولفظ السبعة تستعمله العرب أحيانًا للمبالغة في

الكثرة، فيحتمل أن يكون هذا هو المراد هنا، وأن المراد سبع لهجات العرب

الشهيرة، وهو لا ينافي أن هناك قراءات أخرى غير اللهجات؛ إذ لفظ الحديث لا

يفيد القصر.

وقع الخلاف بين المسلمين في هذه القراءات إلى أن اشتد في زمن عثمان -

رضي الله عنه؛ إذ كان بعضهم إذا تلقى قراءة وسمع من غيره ما يخالفها

نازعه في ذلك، واتهمه بالتحريف، فخشي أن يحصل بينهم من الاختلاف في

القرآن ما حصل بين أهل الكتاب. ورأى أن يجمع المسلمين على مصحف واحد،

ينسخون عنه ويرجعون إليه في ضبط مصحافهم؛ حتى لا يكون فيها اختلاف ولا

تكثر فيها هذه القراءات، وأخبر جمهورًا عظيمًا من أصحاب رسول الله بذلك،

فوافقوه على رأيه، فأمر بكتابة المصحف على طريقة قريش في الرسم، وكان

الكتَّاب فريقا من الصحابة أيضًا، فكتب عدة مصاحف بهذه الطريقة بعد التحري

والتدقيق ومراجعة ما كتب قبل ذلك، وبعد السماع من الحفاظ وإن كان الكاتبون هم

أيضًا من الحفظة، ثم أرسلت هذه المصاحف إلى الآفاق التي انتشر فيها الإسلام،

وفيها الجماهير من الصحابة ومن أخذ القرآن عنهم حفظًا وكتابة، فوافقوا جميعًا على

استعمالها والتعويل عليها، وأعدموا غيرها مما عندهم. وكان ذلك بعد وفاة النبي

بخمس عشرة سنة (أي سنة 25 هجرية) .

هذا ومن علم طباع العرب وغلظها وشدة إيمانهم وتمسكهم بدينهم، وعرف

ما كان عليه الخلفاء الراشدون من الأخلاق، وأنهم ما كانوا ليستبدوا بالأمر في شيء،

حتى لو أرادوه لما قدروا عليه؛ وعرف حال عثمان وسبب قتله من عرف ذلك كله

أيقن أنهم لو كانوا وجدوا في مصاحف عثمان عيبًا لرفضوها، ولأثيرت حروب

وأريقت دماء، وكان دم عثمان في أولها، ولارتد كثير من الناس عن الإسلام لهذا

السبب، ولَعَاب المسلمين بتحريف القرآن من خالطهم أو دخل فيهم من أهل الكتاب

وغيرهم، ولما اتفقوا جميعًا على قبول هذه المصاحف، ولوجدت مصاحف مختلفة

بينهم إلى اليوم. فعدم حصول شيء من ذلك يدل على أن هذه المصاحف هي عين ما

تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصوصًا لأن الذين تلقوها بالقبول ما

كانوا جاهلين حرفًا واحدًا من القرآن، بل كانوا حافظين له حفظًا جيدًا في الصدور من

قبل وجود هذه المصاحف وكثير منهم كانوا ممن تلقوه كله أو بعضه مباشرة عن النبي

صلى الله عليه وسلم.

هذه المصاحف العثمانية لم تكن منقوطة ولا مشكولة، ورسمها في كثير

من المواضع يخالف ما اصطلح عليه الناس فيما بعد من قواعد رسم الكلمات

العربية، ولكن جرى المسلمون على تقليد هذا الرسم في جميع بقاع الأرض؛ على

مخالفة بعضه لما وضعوه من القواعد؛ يُعد محافظة منهم على عمل الصحابة

رضوان الله عليهم، وتحاشيًا لعمل أي تصحيح أو تحرير في الكتاب، ولم يخرجوا

عنه إلا في الأزمة الأخيرة في كلمات قليلة كتبوها على مقتضى طريقتهم، على

أن أكثر مصاحفهم لا يزال إلى اليوم كالكتْبة الأولى، لكنها في الغالب منقوطة

مشكولة.

أما القراءات، فاستمرت مختلفة بين المسلمين إلى زمننا هذا، فهم وإن

كانوا أجمعوا على المصاحف العثمانية إلا أن القراءات التي كانوا يقرأون بها من

قبل - هي وكانت غير مخالفة للرسم العثماني مخالفة يعتد بها - استمروا على القراءة

بها فيما بعد، أما التي تخالفه، فأخذت تتلاشى من بينهم شيئًا فشيئًا. وعليه

فوجود المصاحف العثمانية أفاد المسلمين ثلاث فوائد:

(الأولى) إجماعهم على مصحف واحد في الكتابة.

(الثانية) تقليل الاختلاف بينهم في القراءة.

(الثالثة) اتفاقهم على ترتيب مخصوص للسور، ولعل هذا الترتيب كان

يستحسنه الرسول، وإن لم يوجبه كما سبق.

تواتر من هذه القراءات المختلفة سبع، روى كلا منها عن رسول الله صلى

الله عليه وسلم الجم الغفير من أصحابه، وأخذ عنهم في البقاع المختلفة الجماهير

من التابعين، فأخذ عنهم من بعدهم وهكذا إلى اليوم. وهذا القراءات المتواترة

يحتملها رسم المصاحف، ولا تخالفه كما قلنا مخالفة يعتد بها أو صريحة إذا

جردت من النقط والشكل كما كانت.

اشتهر بين التابعين ومن تبعهم أناس بإتقان هذه القراءات وتعليمها

لغيرهم، فنسبت إليهم، وسموا أئمتها وإن كانت متواترة بين المسلمين في جميع

البلاد، وهؤلاء هم عبد الله بن كثير بمكة، وعبد الله بن عامر بالشام،

وعاصم بالكوفة، وكذلك حمزة والكسائي ونافع بالمدينة، وأبو عمرو بن العلاء

بالبصرة وفيهم الثلاثة الأول تابعيون، بقي المصحف غير منقوط ولا مشكول

إلى أن كثرت الأعاجم واختلطت بالعرب، ففشا فيهم اللحن حتى اضطروا إلى

ضبطه، فكان أول من وضع عليه الضبط أبو الأسود الدؤلي في أوائل حكم بني

أمية، وكان ضبطه أن يضع نقطة فوق الحرف إن كان مفتوحًا، وتحته إن كان

مكسورًا، وبجانبه إن كان مضمومًا، واستمرت الحال على ذلك إلى زمن الخليل

ابن أحمد النحوي المشهور، فوضع للمصحف شكلاً آخر، كان أساسًا للشكل الحالي

الذي جرى عليه المتأخرون، وكانت وفاة الخليل هذا سنة 170 للهجرة.

أخذت طرق كتابة المصاحف تتحسن شيئًا فشيئًا إلى أن اخترعت

المطابع، فطبع أول مصحف في مدينة همبورغ بألمانيا سنة 1694 للميلاد، أي

في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، وبعد ذلك انتشرت المصاحف المطبوعة في

العالم، وحلت محل المنسوخة باليد، وقد أخذوا الآن يرسمونها بواسطة المصورات

الشمسية (الآلات الفتوغرافية) ، وهكذا حفظ الله تعالى كتابه حتى وصل إلينا بدون

تحريف ولا تبديل. وكان المصحف في جميع هذه الأطوار المختلفة التي وصفناها لك

مهيمنا عليه بآلاف الألوف من الحفظة في جميع البقاع الإسلامية، ولا تزال الحال

كذلك إلى عصرنا هذا مع ضعف المسلمين وتأخرهم. ومن عجيب عناية الله بهذا

الكتاب المجيد أن قيض لنا اليوم في مصر؛ من يحثنا من غير أهل ديننا ومن غير

جنسنا على تعميم الكتاتيب في جميع الأقاليم، من بعد أن ظننا أن زمن الحفظة

انقضى أو كاد ينقضي من بيننا، فأجيب دعاء الداعي إلى ذلك، وانتشرت الكتاتيب

في البلاد، وكثرت الحفاظ مرة أخرى، وتجدد عندنا ألوف من الأطفال يحفظونه

كله في صدورهم فضلاً عن الرجال والشيوخ.

نظرنا في هذا الكتاب المتواتر عن صاحبه نظرة، فأيقنا بسببه بدون نظر

إلى أي شيء سواه مِن صِدقه عليه السلام في دعواه، وأنه مبلغ عن الله (راجع

مقالنا الدين في نظر العقل الصحيح) ، ثم وجدنا فيه أن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا

الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فعلمنا أن كل رواية يفهم منها أن القرآن

ضاع منه شيء لابد أن تكون موضوعة مدسوسة، وإن لم يتضح هذا الأمر من

سندها؛ لأنها تنافي ذلك القول المتواتر عن النبي الصادق. على أن جميع هذه

الروايات منقولة عن الآحاد، وقد اتضح كذب كثير من رواتها وهي أيضًا معارضة

بأمثالها؛ كالذي روي عن ابن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري أنه قال:

(ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين) وناهيك بابن عباس ثقة

في هذا الموضوع، وقد أجمع المحققون من المسلمين أن القرآن لا يثبت إلا

بالتواتر، فما زعم الآحاد أنه كان قرآنًا وضاع أو نسخ لا يقبل منهم (راجع مقالتنا

في الناسخ والمنسوخ) ، فقد وجد بين الرواة من هو ضعيف الفهم أو سخيف الرأي

أو كذوب يريد تشكيك المسلمين في دينهم، أو يريد أن يؤيد دعوى أو مذهبًا له

بأمثال هذه الروايات، ولكن العقلاء لا يقبلونها لئلا يؤديهم ذلك إلى رفض المتواتر،

فيكونوا ممن يرجح الدلالة الظنية على الدلالة المقطوع بها، ومن كان كذلك

كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم

يحسنون صنعًا.

بقي عليّ نقطة واحدة في هذا الموضوع، لا بد لي من الكلام عليها قبل

الانتهاء منه؛ وهي دعوى بعض الجهلة الغافلين أن في القرآن لحنًا، ويذكرون من

ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة:

69) ، وقوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ

وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) ؛ لأن

مقتضى الظاهر نصب (الصابئين) ورفع (المقيمين الصلاة) طبقًا لقواعد النحو

المعروفة، وما مثلهم في هذه الدعوى إلا كمثل تلميذ في مكتب سمع من أستاذه بعض

نظريات يفسر بها ظواهر وجودية طبيعية، فظن أنه عرف كل شيء، وأن أستاذه لا

تخفى عليه خافية، وبعد ذلك رأى في الوجود شيئًا يخالف ما وضعه له المعلم من

القواعد، فصاح قائلا: الطبيعة أخطأت، النظام اختل، الكون فسد لأنه خالف قواعد

أستاذي. وما دري أن عقله في الحقيقة هو الذي اختل وفسد، فكذلك شأن هؤلاء

القوم. القرآن ينبوع الفصاحة والبلاغة وحجة اللغة الناهضة، وهو أساس ما وضع

من القواعد النحوية بعده، فلا يليق أن نلزمه بالجري عليها، وأن نجعلها أصلاً له

ونحكم بخطئه إذا هو خالفها، بل الواجب إذا لم ينطبق شيء منه على بعضها؛ أن

تعلم أنها معيبة أو أنها غير وافية بالغرض في بعض المسائل؛ لعدم إحكام وضعها

هذا إذا لم يمكنا التطبيق. وما من لغة إلا وفى أشهر كتبها القديمة وأبلغها ما

يخالف ما وضع من القواعد فيما بعد، حتى يضطر الواضعون إلى استثنائه أو

تطبيقه عليها بوجه ما، وكذلك فعل علماء اللغة العربية في أمثال هذه الآيات، حتى

أجروها على قواعدهم كما هو مبين في التفاسير، ولا حاجة بنا لنقل ذلك هنا لعدم

أهميته.

فإن قيل: نحن لا نقول: إن هذا الخطأ كان في أصل القرآن، وإنما هو

من نساخ المصاحف في زمن عثمان، قلنا: إن هؤلاء النساخ كانوا من الفصحاء

اللدّ، فكيف يقعون في هذا الخطأ، ويتفقون عليه في جميع المصاحف التي كتبوها

وأرسلوها إلى الأقطار الإسلامية؛ بحيث لا يوجد مصحف واحد خاليًا من الغلط في

هذه الآيات بعينها؟ وكيف تتفق الحفظة في جميع الأزمنة على قراءة هذه الألفاظ

المتنازع فيها كما كتبت في المصاحف؛ مع العلم بأن القراء إنما يتلقون قراءتهم

عمن قبلهم بقطع النظر عن مرسوم الخط وعما وضع من القواعد النحوية، وقد

توارثوا هذه القراءات بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجود

مصاحف عثمان، كما بينا ذلك فيما سبق؟ ومن علم عناية المسلمين بالتجويد وضبط

القراءات وأحكام نطق اللهجات المختلفة، وأنهم لا يأخذون ذلك من الكتب بل

بسماع من أتقنها ممن تقدمهم، علم فساد أمثال تلك الانتقادات الباردة وسقوطها.

وصفوة المقال أن القرآن وصل إلينا بدون تحريف حرف واحد منه أو تبديله

فهو مكتوب اليوم كما كتبه الصحابة أنفسهم، مقروء كما قرأه النبي صلى الله عليه

وسلم، ولا نعرف كتابًا آخر في الدنيا بلغت العناية به من أهله مبلغها بالقرآن، فإن

الكتب الأخرى التي نعرفها، لا يخلو كتاب منها من الوصمات الآتية كلها أو بعضها

(1)

أنها لم تكتب في زمن الآتي بها أو لم يعرف باليقين من هو. (2) لم تحفظ

في الصدور لا من العامة ولا من الخاصة. (3) لم تكن نسخها كثيرة، وفي

أغلب الأزمنة القديمة لم تكن في أيدي العامة. (4) رواها الآحاد، واختلفت

روايتهم. (5) فقدت وانقطع سندها؛ إما بسبب الارتداد العام من أصحابها،

أو بسبب الاضطهادات الشديدة، وقصد الأعداء إبادتها وإحراقها. (6) وجد أمثالها

معارضًا لها، وكثير منها لا يرجح عليها بزيادة في قوة إسناده. (7) وجود بعض

فقرات فيها تدل على بطلان النسبة إلى من نسب إليه الكتاب. (8) مملوءة بخلط

النساخ. (9) مملوءة بالتناقض والزيادة والنقصان والتبديل. (10) وجود

اختلافات بين نسخها قديمًا وحديثًا. (11) اختلاف الطوائف في قبول بعضها أو

رفضه، بل اختلاف الطائفة الواحدة في قبول بعض الكتب أو ترجمتها في

بعض الأزمنة ورفضها في الأخرى. (12) وجود ما يقطع بعدم صحته فيها،

والغلطات التاريخية والعلمية وغيرها، واشتمالها على ما ينافي الآداب ويفسد

الأخلاق. (13) وجود كثير من اللغو فيها وما لا فائدة فيه، وما يناقض

البراهين العقلية القطعية. (14) وجودها منذ أزمنة بعيدة وخلو أهلها إذ ذاك من

العلم والتحقيق والتمحيص. (15) مناداة مخالفيهم في الأعصر الأولى بأنهم

يحرفون كتبهم ويبدلونها ويغيرونها، كما جاهر بذلك (سكسوس) الفيلسوف الشهير.

فهذه خمسة عشر وجهًا مما تنتقد به تلك الكتب، وجميعها يتنزه عنها القرآن

الشريف. وقد ذكرت عدة من شواهدها بالإيجاز في رسالتي التي نشرت سابقًا في

المنار. ومن أراد الإيضاح فعليه بالكتب المؤلفة في هذا الشأن إسلامية كانت أو

غيرها عربية أو إفرنجية، والسلام على من اتبع الهدى.

(المنار)

ذكرتنا هذه المقالة بكتاب تاريخ القرآن والمصاحف الذي يؤلفه صاحبنا موسى

أفندي جار الله الروسي، وإننا وعدنا عند ذكره في آخر جزء من السنة الثامنة

بالعودة إلى تقريظه، وكنا نسينا الكتاب والوعد، وقد أوضح مسألة جمع القرآن،

وأطال في بيان حفظه وعدم ضياع شيء منه، وسننقل منه ذلك في الجزء الآتي.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

حاشية للكاتب - المراد بالكتاب في جميع هذه الآيات الوحي المكتوب، بقطع النظر عن كيفية كتابته ووضعه، كقوله تعالى:(ذلك الكتاب لا ريب فيه)، وقوله:(كتاب أنزل إليك) ، والقرآن حينئذ لم يكن تامًّا ولا مجموعًا، وإنما المراد ما كان يوحي في ذلك الوقت فيكتب.

ص: 129

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌كلمة إنصاف واعتراف

محمد توفيق صدقي

يرى الناقد البصير أن ما كتبته في هذه المسألة ينحصر في بحثين، بحث في

السنة القولية وبحث في السنة العملية، ثم يرى أن الرادّين عليّ لم يأتوا بشيء في

المبحث الأول يشفي عليلاً أو يروي غليلاً. وأن أستاذنا الكبير ومصلح الإسلام

العظيم السيد محمد رشيد يوافقني في هذا البحث، بل هو مرشدي الأول. وأما

البحث الثاني (السنة العملية) فالشطط الوحيد الذي ارتكبته فيه على ما أرى؛ هو

إنكاري وجوب ما فهم الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه دين واجب ولم

يكن مذكورًا في القرآن، ولكن أجمع عليه المسلمون سلفهم وخلفهم؛ عملاً واعتقادًا

بدون أدنى اختلاف بينهم. وأهم ذلك في الحقيقة مسألة ركعات الصلاة، وأرى أن

ما كتبه صاحب المنار الفاضل في هذه المسألة كافٍ في الرد عليّ، فأنا أعترف

بخطأي هذا على رؤوس الأشهاد وأستغفر الله تعالى مما قلته أو كتبته في ذلك،

وأسأله الصيانة عن الوقوع في مثل هذا الخطأ مرة أخرى. وأصرح بأن اعتقادي

الذي ظهر لي من هذا البحث بعد طول التفكر والتدبر هو أن الإسلام هو القرآن وما

أجمع عليه السلف والخلف من المسلمين عملاً واعتقادًا أنه دين واجب وبعبارة أخرى

أن أصلَي الإسلام اللذين عليهما بني هما الكتاب والسنة النبوية بمعناها عند السلف؛

أي طريقته صلى الله عليه وسلم التي جرى عليها العمل في الدين. ولا يدخل في ذلك

عندي السنن القولية غير المجمع على اتباعها، ولا ما كان ذا علاقة شديدة بالأحوال

الدنيوية كبعض الحدود ومقادير زكاة المال والفطر والأصناف التي تؤخذ منها؛

وغير ذلك مما لم يذكر في الكتاب العزيز. فأبيح بعض التصرف في أمثال هذه

المسائل إذا وجد عندنا مقتض، وبهذا التقرير تزول جميع الإشكالات التي أوردتها

في مقالتيّ السابقتين، نسأل الله تعالى الهداية في القول والعمل، والصيانة من

الشطط والزلل.

...

...

...

...

الدكتور

...

...

...

... محمد توفيق صدقي

...

...

...

الطبيب باسبتاليات سجن طره

(المنار)

نحمد الله أن ظهر صدق قولنا في الرجل وأنه معتقد، ويذعن لما يظهر له أنه

الحق.

_________

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(اللص والقاضي)

عن محمد بن مقاتل الماسقوري قاضي الري قال: كان محمد بن الحسين

يكثر الإدلاج إلى بساتينه فيصلي الصبح، ثم يعود إلى منزله إذا ارتفعت الشمس

وعلا النهار، قال محمد بن مقاتل فسألته عن ذلك، قال: بلغني في حديث عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي الصلاة في الحيطان)

وذلك أن أهل اليمن يسمون البستان الحائط، قال محمد بن الحسين: فخرجت

إلى حائط لأصلي فيه الفجر؛ رغبة في الثواب والأجر، فعارضني لص جريء

القلب، خفيف الوثب في يده خنجر كلسان الكلب، ماء المنايا تجول على فرنده،

والآجال تحول في حده، فضرب يده إلى صدري، وَمَكَّنَ الخنجر من نحري،

وقال لي بفصاحة لسان وجراءة جنان: انزع ثيابك واحفظ إهابك، ولا تكثر

كلامك، تلاق حمامك ودع عنك اللوم، وكثرة الخطاب، فلا بد من نزع الثياب.

فقلت له: يا سبحان الله، أنا شيخ من شيوخ البلد، وقاض من قضاة المسلمين،

يُسمع كلامي ولا تُرد أحكامي، ومع ذلك فإني من نقلة حديث رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - منذ أربعين سنة، أما تستحي من الله أن يراك حيث نهاك. فقال:

يا سبحان الله، أنت أيضًا أما تراني شابًّا ملء بدني أروق الناظر وأملأ الخاطر

وآوي الكهوف والغيران، وأشرب القيعان والغدران، وأسلك مخوف المسالك،

وألقي بيدي في المهالك، ومع ذلك فإني وجل من السلطان، مشرد عن الأهل

والأوطان، وأخشى أن أعثر بواحد مثلك وأتركه يمشي إلى منزل رحب، وعيش رطب، وأبقى أنا هنا أكابد التعب، وأناصب النصب، وأنشأ اللص يقول:

تُري عينيك ما لم تَرَ إياه

كلانا عالم بالترهات

قال القاضي: أراك شابًّا فاضلاً ولصًّا عاقلاً ذا وجه صبيح ولسان فصيح،

ومنظر وشارة، وبراعة وعبارة. قال اللص: هو كما تذكر، وفوق ما تنشر. قال

القاضي: فهل لك إلى خصلة تعقبك أجرًا، وتكسبك شكرًا، ولا تهتك مني سترًا؟

ومع ذلك فإني مسلم الثياب إليك، ومتوفد بعدها عليك، قال اللص: وما هذه

الخصلة؟ قال القاضي: تمضي معي إلى البستان، فأتوارى بالجدران، وأسلم إليك

الثياب، وتمضي على المسار والمحاب. قال اللص: سبحان الله! تشهد لي بالعقل

وتخاطبني بالجهل ويحك، من يؤمِّنني منك أن يكون لك في البستان غلامان جلدان

علجان، ذوا سواعد شديدة، وقلوب غير رعديدة، يشداني وثاقا، ويسلماني إلى

السلطان، فيحكم في آراءه، ويقضي علي بما شاءه، قال له القاضي: لعمري، إنه

من لم يفكر في العواقب فليس له الدهر بصاحب، وخليق بالرجل من كان السلطان له

مراصدًا، وحقيق بأعمال الحيل من كان لهذا الشأن قاصدًا، وسبيل العاقل أن لا

يغتر بعدوه؛ بل يكون منه على حذر؛ ولكن لا حذر من قدر، ولكن أحلف لك ألية

مسلم، وجهد مقسم، أني لا أوقع بك مكرًا، ولا أضمر لك غدرًا.

قال له اللص: لعمري، لقد حسّنت عبارتك ونمّقتها، وخشّنت إشارتك

وطبقتها، ونثرت خيرك على فخ ضيرك، وقد قيل في المثل السائر على ألسنة

العرب: (أنجز حر ما وعد) (أدرك الأسد قبل أن يلتقي على الفريسة لحياه ولا

يعجبك من عدو حسن محياه) ، وأنشد

لا تخدش وجه الحبيب، فإنا

قد كشفناه، قبل كشفك عنه

واطلعنا عليه والمتولي

قطع أذن العيار، أعير منه

ألم يزعم القاضي أنه كتب الحديث زمانا، ولقي فيه كهولاً وشبانا، حتى فاز

ببكره وعونه، وحاز منه معنى متونه وعيونه، قال القاضي: أجل. قال اللص:

فأي شيء كتبت في هذا المثل الذي ضربت لك فيه المثل، وأعملت الحيل؟ قال

القاضي: ما يحضرني في هذا المقام الحرج حديث أسنده، ولا خبر أورده، فقد

قطعت هيبتك كلامي، وصدعت قبضتك عظامي، فلساني كليل، وجناني عليل

وخاطري نافر، ولبي طائر، قال اللص: فليسكن لبك، وليطمئن قلبك، اسمع ما

أقول، وتكون بثيابك حتى لا تذهب ثيابك إلا بالفوائد. قال القاضي: هات. قال

اللص: حدثني أبي عن جدي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال، قال:

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين المكره لا يلزمه فإن حلف وحنث فلا شيء

عليه) وأنت إن حلفت حلفت مكرهًا، وإن حنثت فلا شيء عليك، انزع ثيابك.

قال القاضي: يا هذا قد أعيتني مضاة جنانك، وذرابة لسانك، وأخذك عَلَيَّ الحجج

من كل وجه وجانب، أتيت بألفاظ كأنها لسع العقارب، أقم ههنا، حتى أمشي إلى

البستان، وأتوارى بالجدران، وأنزع ثيابي هذه، وأدفعها إلى صبي غير بالغ، تنتفع

بها أنت ولا أتهتك أنا، ولا تجري على الصبي حكومة؛ لصغر سنه وضعف متنه،

قال اللص: يا إنسان، قد أطلت المناظرة، وأكثرت المحاورة، ونحن على طريق

ذي غرر، ومكان صعب وعر، وهذه المراوغة لا تنتج لك نفعا، وأنت لا تستطيع

لما أرومه منك دفعا، ومع هذا فتزعم أنك من أهل العلم والرواية، والفهم والدراية،

ثم تبتدع وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشريعة

شريعتي، والسنة سنتي، فمن ابتدع في شريعتي وسنتي فعليه لعنة الله) قال

القاضي: يا رجل، وهذا من البدع. قال اللص: اللصوصية بنيَّة بدعة، انزع ثيابك، فقد أوسعت من ساعة مجالك، ولم أشدد عقالك، حياء من حسن

عبارتك، وفقه بلاغتك، وتقلبك في المناظرة، وصبرك تحت المخاطرة. فنزع

القاضي ثيابه ودفعها إليه، وأبقى السراويل. فقال اللص: انزع السراويل؛

كي تتم الخلعة. قال القاضي: يا هذا دع عنك هذا الاغتنام، وامض بسلام، ففيما

أخذت كفاية، وخل السراويل فإنها لي ستر ووقاية، لا سيما وهذه صلاة الفجر قد

أزف حضورها وأخاف تفوتني فأصليها في غير وقتها، وقد قصدت أن أفوز بها

في مكان يحبط وزري، ويضاعف أجري، ومتى منعتني من ذلك، كنت كما

قال الشاعر:

إن الغراب وكان يمشي مشية

فيما مضى من سالف الأحوال

فأضل مشيته وأخطأ مشيها

فلذاك كنوه أبا المرقال

قال اللص: القاضي -أيده الله تعالى- يرجع إلى خلعة غير هذه، أحسن منها

منظرا، وأجود خطرا، وأنا لا أملك سواها، ومتى لم تكن السراويل في جملتها،

ذهب حسنها، وقل ثمنها لا سيما والتكة مليحة وسيمة، ولها مقدار وقيمة، فدع

ضرب الأمثال واقنع عن ترداد المقال، ما دامت الحاجة ماسة إلى السروال. ثم

أنشد:

دع عنك ضربك سائر الأمثال

واسمع، إذا ما شئت فصل مقالي

لا تطلبن مني الخلاص، فإنني

أُفتي متى ما جئتني بسؤال

ولأنت إن أبصرتني ذا

قول، وعلم كامل وفعال

جارت عليه يد الليالي فإنني

أبغي المعاش بصارم ونصال

فالموت في ضنك المواقف دون

أن ألقى الرجال بذلة التسآل

والعلم ليس برافع أربابه

أولا، فقد مسه على البقال

ثم قال: ألم يقل القاضي أنه يتفقه في الدين، ويتصرف في فتاوى المسلمين؟

قال القاضي أجل. قال اللص: فمن صاحبك من أئمة الفقهاء؟ قال القاضي:

صاحبي محمد بن إدريس الشافعي، قال اللص: أسمع هذا وتكون بالسراويل،

حتى لا تذهب عنك السراويل إلا بالفوائد؟ قال القاضي: أجل. يا لها من نادرة، ما

أغربها، وحكاية ما أعجبها، قال: حدثني أبي عن جدي عن محمد بن إدريس

يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة العريان جائزة، ولا

إعادة عليه) تأول في ذلك غرقى البحر، إذا سلموا إلى الساحل، فنزع القاضي

السراويل، وقال خذها وأنت أشبه بالقضاء مني، وأنا أشبه باللصوصية منك، يا

من درس على أخذ ثيابي موطأ مالك وكتاب المزني. ومدَّ يده؛ ليدفعه إليه فرأى

الخاتم في إصبعه اليمنى فقال: انزع الخاتم. فقال: إن هذا اليوم ما رأيت أنحس

منه صباحا، ولا أقل نجاحا، ويحك ما أشرهك وأرغبك، وأشد طلبك وكلبك،

دع هذا الخاتم، فإنه عارية معي، وأنا خرجت ونسيته في إصبعي، فلا تلزمني

غرامته.

قال اللص: العارية غير مضمونة ما لم يقع فيها شرط عندي، ومع ذلك أفلم

يزعم القاضي أنه شافعي؟ قال: بلى. قال اللص: فلم تختمت في اليمنى.

قال القاضي: فأنا أعتقد ولاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله

وجهه - وتفضيله؛ على كل المسلمين من غير طعن على السلف الراشدين،

وهذا في الأصول اعتقادي، وعلى مذهب الشافعي في الفروع اعتمادي، فأخذ اللص

في رد مذهب الرفض، وجرت بينهما في ذلك مناظرة طويلة، رويناها بهذا

الإسناد، انقطع فيها القاضي، وقال بعد أن نزع الخاتم ليسلمه إليه: خذ يا فقيه، يا

متكلم، يا أصولي، يا شاعر، يا لص. اهـ (من طبقات الشافعية الكبرى) .

***

(شرح عقيدة السفاريني)

للشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي (رحمه الله تعالى) عقيدة

منظومة اسمها: (الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية) بلغني أن الشيخ حسن

الطويل (عليه الرحمة)، قال لما اطلع عليها ما معناه: إن هذه أول عقيدة

إسلامية اطلعت عليها. ولناظمها شرح مطول عليها سماه (لوائح الأنوار البهية

وسواطع الأسرار الأثرية) .

جمع فيه المؤلف أقوال السلف والخلف، ومذاهب الفرق في مسائل الاعتقاد،

وبين رجحان مذهب السلف على غيره، مؤيدًا ذلك بالدلائل النقلية، وكذا العقلية،

فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جل تحقيقاته فيه من كلام الإمامين الجليلين:

شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم، عليهما الرحمة والرضوان، فجاء

كتابًا حافل الري، جامعًا لما لم يجمعه غيره من المأثور والمروي، كثير الفوائد، جم

الأوابد والشوارد، لا يكاد يستغني عنه طالب السعة والتحقيق في العقائد الإسلامية،

أو يحيط بما في كتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية. نعم إنه ينكر عليه كثرة الروايات

والأقوال المأثورة في أشراط الساعة، ونحوها من المسائل التي ليست من العقائد

الدينية، ومنها ما لا يصح له سند، ولكن من يعلم أنه لا يجب عليه أن يعتقد ما لا

يقوم عليه البرهان، لا يضره إيراد ذلك، وقد ينفعه الاطلاع على تلك الأقوال،

فيستخرج من مجموعها ما يحق الحق ويبطل الباطل.

وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه بشيء من كتب العقائد التي

يتداولها طلاب العلم، وكلها من وضع المتكلمين الذين جروا على طريقة فلاسفة

اليونان، ليس فيها بيان لمذهب السلف يجلي حقيقته، ويوضح طريقته، بل فيها ما

يشعر بأن مذهب السلف هو التمسك بالظواهر من غير فهم ثاقب، ولا علم راسخ،

وأن الخلف أعلم منهم، وهيهات هيهات لذلك، بل السلف أفهم، وأعلم، وأحكم، وما

خالف المتكلمون فيه السلف فهو جهل مبين، أو نزغات شياطين، وبمثل هذا الكتاب

تعرف ذلك.

رغب في نشر هذا الكتاب بعض محبي العلم والدين؛ من العرب الكرام

المخلصين، فأرسل إلينا نسخة خطية منه، فطبعنا له عنها عددًا معينًا، جعله وقفًا

لله - تعالى - يوزع على طلاب العلم السلفيين في بلاد مختلفة، وطبعنا منه على

نفقتنا طائفة من النسخ زيادة عن النسخ الموقوفة، بإذن الطابع الواقف، وهي تباع

بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بثمن قليل بالنسبة حجم الكتاب، وحسن ورقه

وطبعه.

جعل الكتاب جزأين، صفحات الأول 388 والثاني 448، ووضعنا له فهرسًا

مرتبًا على حروف المعجم؛ لتسهيل مراجعة فوائده الكثيرة المطوية في مباحثه

المختلفة، وجدولاً للخطأ والصواب، فدخل ذلك مع ترجمة المؤلف في 38 صفحة

فمجموع صفحات الكتاب 864 ورقة كورق المنار، وثمن النسخة منه غير مجلدة

عشرون قرشًا صحيحًا، ما عدا أجرة البريد.

***

(الوجيز في القانون الجنائي)

عمر بك لطفي من أشهر علماء القوانين في هذه الديار، أتقنها علمًا وتعليمًا

وعملاً، فقد كان مدرسًا بمدرسة الحقوق، ووكيلاً لها زمنًا طويلا، والآن تحسبه

مدرس شرف فيها، وهو الآن يشتغل بالمحاماة وبتدريس القانون الجنائي بمدرسة

البوليس.

وقد ألف في هذه الأيام كتابًا في القانون الجنائي سماه (الوجيز) ، فحسبنا في

تقريظه أن نقول: إنه من تأليفه، وفي الدلالة على وجه الحاجة إليه إلحاح طلاب

المدرستين الحقوق والبوليس عليه، بطلبه وإيداعه ما ألقاه من الدروس عليه.

طبع الجزء الأول من الكتاب على ورق جيد، فكان 378 صفحة، وثمن

النسخة منه ثلاثون قرشا، وهو يباع في إدارة مجلة المجلات العربية وفي المكاتب

الشهيرة.

***

(لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر)

ألَّف ميخائيل أفندي بن أنطون الطقال الحلبي كتابًا سماه (لطائف السمر في

سكان الزهرة والقمر، أو الغاية في البداءة والنهاية) وهو كتاب خيالي الوضع،

أدبي المغزى، من أحسن ما كتب أهل هذا العصر عبارة وموضوعا، تقرأ

الصفحات منه، ولا تكاد تعثر بشيء من الأغلاط التي اعتادها كتابنا عامة، وأهل

الصحف منهم خاصة، ولا تقف عند معنى ينكره الأدب الصحيح، أو يمجه الذوق

السليم، وفي بعض فصوله كثير من مفردات اللغة التي يحتاج إليها الكتَّاب، وهم في

غفلة عنها؛ لقلة بحثهم واطلاعهم في الغالب. وقد طبعه وجعل ثمنه ريالا، وإننا

نورد لك فصلاً منه في تربية الطفل قال:

الفصل الأول من الباب الرابع

في الطلق والولادة وتربية الطفولة

قال والدي: كل امرأة عندنا (أي في الزهرة) خصوف [1] لا تجر [2] ولدها،

وهي تأكل، وتشرب، وتضحك، ولا تشكو، ولا تئن، ولا تتوجع شكوى وأنين

وتوجع بني آدم، بل تضع كأنها تمغص مغصًا ليس بشديد، لا تحتاج إلى قابلة؛

لأنها لا يهددها خطر، إننا لا نُظائر [3] لأننا نقول من رضع من غير أمه فقد تخلق

بأخلاقها، إن المرأة بعد أن تحجم للمولود: أي بعد أن ترضعه أول رضعة،

ترضعه في كل ساعة حترتين (والحترة الرضعة الواحدة) ، حتى إذا بلغ الشهر

السادس من عمره، أرضعته في ثلاث ساعات مرة، فإذا زادت منعت، وعدت

جاهلة بين نسائنا، وهذا يحدث قليلاً أو لا يحدث، لا تعجوه [4] ولا تجدعه [5] . إن

المرضع عندنا لا تأفل [6] والرضيع لا يحصأ [7] .

لا تضع الأم ولدها في سرير يهز، فقد عرفنا أنه تنجم عنه أخطار عظمية،

وربما كان سبب هلاك الطفل منها، إن الاهتزاز الشديد يؤثر في مجموع عصبه،

ويحدث له القيء، وغير ذلك من الأمراض، هذا إذا كان معافى. فإذا كان عليلاً

متألمًا من حالة عصبية دماغية، أو معدية، أو غيرها، ازداد تألمًا بالهز، وتمكنت

منه العلل.

وقد علم أن كثيرين أصيبوا منه بالشوص والحول، هذا إذا لم يسقط الطفل من

سريره؛ لأن في سقوطه الوبال عليه، ومن المعلوم أن الطفل إذا هزز سريره؛ لا

ينام في أول الأمر إلا بعد أن يأخذه دوار، وربما كان التهزيز يمدد منه الرقبة، ويلوي

الرأس، وفي كلا الأمرين خطر عظيم عليه.

تلفه والدته بلفائف من المرن، لا تقمطه قمطًا شديدا؛ لئلا يلوي الساقين

والقدمين والساعدين واليدين؛ ولئلا يضغط. تضعه في سرير ثابت، وتضع عليه

لحافًا من المرن، يمنعه من التحرك القوي.

لا تتركه وحده، ولا تقدم إليه ما يمتصه؛ ليلتهي به عن الرضاع، يخرج من

غرفته في كل يوم ثلاث مرات، إلى محل طيب الهواء نقيه، وبعد خروجه تفتح

النوافذ؛ ليبدل هواءها، غير أنه يحترز عليه من البرد والحر، لا تسلمه أمه إلى

أحد، ولا تتخذ له مربية؛ فإن الوالدة أحن على الولد من غيرها، وأشد انتباهًا إليه،

وأحرص عليه. لا تقبله، ولا يقبله أحد؛ لئلا تنتقل إليه حيوانات فم المقبل

الضارة. لا يضحك تضحيكًا شديدا؛ لئلا تغثى نفسه [8] أو يغمى عليه، بل يترك

ليضحك حينما يشتهى ويريد ضحكًا طبيعيًّا.

لا تلاعبه أمه بخفضه ورفعه، ولا تقبض يده بيدها، وترفعه أو تجره. لا

تضغطه بضمه إلى صدرها، ولا تجعل ملاعبته إلا بقدر جسمه، لا بقدر جسمها.

إذا لاعبته وانزعج أو كاد، تركته حالا؛ ليستريح ويرتاح [9] .

لا تطعمه إلا بعد أن يسن [10] وتقوى أضراسه وأنيابه معًا؛ فإن الأسنان وحدها

لا تستطيع طحن الطعام وتنعيمه، فإن أطعمته أصيب بعلة الأسنان المعروفة

عندكم تقريبا. وبعد الأسنان ونبات الأضراس وخروج الأنياب، تؤكله والدته أكلاً

خفيفًا لطيفا، لا يقاسي في مضغه تعبًا لئلا يبلعه. لا تطعمه إلا قليلاً حينما ترى

منه اشتهاء وإقبالاً على المطعم، فإذا آنست منه قلة في الاشتهاء، رفعت الطعام

وأخفته.

إذا أبصر شيئًا ضارًّا ولو قليلاً ورغب فيه منعته، واجتهدت في تحويل فكره

عنه، ونقله إلى غيره فينتقل. لا يسمع أصواتًا عالية مرتفعة على غرة، مزعجة

كانت أو غير مزعجة، ولا تعرض عليه المتحركات السريعة الانتقال والتغير؛ لئلا

تزيد في تحريك عينيه، ولا يحد أحد نظره إليه، ولا ينظره وهو قطوب عبوس؛

ليسكته ويسكنه بالإرهاب، بل يُسكن بالكلام بالرقيق، ويلهى بالمناغاة [11] إذا كان

الصوت رخيما لا نبرة فيه، فإنه يأنس بهما، ويطيب خاطره. فإذا ربي هذه

التربية، فلا خوف عليه أن يقصع [12] بل ينمو قويًّا: صحيح الجسم، والعقل. إذا

أخذ في الكلام، قوَّمت أمه لسانه. إننا لا نعرف الرتة [13] واللثغة [14] واللكنة [15]

والفأفأة [16] والتمتمة [17] والرأرأة [18] واللجلجة [19] والخنخنة [20] والمقمقة [21]

والهتهتة والهثهثة [22] والتعتعة والثعثعة [23] واللفف [24] والليغ [25] ولا نعرف

التبع [26] .

إن الوالدة مؤاخذة بعيِّ ولدها، وحصره وفهاهته، فتنبهه على كل كلمة غير

فصيحة.

كلامنا فصيح بليغ، فكلنا لسن [27] في بيان وتبيان [28] اهـ.

***

(القواعد المنطقية)

كتاب مطول في علم المنطق، ألفه بالفرنسية (الأب تونجورجي اليسوعي) ،

ونقله إلى العربية (الخوري جرجس فرج صفير الماروني) متصرفًا بعض التصرف

في الترجمة، كما قال في مقدمته. وقد تفضل بإهداء الكتاب إلينا مع رقيم،

يرغِّب إلينا فيه بمطالعته وانتقاده، فمرت علينا شهور نرقب فيها فرص الفراغ

لذلك، فلم يسنح منها شيء يكفي لمطالعته كله أو بعضه مطالعة نقد، فرأينا

والشواغل عن مطالعة مثله تزداد، أن نجيل النظر فيه جولة عجلى، ونقرأ من بعض

فصوله جملاً، تسمح لنا بأن نحكم عليه حكمًا إجماليًّا، فرأينا أن الكتاب من أحسن ما

ألف وأفيده، وفيه من المباحث والفوائد ما لا يوجد في الكتب العربية المتداولة بين

المشتغلين بهذا العلم، وهو يخالفها في كثير من الاصطلاحات، والتعريفات،

والتقسيم، والترتيب، وفي هذه المخالفة من الفائدة زلزال الجمود على الكتب

المألوفة، وتحريك الذهن في مسائل العلم، وتعويده الجولان في المعاني، وإطماعه

في الإتيان بغير ما تلقاه من الكتب أو الأستاذين.

ورأيت في الترجمة ضعفًا، يحول دون الفهم في بعض المواضع، وغلطًا

واضحًا في العبارة كقوله في صـ 144 (لا يصح قولك، إما أنت جالس أو ماشي

لعدم المساواة في التقسيم؛ إذ قد يكون لا جالس ولا ماشي) . وقوله في ص 31

(ففي الشق الأول فإما أنه يعم الماهية)، ومع هذا نقول: إن الكتاب يفيد كل من

يطالعه من أبناء العربية في هذا العلم، ولعل المترجم الفاضل، يُعنى عند طبعه

ثانية بتصحيح عبارته؛ لتكون الفائدة منه تامة. هذا وإن ثمن النسخة من الكتاب

3 فرنكات، وهو يطلب من المطبعة المصرية بالإسكندرية.

***

(التقرير السنوي لمشيخة علماء الإسكندرية)

أرسلت إلينا هذه المشيخة تقريرها عن سنة 1323 الدراسية، ولما نتمكن من

مطالعته، ولكننا أجلنا الطرف في بعض صفحاته، فإذا به قد وقف عند قوله: (وإني

لأرجو أن أقدم للعالم الإسلامي بعد أعوام قليلة من خيرة الشبان رجالا، تفتخر بهم

الأمة المصرية، وتقوم بها الحجة على الذين يزعمون أن التعليم الديني لا ينهض

بالأمم، ولا يصلح أن يشاد على دعائمه عرش المدنية، ولا أن يضم تحت راياته

مفاخر التقدم والارتقاء) اهـ فذكرني هذا القول بأمر كنت عنه ذاهلا، ذكرني

بأن من علماء مكة وأشرافها عالمًا يقيم الآن في بعض جزائر جاوة، أرسل ولدًا له؛

ليطلب العلم في الإسكندرية، لما قرأه في الصحف المصرية ومنها المنار من

تفضيل الطلب فيها على الطلب في الأزهر بالمراقبة والنظام والتدريج، فلم يقبله

الشيخ محمد شاكر واعتذر عن ذلك بعدم حفظه للقرآن، وهو عذر لا ينطبق على

قانون الأزهر؛ الذي تتبعه مشيخة الإسكندرية كسائر معاهد التعليم الديني في القطر،

وكل ما تفضل به مشيخة الإسكندرية الأزهر هو أنها تنفذ من هذا القانون ما لا

ينفذ فيه، فهذا الشرط الذي زاده الشيخ محمد شاكر على القانون، يقفل باب مشيخته

في وجوه (العالم الإسلامي) ؛ لأن الذين يحفظون جميع القرآن في أكثر أقطار هذا

العالم هم من العميان، أومن العلماء الذين يحفظونه في الكبر، ولا يرجى أن يرحل

أحد منهم إلى الإسكندرية؛ لطلب العلم. ولما كان الأزهر معهدًا للعالم الإسلامي،

وعلم واضع قانونه أن أكثر أقطار هذا العالم، لا يحفظون القرآن في الصغر، لم

يشترط في قبولهم بالأزهر أن يكونوا من الحافظين، بل لم يشترط في المبصر من

أهل القطر المصري، أن يكون حافظًا للقرآن كله.

فإن الشيخ شاكر يحب أن يمتاز طلاب العلم عنده بحفظ القرآن كله، فله أن

يكلفهم ذلك في مدة الطلب، وليس له أن يمنعهم من طلب علم الدين المفروض عليهم

لأنهم قصروا من قبل في حفظ القرآن الذي لم يفرض على الأعيان.

فهذا المنع من العلم لا يجيزه الشرع ولا القانون فيما نعلم، ولا ينطبق على

إرادة خدمة العالم الإسلامي بهذا التعليم الديني، إلا إذا أريد بالعالم الإسلامي مصر،

وكان هذا الإصلاح الخاص للذين أحدثوا في الإسلام نفسه وطنية، لم ينزل الله بها

من سلطان مستحسنًا عند مثل الشيخ شاكر، وقد يرجح هذا قوله في الرجال الذين

يريد أن يخرجهم (للعالم الإسلامي) ينهضون به، ويشيدون عرش المدنية على

دعائمه (تفتخر بهم الأمة المصرية) ولكن هذه الوطنية المموهة بكلمات الدين

والإسلام، يتبرأ منها دين الإسلام، وتنكرها قوانين المدنية عند جميع الأنام،

فأما الوطنية المعروفة عند الأمم التي قامت بالوطنية فهي عبارة عن اتحاد

المقيمين في وطن واحد، المختلفين في الملل والنحل، على ما يرقي شأنه،

ويزيد في عمرانه، وهذه الوطنية لا تعارض الإسلام الذي جعل المؤمنين إخوة،

يتعاونون على البر والتقوى، ويتعاطفون، ويتراحمون كأنهم أعضاء جسد

واحد، إن اختلفت أوطانهم وتناءت بلدانهم.

لا أطيل الكلام الآن في هذه المسألة، ولكنني أتمنى لو يقبل الشيخ شاكر هذا

الطالب المكي وغيره ممن عساه يقصد إلى الطلب في الإسكندرية، وأن لا يمزج

دعوته الدينية، بتلك النزعة المنكرة في الوطنية، وإلا فليجعل الدعوى على قدر

الدعوة، إن كانت مما لا بد منه، وإنني لأشد تمنيًا لو أعرف عذرًا معقولاً، لعدم

قبول غير المصريين أو الحافظين طلابًا للعلم الديني في مشيخة الإسكندرية.

وسنعود إلى قراءة التقرير وكتابة ما يبدو لنا في أمره أنه نافع إن شاء الله تعالى.

***

(البغاء أو خطر العهارة في القطر المصري)

ألف الدكتور بورتقاليس بك كتابًا باللغة الفرنسية، الذي سماه بهذا الاسم،

ونقله للغة العربية داود أفندي بركات رئيس تحرير جريدة الأهرام. المؤلف طبيب

أخصى في معالجة الأمراض الجلدية والزهري، وما يتعلق بذلك، والكتاب صحي

أدبي، يفهمه كل قارئ، وإننا نرى خير تقريظ له أن ننشر نبذًا منه، لعل

الذين تركوا الدين، فوقعوا في الأدواء التي تنشأ من الزنا، يعرفون الأخطار التي

تساورهم في آحادهم وفي ذريتهم، فيقل تهافتهم على هذه الفواحش المحرمة في كل

دين، على أنني أعتقد بأنه لا علاج لهذه المصائب العمرانية، والاجتماعية، إلا

التربية الدينية، وأن من يزعم أن الاقتناع بضرر المعاصي وحده، يعمل ما يعمل

الدين في الردع عنها، فهو من الجاهلين كما بينا ذلك بعض البيان في مقالة

(التعليم الديني) من هذا الجزء. قال المؤلف:

16

سبب المواصلة مع الغير مراقبات

إن العدوى تنتقل إلى الرجال الذين يخالطون النساء غير المراقبات انتقالاً

رائعاً، لا يماثله انتقاله إليهم من النساء الموضوعات تحت المراقبة.

فالرجال على وجه عام، والمتزوجون منهم على نوع خاص، يخالطون

العاهرات غير الموضوعات تحت المراقبة؛ أكثر من مخالطتهم العاهرات اللائى

يفحصهن الأطباء؛ وسبب ذلك أن الفريق الأول من العاهرات، يظهر بغير مظهره

أي بمظهر النساء النزيهات، إذ يقلن أن لهن أزواجًا وأولادا، وأنهن إنما يسلمن

أنفسهن، بعامل الحب والغرام والوجد والهيام، وأنهن لم يرتكبن هذا الخطأ إلا في

هذه المرة، ثم يتممن خدع الرجال بأنهن يتوسلن إليهم، بأن لا يبوحوا بسرهن، إلى

آخر ما هنالك من ضروب الخداع والنفاق.

فيصدِّق الرجال المخدوعون هذا الكلام، ويعتقدون صحة ما تقوله تلك

العاهرات، بل هم يفتخرون بالاختلاط بهن كأن الواحد منهم قد اكتشف كنزًا، وملك

أمرًا عزيزًا.

وبما أن تلك النساء الخادعات، لا يعتنين بأنفسهن كسواهن ممن يحترفن

حرفة البغاء علنا، فهن بحكم الطبيعة أقرب إلى العدوى، وأقدر على نقلها إلى كل

من يقترب منهن وهم يظنون أنهم عشاق، وأنهم محبوبون معشوقون. وإذا

أصيب المخدوع، وجاء يؤنب المرأة التي نقلت إليه العدوى، جاءته بألف حيلة

وخدعة، وقلبت دماغه، وكذبت حسه، وأظهرت طهارتها ونقاوتها فيصدق، فما

أضعف الرجل أمام المرأة، وما أصغر نفسه، وأقل إدراكه، وأخف عقله! !

18

مراقبة العاهرات

لا توجد في القاهرة مراقبة البوليس، ولا مراقبة الصحة، فالعاهرة حرة،

تلطخ بالأمراض من أصابته، وتنقضُّ على الناس انقضاض الوحش المفترس،

ومن لم يصدق، فليمر عند منتصف الليل بشارع كامل ولا سيما تحت القناطر.

مع أن هذه العاهرات، لو أنهن ارتكبن في بلادهن ربع ما يرتكبنه هنا من

مخالفة البوليس، ومخالفة قانون الصحة، لقبض عليهن سريعًا، فلا تسمع بهن

شفاعة، ولا يقبل رجاء، ولا تنفع رشوة، وبفضل ذلك كله، لا تجرؤ واحدة على

مخالفة القانون، ومن هربت من الكشف الطبي، وضعت تحت المراقبة الشديدة

على نوع أخص، فمع كل عاهر ورقة حمراء، تقضي عليها بأن تأتي إلى محل

الكشف في كل أسبوع مرة، وهي فوق ذلك موضوعة تحت المراقبة الشديدة، فهذه

التحوطات التي أسفرت عن نتائج حسنة جدًّا في أوربا لا وجود لها في القاهرة.

أما عاصية القانون: فهي العاهرة التي ترتكب خلسة واستراقا، ويعد من هذا

النوع النساء المتزوجات اللائى لهن أزواج وأولاد؛ اللائى يعشن في أحضان

عائلاتهن، والخياطات الفاسقات، والفاعلات، والمغنيات، والراقصات،

والخادمات، وكل من كان على شاكلتهن، وارتضى الفجور والاستسلام للزنا

والفسق، وبيع العرض بالمال.

فالحكومة لا تعرف هؤلاء، ولا تراقبهن، ولا تحمل منهن ورقة الكشف

الطبي؛ مع أنهن لا يفرقهن عن العاهرات والبغيات فارق؛ غير أن العاهرات لا

يسكنًّ منزل العائلة، ولا يكتمن أمرهن عن الجمهور، وعن الحكومة، ومصالح

الصحة، ويحملن الورقة الطبية التي تدل على احترافهن حرفة البغاء. أما تلك

العاصيات فإن لهن منازل عائلية يبتن فيها، ولا يحملن ورقة الصحة. أما من حيث

احتراف البغاء، والسعي وراء الرجال، واستثارة أميالهم، والتحكك بهم، فهن

والعاهرات سواء، وإذا قبض البوليس على واحدة منهن وهي متلبسة بالجناية،

أرسلها إلى الطبيب؛ ليكشف عليها.

ولقد قلت وأردد وأعيد الآن تكرارا: إن النسوة غير الخاضعات، هن أشد

خطرًا على الإنسانية من سواهن، ولا أخطئ إذا قلت: إن جميعهن مصابات

بالأدواء الزهرية على اختلاف أنواعها، وثلاثة أرباعهن في حالة من الإصابة شديدة

الخطر على الرجال، وشديدة العدوى لمن يختلط بهن.

وهذه المرتبة من النساء هي أيضا على نوعين: نوع عال، ونوع واطئ.

وقد لقبت مدام هنري تورو المرتبة الواطئة، بمرتبة الفعلة في هيأة الحب، وهي

محتقرة مهانة، مرذولة كثيرة الخطر؛ لأنها تسلم نفسها لمن عثر عليها دون تردد،

ولا إتمام نظر.

أما المرتبة العالية: فهي مع أنها محتقرة مرذولة كالمرتبة الأولى، إلا أنها أقل

خطرا؛ لأنها لا تسلم نفسها إلى من عثر عليها، أو حاول التوصل إليها، ولا

تطوف الشوارع للبحث عن صيد يقع في شراكها، ولكنها تتربع العربات،

وتعيش عيشة الأغنياء، وتشهد التمثيل في التياترات، ولا يزيد عشاقها على اثنين

أو ثلاثة؛ فلهذا لا تستطيع الواحدة منهن أن تبذر العدوى بين الجمهور، إذا كانت

مصابة بالأمراض، بل إن عدواها تقتصر أو تنحصر في محبيها، ومحبو مثل هذه

العاهرات هم الأغنياء وأصحاب الثروة، ولقد درج في القاهرة، أن يكون لكل شاب

غني حظية أو حبيبة، حتى يكون ذلك الشاب معدودًا في مصاف المتمدنين،

ويؤمره اللطفاء والظرفاء من الراقين والسامين.

والواحدة منهن تقول معجبة بنفسها أنها لا تسمح لأحد بأن يدنو منها

ويجامعها، إذا لم يدفع لها 40 أو 50 جنيها، فهن يحسبن لأنفسهن فضيلة غلو

السعر، وارتفاع الأجرة، لا حفظ العرض والعفة، فمثل هذا الطلب لا يجيبه إلا

العدد القليل من الجمهور، خلافًا لتلك البغيات بنات السوق والشارع، فإن الواحدة

منهن تسلم لأي كان عرضها، بما يكفي لدفع ثمن الخبر في يومها، أو ثمن الشرب

في ليلتها.

فإذا هن تمكن من الخلاص من يد البوليس دهرًا طويلا، فإن أكثرهن يقع في

قبضته؛ لأن الفقر يقضي عليهن بأن يطفن الشوارع ويتحرشن بهذا وذاك،

ويحرضن على الفسق والفجور كل مار، وكل سائر، فإذا نجون من يد البوليس مرة،

فإنهن لا ينجون من يده كل مرة.

عدد المصابين في سنة واحدة

من أنعم النظر قليلا في حال تلك العاهرات، وكثرة عددهن، وكثرة

المصابات منهن بالأمراض، وعرف أن الواحدة منهن، تسلم نفسها في كل ليلة لعدة

رجال، قد يكونون سليمين من الأمراض والأدواء، عرف أن عدد الرجال الذين

يصابون بأمراض أعضاء التناسل عظيم هائل، فإذا لم يصابوا يكون الفضل في ذلك

للمراقبة الطبية، وللتحوطات الصحية التي تنتشل الإنسانية من هوة بعيدة القرار،

وشر مستطير، لا يعرف أحد لولا وقاية الطب، ماذا يكون من ورائه على

الإنسانية كلها؟

فلهذا أرى أنه لا بد من مراقبة العاهرات في القاهرة، ولا أسلم قط بأن هذه

المراقبة غير ضرورية، بل لا يمكنني أن أقتنع وأسلم بأن الخطر ليس شديدًا على

الإنسانية، وليس مهددًا البلاد كلها.

وإذا ما خطر لي التأمل بإهمال المراقبة هنا جزعت؛ لعلمي ما وراء ذلك من

الخطر، والمصاب الجليل، والضربة الشديدة.

يؤخذ من إحصاء مدينة باريز، على أن متوسط عدد النساء اللائي يقبض عليهن

وهن مصابات بالأدواء هو 11 امرأة في اليوم، من غير الخاضعات للمراقبة الطبية،

فإذا حسبت هذا على دورة العام كان عدد المصابات 3600 مصابة أو 4000

مصابة، قد أخرجتهن حكومة باريز من وسط الجمهور، وحجرت عليهن وعزلتهن

إلى أن يتم شفاؤهن، فإذا مكثن على معاطاة حرفتهن، ونقلن العدوى إلى

شخص واحد في كل يوم، كان عدد الذين يصابون منهم في كل عام مليونا و640

ألف رجل.

فلماذا لا تكنس شوارع مصر كما تكنس باريس من هذه العاهرات، ولماذا لا

تعزل النساء الوطنيات، ولا تطرد من البلاد النساء الأجنبيات المريضات؟

بل لماذا لا تطهر شوارع المدن والحواضر من هذه المستودعات المخزونة

فيها الأمراض والأوصاب، وفساد العائلات، والأجساد، والسلالة.

سؤال أردده في نفسي، ولا أجد عليه جوابا، ولكني أعرف أن آلافًا من

النفوس تضيع الآن ضحية الإهمال، وليس من يزع الشر أو يرد المصيبة.

***

(جناية أوربا على نفسها وعلى العالم)

أهدي إلينا هذا الكتاب أو القصة منذ أشهر، فاستكبرنا الاسم، وما بعده من

الوصف وهو: (كتاب صحي عصري أدبي اجتماعي عمومي نسائي روائي)

وفهمنا من كلمة (روائي) أنه يبين فيه ما في هذه القصص، التي تسمى روايات

من الجناية على الآداب، كما فهمنا من كل كلمة قبلها نحو ذلك، وعزمنا على

مطالعة الكتاب قبل الكتابة عنه، فإذا هو قصة وضعية في بيان ضرر استعمال

المشد الحديدي، الذي يضغط به النساء أحشاءهن. وقد أحسن واضع القصة أحمد

أفندي فهمي فيما كتب، فجاء بالنزاهة والأدب في الغراميات، وأحسن في التنفير

عن المشد، وكان كلامه مؤثرًا يستعبر القارئ، ولكن الاسم أكبر من المسمى.

والقصة مطبوعة طبعًا حسنا، وهي تطلب من مكتبة المعارف بالفجالة، فنحث

القارئات قبل القارئين على مطالعتها.

***

(قاطع الحبل)

قصة من قصص (مسامرات الشعب) ، صدر منها جزءان، وهي مما اختاره

للترجمة نقولا أفندي رزق الله المعروف بأدبه وحسن ذوقه في الاختيار.

***

(الريحانة)

مجلة تاريخية أدبية قصصية، تصدر في منتصف كل شهر عربي،

لصاحبتها جميلة حافظ (صدر الجزء الأول منها في 15 المحرم، وقد جاء في

فاتحته ما يأتي:

أفتتح مجلتي الريحانة بسم الله، الذي خلق الرجل والمرأة من أصل واحد،

ووهبهما عقلاً جوهره واحد، وسوى بينهما في الحقوق، فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي

عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) وأسأله تعالى أن يوفقني إلى القيام بما عهدته

إلى نفسي خير قيام.

(أمنيتي الوحيدة: أن تكون لحياتي ثمرة وغاية شريفتان في الوجود، لا أن

تكون حياة خمول وكسل، تنقضي بلا ثمرة، وجودها عدم وعدمها خير) إلخ.

هذه الكلمة من الكلم الطيب، لا يتدبرها عاقل، ويأخذ على نفسه الميثاق ليعلن

بها، إلا كانت حياته مباركة طيبة، وكان هو بها أسعد منه بكل ما يملك من عرض

الدنيا. هذه الكلمة ترفع من تربى تربية حسنة إلى مراتب الكمال، وتكون خير

مرب لمن قصر في تربيته الوالدون والمعلمون، وما كثر الذين يقدرونها قدرها في

أمة من الأمم، إلا وارتقى شأنها، وصلحت حالها، وكانت من أسعد الأمم لا يفضلها

إلا الأمة التي تسبقها في العمل بالكلمة. وإني لأرجو أن تكون هذه المجلة من أنفع

المجلات، برعاية منشئتها لكلمتها، وعنايتها بالعمل بها. ولنا أن نعد من آيات هذه

العناية، قولها في الجزء الثاني: (رأيت أن أساعد مشروع الجامعة بكل ما في

وسعي، فأنا من الآن أتبرع سنويا بكل ما يزيد عن مصروف المجلة من جنيه إلى

مائة، وما زاد عن المائة فيصرف في ترقية المجلة، بزيادة عدد صفحاتها،

وإصدارها مرتين في الشهر بدون زيادة في قيمة الاشتراك. وهذا التبرع يبقى- إن

شاء الله -ما بقيت المجلة، وبقي لها مشتركون) .

إننا لنشم من هذا القول عبير الإخلاص والصدق، ولكن رجاءنا في تحقق

أمنية الكاتبة المخلصة ضعيف؛ لأنها جعلت قيمة الاشتراك ثلاثين قرشا، وهي تكاد

لا تكفي لنفقات المجلة، على ما تعهد من قلة القارئات والقارئين، وكثرة مطل

المشتركين، إلا أن تصادف المجلة من يقدر نية منشئتها حق قدرها، وينتدبون

لمساعدتها على أمرها، وإننا ننصح لها بأن تزيد في قيمة الاشتراك الآن، فإن أهل

الوفاء لا يثقل على الواحد منهم دفع عشرة قروش، أو عشرين قرشًا في السنة،

وأهل المطل يثقل عليهم أداء القرش الواحد، فإن لم تقبل نصيحتنا الآن، فستقبلها

في يوم من الزمان.

***

(الجامعة الأسبوعية)

ارتحل فرح أفندي أنطون صاحب مجلة الجامعة الشهيرة إلى نيويورك،

وجعلها مقرًّا له، ومصدرًا للجامعة، ثم اشترك مع رشيد أفندي سمعان وهو من

التجار الميالين إلى السياسة؛ في إصدار جريدة يومية باسم (الجامعة) ، واختار أن

يجمعا من الجامعة اليومية أفضل مقالاتها وأخبارها كل أسبوع فى نسخة أسبوعية ذات

ثماني صفحات، وقد وافانا عدة نسخ من الجامعة الأسبوعية، فإذا هي من أحسن

الجرائد العربية تحريرًا، وأغزرها فائدة، وقيمة الاشتراك فيها عشرون فرنكًا.

_________

(1)

الخصوف من النساء التي تلد، ولا تدخل في العاشر.

(2)

جرت المرأة ولدها وجرت به: وهو أن يجوز ولدها عن تسعة أشهر، فيجاوزها بأربعة أيام أو ثلاثة، فينضج ويتم في الرحم.

(3)

ظائرت مظائرة إذا اتخذت ظئرا، الظئر: المرضعة غير ولدها.

(4)

الأم تعجو ولدهاأي: تؤخر رضاعه عن مواقيته، ويورث ذلك ولدها وهنًا.

(5)

جدع الغلام يجدع جدعا: ساء غذاؤه، والحثل أيضًا سوء الرضاع، وقد أحثلته أمه؛ أي: أساءت غذاءه.

(6)

أفلت المرضع: ذهب لبنها.

(7)

حصأ الصبي من اللبن، وحصئ يحصأ، حتى امتلأ بطنه.

(8)

غثت نفسه، تغثي غثيا وغثيانا وغثيت غثي: جاشت وخبثت قال بعضهم: هو تحلب الفم فربما كان من القيء: وهو الغثيان.

(9)

ارتاح: سر ونشط.

(10)

أي تنبت أسنانه.

(11)

المناغاة: تكليمك الصبي بما يهوي وناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة.

(12)

قصع الغلام: أبطأ شبابه وغلام قصع أي: بطيء الشباب (يعني حان وقت شبابه ولم يشب) وقصيع ومقصوع مثل: قصع، وقصع الغلام: ضربه ببسط كفه على رأسه، وقصع هامته كذلك قالوا: والذي يُفعل به ذلك: لا يشب ولا يزداد، وغلام مقصوع وقصيع كادي الشباب إذا كان قميئا، لا يشب ولا يزداد، وقد قصع قصاعة.

(13)

الرتة: حبسة في اللسان والرتة حبسة في لسان الرجل، وعجلة في كلامه.

(14)

اللثغة: عقدة وعجز في الكلام واللثغة أن يصير الراء لاما في كلامه.

(15)

واللكنة والحكلة: عقدة في اللسان، وعجز في الكلام والحلكة أيضا: العجمة في الكلام.

(16)

الفأفأة: أن يتردد في الفاء.

(17)

التمتمة: أن يتردد في التاء.

(18)

الرأرأة: أن يتردد في الراء تكلم أو قرأ.

(19)

اللجلجة: أن يكون فيه عي، وإدخال بعض الكلام في بعض.

(20)

الخنخنة: أن يتكلم من لدن أنفه ويقال: هي أن لا يبين الرجل كلامه، فيخنخن في خياشيمه.

(21)

المقمقة: أن يتكلم من أقصى حلقة.

(22)

الهتهتة والهثهثة: حكاية التواء اللسان عند الكلام.

(23)

التعتعة والثعثعة أيضا: حكاية صوت العيي والألكن.

(24)

اللفف: أن يكون في اللسان ثقل وانعقاد.

(25)

الليغ: أن لا يبين الكلام أو يرجع الكلام إلى الياء، تأتأ تردد في التاء إذا تكلم، والاسم التأتأة، العقلة: اعتقال اللسان عن الكلام.

(26)

التبع: من يتبع بعض كلامه بعضا، والسريع الكلام رجل طعمطم في لسانه عجمة لا يفصح.

(27)

اللسن: جمع لسن، ورجل لسن أي: فصيح بليغ.

(28)

قيل الفرق بين البيان والتبيان: هو أن البيان عمل اللسان والتبيان عمل الجنان وقيل: إن التبيان أبلغ من البيان؛ لأن الزيادة في الحروف أعطته زيادة في المعنى.

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استقالة اللورد كرومر وتقريره

ما كاد اللورد كرومر يتم تقريره السنوي عن مصر والسودان، حتى عرض

له في معدته مرض شديد حتى صار يُغَذَّى بالحقن، وحتى لم يسطع الحفاوة بأخي

ملك الإنكليز الذي زار مصر في هذه الأيام كما يجب، وحتم عليه الأطباء الاستقالة

من منصبه، وترك الأعمال العقلية بتة، فكتب إلى حكومته بذلك؛ فرَاجَعَتْه

عسى أن يثني عزمه؛ فلم يفد ذلك، فقبلت استقالته مع إظهار الأسف العظيم على

اضطراره إلى ترك الخدمة، والثناء العاطر عليه الذي شارك الحكومة فيه جميع

أحزاب الأمة.

وقد صرحت الحكومة تصريحًا رسميًّا بأن سَتُسَيَّر في مصر على طريقته،

وتعمل بما أرشد إليه في تقريره الأخير، وهذا التقرير هو أشد التقارير وطأة على

الوطنيين؛ لا سيما الذين يعرفون بالحزب الوطني، من حيث ما يراد فيه من

تغيير نظام الجنسية المصرية، ومحاولة إقناع دول أوروبا بترك الامتيازات،

والاستغناء عنها بمجلس تشريع وطني؛ معظم أعضائه من رعايا هذه الدول؛

وباقيهم من الوطنيين.

ومما نقل عن التقرير، فكان شديد الوقع على نفوس المسلمين، كلام في

الشريعة الإسلامية فحواه: أنها لا تصلح لهذا الزمان. وكلام فيما يسمونه الجامعة

الإسلامية، وكلام عن المستر دنلوب في اللغة العربية، وإننا ننتظر صدور نسخة

التقرير العربية؛ لنقرأها ونبين ما هو الحق في الشريعة، ومعنى كونها خاتمة

الشرائع الإلهية.

أما اللورد نفسه فهو بما عمل في مصر، يعد من أعظم السياسيين في هذا

العصر، وقد اعترف له الوطنيون مع الأجانب بالنزاهة التامة، وترقية مالية البلاد

وتكثير مواردها، واحترام استقلال القضاء والحرية الشخصية فيها، وناهيك بحرية

المطبوعات، ويشكو منه الوطنيون أنه لم يرق المعارف، ولم يزد مصر إلا بعدًا

عن الاستقلال.

ويقولون: إن نجاحه الذي ظهرت به عظمته، يقوم على ثلاثة أركان: مزاياه

الشخصية وثقة حكومته به، ومساعدتها إياه في كل ما يطلب، وطول الزمن الذي

صرفه في مصر، ونسوا ركنًا رابعًا: وهو طبيعة مصر وأهلها، فمصر تواتي كل

حاكم قوي، وتخضع لإرادته في كل ما يريد منها، ولولا استعداد القابل لما ظهر

استعداد الفاعل، والحكيم من يراعي في عمله الاستعداد الطبيعي فيما يعمل فيه،

ولو وجد في أمرائها رجل كاللورد كرومر، لعمل فيها خيرًا مما عمل اللورد؛ لأن

أميرها كان يراعي مصلحتها من كل وجه خالصة لها، واللورد كان ينظر إلى

مصلحة دولته أولا، وإلى مصلحة مصر ومصالح دول أوروبا ثانيا. وقد اهتزت

مصر وأوروبا لاستقالته، وخاف الماليون على أموالهم، والأحرار على حريتهم من

بعده، واستحسن بعض النزلاء والوطنيين أن يعمل له تذكار في مصر. وكانت

جريدة المؤيد و (الجريدة) ، أكثر الجرائد المصرية اعتدالا في الكتابة عنه.

وأفضل ما استفادت مصر في هذه المدة؛ مدة اللورد كرومر أو الاحتلال،

استيقاظ الشعور بوجوب الاستقلال الذاتي، أو الاعتماد على النفس في الرقي.

استيقظ هذا الشعور في بعض النفوس، ولولا أن أكثر الجرائد شغلت الأمة عنه

بالأماني والأوهام؛ لانتشر انتشارا عظيما، ولجاء بالإصلاح المبين.

شغلت الأمة عن نفسها بمقاومة الاحتلال؛ ولكن بالأماني والغرور، وبالطعن

في الحكومة؛ لأنها تواتي الاحتلال، وبمطالبة الحكومة مع ذلك بكل ما يرقيها،

ويرفع شأنها، بذلك نسيت نفسها، فلم تتعاون على الأعمال الاستقلالية، ولم يوجد

فيها معاهد للتربية الملية، والتعليم الذي يقصد به الرفعة والكمال؛ من غير طريق

الحكومة. بل لم يوجد فيها عون ولا نصير، لذلك الأب البر الرحيم (الأستاذ الإمام

رحمه الله الذي أراد أن ينتهز هذه الفرصة؛ لإصلاح الأزهر على عمله هذا،

ولكنه وجد بعض الأعوان على النهوض بجمعية خيرية إسلامية، فنهض بها.

هذا وقد ابتدأت الأمة؛ تشغل نفسها بما يوهمها الموهمون من سياسة خلف

اللورد كرومر، وهو أنها ستكون مرقية للشؤون المعنوية، كما رقي اللورد كرومر

بالشئون المادية.

وإننا ننصح لها بأن لا يشغلها عن استعدادها الذاتي شاغل، وأن تعلم أن

من لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره، وأن أفضل ما يمكن أن تستفيده من الإنكليز هو

تمكينها من ترقية نفسها بالتربية والتعليم الذي تقوم به، وهي بثروتها قادرة عليه،

وما بينها وبينه إلا أن تتوجه بتوفيق الله - تعالى - إليه.

ويظن أن الأمير سيكون أشد مواتاة؛ للسير (ألدن غورست) خلف اللورد

كرومر على عمله بمصر منه لسلفه، وأن السير يكون أكثر تساهلا من اللورد مع

الماليين؛ فيما ينشئون من الشركات، ويعمرون من أرض الحكومة، ولا يظن أنه

يكون أوسع منه صدرًا لمشاغبات الصحف، وأقرب مودة للحرية، وجملة ما يقال

أن السياسية الإنكليزية لا تتغير في مصر؛ بذهاب إنكليزي ومجيء إنكليزي.

_________

ص: 158

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

كتب إلينا أحمد أفندي الألفي ينتقد علينا أمورًا؛ إجابة لدعوة المنار إلى الانتقاد

عليه، ولكن ما انتقده آراء في تحرير المجلة وإدارتها وكتابة التفسير، وهو على ما

فيه من الفائدة لنا، ليس مما ندعو إليه، إنما ندعو إلى انتقاد ما يراه أهل العلم في

المنار باطلا، وبيان ذلك بالدليل، ولعل منه قوله: مغالاتك في الجريدة حتى أخذت

(بالفأل) ووضعت المجلة موضع المتشيع للجريدة، وظنه أنني اشتغلت عن

المنار بالتحرير فيها.

وهكذا رأيت كثيرًا من الناس، ينسبون إليَّ أكثر ما يكتب في (الجريدة)

ويظنون أنني من محرريها، والحق أنني ساعدتها بعدة مقالات في أوائل ظهورها،

وأنا أحسن الظن بها، وإذا كتبت فيها فإنما أكتب في موضوع أدبي أو اجتماعي،

لا في سياسة مصر ولا أكتب عن لسانها، وأما العناية بتقريظها فسببه هضم الناس

لها بغير حق، وكونها تنفيذًا لرأي الأستاذ الإمام، وإن لم تكن كما كان يريد من كل

وجه (والفأل) ذكر فكاهة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل

الحسن.

_________

ص: 160

الكاتب: موسى أفندي جار الله الروسي

‌تاريخ المصاحف

(2)

هذا ما وعدنا بنشره مما كتبه صاحبنا موسى أفندي جار الله الروسي قال:

(قال العلماء: أول ما نزل من القرآن {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ

الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 1-4) ولم

ينزل بعده شيء إلى ثلاث سنوات (وتسمى هذه السنوات زمن فترة الوحي) ، ثم

أخذ القرآن ينزل في تضاعيف عشرين سنة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى

مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106)، {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32) ، فمنه ما نزل مفرقًا وهو غالب القرآن، ومنه ما نزل جمعًا

كالفاتحة، والإخلاص والكوثر وأغلب الأنعام. وكلما نزل عليه صلى الله عليه

وسلم آية أو سورة وسري عنه، كان يُقرئ الصحابة ما نزل ويستحفظهم

فيحفظونه على الفور عن ظهر قلب، ويعتنون بذلك تمام الاعتناء؛ لأن الحفظ

الحرفي في عصر الرسالة وزمن النزول كان من أعظم العبادات وأقرب القرب،

وكانوا إذا حفظوا آية من النبي عليه السلام يترددون عليه غير مرة؛ ويتلونها

أمامه حتى يزداد تثبتهم من حفظها وأدائها، ويسألونه هل حُفظت كما أنزلت حتى

يقرهم عليها، وبعد إتقان الحفظ والتثبت في تمام الضبط، أخذ كل واحد منهم ينشر

ما حفظ: كانوا يعلِّمونه للأولاد، والصبيان، وللذين لم يشهدوا النزول ساعة الوحي

من أهل مكة والمدينة، ومن حولهم من الناس، فلا يمضي يوم أو يومان إلا وما

نزل محفوظ في صدور جماعة غير محصورين، وقد عين جماعة عظيمة من

الصحابة على حفظ القرآن وإقرائه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم -إلى

المدينة قبل الهجرة جماعة من حفظة الصحابة؛ يعلمون القرآن لأهل المدينة

وأولادها، وكان الرجل إذا هاجر إلى المدينة دفعه النبي- عليه السلام -إلى رجل

من أولئك الحفظة يعلمه القرآن، ولما فتح مكة ترك فيها معاذ بن جبل لذلك. وكان

من أكابر الصحابة - وهم ألوف- من يعتني بتعرف فقه القرآن ومعانيه وإتقانه

حفظًا وكتابة. كانوا لا يأكلون نهارهم، ولا ينامون ليلهم باهتمامهم واشتغالهم بضبط

الآيات وحروفها ووجوهها، وكان بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صيحة

وزجل بتلاوة القرآن، وكان النبي يسمع إلى الملأ منهم، ويحمد الله على أن جعل

في أمته أمثالهم.

وبمثل هدا الاهتمام التام لإتقان القرآن في صدر الإسلام، حفظه ألوف من

الصحابة في تضاعيف عشرين سنة.

وحيث إن القرآن كان ينزل مفرقًا منجمًا، ويحفظه الذين يعتنون به على مهل

ومكث في تضاعيف سنوات كثيرة، وذلك أعون في الحفظ وأيسر للذكر. وأكثر

من حفظه كان شرع في حفظه من صباه، وزد عليه ما كان للنبي عليه السلام

المعصوم من نسيان القرآن، من كمال الاعتناء والاهتمام بالترغيب في حفظه،

والأمر بتعاهده، فكل من تأمل أدنى تأمل، يتبين ويقطع أن القرآن قد حُفِظ في

الصدور بتمام الإتقان وأرسخ الحفظ وأتم الضبط وكامل البيان، وقد نطقت

الأحاديث، ودلت الآثار على أن النبي- عليه السلام كان يوقف أصحابه على

ترتيب آيات السور، ويعلِّمهم مواضعها من السورة نصًّا، وكان يقرأ السورة في

الصلوات وغيرها، ويسمعونه فيعرفون من ذلك ترتيب الآيات، فالصحابة ضبطت

عنه عليه السلام ترتيب آي كل سورة ومواضعها، كما ضبطت عنه نفس الآيات

وتلاوتها. وكانت السورة مرتبة لحديث أحمد وأبي داود في تحزيب القرآن، وحديث

(واثلة) في إعطاء السبع الطوال والمئين والمثاني؛ بدل الكتب الثلاثة السماوية

والتفضيل بالحواميم والمفصل، والأحاديث تدل على أن النبي- صلى الله عليه

وسلم - كان يختم القرآن وأن الصحابة كانوا يختمون عنده عدة ختمات، وكل ذلك

يدل دلالة واضحة على أن القرآن كان محفوظًا في صدور ألوف من الصحابة،

مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم عند كل واحد منهم. قال معاذ: عرضنا القرآن

على النبي عليه السلام فلم يعب منا أحدا.

وكان للنبي عليه السلام كَتَبة؛ يكتبون فورًا كل ما نزل إليه على الصحائف

والقراطيس من الرقوق والأوراق غالبًا، وعلى الألواح وعسب النخل أحيانًا. كان

النبي عليه السلام يملي عليهم مباشرة، بقول: إن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا

في سورة كذا. وكان كتابة ما نزل من القرآن ملتزمة منهم. حتى زمن الاختفاء في

أوائل الإسلام، إذ كان المسلمون يتدارسون القرآن من الصحائف في البيوت، وكان

المشركون يدعون الدراسة إذ ذاك الهينمة [1] من شواهد حديث عمر قبل إسلامه مع

أخته وختنه.

وكانت العرب تكتب كل شيء نفيس أو مهم عندهم، كالأشعار الفصيحة،

والخطب البليغة من شواهد ذلك القصائد المعلقة، والصحيفة التي أكلتها الأرضة.

وكان كثير من الصحابة لهم علم بالقلم، وكان أنس بن مالك يقول: هذه أحاديث

سمعتها من رسول الله وكتبتها وعرضتها، وكثير من هؤلاء كانوا يكتبون في

الصحائف كل آية حفظوها، ويعرضونها على النبي عليه السلام وعين من

هؤلاء جماعة على كتابة الوحي، كانوا متمكنين من الكتابة باللسان العربي كل

التمكن كعلي وعثمان وعمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وأنس بن مالك وعبد الله

ابن سلام وغيرهم.

فكان النبي يملي عليهم مباشرة؛ فيكتبون ما نزل بحضرته، ويعرضون عليه

مرة بعد أخرى حتى يقرهم. بهذا الكيفية كتب القرآن من أوله إلى آخره في حياة

الرسول على صحائف وقراطيس متفرقة، وكانت هذه الصحائف والقراطيس أغلى

عندهم من أنفسهم، وأنفس من كل نفيس، وأحب إليهم من كل حبيب جليس. يدل

عليه أحاديث رويناها في تنافسهم في حفظ هذه الصحائف والقراطيس، وفي حبهم

التبرك بها أحيانًا في المجالس.

وكل ما ذكرته عن شأن حفظ القرآن في الصدور، وما أجملته بعد ذلك في

كيفية جمعه في الصحائف وأثبته في السطور، يدل دلالة قطعية باهرة على أن

القرآن زمن النبي عليه السلام -كان مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم؛ محفوظًا

في الصدور مكتوبا على ترتيب الحفظ في السطور والأحاديث متضافرة متساعدة

في ذلك.

ولأن إهمال الحفظ والكتابة والترتيب من النبي، ومن ألوف مؤلفة من

الصحابة الذين يتيقنون أن السبب في عزهم وسعادتهم هو القرآن، وأنه هو أساس

دينهم وشريعتهم، وأنه هو الذي يقربهم إلى الله عز وجل والذين كانوا يبذلون

جميع ما يستطيعون وما يتصوره العقل في سبيل حفظه كما أنزل مصونًا عن أدنى

شائبة - الإهمال من مثل هؤلاء شيء محال لا ريب فيه.

ثم توفي رسول الله يوم أكمل الله لنا ديننا ورضي لنا الإسلام دينا، والإسلام

قد ظهر في جميع جزيرة العرب؛ وفيها مدن وقرى كثيرة كاليمن والبحرين وعمان

ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة كلهم قد

أسلم، وبنوا المساجد ليس فيها مدينة ولا قرية ولا حلة أعراب إلا وقد قرئ فيها

القرآن في الصلوات، وعلمه الصبيان والنساء وكتب. ومات رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - والمسلمون كذلك؛ ليس بينهم اختلاف في شيء أصلا، كلهم أمة

واحدة، ودين واحد، ومقالة واحدة، ثم تولى الأمر أبو بكر سنتين وستة أشهر

فغزا فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس القرآن، وجمع الناس

المصاحف جمعًا مبتدأ، كأُبيّ وعمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود وسالم. ولم

يكن بين المسلمين اختلاف في شيء زمن خلافته، وما كان من ظهور الأسود

العنسي في صنعاء ومسيلمة باليمامة وانقسام العرب أربعة أقسام:

طائفة ثابتة على الطاعة، وطائفة مانعة للزكاة، وطائفة معلنة بالردة، وطائفة

متوقفة متربصة لمن تكون الغلبة. فقد أَخرَج إليهم أبو بكر البعوث، وجهز إليهم

عصابة من المسلمين فقتل الأسود ومسيلمة، ولم يمض عام واحد حتى راجع

الجميع الإسلام، فلم تكن هذه الفتن إلا كنار اشتعلت فانطفأت للساعة. فبعد أن

سكنت هذه الفتن، أحس عمر الفاروق بضرورة جمع القرآن في كتاب واحد؛ على

مشهد من جميع الصحابة وملأ من الحفظة والكتبة، ولما استقر رأي أبي بكر وعمر

على ذلك، أحضرا زيد بن ثابت، وأبديا له ما عزماه. واستعظم زيد ذلك أولا،

واستسهل نقل الجبل، شأن كل مقتدر على عظام الأمور، يقدر الأمر حق قدره،

محتاط عاقل، لا يغفل عما يلزم عليه في القيام بأعظم المصالح عن كمال الاقتدار،

وواجب الاحتياط، وعظيم التثبت، وبالغ الجد والاجتهاد، ووفور السعي، غير

مغتر بما له من الخصال، وإن كان فردًا مفردًا فائقًا على أقرانه وأهل عصره.

ووافق أخيراً فعزم على ما عزما عليه. والإنسان مهما بلغ فى الاقتداروعلو الهمة،

قد يكون إذا وقع عليه أمر عظيم وعزمه وتصوره من جميع وجوهه؛ غير غافل عن

وسائل تحصيله وأسباب الوصول إليه يعتريه طبعًا نوع من التردد وشيء يشبه

التوقف. لكنه لا يلبث فيزول، ويمضي العازم على عزمه، وجمع أبو بكر

الحفظة المشهود لهم بالضبط والإتقان. وكان أهمهم زيد وأبي بن كعب وعثمان

وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن

السائب وخالد بن الوليد وطلحة وسعد وحذيفة وسالم وأبو هريرة وعبادة بن

الصامت أبوزيد وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص واجتمعوا

برياسة زيد بن ثابت في منزل عمر ليتشاوروا في كيفية جمعه وتخصيص أعمال

كل واحد منهم. ثم أخذوا يوالون اجتماعاتهم في مسجد المدينة؛ لكتابة القرآن.

وكلهم كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، وكانوا قد اعتنوا قبل بكتابته جملة مرار

من ذاكرتهم ليتحققوا من ضبطهم له وحفظهم إياه، وجاء من كان كتب مصحفًا

بمصحفه، وأحضروا كل الصحائف والقراطيس التي كتبوا فيها القرآن بحضرة

النبي عليه السلام وإملائه، وعهدوا إلى بلال أن ينادي بأنحاء المدينة، أن من

كانت عنده قطعة عليها شيء من القرآن، فليأت بها إلى الجامع، وليسلمها إلى

الكتبة المجتمعين لجمع القرآن على مشهد الصحابة، وجيء بعدد كثير من القطع،

وما كانوا يقبلون قطعة حتى يتحققوا أنها كتبت بين يدي النبى وحضرته؛ إذ كان

غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يديه، وما كانوا يفعلون ذلك إلا مبالغة

في الاحتياط، ومغالاة في التحفظ، وإيغالا في الضبط. وكانوا يقابلون القطع

بعضها ببعض لئلا يبقى مجال شك في تمام الضبط. وكتب القرآن زيد بن ثابت

جميعه. قال زيد: حتى وصلنا إلى آية {لَقَدْ جَاءَكُمْ} (التوبة: 128) من سورة

التوبة ففقدناها، وفتشناها لنجدها مكتوبة ثم وجدناها مكتوبة عند أبي خزيمة ابن

أوس بن زيد الأنصاري. وقال زيد: حتى وصلنا إلى سورة الأحزاب، ففقدت آية

من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف، قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها

فالتمسناها لنجدها مكتوبة، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ المُؤْمِنِينَ

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: 23) فألحقناها في سورتها في

المصحف وتم جمعه. وجمع عمر جميع الحفظة والصحابة وقرأه عليهم. ولم يقع من

أحد منهم اعتراض حين العرض، ولم يسمع ولم يظهر بعد أيضا. وبعد إجماع أكابر

الصحابة على هذا الترتيب في هذا المصحف، لا يمكن أن يقال أنهم رتبوا ترتيبًا

سمعوا النبي عليه السلام -يقرأه على خلافه. وإجماعهم على هذا الترتيب

وإقرارهم عليه بلا خلاف من أحد منهم؛ أقوى برهان على أنهم وجدوا ما أفادهم

علمًا لا يدع عندهم ريبا.

فتقرر أمر القرآن تقريرًا قطعيًّا في هذا المصحف. وكان ذلك أعظم فرض قام

به سلفنا الصحابة، وأهم شيء حدث في الإسلام، وأفضل مَنّ لهم علينا إلى يوم

القيامة وتوفي أبو بكر وهو أعظم الناس أجرًا في المصاحف، وتولي الأمر بعده

عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضا، وفتحت الشام كلها، والجزيرة ومصر كلها،

ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد، ونسخت فيه المصاحف، وقرأ الأئمة القرآن

وعلمه الصبيان في المكاتب شرقًا وغربًا، بقي كذلك عشرة أعوام وأشهرا

والمسلمون لا اختلاف بينهم في شيء، ملة واحدة ومقالة واحدة. والمسلمون إذ مات

عمر، وإن لم يكن عندهم زيادة على مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى

الشام إلى اليمن فما بين ذلك، فلم يكن أقل من ذلك؛ لأن الخليفة عمر الذي كان كاد

يموت همًّا بأمر المسلمين؛ والذي حفر الخليج بعد عام الرمادة فساقه من النيل إلى

القلزم، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام لأجل

المدينة ومكة وما بينهما، خليفة هذا شأنه، لم يكن ليترك بلدًا فتحها ومدينة وقرية

تولى أمرها بلا مصحف يقرأ فيه أهلها.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الهينمة: ما كانوا يسمون كل قراءة هينمة بل القراءة الخفية والهينمة الصوت الخفي.

ص: 187

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق [*]

(1)

سأل سائل بترعة السويس هل كانت نافعة للمسلمين أو الشرقيين أم ضارة

بهم؟ فأجاب غير واحد بأنها كانت مثار المضار، وبركان الأخطار، لولاها لما

جاس الأوروبيون خلال هذه الديار، ولما تمكنت سلطتهم في كثير من الأقطار،

وأجاب واحد ممن حضر بأنها كانت نافعة أكثر مما كانت ضارة؛ إذ لولاها لكان

أهل الهند والأفغان كأهل مراكش في جهلهم وغفلتهم، وجفوتهم للمدنية وفنونها

التي وصلت إليها في هذا العصر، بل ولكانت مصر التي تزهو بعمرانها الآن خرابا

يؤدي ذكران البوم العشرات من قراها مهورًا لإناثها؛ على الطريقة التي كانت

متبعة عند البوم في الزواج على عهد إسماعيل باشا. ناهيك باليابان وما صارت إليه،

وبالصين وما تشرف عليه.

يسهل على غير الخبير المحقق في طبيعة الاجتماع، العارف حقيقة حال الهند

والأفغان ومراكش ومصر، أن يماري في القول مراءً ظاهرًا أو غير ظاهر، وأن

يستفتي أمثاله: أليس الفرق عظيمًا بين الهند التي كانت زاهية على عهد السلطنة

التيمورية، بالمعارف والصنائع الوطنية، مستغنية بنفسها عن أوروبا وسائر العالم،

وبين مراكش التي كانت ولا تزال تغلب عليها البداوة، بجهالتها، وغباوتها،

وعصيانها لكل نظام؟ أليس كل ما ينسب إلى الأفغانيين من الفضل هو تجافيهم عن

المدنية الأوروبية، ومنع الأوربيين أن يساكنوهم في بلادهم أو يتجروا فيها آمنين؟

ولولا ذلك لضاع استقلالها وكانت ولاية من ولايات الهند. ألم تأخذ مصر بأسباب

المدنية الأوروبية من عهد محمد علي باشا وهي على استقلالها؟ ألم تدخل في أول

ولاية محمد توفيق باشا في طور جديد من إصلاح، خابت به آمال طلاب الزواج

من البوم بالقرى والمزارع التي آلت إلى الخراب؟ كل هذا يقال في الاستفتاء،

ويقال أكثر منه، ويكون نص الفتوى عن كل سؤال: بلى. وهي كلمة يكتفي بمثلها

مشايخ الإسلام في الآستانة إذ يجيبون بكلمة (أولور) في مقام الإيجاب، وبكلمة

(أولماز) في مقام السلب، وبعد ذلك يأتي الحكم على الأوروبيين كافة بأنهم ما

جاؤوا الشرق بخير ما ولا منفعة، بل جاؤوا بشرور ومضار أعظمها إزالة استقلاله،

وأي خير أو نفع يوزن بسلب الاستقلال، حتى تصح المقابلة بين منافع الأوروبيين

ومضارهم في الشرق؟

هذا هو الحكم الذي يرمي قاضيه عن قوس عقيدة الجماهير، والجماهير في

الشرق جاهلون بالسياسة راغبون عنها، ويقل في المشتغلين منهم بها والباحثين

عنها من يحيط بأطراف مسائلها، ويعرف المطالب ببراهينها ودلائلها، ولولا أن

هؤلاء العارفين قليلون فينا، لما كنا نشكو مرض الأمة الذي يعبرون عنه بلفظ

التأخر والانحطاط. وهؤلاء العارفون القليلون لا يرضون بهذا الحكم، وإنهم لأعلم

من غيرهم بقيمة الاستقلال الذي عبث به الأوروبيون، وبأنه لا يوزن به شيء.

ولكنهم يعطون كل شيء حقه ثم يوازنون بين الأشياء، لا يمنعهم من ذلك أن يكون

في إحدى كفتي الميزان؛ ما يَرجَح بكل ما يوضع في الأخرى. على هذه الطريقة

القويمة نسير في بيان منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق، بعد تمهيد مقدمات

تعين على فهم مرادنا من المقابلة وهي:

(1)

إننا نريد بالمنافع كل ما يزيل شيئا من شقاء الأمة أو يزيد في

سعادتها، فيدخل فيها أمور الصحة ولا سيما مطاردة الأوبئة، وأمور المعاش

والكسب ولا سيما ترقية الزراعة، وتأسيس الشركات المالية، ويدخل فيها العلم

والتربية، والآداب، وأمور الاجتماع، وتدبير المنزل، والعلم بالإدارة، والسياسية،

وأصول النظام، وغير ذلك، مما ينقل الأمة من طور أدنى إالى طور أرقى.

(2)

إننا نريد بالمضار ما يقابل المنافع بجميع وجوهها التي أومأنا إليها آنفا،

وهو كل ما تصير به الأمة إلى حال شر مما كانت عليه، في أفرادها، وبيوتها

وهيئتها العامة سواء كان ذلك من جهة البدن كالمعاش والصحة، أو من جهة النفس

كالعلوم والأخلاق والآداب، وإن شئت فقل كما يقول كُتَّاب العصر من الجهة المادية

والجهة الأدبية، ويدخل في الجهة الأدبية الدين.

(3)

إننا نريد بالأوربيين كل ما يتناوله اللفظ، لا الحاكمون منهم خاصة.

(4)

إن المقابلة التي نوازن بها بين المنافع والمضار إضافية، أي إننا

ننسب حال الأمة بعد اختلاطها بالقوم إلى حالها قبله، لا إلى ما ينبغي أن تكون عليه

من الكمال، ولا إلى ما عليه الأمم الأوروبية في أنفسها، ولا إلى ما تهوى عامتنا أو

خاصتنا أن نكون عليه.

(5)

إن الكلام في المقابلة لا يتناول نيات القوم ومقاصدهم فينا، وإنما هو

خاص بالأثر الطبيعي لدخولهم في البلاد، سواء جاء على وفق ما يقصدون أو على

ضده.

(6)

إن الغرض من بيان المنافع التنويه بها، والتنبيه إلى الاستزادة منها

ومن بيان المضار، تقبيحها والتنفير عنها، ووراء ذلك تلبية نداء التاريخ بتخليد

هذه الحقيقة في ألواح الصحف، سالمة من نزعات تعصب الجاهلية، محفوظة من

نزغات الأهواء السياسية؛ لأن مدونها يحبها لذاتها، ولا يخاف في تقريرها لومة

لائم، ويحب أن يكون المسلمون وسائر أهل الشرق على هدى وبصيرة فيما يأخذون،

وفيما يتركون.

(7)

إنه لا يفقه هذا الموضوع حق الفقه، إلا من كان عارفًا تاريخ الشرق

حق المعرفة، خبيرًا بأخلاق الناس فيه، وعاداتهم، وطبائع الأمم، وأحوال

الاجتماع، وشئون السياسة، ونحن لا نكتب هذه المقارنة والموازنة لمثل هذا العالم

الاجتماعي النحرير، وإنما نكتبها للجمهور الذي لا يعرف من حال نفسه، وحال

من يعيش معهم، إلا ظواهر غرَّارة لا تنفذ بصيرته إلى شيء مما وراءها، وإن

كان يوجد في أفراده من يظن أنه أحاط بما هنالك علما، وقتله فقهًا وفهما.

من مسائل علم الاجتماع، أن الأفراد والأمم المؤلفة منها تقتبس ممن يخالطها

ويجاورها ما يناسب استعدادها. فالأفغانيون لما كانوا أهل حرب، وأولي قوة وبأس،

اقتبسوا من الأوروبيين النظام العسكري؛ وما يتبعه من الاستعداد للحرب والكفاح.

والسوريون لما عرف من استعداهم القديم للتجارة، كان أول شيء استفادوه من

الأوروبيين فنون التجارة وطرقها الجديدة حتى بذوهم في ذلك، فقد كان معظم تجارة

سوريا الكلية ببيروت في أيدي الأجانب، فغلبهم عليها من كانوا يخدمونهم من

الأهالي حتى لم يبق لهم منها إلا أقلها. والمصريون وهم أهل حرث وزرع، قد

استفادوا منهم في ترقية زراعتهم؛ ما سبقوا به جميع الزراع في المشرق. وكذلك

يكون اقتباس المضار على حسب الاستعداد، فلابد من تدبير هذه القاعدة الاجتماعية

فيما نذكر من المقابلة والموازنة في الفصول الآتية.

(2)

نبتدئ بذكر المنافع والفوائد التي استفدناها بمخالطة الأوروبيين والاتصال بهم

وفي اقتباس علومهم ومعرفة أحوالهم وشئونهم، فنعد منها ما يسبق إلى الذهن أنه

الأهم، ونختار في سردها معدودة لفظ الفوائد فنقول:

الفائدة الأولى

استقلال الفكر

رأيت في يد أحد طلاب العلم جريدةً جديدةً، وكنت تلميذًا في فرقته، ورأيته

يغمطها، ويدعي أنه يقدر على إنشاء جريدة خير منها. فقلت له: إنني لا أدعي

مثل هذه الدعوى، فإن كنت واثقًا، فاكتب لي مقالة في موضوع اجتماعي أو

سياسي، مما تبحث في مثله الجرائد. قال: اقترح. قلت: اكتب لي مقالة في

الاستقلال، فسكت ولم يرجع إلي قولا، ولا كتب شيئا.

عزمت على أن أكتب شيئًا في استقلال الفكر، ولم أفرغ له إلا بعد ثماني

ساعات، لم تخطر في بالي فيها تلك الواقعة. ولكن كانت أول ما سبق من الذهن

إلى القلم عند الكتابة، وما أثبتها عبثا ولا فكاهة؛ بل أردت أن أنبه القارئ إلى

جلال الموضوع الذي لا أزال أجله من ذلك اليوم؛ عسى أن يهبه من انتباهه ما

يليق به لا سيما إذا كان يحب الاستقلال لنفسه ولأمته.

يكثر في الجرائد ذكر استقلال الأمم والشعوب، وقلما تذكر شيئًا في استقلال

الأفراد الذي هو أصل استقلال الجماعات الكبيرة؛ التي تسمى أممًا وشعوبا.

استقلال الآحاد نوعان: استقلال الفكر، واستقلال الإرادة. وهذان النوعان

هما الجناحان للإنسان يطير بهما إلى الكمال في العلم والعمل، ويكون حظه من

النجاح على قدر حظه من قوتهما، وحسن استعمالهما.

استقلال الفكر يكون ببلوغ العقل أشده وارتقائه إلى مستوى رشده، فإن العقل

القاصر؛ هو الذي يتبع مذهب التقليد في كل ما يلقى إليه، كما نرى من الأطفال،

ومن هم في حكم الأطفال من الرجال. فالمستقل في فكره هو الذي يستعمل عقله في

البحث عن الحق والصواب في معارفه، والتمييز بين النافع والضار من مصالحه أو

مصالح أمته عندما يبحث فيها، فلا يقبل من هذا ولا ذاك قول من هو مثله، إلا إذا

ظهر له أنه الحق والصواب.

إن الذي لا يعرف الحق والصواب بالنظر والاستدلال، لا يعد عالمًا ولا

سياسيا، بل لا يعد عاقلا؛ لأن ما يحفظه من أقوال الناس في الكتب والجرائد، أو

في البيوت والمحافل، لا يرفعه إلى مرتبة العقلاء الذين يميزون بين الأقوال بالدليل

العقلي، فإن الأولاد المميزين يحفظون الأقوال مثله ولا يعدون من العقلاء، إلا إذا

أريد بالعاقل من ليس مجنونا؛ يجب أن يُساق إلى البيمارستان أو مستشفى المجاذيب

فإن هذا الاصطلاح يسمح لنا أن نطلق لقب العاقل على الإمعة الذي لا رأي له،

وإنما يتابع كل واحد على رأيه؛ لا سيما إذا لم يكن متهمًا عنده بعداوته له، لسبب

من أسباب التهم.

استقلال الفكر طبيعي في البشر، كما أن ضده وهو التقليد طبيعي فيهم. فأما

التقليد فهو طبيعي في الراشدين، ولولا ذلك لما ارتقوا في علم ولا عمل، ولسار

جميعهم على ما كان عليه أول واحد منهم، فكانوا كالبهائم متساوين في علمهم

وعملهم {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} (الزمر: 9) لو ترك

الناس وفطرتهم، لأعطوا طور القصور حقه، وطور الرشد حقه. ولكن معظم

الأفراد الذين بلغوا أشدهم مستقلين في أفكارهم، مستدلين على آرائهم، ولكانت

أعمالهم على حسب أفكارهم؛ لاستقلال إرادتهم المعبر عنه بالحرية الشخصية في

عرف هذا العصر. ولكن الرؤساء المسيطرين قد تصرفوا في الفطرة تصرفًا

ذهب بالاستقلال الذي لا يتفق مع الاستبداد. ولذلك ترى أهل البداوة أقرب إلى

الاستقلال من أهل الحضارة المحكومين بسلطة استبدادية.

الحضارة كمال بشري وآفته الاستبداد، الذي يحول دون ما تقتضيه الحضارة

من كمال الأفراد، لعبثه باستقلالهم وسيطرته عليهم في علومهم وأعمالهم.

التعليم في البلاد التي تساس بالاستبداد يكون مبنيًّا على التقليد بطبع

الحكومة؛ لأن الذين يعرفون الحقائق لا يرضون أن يتحكم في مجموعهم

واحد منهم، إرادته حكم، وهواه شريعة وقانون. فاستقلال الأفكار حرب لحكم

الاستبداد وكثيرا ما كانت هذه الحرب سجالاً، والعاقبة للمستقلين.

الشرق أعرق في التقليد من الغرب، فهو أعرق في الاستبداد أيضا. وقد ظهر

الإسلام في الشرق؛ وهو يرسف كالغرب في قيود التقليد، ويئط من وزر الاستبداد

الثقيل، فكسر القيود، ووضع الأوزار. ولكن عاد الاستبداد إلى المسلمين بعد أقل

من نصف قرن. فكان كلما قوي يقوى التقليد، ويضعف الاستقلال حتى زال من

مجموع الأمة، وصار الأفراد المستقلون فيها كالغرباء، لا وليّ لهم، ولا نصير.

قاست أوربا من بلاء الاستبداد أكثر مما قاست ممالك الشرق. وحلكت

ظلمات التقليد فيها أكثر مما حلكت في غيرها. ولكن ما عتمت أن ضاء لها قبس من

علوم عرب الأندلس وغيرهم، فوجد فيها من عرف قيمته، وأنضى في استعماله

عزيمته، حتى صار ضياء ساطعا، ونورًا في تلك الآفاق لامعا، وجاءت ساعة

المشرق بطلوع الشمس من المغرب.

جاهدت أوربا أفضل الجهاد في سبيل استقلال الفكر والإرادة، حتى ظفرت

بأعدائها من رجال الدين، والملوك المستبدين، وجعلت كلمة الدليل هي العليا،

وكلمة التقليد هي السفلى، فجمعت بين عزة البداوة، ومحاسن الحضارة، فارتقت

فيها العلوم والأعمال، إلى درجة لم تعهد في جيل من الأجيال، من حيث رجع

الشرق القهقرى (وغدًا يقدمه الزمان إلى ورا) .

ما كان العلم ليدع الجهل على ما هو عليه؛ حتى يحكم فيه حكمه، ويوقع على

أهله عدله أو ظلمه، اندفعت أوروبا إلى الشرق مستعمرة للأرض، أو داعية إلى

الدين، أو طالبة للكسب، فامتزج أهلها بأهله، ووصلوا حبلها بحبله، بما أنشأوا

من المدارس، وما تقلدوا من الأعمال والوظائف، فطفق أهل الشرق يتعلمون على

الطريقة الأوروبية طريقة البحث والاستدلال، والاستنباط والاستنتاج وأنشأوا

يستنشقون نسيم الاستقلال، ويتوجهون إلى طلب الكمال.

فهذه فائدة كبرى قد استفدناها من الأوروبيين، ينبغي أن نشكرها لهم، ونحمد

لأجلها معرفتهم. وليس للمسلم أن ينكر ذلك؛ محتجًا بأن القرآن الحكيم قد أرشد إلى

هدم التقليد، وقام على أساس الاستقلال في الاستدلال، فإن هذا وإن كان حقًّا

يعترف به المنصف من علماء أوروبا، لم يكن هو المنبه في هذا العصر للشرق

عامة، وللمسلمين خاصة، ودليلنا على هذا، أن رجال الدين منا لا يزالون في

الأكثرأسرى التقليد، وأعداء الاستقلال، فيجب أن ننصف أنفسنا، ونشكر لمن نبهنا

إلى مصلحتنا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) كتبنا هذه المقالة (للجريدة) ونشرت فيها.

ص: 192

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامعة الإسلامية

تكلم اللورد كرومر في تقريره الأخير عن الجامعة الإسلامية كلامًا يؤيد الذين

أظهروا يقظة المسلمين في غير شكلها، فرأينا أن ننشر ما كتبه الأستاذ الإمام عن

ذلك في رده الثاني على موسيو هانوتو، وهو لم ينشر في الرسائل المتداولة، ناقلين

ذلك عن الجزء الثاني من تاريخه قال رحمه الله:

شأن المسلمين اليوم، وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين، وجمع

السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية.

أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد

المسلمين، ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه، ما خطر بباله أن

يشير إلى هذه الدعوى، فضلاً عن أن يبني عليها حكما، وإن ما علق بالأوهام منها

فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحيي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسيي

المغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها.

وإني أعرض الحقيقة كما هي، لا يغشاها ستار من تمويه، ولا غطاء من

تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين

اليوم في كلامهم عن الدين، وما يَرُد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه [1]

إلى رشدهم؛ حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم، ولا يتخذ بعضهم من السلم

حربا، ولا من السكون شغبا.

لا أنكر أن طائفًا من الدين؛ طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض

المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، وإن نسمة من نفس الرحمن مرت بأنفس

قليل من أهل الفضل فيهم فحركت ساكنهم، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان

عليه أهل هذا الدين، وفيما صاروا إليه، وإن منهم من يتكلم بما يرى؛ إذا وجد

سبيلاً إلى الكلام، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة؛ إذا تهيأت له الوسائل

لذلك. ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولا

كلام لنا في هذر المقلدين، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين.

ظهر الإسلام لا روحيًّا مجردًا، ولا جسدانيًّا جامدًا، بل إنسانيًّا وسطًا بين ذلك

أخذ من كل القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملائمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره.

ولذلك سمى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدُّوه المدرسة

الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية. ثم لم يكن من أصوله أن يدع ما

لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في

عمله. جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا، وألان قاسيًا، وهذب

خشنًا، وعلم جاهلاً، ونبه خاملاً، وأثار إلى العمل كسلاً، وأقدر عليه وكلا،

وأصلح من الخلق فاسدا وروج من الفضيلة كاسدا ثم جمع متفرقا ورأب منصدعًا

وأصلح مختلاًّ، ومحا ظلمًا، وأقام عدلاً، وجدد شرعًا، ومكن للأمم التي دخلت

فيه نظامًا امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله

كمالا للشخص وألفة في البيت، ونظاما للملك. وظهرت به آثار النعمة عليهم في

جميع شؤونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته، بل كان قائده في جميع وجوه سيره.

فإن شاء قائل أن يقول: إن الدين لم يعلمهم التجارة، ولا الصناعة، ولا

تفصيل سياسية الملك، ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم

السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه

وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة، وما ظنك بدين يقول خليفته

الثاني - وهو في المدينة من بلاد العرب - (لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب

لسئل عنها عمر) ويقول خليفته الرابع: (أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا

أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش) أي خشونته، يريد

بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان، وأسوة الفقراء

في حسن الصبر.

هكذا كان الإسلام مهمازًا للمسلمين؛ يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصباحًا

لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال، وتقويم الأفكار، وعاطفًا يعطف

قلوبهم على الأمم بالعفو، والمرحمة، وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض

سادة لها، وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم.

أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم،

ويمقت ما مقته؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغًا في دينه، وإن

كان ملك الأرض أو ملكوت السموات، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في

هذا الدين ما شهد؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية ينساق إليها الأمر بنفسه

بحكم سنة الله في خلقه.

واأسفا، لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه، أما الدين نفسه فقد انقلب

في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته،

وانطمست في نظره وحق فيه قول علي -كرم الله وجهه - (إن هؤلاء القوم قد

لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا) .

لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت.

ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول: قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه،

وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها، بل ما يهدم قواعدها

ويأتي على أساسها، عرضت البدع في العقائد والأعمال، وحلت محل الاعتقاد

الصحيح، وأخذت مكان الشرع القويم وظهرت آثارها في أعماله، وعم شؤمها

جميع أحوالها.

إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح

فالقرآن يؤيد معناه، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه، فالرجل

والمرأة سواء في الخطاب التكليفي، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض

الإسلام، وخصال الإيمان، وفي طلب العلم بما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما

وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في

كتاب الله، وسنة رسوله، وعمل الصالحين من بعده، حتى لم يبق باب من أبواب

العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان. ضل المسلم بعد ذلك في معنى

العلم، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة: فرائض الوضوء،

والصلاة، والصوم، في صورة أدائها، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها، ووسيلة

قبولها عند الله، فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر.

أما آداب الدين، وتهذيب الروح، واستكمال الخصال الجليلة، مما جعله

الإسلام غاية العبادات، وثمرة الأعمال الصالحات، فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا

تتوجه إليه عزيمة، ولا تنصرف نحوه، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في

أطراف الأرض، لا ترقى بهم أمة، ولا تسمو بهم كلمة. أما من ينقطعون لطلب

العلوم؛ ليحصلوا جملة منها، فقد انقسموا إلى فريقين:

الأول - من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها، وقد قل أفراده في

معظم البلاد الإسلامية، ولم يبق منه إلا رسوم، لا يكاد يدركها نظر الناظر،

والمشتغلون منهم في بعض البلاد، كمصر والآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل

ما هو، أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان، ويفهمها

بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى، ومتى تم له ذلك فقد استكمل

العلم، سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم، فكان مثلهم مثل من ورث

سلاحا، فكان همه أن ينظر إليه، ويملأ عينه منه، ولا يمد يده إليه يستعمله أو

يزيل الصدأ عنه، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث، ويزعمون أن الدين

يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة، ومن رأي هؤلاء أن لا شأن لهم مع

العامة، ولا يجب عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، وقد ارتكبوا

بذلك خطأ في فهم دينهم، لا يساويه في سوء عاقبته خطأ، وللكثير منهم بل الأغلب

من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في

العلم، لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود.

والفريق الثاني من يهيؤه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو

سافل، وأفراد هذا الفريق إن كثروا أو قلُّوا، يحصِّلون مبادي العلوم المعروفة

بالعلوم العصرية. ثم يحصِّل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده،

على أن ما يحصل إما لفظ يحفظ، أو خيال يخزن. والمدار على الوصول إلى

ورقة الشهادة. ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا؛ لاستعمال التربية فيها، ولا غاية

لهم سوى هذه الغاية. فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها، وحصر همه على

العمل فيها، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها، فإذا مل الانتظار أو تقضى

زمن العمل، وجدته في قهوة أو ملهى يسرف في أوقاته، ويفسد في أدواته.

والصالحون منهم - وقليل ما هم - لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت، هلكت أو

قامت، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة؟ وأستثني منهم شواذ في كل بلد

على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم، وتجني الأمم ثمار أعمالهم. هذا شأن الرجال

مع العلم.

أما النساء فقد ضُرِب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن

بستار، لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة، أو يؤدين فريضة

سوى الصوم، وما يحافظن عليه من الفقه؛ فإنما هو بحكم العادة، وحارس الحياء

وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وحشو أذهانهن الخرافات،

وملاك أحاديثهن الترهات، اللهم إلا قليلاً منهن، لا يستغرق الدقيقة عدهن، وكل

من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما، يعدها الجنة، ويمنيها السعادة.

أخطأ المسلم في فَهْم معنى التوكل والقدر، فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل

ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه

ويوافي رغائب دينه.

أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم، وأن العزة

والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة

الشأن تابعة للفظه، وإن لم يتحقق شيء من معناه، فإن أصابته مصيبة أو حلت به

رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب؛ بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ،

أو ينهض إلى عمل؛ لتلافي ما عرض من خلل، أو مدافعة الحادث الجلل،

ومخالفًا في ذلك كتاب الله، وسنة نبيه.

أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر، والانقياد لأوامرهم، فألقى

مقاليده إلى الحاكم، ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه، حتى ظن أن

الحكومة؛ يمكنها القيام بشئونه جميعها من إدارة وسياسة؛ بدون أن يكون لها منه

عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم

لأداء الخدمة العسكرية، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها، حكم بأن مما

يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة، لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات

العقل، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه؛ من حيث ظنوه قادرًا على

كل شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه، من

حيث أنهم تركوه وشأنه، لا يساعدونه في حادث، ولا يعينونه فى أمر مهم، اللهم

إلا إذا أرغموا على ذلك، ومن ذا الذى يحسن عملاً إذا ألجئ إليه بالرغم؟ ومن

هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها

وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها.

أما الحكام وقد كانوا قدر الناس على انتياش الأمة مما سقطت فيه، فأصابهم

من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم؛ ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة،

ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة

سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلا،

لا يستشيرون كتابًا، ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على

النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظلم، وما يتبع ذلك من الخصال التي

ما فشت في أمة، إلا حل بها العذاب.

هذا كله إلى ما حدث من بدع أخرى من مذاهب شتى في العقائد، وطرق

متخالفة في السلوك، وآراء متناقضة في الشرائع، وتقليد أعمى في جميع ذلك،

فتفرقت المشارب، وتوزعت المنازع، وعظم سلطان الهوى على أرباب النزعات

المختلفة، كل يجذب إلى نفسه، لا ينظر إلى حق، ولا يفزع من باطل، وإنما همه

أن يظفر بخصمه، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الإسلام في معرض التشدق

بالكلام.

وزد على ذلك؛ وهذا أكبر بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم،

وهي بدعة اليأس من أنفسهم ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأن ما

نزل بهم من الضر لا كاشف له، وأنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه.

مرض سرى في نفوسهم، وعلة تمكنت من قلوبهم؛ لتركهم المقطوع به من كتاب

ربهم وسنة نبيهم، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار، أو خطأهم في فهم ما صح منها،

وتلك علة من أشد العلل فتكًا بالأرواح والعقول، وكفى في شناعتها قوله جل شأنه

{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .

تبع هذه البدع جميعها وأخرى يطول ذكرها، هزال في الهمم، وضعضعة في

العزائم، وفساد في الأعمال، ويبتدئ من البيت، وينتهي إلى الأمة، يمر في كل

طبقة، ويجول في كل دائرة خصوصًا من دوائر الحكومات، وما يُرمى به

المسلمون من التعصب الديني الأعمى، فإنما عرض على أقوام في البلاد الإسلامية

تبعًا لهذه البدعة الضالة، على أنني لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم

المسيحية شرقية كانت أو غربية، والتاريخ شاهد لا يكذب.

هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في

دينهم، وخطأهم في فهم أصوله، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله، لهذا سلط الله عليهم

من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم

بدفعه، إلا إذا تداركهم الله بلطفه، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب ويقرنه

إذا ذكره بما يتبرأ منه، ويعده حجابا بين الأمم والمدنية، بل يعده منبع شقائهم

وسبب فنائهم.

تنبه لذلك أفراد من عقلاء المسلمين في أواسط القرن الماضي من سني

الهجرة، في أقطار مختلفة من بلاد فارس والهند وبلاد العرب ثم في مصر، وكل

منهم بحث في الداء، وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم، ولعلهم يلتقون

يومًا من الأيام عند الغاية إن شاء الله.

مقصد الجميع ينحصر في استعمال ثقة المسلم بدينه في تقويم شئونه، ويمكن

أن يقال: إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما

طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع،

تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد،

واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات

السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة. فإذا سمعت داعيًا يدعو إلى العلم بالدين

فهذا مقصده، أو مناديا يحث على التربية الدينية فهذا غرضه، أو صائحا ينكر ما

عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته، وهذه سبل لمريد الإصلاح في المسلمين لا

مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين،

يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من

عماله أحدا، وإذا كان الدين كافلاً بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل

النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه، وهو حاضر

لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من أحداث ما لا إلمام لهم به لا - فلم

العدول عنه إلى غيره؟

لم يخطر ببال أحد ممن يدعو إلى الرجعة إلى الدين؛ سواء في مصر أو

غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أوغيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين، غير

أن بعض المسيحيين إذا سمع قولاً في الدين أعرض عن فهمه، وأنشأ لنفسه غولاً

من خياله، يخاف منه ويخشى غائلته، يسميه باسم الدين. وبعضهم يظن أنه لو

انتبه المسلمون إلى شؤونهم، ورجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم، لاعتصموا

بجامعتهم، واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم، واستغنوا عمن أدخلوه في أعمالهم

من غيرهم، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم، وهو

سوء ظن من الزاعم بنفسه، فإنه بظنه هذا يعتقد أنه غاش مغرر، وسالب متلصص،

وسوء ظن بالمسلمين أيضا، فإن أهل الوطن الواحد لا يستغني بعضهم عن بعض

مهما ارتقت معارفهم، وعظم اقتدراهم على الأعمال. وغاية الأمر أن ما كان ينال

اليوم بدون حق يصبح وهو لا ينال إلا بحق، والأجنبي الذي كان ينفق الواحد

ويربح المائة، يرجع إلى الاعتدال في الكسب، ويحتاج إلى شيء من التعب في

استيراد الربح، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية؛ وهي في عنفوان

قوتها، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها؛ وهي في أرفع مقام من عزتها.

نعم يعرض في طريق الدعوة إلى الدين على هذا الوجه، أن يلتمس مسلم

بمصر معونة من مسلم آخر بسوريا أو بالهند أو بالعجم أو بأفغانستان أو بغير

هذه الأقطار؛ لأن مرض الجميع واحد وهو البدعة في الدين، فإذا نجح الدواء في

موضع كان السليم أسوة للمريض في موضع آخر، أما السعي في توحيد كلمة

المسلمين، وهم كما هم، فلم يمر بعقل أحد منهم، ولو دعا إليه داع لكان أجدر به

أن يرسل إلى مستشفى المجانين.

يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج، ويقول: إنه صلة

بين المسلمين في جميع أقطار الأرض، ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم، فعليهم

أن يستفيدوا منه. وهو كلام حق، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه، فإن

الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين، حتى يستعين بعضهم

ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم، أو أضل من أعمالهم، وفي مدافعة ما

ينزل بهم من قحط، أو ظلم، أو بلاء، وهو أمر معهود عند جميع الأمم التي تدين

بدين واحد؛ خصوصًا عند الأوربيين.

يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، ويعلقون

آمالهم بهمته، وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له، وهذا أمر لا ينبغي أن يدهش

أحدا؛ فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم، وسلطانها أفخم سلاطينهم، ومنه

يرتجى إنقاذ ما بين يديه من المسلمين مما حل بهم، وهو أقدر الناس على إصلاح

شؤونهم، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد، وتهذيب الأخلاق؛ بالرجوع

إلى أصول الدين الطاهرة النقية. فأي شيء في هذا يزعج أوربا حتى تتحد على

هضم حقوق المسلمين؟ إذا حدثت حوادث مثل الحوادث الماضية، كما يقول موسيو

هانوتو.

بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد، يقول فيه

موسيو هانوتو: إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية من السلطة

المدنية، وهو كلام صحيح. ولكنه لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند

المسلمين. لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت

للبابا على الأمم المسيحية؛ عند ما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر

الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية. وقد قررت الشريعة الإسلامية

حقوقًا للحاكم الأعلى؛ وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة

الدينية. وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب أو

السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا التولية

والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وهذه

الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظامًا لطريقة الحكم،

وعدد الحاكمين، ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين

وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها. وكذلك حكومة مصر أُنشئت فيها محاكم

مختلطة ومحاكم أهلية، بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم،

ولا دخل لشيء من ذلك في الدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى، كما

يطلب مسيو هانوتو. ولكن مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين، بل

كان الأمر معكوسًا، فإن أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين، لما

استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم، والمغالاة في وضع المغارم،

والمبالغة في التبذير الذي جر الويل على بلاد المسلمين، وأعدمها أعز شيء كان

لديها وهو الاستقلال.

إن فرنسا تسمي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق، وملكة إنكلترا تلقب بملكة

البروتستانت، وإمبراطور الروسيا ملك ورئيس كنيسة معا، فلم لا يسمح للسلطان

عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين، أو أمير المؤمنين.

لا أظن أن مسيو هانوتو، يسيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بيناه،

وأظنه يكون عونًا للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنساوية، إذا وجد

فيها من يقوم بها، وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح

الفرنساويين، فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين سابقوا الأوربيين في

اكتساب العلوم، وتحصيل المعارف، ولحقوا بهم في التمدن، وعند ذلك يسهل

الاتفاق معهم إن شاء الله.

سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا كلها، وعدم ثقة سياسييهم بدولة من الدول،

واعتقاد المسلمين بأن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية،

وعدم اطمئنانهم إلى سياسة الدول المسيحية، حتى أدى بهم فقدان الثقة بالمسيحيين،

إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة، وصدق معهم، سمع

بذلك كله موسيو هانوتو من صاحب الجريدة المعروفة؛ ومن بعض العثمانيين في

الآستانة وباريس؛ ثم أخذ يبرهن على أن سياسة أوربا اقتصادية ملكية، لا دينية

لاهوتية.

لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم موسيو هانوتو، ومن أبلغه أخبارهم،

أهم الهنود؟ وهم في حكم دولة أجنبية، ولا نزال نرى في خطبهم وجرائدهم ما يدل

على طاعتهم لحكامهم، وتعليقهم الآمال بعدلهم، والتماسهم الحق من طرقه.

هل هم مسلمو روسيا؟ وثقتهم بحكومتهم وثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد

حتى إن الدولة الروسية تفضلهم على المسيحيين من غير المذهب الأرثوذكسي.

هل هم الأفغانيون؟ وإخلاص أميرهم في مصافاة الإنكليز أشهر من أن يذكر،

ولا ينفي إخلاصه حرصه على بلاده ومحافظته على مصلحتها.

هل هم الفرس؟ واستنامتهم إلى السياسية الروسية لا يجهلها أحد؟

هل هم المراكشيون، وهم بمعزل عن كل ما يسمى سياسة، بل هم في غفلة

عن الدين والدنيا جميعا، شغل بعضهم ببعض، فلا ينفكون يتقاتلون ويتسالبون،

حتى يقضي الله فيهم بقضائه.

هل هم التونسيون؟ وقد أثنى عليهم موسيو هانوتو بما هم أهله، وثبت له

ارتياحهم إلى السلطة الفرنساوية؛ لمجرد ما أطلقت لهم الحرية في دينهم.

لعله لم يقصد إلا العثمانيين كما يدل عليه بقية كلامه، وكما يفيده قوله: أن لا

يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا، والعثمانيون منهم المصريون ومنهم غيرهم. فأما

المصريون فلا شيء عندهم يدل على عدم الثقة بالأوربيين وبالمسيحيين العثمانيين

فإنهم يشاركون في العمل مواطنيهم من الأقباط في جميع مصالح الحكومة، ما عدا

المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين، وهم معهم على غاية الوفاق، خصوصًا أهل

الإخلاص وسلامة النية منهم، ولكل من الفريقين أصدقاء وأحبة في الفريق الآخر،

ثم شأنهم هو ذلك الشأن مع سائر الطوائف المسيحية، إلا من ظهر منهم بالتعصب

البارد للدين، وآذاهم في دينهم أو فى منافعهم الخاصة بهم؛ لا لشي سوى التعصب

الأعمى، ولا نطلب على ذلك شاهدًا أقرب من صاحب الجريدة الذي يحادثه موسيو

هانوتو؛ إنه بعد أن كان على المسلمين أثناء الحرب الروسية العثمانية، وبعد أن

أتى ما أتى عقب الحوادث العرابية، شهد له المسلمون بأنه صديقهم والساعي في

خيرهم، كما افتخر بذلك مرارًا فى جريدتة، وإن كانت له إليهم هنات لا تزال

تبدو من فيه إلى وقت ذلك الحديث. فأين فقد هذه الثقة بالعثمانيين المسيحيين في

مصر؟ هل طرد أحد من خدمة الحكومة؛ لأنه مسيحي عثماني؟ هل حرم أحد حق

المحاماة، أو إنشاء الجرائد، أو المطابع، أو إقامة المصانع، أو تأسيس البيوت

التجارية؛ لأنه مسيحي عثماني؟ فليأت صاحبنا بشاهد واحد.

أما حالهم مع الأوربيين، فإنا نراهم إذا أحسوا بعدل من إنكليزي ذكروه، أو

وصل إليهم معروف من أي عامل أوربي شكروه، بل أزيدك على هذا أن المستغيث

منهم بالحكومة، يطلب منها أن يتولى تحقيق مظلمته إنكليزي، كما شوهد ذلك كثيرًا

في شكاياتهم، وليس بقليل من يعرض شكواه على جناب اللورد كرومر، وهو ليس

بحاكم رسمي. فأي دليل على الثقة أكبر من هذا.

ليس بقليل فى مصر من يثق بالفرنساويين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم

ويعتد بولائهم، ومسيو هانوتو وصاحب الجريدة يعرفان ذلك.

كثيرًا ما أغرى الأوربيون من فرنساويين وأمريكيين من أرباب المدارس في

مصر شبانًا من المسلمين بالمروق من دينهم؛ والدخول في الديانة المسيحية، وفروا

ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية؛ وأحرقوا كبد والديه، ومع ذلك لا

نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارسهم، وناظر المعارف عندنا وزير

مسلم وأولاده يتربون في مدارس الجزويت، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس

الفرير، فأي ائتمان يفوق هذا الائتمان.

زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوربيين؛ خصوصًا في المعاملات،

حتى أساء أولئك الأوربيون استعمالها، وانتهزوا فرصتها، وسلبوا كثيرًا من أهل

الثروة ما كان بأيديهم، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم، ويغالون في الاستنامة

إليهم، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم وعوائدهم، فماذا يطلب من الثقة فوق هذا؟ !

هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شيء مثل ما يشكون من الثقة

العمياء بالأجنبي من غير تمييز فيما هو عليه، من إخلاص أو غش، من صدق أو

كذب، من أمانة أو خيانة، من قناعة أو طمع، حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا

إليه من خسارة المال وسوء الحال، فهل هذا هو فقد الثقة بالأوربيين والعثمانيين

المسيحيين؛ الذي يعنيه حضرة صاحب الجريدة وجناب موسيو هانوتو؟

وأما العثمانيون من غير المصريين، فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها - أيده

الله - وجدنا أن نظام الدولة قاض باستعمال المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في

كل بلد فيه مسيحيون، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشين والرتب ما

يناله المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك، وكثير من المسيحيين نالوا من

الامتيازات والمنافع في الدولة ما لم ينله مسلم، وسفارات الدولة ومناصبها العالية لا

تخلو من المسيحيين.

إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية، وإنعامه عليهم بوسامات

الشرف، واختصاصه لبعضهم بشرف المثول في حضرته، والإحسان إليه برقيق

المخاطبة، لا ينقطع ذكره من الجرائد، صاحب الجريدة التي نقلت الحديث أمثل

شاهد على مثل ذلك، فقد جاهر زمنًا ليس بالقصير بما لا ترضى الدولة بمثله ولا

بأقل منه من مسلم، ثم سهل عليه وهو مسيحي؛ أن يكون موضع ثقة للجانب

السلطانى، حتى أدناه منه وقبله فى مجلسه، وسمع منه أمير المؤمنين تلك النصيحة

المفيدة التي نشرها في جريدته من نحو شهرين، إثر هبوبه لنصرة مسيو هانوتو،

ثم والى عليه إحسانه بالرتب والنياشين وغيرها، فما هي الثقة إن كان هذا فقدها.

أما سياسة الدولة الخارجية: فالفرنساويون يشكون من مصافاة السلطان؛

وثقته بدولة ألمانيا وهي دولة مسيحية، ولا أظنهم يشكون من ثقة أخرى لدولة

إسلامية، وكانت للدولة ثقة لا تتزعزع بالسياسة الإنكليزية، ثم حدثت حوادث

أهمها نشأ من ضعف سياسة موسيو غلادستون، فأعقبها اضطراب في تلك الثقة مدة من الزمان بحكم الضرورة، ثم إنا نراها اليوم تتراجع، وفي رجال

الدولة من لهم ثقة بصداقة روسيا، ويودون لو مالت إليها سياسة الدولة وهم

مسلمون.

والذي أحب أن يعرفه موسيو هانوتو؛ أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول

الأوربية ليست بسياسة دينية، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم. وإنما

كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسة ومدافعة، ولا

دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوربية.

إمبراطور ألمانيا جاء إلى سوريا؛ للاحتفال بفتح كنيسة، فبالغ السلطان في

الاحتفال به إلى الحد الذي اشتهر وبهر. يجيء الأمراء المسيحيون من الأوربيين

إلى الآستانة، فيلاقون من الاحتفال ما لا يلاقونه في بلاد مسيحية، وينفق في تعظيم

شأنهم من المال، ما المسلمون في حاجة إليه، أليس ذلك لمجاملتهم واكتساب مودتهم؟

وهل بعد المودة إلا الثقة بصاحب المودة؟ كان يمكن للسلطان أن يكتفي

بالرسميات ولا يزيد عليها. ولكن عهد في معاملته ما يفوق الرسمي بدرجات، فإن

سلمنا أن سياسة أوربا ليست بدينية من جميع وجوهها. فسياسة الدولة العثمانية مع

أوربا هي كذلك، ومسلموها تبع لها.

فإن قال قائل: إن حوادث الأرمن لم تزل في ذاكرة أهل الوقت، وينسبون

وقائعها إلى التعصب الديني، بل يقولون: إن أسبابها مظالم جَرَّ إليها ذلك التعصب

أمكن أن يجاب بأن العداوة مع طائفة مخصوصة لا تدل على فقد الثقة بكل مسيحي

منها ومن غيرها، ومع ذلك فإن كثيرًا من الأرمن في خدمة الدولة إلى اليوم، وهم

بذلك موضع ثقتها، وهذا وذاك يدل على الريب فيما يزعمون من أن منشأ تلك

الوقائع التعصب الديني. فإن المسيحيين سواهم في الممالك العثمانية أنعم حالاً من

المسلمين، كما شاهدناه بأنفسنا، ولو أنصف الأوربيون لأمكنهم فهم أسباب هذا

الاضطراب الذي يظهر زمنًا بعد زمن في تلك الأقطار، ولسهل عليهم أن يعرفوا أن

منبعه في أوربا لا في آسيا.

لا يغث عليَّ أن أقول: إن المسيحيين في الممالك العثمانية متمتعون بنوع

من الحرية في التعليم والتربية وسائر وجوه الخير، يتمنى المسلمون أن يساووهم

فيه. فهل هذا عنوان سوء الظن بالمسيحيين وعدم الثقة بهم؟ لا يليق بكاتب مثل

صاحب الجريدة؛ أن يروي عن المسلمين كافة مثل ما رواه؛ فإن ذلك مما يحزن

المسلمين والمسيحيين جميعا، وإني أعتقد أنه عند الكلام على المسلمين، لم يكن في

ذهنه إلا بعض أشخاص لم تعجبه آراؤهم فيه، فاستحضر في صورهم جميع

المسلمين وسياسييهم.

ليعلم موسيو هانوتو أن جميع ما يقال له أو يكتبه بعض العثمانيين، لا حقيقة

له إلا في ذهن القائل أو الكاتب، فلا ينبغي أن يعول على مثله في أحكامه، وعليه

أن يحقق الأمر بنفسه؛ إن كان يهمه أن يتكلم فيه.

وأما أن المسلمين أخذوا عليه فيما كتب عن الإسلام؛ مع أنه خدمهم. وقوله:

فكيف بحالهم مع من لم يخدمهم - فنبين له الوجه فيه؛ ليزول عنه ما سبق إلى فهمه

لو اقتصر على الكلام في السياسة، وبحث في علاقة المسلمين مع حكومته، ولم

يسط على الدين نفسه في أصلين من أهم أصوله، لما أخذ عليه أحد إلا من ينتقد

رأيه من جهة ما هو صحيح أو غير صحيح. ولكنه لم يكتف بذلك، وطعن في عقيدة

التوحيد، وبَيَّن رداءة أثرها في المسلمين، واستل سلاحه على عقيدة القدر، وبَيَّن

سوء ما جَرَّت إليه فيهم، وهو بذلك يثبت أن المسلمين لا يزالون منحطين، ما

داموا مسلمين، وهو ما لا يرضاه أحد منهم.

لو لام على المسلمين فيما هم عليه اليوم وفي انحرافهم عن أصول دينهم،

واكتفى بتعنيفهم على إهمالهم لشؤونهم، وغفلتهم عن مصلحتهم، كما جاء في حديثه

الذي نحن بصدده، لما وجد من المسلمين إلا معتبرًا بقوله، متعظًا بنصيحته والسلام.

***

قول اللورد كرومر

في

الجامعة الإسلامية والشريعة

(مأخوذ من ترجمة إدارة المقطم لتقريره الأخير عن سنة 1906)

إذا قلنا: إن الحركة الوطنية المصرية الحالية ليست إلا حركة إلى الجامعة

الإسلامية، لم يطابق قولنا الواقع من كل وجه. ولكن لا ريب في كون هذه الحركة

مصبوغة صبغاً شديدًا بصبغة الجامعة الإسلامية. وهذا الأمر كان معلومًا عندي منذ

زمان طويل، وقد علمه كثيرون من الأوربيين الآن، كما يظهر مما يرد في

الجرائد المحلية؛ ولكن علمهم به أبطأ كثيرا. ويسهل عليَّ إيراد كثير من الشواهد

والأدلة على صحة هذا القول، إذا اقتضى الأمر إيرادها [2] . ولكن أقول الآن:

إن الحوادث التي حدثت في الصيف الماضي، إنما كشفت عنصرًا جديداً من

عناصر الحالة المصرية؛ لأنه ولو سلَّم الإنسان بما لا ريب في صحته؛ وهو أن

الدين أعظم قوة محركة في الشرق [3] وأن الشرقيين لا تحلو لهم حكومة كالحكومة

الثيوقراطية [4] فقد كان يجوز له مع ذلك أن ينتظر.

إن تذكر المصريين لما أصابهم في الماضي واعتبارهم؛ لتقدم بلادهم في

الثروة واليسر في الحال تقدمًا عظيمًا جدًّا بالنسبة إلى ما جاوروها من الولايات

العثمانية، يحولان دون نمو الجامعة الإسلامية في بلادهم أكثر مما حالا في الظاهر،

وإنما قلت في (في الظاهر) لأني رغمًا عن كل الظواهر، لا أزال غير مقتنع بأن

الميل إلى الجامعة الإسلامية متأصل كثيرًا في الهيئة الاجتماعية المصرية، بل إني

واثق أنه لو كان المصريون يعتقدون إمكان إخراج الآراء المتعلقة بتلك الجامعة من

القوة إلى الفعل، لانقلب الرأي العام عليها انقلابًا عظيمًا سريعًا.

ومهما يكن من ذلك، فقد اتضح أن الجامعة الإسلامية عنصر من عناصر

الحالة المصرية؛ التي يجب حفظها في البال، فلذلك يحسن بنا فهم المقصود منها.

المقصود من الجامعة الإسلامية بوجه الإجمال؛ اجتماع المسلمين في العالم كله

على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فإذا نظر إليها من هذا الوجه، وجب

على كل الأمم الأوربية التي لها مصالح سياسية في الشرق، أن تراقب هذه الحركة

مراقبة دقيقة؛ لأنها يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة، فتضرم فيها نيران

التعصب الديني في جهات مختلفة من العالم. وقد أوشكت هذه النيران أن تضطرم

بمصر في الربيع الماضي. على أني أرى قومًا يقولون: إن القلق الذي جرت

الإشارة إليه في مجلس النواب في الصيف الماضي كان وهميا، فأنا لا أوافقهم على

هذا القول مطلقا؛ لأن طبع الطبقات الدنيا من أهل مصر ولا سيما سكان المدن

متقلب كثيرا. فهاجوا من قراءة المقالات التي كانت تصدر في الجرائد الإسلامية

طافحة بالإغراء والكذب هيجانا شديدا دفعة واحدة، وسكنوا دفعة واحدة، كذلك

عندما زيدت عساكر جيش الاحتلال، ولطَّفت الجرائد الإسلامية لهجتها بتشديد

العقلاء من أهل بلادها النكير عليها. ولكن لا ريب عندي أن البلاد كانت عرضةً

لخطر حقيقي برهة من الزمن، فقد جاءتني أخبار وتقارير عديدة عن تهديد

المسيحيين والأوربيين. ثم إن الأخبار الغامضة المبهمة التي تشيع قبل حدوث

الفتن والقلاقل في الشرق عادة؛ شاعت شيوعًا يستحق الاعتبار، حتى تولى الرعب

الأوربيين الساكنين في القطر، فجعلوا يتقاطرون من القرى إلى المدن، ولم

يعترِهم هذا الرعب لغير سبب معقول، فقد شرحت في تقريري عن سنة 1905

(وجه 17-19) ما جرى في الإسكندرية أواخر سنة 1905، حين أفضى وقوع

الخصام بين رجلين يونانيين إلى شغب عظيم، لم يلبث أن انقلب هيجانًا على

المسيحيين. فلو اتفق حدوث حادثة من هذا القبيل في إبان الهيجان الذي حصل؛

بسبب حادثة الحدود بين تركيا ومصر- وحدوثها لم يكن أمرا بعيدا - لأمكن، بل

لترجح أنها كانت تفضي إلى عواقب وخيمة.

أما ما يقوله قوم آخرون من أن ذلك القلق أتي عن سياسة الحكومتين البريطانية

والمصرية في أمور مصر الداخلية، فخالٍ من كل أثر للصحة؛ لأن

القلق كله وليس بعضه فقط نتج عن تصديق خلق كثير من الأهالي الذين كانوا

تحت تأثير الجامعة الإسلامية، لما كان يقال لهم من أن ما كان يجري حينئذ، إنما

كان يقصد به التعدي على رأس الديانة الإسلامية.

ولنعد إلى ما كنا عليه فأقول: إني إن كنت لا أصدق أن الجامعة الإسلامية

تنتج غير اضطرام نيران التعصب في أمكنة متفرقة؛ كما سبقت إليه الإشارة،

فذلك:

أولاً - لأني لا أصدق أن المسلمين يتَّحدون معا ويتعاونون، متى خرجت

المسألة عن القول إلى الفعل.

وثانيًا - لأني واثق بقوة أوربا واقتدارها عند الاقتضاء على تلافي هذه

الحركة من الجهة المادية، وإن كانت غير قادرة على ذلك من الجهة الروحية.

والجامعة الإسلامية أيضًا عبارة عن معانٍ أخرى غير معناها الأصلي. ولكنها

لا تخلو من علاقة به. وهذه المعاني أهم بالنظر إلى ما نحن فيه من المعنى الأعم

الذي سبقت الإشارة إليه.

فمنها أولاً في مصر، الخضوع للسلطان وترويج مقاصده، وهذا المعنى يدل

على دخول عنصر جديد في حالة مصر السياسية. فقد كانت الحركة الوطنية

المصرية دائرة على مضادة التُّرك إلى عهد قريب؛ إذ الثورة العرابية كانت في

الأصل على تركيا والتُّرك، أما الآن فيبلغني أن زعماء الحركة الوطنية يقولون

إنهم لا يقصدون توثيق عرى الاتحاد بين تركيا ومصر، وإنما يقصدون حفظ سيادة

السلطان على مصر. ولكن قولهم هذا يختلف عما كانوا يقولونه منذ عهد قريب

جدًّا اختلافًا جليًا، بحيث لا يتمالك الإنسان عن الظن بأن قولهم الآخر إنما خطر

على بالهم بعدما علموا أنهم إذا وسعوا نطاق العلائق التركية، أبعدوا عنهم أميالا

يتمنون قربها منهم ودوامها معهم. ولكن ليس من الإنصاف تقييد الحزب الوطني

جملة بأقوال يلقيها أفراد قليلون غير مسؤولين على عواهنها. فإذا سلمنا بأن القول

الأخير هو رأي الحزب الوطني الصحيح، فعندي عليه أن سيادة السلطان على

مصر لم ينازع فيها قط على ما أعلم، ولا يحتمل أن يصيبها شيء، ما دام كل ذوي

الشأن في الفرمان - الذي هو اتفاق بين فريقين كما لا يخفى - لا يفعلون شيئًا

خارجا عن دائرة حقوقهم. فحادثة سيناء، إنما بلغت ما بلغت من الأهمية وعظم

الشأن؛ لما خيف من خرق حرمة الفرمان، وما يتصل به من المستندات الرسمية

المحسوبة جزأ منه على وجه يعود بالضررعلى القطر المصري.

وثانيًا إن الجامعة الإسلامية؛ تستلزم بالضرورة تهييج الأحقاد الجنسية

والدينية إلا في ما ندر. فلا شك أن كثيرين من أنصارها ينصرونها عن حرارة

دينية حقيقية، وآخرين يودون لو أمكنهم أن يفرقوا بين القضايا السياسية والدينية،

وبينها وبين الجنسية أيضا؛ إما لأن مبالاتهم بالدين قد قلَّت، حتى أوشكوا أن يحكوا

(اللاأدريين) أو لكون أغراضهم سياسية، أو لكونهم يقصدون تحين الفرص للانتفاع

بها، أو لكونهم اتبعوا الآراء الحديثة عن وجوب التسامح في الدين كما هو مأمولي.

ولكن متى كانت هذه رغبتهم ومقاصدهم، فلا شك عندي أنهم يعجزون عن تنفيذها؛

لأنهم إن لم يقنعوا عامة المسلمين بأفعالهم أنهم من المسلمين المجاهدين، لم

يستطيعوا أن يحولوا انتباههم إليهم، ولا أن يكتسبوا ميلهم أيضا. فالضرورة تقضي

عليهم بتهييج الأحقاد الجنسية أو الدينية: إما ظاهراً أو خفية؛ ليرقوا بيانهم السياسي.

وثالثًا: إن الجامعة الإسلامية تستلزم تقريبًا السعي في إصلاح أمر الإسلام

على النهج الإسلامي، وبعبارة أخرى السعي في القرن العشرين في إعادة مبادئ

وضعت منذ ألف سنة [5] هدًى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة، وهذه

المبادئ منها ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سننًا وشرائع عن علاقات الرجال

والنساء؛ مناقضة لآراء أهل هذا العصر، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم من ذلك كله؛

وهو إفراغ القوانين المدنية، والجنائية، والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا

تحويرًا، وهذا ما وقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام.

فلهذه الأسباب؛ وبقطع النظر عن كل الاعتبارات السياسية، لا يجد المهتمون

بإصلاح مصر بدًّا من استنكار الدعوة إلى الجامعة الإسلامية. ويجب أيضًا بذل

أقصى العناية في السهر على كل ميل طبيعي جائز إلى الجامعة الوطنية؛ لكيلا

تجتذبه على غير انتباه من صاحبه هذه الحركة -حركة الجامعة الإسلامية - التي

هي من أعظم الحركات المتقهقرة، فلا تستحق أن يميل أحد إليها؛ لأنه قد يعسر

على الإنسان أن يميز شبح الجامعة الإسلامية؛ إذا تجلبب بجلباب الجامعة الوطنية

اهـ. كلام اللورد.

(المنار)

إن البحث في هذا الفصل الذي أقام المسلمين هنا وأقعدهم بحق ينحصر في

ثلاث مسائل: (1) الجامعة الإسلامية نفسها وما عده من أسباب استنكارها

وهو (2) إجازة الرق، و (3) مناقضة علاقات الرجال بالنساء لآراء أهل العصر

(4)

الجمود على قوانين وضعت لأهل السذاجة.

(1)

الجامعة الإسلامية

يعرف اللورد كما يعرف جماهير القراء أن السيد جمال الدين الأفغاني كان

أشهر دعاة ما يسمونه الجامعة الإسلامية ذكرا، وأقواهم صوتا، وأكثرهم سعيا،

وأشدهم اضطلاعا، وقد اشتهر عنه أنه كان يحاول جمع كلمة المسلمين على خليفة

واحد أو سلطان منهم، والصحيح أنه لم يكن يدعو إلى ذلك، ولم يخطر له على بال

أن هذا مما تتناوله يد الإمكان، بل قال في معرض تنبيه المسلمين وحثهم على

الوحدة (ولست أعني أن يكون لهم إمامًا واحدًا، فإن هذا ربما كان متعذرًا، وإنما

أعني أن يكون إمامهم القرآن) .

وكان الأستاذ الإمام أعظم أنصاره في عمله بمصر وأوربا، وقد استقر رأيه

بعد السعي معه، والعمل من طريق السياسية والدين معًا على قاعدة (ما دخلت

السياسة في عمل إلا وأفسدته) وكثيرًا ما قال لنا: إن السيد جمال الدين كان أقدر

من عرفنا على الإصلاح، وأنه لولا افتتانه بالسياسة لعمل عملاً عظيما، وأن

الأساس الذي يجب أن يبنى عليه إصلاح حال المسلمين هو تحرير الفكر من قيد

التقليد، وفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف والبدع، واعتباره من

موازين العقل البشري التي وضعها الله - تعالى - لترد من شططه وتقلل من

خبطه، وأنه بهذا الاعتبار يعد صديق العلم، وباعثًا على البحث في أسرار

الكون ، ويتوقف هذا على إصلاح أساليب اللغة العربية وإحيائها في الألسنة

والأقلام.

وقد عرف اللورد الأستاذ المرحوم، وحمد طريقته هذه، وشبهها في بعض

تقاريره بطريقة السيد أحمد خان في الهند، وقال: إن حزبه جدير بالمساعدة

والتنشيط من الأوربيين. والذي نعرفه نحن بعد السيرعلى هذه الطريقة تسع

سنين وأشهرا، أن طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وسوريا وتونس كلهم على

طريقة الشيخ محمد عبده، كما أن معظم المصلحين في الهند على طريقة السيد أحمد

خان، ولا يوجد في غير هذه الأقطار حركة إسلامية إلى الإصلاح إلا في روسيا

وإيران.

فأما مسلمو روسيا فقد ثبت لدولتهم في الحرب الأخيرة وما أعقبته من

الثورة، أنهم خير رعاياها وأسلمهم قلوبا، وهم الآن لا يطلبون من حكومتهم

إلا العدل والمساواة، ومن أنفسهم إلا العلم والثروة.

وأما الفرس فحركتهم محصورة في إصلاح حال حكومتهم، وليس بين هؤلاء

ولا أولئك وبين سائر المسلمين صلات سياسية، ولا أحد منهم يقاوم

الأوربيين؛ وهم يسكنون الأحقاد لا يهيجونها.

فالجامعة الإسلامية بالمعنى الذي يفهم من كلامه لا وجود لها في الأرض،

وإنما يوجد في المسلمين دعوتان: دعوة إسلامية وتنحصر فيما بيَّناه آنفًا وهو ترك

البدع والجمع بين الدين وبين العلم والمدنية، ودعوة وطنية أو سياسية؛ وهي

تنحصر في مطالبة أصحاب السلطة فيهم بما يرقي بلادهم، ويحفظ حقوقهم فيها،

ولا علاقة لهذه الدعوة بالدين، بل كثيرًا ما تخالفه.

نعم إنه يوجد في كل بلاد من القوَّالين أفراد؛ يتخذون اسم الإسلام، والجامعة

الإسلامية، والخلافة الدينية، والخليفة الأعظم، والعالم الإسلامي، وغير ذلك من

الكلمات أناشيد تستمال بها النفوس؛ لتعظيم القائل أو لبذل المال له، وقد يوهم

كلامهم شيئًا مما أشار إليه اللورد، وإننا جازمون بأن هؤلاء لا عمل لهم في الإسلام

يخشى أو يرجى، ولا دعوة لهم تطاع أو تعصي، وإنما مثلهم كمثل أصحاب تلك

الأناشيد في مدح الأولياء، وفي الزهد في الدنيا التي يستعطفون بها الناس ويستندون

بها أكفهم، ومن خشي منهم لغطه. وقد أغنانا عن التطويل في هذه المسألة ما نقلناه

عن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- وهو القول الفصل فيها.

(2)

مسألة الرق

يقول اللورد: إن الشريعة الإسلامية تجيز الرق، ونقول: نعم إنها أجازته

ولكنها ما فرضته فرضا، ولا أوجبته إيجابا، ولا ندبت إليه ندبا، ولا استحبته

استحبابا، بل نقول بعبارة أوجز: إنها لم تجعله كما يخشى اللورد دينا يتقرب به

إلى الله. فيقال: إن المسلمين لا يتركونه، بل أقرت البشر- وكلهم كانوا

يسترقون - على ما في أيديهم من الأرقاء، وشرَّعت لهم العتق وتحرير الرقيق،

وجعلت ذلك دينًا ويُتقرب به إلى الله عز وجل. فتارة على سبيل الوجوب والحتم

الذي لا بد منه، وتارة على سبيل الندب.

ما أجازت الشريعة الإسلامية الرق إلا لأنه قد يكون موافقًا لمصلحة من

يُسترقون: كأن يقتل الرجال في حرب شرعية، ويبقى النساء والأطفال بدون عائل

ولا كافل، فقد يكون من الخير والمصلحة في مثل هذه الحالة أن يسترقوا للعجز

عن الاستقلال في الحياة، فإذا تسرى الرجال بالنساء وولدن لهم كما هو الغالب،

زال رقهن إذ يمتنع انتقالهن إلى ملك آخر، ويعتقن بموتهم، ولا يكون حالهن معهم

في الحياة دون حال الزوجات بالعقد.

وأما الأطفال فإنهم يكونون بمثابة الأولاد؛ إذ المشروع في هذا الدين أن

يكون الرقيق مساويًا لمولاه وأهل مولاه في أكله ولبسه وعمله، وورد في الحديث

النهي عن تسميتهم بالعبيد والإماء، ثم حثت الشريعة على العتق حثًّا شديدا؛ وجعلته

كفارة لكثير من الخطايا، ومن أفضل النذور، ومحللا للحنث باليمين، وهي مع

تضييقها في الاسترقاق، جعلت الرق خلاف الأصل، حتى أن أي رقيق ادعى أنه

حر عدته حرًّا بمجرد دعواه، إلا أن يثبت مدعي ملكه أصل رقيته (ومن أراد زيادة

البيان في هذا فليرجع إلى المجلد الثامن من المنار) .

وجملة القول: إن الإسلام لم يأمر بالاسترقاق. ولكنه أمر بتحرير الأرقاء

وعتقهم، ولم يوجب ذلك على الناس دفعة واحدة؛ لما فيه من الحرج الشديد على

المالكين والأرقاء جميعا، فإن السادة الذين تعودوا أن يقوم عبيدهم بجميع شؤونهم،

لا يمكنهم أن يتركوا هؤلاء العبيد دفعة واحدة؛ لأن نظام معيشتهم يختل، وشمل

مصالحهم يتفرق، كما أن العبيد الذين تعودوا على كفالة غيرهم لهم وكفايتهم أمر

المعاش، يصعب عليهم أن يعيشوا بالاستقلال إذا هم أعتقوا مرة واحدة، كما حصل

في أمريكا، فإن الحكومة لما أبطلت الرق، تحير كثير من الأرقاء في أمر معيشتهم

ورضي كثير منهم بأن يظلوا عند مواليهم كما كانوا، ما كانوا يعاملون بما يأمر به

الإسلام، في مثل حديث الصحيحين وغيرهما، عن أبي ذر رضي الله عنه

قال: (إني ساببت رجلاً (يعني بلالاً) فعيرته بأمه - وفي رواية فقلت له:

يا ابن السوداء - فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن شكا إليه بلال

ذلك: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم

الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما

يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) وقد أورد البخاري

هذا الحديث في كتاب الإيمان؛ للإشارة إلى أن معاملة الرقيق بهذه المعاملة

من شُعب الإيمان، وأورده أيضا في العتق والأدب.

أما والله لو وجد الرق الذي يجيزه الإسلام، وعومل الرقيق بما يأمر به

الإسلام؛ لتمنى ألوف من الناس الذين يموتون جوعا في مثل شوارع لوندره فما

دونها من المدن والقرى في كل مملكة - أن يكونوا أرقاء يشاركون أهل النعمة

والثراء في أكلهم ولبسهم وعملهم، كما أمر الإسلام في مثل هذا الحديث.

أين هذا من أمر التوراة بالرق، ومن سكوت السيد المسيح عليه السلام عن

الوصية به بمثل ما أوصى بعده أخوه محمد عليه السلام؟ بل بعشر معشاره، على

ما كان عليه الأرقاء في عصر المسيح من الظلم والاضطهاد. يقول (بطرس) :

في رسالته الأولى (2: 18) أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة، ليس

للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضا؛ لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل

ضمير نحو الله؛ يحتمل أحزانًا متألمًا بالظلم؛ لأنه أي مجد إن كنتم تلطمون

مخطئين فتصبرون، بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون، فهذا فضل عند

الله، لأنكم لهذا دعيتم) وقال (بولس) في رسالته إلى أهل أفسس (6: 5 أيها

العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم للمسيح) إلخ

وفي رسالته إلى أهل كولوسي (3: 22 أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب

الجسد لا بخدمة العين؛ كمن يرضي الناس، بل ببساطة القلب خائفين الرب)

وغاية ما أُمر به السادة أن يقدموا للعبيد العدل والمساواة، فلا يفضلوا بعضهم على

بعض. فأين هذا من أمر الإسلام بالمساواة بينهم وبين السادة أنفسهم؟ وبجعل

الطاعة في المعروف لا في كل شيء؟ وقد نص الإسلام على كون الطاعة لا

تكون إلا بالمعروف، حتى للنبي صلى الله عليه وسلم. ففي آية المبايعة {وَلَا

يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوف} (الممتحنة: 12) ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا

بالمعروف؛ كما وصفه تعالى في قوله {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَر} (الأعراف: 157) .

وجملة القول: إن الإسلام أجاز الرق ولم يأمر به. ولكنه أمر بالعتق

والتحرير. وأن الديانتين اليهودية والنصرانية أجازتا الرق أيضا، ولم يرد فيهما من

الأمر بالعتق، وتحرير الرقيق، ولا بحسن معاملته ما دام موجودا، بمثل ما أمر به

الإسلام. فإذا سهل على الدول النصرانية إبطال الرق، ولم يمنعها الدين فهو على

المسلمين أسهل؛ لأن الدين لا يكتفي بعدم منعهم منه، بل يحثهم عليه. فدينهم أقرب

إلى هذه الفضيلة المدنية من جميع الأديان؛ فلا خوف عليها منه، وإنما الخوف على

كل فضيلة من الحكام الظالمين الذين يسيئون التصرف بالشرائع والقوانين.

(3)

علاقة النساء بالرجال

جاء الإسلام وجميع الأمم تهضم حقوق النساء على تفاوت بينها في ذلك، فكان

أكثر الرجال يعدون المرأة كالأمة أو المتاع. ومذهب علماء الاجتماع أن الناس

كانوا في أمر الزواج كالبهائم في أطوارها المختلفة، فكانوا أولاً يبيحون كل أنثى

لكل رجل، وكان أول الاختصاص بزوجة أو زوجات، بالسبي واحتكار القوي

من تعجبه من النساء، واستئثاره بها وعدم السماح لغيره بملامستها، إلا أن يكون

ذلك بإذنه، ولا يزال في البشر من لا يرى بمثل هذا الإذن بأسا. ولما صار للزواج

روابط وأحكام دينية أو عرفية، قُيِّدت المرأة فيها بقيود لا ترفعها عن مرتبة الأمة عند

الأكثرين، وبقي في تقاليد كثير من الشعوب والقبائل ما يدل على أصل السبي

وخطف المرأة، وكان كثير من الرجال يتزوجون بنساء كثيرات، لا يتقيدون بعدد،

ويُطلِّقون من شاءوا متى شاءوا، بلا تأثم ولا حرج، وما جاء في اليهودية

والنصرانية من الأحكام والوصايا، لم يرفع قدر المرأة، ولم يقربها من مساواة

الرجل في الحقوق والاستقلال بشؤونها، وقصارى ما تفاخرنا فيه النصرانية منع

تعدد الزوجات، وتحريم الطلاق إلا بعلة الزنا.

أما الإسلام فقد جاء بإصلاح لم يُسبق إليه، ولم تبلغ كنهه أوربا في مدنيتها

حتى اليوم. إذ لا تزال تحجر على المرأة أن تتصرف حتى بمالها بدون إذن

الزوج، ويرجع هذا الإصلاح إلى آيات من الكتاب العزيز:

(إحداها) قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا

إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)

وعلى هذه الآيات بنينا مقالات الحياة الزوجية التي نشرناها في المجلد الثامن،

وتكلمنا فيها عن الطلاق وتعدد الزوجات.

(الآية الثانية) قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى

أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) .

(الآية الثالثة) قوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ

وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) وليراجع تفسيرها في ص 368 م 8.

(الآية الرابعة) قوله جل شأنه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ

أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) .

(الآية الخامسة) قوله وسعت رحمته: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ

بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) .

(الآية السادسة) قوله تبارك اسمه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى

وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3) الآية ويلاحظ مع هذه

الآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129) .

(الآية السابعة) قوله جل ثناؤه: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ

وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً

مَّفْرُوضاً} (النساء: 7) فجعل المرأة تملك وتتصرف كالرجل وفي الحديث أن

المرأة تملك، ولا يحل للرجل أكل شيء مما تملك إلا بإذنها وطيب نفسها.

فهذه الآيات يشبه أن تكون هي أصول الإصلاح؛ وفي معناها آيات مفصلة،

وإن أوربا المدنية على مبالغتها في تكريم النساء، لم تقم هذه القواعد، ولم تأت بكل

ما أمر به الإسلام في ذلك، بل لم تصل إلى درجة جماهير فقهائنا الذين يفرضون

على الرجل للمرأة كل شيء تحتاجه بحسب الاستطاعة، ولا يفرضون عليها له إلا

مواتاته بالاستمتاع بها، وعدم خروجها من داره بدون رضاه، وهما واجبان سلبيان

فكأنما لا يوجبون على المرأة عملاً ما لزوجها، بل يعدون كل عمل تعمله في

إدارة بيته فضلا منها وإحسانا، فهل وصل الأوربيون إلى هذه المبالغة في تكريم

المرأة؟

كلا إنه ليس في شريعة المسلمين من أحكام الزوجية وآدابها؛ إلا ما لابد منه

لسعادة البيت، وإن بيان هذه الأحكام التي وَضَعَت أساسها تلك الآيات منذ ثلاثة

عشر قرن وربع قرن آية على كون الإسلام شرعًا إلهيا، لا وضعًا بشريًّا.

بيان ذلك أنها قد خوطب بها الناس في عصر كانوا أقرب فيه إلى البداوة،

فأفادهم رقيًّا وتهذيبًا بحسب استعدادهم، ثم إننا نرى أن أعلى ما وصل إليه البشر

من الرقي في الحضارة؛ هو دون ما تهدي إليه تلك القواعد والأحكام من الكمال

الاجتماعي، ولعلهم يصلون إليه في يوم من الأيام. وما منع الإفرنج الذين استعدوا

لهذا الكمال من رؤيته في القرآن إلا ذانك الحجابان الكثيفان دونه وهما: المسلمون

الذين صاروا بأعمالهم وأفكارهم حجة عليه، وغلبة الأفكار المادية على أكثر

الباحثين.

يظهر أن الشعور الذي كان مستوليًا على اللورد عندما أفلتت تلك العبارة من

قلمه، كان مزيجًا متولدًا من الفكر في اعتقاد جمهور العالم الأوربي في الإسلام

والمسلمين، والفكر في كثرة الشكاوي التي ترد عليه في خلل المحاكم الشرعية، وما

يقاسيه فيها النساء المطلقات، والضرائر المهجورات، وطوالب النفقات، وما

يلاقين في باب القاضي من الإهانات، وما يقاسين من جمود القضاة على التقاليد

والعادات، وإنها لحالة تحرك عصب الرحمة في الفؤاد، وعضل اللسان بالانتقاد.

ولكن تسعة أعشار الذنب في ذلك على المسلمين؛ وعشره على بعض آرائهم الفقهية

والإسلام نفسه بريء من كل لائمة يشكو منهم بلسان كتابه المنزل أضعاف ما

يشكو جميع المنتقدين، وأنى يسمعون شكواه، وقد ضربوا دونه سوراً من التقليد؛

له باب يسمى باب الاجتهاد؛ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب؟ قد أقفلوه

بأيديهم، فمنعوا بذلك رحمة الله أن تصل إليهم.

طالما انتقد الأوربيون على الإسلام نفسه مشروعية الطلاق وتعدد الزوجات،

وهما لم يُطلبا، ولم يحمدا فيه، وإنما أجيزا؛ لأنهما من ضرورات الاجتماع كما

بينا ذلك غير مرة، وقد ظهر لهم تأويل ذلك في الطلاق فشرعوه، وإن لم يشرعه

لهم كتابهم إلا لعلة الزنا، وأما تعدد الزوجات فقد تعرض الضرورة له، فيكون من

مصلحة النساء أنفسهن؛ كأن تغتال الحرب كثيرًا من الرجال، فيكثر من لا كافل له

من النساء فيكون الخير لهن أن يكن ضرائر، ولا يكن فواجر يأكلن بأعراضهن،

ويعرضن أنفسهن بذلك لمصائب ترزحهن أثقالها، وقد أنشأ القوم يعرفون وجه

الحاجة، بل الضرورة إلى هذا، كما عرفوا وجه ذلك في مسألة الطلاق، وقام من

نساء الإنكليز الكاتبات الفاضلات يطالبن في الجرائد بإباحة تعدد الزوجات؛ رحمة

بالعاملات الفقيرات، وبالبغايا المضطرات. وقد سبق لنا في المنار ترجمة بعض ما

كتبت إحداهن في جريدة (لندن ثروت) مستحسنة رأي العالم تومس في أنه لا

علاج لتقليل البنات الشاردات إلا تعدد الزوجات، وما كتبت الفاضلة مس إني رود

في جريدة (الإسترن ميل) والكاتبة اللادي كوك في جريدة (الايكو) في ذلك

(راجع ص 481 م 4) .

إن قاعدة اليسر في الأمور ورفع الحرج من القواعد الأساسية لبناء الإسلام

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) و {مَا يُرِيدُ اللَّهُ

لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّيْنِ مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) ولا يصح أن يبنى على هذه

القاعدة تحريم أمر تلجئ إليه الضرورة أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة

(كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية وغيرها) وهو مما يشق امتثاله دفعة

واحدة لاسيما على من اعتاد المبالغة فيه كتعدد الزوجات، كذلك لا يصح السكوت

عنه، وترك الناس وشأنهم فيه على ما فيه من المفاسد، فلم يبق إلا أن يقلل العدد

ويقيد بقيد ثقيل؛ وهو اشتراط انتفاء الخوف من عدم العدل بين الزوجات؛ وهو

شرط يعز تحققه، ومن فقهه واختبر حال الذين يتزوجون بأكثر من واحدة، يتجلى

له أن أكثرهم لم يلتزم الشرط، ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي.

وجملة القول في هذه المسألة: إن القرآن أتى فيها بالكمال الذي لابد أن

يعترف به جماهير الأوربيين، ولو بعد حين كما يعترف به بعض فضلائهم

وفضلياتهم الآن. أما المسلمون فلم يلتزموا هدايته؛ فصاروا حجة على دينهم.

ونحن أحوج إلى الرد عليهم والعناية بإرجاعهم إلى الحق منا إلى إقناع غير المسلمين

بفضل الإسلام، مع بقاء أهله على هذه المخازي والآثام؛ إذ لو رجعوا إليه لما كان

لأحد أن يعترض عليه.

(4)

الأحكام المدنية والجنائية

في الشريعة الإسلامية

يُفَرِّق كُتَّاب العصر بين الدين والشريعة، فيعنون بالدين الاعتقاد والعبادات

والفضائل؛ أي ما يراد به إصلاح الأرواح وإعدادها لسعادة الآخرة أولا وبالذات،

وإن كان يفيد في سعادة الدنيا أيضا، ويعنون بالشريعة ما يسوس به الحكام الناس،

ويُفْصِلون به بينهم في الخصومات؛ أي ما يراد به إصلاح أحوال الاجتماع السياسية

والمدنية والجنائية، ومن المعروف أن موسى جاء بدين وشريعة، ومعظم ما جاء به

أحكام دنيوية. وأن عيسى جاء بدين فقط، وأقر اليهود على شريعة موسى، وأن ما

جاء به محمد (عليه وعليهم الصلاة السلام) جمع بين الأمرين، ويعتقد الإفرنج أن

المسلمين لا يفرقون بين الدين والشريعة؛ لأن كلا منهما إلهي عندهم، ولما كانت

الأمور الدنيوية تختلف باختلاف الزمان والمكان حتما، كان من المحال أن توضع

لها شريعة تامة توافق مصلحة الناس في كل زمان ومكان، وهذه مسألة لا يختلف

فيها عاقلان، ومن ثم يعتقد الإفرنج أنه يستحيل على المسلمين أن يجاروهم في

مدنيتهم، ماداموا يعدون شريعتهم التي عليها مدار أمور دنياهم إلهية، لا يجوز فيها

التغيير والتبديل، ولا يفرق فيها بين حال البدو في الصحراء، وحال من بلغوا من

الحضارة ذروة الارتقاء، ويعدون حكامهم رؤساء يتقرب إلى الله بطاعتهم، فلا

يعارضونهم في استبدادهم بهم، ولا يأنفون من استعبادهم إياهم.

لو اعتقد القوم فينا أننا لا نرتقي ما دمنا على شريعتنا وتركونا وشأننا لما

بالينا. ولكنهم يعرضون لنا في شؤوننا ويفتاتون علينا في خاصة أنفسنا، زاعمين

أن المدنية التي سفكوا في وسائلها دماءهم، ووقفوا على مقاصدها حياتهم، وبذروا

بذورها في الشرق بعد أن جنوا ثمرتها في الغرب - لا يرجى أن تنمو لها نبتة ولا أن

تحفظ لها بذرة في مكان للشريعة الإسلامية فيه سلطة، ينشرون هذه الآراء بالكتابة،

ويبثونها في النفوس بالتعليم والخطابة، وقد يضيفون إليها الطعن في قسم العقائد

حتى التوحيد والقدر كما فعل موسيو هانوتو وغيره، منهم من ينطقه الاعتقاد

ومنهم من تملي عليه السياسة، والسياسة تبيح المحرم، وتحل الكذب، وتقلب

الأوضاع، وتأتي المنكرات.

ويقول العارفون بحقيقة ما عليه الشعوب الأوربية من التربية العالية: إن

السواد الأعظم منهم لا يكابر الحق، ولا يرضى بالظلم والهضم، وإن رجال

السياسة في كل شعب منهم قد يحتالون في إقناعه بما تقضي به السياسة من مخالفة

الحق والعدل أحيانا؛ ليجيز عملهم. وإن من أمكنه أن يقنع هذه الشعوب بحق من

الحقوق العامة، فإنه يجد له منهم خير نصير، وأقوى ظهير.

على هذه الطريقة، جرى شيخنا الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) في مناظراته

القولية والكتابية لعلماء الإفرنج وساستهم كرنان وهانوتو وغيرهما، فقد

حجَّ وأقنع منهم جِبِلاًّ كثيرا بأن الإسلام جاء بإصلاح يوافق مصلحة البشر في كل

زمان. وكذلك فعل في ردوده على الشاذين من أهل الشرق الذين يقولون في الإسلام

بغير علم. ويعلم قراء المنار أننا لا نألو جهدًا في بيان التوفيق، بين عقائد الإسلام

وآدابه وأحكامه، وبين العقل والفطرة والمصلحة، وإننا نبني هذا التوفيق على

ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي مضت بالدوران مع

المصلحة في كل حال، بحسبها لا على ما جاء في كتب الفقهاء من الآراء التي أداهم

إليها اجتهادهم، ومنهم المخطئ فيها والمصيب، ونحن عاجزون عن الانتصار لكل ما

في كتب الفقه؛ كما ننتصر لكل ما جاء في الكتاب، ومضت به السنة السنية. على

أن ما ينتقد على الآراء الاجتهادية في فقهنا، ينتقد مثله على القوانين الوضعية. ولكن

المنتقدين يقولون لنا إن ما يظهر خطأه في القوانين يسهل الرجوع عنه، وما يظهر

خطأه في الفقه يتعذر الرجوع عنه؛ لأنه في عرفكم من الدين، وهو قول لا يمكن

دفعه مع الجمود على التقليد، فهدم التقليد شرط يتوقف عليه كل إصلاح ويطلبه

عقلاء المسلمين مع المحافظة على الإسلام، ونشره في عالم المدنية العصرية،

والجمع بينه وبين العلوم والمعارف التي عليها مدار العمران والعزة. وإن طريقتنا

هذه يؤيدها خيار المسلمين من أهل الدين والدنيا؛ كالسلفيين، والقائلين بوجوب

الاجتهاد في الدين، وأكثر المتعلمين على الطريقة العصرية سواء منهم المتدين

حقيقة، والمتدين جنسية وقد صار الذين يصرحون بذلك كثيرين. وأذكر من

الشواهد عن العصريين، قول أحمد شوقي بك شاعر الأمير عباس حلمي باشا في

منظومته التي رفعها إليه؛ يهنئه فيها بميلاد ولي عهد الإمارة (الأمير محمد عبد

المنعم) .

ويا جيل الأمير إذا نشأنا

وشاء الجد أن تعطي وشئنا

فخذ سبلاً إلى العلياء شتى

وخل دليلك الدين القويما

وضن به فإن الخير فيه

وخذه من الكتاب وما يليه

ولا تأخذه من شفتي فقيه

ولا تهجر مع الدين العلوما

فهذه وصية من شاعر الأمير إلى ولي عهده، يأمره فيها باتباع الكتاب والسنة

وعدم اتباع الفقهاء، وقد رضيها الأمير أعزه الله، ولم ينكرها.

ليست طريقتنا هذه بخفية على الإفرنج، فقد كتبت الجرائد الفرنسية عن رحلة

الأستاذ الإمام إلى تونس والجزائر، ما يدل على أنها عارفة بخطته راضية بها،

وذكرت أن آراءه في الإصلاح الديني تنشر في بعض المجلات المصرية؛ تعني بها

المنار، وقد كتب في الجرائد الفرنسية في تونس وأوربا وفي غيرها من الجرائد

الأوربية شيء عن مذهب المنار، ومنه ما كتب في المجلة الفرنسية في أوائل سنة

1905 وهذا نصه:

(المنار)

أُسِس في القاهرة سنة 1897، أسسه الشيخ محمد رشيد رضا أحد كتاب

المسلمين المشهورين؛ تلميذ الفيلسوف المصري الكبير الشيخ محمد عبده مفتي الديار

المصرية، وهو لا يبحث في الجملة إلا في المسائل الدينية والفلسفية، وغايته التي

يرمي إليها هي تعليم المسلمين دينهم على أنقى صورة له، نافيًا عنه الأوهام

والخزعبلات والبدع القديمة وقد قال الشيخ محمد عبده: إن دين الإسلام في شكله

الحقيقي هو غاية ما يطلبه الإنسان من الكمال - هذه هي خطة المنار؛ وهو مجلة

تصدر في الشهر مرتين.

وجاء في عدد آخر منها:

(المنار)

الصادر بالقاهرة في شهر فبراير (أي من سنة 1905) أهم مقالة في

هذا العدد تبحث عن مثال للحكومة الإسلامية، وكاتب هذه المقالة صالح بن علي

اليافعي وهو كاتب هندي [6] قد بين فظائع الحكومة المطلقة التي مقتها القرآن والنبي،

وقد بين هذا الكاتب أن الحكومة الإسلامية كانت في زمن الخلفاء الأولين ديمقراطية

محضة وأن الخليفة نفسه كان ينتقده نواب الأمة الذين كانت مهمتهم مراقبة سيره

مراقبة شديدة.

الإسلام لا يقبل من شكل الحكومة إلا الملكية المقيدة والجمهورية، والجملة أن

كل ضرب من ضروب الحكومة المطلقة يديره أي حاكم مسلم كائنًا من كان، ليس

من الإسلام في شيء. جاءت هذه المقالة عقب جزء من تفسير القرآن للشيخ محمد

عبده اهـ.

والمراد مما تقدم أن الباحثين في أمور الشرق من الأوربيين عارفون بمرامي

طلاب الإصلاح من المسلمين، وأنهم يريدون الرجوع بالدين إلى ما كان عليه في

أول نشأته، غير متقيدين بما وضعه العلماء من التقاليد التي قد تحول دون مجاراة

أهل هذا العصر، بل مسابقتهم في علومهم ومدنيتهم؛ لأنهم يرون أن الكتاب

والسنة يحثان على ذلك، لا يحولان دونه، والمقلدون للفقهاء يرون غير ذلك.

ولا يُعقَل أن يكون اللورد كرومر غير عارف ما عرفه كثير من الأوربيين الذين

لم يقيموا في الشرق كما أقام، ولم يكتنهوا أمر المسلمين كما اكتنهه، فإن كان بعد

هذا الاختبار كله يقول للأوربيين: إن رجوع المسلمين إلى أصول شريعتهم

المدنية وعملهم بها، يرجع بهم إلى طور السذاجة المضادة للحضارة، فإن قوله

هذا أعظم صدمة للإصلاح الذي ندعو إليه؛ لأن كلامه في ذلك يؤخذ بالقبول

عند الأمم الأوربية كلها، ويخشى أن يناهضوا الدعوة إلى الإصلاح في بلادهم؛

ولا شيء يدفع ذلك إلا كلام من اللورد نفسه.

لهذا وقعت علينا عبارة التقرير في القوانين الإسلامية كالصاخة، وأخذنا نجيل

قداح الفكر فيها، فرأينا بعد طول التأمل أن العبارة وإن كان المتبادر منها أنها في

الإسلام نفسه، كتابه وسنته وفقهه، وكل شيء فيه يتعلق بالمعاملات - يجوز أن

تُحمل على الفقه وحده؛ لأن حكام المسلمين لا يحكمون إلا به، إذا هم أرادوا

الرجوع إلى الإسلام، وإنما قلنا: يجوز أن يكون هذا هو مراد اللورد، وإن كانت

عبارته مطلقة تفيد ما هو أعم من هذا، وتشمل الأحوال الشخصية؛ لأن التمسك

بالفقه هو الذي رآه المانع من إصلاح المحاكم الشرعية. كما بينا ذلك بالتفصيل في

مقالة نشرت في المجلد السابع من المنار (ص212) استشهدنا فيها بما قاله في

تقريره عن سنة 1902 وسنة 1903 وبشيء من محاضر مجلس شورى القوانين.

من ذلك أن أحمد بك يحيى (أحمد باشا الآن) اقترح تأليف لجنة لوضع

تقرير في إصلاح المحاكم الشرعية. فقال الشيخ حسونة النواوي " إني لا أعلم أن

المحاكم الشرعية تحتاج إلى الإصلاح في أمر من أمورها " قال في محضر الجلسة:

(تقرر بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) وقد ذكر اللورد هذا في

كلامه عن المحاكم الشرعية في تقريره سنة 1903؛ وهو مع ذلك أعلم الناس بكثرة

شكوى المسلمين من هذه المحاكم.

ومن ذلك أن قاضي مصر قال لما طرحت مسألة إصلاح المحاكم الشرعية

في الجمعية العمومة سنة 1904 ما نصه: (قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم

الشرعية، ونقول: إن أعمال تلك المحاكم ترجع أولا إلى الشرع الشريف، وهذا

لا يمكن لمسلم أن يقول إنه يحتاج إلى إصلاح)

إلخ.

فأمثال هذه الأقوال من كبار الفقهاء؛ هي التي جعلت اللورد كرومر يعتقد أن

هذا الفقه الذي يحكمون به، قد صبغ كله بصبغة الدين، فلا يمكن تنقيحه، وهو

يعتقد قطعًا أنه لا يوافق مدنية هذا العصر، ولا ينطبق على مصالح أهله. أما أصل

الدين وهو الكتاب العزيز والسنة النبوية، فقد يعتقد فيه ذلك، وقد يكون مصدقًا

لطلاب الإصلاح في قولهم لا ينافي المدنية، ويدل على الأخير حثه الأوربيين على

مساعدة حزب الشيخ محمد عبده الذين يطلبون الإصلاح من غير مس لأصول الدين.

وقد حدثني الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أنه كان يكلمه مرة في هذا الموضوع

بمناسبة مقاومة الجامدين لإصلاح المحاكم الشرعية، فأقام المرحوم له الدلائل على

أن الإسلام يدعو إلى كل صلاح، ويناسب كل زمان، فقال له اللورد: أتصدق يا

أستاذ أنني أعتقد أن دينًا أوجد مدنية جديدة، وقامت به دول عظيمة لا يكون أساسه

العدل؟ هذا محال. ولكنني أعلم أن هذه المقاومات أمور (إكليركية) أي: تقاليد

كتقاليد الكنيسة.

تذكرنا هذا، فقلنا في نفسنا: لعل اللورد لا يقصد بعبارة التقرير ما يتبادر منها

لئلا يتناقض ذلك مع ما ذكرنا آنفا. ولكن هذا لا يمكن أن يعرف إلا من - قبله

فكتبنا إليه كتابًا نسأله، أي الأمرين يعني بعبارته: هذا نصه:

القاهرة في 20 ربيع الأول سنة 1325

جناب اللورد العظيم:

أحييك بما يليق بمكانتك؛ وإن لم يسبق لي شرف المعرفة لحضرتك، وأرجو

أن تمن علي ببضع دقائق من وقتك الثمين تجيبني فيها عن السؤال الآتي الذي

يهمني، من حيث أنا صاحب مجلة إسلامية، تدافع عن الدين، وتبحث في فلسفته

وهو:

هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي

وضعت منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه؛ الذي هو عبارة عن القرآن

الحكيم والسنة النبوية؟ أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء؟ فإن كنت

تعني الثاني فهو من وضع البشر؛ وقد مزجت فيه آراؤهم بما يأخذونه عن الأول،

وخَطَّأ فيه بعضهم بعضا، وقد ترك حكام المسلمين أنفسهم العمل بكثير منه، ولطلاب

الإصلاح من المسلمين انتقاد على كثير من تلك الآراء في كل مذهب.

وإن كنت تعني الأول، فهذا العاجز مستعد لأن يبين لجنابكم أن معظم ما

جاء في الدين نفسه من الأحكام القضائية والسياسية هو من القواعد العامة؛ وهي

مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درء المفاسد وجلب المصالح

وبحكم الشورى - وما فيه من الأحكام الجزئية (وهو مقابل المعظم) راجع إلى

ذلك، وأختم رقيمي مودعًا لجنابكم بالتحية والاحترام.

...

...

...

...

منشئ المنار بمصر

...

...

محمد رشيد رضا

كتبنا إليه هذا ونحن نتمنى لو يجيبنا؛ بأنه يبرئ أصل الدين من معارضة

المدنية ونخشى أن لا يفعل، ذلك بأننا نعتقد أن كلامه في الإسلام يؤثر في جميع

الشعوب الأوروبية، ما لا يؤثر كلام غيره، فإذا هم اعتقدوا بشهادته أن الإسلام

نفسه يتفق مع المدنية، ويسير مع العدل، وأن السبب فيما يرى من سوء حال أهله

هو ما ألصقوا به من التقاليد والآراء؛ وجعلوه بهذا الإلصاق دينا، فإن هذا الاعتقاد

يكون أكبر عون لنا على خدمة الإسلام؛ والدفاع عن أهله الذين أصبح معظمهم

تحت سلطة الأوربيين. وإذا هم اعتقدوا بالعكس كان ذلك أشد منفر لهم عن الإسلام

وحامل لهم على إلزام حكوماتهم بالضغط على رعاياهم. وكنا عازمين على أن

نكتب إليه رسالة في بيان أن ما جاء في الإسلام من الأصول الأساسية للأحكام

الدنيوية، يوافق مصالح البشر في كل زمان، ونقدمها إليه مترجمة بالإنكليزية،

ونسأله باسم العدل والإنصاف أن يبدي رأيه فيها، كنا عازمين على هذا لو أجابنا

بأنه يعني بما كتب الإسلام نفسه؛ أو مجموع ما عليه المسلمون من كتاب وسنة وفقه

لأنه يعتقد ذلك، ولا يخاف في إظهاراعتقاده أحد. ولكنه تفضل بالجواب الآتي

بنصه العربي موقعاً ومؤرخًا بخطه الإفرنجي وهو:

حضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار؛

جوابا على خطابكم أقول: إني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي

تسمونها الفقه؛ لأنها هي التي تجري عليها الأحكام، ولم أعن الدين الإسلامي نفسه

ولذلك قلت في هذا التقرير الأخير وفي غيره بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي

الذي يطلب الإصلاح، ويسير مع المدنية من غير أن يمس أصول الدين. ولعل

العبارة التي كتبتها بتقريري كانت موجزة، فلم تؤد المراد تماما، واقبلوا يا حضرة

الأستاذ احترامي الفائق.

...

...

...

... في 4 مايو سنة 1907

...

...

...

...

... كرومر

والقارئ المنصف يرى أن ما استدل به على كونه لا يريد بما كتب الدين

الإسلامي نفسه معقول لا يمكن دفعه بعد تصريحه بأن عبارة التقرير لم تؤد

مراده تمام الأداء، والإنسان أعلم بمراده نفسه. غاية ما كان يقال: إن مراد القائل

يعرف من قوله، وقول اللورد في التقرير يشمل الفقه وينابيعه من الكتاب، ويقال

الآن: إنه استثنى تلك الينابيع بقول آخر مبين لمراده من القول الأول، فليعتبر هذا

القول تصحيحًا، أو تخصيصًا لسابقه، أو استداركًا عليه. ولعل أهل الغيرة

الصحيحة على الإسلام ينشرونه في الجرائد الأوربية؛ ليطلع عليه الأوربيون

الذين قرءوا التقرير، فإنه خير لنا من شهادة بعض المستشرقين بفضل الإسلام؛

لأن المستشرقين يُتهَمون في أوربا بالتعصب للشرق وأهله.

ولا يعذر من يعدون اللورد كرومر عدوًا إذا هم قصروا في نشره؛ إذ يقال لهم

إن شهادة العدو لك أقوى من شهادة الصديق، على أنه بلغنا من مصدر يوثق به،

أن شيخ الأزهر قال للورد عند ما زاره مودعًا له: إننا قرأنا العبارة التي ترجمت

عن تقرير جنابكم في الإسلام، فلم نجد طعنًا فيه ولا مسًّا لكرامته، أو ما هذا معناه.

ولعل مراد الشيخ أن ما ذكر من إجازة الرق، ومناقضة أحكام الزوجية لآراء أهل

العصر، وكون الأحكام المدنية الجنائية لا تتغير، كل ذلك صحيح وحسن عند

المسلمين، فإن لم يستحسنه المخالفون فذلك لا يعيبه، فإذا كان مناقضا لآرائهم فهو

موافق لآراء أهله. ونحن معاشر طلاب الإصلاح لا نقول بهذا، ونعده طعنًا نبرئ

منه الإسلام دون الفقه، ووافقنا اللورد على ذلك.

أما ما يجب أن يعتبر به المسلم العاقل في هذا المقام؛ فهو أننا نعلم علم اليقين

أنه لو تيسر للمسلمين إنشاء حكومة إسلامية، لما رضي جمهور علمائهم ومن

ورائهم العامة، أن يحكم بغير هذه الكتب الفقهية بما فيها من أحكام الرق والزوجية

وغير ذلك على علاته، ومن أكبر علاته الخلاف الكثير في المسألة الواحدة،

واختلاف التصحيح والترجيح فيها، حتى ورد في بعضها بعد ذكر تصحيح قولين

متناقضين في مسألة من مسائل الطلاق (نحن مع الدراهم قلة وكثرة) أي إن

المرجح لأحد القولين المصححين في المذهب هو الدراهم التي يأخذها المفتي من أحد

المستفتين.

بلغ من جمود فقهائنا على هذه الكتب التي يوجد فيها مثل هذه الفضيحة،

أنهم يعدون العدول عنها إلى كتاب يوضع خاليًا من مسائل الخلاف، موافقًا لحال

الزمان جناية على الدين نفسه. ومن عجائب هذا الجمود أن شيخ الإسلام العثماني

لا يفتي بمجلة الأحكام العدلية، ولا يأذن لأحد من المفتين الذين يعينهم بالفتوى منها

وإذا ذكر شيء منها في فتوى، فإنما يذكر بعد النص الفقهي من الكتب المعتمدة

عندهم. على أن الدولة لم تعمل عملاً شرعيًّا أفضل من وضع هذه المجلة، فمن لنا

بجمعية من العلماء العقلاء، تدرس بعد التمكن من علم الكتاب والسنة والفقه وقوانين

الأمم، ثم تستخرج من هذه الشريعة كتابًا يفوقها عدلاً وسهولة، وموافقة لمصالح

البشر في هذا العصر، يكون حجة ناطقة على كل من ينسب القصور إلى الشريعة

أو الدين. وينبغي أن تعزل فيه الأمور الدينية عن القضائية، أو يذكر في أول كل

باب من أبواب المعاملات أو كتبها، ما هو ديني منها، كأن يقال في كتاب

المعاملات المالية: إن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل والغش والخيانة، وأكل

الربا أضعافا مضاعفة، وأوجب الوفاء بالعقود، وأداء الأمانات إلى أربابها.

ويذكر في أول بابا القضاء تحريم الظلم والرشوة، وكون حكم القاضي بالشيء

لا يحله للمحكوم له؛ إذا كان يعلم أنه ليس له. أما هذا الفقه فهو على ما فيه من

محاسن حجة علينا لا لنا، بما فيه من المساوي، وإلى الله المشتكى.

إنا نحن المسلمين قد أمسينا؛ ولا مثل أصدق علينا من قول ابن دريد:

نحن ولا كفران لله كما

قد قيل في السارب أخلى فارتعى

إذا أحس نبأه ريع وإن

تطامنت عنه تمادى ولها

فنحن نرتع في غفلات الزمان ما وجدنا مرعى، فإذا صاح بنا نذير تقلبات

الزمان، نراع ونجفل، وقد نصرخ من الذعر، أو ننتفج انتفاج الهر، فإذا سكنت

نبأة النذير، عدنا إلى سابق التقصير، نرتع ولا نعمل، وإذا وُجِد العامل لإحياء

الدين وإقامة حجته على المخالفين، فإننا نخذله مع المخذولين، أفنرضى أن نكون

في حكم القرآن من الممقوتين الذين يقولون ما لا يفعلون، أو المنافقين الذين يفتنون

في كل عام مرة أو مرتين؛ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون! !

_________

(1)

يعني بالجريدة الأهرام، وقد نشر فيها حديثاً دار بينه وبين هانوتو بعد الرد الأول عليه، وما ننشره هنا هو من الرد على هذا الحديث.

(2)

أشير هنا إلى كتاب ورد عليّ في الربيع خاليا من الإمضاء، ونشر في ورقة من الأوراق التي عرضت على البرلمان، فقد ارتاب بعضهم في صحته، ولكن لا ريب عندي في ذلك على الإطلاق، وقد استغربت شدة اهتمام الناس بأمره، وخصوصا في بلاد الإنكليز فإني ما أرسلته إلى لندن إلا على سبيل المثال لأفكار ومعان ألفتها منذ زمان طويل، ولم يبق عندي ريب في وجودها، ولكنه مفرغ في عبارات أبلغ من المعتاد.

(3)

أقصد بالشرق: البلاد الشرقية التي لي معرفة بها لا الصين واليابان.

(4)

يراد بالحكومة الثيوقراطية: الحكومة التي يعتقد أتباعها أن الله هو الحاكم الأصلي فيها وأن سننها وشرائعها، هي أوامره ومناهيه، لا سنن البشر وشرائعهم، وأن العلماء ورجال الدين هم خدمة الله ومأموروه فيها (المترجم) .

(5)

المنار: اشتهر أن العبارة بالإنكليزية (منذ أكثر من ألف سنة) .

(6)

هو هندي الموطن عربي الأصل يقيم في حيدر آبار.

ص: 200

الكاتب: رضاء الدين بن فخر الدين

‌تشبيه كتاب الإحياء بالقرآن

حضرة السيد منشئ المنار محمد رشيد رضا أفندي سلمه الله وعافاه.

يزعمون أن الإمام النووي قال في حق الإحياء: كاد الإحياء أن يكون قرآنا،

ونقله الشيخ عبد القادر العيدروس باعلوي في كتابه (الأحياء في فضائل الإحياء)

المطبوع في هامش الإحياء. ولا شك أن الإحياء كتاب عزيز، قلما يكون له مثيل.

ولكن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل، من بين يديه، ولا من خلفه.

وكيف يقاس كلام المخلوق على كلام الخالق؟ ونحن نستغرب جدًّا صدور القول من

النووي وإن كان غير معصوم من الخطأ، وقد كنت طالعت في زمان مضى شرح

مسلم لهذا الإمام الجليل. ولكن لا (اتخطر) أني رأيت فيه ما يقرب من هذا القول،

وليس عندنا من سائر تأليفاته شيء، ولذلك جئنا نستفسر رأيكم في هذا الأمر،

وهل القول المذكور منقول من النووي بالسند الصحيح؛ أو رأيتموه في آثاره

المتداولة في تلك الأصقاع بأنفسكم، ويا حبذا لو كتبت هذا في المنار، فلعلنا نستفيد

منه ويستفيد غيرنا، ولكم في ذلك جميل الثناء وكثير الإكرام.

...

...

عضو الجمعية الشرعية ببلدة أوفا سابقا

...

... ومحرر جريدة (وقت) ببلدة أورنبورغ حاليًا

...

...

...

رضاء الدين بن فخر الدين

(المنار)

ليست عبارة النووي - رحمه الله تعالى -بالمكان الذي وضعتموها فيه وإن

صحت نسبتها إليه، فإنها لا تدل على مساواة كتاب الإحياء لكتاب الله، ولا كونه

يقاس به، وإنما هي عبارة يقصد بمثلها المبالغة، واعتبر بحديث أنس عند أبي

نعيم في الحلية (كاد الفقر أن يكون كفرا، وكاد الحسد أن يغلب القدر) فأنت ترى

أن الحديث لا يمكن حمله إلا على المبالغة المعهودة في الأسلوب العربي بمثل هذا

التعبير، وضعف سنده لا ينافي مجيئه على أساليب العرب وقوانين البلاغة،

فمعنى العبارة المعزوة إلى النووي أن كلام الإحياء يؤثر في القلوب ويرغبها في

الهداية، بحيث أن يقال فيه بلسان المبالغة إنه قريب من القرآن في ذلك.

_________

ص: 235

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

من أحمد موسى المنوفي بكلكته

كلكته 17 ربيع الأول سنة 1325

فضيلتلو أفندم صاحب مجلة المنار المحترم

من بعد إهداء التحية، أقول: حيث أفدناكم في خط خصوصي قبل هذا، بأن

غرض الفقير من مكاتبتكم والاشتراك في مجلتكم؛ هو الوقوف على حقيقة قصدكم

من إنكار تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في فهم معنى الكتاب والسنة

وأقوال الصحابة ليس إلا، فنرجوكم الإفادة عن ما إذا كان قصدكم إظهار المخالفة،

لتعرفوا فنعذركم؛ إذ لستم أول من خالف لهذا الغرض، وإن كانت الآخرة خيرًا

وأبقى، وقد يضطر الإنسان في التماس قوته إلى ما لا يجوز {إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ

إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ، فإن كان هذا قصدكم، فنحن نكتفي منكم بالإشارة ولو

من طرف خفي؛ لعلمنا أن ساحة عفو الله واسعة، ورحمته وسعت كل شيء،

وعليه فنكف اليراع عن الاسترسال في موضوع ولجتموه مضطرين، وإن كان قصد

حضرتكم هو رد الأمة إلى الصواب لما تحقق عندكم، وثبت لديكم من خطأ الأئمة

الأربعة أو أحدهم في فهم كلام الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة فالمأمول من

غيرتكم على الشرع الشريف؛ أن تبينوا لنا في أي موضوع أخطأ الأئمة أو بعضهم

في فهم ما ذكر، فإن بينتم لنا ذلك، فالأصل أن تفيدونا عما إذا كان أصحاب

المخطئ منهم أجمعوا على موافقته على الخطأ أو على مخالفته، بحيث تركوا العمل

بقوله بالمرة، وصار العمل على خلاف ما ذهب إليه، أم اختلفوا فمنهم من خالف

ومنهم من وافق، فإن كان الأول فإنا نلتمس من فضيلتكم مع الاحترام لشخصكم أن

تعرفونا: أولا - وجه خطأ الإمام في فهم معنى الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة

المجمع عليها. وثانيا - محل اتفاق أصحابه معه على الخطأ من ذلك العهد إلى

عهدنا هذا، فإن عرفتمونا عن ذلك ولا أخا لكم فاعلين، تبين لي صحة قصدكم،

وسلامة نيتكم، وشدة غيرتكم على الأمة المحمدية، وحرصكم على انتشالها من

مهاوي الضلالة، وحينئذ أضم صوتي مع صوتكم؛ قياما بالواجب وعلى الله إتمام

المقاصد {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران: 110) الآية، (من رأى منكم منكرًا)

الحديث، وإن لم تفعلوا كما هو الراجح، علمنا أن القصد غير صحيح والنية غير

سليمة، وإنما القصد إظهار المخالفة تحيلاً لالتماس القوت، هنا يحسن بي أن أقول

لحضرتكم: إن انتظامكم في سلك محرري الجريدة، يغنيكم عن ارتكاب هذا الشطط

الذي يأباه مقام من يدعى بفيلسوف الإسلام مرة، وبالمصلح أخرى. وإن كان الثاني

وهو اتفاقهم على مخالفة إمامهم فيما أخطأ. أو الثالث وهو اختلافهم في ذلك. فقد

تحقق لدينا أن القوم لم يحابوا إمامهم، ولم يأخذوا أقواله قضايا مسلمة، ولم يتبعوه

إلا فيما تحقق لديهم بالأدلة الصحيحة؛ لأنهم لا يعتقدون عصمته، بل الإمام نفسه لا

يعتقد لنفسه العصمة من الخطأ. ولذا لا نجد إمامًا إلا وقد خالفه أصحابه في كثير من

المسائل، وضَعَّف له أتباعه كثيرًا من الأقوال، فعلام يلام المتبوع وهو مقر بجواز

وقوع الخطأ منه، وبأي دليل يؤاخذ التابع؛ وهو لم يراع لإمامه في مقابل الحق

حرمة. وإن قلت أيها المصلح: نحن لا نعتقد أن الأئمة أو أحدهم لم يفهموا معنى

الكتاب والسنة، بل فهموا ذلك. غير أنهم أو أحدهم قد يسلك سبيل القياس في

مقابل نص القرآن أو صحيح السنة أو إجماع الصحابة، بلا ضرورة ملجئة. فنقول:

إن كان لديكم من ذلك فتفضلوا بتحريره؛ لنكون لكم من الشاكرين، ولخطتكم إن

كان حقًّا من السالكين، وإياكم واتباع الهوى، وسلوك خطة المكابرة أو المغالطة،

فإنا عند ذلك معرضون، وللحق راضخون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ

يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) هذا وإن تفضلتم على الفقير المذنب بالجواب عن

اعتقاده في أن وقوع الخطأ من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ الذين قد قلدهم

في فهم معنى الكتاب والسنة جمهور الأمة إلا قليلا ممن أغواهم الشيطان من زمن غير

بعيد؛ أقل منه ممن أصيبوا في عقولهم، وزين لهم الشيطان أنهم أدركوا من أسرار

الشريعة ما لم يدركه هؤلاء الأئمة؛ حملة الشرع الشريف؛ وإن تقليد أحد الأئمة

المذكورين، أولى من تقليد من ذكرنا من الغواة على فرض أنهم على شيء من العلم

والتقوى. هل أنا الفقير مصيب في هذا الاعتقاد أم لا؟ بينوا تؤجروا ودمتم أفندم.

...

...

...

...

محسوبكم المطيع

...

...

...

... أحمد موسى المنوفي

...

...

...

...

... بكلكته

(المنار)

تعجلنا بنشر هذه الرسالة برمتها على مجيئها قبيل إتمام المنار، وعلى قيام

القرائن السابقة واللاحقة عندنا، بل الدلائل الناطقة على سوء اعتقاد صاحبها بنا،

وظنه أنه قادر على دحض حجتنا والتنفير عن خطتنا، بل على كونها ليست شرطنا

في انتقاد المنار، وهو أن يذكر لنا المنتقد شيئًا مما نشرناه، ويبين بطلانه بالدليل

أو يطالبنا بالدليل عليه إذا نحن أوردناه غفلاً. وليس منه أن يحاسبنا على نيتنا

وكسبنا، أو يُعرِّض بسبنا وثلبنا، أو يخترع لنا رأيًا ويسألنا عنه. نشرنا الرسالة على

هذه كله؛ لنبين لمرسلها أن ما فيها ليس بالشيء الذي يسمى انتقادا، وأننا فيما نحن

عليه من البصيرة ولبينة في الدين، لا نحفل بقول من يقول أو يكتب أننا نخَطِّئ

الأئمة الأربعة، وإن كان ذلك مما ينفر عن المنار جماهير العوام، وكثيرين ممن

يعدون من الخواص؛ الذين يجلون هؤلاء الأئمة إجلالاً خياليًّا تقليديا، لا يوازي

معشار إجلالنا الحقيقي لهم رحمهم الله وجزاهم خيرًا.

وأول ما نقوله في الجواب: إن طريقتنا التي جرينا عليها في المنار ليست

من الوسائل التي يلتمس بها (القوت) - لو كنا معوزين - لأنها مخالفة لأهواء

الأكثرين وآرائهم، ومظنة لأن تكسد سوقها فيهم، وإنما يلتمس القوت من يلتمسه من

أصحاب النفوس الصغيرة؛ من حملة الأقلام بما يرضي الجمهور. وقد صرحنا في

مقدمة المنار بأننا أنشأناه ونحن نتوقع عدم رواجه، وأن أهل الخبرة والرأي

أنذرونا ذلك، ثم ظهر لنا صدق ذلك، وظل المنار أربع سنين لا يأتي من اشتراكه

إلا جزء قليل ينفق عليه، وهو الآن على سعة انتشاره لا يعد ربحه مقصودًا لمن

يقدر أن يربح بغيره؛ إذا تركه أضعاف ما يربح منه، وقد تمر السنين ولا نطالب

أكثر المشتركين بقيمة الاشتراك، بل نترك ذلك لأمانتهم، وما هذا شأن من يعمل

لأجل القوت. ولسنا من محرري الجريدة؛ كما قال في فضوله الذي يشبه سائر

أقواله في كونه رجمًا بالغيب. ثم إننا لقينا من الإيذاء في سبيل المنار ما يعرفه

الكثيرون إجمالاً وتفصيلا، ولا نطيل فإن الإخلاص صلة بين العبد وربه، ومن لم

ير في دعوتنا إلى انتقاد ما نكتب، ونشر ما ينتقد علينا، آية على أننا لا نريد إلا

بيان الحق، فله أن يسيء الاعتقاد بنا كيف شاء، وعلينا أن نسأل له العفو والمغفرة

والهداية من الله تعالى. ثم إننا نتكلم في المقصد فنقول:

ملخص الجوهر في كلامه، أننا ننكر على من نظروا فيما فهم الأئمة الأربعة

من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فاتبعوا منه ما رأوه صوبا، وردوا ما رأوه

خطأ، وسمي هذا الاتباع تقليداً؛ وهو لو وجد لا يعد تقليدا، ونحن لم ننكر ذلك

قط، فإن أصر على زعمه، فليبين لنا مكانه من المنار، وإنما ننكر التقليد في الدين

وهو الأخذ بقول القائل من غير دليل؛ لما قام عندنا من الحجج والدلائل على بطلانه

وبذلك قال الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وما أجاز التقليد إلا ضعفاء

المقلدين الذين خالفوا أئمتهم في استباحة التقليد. أما كون الأئمة أصابوا في فهم

الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؛ فهو لا يمنع بطلان التقليد في نفسه؛ إذ لا ينقض

دلائله، بل ربما يؤكده؛ لأن ما جاز لهم جاز لغيرهم؛ لأنه ليس وحيًا اختصهم الله

به، وجعله فوق كسب سائر البشر، بل هو أمر ممكن يتناوله كسب كل كاسب،

وإن تفاوت الناس فيه و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) . ?

والحق أن المجتهد منهم ومن غيرهم يخطئ ويصيب، بل قال أهل الأصول:

إن اجتهاد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - قد يقع فيه الخطأ. ولكن الله لا يقرهم

عليه، بل يبين لهم الحق فيه، وأنى للأئمة الأربعة وغيرهم بذلك. والمقلدون يأخذون

بما صح في مذاهبهم، وإن بحث العلماء فيه، وبينوا مخالفته للدليل، وليراجع

أصول الكرخي.

أما الدلائل على بطلان التقليد؛ فقد بيناها بالتفصيل في مقالات خاصة وفي

تفسير القرآن، وفي كثير من الفتوى وغيرها، فلا سبيل إلى إعادتها هنا، بل عليه

أن يراجعها في مجلدات المنار السابقة، وله بعد ذلك أن يذعن لها أو أن يرد عليها إن

استطاع، ونحن نعده بنشر رده في المنار؛ بشرط أن لا يتعدى البحث في

الموضوع إلى ما ليس منه؛ كما فعل في هذه الرسالة. ومن أقدم ما كتبناه تفصيلاً

في ذلك (محاورات المصلح والمقلد) وفيها نصوص الأئمة في بطلان التقليد لهم

ولغيرهم، وهي مطبوعة على حدتها في كتاب، فله أن يطلبه من مصر وثمنه مع

أجرة البريد روبية واحدة.

وقد طبع في هذا الأيام أجزاء من كتاب (الأم) للإمام الشافعي؛ وعلى هامشه

مختصر صاحبه الإمام المزني، وهو مفتتح بهذه العبارة بعد البسملة (قال: أبو

إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني - ورحمه الله -: اختصرت هذا الكتاب من علم

محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومعنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه

عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه، وبالله التوفيق) .

ثم ماذا يريد المنتقد من حصره الإنكار في تقليد الأئمة الأربعة؛ فيما فهموه من

الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ هل يريد أنه يجب تقليدهم فيما فسروا به القرآن،

وشرحوا به الحديث وأقوال الصحابة. وعدم تقليدهم فيما اجتهدوا فيه من الأحكام

التي لم يصرحوا بأخذها من هذه المصادر الثلاثة، إن كان يريد هذا وهو ظاهر

عبارته الأولى؛ فقد هدم معظم الفقه الذي يدين الجمهور بتقليده خصوصًا فقه الحنفية،

وإلا فليدلنا على تفسير الإمام أبي حنفية للقرآن، وشرحه للأحاديث وأقوال الصحابة

ليقلدها من يتبع رأيه الجديد، ويترك ما عداها من مسائل الفقه المأخوذة بالقياس

والاستحسان. وإن كان يقول بقول عامة المقلدين أنه يجب تقليد ما في هذه الكتب

من غير القيد بالالتفات إلى مآخذها؛ فما هو معنى العبارة الأولى؟

الموضوع طويل الأذيال، واسع الأردان، صنف العلماء فيه مصنفات كثيرة

وأحسن ما رأيناه فيه؛ هو ما كتبه الإمام ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين)

المطبوع في الهند، ونقلنا كثيرًا منه في المجلد السادس، فعلى المنتقد أن يقرأ ما

كتبنا، وما كتب هذا الإمام وغيره في المسألة، ثم يكتب بعد ذلك ما يظهر له أنه

الحق إن كان طالبًا له. وليعلم أن جماهير المسلمين قد أهملوا الاهتداء بالكتاب

والسنة؛ اكتفاء بهذا الفقه، ثم أهملوا هذا الفقه فقلَّ فيهم من يتعلمه، وقلَّ في

متعلميه من يعمل به، حتى صار الإسلام عند الأكثرين جنسية لا هداية، وقد أخذهم

الله بذنوبهم، وإننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا ترجى لهم هداية إلا بدعوة الكتاب

والسنة والرجوع بالدين إلى ما كان عليه في عهد السلف، ولا نجد حائلاً دون هذا

إلا التقليد الذي صار على بطلانه في نفسه اسمًا بلا مسمى، وهو مع ذلك لا يزيد

المسلمين إلا تفرقًا واختلافًا وضعفًا وهلاكا فنحن نحاول هدمه، وندعو المسلمين

كافة - لا المنتمين إلى المذاهب الأربعة فقط - إلى الاهتداء بما لا خلاف فيه بين

أحد منهم؛ لعلهم يرجعون. وإننا لا نجيز لأحد أن يقلدنا، كما يتوهم المنتقد وغيره

من الذين يتبعون فينا الظن، وإنما نحيل الجميع على الكتاب والسنة، ومتى قرأ

كلامنا بإنصاف عرف ذلك، والله الموفق.

_________

ص: 236

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إخلاص ابن سعود

كتب إلينا من بلاد العرب أن الدولة العلية؛ ظهر لها بعد رجوع العسكر ثم

المفتشين من نجد إخلاص ابن سعود لها، وما كان من كذب ابن الرشيد وغشه،

وأرسل ابن سعود بطلب الآستانة وفدًا إلى السلطان مؤلفًا من صالح بن عذل

وإبراهيم بن عبد العزيز بن رافح وخدمهما وهم أربعة، ولما وصلوا البصرة أكرمتهم

الحكومة جدًّا وسافروا على نفقتها، وأخيراً كتبت الدولة لابن سعود، والظاهر أنها

تطلب منه فيه تأديب قاتلي أبناء الرشيد ظلمًا وعدوانًا.

_________

ص: 240

الكاتب: موسى أفندي جار الله الروسي

تاريخ المصاحف

بقية ما كتبه موسى أفندي جار الله الروسي

(3)

ثم أصيب الإسلام بموت عمر، وولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر،

وسعى الساعون في إيقاع الخلاف بنشر الاختلاف، فدعت الحال إلى نشر المصاحف

المكتوبة على مشهد من الصحابة عظيم، فجمع الصحابة، وكانت عدتهم

يومئذ بالمدينة تزيد على اثني عشر ألفًا، فطلب المصحف من حفصة أم المؤمنين،

وأحضر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن

الحارث بن هشام، فكتبوا خمسة مصاحف من غير تغيير ولا تبديل، عما كان عليه

المصحف الذي كتبه زيد بأمر أبي بكر.

وما ورد عن عثمان في الأنفال وبراءة فإبداء عما كان يراه قبل من أنهما

سورة واحدة؛ إذ لم يقف على بيان من النبي صلى الله عليه وسلم وقد شهد

عثمان النسخ الأول، وقد وقع الإجماع فيه على هذا الترتيب، ولم يبد عثمان خلافًا

فيه، ولو كان له رأي يراه لوجب عليه أن يظهره، وما جرى بين عبد الله بن

عباس وبين عثمان من سؤال وجواب فحكاية لما كان يراه عثمان قبل. وعين زيدًا

أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع

الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن قيس مع البصري، وقرأ

كل مصر بما في مصحفه على هؤلاء الصحابة، ونسخوا من هذه المصاحف الخمسة

مصاحف لا يحصى عددها، فلم يبق في الإمكان كيد الكائدين، ولا وهم الواهمين.

بقي عثمان كذلك اثني عشر عامًا، حتى مات، وبموته حصل الاختلاف،

وابتدأ أمر الروافض. ثم تولى الأمر عليّ وملك، وبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر

خليفة مطاعًا غالب الأمر، ساكنًا بالكوفة، والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان،

وهو يؤم به الناس، والمصاحف معه وبين يديه، ثم بعده ابنه الحسن. وكان علي

يثني ثناءً على أبي بكر وعثمان فيما فعلا في المصاحف. ولو كان وقع من أبي بكر

وعثمان تغيير في شيء بنقص أو زيادة (ولا يمكن ذلك؛ لامتناع تواطئ

الكثير المتفرق على التغيير في شيء، فلو وقع من أحد لظهر ولافتضح المرتكب من

ساعته) ، لما قدر على مذلة التحمل والصبر عليه بعدما تولى الأمر، وهو الذي قاتل أهل الشام في رأي يسير رآه، ورأوا خلافه. وعلي شهد النسخين، ورأس

في كلا الوقتين:

غالب القول فيصلا في القضايا

نافذ الرأي حائز الجلايا

فلا يمكن أن أبا بكر وعثمان قد أسقطا بعض ما نزل في أهل البيت. ولم

يكن أبو بكر وعثمان إلا كغيرهما من الصحابة في شأن جمع القرآن. ولو كان نزل

شيء في أهل البيت؛ لتواتر كسائر الآيات، وكَتْم ما شاع وذاع أمر محال لا

يستطاع [1] .

وعلماء الإمامية - رحمهم الله تعالى - أَجَلّ من أن يقولوا: قد وقع نقص

في القرآن بمكر أبي بكر أو أمر عثمان. والشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي

ابن بابويه، والسيد المرتضى علم الهدى ذو المجد أبو القاسم علي بن الحسين

الموسوي، والقاضي نور الله في مصائب النواصب، والإمام الطبرسي في مجمع

البيان، هؤلاء أعلم علماء الإمامية وأعلام أمتنا الإسلامية، قد قالوا بامتناع وقوع

التغيير في القرآن، وقالوا: إن العلم بتفاصيل القرآن وأبعاضه كالعلم بكله وجملته.

فمن رام في إسقاط بعض آيات نزلت، فليسع أولاً في رفع كل القرآن، وكتم

أخبار انتشرت. وما نقل عن بعض علماء الشيعة من سقوط بعض آيات نزلت، فلا

أرى أن ذلك كان رأيًا لهم يرونه، إنما ذلك من جملة بقايا أخبار كانت تنشر من

عند الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والفتنة في المسلمين، ومن عند الذين يبغون

خبالاً ويسعون فسادًا في الدين.

وقد كانت مثل هذه الأخبار أنفع وسيلة في الحصول على أغراضهم السياسية

ففازوا فوزًا عظيمًا في دعوتهم، ونالوا فوق ما أملوا في كسر شوكة الأمة

الإسلامية وتفريق وحدتهم وقد دس هؤلاء من أباطيل الأخبار شيئًا كثيرًا في

الدين، قد تلقاه واغتَّر به قوم من أهل الخير؛ فأدخلوه في دواوين الأحاديث

والأخبار، وأسفار السنن والآثار.

وقد مَنَّ الله علينا؛ إذ جعل فينا رجالاً عدولاً ميزوا سنن نبينا عن

موضوعات الأخبار، وأكاذيب الآثار، فسقونا من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا

للشاربين. هذا وكل ما ذكرته من تاريخ القرآن والمصاحف فهو حق؛ لأن الأمر

كان ووقع كذلك، ومن ادعى انتصاف الشمس في النهار، فإنما عليه أن يشير إلى

ما هنالك، ومن خالف فلا يعتد به، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم نقلوا

أخبارًا ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته، وإلى قوم أتوا

بأقوال لا يقوم لها من عالم الشهود شاهد، ولو أننا سلكنا مسلكهم، واستجزنا

التدليس على أنفسنا، وارتكبنا ما لم يرتكب سلفنا؛ لأتينا بما يبلس به خصومنا أسفًا

لكن يكفينا في بيان الحق أن نأتي بما كان، وليس من شأن العاقل أن يتمسك بما بَعُد

عن الحق وبان. وحيث وَفَّينا الموضوع بعون الله - تعالى - بما استطعنا من البيان.

وكان ذلك خير ما جنينا، وخيار ما اقتطفنا من حدائق الأعيان، رأينا من واجب

الإحسان علينا أن نأتي بما يدل على امتناع وقوع التحريف في القرآن.

ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في إجمال ما فصله العلماء في ذلك، وأن

نجمع ونلتقط ما انتشر في صحائف الدواوين من هنا وههنا وهنالك.

البرهان الأول: أن النبي- صلى الله عليه وسلم انتقل والصحابة ألوف

مؤلفة ما منهم أحد إلا وهو يحفظ قسطًا وافرًا من القرآن، وفيهم مئات يحفظونه كله

بتمام الضبط والإتقان عن ظهر قلب. ثم إن الكثير منهم تشتتوا إثْر ذلك في الأقاليم

وانتشروا في الأقطار؛ استيطانا بمواطنهم الأصلية، أو تعينًا لعمل من الأعمال

الملكية والدينية. ثم نسخت المصاحف ووصلت إلى هذه الأعداد الكثيرة في المدن

والبلاد، فلو كان وقع تغيير في كلمة أو تحريف في حرف؛ لظهر ولثارت الأمة،

وهاجت الخواطر على جامعي المصاحف، وقاتلوهم قتالا، ولارتد كثير من

الناس؛ لأن اندساس أقل تغيير فيه بجهل العباد، أو وقوع تصرف فيه الأفكار

وكيد أهل الفساد، يقضي بأنه غير منزل من عند الله سبحانه وتعالى لكنا لم

نسمع أن أحدًا من مسلم وغيره عارض في شيء من القرآن، وادّعى ذلك فيه. ولو

وقع حبة تغيير فيه في العصر الأول، لوقع تغييرات في العصور الأخيرة، على

سنن قانون الطبيعة في النمو. لكنَّ القرآن قضى من أجله ثلاثة عشر قرنًا وزيادة،

وملأت المصاحف وجه الأرض وطباقها، ولم يوجد مصحف يختلف عن الآخر

بحرف واحد.

البرهان الثاني: أن القرآن أكبر دلائل النبوة به ظهر الدين وعز شوكة

المسلمين، هو آية ظلت أعناق الجبابرة لها خاضعين، فأذعنوا له بخفض الجناح

طائعين لأوامره، عاملين بأحكامه. فلا يمكن أن يُرضِي الأمة تحريفُ شيء منه،

ولو كان دونه بذل المُهج والنفوس.

البرهان الثالث: من أَلَمَّ بتاريخ الصحابة، ونظر نظرة في صحاح الأحاديث

يعلم أتم العلم ما كانت عليه الصحابة من غاية الاعتناء، ونهاية الاهتمام في حفظ

القرآن وضبطه، حتى مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، ويعرف ما لهم من مزيد

العناية في ضبط الأحاديث، والرواية حفظًا وكتابة، ومن وفور الاحتياط، وعظيم

التثبت عند أدائها، وتبليغها للأمة.

والعقل يحكم طوعًا بالقطع، وضرورة باليقين أن الجم الغفير والجمع الكثير

الذين أخذوا القرآن تلقيًا عنه عليه السلام في تضاعيف عشرين سنة، وضبطوه حفظًا

في الصدور، وثبتًا في الصحائف والسطور، لا يجوز عليهم التخليط فيه ولا التغيير.

وشِعْرُ الأقدمين مع أنه لا يمكن أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا

أن يضبط مثل ضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه مساسها للقرآن، لو زيد فيه بيت

أو لفظ، أو غُيِّر فيه حرف أو حركة، لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه، وطعن

فيه عارفوه، وجحده راووه.

وقد شوهد ذلك في كثير من الأشعار والخطب والأراجيز، يعرفه من يعتني

بلغة العرب ورواياتها.

فإذا كان ذلك مما لا يمكن في شعر الأقدمين. فكيف يجوز وقوعه في القرآن

مع العناية الصادقة، والضبط المتقن، والعلم بأنه دليل النبوة، ونور الشريعة،

وملجأ الأمة؟

البرهان الرابع: أن العلم بالقرآن كله وجملته فاق في الوضوح والاشتهار

أشهر المتواترات من كبار الحوادث، وعظائم الوقائع، ومهمات الأمور،

وحواضر الأحوال، والعلم بآيات القرآن، وسوره، وتفاصيله، وأبعاضه، عند

حفاظه ورواته في العصر الأول، كالعلم به كله وجملته: فإن العناية إذ ذاك توفرت،

والدواعي اشتدت، والقرائح انبعثت إلى حفظه الراسخ، وضبطه المتقن، والغايات

تباينت، والأغراض اختلفت: فمنهم من يضبطه لإتقان قراءته ومعرفة وجوهها

وصحة أدائها. ومنهم من يحفظه لاستنابط الأحكام وبيان تعاليم الإسلام، ومنهم من

يقصد بحفظه معرفة تفسيره ومعانيه، والوقوف على غامضه وغرائبه. ومنهم

من يعجبه بالغ فصاحته، وفائق بلاغته، ورائق أسلوبه، وشائق نظمه، وعجيب

تأليفه. ومنهم من يحفظه استلذاذًا بتلاوته واستحبابًا في كرامته، وتقربًا بقراءته،

وتعبدًا بدراسته، ومنهم من يحفظه لمجرد التشرف بشرف حمله، والقيام بواجب

أدائه وتعليمه وهو الأغلب.

فبالضرورة لا يمكن على أهل هذه الهمم العالية، والأغراض المتفاوتة،

والغايات المتباينة، مع كثرة أعدادهم وتباعد بلادهم أن يجتمعوا على التحريف

والتغيير، ويتواضعوا على التبديل.

البرهان الخامس: لا يخفى على الخبير بعلوم القرآن وطرقه الثابتة؛ أنه لم

يَنْقَضِ عصر الرسالة إلا وتتابع التابعون، وأخذوا عن الصحابة مباشرة، وقل

فيهم من لا يحفظ كل القرآن. وكان الرجل لا يكون عظيمًا في الأعين، ولا يعد

صاحب حديث ما لم يحفظ عشرات آلاف من الحديث. فتتبعوا حفظه الصحابة في

كل زمان ومكان، فما بلغهم أن صحابيًّا كذا، يحفظ آية كذا، بلغة كذا من اللغات

التي نزل بها القرآن - وسأبين معنى اللغات والأحرف في القرآن، بما لا أظن أن

الحق يتعداه إن شاء الله - إلا ارتحلوا إليه وتلقوا عنه، حتى جمعوا القراءات التي

قرأ بها القرآن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء قرن كان حفظ

القرآن عندهم؛ كأنه أمر لازم، وكأن أقطار حوافظهم قد امتدت، ودوائر إحاطتهم

قد اتسعت. فكثر فيهم من يحفظ مئات ألوف من الحديث، ومن يحفظ أشعار

الجاهلية، وأيام العرب، وخطبها، وأمثالها، وأراجيزها، ما لا تسعها ضخام

الأسفار، كانوا يحفظون كل ذلك؛ لأجل القرآن وعلومه، فوضعوا علوم الرسوم

والتجويد والقراءات، وعلوم الدين وكل مبادئها.

وكان من أساس دينهم في الله تشديد النكير على البدع، وشدة الاعتصام بالسنة

الثابتة، والمحافظة على ما ورد، والوقوف عند حد أمر ثبت. وما مضى قرن إلا

وجاء الذي بعده محققًا باحثًا في علوم القرآن، جاريًا على ما جرى عليه سلفه. كل

إنسان أحاط بعلوم القرآن خبرًا يعلم أن طرقه ورسمه واختلاف رواياته كلها

توقيف، لم يتصرف فيها أحد بشيء. فوقوع التحريف في القرآن من مثل هذه الأمة

غير ممكن.

البرهان السادس: الصدر الأول كان محاطًا بالأعداء من اليهود وغيرهم.

وكانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا عمومًا وللنبي عليه السلام خصوصًا،

واقفين له ولقومه بالمرصاد، ناصبين لهم حبائل الفتن، موغرين عليهم صدور

الناس. فلو عثروا على أدنى تحريف أو تغيير؛ لشنوا على جامعي المصاحف غارة

الفتنة، وشنعوا عليهم في جميع القبائل. ولكان ذلك من أعظم الفرص المساعدة على

اتهامهم في نظر الأمة. وأكبر الوسائل المؤدية إلى تفريق الجامعة الإسلامية،

وتشتيت كلمتها.

كانت مدينة النبي- عليه السلام -غاصة بالمنافقين؛ كان عرفهم بسيماهم،

ويعرفهم في لحن أقوالهم، كانوا يحضرون في مجالسه، يسمعون منه، ويقرأون في

من قرأ، ويصلون مع من صلى.

وهم في كل لحظة، يتوقعون هفوة تصدر منه؛ ليتخذوها ذريعة إلى رد الناس

عن الإيمان به، وقد صاحبوا أصحابه بعده، ولم يسمع أن واحدًا منهم قال بتغيير

حرف من القرآن، وهم أولى الناس بذلك وأقدرهم على فرض وقوعه؛ لسماعهم

الأصل من النبي. وتتابع الفتن المساعدة لهم في طعن الدين بأكبر المطاعن.

أمة غربلت أقوال نبيها ونخلتها، وبحثت فيها بحث تدقيق، ونقدتها، وروت

من أخبار العصر الأول ما عليها، قبل نقل ما لها. أمة عنايتها بكلام ربها أضعاف

عنايتها بأحاديث نبيه. يستحيل عليها أنها عكفت على هذا الدين، وفي القرآن أقل

تغيير قاض أنه ليس من عند الله.

أمة إذا سمع عالمها بيتًا من الشعر، واستطلع معناه، قال: هذا مأخوذ من

قول فلان الجاهلي. أيغيب عنها البحث في القرآن؟ هل وقع فيه تغيير وشيء جديد أو هو باق على ما كان عليه تنزيل من حكيم حميد اهـ.

_________

(1)

يريد المؤلف بهذا الرد على ما ينقل عن بعض غلاة الشيعة من زعم كتمان الصحابة لآيات؛ ادعوا أنها نزلت في آل البيت عليهم السلام كما سيصرح به.

ص: 260

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة

لشيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام: تقي الدين أحمد بن تيمية

رضي الله عنه

مقدمة لصاحب المنار

شرع الله - تعالى - لعباده على ألسنة جميع رسله أن يقيموا الدين، ولا

يتفرقوا فيه. ولكنهم كانوا يتفرقون في كل أمة، فيزول ما أريد بالدين من معنى

الاجتماع والائتلاف، حتى إذا ما شرَّع الله لهم الدين العام الذي هو خاتمة الأديان،

شدد فيه التنفير من التنازع والتفرق والاختلاف. وأكد الأمر بالاعتصام والاتحاد

والائتلاف. وقال لخاتم النبيين {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ

فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، ومع ذلك لم تسلم هذه الأمة من اتباع سنن من

قبلها، والاختلاف كما اختلفوا أو أشد.

ولما وقع الخلاف وكثرت المذاهب، وصار لكل فريق أنصار يخالفون

الآخرين، ويطعنون عليهم، امتاز أهل الحق المعتصمون بحبل الله بالدعوة إلى

الاجتماع والألفة، والتباعد عن التنازع والفرقة، وجعلوا المرجع في ذلك إلى كتاب

الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ عملا بقوله عز وجل {فَإِن تَنَازَعْتُمْ

فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ

وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) فكتاب الله ثابت لا نزاع فيه، وسنة رسوله

معلومة لا خلاف فيها، فما جرى عليه، وتبعه فيه أصحابه على طريقة واحدة بلا

خلاف بينهم يمتنع فيه الخلاف من المؤمنين، وما اختلف فيه العمل، كان المؤمنون

مخيرين فيه لا ينازع أحد منهم أخاه إن أخذ بغير ما أخذ هو به وكل جائز.

وقد سُمِّيَ هؤلاء بأهل السنة والجماعة؛ لأنهم يحكمون السنة العملية

المتبعة فيما هو حتم، وفيما هو مخير فيه، ويختارون الاجتماع والاتفاق على

الخلاف والافتراق، ولذلك كان من مزاياهم التباعد عن تكفير أهل القبلة وتضليلهم؛

لأجل الخلاف، والعمدة عندهم في صحة الإيمان وولاء أخوة الإسلام هو الأخذ

المجمع عليه في العصر الأول المعلوم من الدين بالضرورة، ويعذرون من أخطأ

فيما عدا ذلك.

ثم إن علماء أهل السنة، قد كانوا ينظرون في وجوه الترجيح بين ما اختلف

فيه على أهل العصر الأول أو الرواية عنهم، فيأخذ كل واحد ما يراه أرجح، مع

كونه يعذر من يأخذ بغير ما اختاره هو؛ لا سيما إذا كان رأيًا لا رواية، ثم حدث

في الأمة التقليد، وصار كل فريق يتعصب لعالم من أئمة علماء الأمصار من بعدهم

فعاد لذلك التفرق والاختلاف الممقوتان عند الله؛ إلى المنتسبين إلى أهل السنة

والجماعة، ووجد بذلك أهل البدع ما وجدوا من المطاعن عليهم، وعلى مذهبهم،

بل كان ذلك مما طعن به في أصل الدين.

سبق لنا قول في هذا الخلاف ومضاره، ورأيٌ في تلافيه واتقاء أخطاره،

أودعناها مقالات محاورات المصلح والمقلد، التي جمعت من المنار وطبعت في

كتاب مستقل، وأيدناه بما كتبه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه القسطاس

المستقيم من الدعوة إلى إزالة الخلاف؛ بالأخذ بالمجمع عليه، والتخير في المختلف

فيه، وقليل من الناس من يترك كل ما أجمع على تحريمه، ويؤدي كل ما

أجمع على وجوبه، ويفعل ما سهل عليه مما أجمع على ندبه واستحبابه. ولكن

المرزوئين بالتعصب للمذاهب، يسهل عليهم قطع أخوة الإيمان؛ بسبب خلاف في

رواية أو رأي مما لم يجمع عليه المسلمون، وهم مع ذلك يتركون بعض الفرائض،

ويرتكبون بعض المحرمات، ويحسبون ذلك أهون من الخلاف في الدين.

وقد قرأنا في هذه الأيام رسالة لشيخ الإسلام: أحمد بن تيمية في مسألة

الخلاف في العبادات، وحقيقة السنة والجماعة، فآثرنا نشرها؛ رجاء أن ينفع الله

بها المسلمين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) قال - رحمه

الله تعالى وأثابه -:

(قاعدة)

في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية

والرأي مثل: الأذان، والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر والتسليم في الصلاة،

ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف. ومثل: التمتع والإفراد والقران في

الحج، ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة، والشعائر أوجب أنواعًا

من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون.

(أحدها) جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي

يحبه الله ورسوله؛ والذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته؛ والذي

أمرهم باتباعه.

(الثاني) ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم تارةً

بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما

أوجب الله من حقوقهم وصلتهم؛ لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى

يُقَدِّمُونَ في الموالاة، والمحبة، وإعطاء الأموال، والولايات، من يكون مؤخرًا عند

الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدمًا عند الله ورسوله لذلك.

(الثالث) اتباع الظن وما تهوى الأنفس، حتى يصير كثير منهم مدينًا باتباع

الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة؛

من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة كالخوارج،

والروافض، والمعتزلة، ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى

فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ

الْحِسَابِ} (ص: 26) وقال في كتابه: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ

وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيل} (المائدة: 77)

(الرابع) التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير

بعضهم يبغض بعضًا ويعاديه، ويحب بعضًا ويواليه على غير ذات الله، وحتى

يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال

بالأيدي والسلاح وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم

خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرَّمها الله ورسوله.

والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله قال الله -

تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم

مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ

أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم

مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ

وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ

تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ

وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} (آل عمران: 102-106) قال ابن عباس: تبيض وجوه

أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.

وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة؛ بخروجه عن السنة التي شرعها

رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة؛

التي أمر الله بها ورسوله وقال: إلى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ

فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159)، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ

بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213)، وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا

الكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 4-5) ، وقال

تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا

جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19)، وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ

مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الجاثية: 17) ،

وقال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (يونس: 93)، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال:1)

وقال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10) وقال:

{إلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114) وهذا

الأصل العظيم؛ وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم

أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله - تعالى - به في كتابه.

ومما عظم ذَمُّهُ لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية

النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله: (عليكم

بالجماعة فإن يد الله على الجماعة) ، وقوله: (فإن الشيطان مع الواحد وهو من

الاثنين أبعد) ، وقوله: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه [1] فإن

من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) ، وقوله: ألا أنبئكم

بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن

المنكر؟) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (صلاحُ ذات البين، فإن فساد ذات

البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر. ولكن تحلق الدين) وقوله: (من جاءكم

وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا

من كان) ، وقوله:(يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ،

وقوله: (ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة: منها واحدة ناجية، واثنتان

وسبعون في النار، قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال: هي الجماعة، يَدُ اللهِ على

الجماعة) ، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة؛ بل وفي غيرها هو التفرق

والاختلاف؛ فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم، من ذلك

ما الله به عليم، وإنْ كان بعض ذلك مغفورًا لصاحبه؛ لاجتهاده الذي يغفر فيه خطأه

أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك. لكن يعلم أن رعايته من أعظم

أصول الإسلام، ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة

والجماعة. ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره، وكان

الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع، فإن الله

لا يجمع هذه الأمة على ضلالة.

(النوع الخامس) هو شك كثير من الناس، وطعنهم في كثير مما أهل السنة

والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه

سائر أهل الملل متفقون؛ وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارةً، ومن جهة تنازعهم

ورأيهم أخرى، أما الأول فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله، وأمر أزواج

نبيه بذكره، حيث يقول:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34) حفظه، من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أنزل قبله، كما

عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، فعصم حروف التنزيل أن يغير، وحفظ

تأويله أن يضل فيه أهل الهدى المتمسكون بالسنة والجماعة، وحفظ أيضًا سنة

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما ليس فيها من الكذب: عمدًا أو خطأً بما

أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه الذين فحصوا عنها، وعن نقلتها ورواتها،

وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم، حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها

إجماعًا معصومًا من الخطأ؛ لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع، وعلموا هم

خصوصًا وسائر علماء الأمة، بل وعامتها عمومًا ما صانوا به الدين عن أن يزاد

فيه أو ينقص منه، مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات

الخمس، وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي والثلاثي والرباعي، وأنه لم يفرض

عليهم من الصوم إلا شهر رمضان، ومن الحج إلا حج البيت العتيق، ومن الزكاة إلا

فرائضها المعروفة إلى نحو ذلك، وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه

عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة: أن النبي -

صلى الله عليه وسلم نص على عليٍّ بالخلافة نصًّا قاطعًا جليًّا، وزعم آخرين أنه

نص على العباس، وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة التي يأثرونها في مثل

الغزوات التي يروونها عن علي، وليس لها حقيقة كما يرويها المكدون الطرقية

مثل: أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر، والبطال، حيث علموا مجموع

مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط،

ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفًا، ومثل

الفضائل المروية ليزيد بن معاوية ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من

الكرامية في الإرجاء ونحوه.

والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع، وفي

صلوات أيام الأشهر الثلاثة والأحاديث التي يروونها في استماع النبي - صلى الله

عليه وسلم - هو وأصحابه، وتواجده وسقوط البردة عن ردائه، وتمزيقه الثوب،

وأخذ جبريل لبعضه وصعوده به إلى السماء، وقتال أهل الصُّفة مع الكفار،

واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء. والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى

الأرض يوم عرفة، وصبيحة مزدلفة. ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في

الأرض بعين رأسه.

وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها، فإن المكذوب من ذلك لا

يحصيه أحد إلا الله - تعالى -؛ لأن الكذب يحدث شيئًا فشيئا، ليس بمنزلة الصدق

الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحدث بعده، وإنما يكون

موجودًا في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول

وورثة الأنبياء، وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه:

(أحدها) أن ما توفرت همم الخلق، ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع

في العادة كتمانه، فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم، كما يعلم كذب من

خرج يوم الجمعة، وأخبر بحادثة كبيرة في الجامع، مثل: سقوط الخطيب، وقتله،

وإمساك أقوام في المسجد، إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان، ويعلم كذب من

أخبر أن في الطرقات بلادًا عظيمة، وأممًا كثيرين، ولم يخبر بذلك السيارة، وإنما

انفرد به الواحد والاثنان، ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن

أرادها، بمكان يعلمه الناس، ولم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان، وأمثال ذلك كثيرة

فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال، يعلم كذب ما ينقل من الأمور التي مضت

سنة الله بظهورها وانتشارها، لو كانت موجودة، كما يعلم أيضًا صدق ما مضت

سنة الله في عباده أنهم لا يتواطؤون فيه على الكذب من الأمور المتواترة

والمنقولات المستفيضة، فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان في مثل

هذه الأمور، دون الكذب والكتمان. كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس، فالنفس

بطبعها تختار الصدق؛ إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح، وتختار الأخبار

بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها، والناس يستخبر بعضهم بعضًا، ويميلون إلى

الاستخبار والاستفهام مما يقع، وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه، ويبين له دون

أن يكذبه ويكتمه، والكذب والكتمان يقع كثيرًا في بني آدم في قضايا كثيرة، لا

تنضبط كما يقع منهم: الزنا، وقتل النفوس، والموت جوعًا، وعريًّا، ونحو ذلك.

لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة. وعلى أنفسهم إلا البقاء. فالغرض

هنا أن الأمور المتواترة، يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكذب والأخبار الشاذة

يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكتمان.

(الوجه الثاني) أن دين الأمة يوجب عليهم: تبليغ الدين وإظهاره وبيانه.

ويحرم عليهم كتمانه، ويوجب عليهم الصدق، ويحرم عليهم الكذب، فتواطؤهم

على كتمان ما يجب بيانه كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمورالتي تحرم

في دين الأمة، وذلك باعث موجب الصدق والبيان.

(الوجه الثالث) أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها، وعظيم رغبتها في

تبليغ الدين، وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول - صلى الله عليه

وسلم - ما يوجب أعظم العلوم الضرورية؛ بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه، ولا

كتموا ما أمرهم بتبليغه، وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم، غير العادة العامة

المشتركة بين جنس البشر.

(الرابع) أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - الموجبة عليهم التبليغ ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله ومن دين

آحادهم مثل الخلفاء، ومثل ابن مسعود وأُبَي ومعاذ وأبي الدرداء إلى ابن عمر

وابن عباس وابن عمرو وغيرهم، يعلمون علمًا يقينًا لا يتخالجه ريب، امتناع

هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة، كما يعلمون امتناعهم من

الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم أيضًا أهل الحديث مثل

أحوال المشاهير بمعرفة ذلك، مثل الزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير ومثل

مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم، أمورًا يعلمون

معها امتناعهم من الكذب، وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي

تأبى أحوالهم كتمانها لو كانت موجودة، ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها،

وليس الغرض هنا تقرير ذلك، وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة

لبعض الناس من أهل الأهواء.

قالوا: هذا الذي ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة، فإنه كان يفعل على

عهد النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم خمس مرات، ومع هذا فقد وقع

الاختلاف في صفته. وكذلك الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر، وحجة الوداع من

أعظم وقائعه، وقد وقع الاختلاف في نقلها، وذكروا نحو هذه الأمور التي وقعت

فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس، وجعلوا هذا معارضًا لما تقدم؛ ليسوغوا أن

يكون من أمور الدين ما لم ينقل، بل كتم لأهواء وأغراض. وأما جهة الرأي

والتنازع فإن تنازع العلماء واختلافهم في صفات العبادات، بل وفي غير ذلك من

أمور الدين، صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم.

وقالوا: إن دين الله واحد، والحق لا يكون في جهتين {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ

اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، فهذا التفرق والاختلاف دليل على

انتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، ويعبرون عنهم بعبارات: تارة يسمونهم

الجمهور، وتارة يسمونهم الحشوية، وتارة يسمونهم العامة.

ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعًا من كون الحق فيما عليه أهل

السنة والجماعة، كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان، فالرافضة تنتحل النقل عن

أهل البيت لما لا وجود له، وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة مثل رئيسهم الأول

عبد الله بن سبأ الذي ابتدع لهم الرفض، ووضع لهم أن النبي صلى الله عليه

وسلم نصَّ على عليٍّ بالخلافة، وأنه ظُلم ومُنع حقه، وقال: إنه كان معصومًا،

وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام، ولهذا كان الرفض باب الزندقة

والإلحاد. فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم أو زاد عليهم، من

القرامطة والنصيرية، والإسماعيلية، والحاكمية وغيرهم، إنما يدخلون إلى

الزندقة والكفر بالكتاب، والرسول، وشرائع الإسلام، من باب التشيع والرفض.

والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس العقل، وتطعن في كثير مما ينقله أهل السنة

والجماعة، ويعللون ذلك بما ذكر من الاختلاف ونحوه، وربما جعل ذلك بعض

أرباب الملة من أسباب الطعن فيها وفي أهلها، فيكون بعض هؤلاء المتعصبين

ببعض هذه الأمور؛ ساعيًا في هدم قواعد الإسلام الكبار.

فصل

إذا تبين بعض ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد، فنحن نذكر

طريق زوال ذلك، ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات وذلك ببيان

الأصلين اللذين هما: السنة والجماعة المدلول عليهما بكتاب الله، فإنه إذا اتبع

كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله والاعتصام بحبله جميعا؛ حصل الهدى،

وزال الضلال والشقاء.

أما الأصل الأول وهو الجماعة وبدأنا به؛ لأنه أعرف عند عموم الخلق،

ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة، فنقول:

عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات

ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو مفردًا أو قارنًا، كان حجه مجزئًا عند

عامة علماء المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك. ولكن بعض الخارجين

عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة، ويحرم ما عداها

ومن الناصبة من يحرم المتعة، ولا يبيحها بحال.

وكذلك الأذان سواء رجع فيه أو لم يرجع، فإنه أذان صحيح عند جميع سلف

الأمة وعامة خلفها؛ وسواء رَبَّعَ التكبير في أوله أو ثناه، وإنما يخالف في ذلك

بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة فأوجب له الحيعلة بحي على

خير العمل، وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية؛ بأيها قام صحت إقامته عند

عامة علماء الإسلام، إلا ما تنازع شذوذ الناس.

وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة، وإن كان من

العلماء من يستحب أحدهما، أو يكره الآخر، أو يختار أن لا يقرأ بها، فالمنازعة

بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء، فإنهم وإن

تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما، هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف

في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فهذا في الجهر الطويل بالقدر الكثير، مثل:

المخافتة بقرآن الفجر، والجهر بقراءة صلاة الظهر. فأما الجهر بالشيء اليسير أو

المخافتة به، فما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك، وما أعلم أحدًا قال به، فقد

ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة المخافتة

يسمعهم الآية أحيانا. وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: (كنا

نصلي وراء النبي صلي الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله

لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما

انصرف، قال:(من المتكلم؟) قال: أنا. قال: (رأيت بضعة وثلاثين ملكًا

يبتدرونها أيهم يكتبها أول) ، ومعلوم أنه لولا جهره بها لما سمعه النبي - صلى الله

عليه وسلم - ولا الراوي. ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك.

وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح: سبحانك

اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك. وهذا فعله بين

المهاجرين والأنصار، والسنة الراتبة فيه المخافتة. وكذلك كان من الصحابة

من يجهر بالاستعاذة، وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة

على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها السنة. ولهذا نظائر، وأيضًا فلا نزاع أنه كان

من الصحابة من يجهر بالبسملة كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر

بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك ولم يبطل أحد منهم صلاة

أحد في ذلك، وهذا مما لم أعلم فيه نزاعًا؛ وإن تنازعوا في وجوب قراءتها

فتلك مسألة أخرى.

وكذلك القنوت في الفجر، إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته، وسجود

السهو لتركه أو فعله؛ وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة ترك القنوت، وأنه

ليس بواجب، وكذلك من فعله؛ إذ هو تطويل يسير للاعتدال، ودعاء الله في هذا

الموضع ولو فعل ذلك في غير الفجر، لم تبطل صلاته باتفاق العلماء فيما أعلم.

وكذلك القنوت في الوتر، هل هو في جميع الحول أو النصف الآخر من

رمضان؟ إنما هو في الاستحباب؛ إذ لا نزاع أنه لا يجب القنوت، ولا تبطل

الصلاة به، كذلك كونه قبل الركوع أو بعده.

وكذلك التسليمة الثانية، هل هي مشروعة في الصلاة الكاملة والناقصة، أو

في الكاملة فقط، أم ليست مشروعة، هو نزاع في الاستحباب. لكن عن أحمد

رواية: أن التسليمة الثانية واجبة في الصلاة الكاملة، أما وجوب الأركان، أو

وجوب ما يسقط بالسهو على نزاع في ذلك. والرواية الأخرى الموافقة للجمهور:

إنها مستحبة في الصلاة الكاملة.

وكذلك تكبيرات العيد الزوائد، إنما النزاع في المستحب منها، وإلا فلا نزاع

في أنه يجزئ ذلك كله، وكذلك أنواع التشهدات كلها جائز، ما أعلم في ذلك خلافًا لا

خلافًا شاذًّا، وإنما النزاع في المستحب.

وكذلك أنواع الاستفتاح في الصلاة وأصل الاستفتاح، إنما النزاع في استحبابه

وفي أي الأنواع أفضل، والخلاف في وجوبه خلاف قليل، نذكر قولاً في مذهب

الإمام أحمد.

وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب، عُلِمَ الإجماع على جواز ذلك

وإجزائه، ويكون ذلك بمنزلة القراءات في القرآن، فإن جميعها جائز، وإن كان من

الناس من يختار بعض القراءات على بعض، وبهذا يزول الفساد المتقدم فإنه إذا علم

أن ذلك جميعه جائز مجزئ في العبادة؛ لم يكن النزاع في الاختيار ضارًّا، بل قد

يكون النوعان سواء، وإن رجح بعض الناس بعضها، ولو كان أحدهما أفضل لم

يجز أن يظلم من يختار المفضول، ولا يذم ولا يعاب بإجماع المسلمين، بل المجتهد

المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين، ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة، ولا أن

يعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك المستحب من أمور

أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير، ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة

الواجبات، بحيث يمتنع الرجل من تركها، ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى

الله ورسوله، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، بل

الواجبات كذلك، ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه

المستحبات، فلو تركها المرء؛ لائتلاف القلوب كان ذلك حسنا وذلك أفضل. إذا

كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، وقد أخرجا في الصحيحين

عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (لولا أن قومك حديثو عهد

بجاهلية، لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه

وبابا يخرجون منه) ، وقد بين احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام

قد يترك بعض الأمور المختارة؛ لأجل تأليف القلوب ودفعًا لنفرتها، ولهذا نص

الإمام أحمد: على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال: يجهر بها إذا

كان بالمدينة، قال القاضي: لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون فيجهر بها؛ للتأليف،

وليعلمهم أنه يقرأ بها وقال غيره: بل لأنهم كانوا لا يقرؤونها بحال فيجهر بها

ليعلمهم أنه يقرأ بها، وأنَّ قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في

صلاة الجنازة، فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، وبهذا يزول الشك والطعن، فإن

الاتفاق إذا حصل على جواز الجميع وإجزائه، علم أنه دخل في المشروع، فالتنازع

في الرجحان لا يضر، كالتنازع في رجحان بعض القراءات، وبعض العبادات،

وبعض العلماء، ونحو ذلك، بل قد أمر النبي- صلى الله عليه وسلم كلا من

القراء أن يقرأ كما يعلم، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك، فمن خالف في ذلك كان

ممن ذَمَّه الله ورسوله. فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك.

وأما الأصل الثاني، فنقول: السنة المحفوظة عن النبي - صلى الله عليه

وسلم- فيها من السعة والخير ما يزول به الحرج، وإنما وقعت الشبهة؛ لإشكال

بعض ذلك على بعض الناس. أما الأذان فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي

صلى الله عليه وسلم سن في الإقامة الإيتار والشفع، ففي الصحيحين أنه أمر

بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وفي صحيح مسلم أنه علم أبا محذورة الإقامة

مثنى مثنى مثل الأذان، فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه

وسلم، قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأحد النوعين، صار ذلك مثل

تعليمه القرآن لعمر بحرف، ولهشام بن حكيم بحرف آخر، وكلاهما قرآن أذن الله

أن يقرأ به.

وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة، وهو محذوف من

أذان بلال الذي رووه في السنن. وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها، صح الجهر

بها عن طائفة من الصحابة، وصحت المخافتة بها عن أكثرهم، وعن بعضهم

الأمران جميعا.

وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فالذي في الصحاح والسنن

يقتضي أنه لم يكن يجهر بها، كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته، ففي الصحيح

حديث أنس وعائشة وأبي هريرة يدل على ذلك دلالة بيِّنة لا شبهة فيها، وفي السنن

أحاديث أخر مثل حديث ابن مقفل وغيره، وليس في الصحاح والسنن حديث فيه ذكر

جهره بها، والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث؛

ولهذا لم يخرجوا في أمهات الدواوين منها شيئا. ولكن في الصحاح والسنن أحاديث

محتملة، وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس أن النبي -

صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة

ترك الجهر بها حتى مات، ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وهذا يناسب

الواقع فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها. وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم

يكونوا يجهرون بها. وكذلك أكثر البصريين وبعضهم كان يجهر بها؛ ولهذا سألوا

أنسًا عن ذلك. ولعل النبي- صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بعض الأحيان،

أو جهرًا خفيفًا إذا كان ذلك محفوظًا، وإذا كان في نفس كتب الحديث أنه فعل

هذا مرةً وهذا مرةً زالت الشبهة.

وأما القنوت فأمره بَيِّن لا شبهة فيه عند التأمل التام، فإنه قد ثبت في

الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الفجر مرة يدعو على

رعل وذكوان وعصية ثم تركه، ولم يكن تركه نسخًا له؛ لأنه ثبت عنه في

الصحاح أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين، مثل الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام

والمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على مضر، وثبت عنه أنه قنت أيضًا

في المغرب والعشاء وسائر الصلوات قنوت استنصار، فهذا في الجملة منقول

ثابت عنه. لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ، فاعتقد

أن القنوت منسوخ، واعتقد بعضهم من المكيين أنه مازال يقنت في الفجر القنوت

المتنازع فيه حتى فارق الدنيا.

والذي عليه أهل المعرفة بالحديث أنه قنت لسبب تركه لزوال السبب،

فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب؛ لأنه ثبت أنه تركه لما زال العارض، ثم

عاد إليه مرة أخرى، ثم تركه لما زال العارض. وثبت في الصحاح أنه لم يقنت

بعد الركوع إلا شهرًا، هكذا ثبت عن أنس وغيره، ولم ينقل أحد قط عنه، أنه قنت

القنوت المتنازع فيه لا قبل الركوع ولا بعده، ولا في كتب الصحاح والسنن شيء

من ذلك، بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر وأبي مالك الأشجعي وغيرهما. ومن

المعلوم قطعًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان كل يوم يقنت قنوتًا يجهر

به؛ لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة، فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت

العارض وقنوت الوتر، فالقنوت الراتب أولى أن ينقل دعاؤه فيه، فإذا كان الذي

نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر، علم أنه ليس فيه شيء عن النبي - صلى الله

عليه وسلم - وهذا مما يعلم باليقين القطعي، كما يعلم عدم النص على هذا وأمثاله

فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك، فإنه مما يعلم بطلانه قطعًا

وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما هو القنوت العارض قنوت

النوازل، ودعاء عمر فيه وهو قوله: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب

إلخ.

يقتضي أنه دعا به عند قتله للنصارى. وكذلك دعاء علي عند قتاله لبعض

أهل القِبْلَة. والحديث الذي فيه أنس أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا مع ضعف

في إسناده وأنه ليس في السنن، إنما فيه القنوت قبل الركوع، وفي الصحاح عن

أنس أنه قال: لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهرًا

والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل، إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة، فتارة

يكون في السجود، وتارةً يكون في القيام، كما قد بيناه في غير هذا الموضع.

وأما حجة الوداع وإن اشتبهت على كثير من الناس، فإنما أتوا من جهة

الألفاظ المشتركة؛ حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج

وهؤلاء أيضًا يقولون: إنه أفرد الحج. ويقول بعضهم: إنه قرن العمرة إلى الحج

ولا خلاف في ذلك فإنهم لم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل من

إحرامه، وأنه كان قد ساق الهدي ونحره يوم النحر، وأنه لم يعتمر بعد الحجة في

ذلك العام لا هو ولا أحد من أصحابه إلا عائشة؛ أمر أخاها أن يعمرها من التنعيم

أدنى الحل.

وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها أنه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طوافه الأول، فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا؛ لأنه أفرد

أعمال الحج لم يقرن بها عمل العمرة، كما يتوهم من يقول: إن القارن يطوف

طوافين، ويسعى سعيين. ولم يتمتع تمتعًا حل به من إحرامه، كما يفعله المتمتع

الذي لم يسبق الهدي، بل قد أمر جميع أصحابه الذين يسوقوا الهدي أن يحلوا من

إحرامهم ويجعلوها عمرة، ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم.

_________

(1)

لعل المراد بالشيء الذي يكره ما لا يخالف الشريعة؛ لأنه جاء في أحاديث كثيرة أن الطاعة في المعروف وعلى ذلك بايعوه وهو المعصوم، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ص: 265

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

الاستبداد

(3)

الفائدة الثانية

الخروج من الاستبداد

أتى على الشرق حين من الدهر كان يعبد فيه الملوك عبادةً حقيقيةً، ويسميهم

آلهةً، ويدعوهم أربابًا، وهو لم يسلم من هذا الاعتقاد سلامةً تامةً عامةً إلى اليوم، ثم

ارتقى بعض شعوبه إلى الاعتقاد بأن الملوك ليسوا آلهة خالقين، ولكنهم أصحاب

سلطة إلهية وسيادة ربانية تجب طاعتهم عدلوا أو ظلموا، وتقديسهم أساءوا أو

أحسنوا، ثم جاء الإسلام بإصلاح جديد، فجعل أمر المؤمنين شورى بينهم، وأمر

أصحاب الرأي السديد والمعرفة بالمصالح العامة واجب الامتثال في سياسة الأمة

وإدارتها، حتى لا يطمع فرد من الأفراد بالاستئثار بالسلطة والاستبداد بالأمر.

وجرى النبي صلى الله عليه وسلم في سياستهم على هذه القاعدة، فكان يقدم

رأي أصحاب الرأي المعبرعنهم بأولي الأمر على رأيه كما فعل يوم أحد؛ إذ كان

صرح بأنه لا يرى الخروج إلى حرب قريش، حتى تصل إلى المدينة. ورأى

أصحابه الخروج فعمل برأيهم، وكما فعل يوم بدر، والأحاديث في ذلك كثيرة

شهيرة. ولكن الشرق لم يكن تم استعداده لهذا الإصلاح الأعلى؛ لما بيناه في مقال

(طبيعة الاجتماع في الحاكمين والمحكومين) ؛ لذلك تسنى لبني أمية أن يعبثوا به،

ويزيلوه في زمن قريب.

ولي أبو بكر رضي الله عنه أمر المسلمين بعد رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - فخطب الناس، وقال: وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت

فأعينوني، وإذا زغت فقومني.

وولي عمر رضي الله عنه فقال نحو ذلك في خطبته. ومن المشهور المستفيض

على الألسنة؛ أنه لما قال على المنبر: من رأى منكم فيِّ عوجًا فليقومه.

قام رجل فقال: لو رأينا فيك عوجا لَقَوَّمْنَاه بسيوفنا، فقال: الحمد لله الذي جعل في

المسلمين من يُقوِّم عوج عمر بسيفه.

ومما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال على المنبر: أمري لأمركم

تبع، وقال في أول خطبة خطبها بعد أن ولي الخلافة: ألا وإن لكم علي بعد

كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ثلاثًا: (اتباعُ مَن كان قبلي فيما اجتمعتم عليه

وسننتم، وَسنُّ سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكَفُّ عنكم إلا فيما

استوجبتم) .

فانظر كيف قيد اتباع من كان قبله بكونه فيما اجتمعوا عليه وسنوه، فهو دليل

وراء الأدلة العملية على أن أبا بكر وعمر كانا يأخذان برأي الأمة فيما لم يرد به

الكتاب ولم تمض به السنة، وتأمل قوله:(فيما لم تسنوا عن ملأ)، والملأ:

الجماعة من أهل الرأي والمكانة في الأمة، وهم بمعنى النواب.

أما سيرة علي - كرم الله وجهه ورضي عنه - فهي على تلك السنة، ما غَيِّر

ولا بدَّل، ولا رغب في الدنيا، ولا جنح إلى زخرفها. ولكن نزا عليه بنو أمية

أعداء بني هاشم في الجاهلية والإسلام، وكان من أمرهم ما كان، ولا محل لشرحه

في هذا التمهيد.

وإنما غرضنا أن نقول: إنهم استبدوا عملا، وما عتموا أن جهروا بالخروج عن

سنن الإسلام في حكمه قولا؛ إذ قال خطيبهم عبد الملك بن مروان على المنبر: من

قال لي اتق الله ضربت عنقه. فتحولت الحكومة إلى استبدادية، كانت على حسب

سيرة الحاكم، إلا على الملقب بالخليفة أو الملك: فتارة يكون عادلاً كعمر بن عبد

العزيز، وتارة يكون جائرًا، وتارة متوسطًا. وكان معظم ظلمهم وظلم من بعدهم

لمن يأنسون منه سخطًا من سلطتهم أو مقاومة لها، وسائر الناس في راحة وأمان،

يتقدم به العلم ويزهو العمران، حتى استدار الزمان، ورجع الشرق إلى نحو ما

عليه كان.

أخبار المماليك يقل في القارئين من لا يعرفها، وسيرة إسماعيل باشا لم يمت

جميع من ذاقوا مرارتها، ومفاسد بايات تونس مأثورة، ومنكرات دايات الجزائر

غير منكورة، كان من هؤلاء من يعاقب الناس الذين يحل عليهم غضبه، ولو لحفظ

عرضهم من فسقه بإحدى ثلاث: الخازوق، أو ترديته من أعلى جبل قسنطينة، أو

إغراء كلاب عاقرة به تنهشه وتمزق لحمه حتى يموت شر ميته. كان هذا قبيل

إغارة فرنسا على الجزائر. ولا يجهل أحد من قراء الصحف حال بقية الممالك التي

لما تؤثر فيها حالة الأوربيين، ولم تحملها على تغيير سلطتها الاستبدادية، إما

لجهلها بها لعدم الاختلاط بهم، واقتباس علومهم، والوقوف على حال حكوماتهم

كمراكش، وإما لأن السلطة الاستبدادية فيها لا تزال أقوى وأقدر على منع العلم عن

الجاهلين، مع مطاردة طلاب الإصلاح من العارفين، كما هو شأن الحكومة

العثمانية.

إن محاربة الآستانة للعلم والدين، ومطاردتها للعقلاء والعارفين، لفوق ما

يتخيل المتخيلون؛ لأنها أضعاف ما يروي الراوون، إن أكثر المطبوعات العربية

الجديدة التي تعد في مصر من آيات الارتقاء التي استعدت أو تستعد بها الأمة لأن

تحكم نفسها بنفسها هي في الولايات العثمانية من أشد الجنايات، وأعظم الجرائم

تضطرب لذكرها القلوب، وترتعد الفرائص، حتى من أولئك الذين يسفكون

الدماء بالأسواق في وقت الضحى؛ لأن سافك الدم كثيرًا ما يسلم بالرشوة أو المحاباة،

وإذا حوكم لا تتبرأ منه المحاماة، وإذا حكم عليه يدركه العفو في أحد الأعياد بعد عشر

سنين أو أقل، أما من يتهم باقتناء كتاب مما يعد منبهًا للأفكار أو بطلبه من مصر، فلا يتجرأ أحد على الدفاع عنه، ولا على الارتشاء منه، ولا يؤخذ منه عدل، ولا تنفعه شفاعة.

كم من عالم عامل، ومن غيور فاضل، يئن في ظلمات السجن لا يتجرأ أحد

على ذكره ولا السؤال عنه، وكم من عالم وغيور أُخرِج من داره، ونفي إلى حيث

لا يسمع أهله وولده بذكره، وما كنت عازمًا على الإشارة إلى مثل هذا؛ لولا أن

أُلْقِيَ إليِّ قبل هذه الكتابة رقيم من الحجاز فيه أن أمير مكة جلد بعض أهل العلم

مائة جلدة على مشهد من الناس، ثم كبله في السلاسل والأغلال؛ لأنه كتب كتابًا في

التوحيد، قال فيه: إن الأمر كله لله، لا ينبغي أن يطلب الخير، ودفع الضر من

غيره عز وجل بعد العجز عن الأسباب التي سنها، واستعمال القوى التي وهبها

فصار إظهار التوحيد الخالص ممنوعًا بهذه الحكومة في حرم الله، وقد كان أعظم

مظهر له في أرض الله.

هذا واليابان تفاخر أوربا بالحرية والعدل وحكم الشورى، وإيران تحاول

مجاراتها في ذلك، ومصر لا حديث لها إلا المجلس النيابي، فمن أبنائها من يلح

بطلبه الآن، ومنهم من يقول: يجب أن نعد له أولا عدته، ونكتفي الآن بتوسيع

اختصاص مجلس الشورى ومجلس المديرات.

وقد سبقهم العثمانيون إلى المطالبة بإعادة القانون الأساسي ومجلس (المبعوثان)

(أي: النواب) ، وترى أهم حديث للجرائد التونسية في هذه الأيام حديث مجلس

الشورى عندهم، والمطالبة بإنصاف التونسيين من الأوربيين.

لكن الفرق بين المصري وأخيه العثماني؛ أن الأول يجهر بطلبه في بلده،

ويناقش حكومته جهرًا، في المجالس الرسمية، وفي الجرائد، وفي المحافل العامة

والخاصة، وقد يطعن عليها وعلى القوة المشرفة عليها، وهي تبيح له ذلك.

والعثماني لا يتجرأ على الحديث بذلك في بلاده؛ وإن كان في كسر بيته قد أغلقت

دونه الأبواب، وأرخيت عليها السجوف والأستار؛ لأنه أعلم الناس بالمثل القائل:

للحيطان آذان، وهو لا يأمن على نفسه الأهل والجيران؛ لأن الاستبداد قد أفسد

الناس أي إفساد، حتى صار الرجل الحر يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وفصيلته التي

تؤويه، وإنما يجهر بذلك في أوربا ومصر، وكل بلاد ليس فيها لأبناء جنسه

سلطان ولا حكم.

فأعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوربيين معرفة ما يجب أن تكون عليه

الحكومة واصطباغ نفوسهم بها، حتى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيد بالشورى

والشريعة بالحكم المطلق الموكول إلى إدارة الأفراد، فمنهم من نال أمله على وجه

الكمال كاليابان، ومنهم من بدأ بذلك كإيران، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم

واللسان، كمصر وتركيا.

ليست هذه الفائدة بالشيء التافه، ولا بالأمر اليسير، ولا هي بالمنفعة التي

تقرن بالنظائر، بل هذه مرتبة البشرية العليا، في هذه الحياة الدنيا، فإن القوم الذين

يرضون أن يستبد بهم حاكم؛ يقبل فيهم ما يشاء، ويحكم بما يريد، ينبغي أن يعدوا

من الدواب الراعية، والأنعام السائمة إذن هذه الفائدة هي عبارة عن الارتقاء من

حضيض البهيمية إلى أفق الإنسانية، فحسب الشرق إن استفاد هذه الفائدة وعرف

قيمتها.

لا تقل أيها المسلم: إن هذا الحكم أصل من أصول ديننا، فنحن قد استفدناه من

الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا معاشرة الأوربيين، والوقوف على

حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس؛ لما فكرت أنت وأمثالك

بأن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء

الدين، في الآستانة، وفي مصر، ومراكش، وهم هم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد

حكومة الأفراد الاستبدادية، ويعد من أكبر أعوانها، ولما كان أكثر طلاب حكم

الشورى المقيد هم الذين عرفوا أوربا والأوربيين، وقد سبقهم الوثنيون إلى ذلك.

ألم تر إلى بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوربيين كيف يتخبط في ظلمات

استبدادها؟ ولا تسمع من أحد كلمة شورى؛ مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة

لسورة الشورى، ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر بالمشاورة، وفوض

حكم السياسة إلى جماعة أولي الأمر والرأي.

فإن قلت: إن أول من نبه المصريين إلى حقوق الأمة على الحاكم، وإلى

فضل حكومة الجمهورية، والملكية المقيدة على الحكومة الاستبدادية، شيخان من

شيوخ الدين وإمامان من أئمة الإسلام، وهما: السيد جمال الدين والشيخ محمد

عبده، وإنك أنت قد نشرت في (المنار) مقالات للسيد مقالات في (الحكومة

الاستبدادية) ، كانت مما نشره هو في بعض الجرائد على عهد إسماعيل باشا، وهي

تحرك الجماد، وصرحت في ترجمة الشيخ بأنه كان يدعو إلى ذلك، وأنه قال، بل

كتب عن نفسه هذه الكلمة الجليلة: دعونا إلى هذا والاستبداد في عنفوانه، والظلم

قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد، وقد

كان مضى على المصرين أكثر من نصف قرن، وهم يتدارسون علوم أوربا،

ويشتركون مع الأوربيين في كثير من الأعمال، ويتزاحمون معهم بالمناكب،

ويتبادلون بالأموال ولم يخطر في بالهم أن يقلدوهم بإصلاح الحكومة والسيطرة

عليها.

إن قلت هذا؛ محتجًا على أننا نحن المسلمين، قد اقتبسنا فائدة مقاومة

الاستبداد من الدين، فإن لي أن أجيبك عن ذلك؛ بأنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا ذلك

كما رأيت في مقدمة هذا المقال. كيف؟ وإنني لم أطلع على كتابة لأحد في ذلك

أوسع مما كتبته في (المنار) ، وإنني مطلع على سيرة هذين الإمامين الحكيمين

وعالم بأنهما كانا قد عاهدا توفيق باشا؛ قبل أن يصير الأمر إليه على نصره

وعاهدهما هو على إنشاء مجلس نيابي، وعلى تعميم التعليم في القطر المصري

ومع هذا كله أقول: إننا لولا اختلاطنا بالأوربيين؛ لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو

أمم إلى هذا الأمر العظيم، وإن كان صريحًا جليًّا في القرآن الحكيم، نعم إن

أستاذينا الحكيمين - رحمهما الله تعالى - أهل لأن يفهما ذلك من القرآن؛ لأنهما أول

من دعا في هذا العصر إلى جعله أساسًا للإصلاح، وبينا من حكمه وفضله، ما

عجزت الأوائل عن الإتيان بمثله. ولكن كلامنا في تنبه الشعوب الشرقية على

اختلاف مللها ونحلها، لا تنبه فيلسوفين من أهل ملة منها، على أن هذين الحكيمين

قد استفادا من الاعتبار بحال أوربا، وعرفا حال أهلها قبل دعوتهما إلى هذا

الإصلاح.

لا ينبه الأمة إلى مثل هذا التغيير العظيم إلا الإحساس بالخطر، والخوف من

سوء العاقبة، ورؤية العبر بأعينها، وسماع أخبار الذين صرعوا الاستبداد من قبلها

ولذلك نقول: إننا ما عرفنا قيمة هذه الفائدة إلا بعد أن أحسسنا بالغائلة التي تقابلها

وهي مواثبة استقلالنا، والاعتداء عليه، وهي ما سنبينه في قسم المضار، إن شاء

الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 279

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من بعض أهل العلم بتونس

التوحيد وتوفي ملك الموت للناس

(س14) أعظم أساس أقيم عليه هيكل الإسلام توحيد الله - تبارك

وتعالى - واعتقاد أنه وحده المتصرف في الكون، وكيف تجامع هذه العقيدة

الاعتقاد بملك الموت الذي جاء به قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي

وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) ، فما الحكمة في تفويض أمر توفي الأنفس لهذا الملك؟

(ج) إن تفويض التوفي إلى بعض الملائكة، كتفويض تبليغ الوحي للأنبياء

إلى بعضهم، وكتفويض تبليغ الرسالة للناس إلى المرسلين، وكتفويض غير ذلك

من الأعمال إلى المخلوقين، كل ذلك لا ينافي التوحيد وكون الله سبحانه وتعالى

هو المتصرف في الكون؛ لأنه عز وجل هو الذي أقدرهم، وهو الذي سخرهم،

ولو سلبهم ما أعطاهم لما قدروا على شيء.

ولكن قضت حكمته أن يربط أمور الكون بعضها ببعض، فيجعل هذا سببًا

لذاك، وهو واضع الأسباب والمسببات، ومدبر العلل والمعلولات، وقد بين لنا في

كتابه كلتا الحقيقتين: حقيقة ربط الأسباب بالمسببات، وحقيقة انفراده بالخلق

والتدبير. ومنه ذلك الربط والتسخير. فكما قال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ

بِكُمْ} (السجدة: 11)، وقال:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) ،

وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر: 62) ، ولكل

مقام مقال، ولا تنافي بين الحقيقتين عند العقلاء، حتى من أهل الوثنية الراقية

كمشركي العرب وقت البعثة، وإنما كان شرك هؤلاء خاصًّا بالعبادة، وهو التوجه

بالقلب إلى غير الله في قضاء الحاجات عند العجز عن الوصول إليها من طريق

الأسباب، أو التقرب إلى الله، وما يتبع ذلك من دعاء المتوجَّه إليه، وجعله وسيلة

إلى الله، كما بَيَّن لنا ذلك الكتابُ العزيزُ في آيات تنطق بأنهم كانوا يعتقدون أن الله

خالق كل شيء، وأن ما يدعون من دونه إنما يدعى؛ ليشفع لهم عنده، ويقربهم إليه

زلفى، وهذا هو الشرك في الألوهية، وقد شرحناه مرارًا كثيرة في بابي: التفسير

والفتاوى وغيرهما من أبواب المنار وترى منه شيئًا في التفسير من هذا الجزء. وهذا

النوع من الشرك هو الذي ابتلي به أكثر الخلق بما يقيسون في هذا الأصل الذي يجب

أن يكون مبنيًّا على البرهان القطعي، لا على القياس الظني أو الوهمي، وناهيك

بقياس الرب الرحيم العليم الحكيم على الملوك القساة الجهلاء السفهاء، إذ يقولون: إن

الملك يقضي حاجات الناس بواسطة المقربين إليه من حاشيته، أو وزرائه، أو يكل

إليهم ذلك، ولا يسمح لكل أحد أن يطلب حاجته منه مباشرة، فكذلك يفعل الله -

سبحانه وتعالى عما يصفون -، فقد أبطل هذا القياس على ألسنة جميع رسله، وهدى

الناس إلى أن يلتمسوا منه حاجاتهم بالسيرعلى سنته في الأسباب والمسببات حتى إذا

أعوزهم السبب وضاقت بهم السبل، ونفدت منهم الحيل، وجب عليهم أن يلجؤوا

إليه، ويعولوا في أمرهم عليه، ويخصوه بالدعاء، ويقصروا عليه الرجاء عسى أن

يهديهم إلى ما جهلوا من الأسباب، أو يخفف عليهم ثقل ما حملوا من الأوصاب، ولم

يأذن لهم أن يدعوا من دونه أحدا، ولا أن يطلبوا منه عونًا أو مددًا أما تقرأ ما أمر به

خاتم أنبيائه، وصفوة أصفيائه {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لَا

أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً

* إِلَاّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 20- 23) ، فإذا كان خاتم النبيين

والمرسلين، لا يملك للناس ضرًّا يدفعه، أو نفعًا يرفعه، أو رشدًا يهدي به القلوب،

بل يملك التبليغ للرسالة فقط، وهو فيما عدا ذلك بشر مثلكم، فماذا تقول بغيره

ممن يطلب منهم ذلك؟

أما الحكمة في جعل قبض الأرواح موكولاً إلى ملك الموت، فهي داخلة في

الحكمة العامة في ربط الأسباب بالمسببات، وجعل الأرواح اللطيفة عاملة في

الأجسام الكثيفة، وعلى طالب الحكمة أن يعرف ذلك، فمتى عرفه أو عرف منه،

لم يقل: لم كان كذلك؛ لأنه يشاهد أنه منتهى الكمال في الإبداع، كما أن منتهى الجهل

في الناس أن يظنوا أن خلق كل شيء آنفًا هو أدل على كمال قدرة الخالق، كما

تخيلت القدرية، كأن هؤلاء الجاهلين يرون أن الحكمة والنظام ينافيان كمال القدرة،

تعالى الله عن جهلهم.

***

قيام الدين بالدعوة

وحديث (أُمرت أن أقاتل الناس)

(س15) الإسلام كما لا يخفى عليكم، قام بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة

لا بالسيف والقوة، كما يعتقد الكثير من أصدقاء الدين الجهلاء، وكيف يجامع هذا

قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله،

فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) فإنه صريح في أن القتال كان

للحمل على الدخول تحت لواء الإسلام؟

(ج) أما كون الإسلام قام بالدعوة لا بالسيف قطعي لا ريب فيه. وأما

الحديث فقد ورد في مشركي العرب الذين لم تقبل منهم الجزية بعد الإذن بقتالهم،

وما أذن للمسلمين بقتالهم إلا بعد أن آذوا النبي ومن معه، وأخرجوهم من ديارهم

وأموالهم، وقعدوا لهم كل مرصد، ووقفوا في سبيل الدعوة، فلم يكن الإذن إلا

للدفاع عن الحق، وحماية الدعوة كما بيناه مرارا، وليس الغرض من الحديث بيان

أصل مشروعية القتال، فإن هذا مبين في الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى: {أُذِنَ

لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39) الآيات،

وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (البقرة: 190)

الآيات، وإنما الغرض منه بيان أن قول لا إله إلا الله كاف في حقن الدم، وإن لم يكن

القائل لها من المشركين معتقدا؛ لأن الأمر في ذلك يبنى على الظاهر، وهذا بالنسبة

إلى وقت القتال، ولكنه بعد ذلك، يؤمر بالصلاة والزكاة، فإن امتنع عن قبولهما لا

يعتد بإسلامه، كما يؤخذ من رواية (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول

الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) وهو في الصحيحين على غرابته؛ لأن شعبة

تفرد بروايته عن واقد وقد عد من الإشكال فيه أن يكون راويه ابن عمر مع ما علم من

محاجة عمر لأبي بكر في قتال مَانِعِي الزكاة، ولم يحتج به عمر، ولا ابنه قاله له.

وأجاب ابن حجر عن هذا باحتمال نسيان عبد الله له في ذلك الوقت. ومما يؤيد قولنا

أَنَّ الحديث خاص بالمشركين وإن كان لفظه عامًّا؛ رواية النسائي له بلفظ: (لا

أمرت أن أقاتل المشركين) ، وقد علمت أن المراد بيان غاية القتال لا مشروعيته،

وأن سبب مشروعيته الدفاع وتأمين الدعوة ومنع الفتنة، لا الإكراه على الدين المنفي

بنص القرآن الحكيم.

***

الاضطهاد في الدين وقتل المرتد

(س16) إذا كان الإسلام لا يضطهد أحدًا لعقيدته، فكيف يشرع قتل المرتد

الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ؟

(ج) كان المرتد من مشركي العرب، يعود إلى محاربة المسلمين وإيذائهم

فمشروعية قتله أظهر من مشروعية قتال جميع المشركين المحادين للإسلام. وكان

بعض اليهود ينفر الناس من الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم بإظهار الارتداد عنه ليقل

قوله بالطعن فيه قال تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي

أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران:

72) ، فإذا هدد أمثال هؤلاء بقتل من يؤمن ثم يرتد، فإنهم يرجعون عن كيدهم هذا

فالظاهر أن الأمر بقتل المرتد كان لمنع شر المشركين، وكيد الماكرين من اليهود

فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر، التي تسمى في عرف أهل عصر

سياسة عرفية عسكرية، لا لاضطهاد الناس في دينهم. ألم تر أن بعض المسلمين

أرادوا أن يُكرِهوا أولادهم المتهودين على الإسلام، فمنعهم النبي - صلى الله عليه

وسلم - بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير، والإسلام في أوج

قوته. وفي ذلك نزلت آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .

***

حكاية القرآن

المسخ في بني إسرائيل

(س17) جاء في القرآن الحديث عن مسخ بعض الأمم من بني إسرائيل،

فهل هو محمول على حقيقته من انقلاب الأعيان، كما هو مذهب الجمهور (وهو

مخالف لسنة الله في الكون) ، أو هو محمول على التشنيع بحالهم، كما هو مذهب

مجاهد؟ وإذا كان كذلك، فبماذا نجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم (مسخت

امرأة من بني إسرائيل) ؟

هذه الآية وما ماثلها تعد من أصول الدين وقواعده العامة التي تقضي على

غيرها، ولا يقضي عليها شيء، ولا يمكن رد الحديث إليها فيما وصل إليه علمنا

إلا بحمله على ذلك السبب الخاص، فكأن الضرورة قضت بذلك في تلك

الحال.

(ج) لفظ المسخ لم يرد في القرآن إلا في آية واحدة، هي قوله - تعالى -:

{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِياًّ وَلَا يَرْجِعُونَ} (يس:

67) ، وهي بيان لقدرة الله - تعالى - على الانتقام منهم لو شاء. ولكنه لرحمته لم

يفعل كل ما يقدر عليه من التنكيل بالكافرين والظالمين، والمروي عن السلف تفسير

المسخ هنا بالإقعاد أو الإهلاك. روى ابن جرير عن الحسن {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ

عَلَى مَكَانَتِهِمْ} (يس: 67) قال: لو نشاء لأقعدناكم. ورواه عن قتادة بلفظ

(لأقعدناهم على أرجلهم فما استطاعوا مضيًّا ولا يرجعون، فلم يستطيعوا أن يتقدموا

ولا أن يتأخروا) وروي عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها: (ولو نشاء أهلكناهم

في مساكنهم) . ولم يرو عن أحد أنه قال: إن المسخ تحويل الخلقة من شكل إلى

شكل.

ويقول الراغب في المفردات: إن المسخ تشويه الخلق والخُلق، وتحويلهما

من صورة إلى صورة، وهو مأخوذ من مسخت الناقة أي: أنضيتها، حتى تغير

خلقها، ولا يفهم منه أنك جعلتها بقرة. والحديث الذي ذكرته لا أتذكر أين يوجد.

ولكنني أعلم أنه ليس في الصحيحين. والخطب في مثله سهل بعد الذي علمت، وبعد

العلم بأن هذه الروايات في الأمور التي يطلب فيها العلم الصحيح ليست مما يحتج

به.

***

الدابة التي تتكلم في آخر الزمان

(س 18) ما معنى قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً

مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} (النمل: 82) فهل الآية محمولة على ظاهرها أو هي كناية عن ظهور العجائب؟

(ج) هذه الآية مما أخبر الله به عن المستقبل البعيد، فهي من أنباء الغيب

التي تؤخذ بالتسليم، ما لم يكن ظاهرها محالا، فتحمل على خلاف الظاهر بالتأويل

كما هي القاعدة، وكلام الدواب ليس محالا في نظر العقل؛ ولذلك يطمع علماء

الإفرنج الآن، في معرفة لغة بعض الحيوانات كالقرود والببغاء، تتكلم بالقدر

المعروف، ويحتمل أن تترقى في هذا الكلام، كما يحتمل أن توجد حيوانات أخرى

تكلم الناس، ولا نقبل أقاصيص المفسرين في ذلك.

***

طائفة محمد بن عيسى

أكلة الثعابين والنار

(س19) من الناس طائفة تنتسب إلى الشيخ محمد بن عيسى، وتأتي من

المنكرات ما يتقطب له وجه السنة. ولكن تظهر من الخوارق ما يقف الناظر متحيرًّا

دون الوصول إلى حقيقته، وإدراك كنهه، كأكل ذوات السموم، وابتلاع المدى،

وإدخال السيف في البطن والعين، وإلصاق النار بالبشرة وأكلها، وليس شيء من ذلك

بضار لهم. فما الحقيقة فيما يأتونه؟

(ج) لو قرأتم ما كتبناه في الكرامات وخوارق العادات في المجلس السادس

وغيره لاكتفيتم به عن السؤال بهذا.

إن الذين يتخذون عمل الغرائب صناعة كثيرون في كل أمة، وأنواع هذه

الغرائب كثيرة، وكل عاقل يجزم بأن ما يراه منهم يمكن أن يكون من غيرهم؛ إذا هو

تمرن عليه، وهو على نوعين: شعوذة يخيل صاحبها إلى الرائي غير الحقيقة،

وأمور طبيعية جاءت على غير ما يعرف الرائي فظن أنها غير طبيعية، ومتى ظهر

للإنسان شيء من أعمالهم على حقيقته، وعرف سببه بطل تعبه، والعاقل يقيس ما لم

يعلم من ذلك على ما علم.

فأما أكل ذوات السموم وهي الثعابين، فهو لا يضر الآكل بطبعه له، وقد

استخرج بعض الأطباء سم الثعبان وأكله. وإنما يضر إذا أصاب الدم ابتداء. ولكن قد

يضره الوهم إذا هو أكله معتقداً أنه ضار. وأما ابتلاع المدى فما أراه إلا من الشعوذة،

فهو يخيل إليك أنه ابتلع المدية من حيث يكون ألقاها بخفة لم تشعر بها.

وأما إدخال السيف في البطن والحربة في جفن العين، فقد شاهدت عمل

الرفاعية له، ورأيت أنه إيهام وتخييل. وأما مس البشرة بالنار فهو مما قد يكون

بالتعود، ومما قد يكون بالتخيل، وكلاهما مما شاهدته، وقد أحرجت واحدًا منهم

وأردته على أن يمكنني من وضع النار حيث أريد من بدنه، فلم يقبل ثم استتبته

فأظهر التوبة عن مخادعة الناس بذلك. ولك أن تراجع ما كتبناه من قبل في ذلك.

_________

ص: 285

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(فرائد اللغة العربية)

في لغتنا الغنية فرائد كفرائد اللآل، قد أُهمِلت على جدارتها بالاستعمال،

ومنها المفردات التي يؤدي الواحد منها معنى جملة. وكنت شرعت في جمعها قبل

الهجرة إلى مصر، فكتبت منها أوراقًا من حرفي الهمزة والباء، ثم حَالَ السفر دون

المضي في العمل. وقد عنَّ لي الآن أن أَذكُر بعض هذه الفرائد؛ أُذكِّر بها الكُتَّاب

لعلهم يستعملون منها ما يروق لهم. ولم أراع في الكلمات الآتية ترتيبًا ولا نظامًا إلا

ترتيب ما يخطر ببالي أولاً فأولا. وهاك ما خطر الآن:

(التَّجْذِيذ) : أن تستتبع القوم فلا يتبعك أحد، وهو مصدر جذَّذ الرجل.

(العِدَال) ككتاب: أن يقول واحد فيها بقية وآخر ليس فيها بقية، وأن

يعرض أمران فلا تدري إلى أيهما تصير، فأنت تتروَّى في ذلك، وهو مصدر

عادل.

(اللُّويَة) بالضم كالكوفة: القوم يكونون مع القوم؛ ولا يستشارون في شيء.

(العرازيل) قوم عرازيل: مجتمعون في لصوصية.

(الأوشاب) : أخلاط الناس المتفرقون، ومثله (الأوزاع) .

(الأوقاس) بالمهملة والمعجمة: السقاط والعبيد وأشباههم.

(الغوغاء) : السفلة، واستعماله بمعنى الضوضاء والجلبة خطأ. وقيل

الغوغاء: الكثير المختلط.

(الطراء) القوم يجيئونك من بعيد من غير أن تشعر بهم، وهو من

الطراء والطروء.

(النفيج) الأجنبي يدخل بين القوم، ويصلح أمرهم أو الذي يعترض لا يصلح

ولا يفسد.

(المتنفج) الذي يفتخر بأكثر مما عنده.

(النفاج) المتكبر يفتخر بما ليس عنده.

(العِرِّيض) بكسر العين وتشديد الراء: الذي يتعرض للناس بالشر.

(الغيدار) الذي يسيء الظن فيصيب.

(المعِنّ) بالكسر: من يدخل فيما لا يعنيه ويعرض في كل شيء، وهي

معنة.

(المفِنَّ) بالكسر: ذو الفنون والغرائب، وهي مفنة.

(الفجفاج) الكثير الكلام، المتشبع بما ليس عنده.

(الضعضاع) الرجل بلا حزم ورأي، ومثله الضعضع.

(الوهين) الرجل يكون مع الأجبر يحثه على العمل. (عزاه التهذيب إلى

أهل مصر) .

(التوليج) ولج ماله: إذا جعله في حياته لبعض ولده، فسامع الناس

فانقدعوا وكفوا عن سؤاله. يقال: ولَّج ماله.

(الإغراب) أغرب الرجل: بالغ في الضحك، وتزوج من غير أهله.

وأجرى فرسه إلى أن مات.

(التنصي) تنصى القوم: تزوج من خيارهم وشرفائهم الذين هم ناصيتهم.

ومثله نذراهم أي: تزوج من ذروتهم.

(الفراطة) كثمامة: الماء يكون شرعًا بين عدة أحياء، مَن سبق إليه فهو له.

(التناوة) بالكسر: ترك المذاكرة والمدارسة.

(الإفتاق) يقال أفتق فلان: إذا سمنت دوابه.

(الإفناق) يقال أفنق الرجل: تنعم بعد بؤس.

(الافتجار) يقال افتجر الكلام: اخترقه من غير أن يسمعه أو يتعلمه من أحد.

(الافتحار) يقال افتحر الكلام والرأي: أتى به من قصد نفسه ولم يتابعه

عليه أحد.

(التجرم) تجرم عليه وتجنى عليه وتذقح له: نسب له الذنب ما لم يفعل.

و (الذُّقَّاحة) بالضم وتشديد القاف: من تعود التذقح والتجرم.

***

(تاريخ الأستاذ الإمام)

قد تم طبع الجزء الثاني والثالث من هذا التاريخ، فأما الثاني: فهو في منشآته

وآثاره القلمية التي لم تدون في الكتب: كمقالاته القديمة والحديثة في الجرائد،

ولوائحه في الإصلاح والتربية والتعليم، وكتبه ورسائله للعلماء والفضلاء، وناهيك

بمقالات العروة الوثقى وصفحاته 560.

وأما الثالث: فهو في التأبين والتعازي والمراثي، وصفحاته 428، ولعلها

أطرف كتب الأدب العصرية وأنفعها. وإننا نقرظ كلاًّ منهما بنشر مقدمته؛ فإنها

أحسن مبين لحقيقتها.

(مقدمة الجزء الثاني)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي

إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس: 12) .

مات الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) ولم يمت، بل هو حي بآثاره التي

هي مقبس أنواره، مات الموتة الطبيعية، وحيي الحياة العقلية الروحية، فهو لا

يزال كما كان، قبل أن يغيب عن العيان، تنقل أقواله، وتذكر أعماله، وتكتب

معارفه، وتشكر عوارفه، ولا غرو فإن للعلماء والحكماء في هذه الدنيا حياتين؛

حياة جسدية محدودة تبتدئ بيوم الولادة وتنتهي بيوم الوفاة، وهي الحياة الحيوانية التي

يشاركهم فيها سائر الناس بل سائر الحيوان. وحياة عقلية روحانية غير محدودة

وهي تبتدئ بظهور ثمرات عقولهم النافعة لأئمتهم، أو لكل من يجنيها من الناس،

وتدوم ما دام الزمان، وبقي من الناظرين في آثارهم إنسان، وقد كان الأستاذ الإمام

من خيرة هؤلاء العلماء، وأفضل أصحاب هذه الحياة من الحكماء، تشهد له بذلك

آثاره المرقومة في وجوه الصحائف، ومآثره المرسومة في ألواح القلوب:

تلك آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

يسفر لك هذا السفر من تاريخ هذه الحياة عن الرجل؛ وهو فيما دون العاشرة

منها (وفي نحو الرابعة والعشرين من حياته الطبيعية) ، تارة يحرر الواردات

الآليهة في حقائق علم الكلام الأعلى، ويسير في المزج بين عرفان الصوفية وبرهان

الفلاسفة على الطريقة المثلى، متمكنًا من مقام التوحيد، متنكبًا عن مقعد التقليد،

على حين لا توحيد ولا كلام عند المشتغلين بالعلوم الدينية، إلا حكاية بعض ما قاله

متأخرو الأشعرية، وتارة يقتبس أنوار الحكمة من أستاذه السيد جمال الدين،

ويفيض منها على عقول المستعدين، بما يكتب من المقالات في فلسفة التربية

والصناعات، وآونة يحبر الفصول الإنشائية، ويجلي المعاني العصرية، في

أثواب الأسجاع الحريرية، ويزفها كالخرائد على منصات الجرائد، داعيًا إلى

استقلال الفكر، وتناول علوم العصر، حاثًّا على ترقية الأمة، حاضًّا على تجديد مجد

الملة، آمراً بالاتحاد على ترقية الأوطان، ناهيًا عن التعصب الذميم بين المختلفين

في الأديان، فهذا مثال طور الطلب والتحصيل من حياة الرجل العقلية، يبتدئ في

الكتاب برسالة الواردات، وينتهي بالتحفة الأدبية.

ثم يمثله لك في طور آخر. وهو تارة بين أرباب الرياسة، يرشدهم إلى طرق

الإدارة والسياسة، ويهديهم سبيل الرشاد؛ لترقية الرعية وعمران البلاد، وتارة

يشرف على الأمة بالوعظ والتعليم، ويسلك بها صراط الحياة المستقيم، ببيان

غوائل السرف وفوائد الاقتصاد، وتقويم النفوس بعقائل الفضائل وأحاسن الآداب،

بعد تطهيرها من لوث الخرافات، ومساوي التقاليد والعادات، يهبط على الفلاح في

حرثه فيخاطبه بما يفهم، ويعرج بطالب الحكمة إلى أفقه فيعلمه ما لم يكن يعلم،

وهذا هو المثال الأول لطور العمل، من الحياة المعنوية للرجل، تجليه لك مقالاته

في جريدة الحكومة الرسمية، وجل عمله فيها خاص بإصلاح حال البلاد المصرية.

ثم يجليه لك مع أستاذه في الديار الأوربية، متحدين على إرشاد جميع الشعوب

الإسلامية، السيد الحكيم يقترح ويدبر، والأستاذ الإمام يكتب ويحرر،

يدعوان إلى العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويجمعان القلوب على الوحدة وكانا

أحق بها وأهلها، هنالك تتجلى لك روح القرآن، هابطة من سماء الحكمة والعرفان

مؤيدة بالعزة والسلطان، تطوف بتلك العروة البلاد، وتصافح قلوب أهل الاستعداد

فتحييها حياة جديدة، وتجذبها إلى عيشة سعيدة، هنالك ترى الإلهام الإلهي يمد بتأثيره

العلم الكسبي، فيصيبان مواقع الإقناع من العقل، ويبلغان مواضع التأثير من النفس

فلا يقرأ القارئ ما في العروة من بيان حال المسلمين، وأسباب ما أصيبوا به من

البلاء المبين وما تطب لدائهم، وتصف من دوائهم إلا وينثني أسير البرهان مملوك

الوجدان بالإذعان، مندفعًا إلى العمل بذلك البيان بالجنان واللسان والأركان وذلك طور

مستوى القوة وكمال الفتوَّة، ومنتهى علو الهمة، وبيع النفس والوقت للملة والأمة.

ثم يظهره لك رابضًا في الديار السورية، يعمل لإصلاح الإسلام بإصلاح

الدولة العثمانية، أو مقيمًا في الديار المصرية، يبين لأولي الأمر طريق الإصلاح

بالتربية الدينية، وهو في القطرين يتكلم عن فهم ثاقب، ويرمي عن فكر صائب،

يبين طبائع البلاد والساكنين، ويجمع بين مصلحة الحاكمين والمحكومين، ويهديهم

إلى الطريق القويم، في نظام التربية والتعليم معرِّضًا باستعداده لتنفيذ العلم بالعمل،

مصرحًا بضمان تحقيق الأمل، وفي ذلك ما فيه من اعتماده على الله، وثقته بالقوى

والمواهب التي آتاه، يلوح لك ذلك في لوائح الإصلاح، وما فيها من إشراع مناهج

الفلاح.

ثم يبرزه لك في طور المبارزين للطاعنين على الدين المبين، فيتراءى لك أن

قلمه أمضى من الحسام، وكلمه أنفد من السهام، فهو بهما يكرّ ويصول ويجندل من

المجادلين الفحول، ولا ينثني إلا والحق غالب على أمره، والباطل مغلوب يَأْرِز

إلى جحره، وحسبك من ذلك رده على موسيو هانوتو في قوله في طبيعة الديانتين

الإسلامية والمسيحية، ثم رده عليه في مسألة الجامعة الإسلامية.

ثم يريكه يجوب الأقطار، ويقطع أجواز البحار؛ للنظر في آثار الأولين

واستخراج العبر منها للآخرين، فتراه في صقلية مرة، يتصفح الصحف والأسفار،

ويستنطق العاديات والآثار، ويقرأ ما نقش على الجدران بالعربية؛ لتحقيق المسائل

التاريخية. ومرة يبحث عن الأخلاق والعادات، وينقب عن المنشآت والمستحدثات

يتردد بين الأديار والكنائس والمقابر والمدارس، ثم يزف ما استفاد إلى أمته، فيما

كتب عن رحلته.

ثم يكشف لك عن الحجاب، وهو يراسل العلماء والكبراء والكتاب، فتارة يتلو

عليك من كتبه إلى حزب المصلحين، وأهل البصيرة من علماء المسلمين ما تخشع

له القلوب، وتتحدر من وقعه الشؤون، فكأنك منه وقد عاد بك الإسلام إلى عصر

النبي عليه الصلاة والسلام فرأيت نفسك تتدفق غيرة على الدين، وتفيض

حزنًا على ما حل بالمؤمنين، فلم يبق لها هَمّ إلا أن تكون كلمة الحق هي العليا وكلمة

الباطل هي السفلى، أو كأنك معه في عصر الراشدين، كأنه معك أمير المؤمنين

يصول على الأرواح بمواعظه الصادعة، ويختلب الألباب ببلاغته الرائعة.

ومرة يشنف مسامعك باللؤلؤ والمرجان، من رسائل الوداد إلى الأصدقاء

والخلان، فيمثل لك الأدب الباهر واللطف الساحر، ويصور لك الوفاء في أجمل

صوره، والإخلاص في أجل مظاهره، والصدق في الحب على البعد والقرب،

ويريك من ذلك الرجل الحزين على أمته، المستغرق في عمل الإصلاح لملته،

أديبًا ظريفا، ونديمًا لطيفا، حسن الأماليح مليح الأفاكيه:

حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت

بشدة البأس منه رقة الغزل

وآونة يقرئك مما كتب إلى المؤلفين بالعربية، أو المترجمين للكتب الأجنبية،

ما يرفع من أقدارهم، ويشب من نارهم، وما يشحذ غرار همتك ويزجي ركاب

عزيمتك، إلى أن تكون من زمرتهم، وتساهمهم في مثل خدمتهم.

وأحيانًا يسمعك من تعازيه للمحزونين ومواعظه للمرزوئين بالأقربين ما

يحلو به مرير الصبر، ويرغب فيما عند الله من المثوبة والأجر، ويترك

القلوب مفثوءة الثائرة قد سكنت قدرها الفائرة، وأنشأت تشيع الأحزان، وتستقبل

السلوان.

ثم يختم لك ذكرى هذه الحياة الروحية، والآثار العقلية بشذرات من الحكم

المنثورة، والآيات المأثورة، فترى إجمالاً ينبئ عن تفصيل وقليلاً لا يقال له

قليل، كأنه صورة مصغرة لتلك الروح الكبيرة، أو عناوين لتلك الكتب

المسطورة على أن الكتاب كله نَتْفٌ من أقواله ونموذج من أعماله، وأن آثاره

في النفوس لأعظم من آثاره في الطروس، فهو حي في الآخرة بما قدم من

عمل، حي في الدنيا بما ترك من أثر، يمثل حياته هذا الكتاب الناطق

وينشر خبرها الصحيح مريده الصادق.

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

...

...

...

...

منشئ المنار

مقدمة الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام:

162) .

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) .

كانت حياة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في جميع أطوارها وأدوارها

خالصة لله - تعالى - من شوائب الرياء، وزعزعة الأهواء، ومات كذلك خالصًا

مخلصًا لله، لا يرجو غيره، ولا يخشى سواه؛ لذلك كان في محياه ومماته آية في

العلم والعمل لله وللناس، وحجة على أهل الجهل والجمود والجحود من جميع

الأجناس.

رأينا في عصرنا كثيرًا من أهل الشهرة والظهور في أمتنا، من المرشدين

والعلماء والملوك والأمراء والشرفاء والأغنياء قد حيوا مكرمين وماتوا مبكيين وما

كانت حياة أحد منهم كحياته، ولا مماته كمماته.

ما رأينا أحدًا منهم في حداثته فطريًّا زكيًّا، وفي شبابه متعلمًا صوفيَّا وفي

كهولته فيلسوفًا اجتماعيًّا، وفي شيخوخته حكيمًا ربانيًّا.

ما رأينا أحدًا منهم يعمل لترقية الناس في الدين والدنيا، من حيث لا يطلب

لنفسه إلا الحياة الأخرى.

ما رأينا أحدًا منهم كان يرجوه الفقير لنيل نواله، ويسترشد به الغني ليفيد

ويستفيد بماله، ويرجوه المتعلم ليقتبس من حكمته وفهمه، ويستهديه العالم الذي يريد

أن ينفع بعلمه، ويرجوه المحكومون لما يريدون عند الحاكمين، ويستفيد منه الحكام

كيف يعدلون في المحكومين.

ما رأينا أحدًا منهم كان قبلة آمال المصلحين، في السياسة والعلم والدين، قد

أتلعت الأعناق وامتدت الأبصار من جميع الأمصار والأقطار، ترقب آثار إصلاحه

وتنوط فلاحها بفوزه ونجاحه، فالمصري في وطنه يرجوه لمصر، والمسلم في

كل وطن يرجوه للإسلام، والشرقي غير المسلم يرجوه للشرق.

هكذا كان مرجوًّا في حياته للعالمين، إذ كان محياه خالصًا لله رب العالمين،

وهكذا كان مرثيًّا من الناس أجمعين؛ إذ كان حتى مماته محبًّا لخير الناس أجمعين.

ثم ما رأينا منهم أحدًا مات فبكاه السني السلفي وغير السلفي، وحزن عليه

الشيعي والإباضي، ورثاه اليهودي والنصراني، وَأَبَّنَهُ الشرقي والغربي، واستوى

في التعزية عنه القريب بالأجنبي.

ما رأينا أحدًا منهم مات فنعته الجرائد كنعيه، وَأبَّنتْهُ بمثل ما أبنته به، على

اختلافها في العقائد والمذاهب، وتباينها في المنازع والمشارب، وعلى ما كان له في

عالم الاجتماع من الزعامة، وفي عالم الدين من مرتبة الإمامة، وهما المزيتان اللتان

يتحاسد عليهما الكبراء، وينبري لمباراة صاحبهما العظماء، بل يسلطون الألسنة

والأقلام على من يخطب واحدة منهما، فما بالك بمن يتمكن من الجمع بينهما، وما

كانوا عن الأستاذ الإمام بغافلين، ولا عن النيل منه بساكتين.

ما رأينا أحدًا منهم مات فعُدَّ موته موتًا للفقراء، موتًا للعلم والعلماء، موتًا

للبلاغة والبلغاء، موتًا للصدق والوفاء، موتًا للإخلاص والصفاء ورزؤه رزءًا

للمصريين، بل رزءًا للمسلمين، بل رزءًا للإنسانية ومصابًا على أهلها أجمعين.

ما رأينا أحدًا منهم مات فتجاوبت الأقطار بالتعزية عنه، وتناوحت الأمصار

بالرثاء فيه، وشهد له القريب والبعيد، والغوي والرشيد، والذكي والبليد، بأنه إمام

الزمان، وسدرة منتهى العرفان.

هكذا كان وقع موته في العالمين؛ لأنه مات كما عاش خالصًا مخلصًا لله رب

العالمين.

ليس هذا الذي أقول من خيالات الشعر، ولا من باب الإطراء في المدح، ولا

هو من قبيل شهادة القريب للقريب، ولا من إعجاب الصديق والوديد، ولا من

إجلال التلميذ أو المريد، وإنما هو الحق اليقين الذي دونته أقلام الكاتبين، إملاء

على ألسنة الناطقين، وهذا السفر بعض ما دونوا، وما دونوا إلا بعض ما علموا.

ترى في هذا السفر إثباتًا لاعتقاد قوم من المؤبنين والمعزين والراثين،

وتصويرًا لشعور طوائف من العلماء والفضلاء والشعراء والكاتبين قد تقاربوا، بل

اتحدوا على تباعد الأقطار، واتفقوا على اختلاف اللغات والمذاهب والديار، في

إثبات المعاني التي أثبتنا، مع تفصيل لما أجملنا، وذلك هو التواتر الحقيقي، المفيد

للعلم اليقيني.

تواتر لم يعهد له عندنا مثال، دونته الطبقة الأولى في الكتاب، عن تواتر سار

مسير الأمثال، به عرفه البعيدون من الشعراء والكتاب، لا بتوارد الخواطر كما يقع

الحافر على الحافر، ولا بوحي من آحاد متواطئين إلى جماعات غير متعارفين، إذ

لا سبيل إلى التواطؤ، ولا ذلك الاعتقاد والشعور مما يكون بالتوارد.

يدور الكلام في تلك التآبين والتعازي والمراثي على أربعة أقطاب: (1)

بيان الاعتقاد الذي تتبعه الآمال، و (2) تمثيل الشعور، و (3) ذكر الأعمال،

و (4) تخيلات الشعر، وإن هي تخللت النثر، وإنما يأتي توارد الخواطر في هذا

القسم الآخر، كقولهم: لو كان يُفْدَى لفديناه بكذا، وإن الحياة بعده أسى وأذى، وإنه

كان بحرًا في الجود والعلم، وطوداً في الثبات والحلم. فأما ما هو من قبيل الأعمال

أو من إثبات الأخلاق والخصال، فهو مما لا يكاد يتفق فيه خاطران، فكيف تتفق

فيه خواطر الزرافات والوجدان.

ترى في هذا السفر أقوالاً للأفريقي والأسيوي، والأمريكي (المقيم في أمريكا)

والأوربي، ولك أن تقول للعربي والتركي والفارسي والملاوي والإفرنجي والبربري

وإن شئت قلت للمسلم السني والشيعي وللنصراني واليهودي تتفق هذه الأقوال في

معان يجزم كل من رآها أنها ناشئة عن اعتقاد سببه انتشار فضل الرجل في جميع

الأقطار والبلاد، حتى كان جديرًا بقول الشاعر:

وسار مسير الشمس في كل بلدة

وهب هبوب الريح في البر والبحر

هذا ما يؤخذ مما نشر في هذا الكتاب، وإليك كلمات مما قاله بعض

المشهورين في هذا الباب، منها ما قيل في حياته، ومنها ما قيل بعد مماته.

(ثم قلنا بعد أن أوردنا كلمات كبيرة فيه لبعض المشهورين كمختار باشا ورياض باشا

كانت نشرت في المنار) .

هذا بعض ما سمعنا وما روينا، على أن الأمة لما تعرف كنه من فقدنا، كما

يقول العقلاء المنصفون، وسيثبت الزمان حقيقة ما يقولون، فائتونا بعالم نحرير،

أو ملك أو أمير، اعترفت له الأمم بهذا الفضل الكبير.

ينقسم هذا الجزء إلى أقسام:

(الأول) : أقوال الجرائد العربية وفيه فصول: (1) للجرائد اليومية

المصرية، و (2) للجرائد الأسبوعية، و (3) للمجلات، و (4) للجرائد

التونسية، و (5) للجرائد السورية في أمريكا الشمالية والجنوبية. أما جرائد سورية

في سورية فقد منعت من تأبين الإمام، بل من ذكر خبر موته بأمر من السلطان (وهو

من ص 9 إلى150) .

(القسم الثاني) : أقوال الجرائد الإفرنجية، وفيه فصلان:(1) للجرائد

التي تصدر في القطر المصري وقد ترجمنا أكثرها، و (2) للجرائد التي تصدر

في أوربا، ولم يصل إلينا إلا قليل منها (وهو من ص 151-184) .

(القسم الثالث) : أقوال الجرائد التركية والفارسية، ولا تركية إلا ما يصدر

في مصر؛ لأنها هي الحرية بِمَا لَهَا من الحرية بإظهار شعور فضلاء الترك،

واعتقادهم بفضل هذا الإمام العظيم دون التي في بلادها (من ص185-198) .

وقد فاتنا ما كتبت الجرائد الهندية؛ إذ لم يتيسر لنا جمعها وترجمتها في مصر

وكنا رغبنا إلى عظيم من عظماء مسلمي الهند، وأعلمهم بقيمة الإمام، وأشدهم له

حبًّا، بأن يترجم لنا أهم ما كتبته جرائدهم؛ فحالت الموانع - من مرض وسفر -

دون إتحافنا بما كان يحب من ذلك.

(القسم الرابع) : نموذج من تأبين بعض العلماء والفضلاء، كان نشر بعضه

في الجرائد (من ص 199-235) بعد الوعد به.

(القسم الخامس) : ما قيل في حفلة التأبين والرثاء عن القبر (236-

274) .

(القسم السادس) : التعازي: وهي نموذج مما كتب بعض المصريين

الذين كانوا خارج مصر ونموذجًا مما كتب المسلمون من سائر الأقطار (من ص

275-

300) .

(القسم السابع) : مراثي الشعراء مرتبة على حروف المعجم، وقد

اختصرنا أكثرها (من ص 301 - 422) .

(القسم الثامن) : ملحقان في الأول منهما: استدراك شيء تابع لقسم

التعازي، وهو تعزية مجلس شورى القوانين لأسرة الإمام، وما كتبه حموده بك في

جوابه وجواب تعزيتي محكمة الاستئناف والمستر براون. وفي الثاني: استدراك

آخر تابع لتأبين العلماء والفضلاء، وهو تأبين اللورد كرومر في تقريره الرسمي

عن حال مصر الإدارية والمالية، وتأبين المستشار القضائي في تقريره الرسمي عن

القضاء في مصر (ص423-428) .

رتبنا تأبين الجرائد في كل فصل على ترتيب أسمائها بحروف المعجم. وكذلك

رتبنا تأبين المؤبنين على حسب أسمائهم إلا ما شذ. وأما المراثي فرتبناها على

حسب حروف قوافيها، وقصائد كل قافية على حروف ناظميها، وما شذ عن

الترتيب فالسبب فيه تأخر ورود ما حقه التقديم، أو الخطأ من المرتبين، وقد وردت

إلينا تآبين ومراث أخرى بعد الفراغ من الفصول الذي قضى الترتيب بوضعها فيها

فأهملناها، ورأينا بعضها غفلا من التوقيع المعرف لصاحبها فأغفلناها، وقد حذفنا

كثيرًا من الإطراء والزهديات في القصائد التي اختصرناها.

وإننا نقدم إلى الأمة هذا السفر بالنيابة عن مؤلفيه، من ساسة العصر ومؤرخيه

وعلمائه وفضلائه، وكتابه وشعرائه، إحياء لذكرى نابغتها الأستاذ الإمام عليه من

الله الرحمة والرضوان.

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

...

...

...

...

... منشئ المنار

هذا وإن أجدر الناس بالاستفادة من هذين السفرين طلاب العلوم، من مجاوري

الأزهر وتلاميذ المدارس لا سيما الراغبون منهم في تحصل ملكة الكتابة، وبلاغة

الإنشاء، على أنهما مما يستفيد منهما كل قارئ.

وقد جعلنا ثمنهما رخيصًا بالنسبة إلى المطبوعات العصرية وإلى حجمهما، فإن

مجموعهما يبلغ زهاء ألف صفحة أو مجلدًا من مجلدات المنار. ولكن ثمنهما معًا

خمسة وعشرون قرشًا أو أقل من نصف ثمن مجلد المنار، وثمن جزء المنشآت وحده

خمسة عشر قرشًا، وجزء التأبين والمراثي وحده عشرة قروش على أنه مزين

بأحسن صورة للأستاذ الإمام. وهناك نسخ مطبوعة على ورق أجود يزيد ثمن النسخة

منها خمسة قروش. ومن يطلب نسخة مجلدة فعليه أن يزيد خمسة قروش أجرة

التجليد. أما أجرة البريد عن كل جزء فهي ثلاثة قروش.

***

(كتاب الأخلاق والسير)

كتب الإمام الجليل أبو محمد علي بن حزم كتابًا وجيزًا سماه (الأخلاق والسير

في مداواة النفوس) . يكاد يصدق على كلمة فيه قول بعض الحكماء: العلم الصحيح

هو ما إذا سمعته حسبت أنك كنت تعرفه؛ تقرأ ما تقرأ منه فتشربه نفسك، وتعرفه

فطرتك، ويحكم عقلك بأنه حكاية عن حقيقة ما عليه الناس في أنفسهم، ونتائج

أعمالهم، وآثار صفاتهم وأخلاقهم، ويلوح لخيالك أنه مرآة القلوب والأفكار. ذلك

أن مؤلفه لم يكن حظه منه كحظ أكثر المؤلفين؛ جمع وترتيب ونسخ وتبويب، بل

كان هو عقله وفكره وأدبه فاضت عن نفسه، فوقعت على الصحف، فكانت كتابًا

سواء منها ما كان محفوظ ومأثور، وما هو مستنبط ومعقول، فهو إذا نقل شيئًا ينقله

بعد أن يمقله ويعقله، بل بعد أن تتغذى به نفسه ويصير جزءًا منها حيا بحياتها،

كما يصير الطعام الذي يتغذى به البدن الحي جزءًا منه، لا كما ينقل المتطفلون

المقلدون في التأليف كلام غيرهم من غير أن يخالط عقولهم أو يمس قلوبهم. قال

المؤلف في مقدمة الكتاب.

(أما بعد فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة، أفادنيها واهب التمييز

- تعالى - بمرور الأيام وتعاقب الأحوال، بما منحني عز وجل من التهمم

بتصاريف الزمان، والإشراف على أحواله حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري، وآثرت

تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس،

وعلى الازدياد من فضول المال، وزممت كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب؛ لينفع

الله به من يشاء من عباده ممن يصل إليه، بما أتعبت فيه نفسي، وأجهدتها فيه،

وأطلت فيه فكري، فيأخذه عفوا، وأهديته إليه هنيئا. فيكون ذلك أفضل له من كنوز

الأموال وعقد الأملاك، إذا تدبره، ويسره الله تعالى لاستعماله. وأنا راج في ذلك

عظيم الأجر؛ لنيتي في نفع عباده وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، ومداواة علل

نفوسهم. وبالله أستعين) .

طبع الكتاب الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري وضبط من كلمه ما رآه

محتاجًا إلى الضبط، وفسر في هوامشه ما رآه منه غريبًا، وصدره بترجمة وجيزة

للمؤلف، وجعل ثمنه قرشين. فننصح لكل قارئ بأن يطالعه المرة بعد المرة، وهو

يطلب من مكتبة المنار.

***

(الأسرار القدسية والفيوضات الهدائية)

(تأليف الذي كان كاهنًا من كهنة الروم الكاثوليك، ومنَّ الله عليه بالعناية

المحمدية، وتشرف بدين الإسلام عبد الحفيظ المهتدي) أهدي إلينا هذا الكتاب

الجديد وعرفنا مؤلفه فإنه كان قسيسًا في عكار وأسلم في طرابلس أيام كنا فيها،

وصار من أهل الطريق وقد جاء مصر في العام الماضي بولد له يريد أن يتلقى

القرآن بالروايات في الأزهر ويطلب العلم.

أما الكتاب فهو في التصوف والرقائق جمع فيه كثيرًا من المواعظ والآداب

ممزوجة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وذكر في آخره شيئًا من خبره جعله

مقدمة للدعوة إلى الإسلام وإثباته، وذكر في هذا المقام بعض النصوص عن المسيح

عليه الصلاة والسلام. وعن كتب أخرى من كتب القوم. وثمن النسخة من الكتاب

خمسة قروش صحيحة. ويعلم الفطن أن في شرائه إعانة للرجل على تعليم ولده،

وتربيته في هذه البلاد التي لا مورد لهما فيها.

***

(هدية الرئيس للأمير)

رسالة في علم النفس للرئيس أبي علي بن سينا أهداها إلى الأمير نوح بن

منصور الساماني، والظاهر أنها أول تصنيفه. وقد كانت فقدت هذه الرسالة، فلم

يعرف الباحثون من الإفرنج المستشرقين إلا نسختين منها: إحداهما في مكتبة ليدن

من مملكة هولندا وهي كثيرة الغلط، والثانية في المكتبة الإمبروازية بمدينة ميلانو

من إيطاليا وهي أمثل. فعني بعضهم بنسخهما، وتصحيح إحداهما بالمقابلة على

الأخرى، ثم بالمقابلة على نسخة منها مترجمة باللغة اللاتينية في القرن السادس

عشر، والاستعانة ببعض كتب المصنف في الفلسفة خصوصًا ما كان منقولاً عنه،

فعل ذلك الدكتور صموئيل لانداور الألماني صحح الرسالة، وجمع إليها ما اختلف

من النسخ، وعلق عليها ما علق من الشرح والتفسير، ونشر ذلك كله في مجلة

المستشرقيين الألمانيين مع ترجمة ألمانية وجيزة بسبع لغات: - العربية، والعبرية

والسريانية، والفارسية، واللاتينية، واليونانية، والألمانية. فلينظر أهل العربية

إلى عناية الإفرنج بكتبهم وآثار سلفهم، وليخجلوا من جهلهم وإهمالهم.

ثم إن أدورد فنديك المدرس بمدرسة الحقوق (ابن الدكتور كرنيليوس فنديك

الشهير) قد استخرج النسخة من تلك المجلة، وقابلها بنفسه على الأصل في مكتبة

ليدن ومكتبة ميلانو، بعد أن وعدته شركة طبع الكتب العربية هنا بطبعها، إذا هو

جاء بها مصححة بالعربية، وقد وفت بالوعد، فطبعتها طبعًا متقنا على ورق جيد

كعادتها. وطبعت معها تلك الشروح. وقد انتقدنا تسمية اختلاف النسخ بالقراءات وما

هي بقراءات، وإنما هي تحريفات وتصحيفات، وقد وضعت بين أقواس في أثناء

الكلام، فكانت مما يشغل القارئ لأجل الفهم، ولو وضعت في الهوامش لكان أولى.

وإننا نشكر لكل من اشتغل بإحياء هذه الرسالة فضله.

***

(قصة البعث)

هي قصة شهيرة من أحسن ما كتب الفيلسوف تولستوي الروسي الشهير، بل

هي كتاب كبير مؤلف من جزأين؛ في علم الأخلاق والسياسة، وفلسفة الاجتماع،

ليس فيها من معنى القصص إلا سرد المسائل والآراء في الغراميات والسياسة

والآداب في سياق الوقائع المتصلة بأسلوب يلذ القارئ، ويبعث شوقه للقراءة، وهو

يصف فيها معيشة مترفي أمته، وأمرائها، وحال الفلاحين، والمسجونين فيها.

ويرغب في توزيع الأراضي على الفلاحين. فهي من القصص التي جمعت بين

اللذة والفائدة فيا ليت شبابنا يطالعونها، وقد طبعها إبراهيم أفندي فارس صاحب

المكتبة الشرقية. وهي تطلب منه.

***

(ديوان حافظ)

قد طُبِع الجزء الثاني من ديوان حافظ أفندي إبراهيم وهو أرقى من الأول نظمًا

وموضوعا؛ فإن معظم قصائده في الأمور العامة من اجتماعية وسياسية، وما في

معناها كمدح الأستاذ الإمام (تغمده الله برحمته) ، وبهذا صار شعر حافظ عزيزًا

شريفا، واشتهر في كل قطر يتبوأه أهل العربية، ولو كان كسائر الشعراء، لا يكاد

ينظم إلا في مديح الأمراء والوجهاء، لما طار صيته في البلاد، ورددت شعره

ألسنة الناطقين بالضاد، فإنه وقد بذ المعاصرين تنقيحًا وتحريرا، لم يبذهم تخيلاً

وتأثيرا، فإن شعره أقرب إلى عالم الحقيقة منه إلى عالم الخيال، فلولا شرف معناه

لما سلم من الابتذال، حتى ليعجز عن إعلاءه الأمير والسلطان، على استغنائه عن

تهذيب صبري وصقل سلمان [1] ، وهاك هذا النموذج منه الآن.

(لسان حال اللغة العربية)

رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي

وناديت قومي فاحتسبت حياتي [2]

رموني بعقم في الشباب وليتني

عقمت، فلم أجزع لقول عداتي

ولدت ولما لم أجد لعرائسي

رجالاً وأكفاء وأدت بناتي [3]

وسعت كتاب الله لفظًا وغاية

وما ضقت عن آي به وعظاتي

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

وتنسيق أسماء لمخترعات

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

فيا وَيْحَكُم أبلى وتبلى محاسني ومنكم - وإن عز الدواء - أُسَاتي [4]

فلا تكلوني للزمان فإنني

أخاف عليكم أن تحين وفاتي

أرى لرجال الغرب عزًّا ومنعة

وكم عز أقوام بعز لغات

أتوا أهلهم بالمعجزات تفننًا

فيا ليتكم تأتون بالكلمات

أيطربكم من جانب الغرب ناعب

ينادي بوأدي في ربيع حياتي

ولو تزجرون الطير يومًا علمتم

بما تحته من عثرة وشتات

سقى الله في بطن الجزيرة أعظمًا

يعز عليها أن تلين قناتي

حفظن ودادي في البلى وحفظته

لهن بقلب دائم الحسرات

وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق

حياءً بتلك الأعظم النخرات

أرى كل يوم بالجرائد مزلقًا

من القبر يدنيني بغير أناة

وأسمع للكتاب في مصر ضجة

فأعلم أن الصائحين نعاتى

أيهجرني قومي عفا الله عنهم

إلى لغة لم تتصل برواة

سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى

لعاب الأفاعي في مسيل فرات

فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة

مشكلة الألوان مختلفات

إلى معشر الكتاب والجمع حافل

بسطت رجائي بعد بسط شكاتي

فإما حياة تبعث الميت في البلى

وتنبت في تلك الرموس وفاتي

وإما ممات لا قيامة بعده

ممات لعمري لم يقس بممات

***

(مسامرات الشعب)

(قصة قاطع الحبل) أتمت إدارة المسامرات طبع هذه القصة، وهي من

القصص الغربية في تناسق حوادثها. ينتهي الجزء الأخير منها (وهو السادس)

ببيان سوء عاقبة الجناة والآثمين، وحسن عاقبة أهل الوفاء والإخلاص. فعسى أن

يعتبر القارئون لها بذلك.

***

(مجلة الإنسانية)

قد عاد الشيخ إبراهيم الدباغ إلى إصدار هذه المجلة مستقلاًّ بها، فعسى أن

يلاقي من الإقبال عليها ما يستحقه أدبه، ويكون عونًا له، ومنشطًا على الارتقاء بها

إلى منتهى ما يصل إليه استعداده.

***

(كوكب أفريقية)

(جريدة أسبوعية سياسية أدبية علمية، فلاحية تجارية صناعية، تصدر كل

يوم جمعة. مدير تحريرها السيد محمود كحول) . من فضلاء الجزائر وهو يصدر

الجريدة فيها. وقد وافانا العدد الثاني منها الذي صدر في 11ربيع الأول، فسررنا

به سرورًا عظيمًا؛ لأن إخواننا مسلمي الجزائر، كانوا محرومين من هذا العمل

العظيم (الصحافة) . فنحن نرحب بهذه الجريدة، ونرجو لها من صميم أفئدتنا

التوفيق للإرشاد النافع، ونحث القراء على الإقبال عليها، وشد أزرها.

***

(المنير)

جريدة أسبوعية جديدة أصدرها في تونس محمد الشاذلي المورالي من فضلاء

الكتاب المشهورين فيها. وقد بَيَّنَ من سياستها في العدد الأول ما هو خير سياسة

يرجى نفعها، كالحض على نشر العلم بطريقه الإسلامية، والتأليف بين المتعلمين

في جامع الزيتونية، والمسلمين في المدارس النظامية، وتحري المباحث التي تتعلق

بشؤون المسلمين، وتحامي ثلب الأعراض. فنسأل الله - تعالى - أن يوفق صاحب

هذه الجريدة إلى خير ما قال، وينفع بجريدته القارئين.

_________

(1)

الكلام: إشارة إلى شيء يعرفه حافظ وكثير من أدباء مصر.

(2)

الحصاة: العقل والرأي.

(3)

وأد بنته: دفنها حية.

(4)

الأساة: جمع الآسي، وهو الطبيب.

ص: 291

الكاتب: نصر أفندي فريد

‌المشروبات الروحية وتأثيرها

جاءنا من الدكتور نصر أفندي فريد طبيب العيون بالمنصورة ما يأتي:

19 ربيع الأول سنة 1325

حضرة الأستاذ الفاضل:

قرأت لكم في العدد الأسبق بجريدة المنار الغراء كلامًا في الخمر، ملخصه أنه

لا فائدة منها إلا أن الجعة مدرة للبول، وحيث إن جريدتكم الغراء لها تأثير فعال في

نفوس المسلمين، وجدت من الواجب علي أن لا تفوت الجريدة هذه الملحوظة.

المشروبات الروحية وتأثيرها

هذه المشروبات ليس لها أدنى فائدة للصحة بالمرة، إلا في ظروف يعرفها

الأطباء دون غيرهم في بعض الأمراض، والأنزفة بمقادير معينة، وضررها على

الصحة فيما عدا ذلك وبيل للغاية، وقد تألفت جمعيات كثيرة في أوربا لمنع

المسكرات، فأثرت تأثيرًا حسنًا، وفي سنة 1903 أفرنكية، وزعت بلدية باريس

- عندما كنت فيها -، منشورات في المدينة وفي جميع الجرائد معززة بآراء

نطس الأطباء بضرر هذه المشروبات.

فأمراض الجنون والشلل العام وأمراض الكبد والكليتين والمعدة والقلب والسل

أغلبها مسبب من المشروبات الروحية.

أما إدرار البول المشاهد بعد شرب هذه المشروبات ومن ضمنها الجعة، فهو

متسبب من تهييج الكليتين واحتقانهما من الكؤل الموجود في هذه المشروبات.

وإني أتأسف لانتشار هذه الفكرة بين العوام، وهي تعاطيهم الجعة عند إصابتهم

بمرض في الجهاز البولي، فيغترون بهذا الإدرار البولي الكاذب، فتزداد الحالة

خطارة، وينتهي الاحتقان الكلوي بالتهاب كلوي عاقبته الموت، إن لم يبادر

المصاب بالانقطاع عن تعاطي أم الخبائث. والسلام.

(المنار)

نشكر للدكتور الفاضل مبادرته إلى هذا التنبيه المفيد، وما زلنا ننصح للناس

بأن لا يفتروا بكلام الأطباء المقلدين أو المفتونين بزخرف المدينة؛ إذ يأمرون من

يشكو معدته أو غير معدته بشرب نبيذ كذا، فإن أكثرهم يأخذ على هذا الغش أجرًا

من باعة الخمور. وقد قرأنا في الجزء الأخير من مجلة المقتطف مقالة مفيدة في هذا

الموضوع، سننشرها في الجزء الخامس.

وكتب إلينا أحد أساتذة المدارس بمصر، ما يأتي:

أستاذي المفضال السيد محمد رشيد رضا.

سلام الله عليه. وبعد فهل لي أن أطلب إليكم نشر هذه الكلمة على صفحات

المنار؛ إعلانًا للحقيقة، وشكرًا للصادقين. سيدي أرى أن أمرك مقسم، والناس فيه

فريقان: فمن عائب يهجن منك مخاطبة اللورد كرومر، ويتمنى لو نقمت عليه مع

الناقمين، وصرمته مع الصارمين، فلم تكتب إليه شيئا. ومما يرمونك به أنك في

استفهامك منه عما يريد - من لباب الإسلام أم قشوره، قد بينت له أي الأمرين يختار

وذكرت له وجوه الاختيار من عمل الحكام بالفقه، ورجوع بعض المسلمين عن

العمل به ومن تخطئة بعضهم البعض فيه. يقولون لو غيرت هذه اللهجة.

أما أنا فمهما يكن من الأمر فإنما أرى أن مولاي الرشيد - حفظه الله - قد

استدرج جناب اللورد إلى العدول عما في تقريره، وخاتله فختله وبالواجب عمل -

من كان يظن أن اللورد كرومر لا يرجع عما في تقريره في حفلة الأوبرا

الخديوية بعد مجاملة سمو الأمير له، وزيارته في الوكالة البريطانية، واشتداد

الصحافة المصرية في الطعن على تقريره. ولكن اللورد كرومر دَلَّ على تمسكه

بما في تقريره وإصراره عليه وهزؤًا بالمطاعن فيه في الصحافة وغيرها إذ قام

في الأوبرا خطيبًا، ولم ينبس ببنت شفة دَحْضًا ونقضًا لتلك المطاعن في

الإسلام كما كان القوم يظنون، ولقد كاد اليأس من رجوع اللورد كرومر

عن تلك التهم الشنيعة، يستحكم في نفوسنا، وزحزح كبير آمالنا، لولا ما سحر به

السيد الرشيد (سدد الله سهمه) جناب اللورد كرومر بكتابه إليه، واستدرجه إلى

ما يريد وقد كان، وعرف العالم الأوربي بشهادة خبير منهم أن كل تهمة توجه

إلى الإسلام نفسه لا نصيب لها من الصحة، ولا باعث لها من مرقدها إلا حزازات

النفوس وسخائم الصدور، ألا فليرفع المسلمون في جميع الأقطار عقيرتهم بالدعاء

للمنار وصاحبه. وها أنا فاعل.. سدد الله المنار، وأطال في بقاء صاحبه آمين.

(المنار)

قال بما قلتم وبما سمعتم كثيرون، ولولا أن الجهالة عذر طبيعي للجاهل، فيما

ينشأ عنها، وإن لم تكن عذرًا شرعيًّا في نفسها، لكان لنا أن نعجب أشد العجب

لضعيف يتخذ لنفسه عدوًّا قويًّا، يلح عليه بأن يلج في عداوته، ولا يرضيه منه

أن يجنح إلى صداقته.

هذا وإنني وإن بينت في سؤالي للورد ما أتمنى أن يجيب به تبرئة للإسلام، لم

أخاتله. ولكنني وفقت إلى تنبيهه إلى شيء يعتقده، وحمله على التصريح به. فأحمد

الله على هذا التوفيق، وأشكر للرجل هذا الإنصاف، وسأبين العبرة في خلاف

الناس بباب الأخبار والآراء.

_________

ص: 310

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آراء الناس في مكاتبتنا مع لورد كرومر

من الناس من يكتب ليرضي الناس، فهو يتحرى رضاهم بالحق وبالباطل، فلا

الحق مقصود له في ذاته، ولا الباطل مطلوب له لذاته، وإنما يكتب لهوى خاص

هو كل ما يقصد. ومنهم من يتحرى الحق رضي الناس أم لم يرضوا، وافق أهواءهم

أم لم يوافقها، ولا يتبع الناس الهوى في شيء، كما يتبعونه في الكلام عن الحكام

والرؤساء ورجال السياسة، وإننا نرى أهل الأهواء قد يعدون الشيء الواحد

إذا صدر عن زيد نافعًا، وإذا صدر عن عمرو ضارًّا، ويقول فلان قوله فيعدونه

إيمانًا وإصلاحًا، ويقوله آخر فيعدونه كفرًا وإفسادًا.

منذ سنتين وأشهر نشرت عدة مقالات في بعض جرائد القاهرة في ذم الفلسفة،

والتعريض بمن زعموا أنه يريد إدخالها في علوم الأزهر (يعنون الأستاذ الإمام

رحمه الله ، وقالوا: إن الأزهر مدرسة دينية محضة، لا يجوز تعليم شيء فيها

غير الدين. وفي هذا العام أمر شيخ الجامع الأزهر بعض المشايخ بقراءة فلسفة

اليونان فيه، فطفق بعضهم يقرأ الإشارات لابن سينا، وبعضهم يقرأ كتبًا أخرى في

ذلك، ولم يكتب أحد، بل لم يقل أحد شيئًا، فلماذا كان توهم إدخال الفلسفة في

الأزهر منكرًا دافعًا إلى ذلك الانتقاد الشديد، وصار تعليم الفلسفة بالفعل الآن معروفًا

لا ينتقده أحد؟

وقد نشرت إحدى جرائد المسلمين منذ سنتين مقالاً لأحد الأمراء، عبث

فيه ببعض أصول الدين وعقائده، وكتبت جريدة أخرى لهم أن الحكم بقتل القاتل

من بقايا الهمجية، بل استَبْدَل الحكام القوانين بالشريعة، ولم يقل المسلمون شيئًا،

ولا حركوا ساكنًا، بل ظلوا يعدون هؤلاء الحكام من رؤساء الدول. وقد قال اللورد

كرومر في تقريره الأخير عن حال مصر والسودان كلمة في الشريعة، قام لها

الناس وقعدوا لا لذاتها، بل لأنها من اللورد كرومر. وقد أطال الرد والطعن كثير

من الكتاب على كلمة الرد من حيث هي كلمته، وتكلم بعضهم فيها لذاتها. ومما

كتب في الرد على اللورد مقالة في الرق، نشرت في اللواء معزوة إلى حكيم من

حكماء الإسلام.

ولكنه لا يعرف البديهي من قواعد الإسلام؛ إذ زعم أن الزكاة المفروضة فيه

تصرف بحكم القرآن إلى الحكام، وإلى سفراء الدول وقناصلهم، وفي بناء الفنادق

للسياح. ولو كتب مثل هذا الكلام في المقطم، لقامت عليه وعلى كاتبها قيامة اللواء

وغير اللواء، وعدوا ذلك أعظم جناية على الإسلام.

هكذا ينظر أكثر الناس إلى من قال، لا إلى ما قال، ولا يعرفون الرجال بالحق

بل يعرفون الحق بالرجال، كلا إن اتباعهم الهوى في الرجال، يصرفهم عن

معرفة الحق وعن طلبه، فلا يقبلونه ممن لم يوافق أهواءهم. ولكنهم يقبلون الباطل

ممن فتنوا بهم، وصاروا موضع ثقتهم، وهذا من أكبر البلاء على الناس؛ إذ لا

ترتقي أمة منهم إلا إذا كثر المستقلون فيها بالحكم على الناس وعلى الأقوال، الذين

يطلبون الحق لذاته، ويجعلونه هو الميزان لمعرفة الناس ومعرفة الأشياء.

قال لورد كرومر قوله في الشريعة الإسلامية، فقامت له جرائد المسلمين

وقعدت، وأعولت وولولت، وذمت وقدحت، وأرنأت واقترحت، ثم صدر المنار

فكان خيرًا منها دفاعًا، وأشد للمخالف إقناعًا، وزاد على ذلك أن وفق إلى أخذ

كتاب من اللورد نفسه، يبرئ فيه الدين الإسلامي نفسه من النقد والطعن، ويستدل

على ذلك، ويصرح بأن عبارة التقرير - التي فهم منها الطعن في الدين نفسه - لم

تؤد مراده الذي بينه ووضحه بما كتبه إلينا. فماذا قال الناس في ذلك؟

اختلفوا فيه كما هي عادتهم، فاستحسنه فريق كل الاستحسان، وشكر لنا

سعينا، وللورد فضله وإنصافه، وبالغ بعض أفراد هذا الفريق في الإعجاب بذلك،

حتى قال لنا أحد المحامين وهو ممن لا يختلف اثنان في كمال استقلاله، وجودة رأيه،

وسعة علمه: أخبرني هل سحرت اللورد بكتابك إليه وهو لا يعرفك، أم استعنت عليه

بوسائط أخرى، حتى نجحت في أخذ هذا الجواب الذي لا يتصور أن يخدم الإسلام

بمثله في هذا الباب؟ إلخ ما قال.

وذهب فريق آخر إلى أنه لا فضل للورد في جوابه، وإنما الفضل كله فيه

لصاحب المنار. وقد جرت بين أحد الباشوات من هذا الفريق، وأحد المشايخ

الوجهاء من الفريق الأول مراجعة ومحاورة بذلك في حفلة عرس في العاصمة،

وكان بعض الوجهاء فيها موافقا للباشا، وبعضهم موافقا للشيخ.

وذهب فريق ثالث إلى أن صاحب المنار قد أخطأ فيما كتبه إلى اللورد؛ لأنه

لقنه الجواب في السؤال. ورد عليهم بعض الناس بأن صاحب المنار قد أحسن في

ذلك؛ لأنه ورَّط به اللورد حتى أجابه إلى ما يريد من تبرئة الدين الذي هو الكتاب

والسنة، وهذا هو غرضه من الكتاب. ورد عليهم آخرون بأن ما استدل به اللورد

في جوابه مؤيد بتقاريره، فهو لم يستفد الجواب من السؤال، وإنما جاء به من عند

نفسه كما هو مفهوم من استدلاله.

وقال فريق آخر: إن صاحب المنار قد أخطأ؛ لأنه كان سببًا لهذا الكتاب

الذي يميل القلوب إلى اللورد، حتى تراه أهلاً للشكر والثناء، ونحن لا نحب أن

نرى منه ما يحببه إلينا، بل نحب أن نرى منه ونسمع عنه، ما يزيد بغضنا فيه

وحنقنا عليه.

وصاح فريق آخر: إن صاحب المنار لا يستحق على هذا العمل إلا القدح

والذم، والسب والشتم، والقدح والتشهير، والتمثيل والتصوير؛ لأنه دافع عن

اللورد الذي هو عدو الوطن والوطنيين، وخصم الإسلام والمسلمين، ولو كان

هؤلاء يقولون ما يعتقدون، وإذا ظهر لهم الحق يذعنون، لوجدوا كثيرين يقولون

لهم: إنكم لمخطئون، فإن المنار ما دافع عن اللورد، بل رد ما يفهم من كلامه بثلاث

مقالات لم يسبقه أحد إلى مثلها، ثم توسل إلى استكتابه ما هو عين المصلحة

للإسلام والمسلمين، وإن لم يوافق أهواء بعض المتحمسين من الوطنيين الذين

يكرهون الحق إذا ظهر على لسان زيد، وينفرون من المصلحة إذا جاءت على يد

عمرو، وهم لا يتبعون إلا شعور الكراهية والنفور، ولا يصيخون إلا لداعي

الإفراط والغرور، وأكثرهم مقلدون لما يقوله أصحاب الصحف الغالون.

أما أصحاب الصحف المصرية؛ فأكثرها لم يقدر هذه المسألة قدرها على

عنايتها دائمًا بأقل ما يؤثر عن الرجال العظام كلورد كرومر من قول وعمل، حتى

ما لا شأن له في المصالح العامة، كالرياضة والدعوات إلى الطعام أو الشاي. أما

السبب الذي لأجله لم تحفل الجرائد بأمر يعد من أهم موضوعاتها؛ وهو استدراك

اللورد على عبارة في تقريره الرسمي في مسألة مهمة؛ فهو أن جرائد الإفرنج، وما

على شاكلتها من الجرائد العربية لا ترى من مصلحتها التنويه ولا مقتضى ملتها

بالشهادة للدين الإسلامي، أو تبرئته من مناهضة المدنية أو مخالفتها مهما

ارتقت.

وأما جرائد المسلمين التي كان ينتظر منها أن تنوه بذلك وتهتم به، فقد اتفق

أنه ظهر في وقت تحالف فيه بعض أصحابها المشهورين على إسقاط (حزب الشيخ

محمد عبده) ، بالذم والتشهير والقدح والتصوير، وقد افترضوا ما يظنون من

نجاحهم في إيهام الجمهور بأنهم هم الذين كانوا سبب استقالة اللورد، وتغيير إنكلترا

سياستها في مصر تغييرًا مرضيًا (كما يزعمون) ، ولهذا ترى همهم محصورًا في

جعل حسنات ناظر المعارف سعد باشا زغلول سيئات، وفي الطعن بعلومه ومعارفه

وإتقانه للغة الفرنسية، هذا وهو أنبغ رجال وطنهم المحبوب بألسنتهم وأقلامهم،

فكيف يعترفون مع هذا لصاحب المنار بأنه أحسن صنعًا، وهو من حزب الشيخ

محمد عبده المحكوم عليه بالإسقاط عندهم؟ أليس المعقول من أصحاب هذا الحكم أن

يحولوا الأمر عن وجهه، ويجعلوا الحسنة سيئة؟ بلى.

على أن جريدة اللواء أظهرت الارتياب في هذه المكاتبة، كأنها كرمت

نفسها أن تعترف بصحتها، ثم لا تقدرها قدرها وصعب عليها أن تعترف للورد أو

لصاحب المنار بمزية، فلم تر مخرجًا من ذلك إلا بإظهار الارتياب والشك فيما قيل.

ولكنها جزمت بتكذيب ما نقل عن الشيخ حسونة افتياتًا عليه. وجريدة المؤيد نقلت

السؤال والجواب، وتنزلت من سمائها فقبلت الجواب على أنه تنازل من اللورد،

ورجوع عن قوله الأول. وهي على كونها لم تترك اللسع أو اللدغ الخفي في هذا

كعادتها قد كرمت نفسها أن تعد الدفاع عن الإسلام دفاعًا عن اللورد، فتركته إلى

من لا كرامة لهم في أنفسهم، ولا في أنفس أحد من العقلاء الذين يعلمون أن ذلك لم

يدفع عن اللورد ضرًّا، ولم يجلب له نفعًا.

وقد كتب إلينا من القاهرة وغيرها في استحسان السؤال والجواب، واستهجان

خطة المشاغب فيه، وقد اكتفينا بنشر كتاب لأحد أساتذة المدارس؛ لأنه لم يسم فيه

أحد، وقد صرح بطلب نشره، فليراجع في باب المراسلة.

_________

ص: 312

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حادثة دمياط

في طي الأرض، تقبيل أعتاب القبور، صناديق النذور

يقال: إن مسلمي مصر يتحركون إلى الترقي المدني الذي تعتز به الأمم،

ويتهمهم الإفرنج بأنهم يحاولون أن يجعلوا ترقيهم إسلاميًّا؛ يمتزج فيه الدين بالمدنية

والسياسة، ولو كانت هذه التهمة الشريفة صحيحة، لكنا نرى مبدأ هذه الحركة من

الأزهر، وما على شاكلته من المدارس الدينية، ولكنا نرى بين طلاب المدنية من

طريق علوم الدنيا، وبين رجال الدين صلة واتفقنا على الغاية التي يلتقي فيها

الفريقان في آخر السير، متحدين على إنهاض الأمة، وإعزاز الملة. ونحن لا نرى

بينهما إلا التباين التام، وفقد الثقة، والتدابر على خط مستقيم.

ونرى أن أهل الدنيا أقوى في ذلك من أهل الآخرة؛ فهم يجذبونهم ولا ينجذبون

إليهم، فلا ترى أحدًا ممن ارتقى بالعلوم الدنيوية، يربي ولده تربية أزهرية.

ولكن أكابر علماء الأزهر قد يربون أولادهم في المدارس الدنيوية، حتى

مدارس الحقوق التي يكون المتعلمون فيها قضاة، يحكمون بالقوانين من دون

الشريعة، وقد سمعت بأذني بعض هؤلاء العلماء يقول بكفر قضاة المحاكم الأهلية؛

لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، ثم هو يحاول جعل ولده واحدًا منهم، أو محاميًا

حكمه في نظره حكمهم. ولو سألت السواد الأعظم من المتخرجين في المدارس

الدنيوية العالية، هل يرضون أن يكون شيوخ الأزهر وأمثالهم قضاة للمحاكم المدنية

والجنائية، وحكامًا للسياسة والإدارة؟ لقالوا لك: إن البلاد تستغيث من أحكامهم في

الأمور الشخصية، فكيف تستقيم للأمة حال إذا هم حكموا في غيرها؛ لا سيما في الأمور المالية على اختلاف فروعها الآن، والسياسية على وعرة مسالكها،

والتواء طرقها.

وكان يرجى تلافي هذا التقاطع من رجال الدين، لكنهم واقفون في المضيق

الذي كان فيه أشياخهم وأشياخ أشياخهم، والأمة متحركة بطبيعة العصر، فلا هم

يسيرون معها، ولا هم يستطيعون إيقافها معهم، ولا هم يساعدون طلاب الإصلاح

على الجمع بين الدين، وما لابد منه لسلامة الملة والأمة، كاستقلال الفكر وتحصيل

علوم العصر.

إنك لتحدث أهل الرأي والفكر من الطبقات المختلفة في شأن الإسلام

والمسلمين، فلا تكاد ترى أحدًا يرجو أن يجيء يوم يحكم المسلمون فيه بشريعتهم،

وهم في حال راقية عزيزة فيفكر في ذلك، ويسعى له سعيه. أليس هذا هو البلاء

المبين؟ بلى، وإن وراءه لبلاء أكبر منه؛ وهو نفور بعض الذين يتلقون العلوم

العصرية من عقائد الدين، واعتقادهم أنها لا تتفق مع العقل، ولا يلتئم مع استقلال

الفكر، ولا نجاح لأمة لا تعطي العقل حقه من الحرية، وتبلغ الفكر مداه من

الاستقلال، وكان يرجى تلافي هذا من العلماء أيضًا بأن يجاهروا بمقاومة البدع

والخرافات.

كنا ننتظر من الأستاذ الأكبر الشيخ حسونة النواوي حركة إصلاح جديدة في

مقاومة البدع، أقوى من الحركة التي كانت في مشيخته الأولى، فما زادته الأيام إلا

حنكة واختبارًا.

ولكن حادثة دمياط جاءت بنقيض ما كان ينتظر أو يرجى، فقد كانت هذه

المسألة فرصة لإحياء سُنَّة أو سنن، وإماتة بدعة بل بدع كثيرة؛ لامتداد الأعناق،

وإصاخة الأسماع، وتشوف النفوس إلى ما قاله شيخ الأزهر، فيما عليه العامة من

الافتتان بالدجالين وقبور الصالحين.

دُعي الشيخ حسن عليّ أحد علماء دمياط إلى قراءة قصة المولد في أحد

المساجد، فسمع الناس منه ما لم يعتادوا. سمعوا منه قصة ليس فيها شيء من

الروايات الموضوعة، والأكاذيب المصنوعة، مفتتحة بقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ

عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ

الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164) فَسَرُّوا

بما سمعوا، وانشرحت صدورهم. وكان مما ذكر في القصة خبر الهجرة الشريفة،

وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قطع المسافة بين مكة والمدينة في مثل المسافة التي

يقطعها بها الناس، فسأله بعد ذلك سائل، لماذا لم يقطعها في لحظة، كما يفعل أهل

الخطوة من الأولياء؟ فأجاب؛ بأن مسألة الخطوة غير ثابتة، ولو ثبتت لكان النبي

صلى الله عليه وسلم أحق بها وأجدر، لا سيما في ذلك الوقت الذي خرج فيه مع

صاحبه عليه الرضوان مستخفيين من قريش؛ خوف أذاهم، ولكانت آية يهتدي بها

خلق كثير.

ويقال أنه سئل عن البقعة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم، هل

هي من أرض الدنيا أم من الجنة؟ فأجاب: بأنها من أرض الدنيا، ولا أدري هل فسر

لهم حديث الشيخين في ذلك أم لا.

وسئل عن النقود التي تلقى في الصناديق التي توضع عند أضرحة المشايخ

والأولياء في المساجد، فأجاب: بأن هذا العمل غير مشروع، وأن الصدقة على

البائسين والمنكوبين، كأهالي المطرية الذين احترقت بلدهم في هذا العام، والبذل

في الأعمال العامة كإنشاء المدارس أولى وأفضل.

وسئل عن تقبيل أعتاب حجرات قبور الصالحين، فقال: إنه غير

مشروع بل هو بدعة.

ساءت هذه المسألة الأخيرة شيخ الصندوق في ذلك المسجد من دمياط، فأوعز

إلى خطيب من خطباء الفتنة؛ بأن يعرض بتضليل الشيخ حسن علي، ووسوس إلى

كثير من العوام بأن الرجل أنكر الكرامات، وأهان الأولياء، فقامت قيامة الغوغاء

عليه، فنمى الأمر إلى شيخ الأزهر، فأمر شيخ علماء دمياط بالتحقيق، فأظهر هذا

الشيخ وأعوانه من التحامل على الشيخ حسن ما أظهروا، حتى إنه كان يقبل شهادة

الطاعنين فيه، ولا يسمع شهادة المدافعين عنه (كما قيل) .

ولما علمت العامة بتحامل العلماء عليه، هاجت هيجانًا شديدًا حتى حاولت

الفتك به غير مرة، وصارت ترجمه بالحجارة أو الطوب إذا خرج، وترجم البيت

الذي هو فيه إذا لم يخرج. ثم رُفع الأمر إلى مشيخة الأزهر، فعقد الشيخ حسونة

مجلس الإدارة للنظر في ذلك، وبعد النظر حكم بمنع الشيخ حسن علي من التدريس

مدة سنة كاملة، وبقطع مرتبه من التدريس في هذه المدة. هذا ما سمع وشاع.

قيل: إن الحكم إداري؛ سببه إساءة الشيخ حسن علي إلى شيخ العلماء في بلده

عند التحقيق، وهو قول معقول، إذ لو كان أخطأ في بعض المسائل الدينية، لحكم

عليه بعد بيان غلطه له وإقناعه بالصواب أن يعترف بالخطأ السابق، ويقرر

الصواب في دروسه على رؤوس الأشهاد.

ولكن العامة فهمت أنه عوقب على إنكار ما يسمونه الخطوة، أو طي الأرض

للصالحين، وتقبيل أعتاب الحجرات التي تبنى فيها قبورهم، ونحو ذلك من البدع،

وربما قالوا: إن الأولياء تصرفوا فيه، وهذا ما كنا نرجو أن يتلافاه الشيخ حسونه؛

لأن هذه الحادثة أحسن فرصة لنصر السنة ومحو البدع، بأن يظهر الحق للملأ على

ألسنة الجرائد.

الحق في هذه المسائل من البديهيات التي لا ينتطح فيه عنزان. أما مسألة طي

الأرض، وقطع المسافات الطويلة في دقيقة أو دقائق، فلم يأت بوجوب الإيمان بها

كتاب ولا سنة، ولم يقل بها أحد من الأئمة المجتهدين، بل لم يكن يخطر ببال

السلف، ولما حدث القول بذلك في الخلف استنكره بعض الفقهاء، حتى قال بعضهم

بأن من يعتقد جواز ذلك يكفر ويخرج من الإسلام، أو يحكم بجهالته وغباوته، كما

صرح بذلك صاحب الوهبانية من فقهاء الحنفية بقوله فيها:

ومن لوليّ قال طي مسافة

يجوز جهول ثم بعض يكفر.

ولا شك أن الناظم كان يعتقد أحد الوجهين اللذين حكاهما عن العلماء، فليكن

الشيخ حسن مثله ومثل من نقل عنهم. وهذا قولهم فيمن قال بالجواز، فما بالك بمن

يقول: إن ذلك واقع بالفعل.

وهب أن هذا وقع كرامة، فهل يكلف من لم يثبت ذلك عنده، ولم يشاهده أن

يجعله عقيدة دينية له؟ أي دين يتسع لهذا؟ أيتسع له دين الإسلام الذي قرر كتابه أن

لله في الخليقة سننًا لا تتبدل ولا تتحول، وأن لا حكم في الدين إلا لله، وما أنزل الله

بهذا من سلطان.

وأما مسألة تقبيل الأعتاب فهي بدعة، لا سند لها من كتاب ولا سنة ولا قول

إمام مجتهد، وكيف؟ وقد قال الفقهاء في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:

ليس من السنة أن يمس الجدار، ولا أن يقبله، بل يقف من بعيد ويسلم.

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشييد القبوروتشريفها، وعن الكتابة

عليها، وعن إيقاد السرج عليها، وعن اتخاذ المساجد عليها، ولعن من يفعل هذا.

ومضى الصحابة والتابعون على هذه السنة، فلم يبنوا قبر النبي - صلى الله

عليه وسلم - ولم يصلوا إليه ولا بنوا قبرًا لأحد من المهاجرين والأنصار. ولما

حدثت بدعة بناء القبور، كان بعض الأمراء المتمسكين بالسنة يهدمها كما حكاه الإمام

الشافعي في (الأم)، قال: ولم أر أحدًا من الفقهاء أنكر عليهم ذلك، أي: هدمها.

فهل صارت البدعة سنة، وصار بناء القبور وتشريفها، وبناء المساجد عليها،

والصلاة إليها دينًا متبعا، بعد أن لَعَن الشارع فاعل ذلك، وصار لهذه المساجد التي

تبنى عليها أحكام شرعية، منها: أن تقبيل أعتابها مطلوب شرعًا، ومنكره يعاقب

ويهان؟

وأما مسألة الروضة فالرواية فيها ضعيفة عن الشيخ حسن علي، سمعتها من

واحد مجملة، وإنني مع ذلك أقول فيها قولاً وجيزًا: أقول: إن العلماء قالوا في حديث

الشيخين: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) : إن معناه أن العمل

هناك بطاعة الله يكون سببًا لدخول الجنة، وقيل: إنها تنقل يوم القيامة إلى الجنة،

وقال بعضهم: إنه لما كان جلوسه صلى الله عليه وسلم وجلوس الناس إليه

يتعلمون القرآن والدِّين والإيمان هناك شبه ذلك الموضع بالروضة؛ لكرم ما يجتنى

فيه، وأضافه إلى الجنة؛ لأنها تؤول إلى الجنة وهذا هو الصواب في تفسيره ويشهد

له ما ورد في تسمية مجالس الذكر برياض الجنة، كما في حديث جابر وأبي هريرة

ومعاذ، ولم يقل أحد: إن المراد بها أن مجالس الذكر من أرض الجنة، لا من

أرض الدنيا.

وأما مسألة الصناديق التي توضع عند الأضرحة؛ لاستدرار أيدي الذين

يظنون أن إلقاء المال في الصندوق منها؛ سبب لقضاء صاحب الضريح لحاجة

الملقي، فما قاله الشيخ حسن فيها، لا يستطيع أحد أن ينكره إلا أولئك الأغنياء

الذين يأكلون تلك الأموال بالباطل، ولم يبلغنا أن الرجل نوقش في هذه المسألة، فلا

نبحث فيها.

فعلم مما تقدم أن كل ما قاله الرجل حق لا وجه لمؤاخذته على شيء منه،

وهذا مما يقوي القول بأنه أُوخِذ على شيء آخر يتعلق بمعاملته لشيخ علماء دمياط.

ولكن الناس لم يعرفوا ذلك الشيء، فظنوا أن شيخ الأزهر وأعضاء مجلس إدارته

ينكرون تلك الحقائق، ويقولون بوجوب الإيمان بطي الأرض للصالحين بالفعل،

وتقبيل أعتاب المساجد التي بنيت على قبورهم ابتداعًا في الدين، وبأن إلقاء المال

في الصناديق عند قبورهم، أفضل من الصدقة على الفقراء والمساكين، وإغاثة

المنكوبين والبائسين.

والناس في هذا الظن فريقان: فريق يعلم الحق في هذه المسائل، فهو يعتقد أن

الشيوخ مبطلون، وللبدع والخرافات مؤيدون. وفريق لا علم عنده، فهو يقلدهم بما

يظن أنهم عليه. ولا ينبغي إقرار أحد من الفريقين على ظنه ظن السوء بالعلماء؛

لذلك نقترح على الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن يبين للناس الحق في هذه

المسائل، وأنه لم يؤاخذ الشيخ حسن لخطئه فيها، بل لأمر آخر وله أن يكتمه، فهذا

وقت يجب فيه البيان ولا يصح فيه السكوت، والأستاذ في فضله وترويه أهل لذلك.

_________

ص: 316

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

(4)

الجمعيات

يرى كثير من العقلاء أن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي القوة، وبها سعد

الإفرنج في بلادهم، وبها سادوا على معظم أمم المشرق، فالقوة أساس مدنيتهم،

والسلاح مصدر عزتهم وعظمتهم، وإلا فهم لا يمتازون على غيرهم بالقوى العقلية

ولا بشيء من المواهب الغريزية. وهذه اليابان قد اقتفت آثارهم في العناية بالجندية

وتشييد الأساطيل الحربية، فقهرت أكبر دولة من دولهم، حتى صارت الدول

العزيزة منهم تعتز بمحالفتها، وتخطب مودتها؛ لمكان قوتها بعد أن كانوا يرونها

أنقص منهم في الخلقة، وأقل في استعداد الفطرة، فعلى سائر الممالك الشرقية

أن تتلو في ذلك تلوها، وتقفو في أمر القوة أثرها، ويعارض أصحاب هذا الرأي

العالم الاجتماعي؛ مبينًا أن القوة في هذا الزمان تتوقف على أسباب كثيرة، مرتب

بعضها على بعض فلابد من الأخذ بمبادئها؛ لأجل الوصول إلى غاياتها. فما هو

السبب الأول الذي يجب الابتداء به لترقية الأمة ورفعة شأنها؟

يقول المشتغلون بالسياسة: إن سبب ارتقاء أوربا وعزتها، وسيادتها هو

انتظام حكوماتها، وتقيدها بالشورى التي هي ناموس العدل، وينبوع السعادة، فكل

أمة تحب الارتقاء يجب أن توجه عنايتها قبل كل شيء إلى إصلاح حال حكومتها،

بجعلها مقيدة بالشورى والقوانين العادلة. ويقول لهم العالم الاجتماعي: وما هو

السبب المؤدي إلى إصلاح الأمة لحكومتها؟ وهل يتسنى لأمة غير مرتقية أن تفعل

ذلك؟ فكيف يجعل إصلاح الحكومة علة لكل ارتقاء، وهو معلول لنوع من ارتقاء

الأمة لابد أن يتقدمه، فما هو هذا النوع الذي هو السبب الأول للارتقاء أو علة

العلل له؟

يقول علماء التربية: إن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي التربية والتعليم،

فكلما انتشرت المدارس، ينتشر فيها وبها ومنها شعاع الارتقاء، وكلما كان التعليم

أعم وأكمل، كان الارتقاء أتم وأشمل، ألم يهدِ إليك أن بسمرك قال عن قومه

الألمانيين: إنهم انتصروا في فرنسا بالمدرسة؟ والأقوال في إثبات هذا الرأي لا

تحصى، وكم كتبنا، وكتب الكاتبون في بيانه وإظهار برهانه، ولنا في ذلك مقال

مطول بأسلوب المحاورة نشرناه في العدد الثاني من سنة المنار الأولى، بيَّنا فيه أن

سبب جميع أنواع الترقي الصورية والمعنوية، إنما هو التربية والتعليم، وفي هذا

المقال قال أحد أصحاب الصحف: ماذا أبقى صاحب المنار لسائر الأعداد التي

تصدر في المستقبل بعدما جمع في هذا العدد كل شيء، بل قد أعجب الأستاذ

الإمام بذلك المقال، وأجاز كل ما ورد فيه. ولكن العالم الاجتماعي يقول لنا مع ذلك:

إن الأمة لا تتوجه إلى العناية بالتربية النافعة، والتعليم الرافع لها من أفق إلى أفق

أعلى منه، إلا بعد نوع من الارتقاء يتقدم ذلك، فيهدي الأمة إليه، ويقدرها عليه،

فما هو هذا النوع الذي نسميه السبب الأول وعلة العلل؟

ويقول علماء الاقتصاد وأرباب الأموال: إن الثروة مبدأ كل ارتقاء ومصدر

كل إصلاح، فلا مدارس، ولا تعليم، ولا تربية، ولا تنظيم إلا والمال أساسه الذي

عليه يبنى، وقواعده التي عليه يرفع، فعلى الأمة الشرقية التي تطلب رفعة الشان

والعزة والسلطان، أن تبدأ بجمع الثروة التي تمكنها من نشر التربية والتعليم في

الأمة، ومن تنظيم الحكومة وتعزيز الدولة. ويرد عليهم العالم الاجتماعي: إننا لا

ننكر أن المال هو الوسيلة لجميع الأعمال. ولكن جمع المال يتوقف على العدل

والعلم، لا سيما في البلاد التي دخلها الإفرنج العالمون من طرق الكسب ما لا يعلم

الشرقيون. وقد أخذ بهذا السبب اليهود فكانوا فيه أبرع البشر، وهم يحاولون منذ

قرون أن يؤسسوا به ملكًا، ولما يساعدهم القدر. فعلينا أن نبحث عن السبب الأول

للارتقاء فنطلب الأمر في إبانه، ونأخذه بربانه فإنه:

من طلب الغاية في المبدأ لا

يؤوب إلا بالقنوط والشقا

ومن يسر سيرًا طبيعيًّا لها

يدرك بالتوفيق منها المنتهى

يرى العالم الاجتماعي: أنَّ العلة الأولى لارتقاء الأمم هي الجمعيات، فلا

ترتقي أمة إلا بعد أن تنبه حوادث الزمان أفرادًا من أولي الألباب فيها إلى وجوب

السعي لترقيتها ورفعة شأنها، وأول ما يجب عليهم هو تأليف (الجمعيات) ؛

للتعاون على ما يجب القيام به من الأعمال. فالجمعيات هي السبب الأول والعلة

الأولى لكل ارتقاء، بها صلحت العقائد والأخلاق في أوربا وبها صلحت الحكومات

وبها ارتقت علومها وفنونها، وبها عزت وعظمت قوتها، وبها فاضت ينابيع

ثروتها، وبها انتشر دينها في الخافقين، وبها سادت على المشرقين والمغربين.

أليست الجمعيات السياسية السرية هي التي طهرت أوربا من استبداد الملوك

والبابوات، وأزالت منها حكومات الأشراف، واستبدلت بها حكومات الجمهورية،

والملكية المقيدة بالقوانين، وسيطرة أهل الشورى من الأمة؟

أليست الجمعيات الدينية والخيرية هي التي أنشأت المدارس؛ لتعميم التربية

والتعليم، وأنشأت الملاجئ والمستشفيات؛ للمرضى والبائسين؟

أليست الجمعيات العلمية والفنية هي التي هذبت اللغات، ووسعت دائرة

العلوم والفنون، بما خصصت لكل فرع من فروعها رجالاً يصبرون نفوسهم على

التحرير والتمحيص لمسائله وتأييدها بالتجارب وترقيتها بالاكتشافات والاختراعات؟

أليست الجمعيات المالية المعبر عنها بالشركات هي التي أنشأت المعامل

لجميع الصناعات، ومدت سكك الحديد في جميع الجهات، وسيرت في البحار تلك

الجواري المنشآت، وابتدعت البيوت المالية (البنوك) ؛ لتيسير المعاملات؟

بلى، إنه ما من عمل ارتقى إلا وكانت الجمعيات هي رقَّته، إن لم تكن هي

التي أوجدته واخترعته، فالجمعيات هي تظهر منتهى استعداد الإنسان للارتقاء، بل

هي التي تحقق معنى الإنسانية في هذا النوع، إذ لا معنى للإنسانية إلا حياة

الاجتماع والتعاون، فمهما قل الاجتماع في أمة ضعف معنى الإنسانية فيها، ومهما

كثر الاجتماع واعتز كانت الإنسانية أقوى وأكمل.

سبق الشرق الغرب إلى كل نوع من أنواع الارتقاء المدني. ولكن المدنية لم

تكمل في الشرق، ولم تبن على قواعد يؤمن سقوطها، ولذلك سقطت، وما ذاك إلا

أن قيامها كان بعمل الأفراد لا الجمعيات، فلولا هذه الجمعيات، لما كانت مدنية

الغرب الحديثة أرقى وأكمل وأجدر بأن تكون أثبت وأدوم.

وجدت الجمعيات السرية والجهرية في الشرق. ولكن انقصمت عراها، قبل

أن بلغت مداها، وجاء الإسلام بالتعاليم الاجتماعية، فجعل أمر المؤمنين شورى

بينهم أي: تقوم به الجماعة، لا يستقل به الأفراد، وأمر بتأليف الجمعيات للأعمال

النافعة بمثل قول الله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ

بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) ، وبمثل قول الرسول صلى

الله عليه وسلم: (يد الله على الجماعة) ومع هذا لم يكن حظ المسلمين من الجمعيات

أحسن من حظ سائر أهل المشرق، بل كان من سوء حظهم أن استحالت الجمعيات

السياسية، كجمعية الشيعة التي ألفت؛ لجعل الحكم في أهل البيت عليهم السلام،

وجمعية الخوارج المعروفة إلى مذاهب دينية، زادت المسلمين تفريقًا وخذلانًا.

وفسدت جمعية الصوفية الإصلاحية بعد أن ربت كثيرًا من المصلحين، وصارت

جمعية الباطنية التي أسست لإفساد الدين الإسلامي جمعيات ومذاهب متعددة، لم يأت

منها إلا الشر والوبال على الشرق فترى أن جمعيات المسلمين السياسية ما أفسدها إلا

اصطباغها بصبغة الدين، بجعل تعليمها مذهبًا يدعى إليه باسم التقرب إلى الله، وستر

موضوعها، وإخفاء مقصدها في ذلك وقد قصَّروا في تأليف الجمعيات الخيرية،

والعلمية الفنية، والشركات المالية، ولولا ذلك لما ماتت مدنيتهم قبل بلوغها سن

الرشد.

والآن نرى الشرق، قد أنشأ يتعلم من الغرب كيفية تأليف الجمعيات

والشركات، فنجح أهل يابان في ذلك ورشدوا، ولا يزال العثمانيون والمصريون

في سن الطفولية من هذه الحياة الاشتراكية الاجتماعية، التي لا وسيلة لبلوغ هذا

النوع رشده بدونهما.

أسسنا غير مرة جمعيات علمية وأدبية وخيرية وسياسية، فكانت تسقط

الجمعية منها بعد الخطوة والخطوتين والخطوات القليلة، وقد نجحت في مصر

الجمعية الخيرية الإسلامية نجاحًا يوثق بدوامه واستمراره، وهي أفضل ما عمل

المسلمون بمصر في هذا الطور الجديد من الحياة، وتليها جمعية العروة الوثقى،

وجمعية المساعي المشكورة الخاصتين بالتعليم. وأسسنا شركات مالية كثيرة للعمل

في الزراعة والتجارة، حبط عملنا في بعضها، وثبت بعضها، والرجاء في

المستقبل عظيم.

ارجع البصر إلى البلاد التي لم تأخذ عن الأوربيين شيئًا من العلم، ولم

تشترك معهم في شيء من الأعمال، كبلاد مراكش، هل ترى فيها جمعية خيرية أو

دينية أو علمية أو سياسية، أو تشاهد فيها شركة تجارية أو زراعية أو صناعية؟

تأمل واعرف الخير وينابيعه، وكيف تستزيد منه. واعلم أن الجمعيات والشركات

هي المعيار الذي يعرف به تقدم الأمم وتأخرها، وحياتها وموتها، فلا يغرنك القيل

والقال، ولا نبوغ بعض الأفراد في بعض العلوم أو الأعمال، فإن هؤلاء النابغين

إذا لم يجدوا في أمتهم جمعيات تعرف قيمتهم، وتسعدهم على إبراز ثمرات نبوغهم

يذهب استعدادهم سدى، ويجزر مدّه قبل أن يبلغ المدى، وإذا وجدوا ذلك زكا

استعدادهم، وامتد إمدادهم، وكانوا كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين،

كما أنهم يؤتون أجرهم مرتين.

_________

ص: 340

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأشربة الروحية

(مقالة المقتطف التي وعدنا بنشرها)

قلما تجد مائدة من موائد الإفرنج خالية من الشراب: من الخمر أو البيرا أو

الشمبانيا، ولم تولم وليمة من غير أن تشرب عليها أقداح الراح ولا تحسبن ذلك

خاصًّا بالإفرنج، بل هو شائع عند كل الأمم حديثهم وقديمهم. فآثار مصر،

وخرائب بابل وأشعار اليونان وتواريخ الرومان، وأخبار الأمم الحاضرة

والغابرة، وكتب الرحلات، كل ذلك ناطق بأن الناس لم ينفكوا عن تعاطي كؤوس

الراح من أول عهدهم بين مقل ومكثر ومقلل ومدمن ولم ينفك فضلاؤهم عن التحذير

منها والنهي عنها، وحجتهم أنها تسكر، وتذهب العقل، وتتلف المال والصحة.

لكن النهي والتحذير لم يأتنا بطائل، فلا يزال الناس ينفقون على الخمورأضعاف ما

ينفقونه على تعليم أولادهم، وينفق بعضهم عليها أكثر مما ينفق على طعامه، ولا

يزال الأطباء يصفونها لضعاف الأجسام؛ كأنها من المقويات فيقوّون اعتقاد الناس

فيها، ويزيدون ميلهم إليها، فهل الأطباء مصيبون في ذلك؟ وهل نفع الأمور كاف

للتكفير عن مضارها؟ هذه مسألة جديرة بالنظر ولا سيما بنظر الأطباء.

ولا نريد بالمضار هنا مضار السكر؛ لأنها تفوق كل ما يمكن أن ينسب إلى

الخمر من النفع أضعافًا كثيرة، فلا وجه للموزانة بينهما، وإنما نريد مضار الشرب

المعتدل، أو شرب الخمور على الطعام الذي اعتاده الأوربيون ومن جرى مجراهم،

واتفق أكثر الأطباء على وصفه لنحاف الأجسام، أو للذين ساء هضمهم للطعام.

يقصد بالطعام: تغذية الجسم، وبالشراب: تسهيل هضم الطعام حتى يغذي

الجسم وليس وراء ذلك فائدة عملية من الطعام أو من الشراب لمن يأكل ويشرب،

نعم، إن من يبيع الأطعمة والأشربة، يستفيد كثيرًا من بيع بضاعته نفعت المشترين

أو أضرتهم، ولذلك نرى صانعي الخمور وبائعيها من أغنى أهل الأرض. ولكن هذه

الفائدة خارجة عن موضوع بحثنا، ولو كانت الدافع الأكبر لترويج الخمور في الدنيا

ولا ينكر أن في الطعام والشراب لذة للآكل والشارب ولكنها تختلف كثيرًا باختلاف

الناس، وأحوالهم من الصحة والمرض، والراحة والتعب، والأنس والوحشة،

وباختلاف الرهط والصحب إلى غير ذلك مما لا ضابط له. لكن هذه اللذة - وإن

أفادت في بعض الأحيان - لا تعد من النفع المقصود بالطعام والشراب، وهو تغذية

الأجسام فإن جسم الإنسان، كجسم الحيوان وكجسم النبات، من هذا القبيل ينمو ويقوى

وتصلح حاله بالغذاء الكافي، ويؤذى ويضعف وتفسد حاله بقلة الغذاء.

ازرع بزرة في التراب واتركها من دون ماء، فلا تنبت، أو ازرع البزرة في

الماء واتركها من دون تراب، فلا تنبت، وإن نبتت ذوت ويبست حالاً؛ لأن نمو

البزرة حتى تصير شجرة، يقتضي أن تتغذى، والغذاء يأتيها من التراب. ولكن لابد

من أن يذوب أولا في الماء، حتى يتمكن من دخول جسمها وتغذيتها، فإذا زرعت

في التراب ورويت بالخمر، لم تعش ولم تنبت، وهذا أمر يستطيع كل أحد امتحانه

فيرى أن الخمور لا تذيب الأطعمة على أسلوب يجعلها صالحة لتغذية النبات.

وجسم الحيوان يختلف عن جسم النبات من وجوه كثيرة. ولكنهما يتغذيان

على أسلوب واحد تقريبًا.

ولقد أَبَنَّا في مقالة سابقة موضوعها الحق والباطل، أن مقياس الحقائق

استعمالها والانتفاع بها. وهذه الحقيقة أي: ضرر شرب المسكرات مهما كان مقدارها

قليلا، وَجَدت لها شركات التأمين على الحياة نفعًا كبيرا، فهي تتساهل مع الذين لا

يتعاطون المسكرات أبدًا أكثر مما تتساهل مع الذين يتعاطونها ولو قليلا. أي: صار

للامتناع عن شرب المسكرات قيمة مالية تقدرها شركات التأمين بالدرهم والدينار.

ولقد وصلت إلى ذلك بعد اختبار طويل واستقراء دقيق، وهذا أدل دليل فِعلي

على ضرر المسكرات، ولو وصفها الأطباء وأطنبوا بمدحها ونفعها. فإذا عرض

اثنان أن (يسوكرا) حياتيهما على مبلغين متساويين من المال، وكان سنهما واحدًا

وأعمالهما واحدة، وتساوت فيهما كل الشروط التي تشترطها شركات (سوكرتا)

الحياة ما عدا شرب المسكرات؛ أي: إن كان أحدهما يشرب الخمور والآخر لا

يشربها، فإن الشركة تفرض على الأول أكثر مما تفرض على الثاني؛ لكي تسوكر

حياتيهما على مبلغين متساويين، وإن دفعا مبلغين متساويين كل سنة، ضمنت

للثاني أكثر مما تضمن للأول، كأنها تقول بعبارة تجارية حسابية لا تقبل الشك ولا

الريب: إنه قد ثبت لي بالاستقراء أن عمر الذي يشرب مسكرًا أقصر من عمر الذي

لا يشرب مسكرًا، فلا أستطيع أن أعاملهما معاملة واحدة، وأكون بمأمن من الخسارة

ولابد للذي يشرب المسكر من أن يدفع لي سنويًّا أكثر مما يدفع من لا يشرب

مسكرًا؛ لكي أضمن حياتيهما على مبلغين متساويين من المال. وهذا وجه يكفي لأن

يكون فصل الخطاب بين الذين يقولون بضرر المسكرات ولو كان مقدارها قليلاً

وشربها معتدلا وبين الذين يقولون: إن لا ضرر منها حينئذ بل منها نفع.

وهذا الحكم العملي التجاري المبني على الاستقراء يؤيده العلم أيضًا، قال

الكولونيل دفي أحد أطباء الجيش الإنكليزي في مقالة نشرت حديثًا في مجلة القرن

التاسع عشر: إن المسكرات تفعل بالطعام: فلا يعود ينهضم بالسرعة التي كان

ينهضم بها لولاها، وتفعل أيضًا بأعضاء الهضم فتقسيها، كما تقسي القطع اللحمية

التي توضع فيها، فلا يعود فعل الهضم سهلاً عليها وإذا اختل فعل الهضم اختل

فعل التغذية، وتضر أيضًا بالرئتين والكليتين والكبد والدماغ.

غير أن كثيرين يشربون المسكرات بالاعتدال، ولا ينالهم من شربها ضرر

ظاهر، فيتخذون ذلك دليلاً على عدم الضرر من الشرب المعتدل. ولكن هل قاس

أحد قوة هؤلاء الناس الجسدية والعقلية وهم غير شاربين للمسكرات بقوتهم

الجسدية والعقلية وهم شاربوها. نعم، إنهم إذا اعتادوا الشرب، فقد تضعف قواهم

وتخمل عقولهم في الساعة التي اعتادوا الشرب فيها، إذا امتنعوا عن الشرب حينئذ.

ولكن يحدث مثل ذلك بكل من يعتاد شيئًا ثم يفطم نفسه عنه حتى

الأفيون والحشيش؛ لأن أعصابه تصير تنتظر المنبه أو المسكن في الساعة التي

اعتادته فيها، فتضطرب إذا قطع عنها. ولكن إذا تكرر هذا الانقطاع مدة أَلِفَتْهُ

الأعصاب، ولم تعد تضطرب منه.

وبديهي أن المسكر جسم غريب يدخل الجسم، بل هو سم يتعب الجسم،

فيجاهد الجسم للتخلص منه، كما يجاهد للتخلص من سائر السموم التي تدخله، وهذا

الجهاد عمل شاق، يذهب فيه جانب من قوة الجسم، وإذا تكرر دخول هذا السم يومًا

بعد يوم، فلا بد من حصول الضرر أخيرًا.

ورب قائل يقول: إننا نرى الأطباء يصفون المسكرات في بعض الأحيان

ويقولون أن لا بد منها ولا يكتفون بوصف الضعيف الفعل كالخمر والبيرا بل

يصفون القوي الفعل كالعرق والكُنياك، فكيف تقولون بضررها قولاً مطلقًا من غير

قيد.

والجواب: أنّ الألكحول الذي هو العنصر الفعال في المسكرات على أنواعها

نافع في بعض الأحوال المرضية ولازم فيها دواء لا غذاء وخير للطبيب أن

يصف حينئذ الألكحول النقي نفسه لا أمزجته المعروفة بالمسكرات، وهو إذا وصف

كذلك شربه المريض مكرهًا، ولم يجد في شربه لذة، ولا رأى في نفسه ميلاً إليه،

بعد الشفاء من المرض. بل إنه لو شرب أطيب المسكرات دواء لما وجد في نفسه

ميلاً إليها كما لو شربها للتلذذ بطعمها. أما ما يزعمه بعض الأطباء من أن المسكرات

غذاء نافع، فزعم قديم قوِّضت أركانه الآن. وليس الألكحول غذاء بل هو سم

زعاف مثل سائر السموم ويجب أن يعامل مثلها، يجتنب دوامًا ولا يستعمل إلا إذا

دعت الحاجة إليه دواء؛ لأن العلم والاستقراء قد أثبتا ذلك.

_________

ص: 344

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من الحجاز

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

أجمعين.

هذه أسئلة نرفعها لحضرة السيد رشيد رضا منشئ المنار الإسلامي بمصر،

لا زال بعافية آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرجوكم يا سيدي أن تجاوبوني عنها على

صفحات مناركم المنير.

(س 20-26) ما قولكم شكر الله سعيكم:

(1)

في قول بعض من ألف في الأحاديث الموضوعة هذا الحديث صح

من جهة الكشف، وهل يعتمد ذلك؟

(2)

وهل الكشف له أصل في ديننا، أو هو باطل؟

(3)

ولفظ كَشْف، هل كان معروفًا عند الصحابة رضوان الله عليهم؟

(4)

وهل يعتمد على قول من يقول: إن الحديث قد يكون صحيحًا عند المحدثين

وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل الله تعالى يعرفون أنه

موضوع؟

(5)

وهل يعتمد على قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شرط

العصمة في أحد؟ فكيف نرد بعض الأحاديث ونقول: راويها كذاب، والكذب ما

أحد معصوم منه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

(6)

وعلى قول بعض الناس: إن الشيخ السيوطي كان يجتمع بالنبي صلى الله

عليه وسلم يقظة، ويصحح عليه الأحاديث، فالموضوع يخبره عنه أنه

موضوع، والصحيح أنه صحيح.

(7)

ويقول الناس من أهل العلم ببلدنا: إن الشيخ الغزالي اجتمعت روحه

بروح سيدنا موسى سأل الباري سبحانه وتعالى عن علماء هذه الأمة وأنهم كأنبياء

بني إسرائيل، فجمع بين روح سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وبين روح الغزالي

رحمه الله، فسأل سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم الغزالي عن اسمه فقال له:

محمد بن محمد بن محمد الغزالي. فقال له: أنا سألتك عن اسمك، فلماذا

أخبرتني عن اسمك واسم أبيك وجدك. فقال له الغزالي: وكيف قلت أنت

للباري لما قال لك: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17-8) هي عصاي

إلخ.. هل هذه المسألة صحيحة ومروية بسند مرضي عن نبينا، أم هي من

اختراعات الشيوخ.

نرجوكم سيدي أن تبينوا لنا الحق في هذه المسائل لا زلتم هادين مهديين.

...

...

...

...

مستفيد من الحجاز

...

...

...

...

م ح ن

الجواب عن مسائل الكشف

لم يقل أحد من الأئمة: إنَّ الكشف من الدلائل الشرعية، أو من مآخذ الأحكام

الدينية، ولا يقبل أحد من المتكلمين، ولا من المحدثين، ولا من الفقهاء، الاحتجاج

بحديث لم تصح روايته بالطرق المعروفة في علم الحديث، ممن يدعي أنه صح من

طريق الكشف، فهذا الكشف الذي يتحدث به الصوفية شيء لا يثبت به حكم شرعي

ولا دليل حكم شرعي كالحديث، ولو جعلنا الكشف حجة شرعية، لما كانت دلائل

الشرع محصورة فيما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، وتلقاه عنه

أصحابه الذين هم خير هذه الأمة، وهم لم يقولوا بهذا الكشف، ولم يحتجوا به.

نعم إنه نقل عن بعضهم شيء من النطق بالإلهام الصادق، كإخبار الصديق عما

في بطن امرأته من الولد، ومعرفة عثمان ما كان من ذلك الرجل الذي نظر إلى المرأة

بشهوة. ولكنهم لم يسموا هذه الإلهامات النادرة كشفا، ولا عدوها طريقًا لمعرفة

الأحكام، وقد سمى عثمان ما اتفق له مع الرجل فراسة. ولكن بعض العلماء أطلق

على ما كان منهم لفظ الكشف، وكانت تعرض لهم المشكلات الشرعية في الأحكام،

فيتذاكرون ويتشاورون فيها، ولا يعتمدون في تقريرها على شيء بعد الكتاب والسنة

إلا على الرأي في استبانة المصلحة وتحري العدل. ولم يدع أحد منهم بعد موت النبي

صلى الله عليه وسلم: أنه رآه بالكشف أو في النوم، فأخبره بأن الحق كذا أو الحكم

كذا.

وإذا قلنا بأن من خواص نفوس البشر أن تدرك بعض الأمور من غير

طريق الحس والعقل نادرا، وأن بعض الناس قد يكون استعداده لذلك قويًّا، وأن من

كان استعداده له ضعيفًا، تيسر له تقويته بضروب من الرياضة، كما ينقل نَقْلاً

مستفيضًا عن البراهمة والصوفية فإن هذا كله لا علاقة له بالدين، وإنما هو من قبيل

سائر خواص المخلوقات التي منها ما هو طريق للعلم، كالخواص التي بني عليها

صنع الآلات التي يعرف بها ما سيحدث من الأنواء والزلازل قبل حدوثه. ولا شيء

من ذلك يعد من الدين، ولم يصل الكشف إلى أن يكون طريقًا منضبطًا للعلم، بحيث

يعرف كل من كان من أهله، ما يعرفه الآخرون، إذا هو طلب معرفته بأن تتفق

معارفهم من غير أن يأخذ بعضهم عن بعض.

ثم إن الصوفية الذين يعدون الكشف من ثمرات طريقتهم، لا يقول أهل

الصدق والعرفان منهم: إن الكشف دليل شرعي، بل يعدون من شروط الاعتداد

بصحته موافقته للشرع. قال محيي الدين في فتوحاته:

كل كشف شهد الشرع له

فهو علم فيه فلتعتصم

وقالوا: إن الكشف إذا جاء بخلاف ما علم من الشرع فهو باطل، ويعدونه

من وحي الشياطين، ولهم في ذلك حكايات غريبة، ولم أر من علماء الأصول من

بالغ في التسليم بما نقل من الإلهام والكشف، حتى ما علم عند المحدثين أنه لم يصح

مثل أبي إسحاق الشاطبي الغرناطي صاحب الموافقات، فإنه عد من الأصول كون

المزايا والمناقب عامة، كعموم الأحكام والتكاليف بين النبي صلى الله عليه وسلم

وأمته، إلا ما ثبت أنه خاصة به، وذلك مما افتحره لم يسبقه إلى القول به أحد من

أئمة المسلمين، وإن قال جمهور المتكلمين: ما جاز أن يكون معجزة جاز أن يكون

كرامة وهو خلاف التحقيق. وقد ذكر من فروعه الخوارق من الفراسة الصادقة،

والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة. واشترط للعمل بذلك ما

بينه في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد قال:

(إن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر، إلا بشرط أن لا تخرم حكمًا

شرعيًّا ولا قاعدة دينية، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في

نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما إلقاء من الشياطين وقد يخالطه ما هو حق

وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت

مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا

خاص، كما تقدم في المسألة قبل هذا، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطراد، ولا

يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف. وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل

الذي نحن بصدده، مضادًّا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل) .

ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران

بالعدالة في أمر، فرأى الحاكم في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: لا

تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل، فمثل هذا من الرؤيا لا يعتبر بها في أمر ولا نهي،

ولا بشارة ولا نذارة؛ لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة، وكذلك سائر ما يأتي من

هذا النوع، وما روي أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا

رؤيت، فهي قضية عين، لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها، فلعل الورثة رضوا

بذلك، فلا يلزم منها خرم أصل، وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا المعين

مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد، وقد تحصل بالحجة

لعمرو، أَوْ مَا أشبه ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر،

فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد، ولا الشهادة بالمال لزيد

على حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادًا

على مجرد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك

لجاز نقض الأحكام بها، وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال،

فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن

يكون ألحن بحجته من بعض، فأحكم له، على نحو ما أسمعه منه) ، الحديث، فقيد

الحكم بمقتضى ما يسمع، وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري

على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل. ولكنه عليه السلام لم يحكم

إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم

بعلمه وقد ذهب مالك في القول المشهورعنه، أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر

يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب؛ لأنه إذا لم يحكم

بشهادتهم كان حاكمًا بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفادًا من العادات التي لا ريبة

فيها، لا من الخوارق التي تداخلها أمور، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك

بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق ولذلك لم يعتبره رسول الله

صلى الله عليه وسلم وهو الحجة العظمى، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة

الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام جريًا على طريقة إياس ابن

معاوية أيام كان قاضيًا، قال: ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد

عليه، هذا ما قال وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقًا من غير حجة

سواها.

فإن قيل: هذا مشكل من وجهين: أحدهما أنه خلاف ما نقل عن أرباب

المكاشفات والكرامات، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء، كان جائزًا لهم في الظاهر

تناولها اعتمادًا على كشف أو إخبار غير معهود، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي

حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال، فرأى بالبادية شجرة تين فَهَمَّ أن يأكل منها،

فنادته الشجرة: لا تأكل مني فإني ليهودي، وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة

قليلة الدخول، وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنو منها زجر عنها، فامتنع وخرج فبعد

ثلاثة أيام ظهر لها زوج، وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها،

هل هذا المتناول حلال أم لا؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض

أصابعه، إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع منه، وأصل ذلك حديث أبي

هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة، وفيه فأكل رسول الله

صلى الله عليه وسلم وأكل القوم، وقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها

مسمومة ومات بشر بن البراء. الحديث، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على

ذلك القول، وانتهى هو، ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار، وهذا أيضًا موافق

لشرع من قبلنا، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ، وذلك في قصة بني إسرائيل، إذ

أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه

الحكم بالقصاص. وفي قصة الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام، وهو ظاهر في

هذا المعنى إلى غير ذلك، مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم السلام،

وكرامات الأولياء رضي الله عنهم.

والثاني: أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء،

كالعادات بالنسبة إلينا، فكما لو دلنا أمر عادي إلى نجاسة الماء أو غصبه لوجب

علينا الاجتناب فكذلك هاهنا؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب، أو من عالم

الشهادة، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ورؤيتها بعين

الكشف الغيبي، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا، كما يبنى على ذلك، ومن فرق

بينهما فقد أبعد.

فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابًا

وعملاً بما هو مشروع على الجملة، وذلك من وجهين:

(أحدهما) الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فيلحق به

في القياس ما كان في معناه، إذ لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي

صلى الله عليه وسلم، حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع، وإنما يختص به

من حيث كان معجزًا، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا على أن

خرق السفينة، قد عمل بمقتضاه بعض العلماء بناءً على ما ثبت عنده من العادات.

أما قتل الغلام فلا يمكن القول به. وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين،

ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول: دمي عند

فلان.

(والثاني) على فرض أنه لا قياس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى إذ

الجاري عليها العمل في القياس. ولكن إن قدرنا عدمه، فنقول: إن هذه الحكايات

عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو

الإثم، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر، فيدخل فيها هذا النمط، وقد قال

عليه السلام: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك) فإذا لم

يخرج هذا عن كونه مستندًا إلى نصوص شرعية عند من فسر حزاز القلوب

بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم.

ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية، وكلامنا إنما

هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول

بمثله في شريعتنا ألبتة، فهو حكم منسوخ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من

الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال، فعمدة الشريعة تدل على خلافه، فإن أصل

الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصًا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير

عمومًا أيضًا، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي، يجري

الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك

بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.

(ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال خوفًا أن يقول الناس: إن محمدًا

يقتل أصحابه، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به، فلا حرج لأنا

نقول هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ

ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح

ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر، بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر

وران على الظواهر وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملةً، ألا ترى إلى باب

الدعاوى المستند إلى أن البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر، ولم يستثن من

ذلك أحد، حتى إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى البينة في بعض ما

أنكر فيه، مما كان اشتراه فقال:(من يشهد لي) حتى شهد له خزيمة بن ثابت،

فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس،

لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحد،

فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية، ومن هنا لم يعبأ

الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع، بل عدوا أنه من

الشيطان، وإذا ثبت هذا فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة، وما ذكر من

تكليم الشجرة فليس بمانع شرعي، بحيث يكون تناول التين منها حرامًا على المكلم

كما لو وجد في الفلاة صيدًا فقال له: إني مملوك وما أشبه ذلك.

لكنه تركه لغناه عنه لغيره من يقين الله أو ظن طعام بموضع آخر أو غير ذلك،

وكذلك سائر ما في هذا الباب، أو نقول: كان المتناول مباحًا له فتركه لهذه العلامة،

كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا، وغير ذلك حسبما يذكر بعد بحول

الله تعالى، فكذلك نقول في الماء الذي كوشف: إنه نجس أو مغصوب، وإذا كان له

مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر، بل يصير منتقلاً من جائز

إلى مثله فلا حرج عليه، مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف؛ إعمالاً

للظاهر واعتمادًا على الشرع في معاملته به فلا حرج عليه ولا لوم؛ إذ ليس

القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرًا شرعيًّا، ولا أن تعود على شيء منه

بالنقض، كيف؟ وهي نتائج عن اتباعه فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع أو

يعود الفرع على أصله بالنقض، هذا لا يكون ألبتة، وتأمل ما جاء في شأن

المتلاعنين، إذ قال عليه السلام: إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان، وإن جاءت

به على صفة كذا فهو لفلان، فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية

للمكروه، ومع ذلك فلم يقم الحد عليها، وقد جاء في الحديث نفسه: (لولا الأيمان

لكان لخولها شأن) ؛ فدل على أن الأيمان هي المانعة، وامتناعه مما هم به، يدل

على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان، ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد

الأيمان ما قال الزوج: لم تكن الأيمان دارثة للحد عنها.

والجواب عن السؤال الثاني: أنَّ الخوارق وإن صارت لهم كغيرها فليس

ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق؛ إذ لم يثبت ذلك شرعًا معمولاً به، وأيضًا فإن

الخوارق وإن جاءت تقتضي المخالفة فهي مدخولة، قد شابها ما ليس بحق كالرؤيا

غير الموافقة، كمن يقال له: لا تفعل كذا وهو مأمور شرعًا بفعله، أو افعل كذا وهو

منهي عنه، وكثيرًا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب، أو من سلك

وحده بدون شيخ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة

غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء.

(فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يعمل عليها، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل

عليها؛ قيل: إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية، فأما العمل عليها

مع الموافقة فليس بمنفي) .

أقول: فهي لا تقل عن الهوى الموافق للشرع. ثم ذكر في المسألة الثانية عشرة

ما نصه:

(إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم

فهي عامة أيضًا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف، فإليها

نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل ما في الظاهر، والدليل على

ذلك أشياء منها ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر

الشريعة.

(والثاني) أَنَّ الشريعة حاكمة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق

والأمور الغيبية حاكمًا عليها: بتخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تأويل ظاهر،

أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكمًا عليها، وصارت هي محكومًا عليها بغيرها،

وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.

(والثالث) أَنَّ مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها؛

وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك بل أعمالاً من أعمال

الشيطان.

ثم قال بعد ذكر شاهدين من الخوارق في فصل من هذه المسألة ما نصه:

(ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح

ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك فهي

صحيحة مقبولة في موضعها، وإن لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء

عليهم السلام، فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعًا) اهـ.

أقول: والغرض من هذا كله؛ بيان أن الشريعة كاملة لا تحتاج إلى تكميلها

بالكشف، ولا بالرؤيا والأحلام، وأنها هي الحاكمة لا يحكم عليها سواها. وقد

قرأت كلام هذا الأصولي الذي يصدق بالخوارق، وأنت تعلم من علماء الأصول من

لا يقول بجوازها لغير الأنبياء، كالمعتزلة والأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي

من أئمة الأشعرية، والأكثرون القائلون بجوازها لا يقولون بأن أحدًا يكلف تصديق من

يدعيها بشيء مما يدعيه منها وإن وافق الشرع، فكيف يكلفونه أن يصدقه بالعبث

بأحد أصوله كالسنة النبوية، بأن يصحح ما لم يصح عن الرسول - صلى الله

عليه وسلم - ويكذب ما صح عنه، وهم يعترفون معه بأن بعض هذه الخوارق

والمكاشفات أحوال شيطانية. فإذا كان فيها الحق والباطل، والخطأ والصواب، فهل

عندنا شيء نرجع إليه في بيان الحق والصواب إلا الشريعة المطهرة؟ فمما تقدم كله

تعرفون أنه لا وجه للاعتماد على قول من يصحح الأحاديث بالكشف، ولا قول من

يجعل الكشف أصلاً شرعيًّا، ولا عمل المكاشف بكشفه المخالف للشرع فضلاً عن

عمل غيره به، وما وافقه كان كالرأي والميل النفسي، وقد تقدم أن الصحابة لم

يقولوا بشيء من ذلك، وبذلك تتم أجوبة الأسئلة الثلاثة.

وأما السؤال الرابع: فهو على العلم بجوابه مما سبق أيضًا، وهو أنه لا يعتمد

على قول أهل الكشف، إذا قالوا بوضع ما صححه المحدثون من الأحاديث، يحتاج

فيه إلى التنبيه على أمر مهم، وهو إن ما صح سنده من الحديث قد يكون غير

صحيح المتن، فإن بعض الذين يتعمدون وضع الحديث كانوا لحذرهم من نقد

صيارفة المحدثين يظهرون الورع، ويتحرون الصدق، وقد تاب بعضهم فاعترفوا

بذلك، ولذلك جعل المحدثون للحديث الموضوع علامات، منها ما يتعلق بمتنه

كركاكة الألفاظ أو المعاني، ومخالفة نصوص الكتاب أو السنة المتواترة، ومخالفة

العقل، كما قالوا في حديث طواف سفينة نوح بالبيت على أن سنده غير مرضي

كمتنه. فمن كان ذا بصيرة نيرة في الدين وعلم بمقاصده، يمكنه أن يعرف الحديث

الموضوع، وإن قالوا بصحة سنده. ولكن لا يقبل قوله إلا بدليل معقول.

وأما السؤال الخامس: فجوابه أن من تقبل روايته هو من يوثق بحديثه

وإن لم يكن معصومًا، فإن ذلك القائل يعلم بالضرورة أن من الناس العدل الثقة

الصدوق، وإن لم يكن معصومًا ومنهم الفاسق الكذوب، وأنه يثق بخبر الأول دون

الثاني، فكيف يجعل مع هذا رواية هذا كرواية ذاك؟ هل يستوي الصادقون

والكاذبون؛ لأن كلامهما غير معصوم؟ وغاية ما يترتب على عدم العصمة أن يكون

خبر الصدوق غير المعصوم مفيدًا للظن لا لليقين، وهذا ما اتفق عليه العلماء في

أحاديث الآحاد، ولذلك قال المحققون: إنه لا يحتج بها في المسائل التي يطلب فيها

اليقين كمسائل الاعتقاد.

وأما السؤال السادس: فجوابه: أَنَّ ما ذكر السيوطي مذكور في بعض الكتب

ولكن لم يرو عنه بأسانيد صحيحة متصلة أنه ادعى ذلك، ولو روي كذلك لم يكلف

أحد تصديقه، ومن صدقه لا يجوز له أن يأخذ بتصحيحه لتلك الأحاديث؛ لأن هذا

من قبيل الكشف، وقد علمت أنه لا يعتمد عليه، وقد ادعى كثيرون رؤية النبي

صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فأنكر عليهم بعض العلماء وسلم لهم آخرون، ولا

يقول أحد من هؤلاء ولا من أولئك بأنه يجب على أحد أن يؤمن لهم، ويأخذ

بدعواهم.

ولهم في هذه المسألة كلام كثير في الرؤية الخيالية وغير الخيالية، وقد عرفنا

نحن غير واحد من الصوفية الذين يدعون رؤية الأرواح ومخاطبتها، ومنهم من قال:

إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحاديث كثيرة من الجامع الصغير

للسيوطي فأنكرها صلى الله عليه وسلم، وهكذا نسمع عنهم التناقض في الكشف

وفي رواية النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يصح أن نحكمهم في الحديث حتى

مع التسليم لهم؟ ؟ لا لا.

وأما السؤال السابع: فهو من الحكايات التي يتناقلها الناس، وليس لها رواية

يوثق بها، ومعناها كما ترى صريح في أن حجة الغزالي أقوى من حجة كليم الله،

وهو في جوار الله فحسبنا الله.

_________

ص: 348

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استفتاء عن الكشف الطبي على الميت

(س 27) من السيد عبد الجليل الزاووش أحد نابغي النابتة العصرية

(بتونس) .

الحمد لله وحده:

حضرة الأستاذ المحقق العالم المدقق، حكيم الإسلام ومرشد الأنام سيدي:

رشيد رضا منشئ مجلة المنار الباهرة الغراء، دام إسعاده وكماله.

أما بعد السلام الأتم عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني أرجوكم - ولكم مزيد المنة

والشكر، ووافر الثواب والأجر - أن تتفضلوا بالجواب الشرعي عن السؤال الآتي

ونشره في أقرب وقت على صفحات مناركم. أطال الله بقاكم وإليك السؤال:

ما هو الحكم في إحضار الحكيم المعمول به في بعض الممالك الإسلامية

الشرقية؛ لأجل الاطلاع على من يخبر بموته وشهادته بصحة الخبر، واكتشافه

سبب الموت؛ حتى لا يدفن الإنسان حيًّا، ولا يخفى المرض المعدي وفي ذلك مما

يفيد الأمة في حالتها الصحية ما لا يخفى، فهل ذلك - رعاكم الله - مما لا يجوز

مطلقًا ولو كان الحكيم مسلمًا، ولم يستتبع الكشف على الميت أدنى عملية جراحية،

أو ما يوجب أقل إهانة لكرامة الميت، ولو مع تخصيص حكيم لمباشرة

الرجل وحكيمة لمباشرة المرأة أو يسوغ مطلقًا أم المقام فيه تفصيل؟ أفيدونا

تؤجروا وترحموا.

(ج) ليس في هذه المسألة نص عن الشارع، وهي من المسائل الدنيوية

التي تتبع فيها قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح وحينئذ يختلف الحكم باختلاف

الأموات، فإذا وقع الشك في موت من ظهرت عليه علامات الموتى، وعلم أن

الطبيب يمكنه أن يعرف الحقيقة بالكشف عليه فإن الكشف عليه يكون متعينًا،

ويحرم دفنه مع بقاء الشك في موته وإبقاؤه عرضة للخطر، ويختار الطبيب الذي

يوثق به؛ للعلم ببراعته وأمانته على غيره؛ لأن العبرة في ذلك بالثقة، فإذا لم

يوجد طبيب مسلم يوثق به، ووجد غيره اعتمد عليه، بل إذا وجد طبيب مسلم غير

موثوق به، وطبيب غير مسلم موثوق بتكرار التجربة، يرجح الاعتماد على الثاني؛

لأن المسألة ليست عبادة فيكون الترجيح فيها بالدين، بل أقول: إن مَنْ اشترط

من الفقهاء إسلام الطبيب الذي يؤخذ بقوله في المرض الذي يبيح ترك الغسل

والوضوء إلى التيمم، إلا لاعتبار ذلك من أركان العدالة التي هي سبب الثقة، وقد

صرحوا حتى في هذه المسألة الدينية بأن المريض إذا صدق الطبيب الكافر بأن

الماء يؤذيه في مرضه، كان له أن يعمل بقوله. وإذا كان من اشتبه في موته امرأة

ووجدت طبيبة يوثق بها قدمت على الطبيب حتمًا، فإن لم توجد كشف عليها

الطبيب كما هو الشأن في جميع الأمراض.

ومن درء المفاسد والقيام بالمصالح العامة، ما تفعله (مصلحة الصحة)

بمصر، وحيث توجد من مقاومة أسباب الوباء والأمراض المعدية، ومن أعمالهم ما

هو مفيد قطعًا، ومنه ما تظن فائدته، فإذا علم أن في الكشف على الميت؛ لمعرفة

سبب مرضه مصلحة عامة، لم يكن ما يعبرون عنه بتكريم الميت مانعًا من ذلك،

نعم، إن إهانة الميت محظورة. ولكن الإهانة تكون بالقصد وهو منتف هنا، على

أن درء المفاسد وحفظ المصالح العامة من الأصول التي لا تهدم بهذه الجزئيات،

والمدار على العلم بأن هنا مفسدة يجب درؤها، أو مصلحة يجب حفظها، فإذا علم

أولو الأمر ذلك عملوا به، والشرع عون لهم عليه.

_________

ص: 358

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من الهند

حضرة المصلح الكبير والفليسوف الشهير صاحب مجلة المنار الأكرم.

السلام عليكم

وبعد:

فنرجوكم الإفادة المطابقة لمذاهب الأئمة الأربعة أو أحدهم عما هو آت، ثم

إبداء رأيكم الخاص في ذلك: رجل من تجار المسلمين القانطين بكلكته، تأتي له

حوالات نقدية من الجهات على البنك، وأصحاب البنك المذكور قوم من النصارى

الأروباويين، فيبقيها في البنك، ويؤخذ منها بقدر الحاجة فقط، بلا شرط بينه وبين

أصحاب البنك، فإذا مضى على النقدية أو بعضها ستة أشهر، يحسبون له زيادة عن

الأصل روبيتين في المائة في السنة، فيكون في الستة الأشهر روبية في المائة، وذلك

لأنهم - أي: أصحاب البنوك - ينتفعون ببقاء الدراهم عندهم نحو اثنتا عشرة روبية

أو أكثر في المائة سنويًّا، وللعملة في البنك عادة على الرجل المذكور في السنة

يأخذونها منه بقشيشًا، فهل - والحالة هذه - يباح للرجل المذكور ما يأخذه من

أرباب البنك باختيارهم من غير شرط معهم كما تقدم أم لا؟ أفيدونا سيدي. فإن

المسألة واقعة حال. لا زلتم

سؤال آخر:

حضرة المحقق من التزم القيام بوظيفتي الإفتاء، ودعوة الأمة إلى العمل

بالكتاب والسنة، فضيلة الشيخ محمد رشيد الأفضل.

قد اطلعت على قولكم خلال جوابكم على مسألة الأعطار الإفرنكية: وأكثر

أئمتنا وعلمائنا على أن الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب أو المصلى، وقد

اختلفوا

إلخ. ولا يخفاكم أنَّ مقابل الأكثر الكثير، وعليه فالفقير يلتمس من سيادتكم

أن تبينوا له بعضًا من القائلين بصحة الصلاة مع النجاسة غير المعفو عنها، مع

الاختلاف في القدر المعفو عنه منها كما هو مقرر، إن لم يمكنكم بيان الكل ولكم

الفضل.

سؤال آخر:

وكذا ألتمس من تحقيقاتكم أن تفيدونا عن بعض القائلين بطهارة الخمر

المفهومة من قولكم في الجواب المذكور، وإن كانت نجاستها حسية، كما هو

المعروف عن الفقهاء القائلين بذلك

إلخ؛ لنكون على بصيرة بواسطتكم من حكم

الكتاب والسنة، إذ لم نفهم منهما إلى الآن طهارة الخمر المتخذة عن عصير العنب

وثمرات النخيل، وحينئذ نعتقد أن وجودكم سيدي بين ظهرانينا منة من الله علينا

ورحمة، وكم لله علينا من النعم. تفضلوا مولاي بالجواب، ولكم إن شاء الله الأجر

والثواب.

سؤال آخر:

ما الحكم سيدي في قوم من أهل الهند المسلمين لا يورثون البنات والزوجات؛

جريًا على عادة الهندوس الكفرة، وهي عادة قديمة للمسلمين أيضًا قبل إسلامهم،

وقد خَيَّرَهُمْ حاكم البلاد حين ترافعوا إليه في مسألة الميراث المذكورة، بين أن

يفصل بينهم بموجب الشريعة الإسلامية، وبين أن يكون الفصل بموجب عادة الكفار

مواطنيهم، فقالوا: نختار البقاء على العادة القديمة، ورضوا بعدم توريث البنات

والزوجات معًا، وبعضهم البنات فقط، وآخرون لا يورثون الأولاد ذكورًا كانوا أو

إناثًا، بل ما يتركه الميت لولد أخته الذكر دون الأنثى مع وجود ولد الصلب، وذلك

بحسب عادة بلادهم القديمة، وهم يختلفون في ذلك، فأهل بنجاب لا يورثون البنت

والزوجة، وأهل كيزرات يحرمون البنت فقط، وأهل مليبار يحرمون الأولاد مطلقًا

وما ترك لابن الأخت. فهل يكفرون بهذا الفعل أم لا؟ بينوا تؤجروا ودمتم.

...

...

...

...

... أحمد موسى

...

...

...

...

...

بكلكته

الجواب على مسألة أمانات البنك

من أعطى إنسانًا باختياره مالاً أو عَرَضًا لا يستحقه عليه، فأخذه كان حلالاً

بالإجماع، ما لم يكن هناك غش أو نحوه من الأمور التي تنافي أن يكون المعطي قد

أعطى برضاه واختياره، ومن هذه الأمور ما قد يكون معروفًا للآخذ، ومنها ما

يكون شبهة، ومن ذلك موضوع السؤال، فإنه لم يسأل عنه، إلا وهو عند أصحاب

الواقعة محل شبهة، هل هو من الربا أم لا؟ ولو جزموا بأحد الوجهين، لم يسألوا.

أما الربا فقد عرَّفه الحنفية الذين يقلدهم أكثر أهل الهند؛ بأنه الفضل الخالي

عن العوض المشروط في البيع، كما في حواشي فتح القدير وغيرها، فقولهم

المشروط في البيع، يخرج منه واقعة الحال المسؤول عنها؛ إذ لا شرط فيها، وفي

شرح المنهاج للشمس الرملي الشافعي أن الربا شرعًا عقد على عوض مخصوص

غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو

أحدهما؛ وقوله: (أو مع التأخير) معناه أو عقد مع تأخير، كما في حاشية

الشبراملسي عليه. ولا عقد في الواقعة المسؤول عنها.

ويشبه مسألة الحوالة مسألة الوديعة التي تقع كثيرًا، فإن بعض البنوك قد تزيد

للمودع شيئًا على ماله المودع فيها، وما قد يقع منه بلا شرط فهو يشبه الواقعة، إلا

أن يقال: إن الوديعة أشبه بالقرض أو الدين، منها بالأمانة؛ لأن أهل البنك

يتصرفون بالمال ويردون غيره، والعرف يقوم مقام العقد في ذلك، وقد صرح غير

واحد من الفقهاء بأن كل قرض جر نفعًا للمقرض فهو ربا، ورووا ذلك

حديثًا.

وأقول: إن ما جرى عليه العرف في معاملة البنوك على ما نعلم، أَنَّ ما

يوضع فيها أمانة، يجوز لصاحبه أن يسترده كله أو بعضه متى شاء، وما يؤخذ

على أنه دين ليس لصاحبه أن يسترده إلا بعد انتهاء الأجل، أو يأخذ ما يطلب من

المال بربًا أكثر من الربا الذي يأخذه هو من البنك، وإن كان ما طلبه جزءًا من

ماله.

مثال ذلك، أن من أعطى البنك ألفًا على أن له في المائة ثلاثًا في السنة، ثم

طلب قبل انقضاء السنة خمس مائة، فإن البنك يعطيه إياها على أن له ستًّا في

المائة أو أكثر أو أقل قليلاً، وكل ذلك يجري بعقود مكتوبة.

أما الودائع فيعطي البنك بها وصلاً للمودع، ومنها ما لا يزيده على ما أودع

شيئًا، فيبقى وجه الشبهة في الواقعة المسؤول عنها، وفيما يشبهها أنها من قبيل

القرض الذي جر نفعًا، وهي ضعيفة في الحوالة قوية في الوديعة.

على أن الفقهاء لا سيما الحنفية قد شددوا في مثل ذلك، ويعدون كل ما يؤخذ

بلا مقابل ربا، فمن اعتقد ذلك حرم عليه الأخذ.

وإذا رجعنا إلى الدليل، رأينا أن حديث (كل دين جر نفعًا)

إلخ ضعيف

كما سيأتي عن نيل الأوطار، بل قال الفيروزبادي: إنه موضوع. ولكن في الباب

أحاديث أخرى، وآثار تفيد في إنارة المسألة، قال في منتقى الأخبار:

(عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن

من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنًّا فوقها، فقال:

أعطوه، فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خيركم

أحسنكم قضاء) .

وعن جابر قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي عليه دين،

فقضاني وزادني) . متفق عليهما.

وعن أنس وسئل: (الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه، فقال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه، أو حمله على

الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك) ، رواه ابن

ماجه.

وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقرض فلا يأخذ

هدية رواه البخاري في تاريخه.

وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال

لي: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو

حمل شعير أو حمل قتّ [1] فلا تأخذه فإنه ربا. رواه البخاري في صحيحه.

أقول: أثر عبد الله بن سلام لا يحتج بمثله الجمهور، الذين يحصرون أدلة

الشرع في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ومن الغريب قوله بفشو الربا في

المدينة، والظاهر أنه قاله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإخراج اليهود

منها، وقال الشوكاني في شرح هذه الأحاديث ما نصه: حديث أنس في إسناده يحيى

بن أبي إسحاق الهنائي وهو مجهول، وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي، وقد

ضفعه أحمد، والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، قوله (سن) أي:

جمل له سن معين، وفي حديث أبي هريرة دليل على جواز المطالبة بالدين إذا حل

أجله، وفيه أيضًا دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم

وتواضعه وإنصافه، وقد وقع في بعض ألفاظ الصحيح أن الرجل أغلظ على النبي -

صلى الله عليه وآله وسلم فهمَّ به أصحابه، فقال: (دعوه فإن لصاحب الحق

مقالا) كما تقدم، وفيه دليل على جواز قرض الحيوان، وقد تقدم الخلاف في ذلك،

وفيه جواز رد ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، وبه

قال الجمهور وعن المالكية إن كانت الزيادة بالعدد لم يجز، وإن كانت بالوصف

جازت، ويرد عليهم حديث جابر المذكور في الباب، فإنه صرح بأن النبي - صلى

الله عليه وآله وسلم - زاده، والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية

للبخاري أن الزيادة كانت قيراطًا، وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم

اتفاقًا، ولا يلزم من جواز الزيادة في القضاء على مقدار الدين جواز الهدية ونحوها

قبل القضاء؛ لأنها بمنزلة الرشوة، فلا تحل كما يدل على ذلك حديثا أنس المذكوران

في الباب وأثر عبد الله بن سلام [2] والحاصل أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت

لأجل التنفيس في أجل الدَّين أو لأجل رشوة صاحب الدَّين، أو لأجل أن يكون

لصاحب الدَّيْنِ منفعة في مقابل دينه فذلك مُحَرَّم؛ لأنه إما نوع من الربا أو رشوة،

وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس،

وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا فالظاهر المنع لإطلاق النهي عن ذلك.

وأما الزيادة على مقدار الدَّين عند القضاء بغير شرط، ولا إضمار فالظاهر

الجواز من غير فرق بين الزيادة في الصيغة والمقدار، والقليل والكثير؛ لحديث أبي

هريرة وأبي رافع والعرباض وجابر، بل هو مستحب. قال المحاملي وغيره من

الشافعية: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخذ؛ للحديث الصحيح في ذلك،

يعني قوله: (إن خيركم أحسنكم قضاء) ، ومما يدل على عدم حل القرض الذي

يجر إلى المقرض نفعًا، ما أخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفًا

بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا، ورواه في السنن الكبرى عن

ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفًا عليهم، ورواه

الحارث بن أبي أسامة من حديث علي عليه السلام بلفظ أن النبي - صلى الله

عليه وآله وسلم - نهى عن قرض جر منفعة، وفي رواية: (كل قرض جر منفعة

فهو ربا) ، وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، قال عمر بن زيد في المغني: لم يصح فيه شيء، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح،

ولا خبرة لهما بهذا الفن. اهـ المراد منه، ومعظمه منقول من فتح الباري.

وأما الربا الذي نهى عنه الكتاب العزيز بالنص الصريح، فهو ربا النسيئة

المضاعف، وقد ذكرنا كيفيته، وبينا حكمته بالتفصيل في تفسير آياته من أواخر

سورة البقرة. وتحريمه ليس تعبديًّا، كما يقول من يرى ذلك من الفقهاء، بل هو

معلل بقوله عز وجل: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) وبقوله:

{وَاتَّقُوا اللَّه} (آل عمران: 130) بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا

أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) فإن هذا من القسوة، ومنع المعروف

عند الحاجة المنافي للتقوى، والمراد بهذا الربا المعروف: ما كان عليه الناس في

الجاهلية، وهو كما قال الإمامان مالك وأحمد وغيره: أَنْ يكون للرجل على الرجل

دَيْن مؤجل من قرض أو ثمن، فيقول له عند الأجل: إما أن تقضي، وإما أن تربي

فيزيد ويربي له لحاجته كلما طلب. وليس منه في شيء ما تقدم في السؤال، وهو

أن يستعمل إنسان مال آخر مودعًا عنده برضاه، ثم يعطيه برضاه عند القضاء، أو

في آخر السنة جزءًا مما ربح برضاه واختياره، من غير شرط ولا عقد.

هذا ما عَنَّ لنا في هذا المسألة مع صرف النظرعن حكم دار الحرب، وما

أحلوه فيها من العقود الفاسدة ونحوها، وأطالت الخوض فيه الجرائد الهندية من زمن

ليس ببعيد. ولا تنس في هذا المقام، ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقود

الفاسدة في المعاملات، وإن ما اشترط في صحتها، إنما اشترط لأجل أن يكون العقد

لازمًا ونافذًا عند الحاكم، لا لأجل التقرب إلى الله تعالى، فالعقد الذي لا يجيزه

الشرع كعقد الربا، لا ينفذه الحاكم الشرعي، ولا يلزم الوفاء به، بل ولا يحل

اشتراطه وجعله حقًّا يطالب به، وهذا لا يمنع الناس منعًا دينيًّا؛ أن يتصرفوا في

أموالهم برضاهم في غير الفواحش، والمنكرات المحرمة لذاتها. وعندي أن ما زاده

النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الدَّين على دَيْنه من هذا القبيل. وقد سبق لنا

في المنار كلام في هذا المبحث.

***

الجواب في صلاة متنجس الثوب

أو البدن أو المصلى

نقل الخلاف في ذلك الشوكاني أول الجزء الثاني من نيل الأوطار، قال:

(وهل طهارة ثوب المصلي شرط لصحة الصلاة، أم لا؟ فذهب الأكثر إلى أنها

شرط، وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير، وهو مروي عن مالك

أنها ليست بواجبة، ونقل صاحب النهاية عن مالك قولين؛ أحدهما: إزالة النجاسة

سنة وليست بفرض.

وثانيهما: أنها فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان، وقديم قولي الشافعي أن

إزالة النجاسة غير شرط. ثم أورد حجج الجمهور على الشرطية، وما يرد عليهم به

الآخرون، وقال بعد ذلك كله: إذا تقرر لك ما سقناه من الأدلة وما فيها، فاعلم أنها لا

تقصر عن إفادة وجوب تطهير الثياب، فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة، كان تاركًا

لواجب، وأما أَنَّ صلاته باطلة، كما هو شأن فقدان شرط الصحة فلا لما عرفت) .

اهـ

والكلام في النجاسة مطلقًا، ولا يأتي هنا التفصيل في المعفو عنها منها وغيره؛

لأن هذا التقسيم مبني على القول بالشرطية.

***

الجواب عن مسألة طهارة الخمر

لما أفتينا بطهارة الأعطار الإفرنجية. وهو ما أُطْلِعْتُمْ عليه في ص 500 من

مجلد المنار الرابع، ردَّ علينا بعض المتطفلين على موائد العلم برسالة رددنا عليها

في ذلك المجلد ردًّا، لو اطلعتم عليه لما سألتم هذا السؤال، فلكم أن تراجعوه في ص

812 وما بعدها وص 866 وما بعدها، ترون فيه النقل عن الإمام ربيعة فقيه

المدينة وشيخ الإمام مالك، وعن الإمام داود القول بطهارة الخمر معزوًّا إلى بعض

من نقله كالإمام النووي.

وأنتم تعلمون أن الأصل في الأشياء الطهارة، ما لم يرد نص عن الشارع

بالنجاسة، ولا نص في نجاسة الخمر كما بينا ذلك هنالك، فقولكم إنكم لم تفهموا من

الكتاب والسنة طهارتها في غير محله؛ لأن هذا هو الأصل، وإلا فأين النص من

الكتاب والسنة على طهارة الأشجار والأحجار والدبس والزيت وغير ذلك.

***

الجواب عن مسألة مخالفي

القرآن في الميراث

المدار في التكفير على جحود المجمع عليه، المعلوم من الدين بالضرورة،

فإذا كان من ذكرتم يجحدون أحكام الكتاب العزيز، ولا يذعنون لها مع العلم بها،

فهم لا يعدون من المسلمين، والجهل بها جملة وتفصيلا، لا يعد عذرًا لمن نشأ بين

المسلمين، ومن كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ في شاهق جبل، فلم يعرف أحكام

المسلمين الضرورية، يكون معذورًا كما قالوا حتى يعلم، فإن أذعن، وإلا لم يكن

مسلمًا وذلك مشهور.

وأما إذا كان هؤلاء يؤمنون بالقرآن ويذعنون له، إلا أن الوارثين شرعًا رضوا

باختيارهم أن يأخذ غيرهم ما يستحقونه، وكان الآخذ بغير حق لا يستحل الأخذ

إلا بناء على رضا صاحب الحق، لم يظهر وجه للقول بكفرهم كما يفعل بعض مسلمي

القطر المصري وغيرهم. من رضاء البنات بترك ميراثهم لإخوتهم، ومن استحل أكل

ميراث أخته بدون رضاها، لا يعتد أحد بإسلامه، بل يحكم جميع الفقهاء بردته إن

كان مسلمًا قبل ذلك، ومن الأمور البعيدة التي لا تكاد تعقل أن يتفق قوم من المسلمين

على ترك العمل بالنصوص القطعية المنصوصة في كتاب الله وهم مسلمون حقيقة،

فالظاهر أن من ذكرتم ليسوا مسلمين إلا بالجنسية وما سبب ذلك إلا الجهل. فعسى أن

يوجد في الهند من الدعاة والمرشدين من يهديهم إلى حقيقة الدين.

_________

(1)

القت بالفتح هو الجاف من النبات المعروف وهو رطب بالفصفصة بكسر الفائين وهي القضب.

(2)

قد علمت أن حديث أنس ضعيف وأثر ابن سلام لا يحتج به الجمهور إلا أن يقال: إنَّ له حكم المرفوع وفيه نظر على أن النهي فيه قد يكون للورع.

ص: 359

الكاتب: موسى عبد الله القزاني

‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

ألَّف الشيخ رضاء الدين بن فخر الدين أحد أكابر علماء المسلمين في روسيا،

والعضو في المحكمة الشرعية هناك سابقًا، رسالة أبان فيها رأيه في مطالب مسلمي

روسيا من حكومتهم.

قال: يظهر من قراءة بعض الأوراق المطبوعة وغير المطبوعة، ومما يسمع

من أفواه الكثيرين أن مطالب قومنا المهمة عبارة عما يأتي:

(1)

استرداد الحقوق الواسعة التي منحتها الإمبراطورة (كاترينا) الثانية

للجمعية الشرعية، (أو المحكمة الشرعية) في سنة 1787م.

(2)

إخراج المدارس الإسلامية من تحت إدارة نظارة المعارف العمومية

الروسية، وجعلها تحت نظارة الجمعية الشرعية التابعة الآن لنظارة الداخلية.

(3)

مساواة المسلمين القاطنين في روسيا للروس الأرثوذكس، في الحقوق

المدنية والعسكرية كافة بلا استثناء.

(4)

مساواة علماء الإسلام الرسميين في الامتيازات، للروحانيين

المسيحيين.

(5)

إلغاء جعل معرفة اللغة الروسية شرطًا في تعيين أئمة المساجد وأعضاء

الجمعية الشرعية.

(6)

الحرية في الدين، والمناظرة مع المتحكِّكين بالمسلمين، وحرية

الصحافة.

(7)

إبقاء فصل الخصومات المتعلقة بالأمور الشخصية، كالنكاح والطلاق،

وتقسيم التركات والوصايا، وما إليها من الخصومات العائلية، كما كان في الزمن

السابق بأيدي علماء المسلمين أنفسهم، دون تحويلها إلى المحاكم المدنية.

ثم أفاض الكاتب في بيان رأيه في هذه المواد (ما عدا المادتين الثالثة

والسابعة) ، فآثرنا أن نترجم كلامه على المواد الخامسة والسادسة والثامنة؛ لما

فيها من الفوائد. وأما كلامه في بقية المواد فهو في الغالب مختص بالشؤون الداخلية

البحتة؛ ولهذا أغفلنا ترجمته. قال حفظه الله:

الكلام على المادة الخامسة

لا يحسن بنا أن نحكم بضرر اشتراط تعلم اللغة الروسية لأئمة المساجد

وأعضاء الجمعية الشرعية أو بنفعه، إلا بعد إنعام النظر في حالتنا الحاضرة، إذا

ظلت مدارسنا الدينية على ما هي عليه من الخلل، ودامت حال المتعلمين فيها على

ما هي عليه من الفوضى والفاقة، فهو ضار ألبته؛ لأن الحالة الراهنة تقضي عليهم

بأن يرتادوا من يتعلمون منه اللغة الروسية مبتدئين من (ألفبائها) . بعد أن قضوا

أعوامًا كثيرة في زوايا المدارس الإسلامية، وناهزوا سن الكهولة. ومعظم أولئك

المتعلمين لا يتسنى لهم - لضيق ذات يدهم - أن يظفروا بمعلم متحل

بالفضائل والآداب. فيضطرون إلى اختيار المعلمين المتسفلين في أخلاقهم وآدابهم

بأجور زهيدة. فيتلقون منهم فنونًا من الجهل مع يسير من العلم.

ثم ترى فئة من أولئك المتعلمين الذين قضوا سن الشباب بالعفة والاستقامة

هادئين متنكبين عما يخل بآدابهم. يقصدون لتعلم اللغة المذكورة القرى الروسية أو

المدن. فيتفق لهم أن يروا هناك مجالس الفسق ومحلات الفجور لأول مرة من

حياتهم، فهم - وإن قدعوا نفوسهم مرة أو مرتين عن الدخول في غمار تلك

المجالس - يقعون في مهاويها في المرة الثالثة لا محالة. فينتشر بهذه الواسطة داء

فساد الأخلاق بين المتعلمين، وينهدم بنيان تعففهم. وما ذلك الضعف في

الإرادة، والخور في العزيمة إلا من نقصان تربيتنا المدرسية ووهنها؛ لأننا لا

نربي التلاميذ تربية تجعلهم يمتنعون عن الرذائل؛ لكونها مضادة للكمال

الإنساني، ولمرضاة الله واهب الكمالات. وإنما تربيهم تربية تجعلهم لا يأتون

المنكرات مخافة من الناس لا غير.

نجد بين المتعلمين في مدارس الحكومة الرسمية كثيرين يجتنبون شرب

المسكرات، وتناول الدخان. وأما المتعلمون منا في المدارس الدينية، فيقال: إن

الأعفَّاء فيهم قليلون جدًّا في هذه الأيام، فهذه جهة الضرر. وإما إذا نظرنا إلى حاجة

من يسكن هذه البلاد في قضاء حاجتهم المعاشية، وحفظ حقوقهم الخصوصية

والقومية إلى اللغة الروسية - لغة الأمة الحاكمة - فإننا نقول بنفع اشتراط تعلمها

للأئمة أيضا نفعًا عظيمًا. هذا رأيي في أئمة المساجد. وأما رأيي في أعضاء

الجمعية الشرعية فكما يأتي:

لا يؤمل خير للجمعية الشرعية، والمسلمين من عضوية من ليست لهم قدم

راسخة في العلوم الإسلامية مع قصر باعهم في اللغة الروسية وقوانين الحكومة.

بل يَتَحَتَّم أن يكون الأعضاء فيها لهم براعة في العلوم الإسلامية، وفي لغة

الحكومة، وقوانينها.

وما اشترطت لهم الحكومة من درجة التعلم في المدارس الرسمية ليس بشيء

في جنب ما أحب أن يكونوا عليه.

يجب أن تكون مقاماتهم في العلوم الإسلامية مقامات المجتهدين بالاجتهاد

الاصطلاحي، لا بالاجتهاد اللغوي فقط.

درجة الاجتهاد يجب علينا أن نشترطها من عند أنفسنا، ولو لم تشترطها

الحكومة؛ لأن ذلك يعود على أمتنا بمنافع جمة ما بين دينية واجتماعية. أما منافعه

الدينية فظاهرة. وأما النفع الاجتماعي العظيم فهو إن كون قضاتنا بهذه المثابة من

الاقتدار، يجعل لهم مكانة سامية في نظر الحكومة، ويكون سببًا لبقاء فصل

الخصومات العائلية التي أتى ذكرها في المادة الثامنة من مطالب الأمة بأيدي علمائنا،

وبقاء جمعيتنا الشرعية إلى ما شاء الله.

كأني بقائل يقول: هل يمكن ظهور المجتهدين من بيننا؟

فأقول في جواب هذا السؤال: نعم، لا يوجد اليوم فينا مجتهدون، ويستبعد

الناظر في حالتنا الحاضرة ظهورهم في المستقبل القريب أيضًا. بيد أنه إذا انتظمت

مدارسنا، ودرست فيها العلوم النافعة من كتب أصحاب العلوم الحقيقية بدل هذه

الكتب السخيفة، فلا مانع - في رأيي - من ظهور المجتهدين بيننا.

لا يشترط الاجتهاد الإسلامي ثلث الشروط التي تشترط في ترشيح المرء لأن

يكون رئيسًا أو مدعيًا عموميًّا أو عضوًا أو محاميًا في المحاكم الكبيرة في أوربا

وفي روسيا.

نرى اليوم بين الروس الذين لا يفوقون المسلمين الساكنين في هذه البلاد

بشيء من: الذكاء الفطري، الاستعداد الطبيعي، ألوفًا يساوون المجتهدين في

المذهب، بل المجتهدين المطلقين في علومهم، وبراعتهم في الفقه (علم الحقوق)

والقوانين الوضعية. فكيف يمتنع إذًا ظهور مائة أو خمسين مجتهدًا من بين مسلمي

روسيا الذين ينيف عددهم على 15 مليونًا، إذا سعوا له سعيه وأتوا البيوت من

أبوابها.

إذا نحن أخلدنا إلى الأرض، ورضينا بالجمود على هذه الحالة الوضيعة

فحرام علينا أن نعد أنفسنا من نوع الإنسان الذي فطر على أن يترقى دائمًا مع

الزمان.

أنا أعلم أن كلامي هذا يحفظ قلوب كثير من الجامدين، فينبذونني بالجهل

والمروق عن دائرة الأدب مع الأئمة السالفين، ويقولون ألبتة: (ما لهذا الجاهل

الضال، قد حط من قدر الاجتهاد، وتجرأ على القول بإمكان ظهور المجتهدين في

هذا الزمان. أما سمع هذا المتهور خبر انقضاء عصر الاجتهاد، وانغلاق بابه منذ

قرون كثيرة) .

غير أني أقول لهؤلاء: (إني لم أكتب ما كتبت لغفلتي عن مباحث الاجتهاد،

وخبر انغلاق بابه عند بعضهم. بل كتبته بعد أن بحثت وأدمنت الفكر في هذه

المباحث زمنًا طويلا، حتى هداني البحث والتنقيب إلى معرفة مفتجري فكرة

(انغلاق باب الاجتهاد) ، والأسباب التي حملتهم على افتجارها، والعصور التي

ظهرت فيها تلك الفكرة السيئة.

زحفت التتار إلى بغداد فدمروها تدميرًا وقتَّلوا العلماء تقتيلاً، وأبادوا الآثار

العظيمة الشاهدة بعظمة المسلمين السابقين، وفعل الأسبانيون الأفاعيل بالمسلمين،

وساموهم سوء العذاب في جزيرة الأندلس، أضر هؤلاء المتوحشون بالبلاد

الإسلامية والمسلمين أضرارًا مادية جسيمة لكن أضرارهم المعنوية لا يقام لها

وزن أمام الأضرار التي أنتجها شيوع فكرة (انغلاق باب الاجتهاد، وامتناع بلوغ

الأخلاف شأو الأسلاف في الكمال والعلم) بين المسلمين.

لم تتمكن فكرة انغلاق باب الاجتهاد والارتقاء في نفوس المسلمين حتى فترت

الرغبات في العلم، وتقاعد الهمم عن الارتقاء والتقدم، فأنشأوا يتدارسون السفاسف

بدل الفضائل، ويشتغلون بالأوهام اليونانية بدل العلوم الحقيقية. وبالجملة إن الخسائر التي جرتها إلى المسلمين (فكرة انغلاق باب الاجتهاد) ، أكثر وأفظع من

الخسائر التي أتتهم على أيدي (جنكيز) و (هولاكو) و (إيزابلا) ، وأضرابهم

من المتوحشين المفسدين.

ولهذا أعتقد أننا إذا قضينا على الفوضى السائدة في مدارسنا، وأدخلنا فيها

العلوم الحقيقية، وأفرغنا كنانة جهدنا في نشر التربية الإسلامية الصحيحة ظهر فينا

المجتهدون بكثرة إن شاء الله؛ إذ الاجتهاد أمر كسبي مرتبط بالأسباب الظاهرة التي

تنالها الأيدي. ثم إن سنة الارتقاء التي تجري عليها شؤون العوالم كلها بتقدير

العزيز العليم، تقضي أن يكون كل شيء أكمل وأرقى مما قبله.

نرى اليوم الأمم الراقية الحية يبنون كل شؤونهم على تلك السنة

الثابتة، فيسيرون سيرًا حثيثًا في مدارج الرقي، ومراقي الكمال. أما المسلمون ففشا

بينهم منذ زمن بعيد إنكار سنة الارتقاء، واعتقاد سير العالم إلى التدلي والانحطاط،

فرئموا الضعة والجمود، حتى حقت عليهم كلمة الذل والهوان.

لعل اختتام النبوة أيضًا مبني على تلك السنة (سنة الارتقاء) .

كانت الأمم السالفة لنقصان مداركهم، وعدم اكتمالهم في المزايا الإنسانية،

يضلون عن الشرائع التي كانت الأنبياء تبلغها إليهم، ويحيدون عن صراط الله

السوي، بعد مضي أزمنة يسيرة من عهد الأنبياء.

فكان الله عز وجل يبعث إليهم من يقوِّم لهم أود الدين، ويهديهم إلى الحق

المبين من الأنبياء الآخرين. وأما الأمم الذين يأتون بعد نبينا - صلى الله عليه

وسلم -، فيكونون قد ارتقوا في المدارك، واكتملوا في الخواص الإنسانية، حتى

يستطيعوا بذلك حفظ الشريعة المطهرة، ويبلغوها إلى من بعدهم بلا تحريف ولا

تبديل. فلا تبقى حاجة إلى إرسال من يجدد الدِّين بعد خاتم النبيين فبناءً على ما ذكرنا

ينبغي أن يكون المجتهدون وأساطين الإسلام أكثر وأبرع من المجتهدين السالفين،

كلما خطا المجتمع الإنساني خطوة إلى الأمام.

وأما تعلم أعضاء المحكمة الشرعية اللغة الروسية، فما اشترطته لهم الحكومة

قليل جدًّا في رأيي. بل يتحتم على من يترشحون للعضوية في تلك المحكمة أن

يحضروا دروس علم الحقوق ولو بصفة المستمعين في جامعات الحكومة، بعد أن

يمتحنوا في دروس المدارس البلدية أو مدارس المعلمين. لا يخفى على أهل البصر

أن قوة المحكمة الشرعية، وسمو مكانتها لدى المحاكم التي فوقها، وارتفاع شأنها

في أعين المسلمين التابعين لها، ليست هي كل بنائها الشامخ، وتنوع الأشجار في

الحديقة الحافة بها. بل لا تتحقق تلك الأماني السامية؛ إلا إذا كان أعضاؤها

والقضاة فيها من أهل المقدرة على القيام بواجباتهم حق القيام. ثم إذا تسنى لهم

التعارف برجال الحكومة العظام، يؤمل منهم أن يخدموا المسلمين خدمًا جليلة.

أشغال المحكمة الشرعية مرتبطة اليوم بسائر المحاكم المدنية أشد الارتباط.

ويزيد هذا الارتباط عامًا بعد عام. قد تحدث في المحكمة مشاكل، لا يمكن حلها إلا

بمقابلة أولي الأمر ومحادثتهم. وأحيانًا تستفتى المحاكم الكبيرة من قضاة المحكمة

الشرعية في بعض المسائل الفقهية. وكذلك قد يقصد المحكمة أبرع المحامين؛

ليرجعوا إلى القضاة في بعض المهمات.

وتكون كتابات هؤلاء على غاية من الإيجاز والنظام، قلما يفهمها حق الفهم

إلا أهل البصر في الأمور القضائية والشؤون القانونية، فيبقى العضو الجاهل باللغة

الروسية في حيرة واضطراب في مثل هذه الظروف.

ثم إن العضو الذي لا يعرف اللغة الروسية لا يكون على بصيرة في توقيعه

على الأوراق الرسمية التي تَرِد إلى المحكمة من المحاكم الأخرى الكبيرة. إذ هو

جاهل بما في تلك الأوراق من أقسام القوانين، وبنودها التي بنيت عليها أحكام

النصب والعزل وغيرهما. فيكون مثل هذا العضو، كمثل آلة صماء، بيد من

بعثوا بتلك الأوراق من الموظفين الروسيين.

لو كان الأئمة أبو يوسف ومحمد وزفر أصحاب الإمام أبي حنيفة في وظيفة

القضاء في محكمتنا الشرعية، لنابهم أيضًا ما ينوب كل يوم قضاتنا الجاهلين باللغة

الروسية، وقوانين الحكومة من المشاكل والمصاعب.

أيرضيكم أن يكون القضاة في محكمة هي محط آمال أربعة ملايين من

المسلمين - آلات صماء تديرها أيدي الآخرين كيفما شاؤوا، أم تتمنون أن يكونوا

من أهل البصر بأمورهم، يذبون عن مصالح قومهم بقوة جنان، وثبات جأش؟

أيروقكم أن يوقعوا على كل ورقة مهما كانت محتوياتها، أم تحبون أن يكونوا

من أهل المقدرة على المناقشة في كل الأوراق التي يرتابون في أمرها؟ بأن يقولوا

مثلا: هذا الحكم مبني على كذا من المادة القانونية، وهي قد نسخت في كذا من

الزمن. فبناء الحكم على تلك المادة لا يجوز، بل ينبغي أن يبنى على مادة كذا،

وما شابه ذلك من المناقشات التي لا يستطيعها إلا من برز في اللغة الروسية، وقتل

القوانين الوضعية علمًا وفهمًا.

ولسائل أن يسألني هنا: هل يمكننا أن نربي أناسًا يكونون مجتهدين في العلوم

الإسلامية، وبارعين في علم الحقوق الوضعية جميعًا؟

فأجيب عن هذا السؤال بجوابين متناقضين: إذا أََجَلْتُ طرفي في ما عليه

علماؤنا الذين ألقي إليهم زمام تربية الأمة، وترقية شؤونها من الجمود والغفلة

وسعيهم لعرقلة المصلحين، ودوامهم على بث الأفكار المناقضة لمصالح الأمة

الحاضرة والمستقبلة وجهلهم بالمرة لأسرار الحياة وتنازع البقاء وعلم الاجتماع

البشري. أجبت عن السؤال السابق قائلاً: إن هذا محال أي محال. وأما إذا فكرت

في استعداد قومنا القوي، وتفاني بعض شبابنا في طلب العلم باحتمال المشاق

الجمة، وجود أغنيائنا بأنفس أموالهم في سبيل الخيرات والمشروعات النافعة.

أجبت عن ذلك السؤال قائلا: إن هذا ممكن أي ممكن. ولنا رأي في كيفية

الوصول إلى هذا المقصد الأقصى، ربما شرحناه في المستقبل إن شاء الله.

الكلام على المادة السادسة

يقال: إن ما جاء في هذه المادة من المطالب مطمح نظر كثير من

الأقوام الآخرين القاطنين في البلاد الروسية. لعل أولئك الأ قوام الذين هم يفوقوننا في

كل الشؤون الحيوية، ينالون هذه المقاصد قبلنا.

وأما نحن فلسنا الآن على استعداد لطلب تلك المطالب السياسية العظيمة

بالانفراد، وما علينا الآن إلا أن نتهيأ (للاصطياد في الماء العكر) . (هذه الرسالة

كتبت منذ سنتين؛ إذ كان مسلمو روسيا هادئين وادعين غائبين في سباتهم العميق،

انتقادًا على ما أتى في اللائحتين اللتين وضعهما علماء مدينتي أورنبورغ وسعيد،

وبعثوا بهما إلى مؤلف الرسالة يسألونه إبداء رأيه فيهما) .

وأما حرية المناظرة بخصوصها فأقول فيها: إن حرية المناظرة تنفع المسلمين

نفعًا عظيمًا، وهذا لا ريب فيه. غير أن المناظرة لها أصول وشروط، لا تأتي

المناظرة بالفائدة المطلوبة إلا بها. وما شروطها إلا كون المتصدي للمناظرة يكون

على أهبة تامة، ومطالعًا على ما بيد خصمه من الحجج وقوتها.

ليست مقاومة الخصوم المتسلحين بالعلوم الحديثة بالنظريات المسطورة، في

المواقف والمقاصد والطوالع والمطالع والتمهيد والتجريد، إلا ضربًا من التهور

والتهوس.

ولا يخفى على الباحث المنصف أن الكتب المذكورة تحتوي على كثير من

الغلطات الفلسفية والتاريخية الناشئة من خطأ المترجمين اللاتينيين، واليهود الذين

ترجموا فلسفة اليونان. وتلك الغلطات تكون عونًا لخصومنا علينا لا محالة.

لا يجوز ألبتة، أن نتحمس بظن أن خصومنا عبارة عن بعض القسس

الروسيين المعروفين بتحككهم بالمسلمين، إن هؤلاء إلا طلائع جيش العدو. وأما

الجيش الأصلي فهو يتألف من أناس آخرين متضلعين من فنون العلم، وحاذقين في

أساليب المناظرة، وطرق الإلزام.

قام الإمام الشيخ محمد عبده في وجوه المعارضين للإسلام في السنين السابقة

بنفسه، فاضطر إلى جدال طويل قاومه فيه خصومه أشد المقاومة مع أن براعة هذا

الإمام في العلوم الإسلامية، ومكانته في الفلسفة وعلم الكلام أعلى بكثير من مكانة

التفتازاني والدواني وأضرابهما، وهو مع ذلك مطلع على آراء الفلاسفة الغربيين

مباشرة؛ لمعرفته باللغة الفرنسية. يقال: إن ظهوره على خصومه إنما كان بسبب

معرفته هذه اللغة (هذه الرسالة كتبت قبل وفاة الأستاذ الإمام)

لا تظن أيها القارئ لمَّا قلت لك: إن خصومنا يستظهرون علينا بالعلوم

الحديثة - أَنِّي أذهب إلى مضادة هذه العلوم للدين الإسلامي. أنا لا أقول بهذا.

كون الإسلام مجامعًا للعلوم، وملائمًا للمدنية الصحيحة، ثابت بشهادة جم غفير

من الفلاسفة والعلماء الراسخين أيضًا، بعد ثبوته في نفسه. غير أني أقول: لا يبعد

أن يستفيد خصومنا من جهلنا في المناظرة الدينية أيضًا، كما أنهم يستفيدون منه

كثيرًا في الشؤون المختلفة الأخرى. إذ هُمْ لبراعتهم في أساليب المناظرة،

واطلاعهم على ما نحن غافلون عنه بعد، يقدرون على إبراز ما يكون حجة عليهم في

صورة الحجة لهم. وجملة القول: أننا لا يمكننا أن ننتفع بحرية المناظرة انتفاعًا

يذكر ما دمنا غافلين عن أسرار الكون وسنن الطبيعة، ومعرضين عن تحصيل

الطبيعيات والعلوم الحديثة بأسرها.

...

...

...

...

مترجمها

...

...

...

... موسى عبد الله القزاني

(للرسالة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 367

الكاتب: محمد رشيد رضا

كلام فريد أفندي وجدي

في الدين وفلسفة التشريع

كتب محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة منذ أشهر مقالة في بعض

الجرائد اليومية، قال فيها: إنه سينشئ مدرسة يدرس فيها العلوم العليا؛ من كونية

واجتماعية وعمرانية، ومن ذلك جميع العلوم الطبيعية والفلسفية بأنواعها

إلخ،

أي: إنه سيقوم وحده بما تريد لجنة (الجامعة المصرية) أن تبدأ به، وترى ما لديها

من مال الاكتتاب وهو عشرات الألوف من الجنيهات، وما وُقِفَ على الجامعة من

الأطيان لا يزال غير كاف للشروع في هذا القسم العالي. ولكن فريد أفندي وجدي

سخي بالوعود، وقد تبرع له سيد أفندي محمد صاحب المدرسة التحضيرية بحجرة

من مدرسته وفَّى بها وعده، فهذه الحجرة هي مدرسة العلوم العليا.

وقد شرع فريد أفندي في إلقاء الدروس فيها، ونشر الدرس الأول من علم فلسفة

التشريع في جريدة المؤيد ثم في مجلته، فتذكرنا بقراءته تلك المقالات التي كان

ينشرها في المؤيد عن الإسلام؛ إذ جاء فيه بمثل ما جاء فيها من أمور تعزى إلى

الإسلام وهو لا يعرفها، وفلسفة فيه لا يرضاها. وكان خطر لنا أن ننتقد تلك

المقالات؛ قيامًا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكن عرض لنا أمور ثنت عزمنا عن ذلك منها الرغبة عن انتقاد فريد أفندي

لذاته، ولأنه صاحب مجلة، ولا نحب أن يكون بين أصحاب المجلات مثل ما بين

أصحاب الجرائد من المناقشات التي لا يؤمن أن تصير من قبيل المراء والمشاغبة،

تركنا الرد على ما جاء في تلك المقالات من مخالفة أصول الدين، والنفس تحاسبنا

على ما فرطنا، وتعتذر عن تفريطها بأن تَتَبُّعَ خطأ الناس والرد عليه غايةٌ لا تُدْرَك،

ولا يستطيع القيام بها واحد وهو من فروض الكفايات. ولكنها ليست مطمئنة بأن هذا

العذر يرضي الله - تعالى- مع ما ترى من سكوت العلماء في هذا العصر عن إنكار

المنكر، ثم عرض لنا مثل هذا عندما قرأنا درس فلسفة التشريع، وإن كان الخطأ فيه

دون الخطأ في تلك، ثم جزمنا بأن الانتقاد واجب علينا، فبادرنا إلى كتابة هذا النقد

فعسى أن ينظر فيه رصيفنا فريد أفندي بعين الإنصاف.

في هذا الدرس أو المقالة كثير من الأمور المنتقدة، وأهمها عندنا ما قاله في

التشريع، وكون الوحي هو أصل الشريعة عند المسلمين. وقبل البحث فيها نقول كلمة

لا بد منها في انتقاد عبارة فريد أفندي وهي: إن القارئ لها لا يكاد يفهم منها معنى

محررًا يجزم بأنه هو مذهب الكاتب ومراده، بل يجد فيها من التعارض

والإبهام والعسلطة ما لا يجزم معه بالمعنى المراد. ومثل هذا مما يتعسر

نقده. ويسهل الجدل والمراء فيه. ولم أذكر هذا إلا لأن الضرورة قضت بذكره كما

ستعلم.

بدأ المدرس المقال بقوله: (لم يعتن المسلمون في الصدر الأول بشيء بعد

تقرير الأصول الدينية بقدر ما اعتنوا بالأمور التشريعية) وفيه أن المسلمين لم يكن

عندهم شيء يعبر عنه بالأمور التشريعية غير ما شرعه الله لهم من الدين على لسان

رسوله صلى الله عليه وسلم وكما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ

فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) .

وفريد أفندي جعل المسلمين شارعين، ولذلك قال بعد ما تقدم: (ثم لما اتسع

نطاق العمران، واستدعت الأحوال تدوين شريعة شاملة لجميع الأصول والفروع

اقتضت الحاجة أن ينبغ المشرعون الأولون من المسلمين كالأوزاعي والشعبي وسعيد

ابن المسيب وأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد)

إلخ، ثم قال: (فاختلف

المشرعون الأولون) . وقال: فظلوا يشتغلون بأمر التشريع والتقنين. وقال:

فاستحال أمر المتشرعين، والصواب أن هؤلاء لم يكونوا إلا رواة للحديث

ومستنبطين منه ومن الكتاب، أي: مبينين ما يفهمونه منهما للناس، وناقل الشريعة

ومفسرها لا يسمى شارعًا، (ولا مشرعًا كما تقول الجرائد الآن) ، وإنما الشارع

والمشترع (أو المشرع) هو واضع الشريعة.

ويطلق الشارع في كتب المسلمين على الله - تعالى - لأنه واضع الشرع، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبينه عن الله - تعالى - ولم يعرف إلا

منه. نعم يصح استعمال هذه الألفاظ في غير هذه المعاني لغة لا سيما لفظ

التشريع فإنه يستعمل عند علماء الفنون العربية اسمًا لنوع من محسنات البديع.

ولكن الموضوع ليس لغويًّا، وإنما الكلام في الشرع الإسلامي، فينبغي فيه اتباع

اصطلاح أهله المأخوذ من القرآن إلا أن يخرج المتكلم عن صراطهم، ويجعل

الشرع من وضع البشر.

قال فريد أفندي في الأئمة الذين تقدم ذكرهم: فظلوا يشتغلون بأمر التشريع

والتقنين، ويعقدون لذلك الدروس الحافلة حتى جاء القرن الثالث، وكان قد طرأ

ضعف في أمر الحكومة انتقلت به إلى شكل حكومة مطلقة مستبدة بعد أن كانت

شورية دستورية. فاستحال أمر المتشرعين الإسلاميين إلى حفظة أقوال المتقدمين، وبطل الاجتهاد؛ لعدم نبوغ العلماء الضليعين، وأصبح رجال العلم تبعًا لرجال السياسة في الأهواء والميول، فتوالى الضعف على هيئتهم شيئًا فشيئًا، حتى تولاهم العجز بأخص معانيه، فاصطلحوا على عدد من الكتب يقرؤونها، ويتفهمون

عباراتها بدون نقد ولا محاكمة، وصار هذا معنى الدين والتمسك بالسنة في نظرهم.

أقول: يفهم من قوله السابق (ثم لما اتسع نطاق العمران)

إلخ، وقوله هذا

أن تدوين الشريعة - أو التشريع على رأيه - قد كمل في وقت اتساع العمران قبل

تحول الحكومة من الشورى إلى الاستبداد. ونحن نعلم أنه لم يدرك حكومة الشورى

من أولئك الفقهاء أوالمشرعين على رأيه إلا سعيد بن المسيب؛ لأنه تابعي ولد في

خلافة عمر وهو لم يدون شيئًا، والباقون كانوا في زمن بني أمية وبني العباس

وحكوماتهما استبدادية بلا نزاع على أن العمران كان في زمنهما أكثر نموًّا.

ثم إن علماء القرن الثالث لم يكونوا كما ذكر، بل ولا القرن الرابع ولا القرن

الخامس، فالفقه ما اتسع نطاقه إلا في هذه القرون، وإن كان الفضل للمتقدم، ولعلنا

نبين ذلك إن مارانا فيه ممارٍ.

ثم قال فريد أفندي: (نحن في هذا الدرس سنعمل على فهم ما هي الشريعة

في الاصطلاح الاجتماعي، وكيف تكونت الشرائع في مدى التاريخ؟ وكيف ترقت

أصولها حتى وصلت إلى أرقى ما وصلت إليه اليوم؟ وكيف تكونت الشريعة

الإسلامية القرآنية؟ وما مكانها من بين سائر الشرائع؟ وما معنى كونها خاتمة

الشرائع؟ وماذا هو الاجتهاد؟ وكيف حصل الاستنباط؟ إلخ، ولنا في كل مبحث

من هذه المباحث كلام في فلسفة الموضوع الذي نتكلم عليه، وآخر ما انتهى الرأي

إليه، وتطبيق ذلك على روح القرآن، وإظهار إعجاز الشريعة الإسلامية من هذه

الوجهات بأصرح بيان) اهـ.

ونقول: هذه بضعة وعود منصوصة، وأشار برمز (إلخ) إلى وعود

أخرى وبنى على الوعود وعودًا ولم يفِ بما وعد؛ إذ لم يكن باقي الدرس إلا كلامًا في العدل يتلوه كلام في معنى كون أصل الشرائع من الوحي، وإيراد

اعتراضين على ذلك غير واردين، والجواب عنهما بما لا يدفعهما. وكلام في

بناء القوانين على الأخلاق، وقد ذكرتنا هذه الوعود بقول الأستاذ الإمام - رحمه

الله تعالى - في كتابة فريد أفندي: إنها (مقدمات ووعود) .

عرف العدل بأنه ما أدى إليه العقل من الأحكام وهذا غير صحيح؛ لأن

الأحكام التي وصل إليها الناس بعقولهم: منها ما هو عادل، ومنها ما هو جائر.

والحاكمون بها منهم العادل ومنهم الظالم، فالعدل أمر آخر لا محل للكلام فيه هنا

ولم نذكره؛ لأنه مقصود بالذات. وإنما ذكرنا لأنه جاء عقبه بما يأتي:

(هنا يلزمنا أن ننبه إلى موضوع خطير، وهو أن متشرعي أوربا عامة

يعيبون علماءنا في اعتقادهم بأن أصل الشرائع الوحي، ولهم في ذلك علينا مطاعن

في غاية الصرامة. ونحن هنا لا مناص لنا من حل هذه الشبهة، فنقول: القرآن

الكريم توسع في معنى الوحي فلم يقصره على النبيين، بل أطلقه على أدنى درجات

الانسياق الطبيعي الحيواني، فقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ

الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل: 68) وإذا صح إطلاق

الوحي على هذا الانسياق الفطري الحيواني صح من باب أولى إطلاقه على نتائج

العقل الإنساني؛ لأن الله خالق كل شيء والباعث على كل شيء، فيكون لا

تنافي بين قول متشرعي أوربا: إنّ الشرائع أصلها العقل. وبين قول علماء الإسلام:

إنّ أصلها الوحي. إذا لم يقبل العلماء هذا الحل الموافق للكتاب والعلم، فقد

تعرضوا لِشُبَهٍ لا مخلص لهم منها وهي:

(أولاً) لو كان أصل الشرائع الوحي بمعناه السامي؛ لنزلت الشرائع الأولى

حاصلة على العدالة بمعناها الخاص، والمشاهد بين حوادث التاريخ أن الشرائع

بدأت مناسبة لعقل الإنسان وسذاجته ونقص أخلاقه. والله يتنزه عن ذلك.

(ثانيًا) في الأرض أمم كثيرة في أدنى درجات التوحش، ولديها شرائع

على حسب مداركها مطابقة في أصولها الأولية لشرائع الجمعيات البشرية الأولى،

فلماذا نحكم بأن شرائع المتوحشين العصريين هي من تلقاء أنفسهم، وتلك الشرائع

هي من الوحي، مع تشابهها في النقص والسذاجة؟) اهـ.

افتجر فريد أفندي لعلمائنا قولاً لم يقولوه ولا قاله أهل مذهب منهم، وأورد

عليه مطاعن عزاها إلى الأوربيين؛ ليدافع بكشف شبهتها عن الإسلام والمسلمين،

فكان دفاعه - لو صح ما يسبق إلى الأذهان منه - من قبيل تلك المطاعن أو أشد منها.

الظاهر من عبارة فريد أفندي الذي يفهمه منها القارئ؛ هو أن الوحي أصل

كل شريعة وجدت في البشر، فكانت قانونًا يحكم بها الناس فيما يختلفون فيه، فعلى

هذا يكون مما يعتقد المسلمون أن الأحكام التي كانت عليها العرب في الجاهلية

وكذا غير العرب من الوثنيين - كلها مبنية على أصل الوحي الإلهي، وإنه لقول

ينقضه الإسلام بكتابه وسنته ومذاهب أئمته نقضًا، وإنما يقول المسلمون كافة: إن

الشرائع التي جاء بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - هي من وحي الله -

تعالى- لا من مخترعات عقولهم، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ

النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا

فِيهِ} (البقرة: 213) .

فإذا كان فريد أفندي يريد من عبارته ما يدل عليه ظاهرها وهو أن المسلمين

يقولون: إن أصول جميع الشرائع كان بوحي من الله، حتى شرائع الوثنيين

المنحطين في الوثنية، أو الذين ارتقوا فيها كقدماء المصريين والكلدانيين

والرومانيين، ثم يقول: إن علماء أوروبا يوجِّهون إلينا تلك المطاعن؛ لأجل ذلك.

فقد أعلمناه أن هذا باطل، ونزيد على ذلك أن الأوربيين لا ينسبون إلينا هذا الاعتقاد،

ولا يطعنون علينا به. ولو طعنوا لما دفع قوله طعنهم؛ لأن الوحي لا يصح إطلاقه

على نتائج العقول وما تولده الأفكار، وإن صح إطلاقه على الإلهام الفطري.

وإن أراد بأصل الشرائع ما يعتقد المسلمون أن النبيين المرسلين جاءوا به عن

الله - تعالى - ودعوا الناس إليه على أنه وحي من الله، لا من عند أنفسهم، فقد

صدق في حكاية اعتقادنا، وأن علماء أوربا يطعنون علينا بهذا الاعتقاد، بل لا

يطعنون علينا إلا باعتقادنا أن أصل شريعتنا نفسها وحي من الله دون شريعة اليهود

مثلاً، وحينئذ يكون دفعه لهذه المطاعن بما فسر به الوحي هو عين الهدم لأصل

الإسلام، والتكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ما نطق به القرآن، وانعقد

عليه الإجماع، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء بهذه الشريعة من عنده،

وليست من نتائج عقله وفكره، وإنما يقول بهذا من ينكرون الأديان، ويدعون أن

الأنبياء فلاسفة أخلاق وآداب واجتماع، أسندوا فلسفتهم إلى الوحي الإلهي؛ ليقبلها

الناس، ولهذا رجحنا أن الاحتمال الأول هو مراد فريد أفندي، وعليه يكون مخطئًا

في عزوه إلى المسلمين ما لا يعتقدون، وإلى الإفرنج ما لا يقولون (لأن ما بني على

الفاسد فاسد) ، وقصَّر في سكوته عن بيان شبهتهم على شريعتنا، وعن دفع هذه

الشبهة، ومما يؤيد الترجيح تصريحه: بأن للوحي معنى خاصًّا غير ما فسر به أصل

الشرائع، وقد عبر عن هذه الشرائع بالناقصة. وإنما ذكرنا الاحتمال الثاني لما

علمت. ولكن انظر ما يأتي:

قال فريد أفندي: (فإن قال قائل: قد ثبت شرعًا أن أول البشر آدم - عليه

السلام - وهو نبي بالإجماع، وقد ذكر الله أنه أوحى إليه وعلمه، فيكون أصل الشرائع الوحي بالمعنى الخاص. نقول: إن صح إيحاء الله لآدم كان بالمعنى

الخاص، ولم يكن بمعنى الإلهام والنفث في الروع من طريق مقتضيات الفطرة

الإنسانية، فإن الله لم يذكر أنه أوحي إليه شريعة، بل لم يكن الحال يقتضي ذلك في

ذلك العهد؛ لقلة الناس وقربهم من حالة الفطرة)

إلخ.

ونقول: إنه بعد أن ذكر أن آدم كان نبيًّا بالإجماع، ما كان له أن يرتاب في

كون وحي الله له - وقد اعترف بأنه ثابت من الوحي الخاص، لا من قبيل الوحي

إلى النحل، فهذه سقطة كبيرة. وقوله: إن الحال في عهده لم تكن تقتضي شرعًا لما

ذكره ظاهر البطلان؛ فإن القليلين يتنازعون ويتخاصمون كالكثيرين،

فيحتاجون إلى من يحكم بينهم بالحق والعدل، وقد ثبت أن أحد أبناء آدم قتل أخاه،

ولم يمنعه القرب من الفطرة عن ذلك، فماذا نقول فيما دون القتل من أنواع الخصام؟

ثم ما يدرينا أن آدم عاش عمرًا طويلاً كثر الناس فيه، فإن طبيعة الأرض كانت في

عهده غير طبيعتها الآن فيما يظهر، بل ثبت بالوحي أن نوحًا عاش نحو ألف سنة؛

لأن طبيعة الأرض قبل الطوفان كانت غيرها بعده وأمزجة الناس كانت قابلة لذلك

على ما هو المرجح عندنا، والله أعلم بالصواب.

ثم ختم فريد أفندي درسه بأربع مسائل، قال: إنه يمكن جعلها نتائج له وهي:

(1)

أن العدالة في الأمة تكون مناسبة لعادتها وأخلاقها.

و (2) أن الأمم تتكون على النظام الذي تدرك به نفسها.

و (3) أن كل ترق أخلاقي يتبعه ترق تشريعي.

و (4) أن الشريعة لا تصل إلى أوج كمالها في أمة إلا إذا كانت المساواة بين

الأفراد بالغة حدها الأقصى؛ أي: إذا ترقت فيها الأخلاق لدرجة أن الرجل منها

يعتبر غيره نظيره، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يتخلص فيها العقل من أوهامه

الاجتماعية، فيواجه الطبيعة الحقة للحوادث، ويترك لها زمامه لتقوده إلى العدالة

المحضة.

(قال) : (من هنا يرى الرائي كيف أن كل انقلاب حدث في أخلاق أمة

يتأدى بطبعه إلى انقلاب في شريعتها، ويدرك تبعًا لهذا فساد الأحكام، وبُعدها عن

العدالة في بعض الأمم المتدينة التي تُقرر مبدأ التمايز في أفراد الجمعية، فَتَهَب

لبعضهم حقوقًا تسلبها عن الآخرين باعتبارات دينية) .

(هنا نستلفت نظر القارئ إلى أمر خطير يدل في إجماله على أن الشريعة

الإسلامية هي أعدل الشرائع، وأرقاها بحكم أكبر أصل من أصول فلسفة التشريع،

وذلك أن هذه الفلسفة تقرر بأن الشريعة لا تصل إلى أوج الكمال إلا إذا كانت

المساواة تامة بين الأفراد. وهذه الشريعة الإسلامية مبناها {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، فلم تقرر في أصولها أدنى امتياز لأي طائفة، فتكون بهذا

الدليل الإجمالي أعدل الشرائع. وسنرى في التفصيل العجب العُجَاب) اهـ كلام

فريد أفندي.

أقول: لو أحفى المنتقد لهذه الجملة، لأمكنه أن يكتب في انتقادها عدة أوراق،

ونكتفي بذكر المهم عندنا من ذلك، وهو ما يتعلق بالشريعة الإسلامية.

إنه جعل كمال الشريعة تابعًا لكمال الناس في أنفسهم، ولما نزلت الشريعة

الإسلامية لم يكن الناس الذين أنزلت لأجل الحكم بها بينهم أولا في ذلك الأوج من

الارتقاء، فكيف بنى تفضيلها على هذا الأصل؟

ثم من هي الأمة المتدينة التي وصفها بفساد الأحكام وبُعدها عن العدالة؛

لتقريرها مبدأ التمايز بين الأفراد بالدين؟ اليهود ليس لهم حكومة. والنصارى

جعلوا أحكامهم مبنية على العقل، وشهد هو للأوربيين منهم بالارتقاء العظيم. فهل

يعني بعض الوثنيين؟ ولم لم يشر إلى ذلك؟ وماذا يقول في مثل جعل الخلافة في

قريش، وفي أحكام شهادة غير المسلم على المسلم في الشريعة الإسلامية؟

وهل الشريعة الإسلامية خاصة عنده بالمؤمنين بها، أم يحكم بها بين غير

المؤمنين بها؟ وإذا قال بالثاني، فهل أخوة المؤمنين لبعضهم البعض تقتضي

مساواتهم لغيرهم ممن يحكم بها أم لا؟ فإن اعترف بأنها لا تقتضي ذلك فيكف يتم

قوله؟

إن رأيه في ارتقاء الشريعة ووصولها إلى أوج الكمال إنما يصح في

القوانين الوضعية التي ترتقي بارتقاء الواضعين لها في أممهم وفي أنفسهم. وأما

الشريعة الإسلامية فإنها قواعد وأحكام أنزلها الله كاملة؛ لأجل أن يكون ارتقاء

الناس تابعًا لها، فكان كمال المؤمنين باتباعهم لها، ولم يكن كمالها هي تابعًا لكمالهم.

هذا ما رأينا أن ننبه عليه، ونختم الكلام ببيان أن سبب هذا الخطأ وأمثاله

فيما يكتبه محمد فريد أفندي وجدي من المباحث الإسلامية؛ هو عدم تلقيه علوم

الدين عن أحد من العارفين به، فعسى أن يحمله ما يرى من انتقاد كلامه في الدين

على مدارسة المهم من علومه، والله الموفق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 375

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

(صدى مقال المنار في دعوة العلماء إلى نصيحة السلاطين)

وشهادة موسيو وامبري للإسلام

ترجم بعض فضلاء الترك مقالنا: (حال المسلمين في العالمين ودعوة العلماء

إلى نصيحة الأمراء والسلاطين) الذي كتبناه في الجزء الخامس من مجلد المنار

التاسع (ص357م9) باللغة التركية وطبعه باللغتين ووزعه في بلاد كثيرة،

فكان له صدى استحسان وإعجاب من أصحاب الأفكار المستقلة من الترك وغيرهم،

كما أكبره كثير من كتاب العربية وأظهروا استحسانه في الصحف المنشرة:

كالمقتطف بمصر، ومرآة الغرب في أمريكا الشمالية، والمناظر في أمريكا

الجنوبية وكتب إلينا غير واحد من كبراء الترك كَتْب الاستحسان والشكر.

وقد أرسل مترجم المقال نسخة منه إلى العالم المجري الرحالة الشهير موسيو

(وامبري) العالم بالتركية وكثير من اللغات الشرقية، فكتب إليه وامبري رقعة

نقلنا صورتها بالزنكغراف، وهذه هي، ويليها ترجمتها.

بغاية التدقيق قرأت الرسالة التي ترجمتوها، لقد أصبتم في أن إنقاذ الأمم

الإسلامية، ولا سيما العثمانية من الظلم والاستبداد هو من عمل العلماء قبل

كل أحد.

إن روح نظام المسلمين هو الدين والذي أحياهم هو الدين والذي يكفل سلامتهم

في المستقبل هو الدين ليس إلا، ولهذا أنتم خدمتم ملتكم جيدًا (بهذه الرسالة) ، ومتى سنحت فرصة، سأنشر رسالتكم في الجرائد الإفرنجية.

...

...

...

...

عبد ملتكم القديم

...

...

...

...

... وامبري

***

(فرائد اللغة العربية)

الكلم الذي يؤدي معاني الجمل

(أبد) الشاعر- كضرب - أتى في شعره بالعويص، وما لا يعرف معناه.

(أبر) الرجل الكلب - كنصر وضرب - أطعمه الإبرة في الخبز.

وهكذا كانوا يشتقون من الأسماء الجامدة ما تعرض له الحاجة، ويجب أن يكون

هذا مقيسًا كما هو مقتضى الطبع في كل لغة حية ومنها لغة العامة، فإنهم يشتقون

بالسليقة من غير تكلف ولا مواضعة. يبدأ باشتقاق الكلمة من تعرض له الحاجة إليها

أولا، من غير أن يفكر أنه زاد في اللغة كلمة أو كلمات، ويسري ما يشتقه بين

الناس كأنه قديم، لا يتلفتون إلى حدوثه، ولا يسندونه إلى أول من تكلم به.

(أبز) الإنسان - كضرب - استراح في عدوه ثم مضى.

(أتنت) المرأة - كضرب - وآتنت وأيتنت: ولدت الولد منكوسًا؛ وهو أن

تخرج رجلاه قبل يديه.

(أبدأ) الصبي، خرجت أسنانه بعد سقوطها.

(البدء) السيد الأول في السيادة، و (الثنيان) الذي يليه في السؤدد، فلا

يقال البدء إلا فيمن انتهت إليه الرياسة في قومه. قال أوس بن معري السعدي

يفتخر:

ثنياننا إن أتاهم كان بدأهموا

وبدؤهم إن أتانا كان ثنيانا

والبدء أيضًا: الشاب العاقل المستجاد الرأي، والعظم بما عليه من اللحم

والمفصل.

(البديء) والبدي: البئر الإسلامية؛ أي: التي حفرت في الإسلام، فهي حديثة غير عادية كذا قالوا، والصواب أنها البئر الحديثة التي يعرف حافرها أو

مالكها في أي زمن وأية أمه.

(الخفية) البئر القديمة التي يعرف حافرها كزمزم.

(القليب) البئر القديمة التي لا يعرف لَهَا رَبّ ولا حافر.

(الركي البدي) هي البئر ماؤها ظاهر بارز. وهو على حد عيشة راضية.

(الركي الغامد) هي البئر المغطى ماؤها بالتراب.

(الركي البكي) ويقال ركية بكية إذا نضب ماؤها، وهو تشبيه بالناقة القليلة

اللبن وأصله بكيئة. يقال بكؤت الناقة إذا قل لبنها، ويقال بكؤت عينين إذا قل

دمعها وهو مجاز.

(البراء) بالفتح كسماء أول ليلة من الشهر، وابن البراء أول يوم منه.

***

(الإنجيل الصحيح)

أو إنجيل برنابا

لعل قراء المنار يذكرون أننا نشرنا في المجلد السادس ترجمة مقدمة كتاب

الفيلسوف تولستوي الروسي المسيحي لكتابه الذي سماه (الأناجيل) تحت عنوان

(الإنجيل الصحيح) ، ونعيد لهم الآن من تلك المقدمة الطويلة المنشورة في عدة

أجزاء هذه الجملة الوجيزة:

(ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن هذه الأناجيل بشكلها الحاضر، لا تتضمن

ألبتة شهادة الحواريين وتلاميذ عيسى مباشرة، وأنَّ القول بذلك من الخرافات التي

لا تصبر على محك النقد، فضلاً عن عدم بنائها على أدنى أساس سوى رغبة

نفوس أرباب التقوى والورع في أن تكون كذلك. فقد توالت القرون، والناس

يدونون الأناجيل، ويهذبون موضوعاتها، ويتوسعون في عباراتها، ويشرحون

أقوالها، فإن أقدم النسخ التي وصلت إلينا قد تمت كتابتها في القرن الرابع للميلاد،

وهي مكتوبة على نسق واحد من أولها إلى آخرها، أي بلا فواصل ولا غير ذلك

من الإشارات التي تستعمل لإيضاح الكلمات وبيان الجمل؛ ولذلك دعت الضرورة

حتى بعد القرنين الرابع والخامس إلى تفسيرها بطرائق متخالفة من كل الوجوه،

وصارت نسخ هذه الأناجيل تقارب الخمسين ألفًا) .

هذا ما قاله الفيلسوف، ونقول: إن رجال الدين قد اختاروا من بين الأناجيل

الكثيرة تلك الأربعة المشهورة، ورفضوا ما سواها بالتدريج. ويقال: إن بعض

مذاهب النصرانية القديمة، كانت تتمسك ببعض الأناجيل المرفوضة عند أهل

المذاهب المعروفة الآن.

ومن الأناجيل التي رفضتها الكنيسة إنجيل برنابا أحد حواري المسيح عليه

السلام، وقد فقد كثير من الأناجيل المرفوضة بتتبع الكنيسة لها، وقضائها عليها أو

إخفائها لها. ولكن إنجيل برنابا مما بقي تحت حجاب الخفاء حتى لم يطَّلع عليه إلا

بعض الباحثين من العلماء، وما زال هؤلاء الباحثون الذين لا يصدهم شيء عن

إحياء الآثار القديمة، يتوقعون الظفر بنسخة من هذا الإنجيل؛ لينشروها بين الناس

حتى صدق عليهم قول الشاعر:

قل من وجد في أمر يحاوله

واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر

ظفروا بنسخة باللغة الطليانية، كانت قد سرقت من مكتبة الفاتيكان التي يوجد

في خزائنها السرية من الكتب ما لا يوجد في غيرها؛ لما كان للبابوات الذين

جمعوها من النفوذ والسلطان في الممالك النصرانية.

ترجمت هذه النسخة بالإنكليزية، وطبعت في هذا العام بمدينة أوكسفورد

باللغتين معًا، وتفضل الطابع لها بإهدائنا نسخة منها فشكرًا له.

رأينا هذه النسخة توافق الأناجيل الأربعة المشهورة في كثير من مسائل

التاريخ والإرشاد، وتخالفها في أهم القواعد والمسائل: كالتعبير عن المسيح عليه

السلام بعبد الله ورسوله، وبيان أنه لم يصلب، والبشارة الصريحة عنه بمحمد

صلى الله عليه وسلم، والتصريح بكون الذبيح إسماعيل لا إسحاق عليهما السلام .

أردنا أن نحيي هذا الأثر بلغتنا، كما أحياه الإفرنج ببعض لغاتهم (ولابد أن

يحيوه بسائرها) ، فكلفنا صاحبنا الدكتور خليل بك سعاده أن يترجمه لنا بالعربية،

لما نعهد فيه من البراعة في اللغة الإنكليزية، فطفق يترجم، وأنشأنا نطبع شركة

بيننا، واخترنا أن تكون الترجمة عن الإنكليزية حرفية لا تصرف فيها. ولكننا

زدنا على الأصل عدد الجمل بالأرقام لكل فصل؛ لأجل سهولة المراجعة عند النقل

منه، ولا يلبث الإفرنج أن يفعلوا ذلك. وهاك ما قاله برنابا في مقدمة إنجيله كما

جاء في الأصل:

الإنجيل الصحيح ليسوع المسمى المسيح

نبي جديد مرسل من الله إلى العالم كما رواه

برنابا رسوله

برنابا رسول يسوع الناصري المسمى المسيح، يتمنى لجميع أهل الأرض

سلامًا وتعزية.

أيها الأعزاء، إن الله العظيم العجيب، قد بعث إلينا في هذه الأيام الأخيرة

بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة؛ للتعليم. والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة؛

لتضليل كثيرين تحت ستار التقوى، مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن

الله، رافضين الختان الذي أمر به الله دائمًا، مجوزين كل لحم نجس، الذين ضل

من عدادهم أيضًا بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله

أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع؛ لكي تخلصوا، ولا

يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله، وعليه فاحذروا كل أحد يبشركم بتعليم جديد

مضاد لما أكتبه، لتخلصوا خلاصًا أبديًّا.

وليكن الله العظيم معكم، وليحرسكم من الشيطان ومن كل شر آمين اهـ.

أقول: ومن المأثور عن القوم أن بولس أدرك برنابا وسافر به إلى بعض

البلاد التي نشر فيها تعليمه وفلسفته الدينية. فالظاهر من هذه المقدمة أن برنابا رآه

خالف ما يعرف هو عن المسيح بالمشاهدة والتلقي فارقه، وكتب هذا الإنجيل؛

لأجل بيان حقيقة ما دعا إليه المسيح وما بشر به.

***

(حياة الزوجين)

كتاب (اجتماعي أدبي اشتمل على آداب حياة الزوجين، وما يجب على كل

منهما نحو صاحبه، وعلى ما تضمنته أسفار الحكماء وأسطورات العلماء، ما

تتضح به مناهج السعادة وقواعد الهناء لهما. تأليف مصطفى أفندي عبد اللطيف

أحد موظفي مصلحة البوستة المصرية بالقاهرة) .

إذا نظرت في فهرس هذا الكتاب، رأيت من أسماء المباحث فيه ما تقول:

إنه ينبغي لعامة القراء أن يطلعوا عليه، كالكلام في الزواج وفوائده، ومبادئ

الزواج المشروع، وماذا يجب على المرأة لزوجها من الطاعة والنشاط، وحسن

الخلق والبشاشة والنظافة والاقتصاد وغير ذلك، وما يجب على الرجل لزوجه أيضًا.

ويلي ذلك باب الوصايا وفيه إحدى عشرة وصية، ويليه بحث تأثير المرأة

في الهيئة الاجتماعية وبحث تربية البنات، ووجوب تعليم المرأة وهو فصل في

نصائح فيلسوف لبنته، ويا لها من نصائح حكيمة.

لم يستبد مؤلف هذا الكتاب برأيه فيما كتب، بل اقتبس من الكتب والمجلات

فوائد كثيرة عزاها إليها. ولعله نسي أن يعزو إلى المنار منها تلك العبارة التي

ترجمها الأستاذ الإمام عن مذكرات البرنس بسمارك، فمن اطلع على هذا الكتب

الوجيز، قرأ ما لا يتيسر له الاطلاع عليه غالبًا إلا إذا كان مقتنيًا لأشهر المجلات

العربية، وإننا برؤية فهرسه وتصفح بعض صفحاته، نحكم بأن ما فيه من الفوائد

النافعة مما ينبغي أن يذاع ويقرأ في البيوت على النساء والبنات.

ويباع في مكتبة المنار وغيرها من المكتبات الشهيرة، وثمن النسخة منه

خمسة قروش صحيحة.

***

(أقوال الجرائد في تاريخ الأستاذ الإمام)

أصدرنا جزء المنشآت وجزء التأبين والرثاء من هذا التاريخ معًا، وإن كان

قد تم طبع أحدهما قبل الآخر بعدة أشهر، وأهديناهما إلى الجرائد اليومية بالقاهرة

في يوم واحد، وإننا نذكر بعض ما كتب عنه في جرائد المسلمين والقبط والسوريين

ثم نذكر ما كتبته جريدة روسية عن الجزء الثالث؛ ليعتبر القارئ العاقل بما يرى

من الاختلاف فيها.

قالت الجريدة في ع 88 الصادر في 11ج 1 سنة 1325 و22 يونيو سنة

1907:

(تاريخ الأستاذ الإمام)

تم الآن طبع جزأين من هذا التاريخ الذي كان يترقب ظهوره كل مصري

يعترف بفضل المرحوم الشيخ محمد عبده، وليس المعترفون به قليلين.

هذان الجزءان هما الثاني والثالث. أما الأول فسيتم طبعه في هذا الصيف.

والثاني يحتوي على بعض رسائله ومقالاته التي نشرت في الجرائد، ولوائحه في

إصلاح التربية والتعليم الديني، ومدافعته عن الدين، ورحلته إلى صقلية، وعلى

كتبه ورسائله إلى العلماء والفضلاء في الموضوعات المختلفة، وعلى بعض حكمه

المنثورة. والثالث يحتوي على تآبين الجرائد والفضلاء، ومراثي المحبين من

الأدباء، جمعهما الفاضل الشهير الأستاذ محمد رشيد رضا أحد كبار تلاميذ المرحوم

الأستاذ الإمام. وهو يكتب الآن الجزء الأول الذي يحتوي على سيرة المرحوم

وترجمة حياته.

إن الإمام رحمه الله شغلته الشواغل الكثيرة المتعلقة بالخدمة العمومية عن

التأليف. ولكن هذا الجزء الثاني المحتوي على مكتوباته المتنوعة، يهدينا مؤلفًا

كبيرًا من ذلك القلم الذي بعث روح حياة جديدة في الأفكار في هذا القطر؛ ولذا

يقابل جمع السيد رشيد لأشتات هذه المكتوبات بالثناء العاطر من قبل الذين شغف

فؤادهم حب المرحوم.

أما الجزء الثالث فلنا منه سفر جامع لنخب الشعر والنثر جدير أن ينتفع

بمطالعته المتأدبون. وهذا الجزء الثالث مصدَّر برسم المرحوم. وأما الثاني فغير

مصدر به، وهذا ما نأخذه على جامع الكتاب. فعسى أن لا يحرم قراء الأول من

مشاهدة مثل تلك الطلعة الكريمة.

وقد وضع له الجامع الطابع قيمة رخيصة، كأنه رأى أن كل قيمة مادية لا

تعادل قيمته المعنوية، فأحب أن يعم فائدته بترخيص قيمته المادية، فيباع الجزءان

بخمسة وعشرين قرشا وفيهما نحو من ألف صحيفة، ويباع الثالث وحده بعشرة

قروش والثاني وحده بخمسة عشر قرشًا. ومحل بيعهما مكتبة المنار بشارع درب

الجماميز.

وقالت جريدة الجوائب في ع 1322 الصادر في 11ج1:

(تاريخ الأستاذ الإمام)

رحم الله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، كم نفع الناس في حياته وبعد مماته

مات الأستاذ فشعر العالم كله بفداحة الخطب، وحزن عليه الشرق والغرب، وكيف

لا يعرف الأستاذ أحد وهو ذلك الرجل الذي وطد دعائم العلم، وفك الأفكار من

قيودها الثقيلة، وأحيا الفلسفة الشرعية بعد موتها، وملأ مصر نورًا.

وقد اعتنى حضرة الأستاذ العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار

الغراء بجمع ما وصلت إليه يده من فلسفة الأستاذ الإمام وكتاباته التي في الفنون

الأخرى، ومراثي الأدباء والشعراء، والصحف العربية والتركية والفارسية

والأجنبية على اختلاف لغاتها ومنازعها.

وقد جاءنا الجزآن الثاني والثالث من هذا التاريخ المجيد.

وفى الجزء الثاني بعض رسائل الأستاذ الإمام ومقالاته التي نشرت في

الصحف، ولوائحه في إصلاح التربية والتعليم الديني، ومدافعته عن الدين ورحلته

إلي صقلية، وكتبه ورسائله إلى العلماء والفضلاء في الموضوعات المختلفة،

وعلى بعض حكمه المنثورة، وثمنه 15 قرشًا صاغًا وأجرة البريد 3 قروش.

وفي الجزء الثالث تأبين الصحف والكبراء والفضلاء، ونموذج من تعازي

أهل الأقطار والأمصار ومراثي الشعراء. وثمنه 10 قروش وأجرة البريد 3 قروش.

أما الجزء الأول فلم يتم طبعه إلى الآن، وسيتم إن شاء الله في القريب من

الوقت، وفيه تاريخ حياة الأستاذ الإمام وفلسفته وحكمه العالية. وهو أهم الأجزاء

الثلاثة على ما نظن.

والجزآن الثاني والثالث يباعان في مكتبة المنار بشارع درب الجماميز.

وقالت جريدة المقطم في ع 5545 الصادر في 14 ج 1، 12 يونيو:

أهدى إلينا حضرة العالم الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار

الغراء الجزأين الثاني والثالث من تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده. أما

الثاني فيحتوي على شيء من رسائل الإمام ومقالاته التي نشرت في الجرائد، ولوائحه

في إصلاح التربية والتعليم الديني، وعلى كتبه ورسائله إلى العلماء، ورحلته إلى

صقلية وبعض حكمه المنثورة. وهو يقع في 560 صفحة ذات حرف جلي وورق

صقيل، وكله غرر ودرر، قد خلعت الفصاحة عليه زخرفها، وجللته البلاغة

بمطرفها، ولا غرو فإن الإمام رحمه الله كان إمام عصره غير مدافع.

وأما الثالث فمصدر برسم الإمام، ويشتمل على تآبين الجرائد وبعض الكبراء

والفضلاء، ونموذج من تعازي أهل الأقطار والأمصار ومراثي الشعراء، وما قيل

في حفله الأربعين على القبر. وهو يقع في 428 صفحة، كلا الجزأين يباع

بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز. فنثني على حضرة الفاضل منشئ المنار؛

لاهتمامه بنشر أَنْفَس الآثار.

وقالت جريدة مصر في ع 3411 الصادر في 10 ج1 سنة 1325 و21

يونيه سنة 1907:

أهدانا حضرة الكاتب العالم، والأستاذ الفاضل الشيخ رشيد رضا صاحب

مجلة المنار الغراء الجزء الثاني والثالث من تاريخ الأستاذ الإمام المرحوم الشيخ

محمد عبده وهما يتضمنان تأبين الجرائد وبعض الكبراء والفضلاء له رحمة الله

عليه، وأنموذجًا من تعازي أهل الأقطار والأمصار ومراثي الشعراء، وشيئًا كثيرًا

من رسائل صاحب الترجمة في إصلاح التربية والتعليم الديني، ورحلته إلى صقلية،

ورسائله إلى العلماء في مواضيع شتى، فنثني على همة وغيرة حضرة الأستاذ

رشيد على وضع هذا الكتاب المفيد في تخليد ذكر ذلك الإمام، وَنَحُثّ جمهور

الأدباء والفضلاء على اقتنائه.

وقال المؤيد في العدد 5200 الصادر في 15 ج1 سنة 1325 و26

يونيو سنة 1907:

(تقريظ المفتي)

الجزء الثاني والثالث من تاريخ حياة المرحوم الأستاذ الشيخ محمد عبده،

الثاني في المنشآت، والثالث في التآبين والمراثي. أصدر هذين الجزأين جامعهما

الأستاذ الفاضل الشهير الشيخ محمد رشيد رضا منشئ المنار، وهو مباشر في إعداد

الجزء الأول الذي يتضمن ترجمة المرحوم المشار إليه، وربما أصدره عن قريب.

أما موضوع الجزء الثالث المصدر برسم المرحوم فمعلوم كنهه لدى القراء.

وأحسن ما يقال فيه أنه معرض لقرائح الشعراء والكتاب: منه تتجلى مقدرتهم،

ويوازن بينهم في موضوع قد تواردوا عليه، ومعنى واحد كتبوا ونظموا فيه.

وأما موضوع الجزء الثاني: فربما كانت مضامينه خفية على معظم القراء،

فنحن نشير إلى نموذجات منها عن كتب: الواردات في علم الكلام وهي على نمط

بديع غير مألوف. ومقالات ملخصة من دروس الشيخ جمال الدين الأفغاني في

التربية والصناعة، ومنها مقالات كان ينشرها المرحوم المفتي في جريدة الأهرام

منذ ثلاثين سنة في مطالب ومواضيع مختلفة، ثم مقالات له في الوقائع الرسمية

تتضمن كثيرًا من الأبحاث الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية، ثم مقالات

العروة الوثقى وهي أشهر من نار على علم. ثم لوائح في إصلاح بلاد الدولة العلية

ورده على هانوتو، ورأيه في محمد علي باشا هل أصلح مصر أو أفسدها، ثم

كتبه ورسائله إلى العلماء والفضلاء في سائر الأقطار.

وفي نسبة هذه المنشآت إلى الأستاذ المفتي رحمه الله ما يغني عن الإسهاب

في رفعة منزلتها وبيان فائدتها. وإنا لنلفت عشاق البلاغة ومحبي البحث في

الاجتماع الإسلامي إلى هذا الكنز الثمين الآن. وربما نقلنا فصولاً منه في الأعداد

التالية من المؤيد فيما بعد الآن.

وقالت جريدة اللواء في:

(تاريخ الشيخ عبده)

أهدانا الشيخ رشيد رضا تاريخ المرحوم الشيخ محمد عبده وهو في ثلاثة

أجزاء، جمع فيها كل ما قيل عن المرحوم من نثر وشعر؛ تأبينًا له بعد مماته،

ومفصل تاريخه وأعماله في حياته. والأجزاء مبوبة تبويبًا يسهل على القارئ

تلاوتها.

وثمن كل جزء عشرة قروش، ويباع بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز.

(المنار)

فليتأمل القارئ البصير في أقوال هذه الجرائد في الكتاب، وفي من وضع

الكتاب؛ لإحياء آثاره وذكره وليقابل بينها مستدلاًّ بها على أذواق أصحابها

ومحرريها وشعورهم يجد أجدر هذه الجرائد بالثناء والإطراء على إمام المسلمين

ومفخر المصريين، هي (وحاشا الجريدة) أشدها تقصيرًا وأبعدها عن الذوق،

وأوغلها في غمط الحق.

فإذا كانت جريدة المؤيد استكبرت عن تسمية التاريخ باسمه (تاريخ الأستاذ

الإمام) ، وجعلت عنوان الكلام عنه (تقريظ المفتي) وهو عنوان لا وجه له، فإن

التقريظ هو مدح الحي بالحق أو الباطل، وإذا كانت لم تعبر عن الفقيد عند ذكره بلقبه

المعروف عند أهل الخافقين (الأستاذ الإمام) ، كما يعلم من الجزء الثالث من تاريخه

على أن المؤيد كان قد سبق الجرائد إلى التعبير عنه في حال حياته بالإمام يوم رده

على هانوتو، وإذا لم تذكر شيئًا من مكانته وفضله واستحسان إحياء ذكره، فإنها

تعد مشمرة بالنسبة إلى تقصير جريدة اللواء التي جاءت بسخف، لا يمكن أن

يوجد مثله في غيرها حتى الجرائد التي توصف بالساقطة. وقد يعذر محررو المؤيد

إذا اكتفوا من تقريظ التاريخ بمجمل ما فيه، ولم يلقبوا صاحبه بلقبه؛ لعلمهم بأن

سياسة صاحب الجريدة قد تقتضي ذلك، والكتاب قد أهدي إلى الجريدة يوم سفره،

(وإن لم يعذروا بذلك العنوان الذي نعتقد أنه ما كان ليرضاه لو كان هنا؛ لأنه

يوصف بحسن الذوق في وضع العناوين) ولكن الكتاب أُهدِي إلى جريدة اللواء

وصاحبها موجود، ومرت أيام كثيرة وهو بين يديه، ولم يكتب عنه شيئًا، وبعد سفره

كتب خلفاؤه ما رأيت، وهم أعلم الناس بما يوافق سياسة ذلك الذي ينحني خاضعًا أمام

غاريبالدي؛ لأنه نبغ في وطنه إيطاليا وينكر فضل أعظم النابغين في وطن نفسه

كالأستاذ الإمام.

أليس هذا مما يعد مصداقًا لقول الأستاذ الإمام في اللواء: (إنه مجموع نوبات

عصبية بعضها شديد، وبعضها ضعيف) (أو خفيف) .

فإن قيل: إن جريدة اللواء لم تقصر في تأبين الأستاذ الإمام عند موته، بل

اعترفت بأنه نال أعلى مقام بين علماء الإسلام (راجع ص 33 من ج 3 من

التاريخ) ، وبأن الأجنبي كان يخرج من حضرته وهو يحسد الإسلام عليه (ص

34) ، وأنه مات بموته العلم العصري، وأنه فقيد البلاد فقيد العلم فقيد اليتامى فقيد

البؤساء فقيد الإسلام والمسلمين

إلخ (ص35) . فما باله اليوم لا يزيد في

التعبير عنه على كلمة (الشيخ عبده) ، والجواب عن هذا أن اللواء الآن في نوبة

شديد ة، هاجها ترقي أشهر مريدي الأستاذ الإمام في الحكومة: ترقي سعد باشا

زغلول إلى منصب الوزارة، وأحمد فتحي باشا زغلول إلى وكالة الوزارة.

وهنالك ميثاق مأخوذ على اللواء وعلى جرائد أخرى بإسقاط حزب الشيخ

محمد عبده ومقاومة رفعة ذكره، (والله متم نوره) وهو هو السبب في جعل

حسنات ناظر المعارف الجديد سيئات في تلك الجرائد، والطعن فيه بعد ذلك

الإطراء.

وانظر بعد هذا إلى قول عالم كبير روسي في جريدة روسية؛ لتكمل لك

العبرة، وهو ما جاء في جريدة (وقت) التي تصدر في مدينة أورنبورغ بروسيا

وهذه ترجمته:

(الشيخ محمد عبده)

كان الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية مات سنة 1323 في جمادى

الأولى في الإسكندرية.

كان الشيخ محمد عبده من أشهر مشاهير الرجال في هذا العصر، ولا شك أن

شهرته تزيد، ومكانته في النفوس تسمو على ممر الأيام؛ بما ترك من الآثار

الحسنة، وأتم من الأعمال الجليلة.

لم يكتسب الشيخ محمد عبده هذه الشهرة الفائقة بكونه كان مفتي الديار

المصرية. وإنما نالها بكمالاته العلمية. وإلا فقد سبق قبله بمصر مفتون كثيرون،

وتنقلت وظيفة الإفتاء بعده أيضًا إلى عدة أشخاص، ولم ينل أحد من هؤلاء

وأولئك من الشهرة عشر معشار ما ناله الشيخ محمد عبده.

والسبب الرئيسي في تبريز الشيخ محمد عبده على أقرانه؛ هو استفادته من

علم حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، وكان بعد وفاته خليفته في العلم

والإصلاح، غير أنه خالف أستاذه في خطته السياسية، ولا يخفى على البصير أن

الرجل الحر المستقل في آرائه وأفكاره لا يعمل إلا بما يعتقده صوابًا، وإن كان فيه

مخالفة أساتذته ومشايخه.

قضى السيد جمال الدين الأفغاني حياته بالتفكير في إصلاح الدين الإسلامي.

والكلام بهذا الشأن أينما كان. غير أنه لم يتيسر له الشروع فيه عملاً؛ لقضاء جل

أوقاته بالسياسة والسياحة. إلا أن ما لم يتيسر للأفغاني تيسر للشيخ محمد عبده

تيسرًا كاملا. وذلك أنه بعدما رجع إلى مصر من منفاه في سورية بذل قصارى

جهده في المسلك (مسلك الإصلاح الديني) بالكتابة والتدريس في الأزهر.

كانت مجلة (المنار) التي يصدرها حضرة محمد رشيد أفندي رضا، أنشئت

بقصد نشر آراء الشيخ محمد عبده وترويج مقصده الديني [*] ، ولا تبرح بعد موته

أيضًا على هذه الخطة المستحسنة - وينشر التفسير المقتبس من دروسه - في

(المنار) .

لم يكن الشيخ المرحوم يلتزم في تفسيره القرآن اتباع أحد من المفسرين

ولا غيرهم وإنما كان يعول فيه على بصيرته النيرة وفهمه الثاقب.

ثبت الشيخ محمد عبده في خطته ثبات الأطواد، ولم يأل جهدًا في نشر

مقصده في أرجاء البلاد الإسلامية، حتى إنه كان مشغولاً بالتفكير في مقصده في

مرضه الذي مات فيه، وجادت قريحته قبيل موته بأبيات يتحسر فيها لحلول الأجل

قبل تمام العمل.

كان الشيخ محمد عبده معاصرًا لنا أيضًا، وقد استفدنا كثيرًا من علمه، وكنت

عاشق علمه وفضله، ولا أزال غير أني لسوء الحظ لم يتح لي التعرف به

ومراسلته بسؤاله، عما كنت أستشكله من المسائل من بين علمية ودينية. وكان هذا

الأمر يجول في خاطري من زمن بعيد، بيد أننا أضعنا الفرص يا للأسف بالتمني

والتسويف.

كان أصدقائي في مصر يكتبون إليَّ من حين إلى آخر خبر عزم الأستاذ

المرحوم على السياحة في البلاد الروسية. ولهذا كنت أمني نفسي برؤيته حين يجيء

هذه البلاد. ولكن:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

وقد وافانا نعيه حينما كنا ننتظر قدومه.

وقد ألَّف مريده وتلميذه وخليفته في مذهبه ومسلكه الشيخ محمد رشيد أفندي

رضا تاريخًا في ثلاثة أجزاء للأستاذ المشار إليه. وقد ازدانت مكتبتنا بورود الجزء

الثالث المحتوي على 428 صفحة من ذلك التاريخ.

وفي هذا الجزء كثير من التعازي والمراثي التي بُعثت من مسلمي الأقطار

المختلفة. وليس فيه شيء بُعِث بقصد التعزية من مسلمي روسيا سوى ما كان كتب

كاتب هذه السطور إلى حضرة صاحب المنار من كتاب وجيز؛ بقصد تعريف حامل

ذلك الرقيم لحضرته.

ولما لم أظفر في الكتاب بغير تلك السطور القليلة من تعازي مسلمي روسيا،

وقفت خجلاً في أول الأمر، ثم لم ألبث أن سررت لوجود تعزية منا أيضًا بين

التعازي الكثيرة الواردة من مسلمي تونس والجزائر والهند وإيران.

لو تنبهت لهذا الأمر في حينه؛ لكتبت ألبتة بعناية واهتمام ما يطلق عليه اسم

التعزية. والآن أقرع سن الندم ولات حين مندم.

إذا كنت أنا قصرت في كتابة هذه التعزية؛ لاشتغالي بالنظر في (الخصومات

العائلية) (كان الكاتب حينئذ قاضيًا في المحكمة الشرعية) ، فما بال الشيخ نجيب

التونتاري الذي حصر كل حياته على المطالعة والعلم - لم يكتب شيئًا بهذا الصدد،

بل وما عذر الشيخ عالمجان البارودي الذي لديه جم غفير من تلاميذه المجيدين

للكتابة بالعربية في تفريطه في هذا الواجب الإنساني!

...

...

...

... رضاء الدين فخر الدين

***

(مطبوعات البكري)

طبع الشيخ محمد توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق ونقيب الأشراف هذه

الكتب:

(كتاب التعليم والإرشاد) : كتاب جديد (جمعه وصنفه بعض رجال

الصوفية) ، ولم يذ كر اسمه عليه بأمر البكري، ودلالته، ومعظمه مأخوذ من كتاب

الإحياء، وفيه عدة فصول مأخوذة من (المنار) بدون عزو إليه، كما ظهر لنا ذلك

من تقليب كثير من أوراقه في بضع دقائق، فمن ذلك فصل لنا في أسرار الزكاة

وفوائدها، وهذا قد عزاه إلى أحد الفضلاء، وفصل في أسرار الصوم وفوائده لم يعزه

إلى أحد. وفصل في مضار تربية الأولاد والتلاميذ بالقسوة لم يعزه إلى أحد. وكل

ذلك من المجلد الثاني من المنار. وفصل في الحكومات الاستبدادية وهو مقالتان

للسيد جمال الدين نشرناهما في المجلد الثالث، ومقالة فلسفة الصناعة التي اقتبسناها

في المجلد التاسع من منشآت الأستاذ الإمام. فكيف جاز لرجال الصوفية أن يستحلوا

السرقة والتدليس في كتاب الإرشاد؛ الذي وضع لهداية أهل الطرق التابعين لهم.

أما الكتاب فيرجى أن يفيد من يوزع عليهم من مشايخ الطريق الذين يقل فيهم

من يقرأ في غير كتب الخرافات، كما يفيد غيرهم من القارئين وهو أفضل عمل

سعى إليه البكري، وكان قد سبق لي معه الحديث فيه منذ سنين، واتفقنا على أن

أختصر الإحياء وأزيد عليه من الفوائد ما يحتاج إليه في هذا العصر، وهو يطبع

المختصر ويوزعه على أهل الطرق ليكون عمدتهم في الإرشاد. ثم بَدَا لَه فعهد بذلك

إلى جامع كتاب التعليم والإرشاد؛ لينتحل كلامنا وكلام غيرنا انتحالا. وقد سبقه

إلى هذه التسمية الشيخ محمد بدر النعساني فإنه ألَّف كتابًا سمَّاه بهذا الاسم وطبعه في

السنة الماضية، وهذا مما ينتقد بما يقع فيه ومن الاشتباه.

(صهاريج اللؤلؤ) : للشيخ توفيق البكري نحو عشر نُبَذ أدبية منثورة

ومنظومة معظمها مأخوذ من نثر المتقدمين ونظمهم، عهد إلى الشيخ أحمد بن أمين

الشنقيطي والشيخ أبي بكر محمد لطفي المصري بشرحها، فشرحاها شرحًا مطولاً

تزيد صفحاته على عدد أيام السنة. وسنعود إلى الكلام عليه في فرصة أخرى.

(كتاب بيت الصديق) : وضع الشيخ محمد توفيق هذا الكتاب؛ لترجمة

نفسه وترجمة آبائه وأجداده الذين ينتسب إليهم وصفحاته تزيد على أربع مائة.

(كتاب بيت السادات الوفائية) : وهو زهاء مائة صفحة يذكر فيه نسب

الوفائية وتراجمهم.

(المستقبل للإسلام) : هي الرسالة التي نشرناها في المجلد الخامس

وطبعناها على حدة.

_________

(*) إننا عندما عزمنا على الهجرة من سوريا إلى مصر؛ لأجل إنشاء المنار، لم نكن نعلم أن الأستاذ الإمام يشتغل بالإصلاح الديني، وهو لم يكن يقرأ في ذلك العهد دروسًا في الأزهر، على أنه كان يعمل في إصلاح إدارته، ومع ذلك كنا نعتقد أنه أكبر زعيم مصلح بعد السيد جمال الدين، وكنا نرجو أن يكون أعظم من يقدر خدمتنا للدين قدرها، ويسعدنا عليها بعلمه وإرشاده وكذلك كان.

ص: 382

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بدعة غريبة في مصر

يقولون: إن مصر بلاد العجائب وأي العجائب أغرب مما يحدث في مصر

يقوم شيخ عالم كالشيخ حسن علي الدمياطي ينكر بعض البدع والخرافات التي

فشت في المسلمين، فيقيم عليه النكير العلماء وأنصارهم من العوام، ويعاقب بمنع

رزقه الذي يستحقه شرعًا من الأوقاف، ومنعه من تعليم المسلمين وإرشادهم سنة

كاملة.

ويقوم شيخ آخر كالشيخ عبد الرحمن عليش فيبتدع بدعة جديدة في الإسلام

هي من أغرب البدع وأنكرها، فلا يلقى من العلماء إنكارًا ولا من الأمة نفارًا، وما

أظن أن أحدًا سبق هذا الشيخ إلى وقف المساجد على الأموات من غير المسلمين؛

لأجل الصلاة على أرواحهم. وكيف وإن وقفها على أموات المسلمين أنفسهم من

البدع التي لا يعرفها كتاب الإسلام، ولا تقبلها سنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

اسم الشيخ عليش الكبير- رحمه الله مشهور في مصر وفيما جاورها من

البلاد؛ بما كان عليه من التحمس والتشدد في الدين، على كونه من أشهر علماء

الأزهر المعمرين، وقد بلغ من تحمسه أنه لما بلغه أن السيد محمد السنوسي

- رحمه الله تعالى - يقول بالاجتهاد أخذ حربة وقصد إليه ليطعنه بها لما كان بمصر

وأنه لما وشى إليه أحد أولاده بالشيخ محمد عبده رحمه الله عندما كان يقرأ

العقائد النسفية (وهو مجاور بالأزهر)، قائلا: إنه رجَّح مذهب المعتزلة على

مذهب الأشعري ثار عليه وعلى أستاذه الأفغاني، وكان طول حياته حربًا لحكيم

الإسلام وللأستاذ الإمام وللسيد السنوسي، وإن هؤلاء الثلاثة لأعظم مسلمي هذا

العصر أثرًا في الإسلام.

ما أبعد الفرق بين الشيخ عليش في تحمسه الديني وغيرته على الإسلام في

مذاهبه وتقاليده وبين أولاده وأحفاده الذين لم يرثوا منه علمًا ولا خُلُقًا، فهم أول من

مثَّل الإسلام أمام الإفرنج في معرض الهزء والسخرية؛ إذ جمعوا لهم بعض

الزعانف المنتسبين إلى الطريق، وجعلوا يرقصون ويذكرون؛ ليصورهم الإفرنج

في تلك الحالة، ويثبتون صورهم في الكتب مبينين أن رقصهم على تلك الصفة

الشنيعة من عبادات الإسلام.

ثم بلغنا في العام الماضي أن الشيخ عبد الرحمن عليش قد وقف قطعة أرض

بحارة الجوار القريبة من الأزهر بنى فيها مسجدًا باسم همبرتو الأول ملك إيطاليا لتقام

الصلوات فيه عن روح الملك المتوفى ويكون تذكارًا له، وسلمه لحكومة إيطاليا، وهي بدعة غريبة لا يعرف لها نظير في الإسلام.

وفي تلك السنة رفع الشيخ محمد عبد ربه قضية على الشيخ عبد الرحمن

عليش بأن له حقًّا في الأرض التي بني فيها المسجد، فهي أرض مغصوبة. فكان

مما قدمه المحامي عن الشيخ عبد الرحمن عليش إلى المحكمة من الأوراق التي

يسمونها المستندات ما يأتي بنص الحافظة التي حفظها له المحامي وغلطها اللغوي:

عدد

ترجمة مُوَقَّع عليها بإمضاء مترجم أول الوكالة السياسية الإيتالية بمصر محمد

بيك علي علوي مؤرخه في 16 مارس سنة 1906 تفيد أن الشيخ عبد الرحمن عليش

المدعى عليه بناء مسجد، وأعطاه للحكومة الإيتالية ورقة باللغة الأجنبية ترجمة

المشروح أعلاه.

خطاب باسم الشيخ عبد الرحمن عليش مؤرخ في 21 فبراير سنة 1906، يفيد

تشكر قنصل إيتالية بالنيابة عن الوزارة الخارجية الإيتالية لحضرة الشيخ عبد

الرحمن عليش؛ نظير تبرعه بقطعة أرض من أملاكه للحكومة الإيتالية؛ ليقام

عليها مسجد تقام فيه الصلوات الخمس على روح الملك.

(3)

فقط ثلاثة أوراق لا غير تقدموا لمحكمة السيدة زينب بحافظه بإمضاء محمد

زكي عبد المجيد المحامي بمصر 22 -3 سنة 1906

ترجمة نمرة 1 حافظة

الوكالة السياسية الإيتاليه تعترف: أن الشيخ عبد الرحمن عليش الكبير بَنَى

في حارة الجوار بخط الأزهر جامعًا باسم جلالة الملك همبرترالأول وتذكارًا له،

والجامع المذكور أعطاه للحكومة الإيتالية هذه الترجمة طبق الأصل.

16 -

2 سنة 899 - قنصل جنرال دولة

... مترجم السياسة بمصر

...

إيتالية والوكيل السياسي

محمد علي علوي

...

بمصر المستر سلفاخس

...

... راحي

...

... ختم القنصلية

(المنار)

ويلي هذا صورة كتاب شكر من عميد دولة إيطاليا بمصر للشيخ عبد الرحمن

عليش. وكتبت جريدة الأخبار في هذا الشهر شيئًا في هذه المسألة، علم منه أن

حكومة إيطاليا مغبوطة بموالاة الشيخ عبد الرحمن عليش لها وموادته إياها، وأنهم

أخذوا عنه صورة شمسية عرضوها في بعض جرائدهم. وعظَّمت شأنه جريدة

الأخبار تبعًا لهم، فجعلته من العلماء الذين لهم الشأن والنفوذ وما هو منهم في

شيء ولا نفوذ له، بل لا يكاد يعرف.

وقد نمى إلينا أن إيطاليا تستعين بموالاة هذا الشيخ لها، وبما تعظِّم من شأنه

بالباطل على تأييد نفوذها فيمن استولت عليهم من المسلمين، وفيمن تطمع

بالاستيلاء عليهم كأهل طرابلس الغرب وأهل اليمن، فإن لها يدًا خفية في فتنة

اليمن، ولها طمع في تلك الولاية تغذيه وتنميه في نفسها إنكلترا فيما يقال.

ولكن أجهل المسلمين لا يعتد بشيخ يقف مسجدًا؛ لتصلى فيه الصلوات الخمس

على روح ميت غير مسلم، بل ولا ميت مسلم، بل ولا نبي من الأنبياء، فإن

الصلوات الخمس عند المسلمين لا تكون إلا خالصة لله وحده. وأما الصلاة على

الأنبياء التي يخصون بها الأنبياء فهي الدعاء بمثل: اللهم صل على محمد، أو صلى

الله عليه وسلم عند ذكره. فهل يعتد به أهل اليمن أو طرابلس وفيهم العلماء

والعارفون؟؟

ليس ما فعله عبد الرحمن عليش من التساهل الديني الذي يجعلونه التعصب

الذميم، بل هو من تساهل الجهل والتهاون والعبث بالدين. وقد يفهم جهلة العوام

ولو بعد حين أن نسبة المسجد إلى همبرتو، كنسبة غيره إلى بعض الأولياء

كالدسوقي والبدوي والحنفي، ولا يبعد أن يبنى له فيه قبر للملك يزار، ويضمه

إليه عباد القبور.

_________

ص: 398

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العسر المالي والربا والبنوك

أصيبت بلاد مصر في هذه السنة بنقص في المال، وعُسر في التجارة بالعقار

والعروض، وغلت دونها أيدي أصحاب البيوت المالية في أوربا فأفلس كثير من

الأغنياء فيها، ولم يبق صنف من أهلها إلا وقد ذاق مرارة العسر، ومسه ألم الضر،

وينتظر الناس الآن موسم القطن - الذي تقدر قيمته في السنة بثلاثين ألف ألف

جنيه أو تزيد إلى خمسة وثلاثين - وهم بين الخوف والرجاء - وإنما يخافون أن

يعبث بالموسم الماليون الأوربيون، فيعظم الخطب ويعم الكرب.

لقد صرنا إلى زمن لم يعرف له نظير في التاريخ - زمن يقبض على أعنة

جميع مصالحه ومرافقه وسياسته أصحاب النقود فيصرفونها كيف شاؤوا، زمن صار

فيه العلم بتصريف الأموال من أوسع العلوم وأدقها، زمن صارت فيه الأمم الفقيرة

أذل الأمم، ودولها أضعف الدول، فالمال في هذا الزمان هو أساس القوة والعزة،

وآلة السيادة والسلطة.

يعسر على أمة تبغي النجاح في تحصيل الثروة ومباراة الأمم العزيزة بالغنى

أن تصل إلى ما تريد من ذلك، ما لم تسلك سبل تلك الأمم، وإنها لسبل معبدة: منها

القصد ومنها الجائر. وما الجائر إلا سبيل القمار والربا لا سيما المضاعف أو

المركب، والقمار والربا محرمان في الإسلام تحريمًا غليظًا. فمن ثم كانت الشعوب

الإسلامية اليوم في حيرة، لا تدري كيف تعيش مع هذه الأمم الإفرنجية التي

تنازعها الوجود مع عدم مجاراتها في سبل الثروة، ولا كيف تجاريها مع الاحتراس

من الربا بأنواعه.

لو أن للإسلام دولاً قوية، وشعوبًا غنية يمكنها أن تستغني عن أوربا، أو أن

تجعلها تابعة لقوانينها، أو تلجئها إلى اتباع مدنيتها؛ لسهل عليها أن تسلك في جمع

الثروة والتصرف فيها مسلكًا يقرن المصلحة بالفضيلة؛ فضيلة الرأفة بالبائس الفقير،

وإسعاده في الأمر العسير، وما الحيلة وليس لنا دولة عزيزة قوية، في أمة عالمة

غنية، وأوربا تمتص دماءنا حتى كادت تذهب بلحومنا.

لم يجد حكامنا حيلة لمنع الربا فأباحوه لرعيتهم في قوانينهم، وتعاملت به

دولهم حتى إن السلطان عبد الحميد الذي حرص على لقب الخلافة حرصًا لم يسبقه

به سابق، يأكل الربا ويؤكله، ومثله في ذلك أمير مصر. وأكثر المسلمين لا

يأكلون الربا. ولكنهم يؤكلونه فيدلون بأموالهم إلى الأجانب، وذلك شر من أكل الربا

منهم، بل شر الأقسام التي تتصور في معاملة الربا وأشدها ضررًا وأعظمها خطرًا.

ذلك أن لهذه المعاملة صورًا نذكر أهمها ومنه يعلم باقيها - أحدها أن لا تأكل من

أحد ولا تؤكل أحدًا - ثانيها أن تأكل من الأجنبي خاصة ولا تؤكل أحدًا - ثالثها أن

تأكل من الأجنبي وغيره ولا تؤكلهما - رابعها أن تأكل منهما جميعًا وتؤكل الثاني

دون الأول - خامسها أن تأكل منهما جميعًا وتؤكلهما كذلك - سادسها أن تأكل منهما

وتؤكل الأجنبي فقط - سابعها أن تؤكل غير الأجنبي ولا تأكل من أحد - ثامنها أن

تؤكل الأجنبي خاصة ولا تأكل منه. فأفضل هذه الأقسام وأشرفها أولها. وأخسها

وأشدها ضررًا ثامنها. وما بينهما من الأقسام مرتبة على حسب درجاتها من الضرر

في الأمة، الثالث شر من الثاني وهكذا، وأكثر المسلمين الذين يتعاملون بالربا، قد

اختاروا شرها على الإطلاق، ثم ما يقرب منه.

إذا كان كل ما اشترطه الفقهاء في جواز المعاملات المالية، كالبيع والصرف

والقرض والحوالة والشركة دينًا يجب اتباعه في كل زمان ومكان، ويكون التارك

لشيء منه عرضة لغضب الرحمن، فما أشد الحرج على المسلمين في هذا الزمان،

بل ما أكثر الفسوق فيهم والعصيان، فإنه لا يكاد يوجد في الألف أو الألوف من

التجار وغير التجار واحد يراعي تلك الشروط والأحكام في معاملاته، وما ذاك إلا

أن في مراعاتها حرجًا شديدا، وعسراً عظيما، وإذا قلت أيضا: إن في معرفتها

لحرجًا، لم تكن بعيدًا من الصواب، ولولا الحرج لما قل العالمون بها، وقل

العاملون في هؤلاء العالمين أو فقدوا.

السواد الأعظم من المسلمين يسلمون بأن تلك الأحكام الفقهية كلها دين إلهي.

ولكن هذا التسليم مبني على أساس التقليد الواهن لا سلطان له على النفس، ولذلك لم

تعمل به، ولما كان الاعتقاد بحرمة الربا اعتقادًا صحيحًا مؤيدًا بنص الكتاب العزيز

ترى أنه يقل في المسلمين من يقدم على أكل الربا، ولا تقل: وكيف يؤكلونه بما

يقترضون، ولا يأكلون بما يقرضون؟ فإنك تعلم أن الاقتراض بالربا لم يرد به

نص الكتاب، وإنما جاء تحريمه في الحديث. وقد يستنبط من الكتاب استنباطًا

ومكان ذلك من النفوس دون مكان النص قوة وتأثيرًا، ثم إن الضرورة قد تلجئ

المحتاج إلى الاقتراض، ولا ضرورة تلجئ الغني إلى الاقتراض، فإن كان الفقيه لا

يرى تلك الضرورة صحيحة شرعًا فإن المقترض يراها صحيحة، وهو مسوق

للعمل بما يرى ويعتقد دون ما يرى غيره، ولا ينفك خاصة الناس وعامتهم يجتهدون

فيما يعرض لهم، ويعملون باجتهادهم مهما ضيقت مقلدة الفقهاء في منع الاجتهاد،

ولا يمنع ذلك أن يكون التقليد هو الغالب عليهم.

لولا التقليد لوجد المسلمون المخرج في شريعتهم من كل حرج وعسر، فإن

من قواعدها الأساسية في نص الكتاب: نفي الحرج والعسر في الأحكام وإرادة اليسر

فيها. قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) وقال:

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وفي الحديث (لا

ضرر ولا ضرار) رواه مالك في الموطأ مرسلاً وأحمد، وقال الحاكم: صحيح

على شرط مسلم، ومن ثم كان من قواعد الفقه أن المشقة تجلب التيسير وأن

الضرورات تبيح المحظورات، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع.

يقول كثير من أهل الرأي: إن العسر المالي الذي مدت في البلاد أطنابه،

وضربت في أرضها أوتاده، ويخشى أن يصير شره المستطيل مستطيرًا، فيجعل

ثروة الأمة هباءً منثورًا، يمكن مقاومته بإنشاء بنك وطني ينتزع بأيدي أغنياء البلاد

بعض ما عليه ماليو الأجانب من الأثرة والاستبداد، والتحكم في معايش العباد،

فقام في وجوههم آخرون يقولون: إن دين الإسلام لا يسمح لأهله بأن ينشئوا لهم

بنكًا؛ لأن البنوك هي بيوت الربا كل معاملاتها أو جلها بالربا، فرد ذلك بعض

المقترحين قائلاً: إن البنك الذي نقترحه ليس من نوع بنوك الصيارف التي تنشأ؛

لأجل الإقراض بالربا الفاحش أو غير الفاحش. وإنما هو من نوع البنوك الكبرى

التي هي واسطة بين أرباب الأموال في مداولتها بينهم بقبول حوالة هذا، وتحصيلها

من ذلك بأجرة معينة، وإيصال ما يريد إرساله أهل بلد إلى آخر بأجرة أيضًا،

وليس هذا من الربا المحرم علينا بالنص، ولا نريد بنكًا أكثر من هذا. قال بعض

المعترضين: إننا نشك في كون هذا ليس من الربا المحرم، وإننا نطلب من العلماء

بيان ذلك.

لجأوا إلى العلماء المعروفين بالفقهاء، وباب الربا عندهم أوسع من الأرض

والسماء، فإنه يطلق عندهم على جميع البيوع الفاسدة، والمعاملات المالية التي لا

تنطبق على الشروط المدونة. وباب الاجتهاد عندهم مقفل، بل مسدود والفتوى

بالقواعد العامة: كمراعاة المصالح، وتقدير الضرورات من عمل المجتهد المفقود.

على أن الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، والرجوع إلى النص وآراء المجتهدين

أمر هين وإن كانوا يريدون من العلماء إقناع العوام، لا معرفة الحلال والحرام،

فما هم بمدركي فتوى رسمية ولا حيلة فقهية.

هذه مسألة من أكبر المصالح العامة التي ينبغي أن تنظر فيها الجماعة، المعبر

عنها في الكتاب بأولي الأمر؛ أي: أصحاب الشأن في الأمة؛ ليستنبطوا حكمها

بمقتضى قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وليس أصحاب الأمر هم الملوك والأمراء ولا

طائفة الفقهاء؛ إذ لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية

ملوك يحكمون، ولا فقهاء يفتون وإنما كان هناك جماعة من أصحاب الشأن في

الأمة العارفين بمصالحها، المعروفين بحسن الرأي فيها، وهم يوجدون في كل أمة

بحسب حالها، فأولو الشأن والرأي في المصريين الآن يتألفون من عدة أصناف

رجال مجلس الشورى، وقضاة المحاكم العليا من شرعية وأهلية، والمحامون

وأصحاب الجرائد، وكبار المدرسين والمزارعين والتجار.

فأقترح أن تتألف لجنة من هؤلاء الأصناف، وتنظر في هذا الأمر، هل هو

ضروري للأمة؟ فإن كان ضروريًّا وضعوا له قانونًا أول مواده منع الربا

المضاعف المحرم بالنص القطعي؛ لشدة ضرره وهو لا ضرورة إليه، ونظروا فيما

عدا ذلك من أعماله التي لابد منها، هل فيها شيء من ربا الفضل الذي حرم؛ لسد

الذريعة إلا لذاته كما في (أعلام الموقعين) ؟ فإن كان فيها شيء من ذلك، فهل

وصلت الضرورة فيه إلى حد يجوز العمل بقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)

أم لا؟

قال الإمام ابن القيم: (الربا نوعان: جلي وخفي. فالجلي حُرِّم لما فيه من

الضرر العظيم، والخفي حُرِّم؛ لأنه ذريعة إلى الجلي. فتحريم الأول قصد،

وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة: وهو الذي كانوا يفعلونه في

الجاهلية مثل: أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال، حتى

تصير المائة آلافًا مؤلفة وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا مُعْدَم مُحتاج، فإذا رأى

المستحق يؤخر مطالبته، ويصبر عليه بزيادة يبذلها له، تكلف بذلها ليفتدي من أسر

المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظم مصيبته، ويعلوه

الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له

ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل،

ويحصل أخوة على غاية الضرر، ثم أطال وأورد آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا

الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) .

وأورد بعد هذا فصلاً في ربا الفضل الذي حُرِّم لسد الذريعة: وهو أن يبيع

الدرهم بدرهمين مثلا، وذكر الخلاف فيه، وأن بعض الصحابة جَوَّزَه، وبَيَّن أنه

ككل ما حرم لسد الذريعة قد يباح للمصلحة (راجع ص 203 من أعلام الموقعين) .

وأنت تعلم أن باب المصلحة أوسع من باب الضرورة. وأساس المعاملات في

الشريعة أن كل محرم ضار، وكل نافع حلال؛ ولذلك علل الكتاب حرمة الربا بقوله:

{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ولكن أكثر معاملات البنوك لا ظلم

فيها، بل منها ما فيه الرحمة للمتعاملين، فإن العاجز عن الكسب إذا ورث مالاً

وأودعه فيه بربا الفضل، يستفيد هو والبنك معًا.

وتبحث اللجنة في سائر فروع المسألة، وتمضي الأمة ما تقرره اتباعًا لهداية

القرآن، وتثبت للعالمين أن شرع الإسلام موافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان.

_________

ص: 430

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من القاهرة عن الربا

من 32 - 35

فضيلة الأستاذ العلامة صاحب مجلة المنار الغراء

السلام عليكم. وبعد، فأرجو من فضيلتكم أن تكشفوا النقاب عن هذه الأسئلة

الآتية: ولكم مني مزيد الشكر سلفًا.

(1)

هل ربا الفضل جائز مطلقًا؛ فإن كان بعضه جائزًا وبعضه غير

جائز، فتفضلوا بشرح مستوف بفرق الجائز من غير الجائز؟

(2)

ما قولكم في حديث أبي أسامة من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(لا ربا إلا في النسيئة) أيعتبر منسوخًا بحديث أبي سعيد الخدري الذي روى أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل،

ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا

بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) أم كيف يمكن الجمع بين

الحديثين؟

(3)

في صحيح البخاري أنه قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب

بالذهب ربا إلا هاء هاء، والبُّر بالبُّر ربا إلا هاء هاء، والشعير بالورق ربا إلا هاء

هاء، والثمر بالتمر ربا إلا هاء هاء) . من هذا الحديث يتبين لدينا أربع صور،

ونشاهد في ثلاث منها التجانس في البدلين وفي الرابع اختلاف فيهما؛ لأن الشعير

غير الورق فما حكم بيع الشعير بالورق المقصود من هذا الحديث؟ وما العلة في

اختلاف هذه الصورة عن الصور الأخرى؟

(4)

جاء في حاشية ابن عابدين (ج4 ص 243 هامش مطبعة بولاق)

تحت مطلب (كل قرض جَرَّ نفعًا حرام) هذه العبارة بحروفها، وفي

معروضات المفتي أبي السعود لو ادَّان زيد العشرة باثني عشر بطريق المعاملة في

زماننا بأزيد من عشرة ونصف، ونبه على ذلك

إلخ.

من هو هذا السلطان الذي أصدر الأمر المذكور؟ وفي أي زمن كان؟ وما

دواعي إصداره له وأَنَّى نجد صورة الأمر؟

ثم من هو شيخ الإسلام المشار إليه، وهل يمكنكم أن تفيدونا - أثابكم الله -

بنص فتواه، عسانا نقف على الأسباب التي بنى عليها الفتوى؟

...

... وتفضلوا في الختام بقبول فائق احتراماتي أفندم

...

...

طالب بمدرسة الحقوق الخديوية

(المنار)

أما الجواب عن الأول، فقد نقل المحدثون أن السلف رضي الله عنهم

قد اختلفوا في ربا الفضل، فأجازه ابن عمر وابن عباس وأسامة بن زيد وابن الزبير

وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير مطلقًا، ونقلوا عن ابن عمر أنه

رجع عن ذلك، واختلفوا في رجوع ابن عباس، وحجتهم حديث أسامة المذكور في

السؤال وهو في الصحيحين، والجمهور على خلافهم وحجتهم حديث أبي سعيد الذي

تقدم في السؤال أيضًا وهو في الصحيحين، وإنما جعل مدار الخلاف في ربا الفضل

على الأحاديث؛ لأن الربا المحرم في القرآن هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية

وهو أن يزيدوا في المال كل شهر كما قال ابن حجر في الزواجر؛ لأجل الإنساء

أي: التأخير في الأجل حتى يتضاعف أضعافًا كثيرة.

وفي حديث جابر عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أن النبي - صلى

الله عليه وسلم - اشترى عبدًا بعبدين. وفي حديث عبد الله بن عمر عند أحمد وأبي

داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ابتع علينا إبلاً بقلائص من

إبل الصدقة إلى محلها) ، قال: فكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل

الصدقة إلى محلها.

ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أداها من إبل الصدقة عندما جاءت.

وهناك روايات أخرى في موطأ مالك ومسند الشافعي، وعند البخاري تعليقًا في

شراء الحيوان بالحيوان مع التفاضل، بل والنسيئة، وهذا مما يقول الجمهور

بجوازه على أنهم رووا النهي عنه من حديث سمرة وحديث جابر بن سمرة. فهذا

نوع من ربا الفضل، قد أجازه الجمهور.

وأما الجواب عن الثاني وهو تعارض حديث أسامة (لا أبي أسامة كما ورد

في السؤال) ، وهو (لا ربا إلا في النسيئة) واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم: (إنما

الربا في النسيئة) ، وحديث أبي سعيد:(لا تبيعوا الذهب)

إلخ كما ذكر في

السؤال، فقد قال الحافظ في فتح الباري: واتفق العلماء على صحة حديث أسامة

واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: إن حديث أسامة منسوخ.

لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال وقيل: المعنى في قوله: (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد

التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد

مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضًا نفي

تحريم ربا الفضل من حديث أسامة، إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛

لأن دلالته بالمنطوق، ويُحمل حديث أسامة على الربا الأكبر. اهـ.

والقول بالنسخ أضعف الأقوال، والقول بترجيح المنطوق على المفهوم كما

ترى غريب في هذا المقام، وإذا قلت: إن المنفي في صيغ الحصر منفي بالمنطوق،

كنت أقرب إلى الصواب، وإلا لما كان نفي الألوهية عن غير الله في كلمة التوحيد

إلا من قبيل المفهوم الذي تعرف ما قال فيه أهل الأصول، فبقي القول بأن حصر

الربا في النسيئة هو الربا الحقيقي الذي ورد فيه الوعيد الشديد في القرآن،

وهذا هو الجمع الذي جرى عليه المحققون، كابن القيم وقال: إن ربا الفضل لم

يُحرَّم لذاته، وإنما حرم لسد الذريعة.

وعلى هذا يكون الربا الذي ورد عليه الوعيد في القرآن خاصًّا بربا النسيئة

المعهود في الجاهلية، ولا يدخل فيه ربا الفضل خلافًا لبعض الفقهاء، ولو تناوله

القرآن بالنص، لما اختلف فيه أكابر علماء الصحابة لا سيما ابن عباس وابن عمر

رضي الله عنهم ، فعلى هذا لا يكون ربا الفضل منافيًا للإسلام.

وأما الجواب عن السؤال الثالث؛ فهو أن ما نقله السائل غلط وقع في بعض

نسخ البخاري المطبوعة، ومنها النسخة التي على هامش فتح الباري، والصواب

(والشعير بالشعير) وحديث (هاء وهاء) هذا هو حديث عمر، وليس فيه ذكر

الورق إلا في رواية أبي ذر وأبي الوقت من رواة البخاري، فإنهما قالا: (الذهب

بالورق) بدل (الذهب بالذهب) ، واتفق جميع رواة الصحيحين على (والشعير

بالشعير) ، وبه احتج الشافعي وأبو حنيفة وفقهاء المحدثين على أن الشعير صنف

غير البر خلافًا لمالك والليث، وغيرهما ممن قال: إنهما صنف واحد.

وأما الجواب عن الرابع فهو أنَّ السلطان الذي أصدر ذلك الأمر: إما

السلطان سليمان القانوني ولعله الأرجح، وإما ولده السلطان سليم، فإن أبا السعود

كان في عصرهما وقد توفي في جمادى الأولى سنة 982.

والسلطان سليم قد توفي في رمضان من تلك السنة، وقد ولاه سليمان الإفتاء

سنة 945 وهو هو شيخ الإسلام. أما صورة الفتوى فلم نقف عليها، والظاهر أن

سببها وسبب الأمر السلطاني الذي بني عليها منع الربا المضاعف، والاطلاع عليها لا

يفيدنا فائدة فقهية، وإنما فائدته تاريخية محضة، فإننا نعلم أنها مبنية على استباحة

المعاملة، ولذلك علل ابن عابدين عبارة الدر التي ذكرتموها؛ بأن السلطان إذا أمر

بمباح وجبت طاعته، (والمعاملة) ، ولا إخالكم تجهلونها؛ هي بيع القليل بالكثير

احتيالاً على الربا كأن يقرضه تسع مائة، ويبيع منديلاً ثمنه عشرة قروش بمائة

قرش مثلا، وقد أجاز الحيلة الحنفية والشافعية، واستدلوا عليها بإذن النبي - صلى

الله عليه وسلم - ببيع الصاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الجيد بالحيلة؛

وهي أن يباع كل من الصاع والصاعين بالثمن، وذلك خروج من نص (والتمر

بالتمر ربا إلا هاء وهاء) في الحقيقة دون الصورة، والمانعون للحيلة كالمالكية

والحنابلة لا يجدون للحديث مخرجًا إلا القاعدة التي ذكرها ابن القيم، وهي أن ما

حُرِّم لسد الذريعة كربا الفضل جاز للمصلحة، وأنت تعلم أنه لا معنى لاشتراط كون

بيع النقد أو القوت بجنسه يدًا بيد مثلا بمثل لذاته؛ لأن عاقلاً لا يفعل ذلك إذ ليس فيه

فائدة، وإنما يقصد الناس بالبيع الزيادة بالقدر أو الوصف ولا شيء من ذلك بمحرم

لذاته؛ لأنه هو أصل المنافع والمقصد من التجارة، فلم يبق لذلك الشرط معنى إلا سد

ذريعة التوسل إلى ربا النسيئة الذي كانوا يأكلونه أضعافًا، فلما أَخبَر عامل خيبر النبي

صلى الله عليه وسلم أنهم يأخذون الصاع من التمر الجنيب، وهو الطيب أو

الصلب، وقيل: ما أخرج حشفه بصاعين من الجمع، وهو ما خلط بغيره، أو الدقل

وهو نوع رديء، قال:(لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) رواه

البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. فأباح ذلك عند العلم بالحاجة إليه،

وأمر بأن يكون البيع بالدراهم؛ لأنه هو الأصل في التجارة، وليبقى بعيدًا عن

ذريعة الربا.

ومن الحنفية من صرح بأن الحيلة في الربا لا تجوز إلا لحاجة، كتثمير مال

اليتيم أو الأرملة، أو طالب العلم المنقطع عن الكسب، وعنده مال إذا أنفقه نفد

واضطر هو إلى ترك العلم، فلم يجزه هؤلاء إلا للحاجة أو الضرورة ولا يجيزون

أن يكون مضاعفًا، فقد راعى هؤلاء النص القطعي في تحريم الربا المضاعف الذي

لا هوادة فيه، وراعوا المصلحة أو الضرورة وقدروها بقدرها في ربا الفضل،

وأخرجوها بما يسمونه المعاملة أو المرابحة عن صورة المنهي عنه في الأحاديث،

حتى لا تخرج عن حكمة الشارع في معناها ولا في صورتها، فإن كل حيلة أبطلت

حكمة الشارع ومقصده فهي باطلة، لا تزيد صاحبها إلا مقتًا وضلالاً.

واعلم أن الزيادة الأولى في الدَّين المؤجل من ربا الفضل، وإن كانت لأجل

التأخير، وإنما ربا النسيئة المعهود هو ما يكون بعد حلول الأجل لأجل الإنساء أي:

التأخير، وإذا تكرر ذلك كان الربا المضاعف، كما كانوا يفعلون في الجاهلية.

والذين يقولون بالمعاملة أو المرابحة، يجددون العقد عند نهاية الأجل إذا لم يدفع؛

لكيلا يزيدوا المال لمحض الإنساء صورة ومعنى. ولكن هذا إذا أدى إلى مضاعفة

المال على المدين، كان مخالفًا لحكمة الشاعر، ولا يستحله ذو دين.

_________

ص: 435

الكاتب: محمد رشيد رضا

أسئلة من سنغافورة

عن القرآن بالفونغراف

(س 36 و 37) عون الله الحضرمي بتصرف في لفظه: ظهرت آلة تنطق

بالأحرف بالغناء والأشعار المختلفة، وتغني وتنوح ثم ظهرت فيها قراءة القرآن

والأذان، وصارت تتداوله أيدي الكفرة وأهل الطغيان، في كل قهوة و (مخدرة

وزق زقاق) كأنه للتفرج والفرح، ويباع في كل دكان، من أهل الإسلام وأي دين

كان؛ لأن الأمة زاغت بهذه الفنون كأنهم أصيبوا بالجنون، ولا ندري ماذا يكون،

والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) .

فأجبنا سؤال مجلة المنار عن حكم الشريعة في المسألة، فإن منهم من قال:

ذلك جائز، ومنهم من قال: ذلك لا يجوز. فنرجو أن تجتهدوا فيها وتملأوا

صحيفتكم بفتواها. وهذا عندي من أكبر الكبائر، والله أعلم بما في الضمائر.

(س) من السيد حسن بن علوي بن شهاب:

إلى المنار المنير: ما حكم الإسطوانات المودع فيها صوت القارئ للقرآن،

فهل هي كالمصحف في الحكم: حملاً ومسًّا وحرمةً أم لا؟ وقد اختلفت الأفهام هنا

وأنا أعتقد أن لا حكم لها، بل هي كغيرها من الجمادات.

(ج) قد جاءتنا أسئلة أخرى في معنى هذين السؤالين من مصر وغيرها

فاكتفينا بهما عنها، فأما استعمال هذه الآلة في تأدية القرآن، فهي فيما نرى تابعة

لقصد المستعمل، فإذا قصد بذلك الاتعاظ والاعتبار بسماعه، فلا وجه لحظره، وإذا

قصد به التلهي وهو ما عليه الجماهير فى كل ما يسمعونه من الفونغراف، فلا

وجه لاستباحته، وأخشى أن يدخل فاعله في عداد من اتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا،

فيتناوله وعيد قوله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ

الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيع} (الأنعام: 70) الآية، وقوله تعالى في وصف الكافرين أهل النار: {الَّذِينَ

اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأعراف: 51) ، وأن يدخل

مشتري الإسطوانات أو الألواح التي تؤدي القرآن بهذا القصد في عداد من نزل

فيهم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا

هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (لقمان: 6) كلا بل ربما كان شرًّا من هؤلاء

الناس، فإنه جعل الآيات نفسها مع ذلك اللهو في قرن، فصرف النفس عن

الاعتبار، حتى إذا تليت عليه كان كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا. وقد كان

الأستاذ الإمام يتأثم من استعمال الفونغراف في تأدية القرآن مطلقًا فيما ظهر لي منه.

ولكن وجد في أصحاب العمائم هنا من تجرأ على القول بإباحته مطلقًا. ولعل

ما ذكرناه من اختلاف الحكم فيه باختلاف القصد أقرب. والله أعلم بالسرائر.

وقد يكون لبعض الناس من المقاصد الصحيحة غير قصد الاعتبار والاتعاظ

بسماع القرآن، ما يبيح لهم ذلك، أو يجعله مطلوبًا، كأن يستعين به من لا يضبط

القراءة أو لا يحسنها على ضبطها وتجويدها أو تحفظ فيه أثرًا تاريخيًّا.

وأما حكم حمل ومس الإسطوانات أو الألواح التي بها تتأدى القراءة الذي

بني السؤال عنه على الاعتقاد بحرمة حمل المصحف أو مسه على المحدث، وهو

من يحتاج في صحة صلاته إلى الوضوء أو الغسل، ففيه وجهان:

(أحدهما) : أن يقال إن إسطوانة الفونغراف، أو لوحه الذي ينشأ عن قرع

الإبرة له الصوت المشتمل على الكلام ليس قرآنًا مكتوبًا؛ إذ لا يرى الناظر فيه

شيئًا من كلمات القرآن ولا حروفه، فلا يتناوله الضمير فى قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ

إِلَاّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79)، الراجع الى قوله:{كِتَابٍ مَّكْنُون} (الواقعة:

78) بناءً على أن المراد بالكتاب: القرآن وهو وجه ضعيف في التفسير؛ لأنه ليس

بكتاب.

وهذا الوجه ظاهر على طريقة الفقهاء الذين ينظرون في استنباط الأحكام

إلى مدلولات الألفاظ في الغالب، وهو الذي لاح للسائل فيما يظهر.

(والوجه الثاني) : أن ينظر في المسألة إلى حكمتها وسرها، فيبني الحكم

على ذلك. وبيان ذلك أن تلك النقوش التي تسمى كتابًا ما كان لها حكم الكلام؛ إلا

لأنها وسيلة للعارف بها إلى أدائه ونقله، وكذلك إسطوانات الفونغراف أو ألواحه

وسيلة إلى ذلك. فإذا كانت الألواح والصحف المكتوب فيها القرآن كله أو بعضه

محترمة؛ لأنها وسيلة إلى أدائه، فلماذا لا تكون ألواح الفونغراف وإسطواناته

محترمة كذلك؟

ولصاحب هذا الوجه أن ينقض الوجه الأول بأن العرف يسمي ما في هذه

الإسطوانات والألواح قرآنًا؛ إذ يقال: إن هذا اللوح فيه سورة كذا أو قوله تعالى

كذا. وإذا نظرنا في الكتابة نظر الفيلسوف، نرى أن النقوش الدقيقة التي في ألواح

الفونغراف أجدر من النقوش الكتابية بأن تسمى كلامًا؛ ذلك بأنها كتابة طبيعية

حدثت من تموج الهواء بالقراءة اللفظية بواسطة الإبرة المعروفة، وهي تعيد الكلام

كما بدأه القارئ لا تخطئ.

وأما الكتابة الخطية المعروفة فهي كتابة اصطلاحية، لا تؤدي الكلام بطبعها،

بل بالمواضعة والاصطلاح، وقد يقع الخطأ فيها من الكاتب، فلا يؤدي ما أُملِي

عليه كما هو، ومن القارئ فلا يؤدي ما كُتِب على وجهه، وإن كان عارفًا بالكتابة،

بل المتلقي القراءة لا يضبطها كما هي؛ لذلك قال بعض علماء الأصول: إن تواتر

القرآن خاص فيما ليس من قبيل الأداء، فإننا لا نقطع بأن أداءنا لهذا القرآن المتواتر

كأداء النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان في عهده فونغراف حفظت به قراءته،

لقطعنا بذلك، ولعدَّ الأداء أيضًا متواترًا. ومن ثَمَّ قلنا: إن من المقاصد الصحيحة أن

يستعمل الفونغراف في أداء القرآن؛ لأجل ضبطه إن احتيج إلى ذلك.

هذا وإن تحريم مس المصحف على المُحْدِثِ لا ينهض عليه دليل من الكتاب

ولا من السنة. ولكن بعضهم ادَّعى الإجماع على حرمة مسه للجنب، ولا تسلم له

هذه الدعوى، والخلاف في غير المتوضئ أقوى.

نعم إن احترام القرآن واجب قطعًا، وإهانته من كبائر المحظورات، بل من

الكفر الصريح إذا كانت عن عمد. ولكن حمل المحدث له ينافي الاحترام، ولا يستلزم

الإهانة، فرب محدث يحمل القرآن وهو له أشد احترامًا، ورب متوضئ يحمله وهو

مقصر في احترامه.

_________

ص: 439

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجنة والنار

(س38) من محمد أمين أفندي فوزي صاحب جريدة العجائب بمصر.

حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة المنار الغراء.

تحيات وتسليمات، وأرجو الجواب على السؤال الآتي تحت إمضائي.

هل الجنة والنار حقيقيتان؟ وإن كانتا كذلك فأين مقرهما؟ أفيدونا

ولحضرتكم الثواب.

(ج) إذا أردتم بالسؤال كونهما ثابتتين أم لا، فالجواب أنهما ثابتتان قطعًا،

وما أراكم تريدون هذا، وقد قرأتم الآيات الصريحة في ذلك.

وإن أردتم هل مدلولهما على معناهما حقيقي كما يفهم من اللفظ أم لا؟

- وهو ما يغلب على الظن - فالجواب أنه ليس المراد منهما ما يفهمه العربي من

اللفظ، بل لكل منهما حقيقة شرعية أخرى، يؤخذ وصفها من مجموع ما

ورد فيها من النصوص، ويقال بالإجمال: إن الجنة دار الجزاء الحسن على

الإيمان الصحيح والأعمال الصالحة، لا بستان كبساتين الدنيا، والنار دار الجزاء

على الكفر والأعمال السيئة، لا مجرد ما نسميه نارًا. أما مقرهما فهو في غير هذا

العالم؛ أي: في عالم الغيب، فلا فائدة في البحث عنه، فنحن نؤمن بهما إيمانًا غيبيًّا؛ اتباعًا لما جاء به الرسول عن الله تعالى، لا نزيد على ذلك ولا ننقص

منه، ولا نُشَبِّه عالم الغيب بعالم الشهادة، بل نفوِّض ذلك إلى الله تعالى.

_________

ص: 442

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌القسم برب موسى وعيسى وإبراهيم

وأبجد وهوز

إلخ

(س 39 و40) من عبد الحافظ أفندي علي (بشربين) .

سيدي العلامة المفضال منشئ مجلة المنار الغراء.

بعد الاحترام:

سُئِلت مرة، وسألت علماءنا مرارًا عن اليمين المتداول بين الناس وهو:

(والله العظيم رب عيسى وموسى وإبراهيم) ؛ ظنًّا مني أنه لا بد من حكمة يُعْرف

العالم العامل، ولكني من الأسف لم أهتد على الجواب الشافي الكافي، وسألت أيضًا

العلماء والأوداء عن معنى: (أبجد هوز حطي

إلخ) ، فلم أقف على الحقيقة.

(فنرجوكم إجابتنا في العدد الآتي، ولكم الشكر وأمضيه باحترام) .

(ج) أما القسم المذكور فلا أعرف له حكمة، ولا أرى البحث عنه أمرًا ذا

بال، ويسبق إلى الذهن أنه جرى على لسان بعض محبي السجع، فاستحسنه الناس

وسمعت بعض العامة يحذف منه اسم عيسى، فخطر لي أنه ربما كان من أقسام

اليهود وسرى منهم إلى المسلمين.

وأما أبجد هوز

إلخ، فهي كلمات ضبطوا بها حروف المعجم، ولهم فيها

روايات، جَمَعَ المشهور منها الشيخ حسين والي في كتاب الإملاء. قال:

(هذا وكان تعليم الحروف في أول الأمر على ترتيب: أبجد هوز حطي

كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ) . قال في القاموس: وأبجد إلى قرشت وكلمن

رئيسهم ملوك مدين، ووضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم، هلكوا

يوم الظُّلة، فقالت ابنة كلمن

كلمن هدم ركني

هلكه وسط المحله

سيد القوم أتاه الـ

حتف نارًا وسط ظله

جُعِلت نارًا عليهم

دارهم كالمضمحله

ثم وجدوا بعدهم ثخذ ضظغ فسموها الروادف. اهـ فهم قوم شعيب - صلى

الله عليه وسلم - ويوافقه ما في الخطط المقريزية.

ورُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعروة بن الزبير أنهما قالا:

(أول من وضع الكتاب العربي قوم من الأوائل نزلوا في عدنان بن أدين

أول أسمائهم - أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت - فوضع الكتاب العربي على

أسمائهم، ووجدوا حروفًا ستة ليست من أسمائهم؛ وهي ثخذ ضظغ فسموها

الروادف اهـ.

أما الفقهاء فقد قال منهم محمد: سمعت بعض أهل العلم يقول: إنها أسماء ولد

سابور مَلِك فارس أمر من كان في طاعته من العرب أن يكتبوها، قال: فلا أرى

لأحد أن يكتبها؛ فإنها حرام اهـ. وقال سحنون: سمعت حفص بن غَياث يُحَدِّث

أن أبا جاد أسماء شياطين) اهـ. وبنى على ذلك كراهة تعليمها الصبيان.

انتهى المراد من كتاب الإملاء.

_________

ص: 443

الكاتب: رضاء الدين بن فخر الدين

‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

تتمة رسالة الشيخ رضاء الدين

الكلام على المادة الثامنة

نحن نعبر هنا عما أتى في هذه المادة (بالخصومات العائلية) توخيًا للسهولة.

وفي الواقع أن هذا الخصومات لا تعدو البيوت (العائلات) في الغالب، وهي

تفارق الخصومات الأخرى بوجوه عديدة. لاجتهاد المجتهد دخل كبير في سائر

الخصومات، وكثيرًا ما يعول القاضي في فصلها عليه. وأما الخصومات العائلية:

فمعظمها - إن لم نقل كلها - يرجع في فصلها إلى الكتاب والسنة فقط. وتقسيم التركة

مثلاً لا حاجة فيه إلى الاجتهاد بالمرة، وإنما العمدة فيه الكتاب والسنة. أو نقول: إن

الحاجة فيه الى الاجتهاد شاذة نادرة.

ليست محاولة الحكومة الروسية أخذ فصل الخصومات العائلية من أيدي قضاة

المسلمين وتسليمها إلى المحاكم المدنية أمرًا حديثًا. بل يظهر من مطالعة كتاب

(رحلة تركستان) لرجل يقال له: (شيللر) أن الحكومة همت بهذا الأمر قبل اليوم

بثلاثين سنة، غير أنه قد عرض حينئذ في سبيل إتمامه عوائق، اضطرتها إلى

إرجائه إلى يوم يواتيها.

لا أرى وسيلة معقولة تتوسل بها الحكومة إلى سلب قضاة المسلمين حق فصل

(الخصومات العائلية) سوى زيادة هضم حقوق المسلمات، وعدم اقتدار علماء

المسلمين على تلافي هذا الخلل في الحكم والقضاء.

إذا فاجأتنا الحكومة قائلة: أيها المسلمون، قد عم وطم بينكم ظلم النساء

والإجحاف بحقوقهن، وقضاتكم لا يفكرون في إصلاح هذا الخلل، والخطب يتفاقم

يومًا فيومًا، أفيجدينا نفعًا أن نجاوبها قائلين: نحن برءاء مما تتهمينا به؟ أو أن

نقول: ليبق الأمر بأيدينا، ولو كانت الحال كما تقولين: كلا.

إن رجال الحكومة لا تخفى عليهم خافية من شؤوننا؛ لأنهم يراقبوننا بقلوب

متيقظة وعيون ساهرة، وإن كنا نخالهم غافلين عنها. نعم، إن العرائض التي تُرفَع

إلى المقامات العالية من قبل المسلمات قليلة بالنسبة إلى عدد النفوس. غير أن قلتها

لا تصلح أن تكون دليلاً على قلة وقوع الظلم عليهن؛ لأن المسلمات في هذه البلاد

متحجبات، لا يمكنهن التظلُّم والتشكي من حالهن بأنفسهن. وفريق منهن يزجين

الأيام في العذاب الأليم والشقاء الدائم متسليات بإحالة الأمور إلى القضاء والقدر.

فإبقاؤهن على هذه الحالة التعيسة جدير بأن يعد ضربًا من الظلم، وعدم

الاكتراث بشأن هؤلاء المسكينات. مطالبتنا الحكومة بما في هذه المادة، كما هو

تشبه قولنا لها: لا يهمنا أمر المسلمات وإنصافهن، وإنما يهمنا بقاء الأمر بأيدينا،

ولا أظن الحكومة تقنع لنا بمثل هذه المطالبة العارية من كل حجة وبرهان.

لا يقلُّ الظلم والحيف، ولا يكون الناس آمنين من قبل حكامهم، إلا إذا كان

القضاة الشرعيون يراعون مقاصد الشريعة العادلة، وكانت القوانين التي يعول عليها

في الحكم وطيدة الأركان ثابتة البنيان، وفصلت الدعاوي بالعدل وتحري منهج

الإنصاف.

إذا كانت القوانين ملائمة لمعاملات الناس وحالاتهم الاجتماعية، فلا جرم أنهم

يعيشون سعداء من هذه الجهة. وأما إذا كانت على العكس، فلا تزيد أمورهم إلا

ارتباكًا واختلالاً.

لا بد في وضع علم الحقوق من ملاحظة عادات الناس وطرق معاملاتهم، سواء

كان مبنيًّا على أساس الوضع الإلهي، أو على أساس العقول السليمة والآراء

الصائبة.

وغني عن البيان أن عادات الناس وأساليب معاملاتهم تتغير على اختلاف

الأعصار، وتحول الدول.

وهذا التغير الدائم يقضي بتبدل بعض قوانين الأزمنة الغابرة في الأزمنة

الحاضرة، وبتبدل بعض قوانين الأزمنة الحاضرة في الأيام الآتية. ومن هنا نرى

الدول الأوربية تجدد وتحور قوانينها في كل ربع عصر على الأقل. هذا أمر لا

مندوحة عنه في سير المجتمع البشري.

لا يخفى على المشتغلين بالعلم أن المتون المعول عليها في علم الحقوق

الإسلامية أو في الفقه الإسلامي؛ وضعت قبل اليوم بسبعة أو ثمانية قرون في بغداد

والري والشاش (المسمى اليوم طاشكند) وسمرقند ومرغينان ومرو وما إليها من

المدن المعمورة في سالف الأزمان. ولا شك أن مؤلفي تلك الكتب راعوا في وضعها:

عادات تلك العصور، ومناهج معايش أهل تلك البلاد. وبما أننا اليوم نعيش في

عصور غير عصورهم وفي بلاد غير بلادهم، نجد طائفة من القواعد الفقهية

المذكورة في تلك الكتب، يستحيل العمل بها في هذه الأيام في بلادنا؛ ولذلك نرى

القضاة الشرعيين فينا يلجؤون حينًا بعد حين إلى الحكم الجزافي. والحكم الجزافي -

وإن كان عظيمًا عند الله - لا تبدو مضاره الدنيوية في مرة أو مرتين. ولكنه إذا تكرر

عدة مرات، صار قاعدة مطردة في الحكم حتى إن الحكم بخلافه يوقع الحكومة

في ريبة، ويضعف ثقتها بقضائنا وقضاتنا. وما ينشأ عن هذا من المفاسد لا يعلمه إلا

أهل البصر من القضاة والحكام.

وبالجملة: إن كثيرًا من القواعد المذكورة في الكتب الفقهية، لا يمكن الأخذ

بها في الأزمنة الحاضرة. وإن كثيرًا من الأشياء التي ظهرت في هذه الأيام لا ذكر

لها، ولا إشارة إليها في تلك الكتب. فلهذه الأسباب نرى القضاء الشرعي فينا

يتقلص ظلُّه يومًا فيوما، ولا يرتابنَّ أحد في شيوع الظلم وضياع الحقوق، إذا لم

يكن القضاء مبنيًّا على أصول تكفل العدل، وإيتاء كل ذي حق حقه.

ولذلك يصعب جدًّا أنْ نرد على الحكومة توجيهها إلينا ظلم النساء والإجحاف

بحقوقهن، بتطبيق الأمر على الواقع، وإن كان الرد عليها بالدلائل النظرية

والقواعد المنطقية سهلاً ميسورًا.

ومن هنا أقول: لا ينبغي لنا أن نطالب الحكومة بما أتى في هذه المادة بصورة

مبهمة مجملة، بل يجب علينا أن نقرن بها بعض الدلائل، قائلين مثلاً نحن لا

نرغب في بقاء فصل الخصومات العائلية بأيدي قضاتنا؛ لكون هذا الأمر عادة

معروفة فينا منذ عهد قديم فقط، بل نطلبه لكونه أمرًا دينيًّا بحتًا أيضًا؛ لأن حكم

القضاة غير المسلمين في مثل هذه الخصومات لا أثر له في نظر الشريعة الإسلامية

بل تحوير الفقه الإسلامي وجعله صالحًا للحكم به في هذا الزمان راجعان إلى

علماء المسلمين أنفسهم.

وفي وسع الحكومة أن تؤلف لجنة من علماء المسلمين الكبار، وتنوط بها

وضع كتاب فقهي في الدعاوي العائلية وأبواب القضاء، والشهادات والدعوى

والبينات، وما شاكلها من المباحث حتى يتخذه القضاة الشرعيون (دستورًا) ؛ للعمل

في القضاء، وفصل الخصومات:

ويمكن تلخيص كلامنا على هذه المادة في المباحث الآتية:

(1)

كتبنا الفقهية لا تكفي اليوم لفصل الخصومات العائلية.

(2)

بعض القواعد الفقهية لا يمكننا الجري عليها فى هذه الايام.

(3)

القواعد الفقهية يجوز تغييرها بحسب اقتضاء الأزمنة والمصالح

العامة.

(4)

فصل الدعاوي العائلية من الأمور الدينية.

(5)

يجب وضع كتاب فقهي يكون عمدة للقضاة الشرعيين في قضائهم.

فنتكلم هنا على هذه المباحث الخمسة مبحثًا مبحثًا ولو باختصار، فنقول:

(المبحث الأول) : لو شئنا لسردنا هنا؛ لإثبات هذا المدعى دلائل كثيرة بيد

أننا لا نحب أن نطيل المقال بإيراد الأمثلة الجزئية المختلفة. غني عن البيان أن

كتبنا الفقهية أُلِّفت في زمان لم تكن فيه البوسطة (البريد المنتظم الحاضر)

والتلغراف والتليفون، وما إليها من المخترعات الحديثة.

وكذلك لم يكن فيه دفاتر للمواليد والوفيات المنتظمة كاليوم، ولا محكمة

الإشهاد التي تعرف في روسيا (بالناتاريوس) ، ولا شهادة المحاكم والأطباء، ولا

النفي إلى سيبيريا مؤبدًا أو مؤقتًا بمدة مديدة، ولا الحكم بالانخراط في سلك المحكوم

عليهم بالأشغال الشاقة، وما شاكلها من النظامات المستحدثة في الدول المتمدنة اليوم.

مع أن لهذه المذكورات دخلاً كبيرًا اليوم في معاملاتنا ودعاوينا، وفصل الخصومات

وإعلان الأحكام.

ولا يتسنى تطبيق أحكام تلك النظامات الحديثة على ما في الكتب الفقهية إلا

لأفراد قلائل من نوابغ العلماء. والكتب التي لا تصلح أن تكون عمدة لكل قاض

جديرة بأن يقال فيها: إنها لا تكفي لحاجة العصر الحاضر.

يكلف رجل مقيم في إحدى مدن سيبيريا امرأته الساكنة في أحد بلدان روسيا

المتوسطة بواسطة التلغراف بعد إشهاد محكمة (الناتاريوس) على هذا الكلاف. أو

يبعث رجل في مدينة موسكو بكتاب إلى زوجه في سيبيريا يخبرها فيه بطلاقها بعد

أن حول النقود التي تصرفها المرأة لنفقة العدة على إحدى البنوكة. ففي مثل هذه

النوازل يحار قضاتنا الشرعيون المتوسطون، فلا يكادون يستخرجون فيها حكمًا ما

من كتب فقهية تنوء ببعير. وأما كبار القضاة - وإن لم تملكهم الحيرة بالمرة - فلا

يعدو فكرهم مباحث (كتاب القاضي) ومبحث (جواز العمل بالخط وعدم جوازه) .

ولا يخفى على البصير أن فصل تلك القضايا بأمثال هذه المباحث أصعب من

خرط القتاد. فتضطر أولئك النساء إلى تزجية الأيام، كالمعلقات شاكيات القضاء

والقدرإلى آخر حياتهن.

(المبحث الثاني) : يقع أحيانًا أن جزأ من دعوى واحدة ينظر في مقاطعة

(ياكوتسكي) في أقاصي سيبيريا، وجزأً آخر في بلدة (بلاباي) (في أواسط

روسيا) . تلجأ قضاتنا اليوم عند النظر في أمثال هذه الدعاوي إلى ما في فصول

(كتاب القاضي إلى القاضي) من الأحكام. مع أن أوجه الأقوال في هذه الفصول

(وهو قول أبي يوسف) لا يمكن تطبيقه على ما يجري في هذه البلاد.

هذه المرأة الساكنة في بلاباي مثلاً تقضي ثلاثين أو أربعين عامًا من حياتها،

وهي تندب حظها. مع أن زوجها لا يزال في قيد الحياة وليس من المفقودين أيضًا،

ولا يتسنى لها الاجتماع معه ولو مرة في عمرها. يا ليت مثل هذه المرأة كانت

واحدة أو عشرًا فقط. بيد أنهن لسوء الحظ يعددن بمئات في جميع أنحاء البلاد

(الروسية) التي يسكنها المسلمون.

لا يذهبنَّ أحد إلى أني أطعن بكلامي السابق على الكتب الفقهية، وأحط من

قدر مسائل (كتاب القاضي إلى القاضي) ، فإن العمل بما في تلك الفصول كان

موافقًا غاية الموافقة للعصور الأولى المخدجة في كل أسباب العمران وشؤون التمدن.

وأما اليوم قد انقلبت الأمور ظهرًا لبطن، حتى لو رجع الإمام أبو حنيفة لنحى

الكتب الفقهية التي ألفها تلميذه الإمام محمد عن مستقرها الذي أقرتها فيه متفقهة

الأزمة المتأخرة، ووضع فقهًا جديدًا يلائم روح هذا الزمان لا محالة.

لا يحسن بنا البتة أن نحاول تطبيق الحوادث، وجميع شؤون الناس المتجددة

على القواعد المحصورة بين جلود الكتب الفقهية، بل يجب على كل بصير أن يبذل

غاية جهده في تطبيق تلك القواعد على الحوادث والعادات.

رأينا كثيرًا من الجامدين على الكتب الفقهية، كانوا يأبون كل الإباء تصديق خبر

رؤية الهلال الذي يرد إليهم ممن يعرفونه في البريد؛ إذ يجدونه غير مستوف للقيود

المذكور في باب (كتاب القاضي إلى القاضي) المذكور في كتب الفقه المتداولة.

مع أن هؤلاء لم يكونوا يرتابون أدنى ارتياب في كونهم هم أئمة المساجد

أصحاب المنشورات حين يتلقون منشوراتهم التي كانت ترسل إليهم من مراكز

الولايات بمئات من الوسائط - من يد مستخدم روسي في المركز (بمعناه المعروف

بمصر) .

يقضي قضاتنا اليوم في المرأة التي يعجز زوجها عن الإنفاق عليها باستدانتها

على زوجها، ولا يجوِّزون الفرقة بهذا السبب أبدًا.

كان هذا الحكم موافقًا في العصور الاولى (وربما يكون موافقًا في هذا العصر

أيضًا) لمعيشة من يسكنون الكوفة وبغداد، وأمثالهما من البلاد الحارة.

وأما بلادنا التي يحكم فيها البرد الشتوي الزمهريري عدة شهور، فمن المحال

العمل فيها بهذا الحكم؛ لأن المبلغ الذي يكفي في تلك البلاد الحارة لتعيش عشر

نساء، لا يكفي في بلادنا لتعيش نصف امرأة.

ليت شعري: ماذا تجني المرأة من وراء هذا الحكم الذي لا أثر له في الواقع.

لماذا لا يحكم باستدانة زوجها؟ وإذا لم يجد الرجل من يقرضه، فمن أين تجده

المرأة المستضعفة؟ أتظنون المرأة تنصرف من عند القاضي مبتهجة بتحسن حالها

عندما يقول لها: حكمنا لك بأن تستديني على زوجك؟ أي فرق بين حكم يمكن تنفيذه،

وبين حكم لا يترتب عليه أثر ما في الواقع؟

يشير علماؤنا في مسألة العنة المعضلة إلى العمل بأقوال النساء، هذه المسألة

قد طالما اعترف نطس الأطباء بعجزهم عن إدراك حقيقتها في هذا العصر الذي

ارتقى فيه علم الطب والتشريح ارتقاءً رائعًا (راجع كتاب حياتنا التناسلية) ، فكيف

يجوز لنا في مثل هذه المسألة الطبية المعضلة أن نعول على أقوال نسائنا

الجاهلات اللواتي لا يعرفن شيئًا سوى الثرثرة بالسفاسف والتباهي بالثياب

والرياش؟

طلبت ذات مرة امرأة الفرقة من زوجها في المحكمة الشرعية (باوفا - روسيا)

مدعية عنته، فحكمت المحكمة بالتأجيل المعروف في كتب الفقه. ثم ظهرت

مسألة أخرى وهي: هل الزوجان يقضيان الأجل المضروب معًا، أو يقضيانه كيفما

يشاءان؟

المرأة رضيت مساكنة زوجها إلى انتهاء الأجل غير أنها اشترطت الإقامة في

غير منزل حميها. وأتت بعدة موانع تمنعها من الإقامة فيه. وأما الرجل فهو رد على

المرأة دعواها قائلاً: إنه لا يمكنه مفارقة منزل أبيه؛ لأنه يقوم بحاجاته، وهما

مشتركان في مهنة واحدة. ولما أبطأت المحكمة في فصل هذه الدعوى فصلاً نهائيًّا،

رفعت المرأة إلى نظارة الداخلية عريضة شديدة اللهجة، تشكو فيها إبطاء المحكمة

الشرعية في حل القضية. فأخذت المحكمة تشتغل من جهة بالجواب عن استعلام تلك

النظارة. ومن جهة أخرى كتب إلى (القسم الطبي)(باصطلاح الحكومة هنالك)

كي يعمل الكشف الطبي للرجل والمرأة جميعًا. فعمل لهما الكشف الطبي عند شاهد من قبل المحكمة الشرعية إلى أن كتب القسم المذكور في شهادته سلامة

الرجل من العنة، وعدم تيقنه بشيء في أمر المرأة. أمثال هذه القضية تقع

في كل زمان.

ومن لنا بدلائل فقهية من مختصر القدوري والهداية، بل الجامع الصغير

يفصِّل أمثاله هذه الدعاوى فصلاً مرضيًا؟ ولا أظن أن هذا يتيسر لكل قاض من

قضاتنا الشرعيين. فتبين لنا مما سبق بالإجمال؛ أن كثيرًا من القواعد الفقهية

لا يمكن الجري عليها في هذا الزمان.

(المبحث الثالث) : لا يستلزم تغيير بعض ما في الكتب الفقهية بحسب

اقتضاء الزمان والمكان، وتبديل قواعدها البالية بقواعد كافلة لمصالح الناس في

عصورهم التي يعيشون فيها - تغيير أصول الشريعة الإسلامية العامة وتحريفها.

الفقه الإسلامي عبارة عن ركنين: ركن يتألف من أصول الشريعة المعروفة

عند أهل كل المذاهب المتبعة. وركن آخر عبارة عن القوانين الإسلامية المؤلفة من

آراء رجال معروفين وغير معروفين في أزمنة مختلفة.

القوانين الإسلامية لا فرق بينها وبين قوانين الروم القديمة، أو قوانين فرنسا

وأمريكا مثلاً في كون كل منها موضوعة بآراء الرجال. كل الآراء التي ارتآها

الفقهاء المتقدمون؛ لما اقتضت معاملات الناس وعاداتهم في زمانهم، واتبعوها بقولهم

(هذا هوالأوفق لهذا الزمان) ، أو (هذا هو الأرفق بالناس) ، أو (العقل السليم

يقضي بهذا) ، أو (عموم البلوى تجيز العمل بهذه القاعدة) ، وما إليها من أقوالهم.

كل هذه عبارة عن القانون الإسلامي الوضعي والسلام.

ولا بأس أن نشفع كلامنا هذا بمثال: كون نصيب البنت الواحدة من التركة

نصفًا حكم شرعي لا هوادة فيه؛ لأنه ثابت بالكتاب. أما قاعدة مراجعة النساء في

مسألة العنين، فهو قانون إسلامي؛ لكونه رأيًا بحتًا من آراء الفقهاء.

(لا أظن أن مسألة العنين وقعت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

بجميع فروعها؛ لأن العلامة ابن القيم مع التزامه جمع كل الوقائع التي وقعت،

والأحكام التي صدرت مما يتعلق بالإسلام في ذلك الزمان، لا يذكر شيئًا من ذلك

القبيل كتابه (زاد المعاد) المعروف، بل مسألة التأجيل نفسها يروي الكمال في فتح

القدير كونها منقولة عن الخليفة الثاني والرابع فقط. وأما قاعدة العمل في هذه المسألة

بفتاوى النساء، فلم نعثر إلى الآن على مبتكرها مع طول بحثنا وتنقيبنا عنه في الكتب

الفقهية.

هذا في العنين. وأما الوسائل التي يذكرها الفقهاء للتوسل بها إلى معرفة

البكارة، فحدث عن غرابتها ولا حرج.

الحكم الشرعي الثابت بالكتاب مثلاً لا يجوز تغييره بوجه من الوجوه إلا في

الضرورة الملجئة. وأما القانون الإسلامي فلا أرى باسًا في تغييره وتطبيقه على

مصالح كل زمان ومكان؛ لأنه مهما تغير شكله وتبدلت صورته، لا يخرج عن

كونه قانونًا إسلاميًّا.

(المبحث الرابع) : كما أنه يجب أن تكون أصول الأحكام التي يبنى عليها

فصل الدعاوي العائلية أحد الأصول الشرعية المعروفة (لا يضر حكمنا هذا، ما في

تلك الأحكام من القوانين الإسلامية؛ لأن أحكام الآراء، إنما هي في فروع الأحكام

دون جوهرها، على أن القوانين الإسلامية نفسها لا مندوحة عن كون واضعيها

مسلمين) . فكذلك يجب أن يكون القضاة الذين يقضون بها قضاة شرعيين.

والقاضي الشرعي لكونه نائبًا في القضاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد

من كونه مسلمًا، ومن أجل هذا تجد خلفاء العباسيين لم يوسدوا القضاء إلى غير

المسلمين، حين وسدوا إلى علماء اليهود والنصارى والصابئين والمجوس أكبر

الوظائف غير القضاء.

كما أن نكاح المسيحيين لا يعد شرعيًّا إلا إذا باشر عقده أحد الروحانيين منهم.

فكذلك فصل الدعاوي العائلية في المسلمين، لا يعد شرعيًّا إذا جرى على يد قاض

غير مسلم، مهما كان بارعًا في الفقه الإسلامي؛ لأن القضاء في الدعاوي العائلية

وظيفة دينية بحتة، كالإمامة في الصلاة سواء بسواء. فنعلم من هذا أن قضاء

القاضي المسلم بالقوانين الوضعية في الدعاوي العائلية ليس بشيء في نظر الشرع،

فكيف بقضاء القاضي غير المسلم بتلك القوانين؟

ثم إن المذاهب المشهورة تشترط كون القاضي مجتهدًا. قضاء القاضي غير

المجتهد وإن كان ينفذ في مذهب الحنفية، غير أن لنا شبهة قوية في كون هذا القول

قول أبي حنيفة نفسه. على أنهم لا يجيزون قضاء القاضي المقلد إلا إذا كان مستندًا

إلى فتوى المفتي المجتهد. فلا يبقى كبير فرق بين المذهبين؛ لأن الأول يقضي

بكون القاضي مجتهدًا مباشرة. والثاني يقتضي كونه مجتهدًا بالواسطة. وعلى كل

حال لابد في فصل الدعاوي العائلية من قاض مجتهد أو مفت مجتهد. ولا يجوز

إفتاء غير المجتهد في المذهب الراجح. واشتراط الإسلام للاجتهاد أمر لا خلاف فيه

بين المسلمين.

أوجزنا الكلام بهذا الشأن إيجازًا، ولم نكتب ما كتبنا إلا بظن أنه قد يكون

عونًا على إبقاء فصل الدعاوي المذكورة بأيدي علمائنا. إذا نحن أنكرنا كون أئمة

مساجدنا قضاة شرعيين، وذهبنا مع ذلك إلى انقضاء عصر الاجتهاد وانسداد بابه،

كنا كمن نفض يده من النظر في تلك الدعاوي باختياره وسلمها إلى المحاكم المدنية

برضاه.

فمن العبث إذًا أن نتفاوض فيما بيننا في إبقائها على حالتها الأولى.

قال العلماء المحققون بجواز تخصيص القضاء ببعض الأحكام، وكذلك قالوا

بوجوب اتخاذ ثلاثة نفر من المسلمين القاطنين في موطن واحد منهم قاضيًا لهم.

صرحت الحكومة في قوانينها المتعلقة بأئمة المساجد: بأن في وسع الأئمة أن

يفصلوا القضايا العائلية الحادثة في أحيائهم بمقتضى شريعتهم، وأن يعلنوا الحكم

للمتخاصمين. وليس إليهم فصل الدعاوي المالية، فما الذي يمنع أن يكون هؤلاء

قضاة شرعيين؟ لا يمنعهم من ذلك كونهم منصوبين من قبل حكومة غير إسلامية؛

لأن القضاء يجوز تقلده من أية حكومة كانت.

ولا يعقل أن يكون المانع هو عدم تلقبهم بالقضاة. لأن القضاء لا يُشتَرط فيه

هذا اللقب (القاضي) . ولا إخال أَنَّ أحدًا يُنَازِعُنَا في ذلك، فما المانع إذًا؟ إن

الحكومة مكَّنت أئمة المساجد عندنا من النظر في دعاوي النكاح والطلاق وأمثالها

تمكينًا تامًا، حتى إنها تؤاخذهم مؤاخذة عنيفة؛ إذا هم قصروا في ذلك، كما أنها

تؤاخذهم إذا تخلفوا عن الإمامة في صلاة الجمعة بلا عذر شرعي. (ارجع إلى

القوانين المتعلقة بذلك) .

ليست المنشورات التي تعطيها المحكمة الشرعية لأئمة المساجد هي التي تثبت

لهم وظيفة القضاء؛ لأن نصب الأئمة والقضاء ليس إلى المحكمة الشرعية في هذه

البلاد. وإذا نظرتم إلى مواد القانون التي تذكر في منشورات الأئمة، ظهر لكم هذا

ظهورًا بينًا. فبما قلنا يتبين سقوط قول القائل: لا تكون أئمة المساجد قضاة

شرعيين إلا إذا نصبتهم المحكمة الشرعية.

ولا يجوز لنا أن نتخاذل في الأمور التي تناط بها حياة الأمة وبقاؤها، بل

يتحتم علينا أن نجيل قداح التشاور بعد أن نزعنا من قلوبنا كل غرض شخصي

وسخيمة كامنة.

إذا كان في ادعاء كون أئمة المساجد عندنا قضاة شرعيين شيء يصادم

الشريعة، أو يضر بمستقبل الأمة، فأنا لا يصعب علي العدول عن هذا الرأي في

كل حين.

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

(المبحث الخامس) : مسلمو روسيا في حاجة شديدة إلى كتاب في علم

الحقوق الإسلامية (أو الفقه الإسلامي) ملائم لمقتضيات هذا الزمان يكون

(دستورًا) لقضاتنا الشرعيين في فصل الدعاوي العائلية.

إذا بقيت وظيفة فصل هذه الدعاوي بأيدي علمائنا، كما كان في السابق، تحتم

علينا قبل كل شيء سواء أمرت الحكومة أو سكتت أن نبادر إلى وضع مثل هذا

الكتاب.

وغني عن البيان أن وضع كتاب على هذا النحو، إنما يكون بواسطة لجنة

مؤلفة من أكابر العلماء وأفاضل المدرسين، ثم يحور وينقح ما فيه من الأحكام بحيث

لا يناقض الأصول الشرعية على ممر الأيام. يروى حديث معناه (يأتي على كل

رأس مائة سنة مجددون يجددون الدين) . وإذا صح هذا الحديث فلا مندوحة من أن

يكون في حاجات الأمة ومهماتها. وأهم المهمات للمسلمين، بل للمجتمع الإنساني

بأسره، هو علم الحقوق والفقه، دون الشعر والتاريخ والتصوف؛ لأن الفقه المعزو

إلى الدين إذا لم يكن كافلاً بحفظ حقوق الناس، وصيانة مصالحهم، فقد يكون سببًا

لرغبة الناس عن الدين نفسه. وإذا كانت الأحكام غير ملائمة لمصالح الناس، فلا

جرم تضعف ثقتهم أيضًا بالقضاة الذي يحكمون بها. متى سمعنا الناس يعزون العدل

إلى قضاة، يحكمون بأحكام مشوشة مختلة؟ ومتى سمعنا أمة تراخت روابط المحبة

بينها وبين قضاتها وحكامها، ثم حييت حياة طيبة، وبقيت وطيدة الأركان ثابتة

البنيان؟ إذا كان هذا شأن الفقه مع الأمة الإسلامية فما الذي اضطر بعضهم إلى

حمل حديث التجديد على التصوف؟ هل التصوف ركن من أركان الإسلام، حتى

يعتنى به هذا الاعتناء؟

كيف يوضع هذا الكتاب؟ هذا سؤال سابق لأوانه؛ لأنه لم يحن بعد وقت

المفاوضة في كيفية الوضع، وما علينا الآن إلا أن ننظر في أمور تهمنا في الحالة

الراهنة، ومع هذا وذاك، فلا بأس علينا إذا ألمعنا هنا إلماعًا إلى كيفية الوضع

أيضًا. إذا جاء وقت وضع كتاب على نحو ما ذكرنا وجب علينا أن نضعه

معتمدين على أصول الشريعة مهما أمكن من غير تقيد بمذهب خاص. بل ترجع إلى

كتب المذاهب المعروفة قاطبة؛ فيؤخذ الصالح مما فيها، ويترك غير الصالح.

ولا تضرنا تسمية هذا العمل (تلفيقًا) ؛ لأنه لم يقم إلى الآن دليل ناهض على

حرمة التلفيق وبطلانه.

من ينكر علينا كون المذهب المدعو بمذهب الحنفية ملفقًا من المذاهب الثلاثة

المتخالفة أصولاً وفروعًا. إذا أنكر علينا هذا منكر فليتفضل بدليله.

يقول المحققون: إن الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه أكثر وأشد مما بين الإمام

مالك وبين الإمام أحمد.

لم يوقع الأمة في هذا الافتراق الشنيع، وفي مهاوي الذل والفاقة، والفوضى

والتعصب الجاهلي، إلا فشو التقليد وتكثر المقلدين. يكون اجتماع الكلمة واشتداد

الأواخي بين أفراد الأمة بحسب كثرة المجتهدين والباحثين، وتقلص ظل المقلدين

والجاحدين هذه المذاهب المتبعة نفسها، لم تكن متبعة على عهد المجتهدين أنفسهم،

وإنما صارت متبعة بعدهم بعدة قرون.

وحين كان المجتهدون كثيرين، لم تكن الأمة مصابة بداء الافتراق العضال

الذي فت في عضدها وذهب بمنتها، ولم تنفق إذ ذاك سوق التضليلات والتجهيلات

كما نفقت بعد إغلاق المسلمين في وجوههم أبواب الاجتهاد بأيديهم. العلم نقطة

كثرها الجاهلون. وأستغفر الله إن طغى القلم، أو زلت القدم، والعصمة لله المتعال وما بعد الحق إلا الضلال.

_________

ص: 444

الكاتب: محمد رشيد رضا

الانتقاد على محمد فريد أفندي وجدي

(2)

وصف بعض المحررين في إحدى الجرائد اليومية فريد أفندي وجدي بأنه من

عشاق الانتقاد عليه، وكنا نحن على علم يقيني بأنه يمقت الانتقاد أشد المقت؛ لأنه

من أصحاب الدعوى العريضة والغرور، ولأنه لما طبع كتاب (تطبيق الديانة

الإسلامية على نواميس المدنية) ، وأهداه إلينا تصفحنا بعض صفحاته، فألفينا فيه من

الخطأ في المسائل الدينية والدعوى ما لا يجوز السكوت عليه، وكنا قد عرفنا الرجل

معرفة شخصية وأحسنا الظن به؛ لما حدثنا به عنه بعض محبيه من انقطاعه

للمطالعة والكتابة، فكرهنا أن ننتقد الكتاب بدون استشارته واستئذانه، فكتبنا

إليه - وكان في دمياط - نتلطف في الاستئذان، ونلبسه من حلل الثناء ما يكون به

حسنًا جميلاً، فكتب إلينا راجيًا أن لا ننتقد الكتاب، وقال: إن الانتقاد يصرف

الناس عن المنتقد؛ لأن الأمة لم تتعود ذلك أو ما هذا معناه.

فاكتفينا يومئذ بإطرائه وإطراء كتابه؛ تنشيطًا له. إلا أننا انتقدنا عليه شيئًا

واحدًا؛ وهو دعوى أن أحدًا لم يقم بالبحث عن أسباب ما حل بالمسلمين؛ لما فيه

من هضم المنار [1] .

لما كتب ذلك الكاتب في تلك الجريدة ما كتب، قلنا: لعل الزمان غَيَّر منه

فحبب إليه الانتقاد، أو لعله صار يحسن الظن بالأمة، فلا يخاف أن تصرفها كلمة

نقد عن الشيء الذي تنتقده إذا كان حسنًا في نفسه. فكتبنا في جزء الشهر الماضي ما

كتبنا، ولم يكد ينتشر الجزء، حتى بادر فريد أفندي وجدي إلى كتابة أربع

مقالات في جريدة اللواء؛ تمثل كل كلمة منها للقارئ اضطراب مجموعه العصبي

- وهو عصبي المزاج - وبلوغ الغيظ والغضب والامتعاض منه منتهى ما تبلغ من

أمثاله العصبيين. على أنه يقرر ويكرر في كتاباته ما اقتبسه من المنار أو غيره من

قول الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر.

(يشير إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، بل يصرح بأن هذا أصل من

أصول الإسلام العمرانية التي يفضل بها غيره.

فلماذا عظم عليه الانتقاد عليه وأخذته العزة بالإثم، حتى استفرغ كل هاتيك

الغميزة والإزراء بالمنتقد، والتعظيم والتبجيل لنفسه، وكلاهما منكر عظيم؟

ذكرنا في نبذة الجزء الماضي: أن الأستاذ المرحوم - رحمه الله تعالى - قال

في وصف ما يكتب فريد أفندي وجدي: إنه مقدمات ووعود. وكان يرجى أن تفيده

هذه الموعظة الدُّرية من إمام العصر، وحكيم الشرق ومفخر مصر، فيترك تلك

المقدمات والوعود التي كلها دعاوى وتبجح، ويتكلم في المقاصد من غير أن يدخل

نفسه فيها. ولكنه كان بعد العلم بها أوغل في ذلك منه قبله، وزاد على الوعود

فتوعدنا إذا عدنا للانتقاد عليه بما يأتي:

قال في آخر المقالة الأولى بعد دعوى أن الناس يعهدون منه إلى اليوم دفع

السيئة بالحسنة، ما نصه: (فإن لم يعد الشيخ رشيد رضا إلى صوابه، ويحترم

الأمة التي يعيش بين أظهرها، ويعرف مقامه من العلم والعمل، اضطررنا لتعقب

سقطاته في مجلة الحياة، وشننا عليه غارة لا يقيم بعدها رأسًا، فيأخذ عنا درسًا

ينفعه هو وأمثاله؛ ممن يريدون أن يعيشوا بين ظهراني هذه الأمة باحتقارها،

وتسفيه أحلام قادتها) .

مهلاً يا أخي فريد أفندي، ولا تبطش البطشة الكبرى، فإني معذور بما كتبت؛

لأنه اعتقادي، وأنت تدعي احترام حرية الاعتقاد، حتى إنك تدعي تصحيح

عقائد المارقين من النابتة الجديدة. مهلاً يا أخي، ولا تستعمل قدرتك كلها في

الانتقام، فإنني لا أعتقد أن بيان غلطك - وأنت غير معصوم - إهانة للأمة،

وترك لاحترامها. مهلاً يا أخي، واستعمل الحلم، فإنني ما علمت ولا سمعت بأنك

من قواد الأمة، ولا أعتقد أن انتقاد القائد إذا أخطأ في قيادته يكون احتقارًا للأمة.

بعيشك يا أخي، قلِّد صاحب جريدة اللواء في الفخر والدعوى ومدح النفس،

ولا تقلده في دعوى أن الأمة تبع لك وأنها وراءك، فإن هذا هو الاحتقار لها، لا

بيان خطئك في فهم الشرع، وتعريف الوحي وإنكار نبوة آدم عليه السلام، ولا في

تحريك العصبية الجنسية الجاهلية.

ثم قال في آخر المقالة الرابعة: (وإني قد تسامحت هذه المرة مع الشيخ

رشيد؛ دفاعًا عن مدرسة العلوم العالية، ولو عاد للحط من كرامتي وكرامة

مدرستي، ولم يلتزم جادة المحاسنة في الكلام على القوم الذين يعيش بين أظهرهم،

بدأت له في الدرس الذي وعدته به، وكنت أنا صوت السخط العام عليه، والعاقل

من اختار السلام. والسلام) اهـ.

رفقًا يا أخي فريد أفندي، واجعل الانتقام خاصًّا لا عامًّا، ولا تسلط عليَّ

الأمة التي ترى أنك أنت قائدها، فإنك ربما جربت ذلك فقضيت عليَّ ثم ندمت.

وربما كشفت لك التجربة أنك لست قائدًا للأمة إلا في خيالك ووهمك، وأن مكانة

أخيك أثبت فيها من مكانتك، فبؤت بالخيبة.

الانتقام الخاص الذي أذنت لك فيه؛ هو أن تتبع سقطات المنار وتثبتها في

الحياة، فإني لا أبرئ المنار من السقطات، ولا أدعي العصمة، وأتمنى لو أجد

وقتًا أقرأ فيه مجلدات المنار التسعة أو العشرة؛ لأستخرج منها ما لعلي أهتدي إليه

من السقطات، وأبينها للناس. وإنني في كل سنة أحث العلماء على نقد المنار،

وأنشر كل ما يرد إلي من ذلك، ولا أسخط على الناقد، ولا أهينه، ولا أتكبر عليه،

وإنني أتمنى أن تستعين على نقد المنار بغيرك، فما أراك وحدك أهلاً له؛ لعدم

اطلاعك على العلوم الدينية، وأتمنى أن يكون من تستعين به من غير المحبين لي،

وأنصح لك أن تترك في ذلك مدح نفسك وذم غيرك، وما اعتدته من المقدمات

والوعود، فإنك إن تفعل هذا، أنقل كلامك في انتقاد المنار، وإلا أهملته ولم أحفل

به.

وأما الانتقام العام الذي نهيتك عنه مع علمي بعجزك، فهو تحريك العصبية

الجاهلية عليَّ؛ أعني: عصبية الجنسية؛ لأني لست مصرًّيا.

العصبية الجاهلية والإسلام

لم تكتف يا أخي بالغميزة والإزراء في مقالاتك، حتى قلدت جريدة اللواء في

شر ما جنت به على الإسلام من تحريك عصبية الجاهلية بتفريق المسلمين إلى

جنسيات مناطها الوطنية، فأخذت ترجف بأن الحامل لي على انتقاد كلامك كراهة؛

أن ينجح للمصريين عمل عظيم (كمدرسة العلوم العليا) ولماذا يا ترى أكره أن ينجح

للمصريين عمل عظيم؟ هل أنا على مذهب مصطفى كامل في العصبية الجنسية

الجاهلية التي محاها الإسلام؟ فقام هو يثبتها، وجئت أنت اليوم تؤيده من حيث أيَّدك

في نشر طعنك على أخيك.

ألست قد حاربت هذه النزعة الجاهلية، وبينت فسادها مرارًا كثيرة؟ على

أنني باذل كل حياتي لنصيحة المصريين وخدمتهم، قبل غيرهم من الشعوب

الإسلامية التي هي عندي في مرتبة واحدة من حيث هم مسلمون، لا أُفَضِّلُ سوريًّا

على صيني، ولا تونسيًّا على مصري.

قلت بعد الإرجاف بما ذكر، والتصريح بأنه ربما كان لطف أخلاق المصريين

ومجاملتهم؛ سببًا في جرأتي على الافتيات عليك ما نصه: (لم يكتف هذا الرجل

أن يتحكك في مجلته بملوكنا وأمرائنا، وعلمائنا وكتابنا، ورجال صحافتنا على طريقة

أصحاب الجرائد الساقطة، حتى قام اليوم يفتات على أئمة الدين) .. إلخ.

أقول: لو أنك قلت هذا القول قبل سنتين أو أكثرلأحسنت فيك الظن، وقلت:

لعله لا يدري ماذا جنى هؤلاء الرؤساء على الإسلام والمسلمين، فهو يعتقد أن ما

ننسبه إليهم خطأ يضر.

ولكنك في هذه المدة الأخيرة قلدتني في ذلك، حتى غلوت في ذم هؤلاء الرؤساء

غلوًّا كبيرًا، وحكمت بمروقهم مع معظم الأمة من الإسلام، وخصصت منهم أهل

الأزهر بأشد الطعن لا سيما في مقالاتك التي نُشِرت في المنبر، وادعيت أنه لم يبق

أحد من أصحاب العمائم يرجع إليه في فهم الدين، وإنما انحصر علم الدين في بعض

أصحاب الطرابيش، وإنما تعني طربوشك وحده فإنه يرجح بعدة طرابيش، كما رجح

بالعمائم كلها. فكيف جاز لك هذا الغلو، ولم يجز لي أن أبيِّن الحقائق بالاعتدال؟ لعل

السبب في ذلك؛ أنك ولدت في مصر وإن لم تكن مصري الأصل، وأنا لم أتشرف

بمثل هذا المولد.

إن هذه الأمة أمة واحدة، كما جاء في الكتاب العزيز. فكيف يفرقها فريد

أفندي تبعًا لصاحب جريدة اللواء، ويجعلها أممًا وتلك هي العصبية الجاهلية التي

أزالها الإسلام، وجعل المؤمنين أخوة أينما كانوا ومن أي جنس كانوا. وقد قال

صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على

عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن

مطعم.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من قُتِل تحت راية عمية، ينصر العصبية

ويغضب للعصبية، فقتلته جاهلية) . رواه مسلم والترمذي عن جندب، وفي حديث

البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر - وناهيك بمكانه من الدين -:

(إنك امرؤ فيك جاهلية) . أتدري لماذا قال له ذلك؟ قاله لما عيَّر بلالاً الحبشي بأمه

الحبشية، أتدري ماذا فعل أبو ذر عند ذلك؟ إنه وضع خده على التراب، وآلى أن لا

يرفعه، حتى يطأ عليه بلال. فهل كنت وأنا عربي من سلالة الرسول أبعد عن

مسلمي مصر في الجنس من بلال الحبشي عن أبي ذر؟ فإذا كان صاحب ورقة اللواء

يدعو إلى العصبية الجنسية؛ لأنه سياسي لا يبالي وافق الإسلام في سياسته أم خالفه،

فأنت يا فريد أفندي لست سياسيًّا، بل تتنفج دائمًا بالدعوة إلى الإسلام. فما معنى

إخراجك إياي من هذه الأمة، وتحريض مَنْ فتنتهم جريدة اللواء بالعصبية الجاهلية

عن هدي الإسلام، وإخوة الإيمان عليَّ، وتبغيضي إليهم؛ بإيهامك إياهم أنني أحتقر

المصريين كافةً ولا أحب لهم الخير؛ لأنني لست منهم.

إن أمثال هؤلاء المفتونين لا قيمة لرضاهم ولا لسخطهم، فحسبي أن

المؤمنين الصادقين من المصريين، يروني أخًا لهم وأراهم إخوة لي، وإن زعمت

أنهم قليل؛ لتصريحك بأن أكثر الأمة عوامها، وخواصها ليسوا على الإسلام

الصحيح، فإن هذا القليل عندي خير من كثير أهل العصبية الجاهلية. على أنني

أحب الخير لجميع الناس من كل الشعوب والأجناس، ويعرف لي هذا كثير من

الموافقين والمخالفين.

ظن فريد أفندي وجدي كما يظن صاحب جريدة اللواء أن العصبية الجاهلية

أصبحت سلاحًا قاتلاً في أيديهما، لا يجردانها على (دخيل) إلا ويجدلانه، حتى

لا يرتفع له رأس، ولا تقوم له قائمة (ياللغرور) . وظن فريد أفندي وجدي أنني

لشدة رعبي من هذا السلاح، لم أرد على إبراهيم بك المويلحي إذ تحرش بي من

نحو سنتين ونصف، فكتب في المؤيد يقول: إنني جئت مصر فقيرًا، ثم بعد أن

صرت غنيًّا طعنت على أهلها. ونسي فريد أفندي أو تناسى أن المسألة كانت أكبر

من ذلك، وأن المويلحي لم يكن هو الذي طعن فيَّ وحده، بل انبرى لي يومئذ

المؤيد واللواء والجوائب وجرائد أخرى، ولم أكن أنا المقصود وحدي يومئذ بحملة

هذه الجرائد، ومن كتب فيها، وإنما كان الغرض الأول الذي تسدد سهامها إليه هو

المرحوم الأستاذ الإمام فخر المصريين، وأعظم نابغ في مصر.

وليعلم فريد أفندي أن تلك الغارة الشعواء التي يعجز هو عن عشر معشارها، ما

زادت المنار إلا انتشارًا، ولعله لا يجهل مصدرها العالي، وما أنفق فيها من بدر

الذهب. فاكفف يا أخي غربك، واستوقف سربك، واعلم أن الأمر ليس في يديك،

وأن سهمك ربما عاد عليك، فهذه نصيحتي إليك، ثم إلى سائر المغرورين، الذين

يفرقون بالجنسية جماعة هذا الدين، ولولا هذه النصيحة، لما ذكرت عنك هذه

الفضيحة، فلا يغرنَّك اعتقادك بجهل الأمة التي قلت بمروقها من الدين، وبعدم

استعدادها للحكم النيابي، فتظن أنك تعبث بها كما تشاء لا سيما إذا وازرك اللواء،

فإن الأمة صارت تميز بين النافع والضار أكثر مما تظن ولذلك كانت مجلات أكثر

السوريين تفوق مجلتك انتشارًا، لم يصدها عن ذلك هذيان اللواء بالعصبية الجاهلية؛

لأن العلم لا وطنية فيه، فما بالك بالدين؟ ثم أتكلم في المقصد.

مدرسة العلوم العالية

قال بعض المعتدلين: إن كل ما انتقد به المنارعلى فريد أفندي صواب، ولا

مندوحة عنه إلا تلك الكلمة في تصغير شأن مدرسته، فإنها ليست جوهرية،

ولولاها لم يكن له في الرد على صاحب المنار كلمة تسمع. ومن نظر إلى المسألة

في ذاتها كان له أن يقول ذلك؛ إذ ليست إلا أن امرءًا يكبِّر عمله الصغير؛ ليعظم

في أعين الناس، فيقبل عليه قوم، ويساعده آخرون؛ ولذلك قال بعض الناس، بل

نقلوا عنه: إنه ما ادعى إنشاء مدرسة عالية إسلامية تدرس فيها جميع العلوم العالية

مع تطبيقها على الدين؛ إلا لأجل تحويل أريحية الأغنياء عن الجامعة المصرية إليه

هو؛ لأن مدرسته تحتوي (بحسب دعواه) على جميع العلوم التي تنشأ الجامعة

لأجلها، وتزيد عليها علوم الدين. فإذا حولت إليها التبرعات والأوقاف، كانت

أولى بها وأجدر.

ويقال: إنه تعجب بعد أن مر على كتابة تلك المقالة بشأن المدرسة العليا في

المؤيد واللواء شهران، ولم تنهل عليه الجنيهات، وتكتب لمدرسته الوقفيات،

ولعله هذا هو سبب قوله في الجزء الأخير من مجلته: إن الأمة المصرية غير

مستعدة لأن تحكم نفسها بحكومة نيابية.

مهلاً أيها المعتدلون، لا تعجِّلوا بالاعتراض على هذه الجملة، ولا على أصل

المسألة، حتى أبين لكم المراد منها، وهو ليس بيان الخطأ في تسمية حجرة من

مدرسة ابتدائية مدرسة عالية كما ادعى، فقام يشبه نفسه بفلاسفة اليونان، ومدرسته

بالأماكن التي كانوا يلقون فيها فلسفتهم؛ إذ لو كان هذا هو المراد لاعترفت بالخطأ،

وإن كنت مصيبًا يمكنني أن أقول: إنه يتكلم بعرف هذا العصر، لا بعرف تلك

العصور.

والمدارس العالية في هذا العصر مباني عظيمة فيها كثير من الآلات والآثار،

والتحف المعدنية والنباتية والحيوانية التي يحتاج إليها في تدريس تلك العلوم، ولها

كثير من المدرسين؛ إذ يستحيل أن يتقن العلوم العالية كلها، ويستطيع تدريسها رجل

واحد من المتخرجين في تلك المدارس، بل فريد أفندي وجدي الذي لم يبرع في العلوم

الأولى فيرتقي إلى الوسطى، كما يدل على ذلك سقوطه في امتحان شهادة البكلوريا

التي ينالها الجم الغفير من الأحداث كل سنة.

ليس هذا ما نعني، فإنه من الأمور الجزئية، وإنما نعني أمرًا كليًّا أومأنا إليه

في الجزء الماضي إيماءً ولم نشرحه؛ لأن في الشرح جرحًا، واللبيب تكفيه

الإشارة، وإذا كان لبيبنا لم يكتف بالإشارة، فها نحن أولاء نشرح ذلك.

المسألة ذات بال من جهة فريد أفندي نفسه ومن جهة الأمة. أما من جهته

نفسه؛ فإن ما ادعاه من إنشاء مدرسة عالية، ليس هفوة عارضة لا يترتب عليها

شيء فيغضى عنها، وإنما ذلك شيء صار خُلُقًا له وملكة فيه، وقد أضر به ذلك

الخلق كما أضر بالناس، ونعبر عن هذا الخلق بالتشيع بما لم يعط، الذي قال فيه

الرسول صلى الله عليه وسلم: (المتشيع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) . متفق

من حديث الشيخين.

كتابه كنز

العلوم واللغة

مثال ذلك كتابه (كنز العلوم واللغة) . كتب في بعض الجرائد اليومية أنه

شرع في تأليف دائرة معارف كاملة في مجلد واحد، يجمع فيها خلاصة ما انتهى

إليه البشر في جميع العلوم والمعارف اللغوية والدينية والعربية بجميع فنونها،

والفلكية والطبيعية والكيماوية، والتشريحية والطبية والصحية، والمعدنية والنباتية

والحيوانية، والجغرافية والعمرانية والتاريخية والرياضية

إلخ. وأتذكر أنه وعد

بأن يودعه رسوم (خرط) جميع البلاد والممالك، وصور أشهر الرجال المتقدمين

والمتأخرين.

فهل في استطاعة أحد من البشر أن يؤلف كتابًا كهذا؟ كلا إنه لم يوجد في

البشر من يتقن هذه العلوم كلها إتقانًا يستطيع به تلخيصها في دائرة معارف، وإنما

يؤلف دوائر المعارف في أوربا الجمعيات، لا الأفراد.

ولو فرضنا أن فريد أفندي وجدي أتقن علوم البشر كلها، وإن لم يتلق علوم

الدين ولا طالع جميع علومه، ولم يتلق من علوم الدنيا ما يؤهله لشهادة البكلوريا.

فهل في استطاعته أن يجمعها كلها في مجلد واحد مع الخرط والصور أو بدونها.

أليس إذا قيل: إن هذا من المحال الذي لا تتعلق قدرة الله به، يكون القول معقولاً.

ظهر الكتاب فإذا في مقدمته أنه يحتوي تلك العلوم والفنون كلها. ولكنه لم

يذكر الصور والخرط. ولكنك تراجع أهم مسائل هذه العلوم فلا تجدها بالطبع، وما

عساك تجده منها فكثير الخطأ قليل الفائدة، حتى قال أحد العلماء عندما اطَّلع عليه:

إن هذا الكتاب سيقضي على هذا الرجل، ويذهب بغرور المغترين به. وكان

يسهل عليه أن يغير تلك المقدمة التي يكذبها الكتاب في مجموع مواده، ويعتذر عن

وعوده في الجرائد. وإننا نورد لك بعض الأمثلة على تكذيب الكتاب لها، ثم نبين

وجه تمثيل هذا الكتاب بالمدرسة العالية، ووجه كون الانتقاد عليهما واجب مفيد

لفريد أفندي وللأمة، وليس من المسائل الشخصية أو الجزئية.

جعل فريد أفندي أنواع علوم دائرة معارفه عشرة قال:

(أولاً) العلوم الدينية: كعلم التوحيد مما يجب أن يعلمه كل إنسان في حق

الله - تعالى - وحق الرسل من عقائد أهل السنة. وفي هذا القسم أسماء

الرسل وتواريخهم الصحيحة، وتراجم الصوفية واصطلاحاتهم، وفيه تفصيل

شاف لجميع مذاهب المعتزلة والمتكلمين، وسائر العقائد التي ظهر بها

فلاسفة المسلمين في عصر المدنية العربية. وفيه تنبيه على البدع التي طرأت

على المسلمين، وتوجيه الأفكار للتوقي منها. وفيه كل المسائل الفقهية التي يحتاج

إليها كل مكلف تفصيلاً: كمسائل الطهارة والوضوء والاغتسال، والصلاة والصيام

والحج، وجميع ما يحتاج إليه الإنسان، بحيث يستغني به عن السؤال. ولم

نقتصر على مذهب واحد، بل جئنا فيه بالمذاهب الأربعة؛ ليأخذ منه كل أحد ما

يوافق طريقة إمامه. اهـ هذا النوع.

أقول: إنه جعل العلوم الدينية عدة أنواع، ووعد بما سمعت في كل نوع،

ولم يف به، وكيف يفي به وهو لا يعرفه؟ وإليك الأمثلة:

(1)

أهم مسائل علم التوحيد الإلهية؛ مسألة وحدانية الله - تعالى -

التي جعلت كلمة التوحيد عنوانًا على الإسلام لأجلها، ومسألة صفات الله - تعالى -

التي يثبتها السلف دون المعتزلة ومن على شاكلتهم، وهو لم يبينهما بل لم يذكرهما

في موادهما كما وعد، ومسألة القدر وقد ذكرها، ولم يبين معناها، بل اعترف بالعجز

عن بيانها.

(2)

أهم مسائل علم التوحيد في النبوات مسائل الوحي، وتكليم الله

الأنبياء وعصمة الرسل، والتبليغ والمتشابهات في القرآن، ولم يشرح شيئًا منها.

ولم يذكر أسماء الرسل المذكورين في القرآن الذين ذكروا في كتب العقائد أنه يجب

الإيمان بهم تفصيلاً، حتى إنه ذكر داود، ولم يذكر سليمان عليهما السلام،

والنصارى لا يقولون بنبوته، ولم يبين تواريخهم الصحيحة كما وعد. بل اكتفى

في موسى عليه السلام وهو أكثرهم ذكرًا في القرآن وأوسعهم تاريخًا، بقوله:

(هو رسول كريم أرسله الله إلى بني إسرائيل؛ لإنجائهم من ظلم فرعون مصر أحد

خلفاء منفتاح من ملوك العائلة التاسعة عشر (كذا) المصرية قبل المسيح بنحو ألف

عام) ولم يذكر أنه أرسل إلى فرعون وملإه أيضًا، وإن كان ذلك صريحًا في القرآن.

وفي يعقوب عليه السلام بقوله: (نبي من أنبياء بني إسرائيل هو أبو يوسف عليه

السلام) ولم يذكر أنه رسول. وفي يوسف عليه السلام بقوله: (هو ابن يعقوب

كلاهما من أنبياء بني إسرائيل) ولم يذكر أنه رسول. وفي يونس عليه السلام بقوله:

(هو أحد رسل الله عليهم السلام . أفلا يعلم (ناصر الإسلام) معنى النبي

والرسول؟

(3)

وذكر أن في هذا القسم تراجم الصوفي واصطلاحتهم، ولا ندري

ما معنى ذكر هؤلاء في قسم التوحيد دون قسم التاريخ، وذلك غير صحيح، وإنما

ذكر بعضهم وترك كثيرًا من أشهرهم، ومن ذكرهم لم يترجمهم، وقد راجعنا مادة

الوحدة والوجود، والحال والمقام، والسكر والوجد والشطح، وهي أشهر

اصطلاحتهم فلم نجده قد بين شيئًا منها.

(4)

وقال: (وفيه تفصيل شاف لجميع مذاهب المعتزلة والمتكلمين) ،

وهذا غير صحيح أيضًا، فهو لم يذكر الواصلية ولا العمرية، ولا الهذلية ولا

النظامية، ولا الإسوارية ولا الإسكافية، ولا الجعفرية أصحاب جعفر بن مبشر،

ولا الحائطية ولا المعمرية، ولا الصالحية ولا المردارية ولا الهاشمية، وهؤلاء أكثر

فرق المعتزلة ومن ذكره من غيرهم وهم الأقل، لم يبين مذاهبهم كلهم، مثال ذلك

قوله في البشرية: (فرقة من المعتزلة تنسب لبشر بن المعتمر من أفاضل علماء

المعتزلة) . فهل هذا هو التفصيل الشافي لمذاهبهم كما قال؟ ولك أن تقيس على

هذا زعم الإتيان بمذاهب المتكلمين وفلاسفة المسلمين.

(5)

وقال: (وفي تنبيه على البدع التي طرأت على المسلمين

وتوجيه الأفكار للتوقي منها) . وهذا غير صحيح أيضًا، فإنه ترك الكلام على

البدع وأصلها، وحسبك أنه لم يبين بدعة القدر، وهي أول بدعة ظهرت في

الإسلام. وتليها بدعة الإرجاء، وقد ذكر المرجئة، ولم يوجه الأفكار إلى التوقي

من بدعتهم، كما قال.

(6)

قال: (وفيه المسائل الفقهية التي يحتاج إليها كل مكلف تفصيلاً،

وجميع ما يحتاج إليه الإنسان بحيث يستغني به عن السؤال) . وهذا غير صحيح

أيضًا، ففي كلمة طهارة لم يذكر جميع المطهرات عند جميع أرباب المذاهب. وفي

مادة نجس لم يذكر جميع النجاسات، وما ذكره فيه ما فيه مما لا محل لبيانه هنا. ولم

يبين الوضوء تمام البيان، حتى إنه لم يذكر النية فيه، ولا غسل اليدين إلى

المرفقين، ولم يذكر موجبات الوضوء أو نواقضه، ولا التيمم.

وكذلك الغسل لم يذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف، لم يذكر كيفيته، ولا

وجوب النية وعدمه فيه، ولا أن الاحتلام موجب له. وفي كلامه عن الصلاة لم يبين

الأركان والواجبات عند جميع الأئمة، كالاعتدال من الركوع والطمأنينة فيه فهما

ركنان عند بعضهم. وكذلك الجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه.

فمن ترك شيئًا من ذلك بطلت صلاته، والطمأنينة عند أبي حنيفة واجبة لا

ركن، فمن تركها وجبت عليه إعادة الصلاة في الوقت. وكذلك فعل في الزكاة

والصيام والحج. فإذا كابر في شيء مما قلنا، فإننا نعود ونبين خطأه فيما ذكر،

كما بينا عدم صدقه فيما قال إنه بَيَّنَهُ، وهو لم يبينه.

والنوع الثاني من علوم الكتاب الفنون العربية كلها، وهو فيها أشد تقصيرًا

وخطأ وإخلافًا من العلوم الشرعية. مثال ذلك علم المنطق، راجعنا فيه الكليات

والحد والرسم والقضية، والقياس والشكل والبرهان، والعكس والنقيض، فلم نجد

لشيء من ذلك ذكرًا، فهذه أشهر اصطلاحات المنطق. نعم، قال في مادة

(شرح) : القول الشارح في الاصطلاح المنطقي ما يدل على معنى الاسم في اللغة

أو ذات المسمى في الحقيقة، وهذا خطأ ظاهر، وأَنَّى لمثل فريد أفندي أن يعرف

شيئًا ما من اصطلاحات المنطق الذي يذمه دائمًا، (ومن جهل شيئًا عاداه) .

فهذا نموذج يريك أن المؤلف لم يصدق في معظم ما ادعى أنه أودعه كتابه،

وأنه لم يوفق للصواب في كثير مما ذكره، وقس عليه سائر ما ذكره من العلوم التي

جعلها عشرة أنواع، تحت كل نوع أفراد كثيرة، لا يعرف هو من مجموعها إلا

أسماءها. وسنبين في جزء آخر نموذجًا من خطئه في أشهرها.

قد ارتكب فريد أفندي بهذا الكتاب أنواعًا من المنكرات تزيد على أنواع العلوم

التي ادعاها، نعد منها ما يخطر في البال الآن، ولا نقول: إنه تعمدها، فإن بعض

من يغلب عليهم المزاج العصبي يعتقدون في أنفسهم وفي علمهم ما يباين الحقيقة، كما

يعتقد بعضهم أنه المهدي المنتظر، فهو في الغالب يعتقد أن كتابه حوى جميع تلك

العلوم. ولكن الكتاب في نفسه يمثل هذا المنكرات وهي:

(1)

القول في الدين بغير علم: وهو من أصول الكبائر التي قرنها الله

تعالى بالشرك في: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ

وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا

لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .

(2)

الكذب وناهيك به وبما ورد فيه.

(3، 4) إخلاف الوعود وعدم الوفاء بالعهود والعقود، فهو بما يكتب

في الجرائد من الدعوة إلى الاشتراك، قد عاهد المشتركين على أن يوافيهم بكتاب

فيه كذا وكذا.

(5)

عدم الأمانة في نقل العلم؛ فإنه ينقل المسألة ويتصرف فيها بما

يغير المعنى، وما ورد في هذه الخصال معروف.

(6)

أكل أموال الناس بالباطل، فإن الذين اشتركوا في الكتاب؛

لقراءة تلك المقالة الطويلة ذات الوعود العريضة، لم يشتركوا إلا في كتاب مشتمل

على كذا وكذا من العلوم والمسائل، وكنز العلوم واللغة الذي أرسل إليهم غير

مشتمل على ما ذكر، كما بينا في الأمثلة السابقة، فكان شأن المؤلف معهم شأن

الصانع، يعاقد على عمل شيء موصوف بصفات معينة بثمن معين، فيأتي به غير

واف بها، فهو لا يستحق ذلك المال، فهذا الاشتراك في الكتب والجرائد من قبيل ما

يعرف في الفقه بالاستصناع. وكذلك من يشتري الكتاب بعد تمام طبعه؛

لاطلاعه على مقدمته. فمثل هؤلاء المشتركين والمبتاعين، كمثل من يعرض عليه

رسم دار فيها كذا وكذا من الحجرات والغرفات، والمرافق المتصفة بكذا. وكذا

الصفات كالحسن والاتساع. فيبذل المال، ويأخذ دارًا تخالف ذلك الرسم في عدد ما

فيها وفي صفاته.

وإنني أعتقد أنه إذا تاب فريد أفندي وجدي من هذه المنكرات بعد أن نبهناه

عليها، وكتب إلى من اشتركوا في كتابه إنكم قد اشتركتم في هذا الكتاب؛ لما

وعدتكم به من استيفائه لكذا وكذا من العلوم اللغوية والدينية

إلخ، وقد جاء ناقصًا

معظم ذلك، فكان الاشتراك باطلاً، فمن شاء أن يقبله على علاته فذاك، ومن شاء

أن يرده ويسترد دراهمه فله ذلك، أعتقد أنه إذا فعل هذا فإن الكثيرين أو الأكثرين

يردون له الكتاب. وقد رأينا في جريدتي الظاهر والمقطم كتابة لبعض الفضلاء،

يطلب منه فيها أن يرد له دراهمه، ويسترد كتبه وحياته.

(7، 8) الغش في المعاملة كما علم مما بينا آنفًا، وفي العلم والدين

كما علم مما قبله، وفي الحديث:(من غشنا فليس منا) رواه مسلم وغيره من

أصحاب السنن والمسانيد، وفي رواية للترمذي:(من غش فليس منا) وفي رواية

لأبي داود: (ليس منا من غش) .

(9)

التغرير وهو غير الغش، وقد يجامعه ويترتب عليه مفاسد كثيرة،

فمن صدق المؤلف في زعمه أن هذا الكتاب يحوي كل ما يحتاج إليه في النحو

واللغة

إلخ، وكان عنده كتب في هذه العلوم يستعين بها، فربما باعها واشترى

بثمنها الكتاب، وهو لا يغنيه عن شيء منها، حتى مختار الصحاح أصغر كتاب

في اللغة، وقس على هذا سائر العلوم التي وعد بها.

(10)

التشبع بما لم يعط والدعوى العريضة، وقد عرفت حديث

الصحيحين في ذلك.

مدرسة العلوم العالية

واعلم أن مجموع هذه المخازي التي يمثلها كتاب كنز العلوم واللغة ماثلة في

مدرسة العلوم العالية، وتفارقه في أنه لم يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل،

والجامع بينهما دعوى فريد أفندي أن كلا منهما جامع لكذا وكذا من العلوم التي لا

يعرفها، وربما كان الغش والتغرير بالمدرسة أعظم؛ لما لا يجوز أن يغتر بعض

قراء المؤيد واللواء من أهل الأقطار البعيدة بما كتب فيها فريد أفندي عن هذه المدرسة

الموهومة، فيرسل ولده إلى مصر؛ ليتلقى فيها علوم الدنيا مطبقة على الدين بعد أن

تعلم في المدارس الابتدائية والثانوية، حتى إذا جاءها لم يجدها شيئا، وإنما وجد فريد

أفندي يتبجح بالدعوى ويفيض بالوعود، وإذا ذكر بعض المسائل خبط فيها على

غير هدى، كما خبط في المسائل التي انتقدناها في الجزء الماضي.

أيجوز لنا أن نسكت على هذا كله، ونحن نرى الرجل يجعل عدم الإنكار

عليه حجة على أنه مصيب. بل غره هذا السكوت، فقال في أواخر مقالته الرابعة

في اللواء:

(وإني لأعجب للشيخ رشيد في إثارته أئمة الدين عليَّ، مع أنهم قرروا كنز

العلوم واللغة في الأزهر وملحقاته رسميًّا، وهم على وشك تقرير مؤلفاتي الأخرى) .

والذي يفهم من هذه العبارة أنهم قرروا تدريس هذا الكتاب، وهذا غير

صحيح. وكيف يقررون تدريس كتاب هو عبارة عن أمشاج من فنون قديمة

وحديثة، يكثر فيها الخطأ، وتقل الفائدة، وفيه التشنيع على التقليد، والقول

بالاجتهاد، وبإثبات مذهب الوهابية، والتشنيع على مذهب المتكلمين، وبإنكار

الشفاعة، والخلط في مسائل الشريعة، كما سنبينه في جزء آخر. على أنه ليس

من الكتب التي يدرس مثلها. وقس على هذه الدعوى دعواه؛ أن الدولة التركية

قررت تدريس بعض كتبه في مدارسها.

إنه لم يُقرر تدريس الكتاب، ولا مطالعته في الأزهر ولا في ملحقاته، وإنما

بلغنا أنه اشترى منه بعض نسخ لدار الكتب (الكتبخانة) الأزهرية. فهل يعد هذا

تقريرًا من أئمة الدين لكتابه؟ وهل صار أهل الأزهر اليوم أئمة، ولم تمض سنة

على تلك السهام التي سددها إليهم، حتى جردهم من العلم والدين، وجعلهم أكبر

بلاء على المسلمين؟ ؟ لعلهم إذا اشتروا منه كتابًا آخر، يمنحهم شهادة بأنهم أئمة

في العلوم العمرانية والكونية.. إلخ إلخ، هكذا يكون الإصلاح.

وجملة القول في هذا الجزء أن هذا الرجل ادعى دعوة كبيرة، وجعل

السكوت عليها دليلاً على صحتها وهي غير صحيحة، فنقده يعرِّفه حده، وينبهه

على ما هو غافل عنه من المنكرات في عمله، ويخرج العارفين به من معصية

السكوت على المنكر.

ولسنا في حاجة إلى إيراد ما ورد في الكتاب الإلهي والأحاديث النبوية من:

إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعيد على تركهما، وناهيك بلعن

الله - تعالى- للذين لا يتناهون عن منكر فعلوه.

أجوبته على ما انتقدنا عليه

جعل فريد أفندي وجدي مقالته الأولى مقدمةً في شتمنا، وإطراء نفسه بالمدح

والفخر، وقال في أول الثانية ما نصه:

أتيت أول أمس على مقدمة في موضوع الشغب الذي أثاره على مدرسة العلوم

العالية الشيخ رشيد رضا، وأريد اليوم أن أناقشه في جزئيات هذا الشغب؛ ردعًا

له ولأمثاله عن التطاول إلى ما لا يعنيهم من أمورنا، حتى نفرغ لأداء واجباتنا،

والقيام بأعباء أعمالنا المفروضة علينا لأمتنا وملتنا.

وإني أرجو من وراء مناقشته في جزئيات كلامه أن يعرف مكانه من هذه العلوم

فيثوب إلى صوابه، وينخرط في سلك طلبة هذه المدرسة التي ما أسستها إلا له

ولأمثاله ممن لا يعرفون اللغات الأجنبية، وهم في أشد الحاجة إلى الإلمام بأصول

العلوم الأوربية العالية التي لا كتب لها باللغة العربية.

أقول له (أولاً) : كيف لا يعنيني أموركم لأمتكم وملتكم؟ ألست أنا من أبناء

هذه الأمة ومتبعي هذه الملة؟ إذا كانت أمتك هي المصرية لا الإسلامية، فهل ملتك

يا فريد أفندي هي الملة المصرية القديمة دون الإسلامية، حتى نضيفها إليك وإلى

قومك، إن كان لك قوم يرضون ذلك، وتجعلني ممن لا يعنيهم أمرها؟ ؟

(وثانيا) كيف تقول: إنه لا يوجد كتب عربية في العلوم الأوربية، حتى

كأنك بمعزل عن النهضة العلمية العربية في سوريا ومصر. ألم تعلم أن جميع

العلوم كانت تدرس باللغة العربية في المدرسة الكلية الأمريكانية بيروت، وفي

مدارس أخرى عالية وابتدائية فيها، وفي غيرها، منها مدرسة كفتين بجوار

طرابلس (بندرنا) ، والمدرسة الوطنية الإسلامية في نفس طرابلس، ألم تطلع

على دائرة المعارف العربية وعلى المجلات العلمية، كالمقتطف، ومعظمها مترجم

عن أحسن المجلات والكتب الإفرنجية، وعلى الكتب الكثيرة المترجمة في مصر

وسوريا، ومنها في فلسفة التشريع كتاب بنتام وكتاب مونتسكيو؟ فهل كنت أوسع

علمًا وفهمًا في اللغات الإفرنجية من مؤلفي ومترجمي هذه الكتب والمجلات من

العلماء والدكاترة، وأنت لم تحصِّل من الإلمام باللغة الفرنسية وعلومها ما يرتقي بك

إلى شهادة البكلوريا التي يحملها الألوف من الأحداث في بلاد مصر وسوريا؟ فكيف

ساغ لك أن ترفع نفسك بقولك على جميع هؤلاء العلماء، وأنت تعلم أن أعراب

الأهرام وبحارة الإسكندرية، يعرفون من اللغات الإفرنجية ما لا تعرف، وما كل من

عرف لغة عرف علومها.

إنني ما وجهت إليك هذه التذكرة؛ إلا لأنك أفرطت جدًّا في التبجح بإلمامك

الضعيف باللغة الفرنسية، حتى جعلت نفسك في مرتبة الأستاذ الإمام زاعمًا أنه ما

كانت له تلك المكانة العليا في القلوب إلا باللغة الفرنسية التي تدعي أنك تساويه في

معرفتها، وتجرأت على كتابة ذلك، فلم تكتف بما ينقل عنك من ادعائه باللسان.

يوجد ألوف ممن أتقنوا هذه اللغة إتقانًا لا تطمع بالدنو منه، ولم يخطر على

بال أحد منهم ولا من الناس، أنهم على مقربة من الأستاذ الإمام في الحكمة والعلم،

ولا في المزايا والأعمال، ولم يقل في أحد منهم علماء أوربا كالدكتور براون

الأستاذ المدرس في أعظم مدرسة جامعة في إنكلترا تفوق مدرسة العلوم الوجدية مثل

ما قالوا في الأستاذ الإمام، إذ قال هذا العلامة الإنكليزي: إنه لم ير مثله في الشرق

ولا في الغرب. بل كان للأستاذ الإمام من المكانة في الفلسفة والعلوم، والاستيلاء

على العقول والقلوب قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية، ما يسهل عليك أن تعرف بعضه

من مراجعة تاريخه.

الانتقاد الأول وجوابه

أجاب فريد أفندي عن انتقادنا عليه، جعله المحدثين والفقهاء شارعين بقوله:

(ونحن نرد هذه السفسطة الغريبة بقولنا: إن لفظة المشرع والمتشرع

والشارع: كلمات تطلق اليوم على المشتغلين بالبحث في الشرائع، ولكل جيل

اصطلاحه، واللغة تابعة لأذواق أهلها في كل عصر) .

وهذا الجواب يدل على أنه لا يفهم المسائل الأولية البديهية من فلسفة

التشريع التي تصدر لتدريسها، فإنه لا يقول أحد من أهل العصر بأن الباحث في

الشرائع يسمى شارعًا ومشرعًا، وإنما يطلقون لفظ الشارع والمشترع على واضع

القانون برأيه وعلمه؛ إذ يسمون القانون شريعة، ولو كان كل باحث في الشرائع

شارعًا، لكان جميع التلاميذ في مدرسة الحقوق شارعين. فليسأل فريد أفندي شقيقه

هل يطلق عليه وعلى إخوانه من الطلاب أو المتخرجين لقب الشارع أو المشرع؟

فإذا أجابه بالسلب فليترك تدريس فلسفة التشريع حتى يتعلم بعض اصطلاحاته

الأولية، ولو ممن يجهلون اللغة الفرنسية!!! على أن كلامنا كان في

الاصطلاحات الإسلامية الدينية، وليس لفريد أفندي أن يغيرها؛ تبعا

لعرف العصر، ومن هنا يعلم أنه لا وجه لقياس أحد من الصحابة والفقهاء على

النبي صلى الله عليه وسلم وتسميته شارعًا مثله؛ لأن ما جاء عن النبي

صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف من غيره، وهو مما يجب اتباعه

فيه، وليس لأحد غيره هذه المزية في الإسلام، فسقط الإلزام الذي وجهه إلينا

فريد أفندي؛ إذ قال بعد ما تقدم عنه:

وإذ صح تسمية النبي صلى الله عليه وسلم الشارع مع أنه ليس بواضع الشريعة، بل مفسرها ومبينها فقط، فلم لا يصح تسمية أصحابه متشرعين باعتبار

أنهم مبينوا الشريعة ومفسروها للناس.

فتأمل كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة سواء، ونسي

أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى، على أن بعض العلماء صرحوا

بأن الله - تعالى - أذن له أن يشرع من قبل نفسه، واستدلوا بمثل حديث (إلا

الإذخر) ولا محل هنا لشرح ذلك.

الانتقاد الثاني

لم يستطع فريد أفندي أن يكابر فيما انتقدناه على ما زعمه من تدوين

الشريعة عند اتساع العمران، وكمالها في عهد الشورى، وانحطاطها عندما صارت

الحكومة الإسلامية استبدادية. فزعم أن ما قلناه لا يفهم من كلامه. ولعله لا يفهم هو

من كلامه وكلام الناس ما يفهم الناس، كما تعلم مما يأتي.

الانتقاد الثالث

زعم فريد أفندي أنه لما جاء القرن الثالث استحال أمر المتشرعين

الإسلاميين إلى حفظة أقوال المتقدمين، وبطل الاجتهاد لعدم نبوغ العلماء الضليعين

إلخ ما عرفه القراء.

فرددنا عليه بقولنا: إن علماء القرن الثالث لم يكونوا كما ذكر، ولا القرن

الرابع، ولا القرن الخامس فالفقه ما اتسع نطاقه إلا في هذه القرون، أي: الثالث

والرابع والخامس. فنقل عنا هذه العبارة بنصها في آخر مقالته الثانية، ورد

عليها بقوله:

(نقول: هكذا فهم الشيخ رشيد رضا تاريخ الفقه الإسلامي، فهو يرى الفقه

في القرون الخمسة الأولى، أيام نبوغ الأئمة المجتهدين، والمشرعين الأولين،

والمؤلفين السابقين الذين ملؤوا مكتبات الدنيا فقهًا وتشريعًا، لم يبلغوا درجة الفقهاء

في هذه القرون التي قد يمر القرن، ولا يظهر فيه مؤلف

إلخ) .

إن هذا لهو جوابه بحروفه ونقطه، فهل يفهم هذا الرجل اللغة العربية؟ كيف

يفهمها وهو ينقل عني إنكاري عليه، زعمه أن الفقه قد انحط في القرن الثالث،

وتعليمي إياه أنه ما اتسع نطاقه إلا فيه، وفي القرنين الرابع والخامس.

ويقول بعد ذلك من غير فصل: إنني أقول: إن علماء القرون الخمسة لم

يبلغوا درجة الفقهاء في هذا العصر! ! إن كان يفهم اللغة العربية فلا شك أنه ما

أوقعه في هذه الهوة إلا التهيج العصبي الذي غلب عليه. ولكن ما بال أصحاب

جريدة اللواء، لم يحذفوا له هذه العبارة الفاضحة؟ لعلهم لم يفهموها، وإلا فهم غير

ناصحين له.

الانتقاد الرابع

انتقدنا عليه أنه وعد ببيان بضع مسائل في ذلك الدرس ولم يبينها. فأجاب بما

حاصله؛ أنه يريد بالدرس جنس الدرس، لا هذا الدرس الأول. وله في هذا

الجواب وجه، وكان خطر ذلك ببالي عند الانتقاد. لكن العبارة والقرينة وما اعتاده

من الوعود وعدم الوفاء، كل ذلك رجح عندي أنه يعني بالدرس ذلك الدرس الأول

والخطب سهل، وقد كثرت الدروس بعد الأول. فهل بيَّن تلك المسائل، وَوَفَّى

بتلك الوعود؟ ؟

الانتقاد الخامس

انتقدت عليه تعريفه العدل: بأنه ما أدى إليه العقل من الأحكام؛ لأن هذه

الأحكام منها العادل ومنها الجائر، فنقل عني ذلك، وقال في الجواب عنه: (وإني

بريء مما نسبه إليَّ الشيخ رشيد، فقد قلت بالحرف الواحد

) . ونقل عبارته في

تحكيم الحكومة للعقل عند الحاجة إليه، ونتيجتها قوله: فحكَّمت الحكومة (العقل) ،

وما أدّاها إليه هذا العقل من الأحكام سمته (عدلاً) . فالعدل إذن مظهر من مظاهر

العقل. اهـ.

ومنه يعلم القارئ أن فريد أفندي لم يفهم ما كتبت، ولا ما كتب هو، فإنه لا

معنى لعبارته إلا ما قلت. وبيانه أن قوله: (ما أداها إليه العقل) مبتدأ، وقوله:

(من الأحكام) بيان لـ (ما) ، وقوله (سمته عدلاً) خبر المبتدأ، فصار

المعنى والأحكام التي أداها إليها العقل هي التي سمتها عدلا. فثبت أنه جعل الأحكام

التي استنبطها العقل عين العدل. فإذا كان لا يعرف النحو، فليراجع كنز العلوم واللغة

لعله يجد هذا الحل صحيحًا.

الانتقاد السادس وما يتبعه

انتقدت عليه ما تقوله على علماء المسلمين من أنهم يقولون: إن أصول

الشرائع كلها من الله، وأنكرت عليه ما قاله في الجواب من تفسير الوحي إلى آخر

ما عرفه القراء، فأجاب عن ذلك بكلام يتلخص في أجوبة:

(أولها) أَنَّ الخاص والعام يعلمون أنه أَسَّسَ هذه المدرسة؛ لتمرين حملة الدين

على الدفاع عن حوزة الإسلام.

(وثانيها) أَنَّ غرضه تأييد الدين.

(وثالثها) اَنَّه وقف جزء كبيرًا من أوقاته على المدرسة.

(ورابعها) أَنَّ الشيخ رشيدًا آلمه وجود هذه المدرسة، حتى أخرجه الألم عن

حده.

(وخامسها) أَنَّ الشيخ رشيدًا يوهم الناس أنه عالم بفلسفة التشريع، وأنه مطلع

على أقوال الأوربيين كافة.

(وسادسها) أَنَّ الشيخ رشيدًا لا يعرف من لسان الأوربيين كلمة.

(وسابعها) أنه يعني بقوله: إن علماءنا يعتقدون أن أصول الشرائع كلها من

الله أنهم يقرون بأن الإنسان لم يوهب من العقل في مبدأ وجوده ما يكفي لإقامة

حياته، فكان الوحي الإلهي مرشده في كل أموره في بناء شريعته، وفي إقامة

صنائعه، وفي هدايته إلى وجوه معيشته، حتى تلقينه لغته.

(وثامنها) أَنَّ كلامه (في أصول الشرائع الأولى في عهد طفولية الإنسان،

لا في عهد شبوبيته أيام الرسل والأنبياء) .

(وتاسعها) أَنَّه لو كان الشيخ رشيد يستطيع أن يطلع على تحقيقات العلماء في

شأن الإنسان في هذين العهدين، لحولته على كتب فلان وفلان، وختم الأجوبة بشيء

من الطعن والتضليل للشيخ رشيد.

وأقول: لا شيء من هذه الأجوبة في الموضوع إلا السابع والثامن. فأما السابع

فهو دعوى جديدة على علماء الإسلام، ليست من عقائده في شيء، وإن وجد شيء

من فروعها في مباحث بعضهم. فهم لا يعدون كون واضع اللغة هو الله على القول

به إنه من عقائد الدين، حتى يحتاج إلى أسلحة فريد أفندي التي يدعي أنها يسلح بها

حملة الدين، فإذا ثبت أن هذا القول خطأ، فهو لا يعد شبهة على الدين. فكيف

ندافع عن الدين بتكثير الشبهات عليه، ومحاولة الجواب عنها بما هو شر منها.

وأما الثامن فهو على كونه كما يقول علماء المناظرة من قبيل: (المراد لا

يدفع الإيراد) . لا يمكن حمل ما نسبه إلى اعتقاد علماء الإسلام عليه؛ لأنهم لم

يقولوا بأن لحياة البشر دور طفولية، ودور شبوبية ظهر فيه الرسل، حتى يحمل

كلامهم عليه. بل يقولون: إن أول البشر نبي مرسل. ومن بحث أمثال هذه

المباحث، كالأستاذ الإمام فقوله فيها لا شبهة عليه، ولا يحتاج هي إلى تأويلات

فريد أفندي وجدي، التي تحتاج إلى تأويل.

الانتقاد السابع

انتقدنا عليه إنكاره رسالة آدم عليه السلام، وكون الله - تعالى- أوحى إليه

كما أوحى إلى غيره من النبيين. فأجاب عن ذلك بكلم يؤخذ منه أجوبة:

(أحدها) أنه بخدمته للإسلام يعيد له سلطانه الأول.

(ثانيها) أن أحق الناس بالانتفاع بخدمته للدين الناشئة الجديدة العاملة في

الإدارة والسياسة والقضاء.

(ثالثها) أن الشيخ رشيدًا لو كان قرأ كتابًا واحدًا في علم الفزيولوجيا لهكسلي أو

لداروين

إلخ، وما فيها من الشبهات على نبوة آدم، علم أن المسألة تحتاج إلى

نظر، وإلا لنبذ أقوال أهل الشرع بنبوة آدم، أو لفظ قول الفزيولوجيين، وضرب

بتحقيقاتهم في الحفريات والعاديات عرض الحائط، وسهل للطائفة المتعلمة ترك

الدين.

(رابعها) أن قادة الدين يشكون من مروق المتعلمين، وما مروقهم إلا لعدم

وجود أحد من قادته يشاركهم في معلوماتهم.

(خامسها) أنَّ إيراده تلك المسألة بعبارة لا تُشعر بالجزم هو كالإعلام لهؤلاء

المارقين أو الشاكِّين في الدين، بأنه عالم بأقوال علماء الفزيولوجيا، وعامل على حلها

بما يوافق القرآن والعلم. وختم هذه الأجوبة بقوله: (فما يسميه الشيخ رشيد سقطة

كبيرة هو في الحقيقة نهضة كبيرة) .

أقول: الجواب الحقيقي من هذه الجمل التي لخصنا بها كلامه هو أنه لم يجد

سلاحًا يدافع به عن اعتقاد المسلمين بنبوة آدم إلا التشكيك فيها. فهل سمع أحد من

البشر بأن التشكيك في الدين دفاع عنه؟ أليس الشك في الدين، كالإنكار لقضاياه

كلاهما كفر صريح؟ أبشرك يا فريد أفندي بأنني مطلع على مذهب داروين، وعالم

بأنه لا يمس الإسلام، وإذا أردت أن تفهم ما ورد في آدم مطابقًا للعلم، فراجع

المنار مع بعض من يفهمه من أهل العلم؛ ليفهموك ما يحفظ به الدين، ثم ألقه في

مدرستك إن استطعت.

الانتقاد الثامن

انتقدنا عليه جعله تفضيل الشريعة الإسلامية على غيرها؛ مبنيًّا على قاعدة

ارتقاء الشرائع بارتقاء أهلها، وزعمه أنها - أي: الشريعة الإسلامية - ما جاءت

راقية إلا لارتقاء أهلها، وقلنا: إن هذه القاعدة إنما تصح في الشرائع؛ أي:

القوانين الوضعية التي يكون ارتقاؤها تابعًا لارتقاء واضعيها.

والشريعة الإسلامية وضع إلهي أنزلت على قوم غير مرتقين، فكان ارتقاؤهم

بها، ولم يكن ارتقاؤها بهم. فأجاب فريد أفندي عن هذا الانتقاد بكلم يتلخص منه

أجوبة:

(أحدها) أن ما أورده هو من مقررات فلسفة التشريع، ذلك العلم الذي أفنى المشرعون قواهم وأعمارهم في وضعه.

(ثانيها) قوله: (فبأي سلطان يستطيع الشيخ رشيد الذي لم يقرأ في العلم

سطرًا واحدًا، أن يرد هذه المقررات البديهية؟ وهل لو قال يسمع له أحد) ؟

(كذا) .

(ثالثها) قوله: (فأقول له: إن كلامي كله موجه إلى أن الشريعة الإسلامية وحي من الله، لا أنها شريعة وضعية تابعة لأهواء الناس، حتى يتوهم

الشيخ رشيد أنه يغالطني فيما قلته) .

أقول: إن هذا الكلام يشبه أضغاث الأحلام، كما هي العادة في أكثر كلامه،

وهو مؤذن بأنه لم يفهم ما كتب، ولا ما انتقد به عليه. نحن نقول: إن ارتقاء

الشرائع لا يكون نتيجة لارتقاء أهلها إلا في القوانين الوضعية. فيقول: إنك خالفت

مقررات فلسفة التشريع، وإنك لم تقرأ منها سطرًا وما هذا بمخالفة لها، وقد قرأت

فيها كتبًا، ونقول: إن الشريعة الإسلامية ليست تلك القوانين؛ لأنها إلهية. فيقول:

إن كلامي موجه إلى أنها إلهية! ! !

ويقول: بأي سلطان يستطيع الشيخ رشيد أن يرد مقررات أهل الفلسفة؟

وأجيبه بأنني أردها بسلطان الإسلام إذا هي خالفته، ولو صح قوله: إنني لم أقرأ

منها سطرًا، فحسبي أنني قرأت حكمة التشريع الإسلامي التي لم يقرأ هو منها

سطرًا؛ ولذلك يجهل البديهيات فيها؛ ككون الشريعة هي التي رقت الأمة الإسلامية

دون العكس.

الانتقاد التاسع

قال فريد أفندي في درسه، بعد أن قرر أن ارتقاء الشريعة تابع لما عليه أهلها

من الارتقاء في الأخلاق: من هنا يرى الرائي أن كل انقلاب حدث في أخلاق أمة،

قد أدى بطبعه إلى انقلاب في شريعتها، ويدرك تبعًا لهذا فساد الأحكام وبعدها أن

العدالة في بعض الأمم المتدينة التي تقرر مبدأ التمايز في أفراد الجمعية، فَتَهَبُ

لبعضهم حقوقًا، تسلبها عن الآخرين باعتبارات دينية.

فسألناه عما يعني ببعض الأمم المتدينة؛ اليهود وليس لهم حكومة. أم

النصارى وقد بالغ في وصف ارتقاء شرائعهم وفتن بها، حتى ليظن أنهم إذا قالوا

قولاً يخالف الإسلام لا يمكن رده، وإنما يجيب عنه بتأويل ما جاء في الإسلام أو

بإنكاره أو التشكيك فيه. أم يعني بعض الوثنيين؟ سألناه؛ لأن الشبهة قائمة على

أنه يريد بذلك المسلمين، ولا غرو فقد جعل منهم الشارعين. فأجاب عن هذا

السؤال بما نصه:

(يكفيني أن أتعجب من هذه الردود، وأترفع عن الرد عليها؛ ذلك أولى لي

وأولى بالقارئ) (كذا) .

الانتقاد العاشر

سألته بناء على ما تقدم: ماذا يقول في جعل الخلافة في قريش؟ فأجاب عن

هذا بعد القول بأنني أثرت بهذا السؤال وما بعده مما يأتي شبها على الإسلام، ما

كان يتخيل صدورها من مسلم، بأجوبة:

(أحدها) أَنَّ الخلافة بيد المؤمنين يولون عليهم بالإجماع من شاؤوا، ولو كان عبدًا حبشيًّا.

(ثانيها) لو كانت الخلافة مقصورة على القرشيين؛ لأتى في ذلك نص

قرآني أو حديث متواتر، ولما اختلف المهاجرون والأنصار عليها.

(ثالثها) أَنَّ خليفتنا الحالي تركي الأصل، طاعته مفروضة علينا، ولا

يحاول نقض هذا الأصل إلا من يريد أن تتفكك جامعة المسلمين، وتنقصم عروتهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أما الأول: ففيه جهالات: منها اشتراطه الإجماع، ومنها قوله من شاؤوا مطلقًا

مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأمر في قريش، كما ثبت في

الأحاديث الصحيحة، وجرى عليه المسلمون في خير القرون، حتى بعد أن صار

الحكم استبداديًّا إلى انقراض الدولة العباسية، ونقل بعض أئمة الأصول والحديث

الإجماع عليه من أهل السنة، ولم يعتدوا بخلاف الخوارج وبعض المعتزلة، قال

الإمام أبو بكر الباقلاني في قول ضرار بن عمرو من الخوارج: بأن غير قريش

أولى بها. لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت الحديث (الأئمة من

قريش) ، وعمل المسلمون به قرنًا بعد قرن، وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك،

قبل أن يقع الاختلاف. وقال القاضي عياض: اشتراط كون الإمام قرشيًّا مذهب

العلماء كافة، وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها

خلاف، وكذا من بعدهم في جميع الأمصار.

وأما الثاني: ففيه من الجهل بأحكام الأصول عدم الاعتداد بالحديث النبوي،

إذا لم يكن متواترًا وإن كان في غير العقائد. وكأنه يقرأ في المنار أن هذا الحديث لا

يؤخذ به في هذه المسألة، فيظن أن جميع المسائل سواء، على أن المحققين اختلفوا

في العمل بأحاديث الآحاد الصحيحة في العقائد، ولم يتفقوا على عدمه. وأما في

غير العقائد فلا خلاف، ثم ماذا يقول في الإجماع؟ وفيه من الجهل بتاريخ الإسلام

الاحتجاج بخلاف المهاجرين والأنصار؛ إذ لم يعلم أن هذا الخلاف قد ارتفع

باحتجاج أبي بكر رضي الله عنه بكون الأئمة في قريش، وأن الأنصار

أذعنوا لذلك.

وأما الثالث: ففيه من الجهل أن خلافة خليفتنا الحالي، ليست منطبقة على

قوله آنفًا: إن المسلمين هم الذين يولون الخليفة بالإجماع، فكأن قاعدته تقضي

ببطلان خلافته؛ لأنها بالوراثة لا بانتخاب المسلمين بالإجماع. أراد فريد أفندي أن

يعرض بأن سؤالنا المبني على الحديث الصحيح، وإجماع أهل السنة، ينفي خلافة

السلطان؛ ليهيج علينا العوام، فكأن كلامه هو الذي نفى خلافة هذا السلطان، وأما

نحن فنقول: إن خلافة هذا السلطان ووجوب طاعته بالمعروف، لا تنفي

ذلك الحكم المقرر في كتب العقائد، وكتب الحديث والفقه المتداولة في الآستانة، وكل

بلاد المسلمين من كون الأصل في الخلافة أن تكون لقريش، كما هو مشروح في

محله. فليسأل عنه فريد أفندي بعض مجاوري الأزهر؛ لأن ذلك مبني على وجود

من يصلح منهم للخلافة، وصرّحوا بأن المتغلب تجب طاعته.

***

الانتقاد الحادي عشر

وسألته عن شهادة غير المسلم على المسلم فأجاب: (بأنها لا تجوز؛ لأن

التعصب الديني جعل أتباع أولئك الملل يكذبون على الله في كتبهم، ويزعمون أن

كل ضرر يلحقونه بغيرهم حتى القتل، لا يعاقبون عليه عند الله. إلى أن قال بعد

أن ذكر أن دوائر المعارف الأوربية صرحت بذلك: فإن كانت الشريعة الإسلامية

قررت قبول شهادتهم على المسلم مع وجود هذه النصوص الصريحة في شروح

كتبهم، لكانت (كذا) أتت بغير العدل، والله يتنزه عن ذلك) .

أقول: إن الشريعة الإسلامية شريعة عامة دائمة. فهل يقول فريد أفندي: إن

كل من كان غير مسلم يستحل شهادة الزور، وإن هذا كان عامًّا في زمن نزول

الشريعة، وعلم الله أنه لا يزول، وأن دوائر المعارف تثبت هذا؟ إن قال هذا: فلا

أحاجه ببداهة بطلانه. ولكنني أورد عليه مثل قوله - تعالى - في اليهود، وهم الذين

كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة: 66)، وقوله:{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159)، وما في معناهما من الآيات. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ

آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) ؛ فهل جاءت في هذه الآية بغير العدل، أم

أنت يا فريد لا تفهم معنى العدل، ولا تعرف أحكام الشريعة) ، إذا أردت أن تفهم

فلسفة الشريعة في أمثال هذه المسألة وما قبلها، فالتمس من يفهمك ما كتبناه عنها في

المنار، أو اسأل عنها من نقرأ لهم تفسير القرآن الحكيم وصحيح الأحاديث.

هذا ما أجاب عنه من انتقاداتنا على أحد دروسه، ولم يتفق له الصواب في

شيء، ولم يقارب إلا في ذلك الاحتمال في الانتقاد الرابع كما تقدم.

على أنه لم يذكر جميع الانتقادات التي وجهناها إليه، فقد سألناه، هل

الشريعة التي قال: إنها مبنية على قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات

: 10) خاصة بالمؤمنين أم عامة يحكم بها غيرهم؟ وإذا قال بالثاني. فهل أخوة

بعضهم لبعض تقتضي مساواتهم لغيرهم أم لا؟ فإن قال بالسلب. فكيف يتم قوله،

ولم يذكر في مقالته هذا؟

***

جواب سؤال

قلت: إن فريد أفندي لم يتلق شيئًا من علوم الدين فسألني عمن تلقيت عنهم

الدين وعن الشهادات التي تأذن لي بالإفادة والفتوى. فأجيبه بأن يرسل إلى صديقه

الذي كلمني في ترك الرد عليه لأطلعه على الشهادات التي عندي والإجازات

بالتدريس أو ليحضر بنفسه لأريه ذلك.

ولي هنا أن أسأله: أين تعلم هو فلسفة التشريع وسائر العلوم الأوربية التي

يتبجح بها ويفاخر؟ ومن أين أخذ الشهادات بالعلوم العالية ومن أذنه بتدريسها ونحن

نعلم أنه عرض نفسه على امتحان الشهادة الثانوية فعجز وسقط، فهل يليق به مع هذا

أن يدعي أن يدرس جميع علوم أوربا العالية كما يدرس علوم الشرع في جميع

المذاهب الاعتقادية والعملية؟ هل يليق به أن يدعي أنه قائد الأمة ومعلم علماء

الدين وعلماء الدنيا؟ هل يليق به أن يدعي أن إعادة مجد الإسلام وقف عليه

ومحصورة فيه؟ فأنصح له أن يترك هذه الدعاوي العريضة ويوطن نفسه على

الاستفادة أكثر من الإفادة وإلا فإننا نقرأ جميع مؤلفاته الملفقة ونبين خطأها الكثير

ومآخذ صوابها القليل من كتابة بعض من يتبجح عليهم ويدعوهم إلى الاستفادة منه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كتبنا في (ص111 م2) تقريظًا لهذا الكتاب، قلنا فيه ما نصه: ومما انتقدناه (تأمل كلمة مما) على صديقنا الفاضل مؤلفه، أنه هضم حقنا في خدمتنا في المنار؛ حيث قال في فاتحة الكتاب ما نصه: نسمع كل جمعة على المنابر قائلا يقول: لم يبق من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه ولكنا لم نسمع قط، بأن عاقلاً قام يبحث بدقة وثبات عن أسباب هذا الاضمحلال الشديد الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية منذ (كذا) قرون كثيرة أما والعلم لو بحث باحث عن علل هذا الهبوط الهائل بعد ذلك الصعود السريع، ما وجدها إلا في ترك السنن واتباع البدع: اهـ نحن قد سبقناه إلى هذا في المنار إجمالاً وتفصيلاً، حتى إن عبارة الخطباء التي قالها قد ذكرناها في مقالة افتتحنا بها العدد 19 من السنة الأولى، وتكلمنا فيها على البدع وقد كتب المؤلف لهذا العاجز كتبًا كثيرة، يثني فيها على خدمتنا للإسلام، وكأنه ذهل عن ذلك عند كتابة ما ذكر (وسبحان المنزه عن الذهول والنسيان) اهـ ما كتبناه في المجلد الثاني ولما قرأه المؤلف يومئذ كتب إلينا يعتذر، ويعد بأن سيفي المنار حقه في طبعة ثانية (راجع ص 127 م 2) ولكنه لم يفعل على أنه كان كتب إلينا كتابا، قال فيه: إنه بكتابه هذا يعضد مشروعنا، ويقوي صوتنا.

ص: 456

الكاتب: محمد رشيد رضا

نموذج من إنجيل برنابا

(الهوامش التي علاماتها حروف مأخوذة من النسخة الطليانية، يظهر أن

واضعها يزعم أنها لما وافق هذا الإنجيل فيه القرآن. والهوامش التي علاماتها أرقام

بين أقواس فهي لما وافق فيها العهد العتيق والعهد الجديد. وهي من النسخة

الإنكليزية) [أ1] .

الفصل السادس عشر [ب1]

التعاليم العجيبة التي علمها لتلاميذه بخصوص الارتداد عن الحياة الشريرة

وجمع يسوع ذات يوم (تلاميذه وصعد إلى الجبل [1] 2 فلما جلس هناك دنا

منه التلاميذ، ففتح فاه وعلمهم قائلاً: 3 عظيمة هي النعم التي أنعم بها الله [ت1]

علينا، فترتب علينا من ثم أن نعبده بإخلاص قلب 4 وكما أن الخمر الجديدة

توضع في أوعية جديدة [2] هكذا يترتب عليكم أن تكونوا رجالاً جددًا إذا أردتم أن

تعوا التعاليم الجديدة التي ستخرج من فمي 5 الحق أقول لكم، كما أنه لا يتأتى

للإنسان أن ينظر بعينه السماء والأرض معًا في وقت واحد، فكذلك يستحيل عليه

أن يحب الله والعالم [ث1] .

6 لا يقدر رجل أبدًا أن يخدم سيدين [3] أحدهما عدو للآخر [ج1] ؛ لأنه إذا

أحبك أحدهما أبغضك الآخر. (7) فكذلك أقول لكم حقًّا: إنكم لا تقدرون أن

تخدموا الله والعالم؛ (8) لأن العالم موضوع في النفاق والجشع والخبث [4] 9 لذلك

لا تجدون راحة في العالم، بل تجدون بدلاً منها اضطهادًا وخسارة 10، إذًا فاعبدوا

الله، واحتقروا العالم؛ 11 إذ مني تجدون راحة لنفوسكم [5] 12 أصيخوا السمع

لكلامي؛ لأني أكلمكم بالحق.

(13)

طوبى للذين ينوحون على هذه الحياة؛ لأنهم يتعزون [6] .

(14)

طوبى للمساكين [7] الذين يعرضون حقًّا عن ملاذ العالم؛ لأنهم

سيتنعمون بملاذ ملكوت الله.

(15)

طوبى للذين يأكلون على مائدة الله [8] ؛ لأن الملائكة ستقوم على

خدمتهم.

(16)

أنتم مسافرون كسياح 17 أيتخذ السائح لنفسه على الطريق قصورًا

وحقولاً، وغيرها من حطام العالم، 18 كلا ثم كلا، ولكنه يحمل أشياء خفيفة ذات

فائدة وجدوى في الطريق 19 فليكن هذا مثلاً لكم 20، وإذا أحببتم مثلاً آخر فإني

أضربه لكم؛ لكي تفعلوا كل ما أقوله لكم.

(21)

لا تثقلوا قلوبكم بالرغائب العالمية، قائلين: من يكسونا [9] أو من

يطعمنا، 22 بل انظروا الزهور والأشجار مع الطيور التي كساها وغذاها الله [أ2]

ربنا بمجد أعظم من كل مجد سليمان، 23 والله [ب2] الذي خلقكم ودعاكم إلى خدمته

هو قادر أن يغذيكم، 24 الذي أنزل المن [10] من السماء [ت2] على شعبه إسرائيل في

البرية أربعين سنة، وحفظ أثوابهم من أن تعتق أو تبلى، [11] 25 أولئك الذين

كانوا ست مائة وأربعين ألف رجل [12] خلا النساء والأطفال 26 الحق أقول لكم: إن

السماء والأرض تهنان [13] بيد أن رحمته لا تهن للذين يتقونه.

[أ3] 27 أغنياء العالم هم على رخائهم جياع وسيهلكون. [14] 28 كان غني

ازدادت [15] ثروته، فقال: ماذا أفعل يا نفسي 29 إني أهدم إهرائي؛ لأنها صغيرة

وأبني أخرى جديدة أكبر منها، فتظفرين بمناك يا نفسي) 30 إنه لخاسر؛ لأنه في

تلك الليلة توفي. 31 ولقد كان يجب عليه العطف على المسكين، وأن يجعل

لنفسه أصدقاء من صدقات أموال الظلم في هذا العالم؛ لأنها تأتي بكنوز في عالم

السماء. 32 وقولوا لي من فضلكم: إذا وضعتم دراهمكم في مصرف عشار،

فأعطاكم عشرة أضعاف وعشرين ضعفًا، أفلا تعطون رجلاً كهذا كل مالكم 33.

ولكن الحق أقول لكم: إنكم مهما أعطيتم وتركتم لأجل محبة الله فستسر دونه

مائة ضعف مع الحياة الأبدية [16][ب3] 34 فانظروا إذًا كم يجب عليكم أن تكونوا

مسرورين في خدمة الله.

الفصل السابع عشر [ت3]

عدم إيمان التلاميذ ودين (المؤمن) الصحيح

1 ولما قال يسوع ذلك أجاب فيلبس: إننا لراغبون في خدمة الله. ولكننا

نرغب أيضًا أن نعرف الله [17] لأن أشعيا النبي قال: (حقًّا إنك لإله [ث3] محتجب.

[18]

3 وقال الله لموسى عبده: (أنا الذي هو أنا)[19] .

4 أجاب يسوع: يا فيلبس، إن الله صلاح بدونه لا صلاح 5 إن الله موجود

بدونه لا وجود، 6 إن الله حياة بدونها لا أحياء [أ4] 7 هو عظيم حتى إنه يملأ

الجميع وهو في كل مكان، 8 هو وحده لا نِدَّ له، 9 لا بداية ولا نهاية له [ب4] .

ولكنه جعل لكل شيء بداية، وسيجعل لكل شيء نهاية [ت4] 10 لا أب ولا أم له،

11 لا أبناء ولا إخوة ولا عشراء [ث4] له 12 ولما كان ليس لله جسم فهو لا يأكل

ولا ينام، ولا يموت ولا يمشي ولا يتحرك. 13 ولكنه يدوم إلى الأبد بدون شبيه

[ج4] بشري 14؛ لأنه غير ذي جسد وغير مركب وغير مادي وأبسط البسائط، [ح4]

15 وهو جواد لا يحب إلا الجود، 16 وهو مقسط حتى إذا هو قاص أو صفح فلا

مرد له. 17 وبالاختصار أقول لك يا فيلبس: إنه لا يمكنك أن تراه وتعرفه على

الأرض تمام المعرفة 18. ولكنك ستراه في مملكته إلى الأبد، حيث يكون قوام

سعادتنا ومجدنا 19، أجاب فيلبس: ماذا تقول يا سيد حقًّا لقد كتب في أشعيا أن الله

أبونا [20] فكيف لا يكون له بنون؟

20 أجاب يسوع: إنه في الأنبياء مكتوب أمثال كثيرة، لا يجب أن تأخذها

بالحرف بل بالمعنى؛ 21 لأن كل الأنبياء البالغين مائة وأربعة وأربعين ألفًا الذين

أرسلهم [أ5] الله إلى العالم، قد تكلموا بالمعميات بظلام 22. ولكن سيأتي بعدي بهاء

[21]

كل الأنبياء والأطهار [ب5] ، فيشرق نورًا على ظلمات سائر ما قال الأنبياء 23؛

لأنه رسول الله [ت5]24. ولما قال هذا تنهد يسوع وقال 25: ارأف بإسرائيل أيها

الرب إلاله [ث5] وانظر بشفقة على إبراهيم وعلى ذريته؛ لكي يخدموك بإخلاص

قلب.

26 فأجاب تلاميذه: ليكن كذلك أيها الرب الإله [ج5] .

27 وقال يسوع: الحق أقول لكم إن الكتبة والعلماء قد أبطلوا شريعة [22] الله

بنبواتهم [ح5] الكاذبة المخالفة لنبوات أنبياء الله [خ5] الصادقين 28؛ لذلك غضب الله

على بيت إسرائيل وعلى هذا الجيل القليل الإيمان 29، فبكى تلاميذه لهذه الكلمات،

وقالوا: ارحمنا يا الله [23][د5] ترأف على الهيكل والمدينة المقدسة، ولا تدفعها

إلى احتقار الأمم لكي لا يحتقروا عهدك 30. فأجاب يسوع: وليكن كذلك أيها

الرب إله آبائنا [ذ5] .

* * *

الفصل الثامن عشر [أ6]

يوضح هنا اضطهاد العالم لخدمة الله وأن حماية الله تقيهم

1وبعد أن قال يسوع هذا قال: لستم أنتم الذين اخترتموني [24] ، بل أنا

اخترتكم؛ لتكونوا تلاميذي [25] ، فإذا أبغضكم العالم تكونون حقًّا تلاميذي 3 لأن

العالم كان دائمًا عدو عبيد خدمة الله، 4 تذكروا الأنبياء الأطهار الذين قتلهم العالم

5، كما حدث في أيام إيليا [ب6] : إذ قتلت إيزابل عشرة آلاف عشرة نبي، حتى

بالجهد نجا إيليا المسكين وسبعة آلاف من أبناء الأنبياء [26] الذين خبأهم رئيس

جيش أخاب 6، أواه من العالم الفاجر الذي لا يعرف الله 7 إذًا لا تخافوا أنتم [27] ؛

لأن شعور رؤوسكم محصاة؛ كي لا تهلك 8. انظروا العصفور الدروي والطيور

والأخرى التي لا تسقط منها ريشة بدون إرادة الله 9. أيعتني [ت6] الله بالطيور أكثر

من اعتنائه بالإنسان الذي لأجله خلق كل شيء؟ 10 أيتفق وجود إنسان أشد اعتناء

بحذائه منه بابنه 11؟ كلا ثم كلا 12 أفلا [ث6] يجب عليكم بالأولى أن تظنوا أن الله

لا يهملكم وهو المعتني بالطيور 13. ولكن لماذا أتكلم عن الطيور ، بل لا تسقط

ورقة شجرة بدون إرادة الله [ج6] .

14 صدقوني؛ لأني أقول لكم الحق: إن العالم يرهبكم إذا حفظتم كلامي

15؛ لأنه لو لم يخش فضيحة فجوره؛ لما أبغضكم. ولكنه يخشى فضيحته، ولذلك

يبغضكم ويضطهدكم [أ7]16. فإذا رأيتم العالم يستهين بكلامكم فلا تحزنوا، بل

تأملوا كيف أن الله - وهو أعظم منكم - قد استهان به أيضًا العالم حتى حسبت حكمته

جهالة 17، فإذا كان الله يحتمل [ب7] العالم بصبر. فلماذا تحزنون أنتم يا تراب

وطين الأرض 18؟ فبصبركم تملكون أنفسكم [28] ، 19 فإذا لطمكم أحد على خد ،

فحولوا له الآخر ليلطمه [29] 20 لا تجازوا شرًّا بشر [30] ؛ لأن ذلك ما تفعله شر

الحيوانات كلها 21. ولكن جازوا الشر بالخير [ت7] ، وصلوا لله؛ لأجل الذين

يبغضونكم [31] 22، النار لا تطفأ بالنار بل بالماء. لذلك أقول لكم: لا تغلبوا الشر

بالشر بل بالخير [32] ، 23 انظروا الله [ث7] الذي جعل شمسه تطلع على الصالحين

والطالحين [33] ، وكذلك المطر 24. فكذلك يجب عليكم أن تفعلوا خيرًا مع الجميع؛

لأنه مكتوب في الناموس: كونوا قديسين؛ لأني أنا إلهكم قدوس [ج7][34] كونو أنقياء؛

لأني أنا نقي، وكونوا كاملين؛ لأني أنا كامل [ح7] [35] 25 الحق. أقول لكم: إن

الخادم يحاول إرضاء سيده ، فلا يلبس ثوبًا ينفر منه سيده 26. وأثوابكم هي

إرادتكم ومحبتكم 27 ، احذروا إذًا من أن تريدوا أو تحبوا شيئًا غير مُرْضٍ لله [خ7]

ربنا 28 أيقنوا أن الله يبغض بهرجة وشهوات العالم؛ لذلك ابغضوا أنتم العالم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(أ1) الحمد لله.

(ب1) سورة ترك الدنيا.

(ت1) نعمة الله كبر.

(ث1) مثلاً في بني آدم عينان لكن لا يمكن أن ينظر إلى السماء والأرض في حالة واحدة وكذلك لا يمكن أن تجمع محبة الله ومحبة الدنيا في حالة واحدة منه.

(ج1) لا يمكن العبد أن يخدم سيدين عدوين أحدهما الآخر وكذلك لا يمكن أن يخدم العهد الدنيا والله تعالى منه.

(1)

ت 5: 1.

(2)

مت 9: 17.

(3)

مت 6: 24 ولو 16: 13.

(4)

1 يو 5: 19.

(أ2) الله رازق وخالق الله سلطان.

(ب2) الله قدير الله رازق.

(ت2) منوا وسلوان ذكر منه.

(5)

مت 11: 29.

(6)

مت 5: 4.

(7)

مت 5: 3.

(8)

مت 5: 6.

(9)

مت 6: 25.

(10)

ث 8: 3 - 16.

(11)

ث 8: 4.

(12)

خر 12: 37 عدد 1: 46 و 11: 21.

(أ3) أقول لك هذا الكلام حق ، ينهدم السماء والأرض. وأما من يخاف الله ، لا ينقطع رحمة الله عليه أبدًا منه.

(ب3) أقول لكم الحق ما أعطيتم في سبيل الله من الأشياء، أعطى كم الله في مقابلته مائة خيرًا منه.

(ت3) هذا سورة إخلاص.

(ث3) الله خفي.

(13)

مر 13: 31.

(14)

يبع 5: 1.

(15)

لو 3: 16 20.

(16)

مت 19: 29.

(17)

يوم 14: 6.

(18)

اش 45: 15.

(19)

خر 3: 14.

(أ4) الله واحد لا كفء له، حق سبحانه وتعالى، خيرًا لا خير إلا هو وكذلك حيوته وذاته منه.

(ب4) الله أكبر، الله قديم وباق.

(ت4) لا أوّ لله (لا أول لله) ولا آخر له، أما خلق لكل شيء أولاً وآخرًا.

(ث4) الله تعالى لا أبًا له، ولا أم له، ولا ولد له، ولا أخ له، ولا شريك له، ولا بدن له،

لأجل هذا، لا يأكل ولا ينام ولا يموت، ولا يذهب ولا يتحرك. لكن قائم أبدًا، منزه من كل مخلقات، ولا مركب له، ولا يتركب من الأشياء. لكن لطيف بالذاة منه.

(ج4) الله قائم وباق، وسبحان ولطيف، وخير ذو انتقام، وغفور منه.

(ح4) الله لا تدركه الأبصار منه.

(20)

أش 63: 16 و 64: 8.

(أ5) الله مرسل.

(ب5) قال عيسى ابن مريم: سيجيء من بعدي نور الأنبياء والأولياء منه.

(ت5) رسول الله.

(ث5) الله الرحمن الله كريم.

(ج5) الله سلطان.

(ح5) الله قهار.

(خ5) اليهود ويحرفون الكلم من بعد مواضعه منه ، هذا وبعده النصار هذا أنا شهيد، وهذا الكتاب يحرفون أكلم في الإنجيل.

(د5) الله الرحمن.

(ذ5) سلطان له آبائنا.

(21)

مر 7: 13.

(22)

مر 7: 13.

(23)

دا 9: 16.

(أ6) سورة توكيل.

(ب6) في زمان إلياس يقتل اليهود عشرة آلاف أنبياء؛ بغير الحق منه.

(ت6) الله وكيل وحفيظ.

(ث6) الله رب.

(ج6) لا يسقط ورق من الشجر إلا بإرادة الله تعالى منه.

(24)

يو 15: 16.

(25)

يو 15: 19.

(26)

1 مل 18: 4 و 13 (العدد هناك مائة ولعل ما هنا هو المراد بما في و1 مل 19: 18. (27) مت 10: 28-30 ولو 12: 51-57.

(أ7) الدنيا لا تحب عباد الله الأخيار؛ لأنها خافت أن يكشف وأوشاقبها: يكشفوا شقاوتها؟ وتقصد للعباد أن تصيب البلاء والضرر منه.

(ب7) الله صبر (صبور؟) الله عليم.

(ت7) مثلاً لا يدفع النار (بالنار) ، كذلك لا يدفع الشر (بالشر) منه.

(ث7) الله رازق.

(ج7) الله ولي وقدوس وكاميل.

(ح7) يقول الله تعالى في التورية: يا بني إسرائيل كونوا وليًّا فإني ولي، وكونوا طاهرًا فإني طاهر، وكونوا كاميلا فإني كاميل منه.

(خ7) الله سلطان.

(28)

لو 21: 19.

(29)

مت 5: 39.

(30)

ابط 2: 9.

(31)

مت 5: 44 ولو 6: 28.

(32)

رو 12: 21.

(33)

مت 5: 48.

(34)

لا 19: 2.

(35)

مت 5: 48.

ص: 495

الكاتب: محمد رشيد رضا

حجة الإسلام

أبو حامد الغزالي

إن سيرة عظماء الرجال، أكبر عون على تربية الأجيال، وقد كان الإمام أبو

حامد محمد الغزالي من علماء الإسلام المصلحين في أصول الإسلام وفروعه وآدابه

اعترف له بذلك العلماء، وعدوه من المجددين المشار إليهم بحديث: (إن الله -

تعالى - يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) رواه أبو

داود، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في المعرفة من حديث أبي هريرة، وعلم

عليه في الجامع الصغير بالصحة. وسيأتي ذكر شيء من أقوال الفقهاء والمؤرخين

والصوفية فيه. لذلك هممت منذ سنين بأن أكتب في المنار شيئًا عن الرجال العظام،

أبدأ فيه بملخص سيرته في المنار، ولم أوفق إلى ذلك قبل اليوم. وأرجو أن يكون

فيما أكتبه الآن عبرة لأولي الألباب.

أصله ومنشؤه

هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، لم أر أحدًا ذكر له أكثر من ثلاثة آباء

وأسماؤهم عربية. ولكن نسبه لا يعرف منها، فهو إما من العرب الذين تغلغلوا في

بلاد الفرس من أول الفتح الإسلامي. وإما من الفرس الذين غلبت عليهم الأسماء

العربية؛ لعراقتهم في الإسلام. وإنك لتجد كثيرًا ممن يتكلمون في التاريخ،

يجزمون بنسب العلماء الذين نشئوا ببلاد الفرس في الإسلام، فيقولون: إنهم من

الفرس، وإن فلانًا فارسي الأصل والمنشأ، حتى إن منهم من يعد أصحاب الأنساب

العربية المعروفة من الفرس، كصاحب القاموس وصاحب الأغاني وأضرابهم.

ومن أسباب هذا الغلط فيما أرى؛ اشتهار قول ابن خلدون: إن أكثر علماء الملة

من العجم، وهو مخطئ فى هذا الحكم، ومخطئ فيما علله به. والصواب أن علماء

الإسلام الذين نبغوا في بلاد الفرس وغيرها من بلاد الأعاجم، منهم العربي كمن

ذكرنا آنفًا، ومنهم العجمي كسيبويه، ومنهم المجهول نسبه كأبي حامد الغزالي ،

فيتوقف في مثله حتى يظهر الدليل، وقد يستدل على أنه من سلالة عربية بما يأتي في

فصل اشتغاله بالعلم من بلاغته، مع قلة ممارسته للفنون العربية.

أما ما ينسب إليه الغزالي ، فقد اختلف فيه وفي ضبطه، هل هو بالتخفيف أو

التشديد؟ وقد جاء في ترجمة أبي حامد لشارح الإحياء في ذلك ما نصه:

(قال صاحب تحفة الإرشاد نقلاً عن الإمام النووي في دقائق الروضة: التشديد

في الغزالي، هو المعروف الذي ذكره ابن الأثير، وبلغنا أنه قال: منسوب إلى

غزالة - بتخفيف الزاي - قرية من قرى طوس ، قلت: وهكذا ذكره النووي

أيضًا في التبيان.

وقال الذهبي في العبر ، وابن خلكان في التاريخ: عادة أهل خوارزم وجرجان

يقولون القصاري والحياري بالياء فيهما، فنسبوه للغزل وقالوا: الغزالي، ومثل

ذلك الشحامي.

وأشار لذلك ابن السمعاني أيضًا وأنكر التخفيف، وقال: سألت أهل

طوس عن هذه القرية فأنكروها. وزيادة هذه الياء، قالوا: للتأكيد. وفي تقرير بعض

شيوخنا: للتمييز بين المنسوب إلى نفس الصنعة ، وبين المنسوب إلى من كانت

صنعته كذلك.

وهذا ظاهر في الغزالي فإنه لم يكن ممن يغزل الصوف ويبيعه. وإنما

هي صنعة والده وجده.

ولكن في المصباح للفيومي ما يؤيد التخفيف، وأَنَّ غزالة قرية بطوس، وإليها

نسب الإمام أبو حامد. قال: أخبرني بذلك الشيخ مجد الدين بن محمد أبي الطاهر

شروان شاه بن أبي الفضائل فخراور بن عبيد الله بن ست المنا بنت أبي حامد الغزالي

ببغداد سنة عشر وسبعمائة، وقال لي: أخطأ الناس في تثقيل جدنا، وإنما هو

مخفف. وقال الشهاب الخفاجي في آخر شرح الشفاء: ويقال: إنه منسوب إلى غزالة

ابنة كعب الأحبار ، وهذا إن صح فلا محيد عنه. والمعتمد الآن عند المتأخرين

من أئمة التاريخ والأنساب ، أن القول قول ابن الأثير أنه بالتشديد) .

ولد أبو حامد في مدينة طوس من عمل خراسان سنة 450 قال ابن السبكي في

طبقات الشافعية الكبرى: وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما

حضرته الوفاة وصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال

له: إن لي لتأسفًا عظيمًا على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في وَلَدَيَّ هذين

فعلمهما ولا عليك أن تنفد في ذلك جميع ما أخلفه لهما.

فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلى أن فني ذلك النزر اليسير الذي خلفه

لهما أبوهما، وتعذر على الصوفي القيام بقوتها، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت

عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي، فأواسيكما به،

وأصلح ما أرى لكما أن تلجئا إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت

يعينكما على وقتكما. ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجتهما ، وكان

الغزالي يحكي ذلك ويقول: (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله) اهـ.

فأنت ترى أن الغزالي نشأ فقيرًا، وكذلك أكثر النابغين في الأمم والعصور

التي لا إلزام فيها بالتعليم والتربية، يخرجون من بيوت الفقراء، أو من هم على

مقربة منهم. والأغنياء يشغلهم الترف والنعيم عن الجد والاجتهاد في العلم، لا سيما

في تلك الأزمنة التي كان فيها طلب العلم لا يتم إلا بالرحلة إلى العلماء المشهورين،

كما ترى فيما يلي، وناهيك بما كان في طي المسافات من المشاق.

طلب الغزالي للعلم

قرأ في صباه طرفًا من فقه الشافعية على أحمد بن محمد الراذكاني في بلده

(طوس) ثم سافر إلى الإمام أبي نصر الإسماعيلي في جرجان، وعلق عنه كتاب

التعليقة وعاد إلى طوس. قال الإمام أسعد الميهني: فسمعته يقول: قطعت علينا

الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم فالتفت إليَّ مقدمهم، وقال:

ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه، أن ترد

علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت

: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها. فضحك وقال:

كيف تدعي أنك عرفت علمها ، وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت

بلا علم؟ ؟

ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة، قال الغزالي: هذا مستنطق أنطقه الله

ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس، أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى

حفظت جميع ما علقته ، وصرت بحيث لو قطع على الطريق، لم أتجرد من علمي.

قال التاج السبكي: وقد روى هذه الحكاية عن الغزالي أيضًا الوزير نظام الملك.

أقول: - وفيها من العبرة لمثل طلاب الأزهر- أَنَّ هذا الإمام العظيم ما وصل

إلى ما وصل إليه إلا بعد أن جعل قصده في طلب العلم أن يكون العلم صفة من

صفاته، لا أن يفهم ما يأخذه عن العلماء إذا هو قرأه فقط، فينبغي لكل طالب علم

أن يتلقى العلم؛ لأجل أن يكون له فيه حكم ورأي، ولا يكتفي بأن يكون راويًا

لأقوال العلماء ولو مع الفهم؛ لأن من يفهم علم غيره، لا يعد هو عالمًا إلا إذا هو

أشرب العلم، وصل له فيه فهم خاص، يقدر على الاستدلال عليه، ودفع معارضة

المخالفين عنه، وصار بحيث لو رجع عنه من نقل عنه لا يرجع هو.

قال السبكي: ثم إن الغزالي قَدِم نيسابور ولازم إمام الحرمين، وَجَدَّ واجتهد

حتى برع على يديه في مذهب الشافعي، والخلاف والجدل والأصلين والمنطق ،

وقرأ الحكمة والفلسفة، وأحكم كل ذلك، وفهم كلام أرباب هذه العلوم وتصدى للرد

عليهم وإبطال دعاويهم، وصنف في كل فن من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها،

وأجاد وضعها وترصيفها، كذا نقل النقلة عنه وأنا لم أر له مصنفًا في أصول الدين

بعد شدة الفحص، إلا أن يكون قواعد العقائد وعقائد صغرى (كذا) .

أقول: وفاته كتاب الاقتصاد في الاعتقاد. وظاهر قوله: (وقرأ الحكمة

والفلسفة) أنه لم يقرأها على إمام الحرمين، وهو كذلك كما يعلم من كتابه (المنقذ

من الضلال) وفيه أنه صنف كتبًا في الكلام، وستأتي عبارته فيه.

وقال الزبيدي في ترجمته: بعد أن ذكر من مشايخه بطوس أحمد بن محمد

الراذكاني، وفي جرجان أبا نصر الإسماعيلي، وفي نيسابور إمام الحرمين وشيخه

في التصوف. (ومن مشايخه أيضًا يوسف السجاج، وفي الحديث أبو سهل محمد

ابن أحمد بن عبيد الله الحفصي المروزي، والحاكم أبو الفتح نصر بن علي بن أحمد

الحاكمي الطوسي، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الخواري خوار طبران،

ومحمد بن يحيى بن محمد السجاعي الزوزني، والحافظ أبو الفتيان عمر بن أبي

الحسن الرواسي الدهستاني، ونصر بن إبراهيم المقدسي على قول الذهبي، وقال

غيره: لم يدركه، فهؤلاء شيوخه في العلوم الثلاثة: يعني الفقه والتصوف والحديث

أقول: وهؤلاء الكثيرون الذين سمع منهم الحديث، إنما سمعه منهم في آخر أمره

بعد أن رجع من سياحاته، ثم قال الزبيدي: ولم أطلع على أسماء شيوخه الذين قرأ

عليهم في الكلام أو الجدل، فإن عثرت على شيء بعد ذلك، ألحقت به إن شاء الله

تعالى. وأما علوم الفلسفة: فلا شيخ له فيها، كما صرح بذلك في كتابه (المنقذ من

الضلال) اهـ.

أقول: إنه أخذ الكلام والخلاف عن إمام الحرمين؛ لأنه كان من المبرزين

فيهما، وما كان للزبيدي أن يغفل عن ذلك. ولم يذكروا شيوخه في الفنون العربية:

كالنحو والصرف والبيان والأدب، ويحتمل أنه أخذ عن الراذكاني مع الفقه شيئًا من

مباديها، واعتمد بعد ذلك فيها على اشتغاله بنفسه، فقد قال عبد الغافر الفارسي

خطيب نيسابور وكان من معاصريه: إنه كان مما يعترض به عليه وقوع خلل من

جهة النحو، يقع في أثناء كلامه، وروجع فيه، فأنصف من نفسه، واعترف بأنه

ما مارس ذلك الفن، واكتفى منه بما يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يؤلف

الخطب، ويشرح الكتب بالعبارات التي تُعجِز الأدباء والفصحاء عن أمثالها، وأذن

للذين يطالعون كتبه، فيعثرون على خلل فيها من جهة اللفظ أن يصلحوه، ويعذروه

فما كان قصده إلا المعاني وتحقيقها، دون الألفاظ وتلفيقها. اهـ كلام عبد الغافر.

ونحن نرى أن كلامه في كتبه أعلى من كلام أقرانه أسلوبًا، وأحسن بيانًا،

وأشد تأثيرًا، كما نجد فهمه للكلام العربي أدق من أفهامهم، وذلك منتهى المقصد من

الفنون العربية كلها. فإذا كان الوصول إلى هذا المقصد ممكنًا مع الإقلال من

الاشتغال بالنحو، فلماذا يضيِّع العاقل الوقت الطويل في قراءة الكفراوي والشيخ

خالد ، والأزهرية والقطر والشذور وابن عقيل والأشموني وحواشي هذه الكتب، على أن كتابًا منها يكفي الطالب ما لا بد منه من النحو.

ولعل من فهم الشذور أو ابن عقيل يكون أعلم من الغزالي بنفس النحو، فعليه أن

يفكر في الطريقة التي يكون بها مع ذلك مثل الغزالي ، أو على مقربة منه في فهم

الكلام العربي، الذي وضع النحو لضبطه وللإتيان بالكلام البليغ منه قولاً وكتابةً،

ولذلك طريق غير كثرة مزاولة كتب النحو التي يضعف مثلها ملكة اللسان، كما قال

ابن خلدون، فليفكر في ذلك طلاب الأزهر الأذكياء، لا سيما من كان منهم عربي

اللسان، يسهل عليه فهم الكتب البليغة في الأدب والتاريخ وغير ذلك بالممارسة قبل

تلقي الفنون، فإن كاتب هذه السطور، قرأ كثيرًا من هذه الكتب قبل طلب العلم،

ومنها كتاب إحياء علوم الدين لصاحب السيرة.

ولكن هذا لا يتيسر للأعاجم. وقد يستدل بهذا على أن الغزالي من عشيرة عربية

بقيت محافظة على أصل لغتها، إلا ما لا تخلو عنه طبيعة المخالطة للأعاجم من

التحريف والدخيل؛ إلا أن يقال: لغة الفرس كافة كانت قد تحولت عربية في ذلك

العهد، وصار العارف بالفارسية يتلقاها بالتعلم، وهذا ما ينكره كثير من العارفين

منهم صاحبنا الدكتور محمد مهدي خان فإنه يقول: إن لغة العامة هناك في القرن

الرابع والخامس كانت الفارسية.

وقد كان الغزالي يعرف الفارسية وألف فيها ولو كان فارسي الأصل وهو من

العامة، لكانت لغته الأصلية ومثله، لا يصير بليغًا بالعربية إلا بعد اشتغال بالفنون

طويل، فبلاغته وفصاحته وسلامة عبارته من العجمة على كونه مع العامة، يرجح

كونه عربي الأصل، فهذا ما رأينا أن نبينه من سيرة حجة الإسلام في تلقي العلم

والعبرة فيها للطالبين.

تخرجه وتصدِّيه للإفادة

قلنا: إنه اشتغل أولاً بطوس وكانت مدينة آهلة بالعلم والعلماء في الجملة، وكان

يومئذ مراهقًا، ثم في جرجان وكانت فوق طوس في العلم والعمران، ثم في

المدرسة النظامية بنيسابور أعظم معاهد العلم في خراسان، وما زال فيها يختلف إلى

دروس إمام الحرمين علامة ذلك العصر الزاهر، حتى تخرج به واشتهر، وقد قيل:

إن شيخه كان يجد منه شيئًا في نفسه، وإن كان يفتخر به في الملأ كما سيأتي.

ولما توفي إمام الحرمين سنة 478، خرج الغزالي إلى العسكر وهي محلة بالقرب من

نيسابور، كان يقيم فيها نظام الملك الوزير؛ نصير العلم وكعبة العلماء، فحل من

مجلس الوزير محل القبول.

قال معاصره أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي خطيب نيسابور

في ذلك: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي حجة الإسلام والمسلمين، إمام

أئمة الدين، لم تر العيون مثله لسانًا وبيانًا، ونطقًا وخاطرًا وذكاءً وطبعًا، أخذ

طرفًا في صباه بطوس من الفقه على الإمام أحمد الراذكاني ، ثم قدم نيسابور مختلفًا

إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان من طوس، وجد واجتهد، حتى تخرج

في مدة قريبة وبز الأقران وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه، وأوحد أقرانه،

في أيام إمام الحرمين.

وكان الطلبة يستفيدون منه، ويدرس لهم ويرشدهم، ويجتهد في نفسه. وبلغ

الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وكان الإمام مع علو درجته وسمو عبارته

وسرعة جريه في النطق والكلام، لا يصغي نظره إلى الغزالي سرًّا؛ لإربائه عليه

في سرعة العبارة وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصانيف، وإن كان متخرجًا به

منتسبًا إليه كما لا يخفى من طبع البشر. ولكنه يظهر التبجح به، والاعتداد بمكانه

ظاهرًا خلاف ما يضمره.

(ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام، فخرج من نيسابور وصار إلى

العسكر ، واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول، وأقبل عليه الصاحب؛ لعلو

درجته، وظهور اسمه، وحسن مناظرته، وجري عبارته، وكانت تلك الحضرة

محط رحال العلماء، ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من

الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الخصوم اللُّد، ومناظرة الفحول، ومناقدة الكبار، وظهر

اسمه في الآفاق، وارتفق لذلك أكمل الارتفاق حتى أدت الحال به إلى أن رسم

للمصير إلى بغداد؛ للقيام بتدريس المدرسة الميمونة النظامية بها، فصار إليها،

وأعجب الكل تدريسه ومناظرته، وما لقي مثل نفسه، وصار بعد إمامة خراسان إمام

العراق.

ثم نظر في علم الأصول، وكان قد أحكمها فصنف فيه تصانيف، وجدد

المذهب في الفقه فصنف فيه تصانيف، وسبك الخلاف فجدد فيه أيضًا تصانيف،

وعلت حشمته ودرجته في بغداد، حتى كانت تغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار

الخلافة، فانقلب الأمر من وجه إلى آخر) اهـ.

المراد من كلام عبد الغافر هنا؛ ومنه تعلم أن رياسة العلوم الظاهرة، قد

انتهت إليه في سن الشباب ، حتى كان يوصف بحجة الإسلام وإمام أئمة العصر،

وهو لم يشتغل بالتلقي عن العلماء إلا بضع سنين.

أقول: إنه تخرج في بضع سنين، أخذًا مما مرَّ من أنه لم يطلب العلم من أول

سن التمييز، بل بعد عجز الوصي عليه وعلى أخيه من النفقة عليهما، ومن قوله

في أول كتابه المنقذ من الضلال: (ولم أزل منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين

إلى الآن، وقد أنافت السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر)

إلخ ما

سيأتي، وقد علم من كلام معاصره عبد الغافر، ومن كلام غيره من المؤرخين، أنه

تخرج في عهد أستاذه إمام الحرمين في مدة قليلة، وقد توفي إمام الحرمين سنة

478، وكانت سن الغزالي 28 سنة؛ أي: إنه كان متخرجًا قبل ذلك.

غرضنا من هذا التحقيق؛ تنبيه طلاب العلم إلى مسألة أرجو انتفاع أذكيائهم

بها، وهي أن طول مدة الاشتغال بالتلقي والتحصيل قلما تأتي بفائدة، بل هي

عنوان البلادة، وخمود الذهن، وخمول النفس، ودليل على فساد التعليم، وأكثر

النابغين من العلماء والحكماء لم يقيموا في معاهد التعليم، والتلقي زمنًا طويلاً. وقد

قرر هذه الحقيقية الفيلسوف سبنسر وقد كان الأستاذ الإمام بعد سنوات قليلة، يحضر

دروس بعض العلماء في علم، وبيده كتاب في علم آخر، يطالع فيه.

تربية الغزالي لنفسه وتفلسفه وتصوفه

العلوم والفنون في نفسها صناعات وآلات، يستعان بها على إصلاح اللسان

والعمل والنفس والعقل، فمن طلب فنًّا منها، كان له في طلبه ثلاثة مقاصد:

(أحدها) : أن يعرف الفن بحسب ما قاله الواضعون له، والمصنفون فيه،

اتباعًا لهم وتقليدًا.

(ثانيها) : أن يعرفه كما عرفه الواضعون بمآخذه ودلائله، بحيث يكون له فيه

رأي وحكم، لا يبالي فيه وافق الواضعين أو خالفهم، وإنما يتحرى فيه ما يراه

صوابًا.

(ثالثها) : أن يعرفه؛ ليستعمله فيما وضع له، ويجعله وسيلة للعمل. وهذا

الأخير يجتمع مع كل من الأول والثاني، وقد يوجدان بدونه ويوجد ألوف من

الصنف المعروف عندنا بصنف العلماء، قرؤوا الفنون العربية والشرعية وبعض

العقلية بالقصد الأول، ووجد كثيرون قرؤوها بالقصد الثاني، وما كان المحصلون

لثمراتها من الآخرين فضلاً عن الأولين إلا الأقلين، فكم من عالم بمسائل النحو

والبلاغة واسع الاطلاع، لم يصلح لسانه ولا قلمه فهو عاجز عن الإتيان بالكلام

الصحيح، بله البليغ الفصيح. وكم من عالم بأحكام الحلال والحرام، والفضائل

والرذائل، فاسد الأخلاق، مرتكب للمحرمات. وكم من عالم بقوانين المنطق بعجز

عن تحديد حقيقية، وإقامة البرهان على عقيدة. وكم من بارع بصناعة الحجة،

نحرير في علم الكلام، وهو فاسد الاعتقاد، أو منطو على الإلحاد، وإن لنا في

سيرة حجة الإسلام، أكبر حجة على هؤلاء الأقوام.

شرع أبو حامد في طلب العلم على طريقة أهل المقصد الأول؛ أعني

المقلدين، فأرشده رئيس العيارين الذين نهبوه منصرفه من جرجان إلى الطريقة

الثانية؛ طريقة الاستقلال، فلم يلبث أن صار إمامًا في زمن قصير؛ لأن المستقل

بنظره، يُحَصِّلُ في سنة ما لا يحصله المقلد الذي يأخذ كل ما يلقى إليه بالتسليم في

سنين كثيرة.

وما كل أحد كالغزالي ترشده كلمة يلفظها قاطع الطريق إلى مثل هذه الحقيقة

التي يجهلها أكثر المشتغلين بالعلم. وإنما يسترشد الناس بالحكمة على قدر استعدادهم

وكان استعداد الغزالي في الذروة العليا، وقد يقرأ سيرته هذه بطولها وتفاصيلها

كثيرون من طلاب العلم في الأزهر وغيره، ثم لا يخرجون من ظلمات التقليد إلى

نور الاستقلال لضعف استعدادهم.

لم يرض أبو حامد من العلم بالمقصد الثاني، الذي لا يعلو به صاحبه عن

مرتبة الصناع، بل حاول في كل علم قرأه الوصول إلى غايته، والتحقق بحقيقته،

فكما كان بالعلوم العربية كاتبًا بليغًا وخطيبًا مفوهًا، وبعلوم الكلام والفقه والخلاف

حجة على الخصم وركنًا للمذهب، أراد أن يكون هو في نفسه على يقين من كل ما

يعتقد، وأن يكون عمله ثمرة علمه، فربى نفسه لذلك تربية خاصة، ومثل هذا لا

يأتي بمعرفة المسائل والدلائل فقط، بل لابد فيه من التربية والمجاهدة، وهاك ما

كتبه عن نفسه في ذلك ملخصًا من كتابه (المنقذ من الضلال) ، قال بعد البسملة

والحمدلة والتصلية.

(أما بعد سألتني أيها الأخ في الدين: أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها،

وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين

اضطراب الفرق مع تباين المذاهب والطرق، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن

حضيض التقليد إلى يفاع الاستبصار، وما استفدته أولاً من علم الكلام، وما احتويته

ثانيًا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثًا

من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخرًا من طريقة التصوف، وما انجلى لي في

تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق، من لباب الحق، وما صرفني عن نشر العلم

ببغداد مع كثرة الطلبة، وما دعاني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول المدة، فابتدرت

لإجابتك إلى مطلبك، بعد الوقوف على صدق رغبتك، وقلت مستعينًا بالله ومتوكلاً

عليه، ومستوفقًا منه، وملتجئًا إليه.

اعلموا أحسن الله إرشادكم، وألان للحق قيادكم، أن اختلاف الخلق في

الأديان والملل، ثم اختلاف الأمة في المذاهب على كثرة الفرق، وتباين الطرق،

بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه

الناجي و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وهو الذي وعدنا به سيد

المرسلين؛ وهو الصادق المصدوق حيث قال: (ستفترق أمتي ثلاثًا وسبعين فرقة

الناجية منها واحد) [1] فقد كاد ما وعد أن يكون.

ولم أزل من عنفوان شبابي، وقد أنافت السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا

البحر العميق اقتحام الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة

وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة،

وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا

أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل

ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في

الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر

صفوته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ولا زنديقًا معطلاً إلا

وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته، في تعطيله وزندقته.

وقد كان التعطش إلى حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري، وريعان

عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي حتى

انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت على (كذا) العقائد الموروثة، على قرب

عهد بسن الصبا، إذا رأيت صبيان النصارى، لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر

وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على النهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا

على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

حيث قال: (كل مولود يولد على فطرة الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو

يمجسانه) فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة

بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي

تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات.

فقلت في نفسي أولاً: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلابد من طلب العلم

بحقائق الأمور، فلابد من طلب حقيقة العلم ما هي، فظهر لي أن العلم اليقيني هو

الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقي معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم

ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين

مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً مَنْ يقلب الحجر ذهبًا والحية ثعبانًا لم يورث

ذلك شكًّا وإنكارًا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فقال لي قائل:

(لا بل الثلاثة أكثر؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا) ، وشاهدت ذلك منه، لم

أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه. فأما

الشك فيما علمته فلا.

ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين،

فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، فليس لعلم يقيني.

القول في مداخل السفسطة وجحد العلوم

(ثم فتشت من علومي، فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة

إلا في الحسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في

اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلابد من إحكامها

أولاً؛ لأتبين أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات من جنس

أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات،

أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غاية له؟ فأقبلت بجد بليغ، أتأمل في

المحسوسات والضروريات وأنظر، هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي

طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا، وأخذ

يتسع هذا الشك فيها، ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر

وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفًا غير متحرك، ونحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة

والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه يتحرك، وأنه لم يتحرك بغتة ودفعة، بل على

التدريج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا

في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار.

هذا وأمثاله من المحسوسات، يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم

العقل، ويخونه تكذيبًا لا سبيل إلى مدافعته. فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات

أيضًا، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من

الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون

حادثًا وقديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا محالاً.

فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات،

وقد كنت واثقًا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على

تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر، إذا تَجَلَّى كذب العقل في حكمه،

كما تَجَلَّى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على

استحالته، فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت أشكالها بالمنام، وقالت: أما

تراك تعتقد في النوم أمورًا، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا، ولا تشك

في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل

وطائل، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق

بالإضافة إلى حالتك؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك،

كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نومًا بالإضافة إليها، فإذا وردت تلك الحالة

تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها، أو لعل تلك الحالة ما

يدعيها الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم ، إذا غاصوا في

أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات، ولعل تلك الحالة هي

الموت؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)[*]

فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات المرء، ظهرت له الأشياء

على خلاف ما شاهده لآنٍ، ويقال له عند ذلك: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ

حَدِيدٌ َ} (ق: 22) .

فلما خطرت هذه الخواطر انقدحت في النفس، فحاولت لذلك علاجًا فلم

يتيسر، إذا لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم

الأولية، فإذا لم تكن مُسلَّمة لم يكن تركيب الدليل، فأعضل هذا الداء ودام قريبًا من

شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال حتى

شفى اللهُ - تعالى - من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال،

ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم

دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله - تعالى - في الصدر وذلك النور [2] هو مفتاح

أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله

الواسعة، ولما سئل رسول الله عليه السلام عن الشرح ومعناه في قوله تعالى:

{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلام} (الزمر: 22) قال: (هو نور يقذفه الله

- تعالى - في القلب) ، فقيل: وما علامته؟ فقال: (التجافي عن دار الغرور،

والإنابة إلى دار الخلود) [3] وهو الذي قال عليه السلام فيه: (إن الله تعالى خلق

الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره) [4] فمن ذلك النور ينبجس من الجود

الإلهي في بعض الأحايين، ويجب الترصد له كما قال عليه السلام: (إن

لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها) [5] .

(والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب، حتى ينتهي إلى

طلب ما لا يطلب، فإن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة، والحاضر إذا طلب فُقِد

واختفى، ومن طلب ما لا يطلب، فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب.

القول في أصناف الطالبين

(ولما شفاني الله - تعالى - من هذا المرض (أي: مرض السفسطة)

بفضله، وسعة جوده، انحصرت أصناف الطالبين (أي: للحق في الاعتقاد) في

أربع فرق:

المتكلمون: وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.

والباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم، والمخصوصون بالاقتباس من

الإمام المعصوم.

والفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أصحاب المنطق والبرهان.

والصوفية: وهم يدعون أنهم خواص الحضرة ، وأهل المشاهدة والمكاشفة.

فقلت في نفسي: الحق لا يعدو أصحاب هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم

السالكون سبل طلب الحق، فإن شاء الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع؛ إذ

لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته؛ إذ من شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد

فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده، وهو شعب لا يرأب، وشعث لا يلم بالتلفيق

والتأليف، إلا أن يذاب بالنار، ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة. فابتدرت

لسلوك هذه الطرق، واستقصاء ما عند هذه الفرق، مبتدئًا بعلم الكلام، ومثنيًا

بطريق الفلسفة، ومثلثًا بتعليمات الباطنية، ومربعًا بطريق الصوفية.

هذا ما كتبه الإمام الغزالي عن نفسه، بعد أن تلقى ما شاء الله من العلم بطريق

التقليد زمنًا، وبطريق الاستقلال زمنًا آخر. وقد ذكر بعد ما تقدم فصلاً في مقصود

علم الكلام، وأنه حصله وعقله، وطالع كتب المحققين فيه، وصنف فيه ما شاء أن

يصنف، قال: فصادفته علمًا وافيًا بمقصوده غير واف بمقصودي، وبيَّن أن

مقصود علم الكلام حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة، وأن

المتكلمين اعتمدوا على مقدمات تسلموها من خصومهم، وألجأوهم إلى التسليم بها،

وهي التقليد أو الإجماع، أو مجرد القبول من القرآن أو الأخبار. قال: (وكان أكثر

خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم. وهذا قليل

النفع في جنب من لا يسلم سوى الضروريات شيئًا أصلاً، فلم يكن الكلام في حقي

كافيًا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيًا، نعم لما نشأت صنعة الكلام، وكثر

الخوض فيه، وطالت المدة، وتشوف المتكلمون إلى مجاوزة الذب عن السنة

بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها.

ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم

يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ولا أبعد أن يكون

حصل ذلك لغيري، بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة. ولكن حصولاً مشوبًا

بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات. والغرض الآن حكاية حالي، لا

الإنكار على من استشفى به؛ فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء

ينتفع به مريض ويستضر به آخر؟) اهـ.

القول في الفلسفة

ثم تكلم عن الفلسفة وما يذم منها، ويكفر منتحله، وما ليس كذلك قال: (ثم

إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا أنه لا يقف على

فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل

العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من

غور وغائلةٍ. فإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا، ولم أر أحدًا من علماء

الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم، حيث

اشتغلوا بالرد عليهم، إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار

بها بغافل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلوم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه،

والاطلاع على كنهه رمي في عماية.

فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة،

من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف

والتدريس في العلوم الشرعية، وأنا ممنون بالتدريس والإفادة لثلاث مائة نفر من

الطلبة ببغداد، فأطلعني الله - سبحانه - بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة

على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه

قريبًا من سنة، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره حتى اطلعت على ما فيه من

خداع وتلبيس، وتحقيق وتخييل اطلاعًا لم أشك فيه.

ثم ذكر أصناف الفلاسفة، وأنواع علومهم من: رياضيات ومنطقيات

وطبيعيات وإلهيات وسياسيات وخلقيات، وبَيَّنَ رأيه فيها وسنذكره. وانتقل من ذلك

إلى الكلام في مذهب الباطنية.

مذهب التعليم وغائلته

قال: (ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة، وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما

يزيف منه، علمت أن ذلك أيضًا غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاًّ

بالإحاطة بجميع المطالع، ولا كاشفًا للغطاء عن جميع المعضلات، وكان قد نبتت

نابتة التعليمية، وشاع بين الخلق تحديهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام

المعصوم القائم بالحق، عَنَّ لي أن أبحث عن مقالتهم؛ لأطلع على ما في كتبهم. ثم

اتفق أن ورد عليّ أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة

مذهبهم، فلم يسعني مدافعته، وصار ذلك مستحثا من خارج ضميمة للباعث الأصلي

من الباطن.

فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم، وكان قد بلغني كلماتهم المستحدثة التي

ولدتها خواطر أهل العصر، لا على المنهاج المعهود من سلفهم، فجمعت تلك

الكلمات، ورتبتها ترتيبًا محكمًا مقارنًا للتحقيق، واستوفيت الجواب عنها، حتى

أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم، وقال: هذا سعي لهم فإنهم

كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم؛ لمثل هذه الشبهات، لولا تحقيقك لها وترتيبك

إياها. وهذا الإنكار من وجه حق.

فلقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة،

فقال الحارث: الرد على البدعة فرض. فقال أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً

ثم أجبت عنها، فلم تأمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب،

ولا يفهم كنهه. وما ذكره أحمد حق. ولكن في شبهة لم تنتشر، ولم تشتهر. أما إذا

انتشرت، فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية. نعم ينبغي أن لا

يتكلف لهم شبهة، لم تتكلف. ولم أتكلف أنا ذلك، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من

واحد من أصحابي المختلفين إليَّ بعد أن كان قد التحق بهم، وانتحل مذهبهم،

وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم، فإنهم لم يفهموا بُعد

حجتهم فلذلك أوردتها؛ لئلا يظن بي أني - وإن سمعتها - لم أفهمها، فلذلك قررتها.

والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان، ثم أظهرت فسادها، ثم

بين ذلك ملخصًا في عدة صفحات، وليس بيان ذلك من مقصدنا، إنما المقصد سيرة

هذا الإمام وبيان كيفية تربيته لنفسه وثمرة ذلك فيها، وفيما قصد إليه من الإصلاح.

القول في طريق الصوفية

(ثم إني لما فرغت من هذه العلوم، أقبلت بهمتي على طريق الصوفية،

وعلمت أن طريقتهم، إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس

والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب

عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت

بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله،

وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد

البسطامي وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية،

وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقتهم بالتعلم والسماع، وظهر لي أن أخص

خواصهم، ما لم يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات،

فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع، وأسبابهما وشروطهما، وبين أن

يكون صحيحًا وشبعانًا، وبين أن يعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل

من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر، وبين أن يكون سكرانًا،

بل السكران لا يعرف حد السكر، وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء.

والصاحي يعرف حد السكر وأركانه، وما معه من السكر شيء. والطبيب في

حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد للصحة. فكذلك فرق

بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها، وبين أن يكون حالك الزهد

وعزوف النفس عن الدنيا، فعلمت يقينًا أنهم أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، وأنَّ

ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع

والتعلم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها،

والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم: الشرعية والعقلية، إيمان يقيني

بالله وبالنبوة وباليوم الآخر، فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان، كانت رسخت في

نفسي، لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجاريب، لا تدخل تحت الحصر

تفاصيلها، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف

النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار

الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك

لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب عن الشواغل والعلائق.

ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب

ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير

مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير

خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه، وانتشار الصيت،

فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار إن اشتغل بتلافي

الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على

الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يومًا وأحل العزم يومًا، وأُقدم فيه رجلاً،

وأؤخر عنه أخرى.

لا تصفو لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة

فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان

ينادي: الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل،

وجميع ما أنت فيه من العمل والعلم رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى

تستعد، وإن لم تقطع الآن فمتى تقطع، فبعد ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على

الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان، ويقول: هذه حالة عارضة وإياك أن تطاوعها؛

فإنها سريعة الزوال، وإن أذعنت لها، وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم

الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما

ألفت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا،

ودواعي الآخرة قريبًا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة ، وفي

هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار إذ قفل الله على لساني حتى أعتقل

عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا؛ تطييبًا للقلوب المختلفة،

وكان لا ينطق لساني بكلمة، ولا أستطيعها ألبتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان

حزنًا في القلب، بطل معه قوة الهضم، وقرم الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي

شربة، ولا تنهضم لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم عن

العلاج، وقالوا: أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا

بأن يتروح السر عن الهم الملم: ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري،

التجأت إلى الله - تعالى - التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي {يُجِيبُ

المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهَ} (النمل: 62) وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال

والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة، وأنا أوري في نفسي

سفر الشام؛ حذرًا من أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام

بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبدًا،

واستهدفت لائمة أهل العراق كافة؛ إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون الإعراض

عما كنت فيه سببا دينيًّا؛ إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين وكان ذلك

مبلغهم من العلم، ثم ارتبك الناس في الاستنباطات، وظن من بعد عن العراق

أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة. وأما من قرب من الولاة، فكان يشاهد

إلحاحهم في التعلق بي، والإنكار علي، وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى

قولهم. فيقولون: هذا أمر سماوي، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام

وزمرة العلم.

ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف،

وقوت الأطفال؛ ترخصًا بأن مال العراق مرصد للمصالح؛ لكونه وقفًا على

المسلمين، فلم أر في العالم ما يأخذه العالم لعياله أصلح منه، ثم دخلت الشام،

وأقمت به قريبًا من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة؛

اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت

حصلته من علم الصوفية، فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد

طول النهار، وأغلق بابها على نفسي، ثم دخلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل

يوم الصخرة، وأغلق بابها على نفسي، ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج،

والاستمداد من بركات مكة والمدينة، وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد

الفراغ من زيارة الخليل - صلوات الله عليه - فسرت إلى الحجاز.

ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد

الخلق عن الرجوع إليه، وآثرت العزلة أيضًا؛ حرصًا على الخلوة، وتصفية القلب

للذكر وكانت حوادث الزمان، ومهمات العيال، وضرورات المعاش، تغير في وجه

المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو الحال إلا في أوقات متفرقة. لكني مع

ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها.

ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور

لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره؛ لينتفع به أني علمت يقينًا أن

الصوفية هم السالكون لطريق الله - تعالى - خاصة، وأن سيرتهم أحسن

السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل

العقلاء، وحكم الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء؛ ليغيروا

شيئًا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلاً وإن

جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس

وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به، وبالجملة فماذا يقول القائلون

في طريقة طهارتها، وهي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى.

ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله.

وآخرها الفناء بالكلية في الله.

وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها،

وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه، ومن أول

الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة

وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتًا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من

مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، ولا يحاول معبر أن

يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح، لا يمكنه الاحتراز عنه، وعلى الجملة

ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول ، وطائفة الاتحاد ، وطائفة

الوصول ، وكل ذلك أخطاء وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب المقصد الأقصى، بل

الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول (شعر) :

وكان ما كان مما لست أذكره

فَظُنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر

وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئًا بالذوق، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا

الاسم، وكرامات الأولياء على التحقيق بدايات الأنبياء، وكان ذلك أول حال رسول

الله عليه السلام حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد، حتى

قالت العرب: إن محمداً عشق ربه، وهذه حالة يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها،

فمن لم يرزق الذوق، فيتيقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر معهم الصحبة، حتى يفهم

ذلك بقرائن الأحوال يقينًا، فمن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان، فهم القوم لا يشقى

جليسهم، ومن لم يرزق صحبتهم، فيعلم إمكان ذلك يقينًا بشواهد البراهين على ما

ذكرناه في كتاب عجائب القلب من كتب إحياء علوم الدين، والتحقيق بالبرهان علم

وملابسة ، عين تلك الحالة ذوق، والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن إيمان

فهذه ثلاث درجات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) ، ووراء هؤلاء قوم جهال، هم المنكرون لأصل ذلك، المتعجبون

من هذا الكلام، يستمعون ويسخرون، ويقولون: العجب إنهم كيف يهذون، وفيهم قال

الله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ

مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد:

16) . اهـ المراد من كلامه.

أقول: هذا ما رأينا أن نبين به كيفية نشأة هذا الإمام، وطلبه للعلم وتربيته

لنفسه، وإننا نحكي فيما يلي ذلك أثر هذا التعليم والتربية ، وما استقر عليه رأي

الرجل في العلم والدين.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم بألفاظ مختلفة.

(*) قال في الدرر المنتثرة: هو من كلام علي رضي الله عنه.

(2)

سنتكلم عن هذا النور في موضع آخر بما يزيده تألقا.

(3)

رواه الحاكم والبيهقي في الشعب، وابن مردويه من حديث ابن مسعود بلفظ آخر في أوله، وهو أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عند تلاوة الآية، كيف انشراح الصدر؟ فقال:(إذا دخل النور القلب انشرح له وانفسح)، قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: (الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور) ، وهو في الظاهر خلاف الآية فافهم.

(4)

رواه أحمد والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، وعلم له في الجامع الصغير بالصحة وتتمته:(فمن أصابه ذلك النور يومئذٍ اهتدى، ومن أخطأه ضل) .

(5)

رواه الطبراني عن ابن عباس بسند ضعيف.

ص: 502

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بغداد في القرن السادس

ومجلس شيخا الشافعية والحنابلة

رضي الدين القزويني وابن الجوزي

قال الكاتب الأديب أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي

البلنسي في رحلته الشهيرة، في الفصل الذي أنشأه للكلام عن بغداد:

(هذه المدنية العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة

الإمامية القرشية الهاشمية قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها،

وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها، والتفات أعين النوائب

إليها كالطلل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها

يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين

شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين،

فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقلية لا تصدأ، والحسن الحريمي

بين هوائها ومائها ينشأ، هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة، ففتن

الهوى منها إلا أن يعصم الله مخوفة.

وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه

عجبًا وكبرياء، يزدرون الغرباء، يظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء،

ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده

أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى

غير مثواهم كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادًا أو عبادًا سواهم، يسحبون أذيالهم أشرًا

وبطرًا، ولا يغيرون في ذات الله منكرًا، يظنون أن أسنى الفخار، في سحب

الإزار، ولا يعلمون أن فضله بمقتضى الحديث المأثور في النار، يتبايعون بينهم

بالذهب قرضًا وما منهم من يحسن لله فرضًا، فلا نفقة فيها إلا من دينار نقرضه،

وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف،

ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا

يبالون في ذلك بعيب، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب، فالغريب فيهم معدوم

الإرفاق متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش إليه

هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح

بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها، يغلب على طبع هوائها ومائها ، ويعلل

حسن المسموع من أحاديثها وأنبائها.

أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لا جرم أنَّ لهم في

طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف

والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرًا من أوزارهم،

ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم.

لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من

أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها

لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة.

فأول من شاهدنا مجلسه منهم، الشيخ الإمام رضي الدين القزويني رئيس

الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية،

حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر

المذكور، فصعد المنبر، وأخذ القراء أمامه بالقراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا

وشوقوا، وأتوا بتلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة، ثم اندفع الشيخ الإمام

المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين العلوم من تفسير كتاب الله

عز وجل وإيراد حديث رسوله صلى الله عليه وسلم والتكلم على معانيه.

ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر

ودفعت إليه عدة رقاع فيها [1] فجمعها جملة في يده، وجعل يجاوب على كل

واحدة منها، وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء، فنزل وافترق الجمع.

فكان مجلسه مجلس علم ووعظ، وقورًا هينًا لينًا، ظهرت فيه البركة والسكينة

ولم تقصر عن إرسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سيما آخر مجلسه، فإنه

سرت حميا وعظه إلى النفوس ، حتى أطارتها خشوعًا، وفجرتها دموعًا، وبادر

التائبون إليه سقوطًا على يده ووقوعًا، فكم من ناصية جزَّ [2] وكم مفصل من

مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحز، فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة

وتتغمد الجناة، وتستدام العصمة والنجاة، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن

مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه، برحمته

وكرمه إنه المنعم الكريم، لا ربَّ سواه، ولا معبود إلا إياه.

وشهدنا له مجلسًا ثانيًا إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من

الشهر المذكور، وحضر مجلسه ذلك اليوم سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة

الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهز عظيم، وتطريف آماق [3] تشوقت له

النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورًا بحضوره ومتجملاً به، فأتى

بأفانين من العلم على حسب مجلسه المتقدم الذكر. ورئيس العلماء المذكور هو صدر

الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد [4] ، المشتهر المآثر والمكارم، المقدم

بين الأكابر والأعاظم.

ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال

الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي، بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي، وفي

آخره على اتصال من قصور الخليفة، وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب

الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا

زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية

والمخصوص في العلوم بالرُّتب العلية إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة

والمشهور له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم

والنثر، والغائص في بحر فك نفائس الدر. فأما نظمه فرضي الطباع، مهياري

الانطباع. وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان.

ومن أكبر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر، ويبتدئ القراء بالقراءة

وعددهم نيف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان والثلاثة آية من القرآن يتلونها على

نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا

يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات

مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصيها عددًا، أو يسميها نسقًا. فإذا فرغوا أخذ

هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلاً مبتدرًا، وأفرغ في أصداف

الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فِقرًا،

وأتى بها على نسق القراءة لا مقدمًا ولا مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية

منها. فلو أن أبدع مَنْ في مجلسه، تكلف تسمية ما قرأ القراء به آية آية على

الترتيب، لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء

بها عجلاً، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) {إِنَّ هَذَا لَهُوَ

الفَضْلُ المُبِينُ} (النمل: 16) . فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات، ليس

الخبر عنه كالخُبر.

ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، وآيات بينات من

الذكر طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها الأنفس احتراقًا ، إلى أن علا الضجيج

وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش

على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده، فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له منهم

من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة،

ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا

لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة ، والوجهة المفلحة

الناجحة، والحمد لله على أن منَّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود

عن مثله.

وفي أثناء مجلسه ذلك، يبتدرون المسائل، وتطير إلى الرقاع، فيجاوب

أسرع من طرفة عين، وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل،

والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا إله سواه.

ثم شاهدنا مجلسًا له ثانيًا له بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر

في ساحة قصور الخليفة، ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور هو من

حرم الخليفة، وخُصَّ بالوصول إليه، والتكلم فيه؛ ليسمعه من تلك المناظر الخليفة

ووالدته، ومن حضر من الحرم.

ويفتح الباب للعامة، فيدخلون إلى ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر. وجلوسه

بهذا الموضع كل (يوم) خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا

إلى أن وصل هذا الحَبْر المتكلم، فصعد المنبر وأرخى طيلسانه عن رأسه؛

تواضعًا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا

القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاؤوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون

بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة، وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور

مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات،

ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكملها، وكانت الآية {اللَّهُ

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} (غافر: 61) فتمادى على هذا السين، وحسن أي تحسين، فكان يومه أعجب من

أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته ، وكنى عنها بالستر

الأشرف، والجناب الأرأف. ثم سلك سبيله في الوعظ كل ذلك بديهة لا روية،

ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى. فأرسلت وابلها

العيون، وأبدت النفوس سر شرفها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين،

وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس

لا تملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولا تجد للصبر سبيلاً.

ثم في أثناء مجلسه ينشد من النسيب مبرحة التشويق، بديعة الترقيق،

تشعل القلوب وجداً، ويعود موضوعها النسيبي زهدًا، وكان آخر ما أنشده من ذلك

وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام.

أين فؤادي إذا به الوجد

وأين قلبي فما صحا بعد

يا سعد زدني جوى بذكرهم

بالله قل لي فديت يا سعد

ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من

فِيْه، إلى أن خاف الإفحام فابتدر القيام، ونزل عن المغير دهشًا عجلاً، وقد أطار

القلوب وجلاً، وترك الناس على أحر من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر، فمن

معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب، فياله من مشهد ما أهول مَرْآه، وما أسعد

من رآه، نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز بنصيب من رحمته، بمنه وفضله. ثم

ذكر أنه حضر له مجلسًا ثالثًا، وأثنى عليه، وفضله على كل من رأى في الحجاز

والعراق. وفَضَّل وعَّاظ الشرق على وعاظ الغرب أهل بلاده (الأندلس) .

العِبرة في هذه الإثارة

التاريخية من وجوه

أحدها: أن بغداد لما ضعفت مدنيتها، وتضاءلت العلوم والمعارف فيها، أعقب

ذلك أهلها فسادًا في الأخلاق، وشرها في الارتزاق، وعجبًا بما كان على عهد الآباء

واحتقارًا للغرباء، وقد كانت في أيام حياتها العلمية تقدر كل أحدٍ قدره حتى كان

يجيئها الغريب، فيكون رئيس العلماء فيها، فيذعنون له، ويعترفون بإمامته.

وهذه سيرة الغزالي حجة الإسلام، حجة على ذلك، فليعتبر بذلك دعاة

العصبة الجاهلية بمصر؛ ليعلموا أن هذه العصبة من علامات الموت، لا من

آيات الحياة، ولو كان عند أسلافنا شيء من هذه العصبة، لما أصابوا من العلم

والمدنية مما أصابوا.

ثانيها: أن الزمن الذي زار فيه بغداد ابن جبير، ووصفها فيه بالانحطاط

والتأخر عما كانت، حتى تمثل فيها بقول أبي تمام: لا أنت أنت ولا الديار ديار،

هو الزمن الذي كان فيه من بقايا العلماء فيها مثل؛ رضي الدين القزويني وابن

الجوزي فمن لنا الآن بمثلها، وقد مر بك التنويه بشيء من فضلهما.

ثالثها: أن أكابر العلماء وأئمتهم، كانوا لا يزالون يعقدون مجلس الوعظ للعامة

وقد صار كبار علمائنا في أكثر البلاد يستنكفون عن الوعظ، ويعدونه مزريًّا بهم،

حتى عم الفساد، وعز تلافيه. وقد بذل الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - جهده في

إحياء هذه السنة الحسنة سنة الوعظ، والتذكير بترغب العلماء فيها بالقول، وبما

سعى من ترتيب المرتبات لها من الأوقاف. ولكن لا تكاد تجد في العلماء من له قلب

يبعثه إلى العمل، وإنا لنعلم أنه يشعرون من أنفسهم بالعجز عن الوعظ النافع،

ولو وجد الباعث النفسي، لأتقن ذلك كثيرون.

رابعها: أن وعاظ ذلك العصر، كانوا يعظون الناس بالكلام الفصيح، المشتمل

على الإشارات إلى الآيات والأحاديث ووقائع التاريخ، (وسننشر في المنار نموذجًا

من وعظ ابن الجوزي) ، وكان العوام يفهمون كلامهم ويتعظون به، وقد سمعت

خبر كثرة التائبين في مجالس الوعظ. أما الآن فقد جَهِلَت اللغة، حتى إنك لتجد

أكثر المتعلمين، لا يفهمون الكلام البليغ والأساليب العالية حق الفهم، فما بالك

بالأميين.

فوا لهفي على تلك القلوب الرقيقة، والفطر السليمة، والسير القويمة، على أن

ضعف الفاعل، قد صار أشد من ضعف القابل، فالعوام لا يزالون يفهمون بالإجمال

من الواعظ الحسن الذي يتحرى السهولة، ويراعي درجة استعدادهم ما يتعظون به

ويتذكرون.

ولكن لا نكاد نجد هذا الواعظ في الخاصة، لا لسبب؛ إلا عدم الاهتمام

بأمر العامة وغيرتهم على الدين. وقد جَرَّبْنَا وعظ العامة وتذكيرها، فرأينا من

الاستعداد ما تجزم معه؛ بأن إحياء سنة الوعظ، تحبي الدنيا، وتصلح الأخلاق في

زمن قليل.

خامسها: أن الخليفة ونساءه، كانوا في ذلك العصر يعنون بسماع الوعظ الذي

يلقى على العامة، مع شدة ما أحدثوا من التحجب الذي كان من أسباب زوال سلطتهم

واختلال أمر الأمة بكثرة السلاطين المستبدين، فأين ذلك من ملوكنا وأمرائنا اليوم

وسلطان المغرب الأقصى يعتقد كما يعتقد الجمهور من خاصته: أنه إذا قرئ

تفسير القرآن يموت السلطان، أفيرجى بقاء مملكة، يعتقد خواصها هذه الخرافة،

وما هي إلا واحدة من ألوف خرافاتهم.

وأما الأمراء المتفرنجون، فلهم أعمال من دون ذلك، هم لها عاملون،

وبها مشغولون، فماذا تقول في نساء الملوك والأمراء وعدم سماعهم شيئًا من

أمر الدين؟

وقد يقول قارئ تلك الإثارة: إن ابن جبير ذكر من فساد أخلاق أهل بغداد ما

ذكر، ثم ما عتم أن ذكر؛ أن الذين يتوبون منهم في كل مجلس وعظ كثيرون، فقد

ناقض نفسه. ونجيب عن ذلك؛ بأن الذين كانوا يسمعون الوعظ، لم يكونوا كلهم

من أهل بغداد نفسها، بل كان فيهم كثيرون من الضواحي والقرى القريبة، بل

كانت الرواحل تشد إلى أمثال هؤلاء الوعاظ من الأماكن البعيدة، كما يعلم من التاريخ

على أن كثرة التائبين والصالحين في بلد عظيم كبغداد، لا ينافي كون العصاة فيها

أكثر، أو كون المعاصي فاشية فيها.

_________

(1)

كذا في الأصل وفي نسخة الأخرى (منها) ، ولعل الأصل (فيها مسائل أو أسئلة) فسقط لفظ مسائل من الناسخ.

(2)

كان التائب في ذلك العصر يجز ناصيته وأما حز المفصل الذي بعده فهو مجاز.

(3)

العبارة غير مفهومة، ولعل فيها تحريفًا أو تصحيفًا، ولا يبعد أن يكون أصل (تطريف) تطريق بالقاف، وأن يكون استعملها بمعنى الإطراق، والجخندي بضم الجيم وفتح الخاء.

(4)

يريد بهذا التقييد كتاب الرحلة.

ص: 523

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌هلال الصوم والفطر

من سواكن السودان

س 44: عن هلال الصوم والفطر من سواكن (السودان) .

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا

نبي مستجدًّا بعده.

حضرة الأستاذ الفاضل: رب العلوم، ومعدن الفهوم، الحسيب النسيب،

السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الغراء - حفظه الله - وتولاه.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:

فقد أشكلت علينا مسألة منذ أعوام، وكثر الهرج لأجلها، فأحببت أن أقدمها

لجنابكم؛ سائلاً حلها، وإجابتي عنها جوابًا شافيًا وافيًا على صفحات المنار ليهتدي كل

من استهدى به. وذلك عند حلول رمضان وإثبات الصوم أو الفطر، حتى افترق أهل

البلدة لثلاث فرق. وإليك نبأهم بالتفصيل:

(الفرقة الأولى) : تحتج بظهور هلال رمضان، أو الفطر عيانًا في قطرها

وثبوته بالتواتر، كما هو محرر بالكتب الفقهية، فإذا ثبت هلاله صامت، وكذا

أفطرت، وإذا غم أكملت عدة شعبان ثلاثين يومًا، وهؤلاء هم فقهاء البلدة ومشايخهم.

(الفرقة الثانية) : تعتمد في صومها وإفطارها على قنابل الحكومة المطلقة؛

إيذانًا بحلول رمضان أو الفطر؛ محتجة بأن هذه القنابل لا تطلق إلا بإذن شيخ الإسلام

بعد ثبوت هلال الشهر لديه، ويصل إلى البلاد الأخرى على لسان البرق.

(الفرقة الثالثة) : تعول في صومها وإفطارها على قاعدة منسوبة للإمام

جعفر الصادق رضي الله عنه، وهي في كتاب عجائب المخلوقات للقزويني

ونصها: قال جعفر الصادق رضي الله عنه: إذا أشكل عليك أول شهر

رمضان فعد الخامس من الشهر الذي صمته في العام الماضي، فإنه أول يوم من شهر

رمضان الذي في العام المقبل وقد امتحنوا ذلك خمسين سنة فكان صحيحًا) .

اهـ من عجائب المخلوقات.

فأرجو الأستاذ إفادتي عن المسألة هذه، مبينًا وجه الحق في الاتباع، وأرجو

أن لا تحيلونا على ما مضى، إذا سبق في هذا الموضوع جواب؛ ليحق الله الحق،

ويخرجنا من ظلمة التقليد بساطع أنوار الحق التليد والسلام.

...

...

...

...

كتبه الفقير

...

...

... 23 جمادى الآخرة سنة 1325

...

...

... عبد القادر ملاقلندر البخاري

(ج) كتبنا في باب الأخبار النبوية الواردة في الصيام، فصلاً فيما يثبت به

الصيام والفطر، هذا نصه (ص814م6) ، وعدد الأحاديث فيه تابع لما قبله.

***

فصل فيما يثبت به الصوم والفطر

(7)

جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إني رأيت هلال

رمضان فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟) قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا

رسول الله؟) قال: نعم، قال:(يا بلال أذِّن في الناس أن يصوموا غدًا) . رواه

الشيخان، وأصحاب السنن عن عكرمة عن ابن عباس.

وفي رواية لأبي داود (فأمر بلالاً فنادى في الناس أن يصوموا وأن يقوموا) .

وفي حديث آخر عند أبي داود: (أن النبي عليه السلام اكتفى مرة بشهادة ابن

عمر في الصيام) ؛ وهو حجة على ثبوت الصوم بشهادة رجل واحد.

(8)

عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله

وسلم، قال: (اختلف الناس في آخر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان فشهدا عند

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالله لأهلاّ الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله

صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا) رواه أحمد وأبو داود وزاد في رواية:

(وأن يغدو إلى مصلاهم) .

(9)

قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه

فافطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له) رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه من

حديث ابن عمر.

وفي رواية البخاري وغيره: (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى

تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وفي رواية لمسلم وغيره: (الشهر هكذا

وهكذا) ، وأشار بالعقد إلى 29 و30، وفي لفظ الشيخين: (صوموا لرؤيته فإن

غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ؛ وظاهر أن الكلام في رؤية الهلال وعدمها.

ومعنى اقدروا له: احسبوا، وقدروا، يقال قدره (من بابي ضرب ونصر) وأقدره

وقدر له، وغبي هنا بمعنى غم في الروايات الأخرى؛ أي: لم يظهر. والأحاديث

نص في أن العبرة برؤية الهلال، لا بحساب الحاسبين، وتقاويم المنجمين؛ وذلك أن

هذا الدين عام للبدو والحضر، فوجب أن تكون مواقيت عباداته معروفة عند عامة

المكلفين، غير مخصوصة بطائفة الحاسبين، وجاء في بعض الروايات (وانسكوا

له) ، فمواقيت الحج تعرف برؤية الهلال أيضًا.

(10)

عن كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت

فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم

قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال: متى رأيتم

الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس،

وصاموا وصام معاوية، فقال: ولكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم، حتى نكمل

ثلاثين أو نراه: فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، قال: لا، هكذا أمرنا

رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.

الأظهر أنَّ المشار إليه بقوله: هكذا أمرنا رسول الله؛ هو قوله: لكنا رأيناه ليلة

السبت

إلخ، فإنه هو المنطوق الموافق للمروي، وقيل: إنه أشار إلى ما

يفهم من قوله من عدم اعتداد أهل بلد برؤية أهل بلد آخر، وهو غير مروي في

المرفوع، ولا هو صرح به، فنكتفي بروايته، فالراجح إذا حمل قوله على المروي

المعروف.

وقد اختلف علماء السلف فى المسألة، فقيل: يعتبر كل أهل بلد رؤيتهم بعدت

البلاد أو قربت. وقيل: لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر، إلا إذا ثبت

عند الإمام الأعظم فَبلَّغه؛ لأن أمره نافذ في جميع البلاد. وقيل: إن تقاربت البلاد

كان حكمها واحد. وإن تباعدت عمل كل برؤيته، واختلفوا في حد البعد، فبعضهم

ناطه باختلاف المطالع وهو الوجه العلمي، وبعضهم ناطه بمسافة القصر وهو قياس

فقهي، وقد رجَّح النووي وغيره من الشافعية كل واحد من القولين، وقطع بكل

منهما جماعة من الفقهاء.

ونقول: إذا اختلفت الرؤية في البلاد المتقاربة، فإن كان هناك حاكم شرعي

ورجح شهادة ، وبلغها للناس، وجب أن يعتمدوا عليها، ولا يلتفتوا إلى رؤية

الآخرين؛ لينضبط الأمر، ولا يكونوا فوضى في إقامة ركن من أركان دينهم، هذا

صائم وهذا مفطر، وإن اختلفت في البلاد المتباعدة، فهناك النظر والاجتهاد، وقد

رأيت أن بعضهم اعتبر البعد باختلاف مطالع القمر، وبعضهم اعتبره بمسافة القصر

والأول: يستلزم تحكيم علماء الفلك.

وقد ذكرنا أن غرض الشرع؛ أن يجعل ما تعرف به مواقيت العبادة عامًّا،

يعرفه العوام والخواص، حتى لا يتحكم الكبراء في المسائل الدينية، كما فعلوا في

الأمم السالفة.

والثاني: يمكن أن يتجه لو ورد حديث يذكر فيه اختلاف الحكم ببعد البلاد،

فيقال حينئذ: إن مسافة القصر هي البعد الشرعي الذي تختلف به الأحكام.

وهناك وجه آخر في البعد والقرب، ربما كان أجد بالاعتبار، وهو أن البلاد

المتصلة التي بين أهلها امتزاج وتعامل؛ كالبلاد المصرية كلها تعد بلادًا متقاربة،

ولا ينبغي أن يكون بعض أهلها مفطرًا وبعضهم صائمًا؛ بحجة اختلاف الرؤية،

فإذا ثبتت الرؤية في بعضها، يصوم الجميع، وإلا أكملوا عدة شعبان ثلاثين،

وصاموا متفقين، وما يفعلونه الآن في الأقطار الإسلامية من الإثبات في مكان،

وإعلام الآخرين به حسن في ذاته، وغير حسن ما يحتف به من البدع.

وأما البلاد التي لا صلة بينها قوية سهلة، ولا تعامل بينها إلا بمهاجرة بعض

أهلها من إحداها إلى الأخرى، فلا بأس باعتبار كل ما يثبت عنده، وإن تيسر إعلام

كل قطر الآخر بنبأ البرق الذي يؤمن تزويره، ولو كان للمسلمين إمام أعظم ينفذ حكمه

الشرعي في جميع بلادهم، وتيسر له إعلامهم بما يثبت عنده من الرؤية وصاموا بذلك

لكان له وجه من الحسن. واتجه قال ابن الماجشون) . اهـ ما في المجلد السادس،

وقد سقط من آخره شيء وأصله ، واتجه ما قاله ابن الماجشون: من أنه لا يلزم أهل

بلد برؤية غيرهم، إلا أن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم؛ لأن البلاد في حقه، كالبلد

الواحد، لنفوذ حكمه فيها. وجملة القول أنَّ العبرة بالرؤية أو إكمال العدة، فإذا

ثبتت عند الحاكم وأعلم بها الناس، عملوا بإعلامه.

_________

ص: 530

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سؤالان أو أسئلة من جاوه

عتق جميع العبيد

والإذن بتزويج المعتوقات

أرسل إليّ بعض أهالي سليبس هذان السؤالان، والتمس مني إرسالهما إليكم؛

لكي تنشروهما في المنار مع الجواب. وهما الأول في الإعتاق والإذن بالتزويج

بصيغة الجمع.

(س 45، 46) إنه لما استولت حكومة هولندا على جزيرة سليبس،

وأخذت سلطان بوني أسيرًا، كان لديه أرقاء كثيرون، وكذلك أهالي تلك الجهة لديهم

كثير من الأرقاء، فلما استولت هولندا على تلك النواحي، هرب أولئك المماليك،

وتركوا مالكيهم، فما قولكم رضي الله عنكم - فيمن أعتق أرقاءه بصيغة الجمع،

قائلاً: (إني أعتقت جميع مماليكي، وجعلتهم أحرارًا لوجه الله ذكورًا وإناثًا. وإذا

أذن المعتق بتزويج معتوقاته) قائلاً: إني أذنت لكل من يتولى عقود الأنكحة من

قضاة المسلمين أن يزوج كل معتوقة لي عند عدم وليها الشرعي، على من تريد،

فهل يكفي في كل الإعتاق والإذن بالتزويج صيغة الجمع أم لا؟ أفيدونا، ولكم الأجر

والثواب.

الثاني من صلى بالناس الجمعة

في مرض النبي صلى الله عليه وسلم

(س47) لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي به

فمن صَلَّى بالناس الجمعة التي وقعت في حال مرضه صلى الله عليه وسلم؟ ومن

الذي خطب بهم الخطبة؟ أفيدونا مأجورين.

الجواب عن السؤالين الأولين

يصح العتق بصيغة الجمع، ويتناول كل فرد، لا نعلم في ذلك خلافًا. وأما

الإذن بالتزويج، ففيه تفصيل: فإذا أرادت المعتقة أن تتزوج في بلد ليس لها فيه

ولي غير مولى العتاقة، وقامت البينة عند القاضي على ذلك الإذن، كان له أن

يزوجها، وإذا لم تقم عنده بينة طلبه، ليزوج هو.

وأما إذا كان المولى غائبًا ولا ولي سواه، فللقاضي أن يزوج سواء كان هناك

إذن أم لا، الولاية له حينئذ.

(الجواب عن السؤال الآخر)

قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرض مرض الموت في أواخر صفر أو

أوائل ربيع الأول، وقالوا: إن المرض قد اشتد على رسول الله صلى الله عليه

وسلم ثلاث ليال، وقالوا: إنه توفي حين اشتد الضحى من يوم الإثنين، وقالوا: إن

أبا بكر رضي الله عنه هو الذي كان يصلي بالناس بأمره عليه الصلاة والسلام؛ في

المدة التي لم يكن يستطيع الخروج فيها، وقالوا: إنه خرج في صبيحة يوم الاثنين،

وأبو بكر يصلي الصبح بالناس فضحك؛ سرورًا برؤيتهم، وكادوا يفتنون في

صلاتهم فرحًا به؛ إذ ظنوا أنه عوفي، وأراد أبو بكر أن يتأخر؛ ليتم صلى الله

عليه وسلم الصلاة بالناس، فأشار إليه بأن يمضي في صلاته.

وقال بعضهم: إن أبا بكر صلى في الناس سبع عشرة صلاة، ولم أر أحدًا

قال إن منها صلاة الجمعة. ورأيت في الإحياء: أن ابتداء الأذان لأبي بكر رضي

الله عنه بالصلاة بالناس كان في أول ربيع الأول، فإذا كانت وفاته صلى الله عليه

وسلم في الثاني عشر منه كما هو المشهور، فالصلوات التي أمَّ أبو بكر بها الناس

كانت متفرقة، ومنها الليالي التي اشتد بها المرض، فلا عجب إذا كان صلى الله

عليه وسلم هو الذي صلى بالناس آخر جمعة من أيام حياته الشريف.

_________

ص: 534

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العصبية الجنسية واللواء

أرسل إلينا بعض طلبة مدرسة الحقوق مقالاً من الإسكندرية عنوانه (المنار

والسياسة والدين) . ولكن موضوعه الدفاع عن صاحب جريدة اللواء، وإطراؤه

بالمدح والثناء، ومؤاخذة المنار على إنكار عليه ما أدخله في دعوة الوطنية؛ من

نزغات العصبية الجنسية الجاهلية، وإقامته الحجج على أن ذلك مناف لما قرره

الإسلام من أخوة الدين، ومن الحقوق الأخرى لكل مقيم في دار الإسلام أيًّا كان

جنسه. ذكره بذلك، ما كتبناه في الجزء الماضي ردًّا على فريد أفندي وجدي.

قال الكاتب: (أما بعد، فإن لي كلمة، يدفعني الشعور بالواجب أن أقولها لكم

وهي وإن كانت لا تتفق إلى الآن مع رأيكم، إلا أن لي ملء الثقة في أنكم لا

ترفضون كل ما يخالفكم؛ لما ناديتم بذلك كثيرًا، وشهدناه منكم غير مرة. فأنا أرسل

إليكم تلك الكلمة؛ معتقدًا أني أخدم بها الحق، كما أخدم بها المنار، فرجائي أن

تنشروها في مجلتكم، ولكم بعد ذلك أن تعلقوا عليها، ما شئتم أن تعلقوا) .

نقول: إننا لا نرفض كل ما يخالفنا، ولا ننشر كل ما يوافقنا، وإنما نختار ما

نرى فيه الفائدة من الأمرين، ومنه الانتقاد علينا في المسائل الدينية والعلمية، ممن

يبحث في المسألة نفسها، لا في اعتقاده بنية صاحبها وشؤونه الخاصة، فلو كان

الكاتب جعل مقالته في انتقاد رأينا في العصبية الجنسية؛ لنشرناها. ولكن معظمها

في بيان اعتقاده في صاحب جريدة اللواء، وما يرجوه من سعادة البلاد بدعوته،

وهو ما نعتقد خلافه.

فهو يذكر اعتقاده فيه، ويقول: (فماذا تنتقدون عليه في ذلك؟ وماذا ترون

فيه مما يخالف روح الدين؟) كأنني بانتقاد العصبية الجنسية الجاهلية عليه،

انتقدت عليه كل شيء يقوله. وقد غلا في ذلك، حتى حكم بأنني أعد المبادئ التي

تنهض بها الأمم - وهي مبادئ صاحب جريدة اللواء في رأيه مخالفة للإسلام،

وأنني أجعل الحياة الوطنية عين العصبية الجنسية الجاهلية؛ وبذلك أكون منفرًا عن

الإسلام.

وهذا غير صحيح، فما فائدة التطويل بشرح رأي غير منطبق على الواقع.

ليس في المقال دفاع حقيقي عن صاحب جريدة اللواء في موضوع العصبية

الجنسية، إلا إنكار أن تكون مما يدعو إليه، قال: لعلكم تريدون بذلك، ما يطعن

به على الدخلاء، وتحذير المصريين منهم في اللواء. إن كنتم تريدون ذلك وهو

الواقع، فما أبعد دعوته عن عصبية الجنسية؛ لأن مصطفى كامل باشا قد عرَّف

معنى الدخلاء غير مرة، وفهم ذلك عنه الكثيرون من قرَّاء اللواء فهو يعني

بالدخيل من يزج بنفسه في أهل أمة، ويسعى في ضررهم، وهو يطلق هذا اللفظ

على فئة من نصارى سوريا، رأينا من أعمالهم أنهم يحملون في صدورهم أقبح

النيات نحونا؛ سعيًا وراء مصالحهم وأهوائهم.

ثم ذكر أنه إن كان قد أدمجنا في تلك الزمرة؛ فما ذلك إلا لاعتقاده أننا نفعل

فعل تلك الزمرة، وأننا لا نخلص في فائدة الأمة المصرية، ثم استدل على ذلك

بإجلاله لبعض السوريين كرفيق بك العظم.

أقول: ليست العصبية الجنسية في اللواء مأخوذة من كلمة الدخلاء التي جعلها

هجيراه فقط، بل نرى روحه فائضة بهذه العصبية التي جعلها مضادة للسوريين

بوجه خاص، فما غاضت آونة؛ لعدم المحرك إلا وفاضت أخرى. وقد طغت حتى

تجاوزت السوريين المقيمين في مصر إلى غيرهم، كما ظهر ذلك عندما علل تألب

العساكر السورية المسوقة إلى اليمن بخسة المنبت.

وقد ظهر أثرها في الأغرار المخدوعين بجعجعة هذه الجريدة، حتى صار مثل

محمد فريد أفندي وجدي لا يسمح لمحمد رشيد رضا أن يتكلم في شؤون الأمة

المصرية، بل ولا في شؤون ملتها، ولا يجد أحدًا ينشر له هذا إلا اللواء؛ صاحب

الدعوة وناشرها. وإن مثل هذه العصبية يكون مظهرها في اللسان أقوى منه في

الكتابة، وقد سمعنا من خاصة أصدقائنا الفضلاء من المصريين أنها قد قويت، حتى

صار بعض المتعلمين، بل والمعلمين يعذلون من إخوانهم من يعترف بفضل

سوري، أو يخلص له في الصداقة ورأينا أهل الفضل والدين من المصريين يألمون؛

لطروء النزعة الجاهلية على المسلمين.

ولعل المنتقد قد قرأ ما كتبه بعض إخوانه طلاب الحقوق في بعض المجلات

المحدثة من كونهم يطلبون: بيان الدين والدفاع عنه من المصريين.

بل وصل شر العصبية إلى بعض علماء الأزهر الذين يعيشون فيه مع

طوائف المسلمين من جميع الأقطار، حتى قال أحد كبرائهم مرة عندما مدح أمامه

(مسجد الست الشامية) في موقعه ونظافته: نعم. ولكن من الأسف أنهم حشوه

بالشوام: وهو - وإن بناه الشوام، ووقفوه ووقفوا عليه - ليس فيه مستخدم شامي إلا

الخطيب الصالح الذي يقصد المسجد؛ لأجله من الأماكن البعيدة، ممن لم تفسد دينهم

عصبية الجاهلية. أتدري من هو ذلك العالم؟ إنني لا أسميه، وإنما أقول لك: إنه

صديق صاحب جريدة اللواء من علماء الأزهر الذي كان يزوره، كما يزوره هو.

بل ارتقى صاحب جريدة اللواء بهذه العصبية إلى مستوى أسمى، فصرح بأن

أمير البلاد أشار في خطبته يوم خلع على الشربيني خلعة مشيخة الأزهر إلى

وجوب خروج صاحب المنار من مصر؛ لأنه هو الغريب الذي هو غير راض عن

طريقة التعليم في الأزهر.

على أننا لو سلمنا أن اللواء لا يعني بالدخلاء الذين ينفر عنهم، ويبغض

فيهم غير فئة من نصارى السوريين، كما يرى المنتقد الحسن الظن، لما كنا إلا

قائلين بأنه مخطئ خطأ ضارًّا بالبلاد؛ لأن أول من يخطر بالبال من هذه الفئة

أصحاب المقطم، وهم لم يذهبوا مذهبهم المعروف في السياسة؛ لأجل فائدة سوريا

ومصلحتها، حتى يقال: إنه مذهب سوري، ويذم منتحله بأنه أو لأنه سوري أو

دخيل.

كلا، إنه ما ذهب أحد منهم هذا المذهب؛ لأنه سوري دخيل في البلاد

المصرية، يتعصب عليها وعلى أهلها؛ ليحول مصالحها ومنافعها إلى وطنه، وإنما

قصارى سوء الظن فيهم أن يكونوا يلتمسون بهذا منفعتهم الخاصة، فما معنى

نبزهم بلقب الدخلاء، وجعل ذلك علة لعداوتهم للمصريين؟

أليس من المقرر في علم الأصول، والمعروف عند أرباب الأذواق والعقول

أن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق؟ أليس الاسم المنسوب

من قبيل المشتقات، ولذلك يعمل عمل اسم المفعول؟ فبهذا تبين أن ترتيب الطعن

في قوم على كونهم سوريين دخلاء؛ يؤذن بأن كونهم سوريين هو علة ذلك الطعن،

وما ترتب عليه، وحينئذ يكون طعنًا في جميع السوريين من حيث هم سوريون،

وهو على كونه خرقًا وأفنًا في الرأي ضار؛ لأنه تأريث عداوات وضغائن بين أهل

قطرين متجاورين في الأرض، متساوين في اللغة والتابعة العثمانية، متقاربين في

العادات، وأكثر أهلهما مع هذا متفقون في الدين.

إن السوريين المقيمين بمصر وحدهم، لا يستهان بعداوتهم؛ فإنهم أصحاب

قوة مالية تقدر بنحو خمسين مليون جنيه، وقوة أدبية لا تحتاج إلى تعريف. وما من

أحد منهم يعد من أصحاب الرأي، والإشراف على أحوال العصر، إلا وهو يعتقد

بأن خطة جريدة اللواء تضعه من المصريين موضع العدو من عدوه. ومن هؤلاء

من هو مخالف لأصحاب المقطم في الرأي والسياسة، ومنهم من يبغضهم ويطعن

فيهم.

أي قول قال به أصحاب المقطم، وليس في المصريين مسلمهم أو قبطهم من

يقول بمثله، فما بالك بسائر الشعوب التي يوجد منها ألوف تقيم في مصر، ولهم

جرائد تخالف رأي اللواء، كما يخالفه المقطم وهي أشد خلافًا، فلماذا لا ينوط ذنبها

في رأيه، بكون أصحابها من جنس كذا، أو من بلاد كذا؟

إن كل أجنبي بمصر ، يرى جنسه أشرف من الجنس المصري، وأجل من أن

يخضع لقانونه، وهو يعمل في هذه البلاد لأمته وبلاده وما أصابه من الثروة

ينقلب به إلى أهله. والسوري يرى نفسه شقيقًا للمصري، ومساويًا له في كل شيء

وقلما يرجع سوري إلى بلاده بما كسب من مال. ولكن كثيرًا منهم جاءوا إلى

مصر بأموال عظيمة، لا سيما في هذه السنين الأخيرة.

فلأي شيء يعد اللواء ذنب الواحد منهم عارًا عليهم. وما هو الفرق بين السوري

والمصري والإفرنجي في ذلك؟ على أن جميع الأجناس صارت تشعر بأن اللواء

يدعو إلى عدوانها، بل طفقوا يعتقدون أن المصريين يبغضون كل غريب، فما أشأم

اللواء!

المنتصر للواء؛ يرى أن خطته هي التي تنجح بها الأمم، وأنه لا نجاح

بسواها، ونحن نرى ضد ما يرى، وما توسعنا في مسألة الجنسية الآن وقبل الآن؛

إلا لأنها منافية لروح الإسلام من جهة، ولمصلحة المصريين ثم السوريين من جهة

أخرى، ولو شئنا لبيَّنا تنفير هذه الخطة جميع الأوربيين من المصريين، وكيف

جعلتهم عونًا للإنكليز عليهم، بعد أن كانوا عونًا لهم على الإنكليز، وبيَّنا كيف

شغلت هذه الخطة المصريين بالسياسة العقيمة من الطريقة المستقيمة، وغير ذلك

مما ننكره على هذه الجريدة المتهورة وصاحبها. ولكننا ندع ذلك للأيام، فهي التي

تكشف للناس، كيف كانت هذه الوطنية عبارة تبغيض المصريين إلى جميع الشعوب

وكثرة الفخر والدعوى والعظمة، ولعل اليوم الذي تنكشف فيه الحقائق ليس ببعيد.

الجرائد وتاريخ الأستاذ الإمام

وصاحب جريدة اللواء

جاءتنا رسالة من الشيخ أحمد المنوفي إمام الجامع الكبير بكلكته (الهند) في

موضوع انتقادنا على بعض الجرائد فيما كتبت عن تاريخ الأستاذ الإمام، أنحى

فيها على صاحب جريدة اللواء إنحاءً شديدًا، يتعلق بسيرته وسياسته، كما أطرأه

صاحب الرسالة السابقة في ذلك. فنعتذر عن نشرها بمثل ما اعتذرنا به عن نشر

تلك؛ لأنها لا تفيد القراء وإنما تفيدنا نحن، وقد قرأناها، وإنما نذكر جملة منها

على سبيل النموذج؛ لما فيها من اعتقاد كاتبها في الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله-

لا مجازاة للواء على شتمه إيانا مرة بعد أخرى إذ لو كان غرضنا ذلك لنشرناها

برمتها. قال الكاتب في عرض الكلام على صاحب اللواء:

(ثم ازداد غلوًّا، فجعل مداد قلمه تامور المسلمين، ومهجة المصريين، لا

استغراب ما صدر منه من هذه اللفظة الشنيعة التي منشأها الغطرسة وسوء الأدب

مع أئمة الدين وقادة المسلمين، ألا وهي قوله:(تاريخ الشيخ عبده) إذ مثل هذه

اللفظة يتحاشا من كتابتها، وجعلها عنوانًا على إمام الأئمة المرحوم الأستاذ الإمام،

أقلُّ الناس أدبًا، وأشدهم تكبرًا، وأجهلهم بحقيقة نفسه، بل لا ينبغي لأديب أن

يجعلها عنوانًا على أصغر تلميذ، فضلاً عن الأستاذ الإمام.

فما بالك بصاحب (جريدة) اللواء، الذي يعتقد أنه خلَّص المسلمين وعلى

الأخص المصريين من دوكه أو أخرجهم من سَلَى جمل، وأنهم لولاه لم تقم لهم قائمة

إلخ ما قال، ومنه عدم التفرقة بين ما يكتبه صاحب هذه الجريدة، وما يكتبه خلفاؤه؛

لأنهم كما قال الكاتب: (لا يكتبون إلا ما يوافق مشربه) .

وجملة القول: أننا لا نحب البحث في مذهب جريدة اللواء، وسيرة صاحبها

في سياسته، ومشربه، ولا نحاول إقناع المعجبين بها وبه بما نعتقد فيهما؛ لأنهم

يتبعون في ذلك الإعجاب الشعور والوجدان، دون الرأي والبرهان، والوجدان

يستفزه الغلو والشذوذ؛ ولذلك نال عبد الله أفندي نديم رحمه الله من إعجاب

الجماهير، وتصفيق قلوبهم وأيديهم، ما لم يصل إلى مثله ولا إلى عشره صاحب

جريدة اللواء إلى اليوم؛ لأنه كان يقول لهم فيما يكتب يخطب: إن قذائف مدافع

الإسكندرية تصل إلى قبرص من هذه الناحية، وقذائف مدافع الآستانة تصل إليها

من الناحية الأخرى، فكيفما جالت المراكب الإنكليزية فهي تحت رحمة مدافعنا.

ومصطفى كامل يهزأ بالإنكليز، ويهددهم بما يقرب من هذا، ومتى وصل إلى مثله -

وما ذلك ببعيد - يصير إعجاب الجماهير به أشد منه اليوم؛ لأن إعجابهم يكون

دائمًا على قدر الغلو ، كما قلنا.

ولكن إذا وقع بالبلاد منتهى ما يتوقعه العقلاء من عواقب هذا الغلو - وما

وقع إلى اليوم ليس بقليل - أو إذا تدارك هؤلاء العقلاء الخطب قبل وقوعه وهم

أولو الشأن في البلاد، كما يرجى منهم، فيومئذ يعلم المغرورون أن ليس كل مخالف

للواء بعدو للبلاد، ولا بدخيل، ولا بضار، بل الضارهو اللواء، وصاحبه المتفاني

في حب الشهرة والعلو، لا في حب الوطن {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ

وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ َ} (النحل: 9) .

_________

ص: 536

الكاتب: محمد رشيد رضا

الانتقاد على محمد فريد وجدي في كتبه

(3)

كنز العلوم واللغة

نكتفي في هذا الجزء بالانتقاد على مادة واحدة من مواد كتاب كنز العلوم واللغة؛

لأن باب المناظرة لا يتسع فيه لأكثر من ذلك.

أخطأ فريد أفندي وجدي فيما كتبه في لفظ (حديث) أنواعًا من الخطأ، تدل

على أنه لا ثقة بنقله وروايته، كما أنه لا ثقة بفهمه ورأيه.

(الخطأ الأول) تعريفه الحديث في الاصطلاح، بقوله: (والحديث في

الاصطلاح، أطلق على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكلام)

وهذا غير صحيح، وهو يدل على أنه لم يتلق، ولم يقرأ شيئًا من كتب الحديث

مطلقًا، أو قرأ شيئًا قليلاً لم يفهمه، والصواب أن الحديث في اصطلاحهم ما أضيف

إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريرًا أو صفة. ويطلق كما في

النخبة على كل من: المرفوع والموقوف والمقطوع.

(الثاني) قوله: إنه لم يصح عند أبي حنيفة إلا سبعة عشر حديثًا فقط، فإن

من يعرف غير هذا العدد من الصحاح لا يعترف له أحد بالإمامة والاجتهاد المطلق

نعم، إن الرواية عن أبي حنيفة قليلة، وفرق بين ما يروى عنه، وما يصح

عنده.

(الثالث) قوله: (إنه لم يصح عند الإمام مالك إلا ثلاث مائة حديث) ،

وهذا خطأ كبير، فقد قال الحافظ ابن حجر: كتاب مالك صحيح عنده، وعند من

يقلده، على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما.

وقد نقل عن الإمام الشافعي أن الموطأ أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. نعم،

إن الشافعي قال ذلك قبل وجود صحيحي البخاري ومسلم، اللذين قدمهما العلماء بعده

على الموطأ. ولكن ذلك لم يخرج الموطأ عن كونه صحيحًا. وقد نقل السيوطي في

تنوير الحوالك عن القاضي أبي بكر بن العربي أن الموطأ هو الأصل الأول،

والبخاري هو الأصل الثاني. وأنَّ مالكًا روى مائة ألف حديث، جمع منها في

الموطأ عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة (أي العملية) ، حتى

رجعت إلى خمس مائة وعن إلكيا الهراسي كان تسعة آلاف، فرجع إلى سبع مائة.

أقول: والظاهر أن الخلاف في العدد خاص بالأحاديث المسندة، وهي كما نقل

عن الأبهري ست مائة، وعن ابن حزم خمس مائة ونيف. ومجموع الأحاديث والآثار

فيه ألف وسبع مائة وعشرون. قال الأبهري: المرسل منها 222، والموقوف

613، ومن أقوال التابعين 285، وكل ما فيه قد صح عند مالك. وإن قال بعض

المحدثين بعده بضعف قليل من رواياته، وقد نقل عنه أنه قال: (عرضت كتابي هذا

على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته الموطأ) ، فلينظر

الناظر على مبلغ علم فريد أفندي بالآثار، وجرأته على كتابة ما ليس له به علم.

(الثالث) قوله: (ولم يصح عند البخاري إلا 6200 حديثا (كذا) من أكثر

من 600.00 سمعها من الناس) .

أقول: لا ندري، أيخترع فريد أفندي وجدي هذه الأقوال اختراعًا أم سأل بعض

من يظن فيه العلم أن يكتب له ذلك، ليفتخر بعلم غيره، فكان افتخاره بالجهل.

أما المعروف المشهور في كتب الحديث، فهو أن ما في الجامع الصحيح

للبخاري هو بعض ما صح عنده، وهو بالمكرر يزيد عما قال، وبدونه ينقص،

قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: جميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات

والمتابعات سبعة آلاف وثلاثة مائة وسبعة وتسعون حديثًا، والخالص من ذلك بلا

تكرار ألفا حديث وست مائة وحديثان. ثم تكلم في إحصاء المتون المعلقة المرفوعة

بغير وصل.

ولا يتفق زعم فريد أفندي وجدي مع عد المكرر ولا مع تركه. هذا إذا فرضنا

أنه لم يصح عند البخاري إلا أحاديث الجامع، والصواب أنه قد صح عنده غيرها،

وقد صح عنه أنه قال: (لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من

الصحيح أكثر حتى لا يطول) .

(الرابع) قوله: أول من ألف في الحديث مالك في الموطأ (كذا) توفي سنة

179، وقيل: ابن جريج.

والصواب أن أول من دون الحديث ابن شهاب الزهري بأمر عمر بن عبد

العزيز كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح، ورواه أبو نعيم في الحلية عن مالك نفسه

وفي باب اكتتاب العلم من الموطأ رواية محمد بن الحسن، وعلقه البخاري

(أخبرنا مالك أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر

عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته

أو حديث عمر أو نحو هذا، فاكتبه لي؛ فإني قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء) .

نعم، إنهم ذكروا أن مالكا وابن جريج من أول من صنف الحديث مرتبًا على

الأبواب، وهذا أخص من مطلق التأليف والتدوين، فإن الذين كتبوا الحديث

على أقسام: منهم من كتب ما اجتمع له كيفما اتفق، ومنهم من رتبه على

الأبواب، ومنهم أصحاب المساند الذين ذكروا ما أسنده كل صحابي على حدة بحسب

رواياتهم، ومنهم أصحاب المعاجم الذين رتبوه على حروف المعجم.

وقد كان ممن ألف الحديث مرتبًا على الأبواب في القرن الثاني مالك بالمدينة،

وابن جريج بمكة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، والربيع بن صبيح

أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن،

وجرير بن عبد بن حميد بالري، وابن المبارك بخراسان. قال الحافظان ابن حجر

والعراقي: وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا يدرى أيهم أسبق، كذلك كتب المسند

غير واحد في عصر واحد، فاختلفوا في الأول منهم.

فلو كان فريد أفندي وجدي مطلعًا على أقوال المحدثين في ذلك، لقال: إن

مالكًا وابن جريج هما أول، بل من أول من صنف الحديث مبوبًا، كما يقال أول أو

من أول من كتب المسند نعيم بن حماد وأسد بن موسى وعبد الله بن موسى. وأنَّى

لمثل فريد أفندي وجدي أن يعرف شيئًا من هذه الفروق والدقائق، أو مثل من وصفه

بالتدقيق والتحقيق في كل ما يكتب، كبعض محرري المؤيد. على أن القول بسبق

ابن جريج لمالك أقوى من عكسه، كما أطلق ذلك غير واحد، ومنه ما في التذكرة

للحافظ ابن حجر عن الإمام أحمد أنَّ ابن جريج وابن أبي عروبة أول من صنف

الكتب.

(الخامس) قال فريد أفندي وجدي: (ثم توالت بعد ذلك المجموعات السبع

الشهيرة بكتب السنة الصحيحة وهي: مجموعة البخاري المتوفى سنة 256 هـ،

ومسلم المتوفى سنة 261 هـ، وأبو داود (كذا) المتوفى سنة 275 هـ وابن ماجه

المتوفى سنة 282 هـ، والنسائي المتوفى سنة 333 هـ والدارقطني

المتوفى سنة 385 هـ) .

أقول: إنه ذكر أن المجموعات سبع وعد ستًّا فقط، فلا نعد هذا عليه، وإنما

نعد عليه أنه ترك من الكتب الستة كتاب الترمذي، واستبدل هو به الدارقطني،

وهذا يدل على الجهل المطلق بهذا العلم، ولو ترك ابن ماجه لقلنا: إنه تركه

للخلاف فيه، وإن جرى جميع المتأخرين على عده السادس من الستة. ولكن أنَّى

لمثله، ولمن يقرظ له كتبه، فيصفها بالتحقيق والتدقيق أن يعرف هذا.

(السادس) زعمه أن ابن ماجه توفي سنة 282، والصواب أنه توفي سنة

272، وقيل 275.

(السابع) زعمه أن النسائي توفي سنة 333، والصواب أنه توفي سنة

ثلاث وثلاث مائة. فبأي شيء مما يكتب فريد أفندي يوثق.

إن كل ما كتبه في هذه المادة لا يزيد إلا قليلاً عن الصفحة، وقد رأيت أن

معظم ما هو نقلي من ذلك فهو خطأ؛ لأن منه الكلام في النسخ والوضع، وله في

ذلك عبارات لو تتبعناها وانتقدناها لفظًا ومعنى؛ لأطلنا في إحصاء ما يتعذر

إحصاؤه.

ومن قرأ قوله في آخر هذه المادة: (هذا وإننا في عصر كثر فيه النبهاء،

وأخذ كثير منا في احتذاء مثال أئمتنا في مسألة الأحاديث من الاكتفاء بالصحيح

السليم، وإن كان قليلاً، وترك المشكوك فيه، مهما كان كثيرًا) .

من قرأ قوله هذا يظن أنه هو في مقدمة هؤلاء النبهاء الذين ذكرهم. ولكنه إذا

تتبع الأحاديث التي يحتج بها فيما يكتب، يرى أنه يشكك في أصح الروايات؛

كأحاديث الشفاعة. ويعتمد في الأكثر على الأحاديث المشكوك فيها، أو المقطوع

بضعفها أو وضعها، وهو لا يعلم. وسنبين ذلك في فصل مستقل إن شاء الله.

_________

ص: 541

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(لباب الخيار في سيرة المختار)

ألف الشيخ مصطفى الغلاييني البيروتي مختصرًا في السيرة النبوية سماه بهذا

الاسم، وطبعه طبعًا جميلاً على ورق حسن، ضبط فيه بالشكل ما رآه مما يشتبه

فيه غير العالم، فكانت صفحاته 82 صفحة، وهو أسهل المختصرات، وأقربها إلى

إفادة التلاميذ المبتدئين والعوام.

ذكر في أول هذا المختصر أن الإسلام قام، أو نشر بالدعوة لا بالسيف، وقسم

حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أدوار: ما قبل البعثة، وما بعدها إلى

الهجرة، وما بعد الهجرة، وذكر المسائل والغزوات دون السرايا، ونبَّه على

مواضع العبرة في كثير من المواضع، وختم المختصر بأحاديث من الحكم وجوامع

الكلم بلغت 221 حديثًا، رتبها على حروف المعجم. وثمن النسخة من هذه السيرة

قرشان صحيحان ما عدا أجرة البريد، وتطلب من مكتبة المنار بمصر.

***

(فلسفة الإسلام ومدنية القرآن)

كتاب جديد يؤلفه أحمد أفندي بدوي النقاش أحد ضباط الجيش المصري في

سكة الحديد السودان. وقد طبع الجزء الأول منه في مطبعة الآداب والمؤيد.

وقد يتعجب القارئ من نسبة كتاب في الفلسفة إلى ضابط مصري، لا سيما إذا

كان عالمًا بحال التعليم في المدرسة الحربية المصرية، وأنه تعليم صناعي ليس فيه

شيء يرقي الفكر، حتى إن دراسة التاريخ، قد ألغيت من هذه المدرسة منذ سنتين،

ولا ترى جريدة من الجرائد المبالغة في انتقاد نظارة المعارف، تنتقد ذلك على

نظارة الحربية.

نعم يتعجب القارئ من تأليف ضابط مصري كتابًا في فلسفة الدين، ولا يذهب

بتعجبه إلا تذكر تفاوت استعداد البشر، فإن في الضباط المصريين أفرادًا من

المغرمين بقراءة كتب العلم والدين والتاريخ والمجلات الدينية والعلمية.

ومؤلف هذا الكتاب من المستعدين للفلسفة، ويا ليت تربيته لم تصرفه عما خلق

مستعدًّا له إلى غيره.

قرأنا مسائل من الكتاب، فرأيناها نتائج فكر دقيق، جاءت من كل فج سحيق،

بعضها جلي وبعضها خفي، لم تقو العبارة بيانه.

ومن مباحث الكتاب؛ طبيعة الفكر الإنساني، والإرادة والعقل، وحرية

الإنسان واستقلاله بوجود الله، والفلسفة الإلهية، وإيصال القرآن إلى السعادة وغير

ذلك.

***

(الدليل - في موارد أعالي النيل)

كتاب جديد كبير الحجم والفائدة صنفه بالإنكليزية السر وليم جارستن مستشار

نظارة الأشغال العمومية بمصر، ونقله إلى العربية إبراهيم منصور بك رئيس

الترجمة في هذه النظارة، وطبع بمطبعة المعارف طبعًا في منتهى الحسن، وهو

يشتمل - كما كتب في طرته - (على مطالب التعديل والإصلاح. ويليه نبذة لجناب

المستر ديبوي مفتش عموم ري السودان، شرح فيها خبر رحلته إلى بحيرة نسانا

وأنهار السودان الشرقي. وفي درج الكتاب رسوم جمة، وله ملحقات) .

نقول: أما الكتاب فهو قسمان وخاتمة، وفي القسم الأول منها 12 فصلاً في

الكلام على بحيرة فكتوريا وبحيرة ألبرت أدور وبحيرة ألبرت وهي ينابيع النيل

وأصوله، وعلى نيل فيكتوريا والنيل الأعلى المعروف ببحر الجبل، وعلى البحرين

الأبيض والأزرق وهما فرعا النيل العظيمين وغير ذلك.

والقسم الثاني في (تصرفات الأنهار وممكنات المشاريع) وفيه فصلان.

وأما الملحقات ففيها فوائد كثيرة في مشروعات، ومباحث مهمة، كتعلية حبس

أسوان، ومشروعي وادي الريان وفرع رشيد. وأما الرسوم فيه فهي 46 رسمًا،

وهناك رسوم أخرى كثيرة منها الملون، كخرائط الجغرافية، ومنها غير الملون

وهي في غاية الإتقان.

ومن خدمة اللغة في هذا الكتاب أن مترجمه بالعربية، قد فسر في هوامشه

الألفاظ التي احتاج إلى استعمالها فعني بالبحث عنها ووضعها في مواضعها ولم تكن

مستعملة عند كتاب العصر، كالمساك بوزن سحاب، وهو مكان من النهر تتراصف

إليه حطامة الأغصان، ورفاض الحطب والعشب وغيرها فتحبس ماءه وتعوق

سيره، ويعرف بالسد. وكالمفجرة بوزن المتربة قال: وهي أرض تطمئن وتنفجر

فيها أودية، وبالتخصيص فجوة ما بين جبلين، وهي الفجة والوادي والغور. وهو

يفسر أيضًا كل ما يرد في الكتاب من الاصلاحات والدخيل.

وأسلوب الترجمة عربي فصيح، قلما تجد لأحد من كتاب هذا العصر

ومترجميه مثله، وإن لم يخل من بعض ما ينتقد على نابغيهم، وهاك هذا النموذج

منه في الكلام على بحيرة ألبرت:

(أما بحيرة ألبرت فالحادثات فيها على خلاف ما تقدم. ولكن لا مرد لوقوعها

وفعلها أكيد. ذلك أن منالج جبل رونزوري والفواعل الجوية فيه، تؤدي إلى تحات

جوانبه على الدوام وتفتتها، وكل ما ينساب منها من الرفاض [1] تجترفه السيول إلى

أخاديد [2] ومضايق ذاهبة به إلى نهر سملنكي، وهو يرمي بها إلى بحيرة ألبرت،

ومعها مقادير من الطين التي تجتلبها مياهه من أنحائه العليا.

هذا وانحدار النهر عند الطرف الجنوبي لبحيرة ألبرت يقل، فتخف بذلك

جريته، فتصبح مياهه - وليس لها قوة دافعة - تستاق تلك المواد، فتستقر جميعًا في

بطاح البلاد المجاورة. وعليه فقد كونت رواسب الأجراف [3] في الأطراف الجنوبية

من بحيرة ألبرت سهلاً بسيطًا من الأرض يتداخل شيئًا فشيئًا بمياه هذه البحيرة، فيرفع

منسوب قاعها، ولا تزال هذه الرواسب تعمل هذا العمل على التوالي. ومثل ذلك

يعمله بحر فيكتوريا في الطرف الشمالي للبحيرة، فهو يلقي بإبليزه وأجرافه في

البحيرة فتضيق.

فنشكر لواضع الكتاب خدمته لهذه البلاد، ولمترجمه خدمته لها وللغتها، بما لم

يخدمها أهلها.

***

(هذا يلاشي تلك)

لفيلسوف شعراء فرنسا أو شاعر فلاسفتها فيكتور هيجو أو هوجو، (أو الاسم

بالغين أو الكاف بدل الجيم، على ما نرى عليه المعربين والمترجمين من الخلاف)

مقال عنوانه: (هذا يلاشي تلك) ، وصف فيه مباني الأقدمين وفخامتها كالأهرام

وقصر الكرنك وعمود السواري والبادثيون والبالثيون ذهب خياله في فلسفة

اجتماعية دقيقة، فجعل ذلك رمزًا للسلطة الروحية والسياسة التي استعبد البشر بها

الكهنة، والملوك وبين أن اختراع المطبعة الذي سهل نشر العلم بين جميع الناس

يلاشي تلك السلطة ويذهب العلم بالكنيسة. وانتقد على ذلك بعض الكتاب وحاول بيان

أن المطبعة لم تعدم الكنيسة، بل خدمتها ورد عليه المترجم ثانية، نشر ذلك في جريدة

البصير، ثم طبع على حدته.

***

(مطمع الفصحاء)

كتاب ألفه الشيخ علي فؤاد المنوفي في شيء سماه الإنشاء وجعله عشرة أقسام:

في رسائل الود والشوق، والعتاب والاعتذار، والقطيعة والاستعطاف، والرجاء

والشكر، والتعازي والتهاني. وأودعه أربع مقامات، وجعل له شرحًا أكبر منه،

وإن شئت فقل: إنه صنف كتابًا آخر، جعله هامشًا له وسماه شرحًا، وإن كان أكثر

ما فيه ليس بشرح، ولا مناسبة بينه وبين المشروح في معنى الأصل. مثال ذلك

شرحه للبيت الآتي:

إني لأبصر من أفعالها عجبًا

الوصل يغضبها والصد يرضيها

فإنه لا يبين المراد من البيت في شرحه، وإنما يتكلم عن أقسام الفعل في

الصرف، فيذكر المجردة والمزيدة، والملحقة والسالمة، والمضاعفة والمهموزة

وغير ذلك.

كذلك شرحه للبيت الآخر:

أكتم الوجد والآلام تظهره

هيهات هيهات ذو طب يداويها

فإنه لا يذكر في شرحه إلا نحو صفحتين في أسماء الأفعال، كأنه يشرح كتابًا

في النحو والصرف.

قال المؤلف في فاتحة كتابه: (وكل ما فيه من المنشآت ابتكاري، كما أن

بعض ما به من الأبيات اختياري) .

يعرف المرء باختيار وجمع

ودليلي على الأديب اختياره

ونقول: إنه ليس فيه شيء من الابتكار، وهاك هذا النموذج مما فيه من

المنظوم والمنثور، وهو ما قاله في أول قسم الاستعطاف بعد أبيات لغيره.

(مهما في التجني علي أفرطت، وأذقتني بصدك الهوان، فروحي لمودتك

أوهبت، يا إنسان كل إنسان) .

لله أشكو غرامي

وما أعاني وألقى

قطعت حبل ودادي

ولم أخن لك حقا

وبي تبدلت غيري

فالله خير وأبقى

لكن.. عهدي بجميل خصالك، وقوفي على سبب هجرانك.

لئن كان بالسلوان عني عواذلي

لكم حدثوا والله قد كذبوا بما

عن الحب والعهد القديم وودكم

وحق الهوى ما ضل صاحبكم وما

لمهجتي الشجو أورثت، ولعيني السهد وهبت، وإلى الأرق بعثت، وللبي قد

روعت.

فزاد اشتياقي وقل اصطباري

ولم أستطع في هواك الهجوع

فؤادي أسرت قيادي ملكت

أما آن عفوك عن صادق

سميع مطيع مشوق ولوع

حذار العذول كتمت وجدي

يا خير مأمول عدمت رشدي

فمن علي يرد الجواب

وحقك إني به لقنوع

دامت لك علياك، ولا أعدمني الله محياك والسلام) اهـ.

ولا يحسبن القارئ: أننا تعمدنا نشر أدنى ما في الكتاب بعد البحث عنه، بل

هذا من أحسنه، فإن أساء بنا الظن، أوردنا له أبياتًا كتب بها إلى صديق آخر،

وهي:

أيا من فاق أهل العصر طرًّا

بما أبداه من شرف الطباع

أسأت إليك فاستوحشت مني

وأبدلت التواصل بانقطاع

فصرت أقارع الأهوال ضنكًا

وأنتف شعر رأسي من مجاعي

وأصرخ في (الشوارع والحواري)

بأصوات كأصوات الضباع

وأزري دمع عيني فوق خدي

ومن أسفي أعض على صباعي

ولما أن رأت عيناي موتي

وأن الروح مني في النزاع

أتيت إليك معترفًا بذنبي

ورجلي فوق كتفي بانخضاع

أؤمل فيك أنك تعف عني

لأنك بحر جود ذو اتساع

فألقني بفضلك ثدي عفو

لأشفي القلب منه بالرضاع

هكذا جاءت هذه الأبيات في الكتاب، فلا تظن أن مطبعتنا حرَّفت فيها أو

صحفت.

ههنا يقول القارئ: ما بال المنار أطال فى الكلام على هذا الكتاب، وخالف

عادته في مثله، وأنا أقول له: إن السبب في ذلك التعريف بمكانة كتاب كتب

مصنفه في أوله؛ أنه ورد إليه 26 تقريظًا له من أكابر العلماء وأفاضل الشعراء،

وذكر منها تقريظًا للشيخ سليم البشري الذي هو شيخ المالكية اليوم، وكان شيخ

الأزهر بالأمس يشهد فيه للكتاب بأنه مفيد ونافع.

وتقريظًا للشيخ محمد بخيت الحنفي المشهور، يقول فيه: (وبعد، فقد اطلعت

على كتاب مطمح الفصحاء، بل مرتع البلغاء، فوجدت من بحور الأدب درر

منظومة في سلوك الذهب، تزري بقلائد العقيان في نحور الحسان، كيف لا، وقد

حوى من النثر أغلاه، ومن الشعر أعلاه، فجزا (كذا) الله مؤلفه أحسن الجزاء،

وأكثر من أمثاله النبلاء، وجمل به وجه هذا الزمن، ونفع بمؤلفه الأمة والوطن

آمين) .

وقد كان حظه من كبر الجرائد كحظه من أكابر العلماء، فإن جريدة المؤيد

قرظته تقريظًا؛ جعلته في منتهى البلاغة.. أَفَيُلامُ المنار بعد هذا كله؛ أن أطال القول فيه.

***

(نخب من مبتكرات مكسيم غوركي)

مكسيم غوركي من كتاب الأمة الروسية، قد اشتهر بما كتب من المقالات

والرسائل في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وله أسلوب رشيق، وكثيرًا ما يبرز

المعاني في قوالب الوقائع. وقد اختار سليم أفندي قبعين. وهو من أدباء السوريين

العارفين باللغة الروسية؛ أربع مقالات لهذا الكاتب وترجمها بالعربية وطبعها،

فبلغت صفحاتها ثمانين صفحة ونيفًا. عنوان المقالة الأولى: (الملك الرافع اللواء)

وعنوان الثانية: (أحد ملوك الجمهورية)، وعنوان الثالثة:(فرنسا الجميلة) ،

وعنوان الرابعة: (اليهود) وثمن هذه النخب 3 قروش صحيحة.

***

(غرائب الأسرار - جاسوس الألزاس)

غرائب الأسرار: قصة مؤلفة من أجزاء، ترجم الجزء الأول منها؛ واسمه

(جاسوس الألزاس) حسن أفندي موسى (ضابط بالاستيداع) . فأما وقائع الجزء

فهي تكاد تكون في غرابتها من الخوارق أو الشعوذة، وفيها من الرموز والأسرار ما

يشوق النفس إلى الجزء الثاني؛ لنقف على حل تلك الرموز، وكشف هاتيك

الأسرار.

وأما الترجمة فهي أقرب إلى العامية منها إلى العربية الصحيحة. وصفحات

الجزء الذي طبع 112، وثمنه خمسة قروش.

***

(الفضيلة والرذيلة)

قصة أدبية غرامية، من تأليف جورج أونيه أحد كتاب الفرنسيس، وترجمها

بالعربية محمد أفندي كرد علي منشئ مجلة المقتبس، وأحد محرري المؤيد.

وموضوعها علم الأدب (الكتابة والشعر) ، والأدباء في فرنسا، فهي مساجلات

ومنافسات بين نفر من الأدباء والأدبيات، وقلما تجد شيئًا من ذلك في الكتب

المترجمة بالعربية، فالقصة تفيدك ما لا تكاد تعرفه من كتاب آخر في أخلاق الأدباء

وعاداتهم، ومكانة الأدب عندهم، وتأثيره فيهم. وقد طبعت القصة بمطبعة الشعب،

وتطلب من مكتبتها، وثمنها 15 قرشًا.

***

(المجرم البريء)

قصة فرنسية الأصل، ترجمها محمد أفندي كرد علي؛ لمجلة مسامرات

الشعب. وطبعت في أربعة أجزاء من أجزائها، وهي على كونها قصة غرامية،

تشرح للقارئ مسألة شرعية قانونية من أهم المسائل؛ وهي الاعتماد على القرائن

القوية في إثبات الجنايات والحكم بمقتضاها، والخلاف في ذلك معروف، فمن لا

يبيح الحكم بالقرائن، يقول: إنها قد تكون قطعية في الظاهر، وهي لا حقيقة لها

في الواقع، وهذه القصة تؤيد هذا القول، فهي تمثل لك في أولها رجلاً عدا على

آخر في بيته فقتله، وأخذ ما أخذ من ماله، وكان المال قراطيس لا معدنًا، وقد رآه

من داره وهو متلبس بقتل جاره كل من؛ زوجه وبنته وخادمتهما، وكان ذلك ليلاً.

والأنوار في بيت القتيل متألقة، ولما عاد إلى داره، وكان قد تأخر خلافًا لعادته،

عاد شعثًا مضطربًا، ولم يستطع النوم سبيلاً، ولما اتُّهم كان مما ظهر في التحقيق

أن الأوراق المالية التي فقدت من القتيل وجدت في صندوقه، وهو لم ينكر ذلك.

والحق أنه لم يكن هو القاتل، وأن هذه القرائن والدلائل وغيرها مما لم نشر إليه كلها

شبهات، تشرح القصة حقيقتها بعد شرحها بالإسهاب.

***

(محمد علي)

قصة تاريخية غرامية في محمد علي باشا، من أول نشأته إلى أن استقر له

أمر الحكم في مصر، ألِّفت بالألمانية، وترجمت بالإنكليزية، ثم ترجمها عن

الإنكليزية بالعربية نسيب أفندي المشعلاني بطلب إدارة الهلال، وعلى نفقتها طبعت

ومن مكتبتها تطلب. وقد سلك مؤلف القصة في بيان نشأة محمد علي مسلكًا فلسفيًّا

بيَّن فيه أنه قد أُوْتي منذ صغره الاستعداد الفطري للرياسة وجاءت الحوادث مربية

لهذا الاستعداد، حتى بلغ منتهاه. والقصة في جملتها مفرغة في قالب مقبول،

ونسقها معقول غالبًا، يقل فيها الغلو المنتقد؛ كَزَعْم الانتقال من قرب دمنهور إلى

قرب الأهرام في صحراء الجيزة في ليلة، أو بعض ليلة.

***

(الجامعة الإسلامية وأوربا)

رسالة لرفيق بك العظم المشهور بمباحثه التاريخية والاجتماعية، سننشر

بعض فصولها في الجزء الآتي من المنار. إن شاء الله تعالى.

***

(الأمين والمأمون)

هي الحلقة الحادية عشرة من سلسلة القصص الغرامية التاريخية، التي يؤلفها

جرجي أفندي زيدان وينشرها في الهلال (وتشتمل على ما قام بين الأمين والمأمون

من الخلاف بعد وفاة والدهما الرشيد، وقيام الفرس لنصرة المأمون، حتى فتحوا

بغداد، وقتلوا الأمين، وأعادوا الخلافة إلى ابن أختهم (المأمون) ، ويتخلل ذلك

وصف دخائل السياسة بين العرب والفرس، وما يقتضي المقام ذكره من الآداب

الاجتماعية والعادات والأخلاق) .

ومما يشرحه فيها؛ أن الفرس كانوا معتصمين بالعصبية الجنسية، متعمدين

إزالة الملك من العرب وجعله فيهم، وإقامة خليفة من العلويين، يكون آلة دينية في

أيديهم، وأنَّ الكثيرين منهم كانوا يظهرون الإسلام ويخفون المجوسية؛ ليتمكنوا من

مخادعة المسلمين عربهم وفرسهم. فذكرنا هذا بالعصبية الجنسية التي محاها الإسلام

وأماتها، فأحياها بعض المنافقين، فكان من شرها ما كان ويريد إحياءها فى هذا

العصر بمصر باسم الوطنية بعض المفتونين بالشهرة، فنسأل الله أن يقي الإسلام

والمسلمين شرها؛ لأن التفريق في هذا العصر ينتهي بهلاك جميع المسلمين، لا

بتغلب جنس منهم على جنس آخر، كما كان من قبل.

***

(رحلة ابن جبير البلنسي الأندلسي)

نشرنا في هذا الجزء أثارة تاريخية من هذه الرحلة وسننقل غيرها، وهي

رحلة جليلة ذات فوائد جمة، طبعها ثانية العالم المستشرق كوريج في هذا العام طبعًا

متقنًا على ورق جيد، وناهيك بإتقان الإفرنج وعنايتهم بالضبط، وما يضعونه

للكتب من فهارس الأعلام والمواضع التي تسهِّل المراجعة والاستفادة. وأهدى إلينا

نسخة منها مجلدة تجليدًا حسنًا، فنشكر له نشره آثار سلفنا، وخدمته هو وأمثاله

للغتنا.

***

(الصراط)

مجلة جديدة تطبع في الإسكندرية، وقد كتب عليها: (مجلة أخلاقية أدبية

علمية تاريخية، تصدر في الشهر مرتين بمعرفة جمعية محامد الأخلاق

بالإسكندرية قيمة الاشتراك سنويًّا عشرة قروش صاغ، ولتلامذة المدارس خمسة

قروش) وهي قيمة قليلة، وإن كانت صفحات الجزء من المجلد لا تزيد

على عشرين صفحة فنتمنى أن يكون هذا الصراط موصلاً إلى الفوائد النافعة.

_________

(1)

رفاض الشيء: (كغراب قشارته وما تحطم منه فتفرق) .

(2)

جمع أخدود؛ وهو الحفرة المستطيلة في الأرض.

(3)

أجراف: جمع جرف (بالضم) وجرف (بضمتين) ؛ وهي ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض (المعرب) .

ص: 545

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(المسألة المراكشية وحرب الدار البيضاء)

كتبنا في السنة الأولى للمنار نصيحة فيه لسلطان مراكش؛ أنذرناه فيها بأن

طوفان أوربا لابد أن يفيض على بلاده، فيغمرها إن لم يبادر هو إلى إصلاح شأنها

بما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم، لا سيما تعليم الفنون العسكرية والمالية.

ثم كنا نعيد النصائح والنذر مرة بعد أخرى، وآخر عهدنا بها ما كتبناه في أيام

انعقاد مؤتمر الجزيرة من العام الماضي {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَاّ

يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) بالأسباب والمسببات وسنن الله تعالى في الأمم، وإنما

يعتمدون في دفع الضر، وحفظ المصالح على الخوارق، وكرامات الأولياء مع

ما درجوا عليه من التقاليد والعادات، لا يقبلون وراء ذلك إصلاحًا، ولا يبتغون

بدونه فلاحًا، وقد سبق لنا بيان التجائهم إلى قبر مولاي إدريس، وجؤار أهل العلم

الديني عنده بكلمة يا لطيف؛ ليدفعوا بذلك ما طلبته فرنسا من السلطان يومئذ

فليرجع إلى ذلك في المجلد الثامن من أراد.

مرت الأيام والسنون، وأهل هذه البلاد {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن} (التوبة: 126) أو مرات {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} (التوبة: 126) من تفريطهم

وغرورهم {ولا هم يذكرون} (التوبة: 126) ، ما حل بأمثالهم من الأمم

والشعوب الجاهلية بحال هذا العصر ورقي أممه، وما يجب من إعداد القوة

لمدافعتها إذا عدت بحسب الاستطاعة، وعلى قدر ما هي عليه من الاستعداد،

وكل ذلك مما يرشد إليه الإسلام، ويفرضه بنص القرآن.

ولكن أين أولئك الجاهلون من الإسلام والقرآن، وهم يعتقدون أن قراءة تفسيره

تميت السلطان، وحياته عندهم أولى من إحياء القرآن، ثم ماذا تفيدهم قراءته إذا

كانوا يعتقدون أن الاهتداء به من الاجتهاد الممنوع بحكم شيوخ التقليد الجامدين، وأنَّ

الدِّين لا يؤخذ إلا من كتب الفقهاء الميتين، كما يفهمها أصحاب الجاه من الشيوخ

الحاضرين، وهم يرون أن العلوم والفنون والصنائع التي تصنع آلات القوة، كالبنادق

(ويسمونها المكاحل) والمدافع والبوارج الحربية كلها محرمة، لا يجوز للمسلمين

الاشتغال بها، كما يرى ويعتقد ذلك أشباههم من أصحاب العمائم في أكثر بلاد

المسلمين، وبذلك أضاعوا الدنيا والدين وكانوا سبب هلاك المسلمين.

مرت الأيام والسنون، فدخلت (مسألة مراكش) ؛ أي: مسألة محاولة أوربا

استعمارها والاستيلاء عليها في طور جديد، فقد اعتدى بعض المغاربة على العُمَلة

الأوربيين في مرفأ الدار البيضاء، وهي من حواضر مملكة مراكش، ففتح بذلك

لفرنسا باب استعمال القوة في هذا الثغر، فدخلت منه، وذلك ما كانت تبغي.

أصبحت فرنسا مع قبائل المغرب في حرب تعددت وقائعها، فالقبائل تهاجم

الدار البيضاء، فتلاقيها العساكر الفرنسية بمدافعها، ومن ورائها البوارج تساعدها

بمدفعها، فتمزق شمل القبائل، وتنسفهم في الهواء نسفًا. ولكن الفرنسيين قد دهشوا

من شجاعة المغاربة واستبسالهم، فسلطوا عليهم عسكرهم من مسلمي الجزائر؛

لعلمهم بأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وقد ترك المغاربة الهجوم إلى حيث تنالهم مدافع

البحر.

مهما عظمت شجاعة المغاربة، فإنها - والجهل قائدها - لا تكفي لحفظ

استقلال البلاد، ولا تدفع عنها ما تريد فرنسا منها، فإن الجهل لا يغلب العلم،

والاختلال لا يعلو النظام، فإذا كان أهل المغرب الأقصى أسودًا، فإن العقلاء من

البشر قد عهد منهم التصرف في الأسود وحبسها في بلاد ما هي مواطنها، وما

عهد أن تعيش فيها وجعلها مع ذلك في مواضع النزهة، يأنس برؤيتها حتى

النساء والولدان.

نعم، ينتظر أن تتعب فرنسا في تذليلهم، كما تعبت في الجزائر، ولكن العاقبة

للمتقين كما قال الله تعالى، والتقوى تفسر في كل مقام بحسبه، فهي تفسر في باب

الحرب والصدام باتقاء أسباب الانكسار والخذلان، ولا شك أن فرنسا هي المتقية ما

يجب اتقاؤه في هذا المقام، بالتدبير التام، وإعداد ما تستطيع من قوة، كما أمر الله

تعالى.

ومن التدبير الذي يتخذه العقلاء ولا يدري به الجهلاء - وهو من قبيل السيل

يضرب جلمودًا بجلمود - إيقاع الشقاق بين الزعماء في المغرب. وما وقف ذلك عند

حد الخارجين على السلطان والمحاربين له، بل قامت طائفة عظيمة من الأمة فبايعت

بالملك مولاي حفيظًا (أو عبد الحفيظ) أخا السلطان عبد العزيز بفتوى من العلماء،

فصار في البلاد سلطانان سيحارب كل منهما الآخر، فيكفون فرنسا شر قوة البلاد.

يظن كثير من الناس أن السلطان عبد العزيز سيلجأ إلى فرنسا؛ لتحفظ له

سلطانه، وتكفيه شر أخيه، كما لجأ توفيق باشا إلى إنكلترا في إبان الثورة العرابية،

وبذلك تحتل فرنسا بلاد مراكش احتلالاً رسميًّا يسمى موقتًا، وتعمل عملها فيها باسم

السلطان، كما تحكم تونس باسم الباي، وهذه هي الطريقة التي استقر عليها رأي

ساسة أوربا في استعمار بلاد المسلمين؛ لأن حكمهم باسم أمرائهم وملوكهم أقرب إلى

السلام، وأبعد عن النزاع والخصام.

إنه ليحزننا؛ أن نرى مملكة إسلامية في الشقاء الذي أحاط بمملكة مراكش،

ولا يسرنا أن تبقى على ما هي عليه، أو على ما كانت عليه، إذا كان ما انتابها

الآن مبدأ للانتقال من حال إلى حال.

وإنه ليحزننا؛ أن يكون انتقالها بقوة الأجانب، لا بتدبير رجالها وحكمتهم.

ولكننا لا نرى منفذًا لخيط من خيوط أشعة الرجاء في أولئك الرجال الجهلاء، فيا

طالما نصحنا لهم، وأنذرناهم البطشة الكبرى {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (القمر: 36) ،

بل كان مثلنا ومثل سائر الناصحين معهم {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَاءً

وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) .

إن أهل العقل والعلم من طلاب الإصلاح للمسلمين، تتمنى قلوبهم لو يدوم

لسلطنة مراكش استقلالها، ويتحول طوفان أوربا عنها، حتى يكون إصلاح حالها

من نفسها ولو بعد حين. ولكن عقولهم تحكم بأن هذا شيء لا مطمع فيه، وتدرك أن

من العدالة العامة في الأكوان، ومن سنن المبدع في اجتماع الإنسان أن يقذف بالحق

على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. (راجع سورة الأنبياء من 18: 21) وأن

الأرض يرثها عباد الله الصالحون؛ أي: لعمارتها. (راجع آية 105 من السورة

المذكورة) ولا شك أن العلم بالنظام، وبطرق العمران، وتأمين السكان من الحق،

وهو مما يقوم به الأوربيون، وأن ما عليه المغاربة من ضد ذلك هو من الباطل،

وأن الأوربيين يعدون بالنسبة إلى المغاربة من الصالحين لاستعمار الأرض الذي

امتَنَّ الله علينا به، كما قال - تعالى - {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) ، فكان الكتاب العزيز مؤيدًا لحكم العقل في وجوب زوال استقلال

المغاربة، وكل دولة لا تحسن الاستعمار ولا تقيم النظام، إلا أن تتوب وتقيم

الميزان بعد الاستعداد له بما تقتضيه حال الزمان. ولا يظهر صدق الآية الكريمة في

إرث الأرض إلا بهذا التفسير، ولنا فيه سلف صالح فهو منقول لا مخترع.

إن حُكم الفرقان والقرآن بأن دول العلم والنظام والاستعمار هي التي تسود على

دول الجهل والخلل والإفساد في الأرض، هو الذي يخفف من ألم حسرة العقلاء على

زوال استقلال دول المسلمين، ولا أقول: دول الإسلام، فإن من يقضي القرآن

بزوال دولته لا تكون دولته إسلامية. ولكن قد تكون مسلمية، وبهذا نبرئ الإسلام

بحق من مناقضة أصول العمران العلمي، ونجعل ذلك على أعناق المسلمين.

* * *

(غرور متعلمي اللغات الأوربية)

إن أصحاب العقول الصغيرة من متعلمي اللغات الأوربية، يتخيلون أن كل من

تلقف لغة منها، صار من العلماء الأعلام والحكماء المرشدين للأنام. ولكن هؤلاء

المتعلمين يعدون بالألوف، ولا نكاد نجد واحدًا منهم في الألف يفيد أمته بكتاب

يفضل به غير العارفين بهذه اللغات، وإننا نرى أكثر ما يكتب كاتبوهم في الجرائد

أو غيرها، في منتهى السخف وضعف الفكر؛ والسبب في هذا أن اللغة الأوربية

وسيلة للعلم، وليست هي عين العلم، ولا عين العقل الذي لا علم بدونه ولا فهم.

إذا وجد في متعلمي هذه اللغات أفراد كفتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين لهم

آثار في الترجمة والتصنيف؛ تدل على أنهم استفادوا من اللغة الأوربية علمًا

وبصيرة، فإنه يوجد فيهم ألوف ما يستفيدوا إلا الغرور والتبجح والدعوى، ومنهم

من أضاع ثروته الموروثة، وأهان نفسه وذوي قرابته بسوء سيرته، وما كانت

اللغة الأجنبية التي يعرفها إلا عونًا له على إضاعة ماله وشرفه، ثم هو يفاخر باللغة

وعلومها، ويحتقر علوم العربية من دينية وغيرها، ويحط من قدر أهلها.

للأستاذ الإمام آثار جليلة كتبها قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية كمقالات

الوقائع المصرية ومقالات العروة الوثقى، وقد كان ما يكتبه بعد تعلم هذه اللغة

أدل على كثرة الاطلاع والسعة في العلم، ولكن هل يوجد في هؤلاء الألوف من

المتعلمين من يستطيع أن يكتب مثل تلك المقالات التي كان العالم يهتز لها حتى

أن إنكلترا ذات الحرية الواسعة منعت العروة الوثقى من مصر والهند. ولا

غرو فإن العقول التي وسعت دائرة العلوم باللغات الأوربية حتى صارت هذه اللغات

تتعلم لأجل ذلك يوجد مثلها في الأمة العربية وفي غيرها من الأمم. وقد كان

السيد الكواكبي غير عارف باللغات الأوربية ولكن ما كتبه في الاستبداد لا يوجد في

فلاسفة أوربا كثيرون يكتبون أحسن منه أو مثله بل الذين يعرفون لغات أوربا

وليس لهم من علومها سهم يعتد به.

وما لي لا أضرب لهؤلاء المغرورين الأمثال إلا بمن ماتوا، فهذا رفيق بك

العظم فليأتونا بكثير من مثله من متعلمي اللغات الأوربية، وهذا صاحب جريدة

المؤيد، لا يختلف عاقلان في تفضيل ما يكتبه وهو لا يعرف لغة أجنبية، على ما

يكتب صاحب جريدة اللواء العارف باللغة الفرنسية.

فليخفض المغرورون برطانة اللغة الأجنبية من غرورهم، فإن الناس تتفاضل

بالعقول لا باللغات، فذو العقل الكبير قد يقتبس العلم من الوجود، كما اقتبسه جميع

الفلاسفة، وإن للعاقل الشرقي من موارد العلم الغربي كتبًا كثيرة ومجالات مترجمة،

يستفيد منها ما لا يستطيع صاحب العقل الصغير أن يستفيده من ينابيعها وأصولها.

نعم. إن صاحب العقل الكبير إذا اطلع على تلك الأصول يكون أوسع علمًا منه

قبل الاطلاع عليها، وإن الأمم الشرقية لا تستغني عن طائفة من الأذكياء يَنْفرون؛

لاقتباس تلك العلوم من لغاتها ونقلها إلى قومهم، كما أنها لا تستغني عن طائفة يحيون

لغتها وعلومها الدينية والأدبية والتاريخية، ولا يجوز تفضيل أفراد إحدى الطائفتين

على الأخرى؛ لأن كلاًّ منهما يخدم الأمة بما لابد لها منه، فإن جاز التفاضل، كان

تفضيل من يشتغل لإحياء الأمة بمقوماتها الأصلية من اللغة والدين والعلوم، على من

يجلب لها علومًا من غيرها أظهر؛ لأن فقد العلوم الأجنبية عنها نقص، وفقد مقوماتها

الذاتية موت وفناء.

فهل بقي بعد هذا البيان من عذر لبعض الأغرار المفتونين بما لقفوا من العلم

الناقص بلغة أجنبية، في تنقيص العلماء بدينهم ولغتهم وتاريخهم، إذا كانوا لا

يرطنون معهم بتلك اللغة.

على أن وراء العلم الذي تعد اللغات وسائل له أمرًا آخر؛ هو مناط الإفادة

بالعلم لمن يحصله، وهو مكارم الأخلاق؛ كالصدق والإخلاص والاستقلال والعزيمة

والشجاعة والعفة، وغير ذلك من الفضائل، فإذا أغضينا عن الذين يتعلمون بعض

لغات العلم، ولا يستفيدون من العلم نفسه إلا حثالة من قشوره، ونظرنا في حال

الذين يقال: إنهم أوتوا نصيبًا من العلوم، نجد الكثيرين منهم قد شغلتهم شهواتهم

وأهواؤهم، عن بث ما استفادوا في قومهم، وعن الاستزادة منه، وعن العمل به

على الوجه النافع. فالعلم لأمثال هؤلاء كالسيف في يد المجنون يخشى ضره، ولا

يرجى نفعه للأمة.

***

(حياة المعارف في مصر)

دخلت المعارف بمصر في حياة جديدة على عهد سعد باشا زغلول، فأسس

مدرسة القضاء الشرعي التي وضع مشروعها الأستاذ الإمام، وستفتح أبوابها

للطالبين الذين نجحوا في الامتحان في الشهر الآتي، وهذه أعظم خدمة للإسلام في

هذا العصر، وأعاد التعليم المجاني وجعل من المزايا لمن يتعلمون فن التعليم ما

يرغبهم فيه؛ ككونهم يتعلمون مجانًا، ويتغدون في المدرسة، ومنهم من يأخذ مرتبًا

شهريًّا؛ وهم أصحاب القسم الثاني من تلاميذ مدرسة المعلمين الخديوية، وأرسل

البعوث إلى أوربا؛ لتلقي العلوم العالية في إنكلترا، وبثها في البلاد بعد عودتهم

فائزين- إن شاء الله تعالى - وهذه البعوث أكثرها من الذكور وبعضها من الإناث،

وقد انتقد إرسال بعض البنات إلى أوربا من اتخذوا تقبيح أعمال الحكومة؛ دلائل

على حبهم للوطن وأهله؛ لعلمهم أن السواد الأعظم لا يزال من الجهلة الذين يعدون

تعليم البنات من المنكرات، فهم يحتجون على قبح إرسال البنات إلى أوربا؛ بكونه

مخالفًا لرأي الأمة، ولو أن الحكومة اتبعت رأي الأمة من عهد محمد علي إلى اليوم

لما تعلم أحد من أبنائها ولا بناتها كلمة في غير تلك الكتاتيب القديمة والأزهر.

إن جميع عقلاء الأمة العارفين بما ينفعها ويضرها متفقون على أن تعليم البنات

ركن من أركان الحياة، أو شرط لحصولها أو كمالها. نعم إنهم يختلفون في قدر ما

ينبغي أن تتعلمه البنات، ورأي كثير من المعتدلين أن التعليم الابتدائي كاف لهن،

وأنه لا حاجة أو لا ضرورة إلى تعليمهن لغة أجنبية.

ولكن هذا الرأي خاص بالتعليم العام، وهو لا يعارض وجوب تمييز من تتعلم؛

لتكون معلمة في المدارس على سائر المتعلمات، فإن من لا يتجاوز علمها ما يلقى في

المدارس الابتدائية، لا تصلح أن تكون معلمة فيها. ثم إننا مادمنا عالة على الإفرنج

في علومنا ومدنيتنا، وما دام أمر حكومتنا ومنها إدارة معارفنا في أيديهم أو تحت

إشرافهم، فلابد لنا من معلمين ومعلمات من أهل العلم الأوربي الذين يتلقونه من

معدنه عن أهله بلغته، حتى لا تقوم علينا حجة القوم بأنه ليس فينا أكفاء يتولون

التعليم لا سيما تعليم البنات. فإرسال بعض البنات اللواتي يرغبن هن وأولياؤهن بأن

يكن معلمات في المدارس إلى أوربا؛ لتلقي العلوم فيها هو الوسيلة إلى إغناء نظارة

المعارف عن المعلمات الأوربيات لا وسيلة سواها، وينبغي أن يخترن من البيوت

التي حسنت تربيتها بالدين والأدب.

على أن الأمة إذا صارت فيها الحياة المعنوية سريانًا تامًّا، فإنه لابد أن يوجد

فيها من البنات، من ينهض بهن استعدادهن إلى تلقي العلوم العالية، وليس من

اعتدال المعتدلين أن يُمنع هؤلاء من ذلك، بعد العلم بصدق الرغبة وقوة الاستعداد،

فقد كان في الأمة الإسلامية أيام حياتها الأولى كثيرات من المشتغلات بالعلوم الكمالية

التي هي من فروض الكفايات، التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، حتى رواية

الحديث بالأسانيد والتصدي للتحديث.

***

(خطبة الشيخ محمد شاكر وتنديده بلورد كرومر)

أرسل إلينا الشيخ محمد شاكر شيخ علماء الإسكندرية خطبته؛ التي قرأها في

مجمع الاحتفال بتوزيع المكافآت على نجباء الطلبة، فإذا هو قد اقتبس في فاتحتها

معنى بعض آيات الجهاد، وإذلال الله الجبابرة للمجاهدين، وإيراثهم أرضهم

وديارهم، حتى كأنها خطبة قائد جيش، فتح أو يحاول فتح الممالك، وقد بيَّنا

رأينا في الخطبة من خمس جهات - كونها من عالم رسمي، وكونها من رجل يعد

من بطانة الأمير والمقربين منه، وكون التنديد بكلام لورد كرومر تأخر عن وقت

الحاجة، وكونه جاء بعد تصريح اللورد بأنه لم يرد فيما كتبه عن مبادئ الجامعة

الإسلامية الدين الإسلامي نفسه، فهذه أربع، والخامسة قيمة كلام الخطبة في نفسه

وهل يصلح دفعًا للشبهات التي تضمنها كلام اللورد على الفقه الإسلامي كما قال،

أو على الإسلام كما يريد الشيخ شاكر وأمثاله؟ ولكن هذا الجزء لم يتسع لما كتبناه،

فأشرنا إليه بهذه الكلمات.

_________

ص: 554