المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ربيع الآخر - 1325ه - مجلة المنار - جـ ١٠

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (10)

- ‌المحرم - 1325ه

- ‌فاتحة السنة العاشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌قيمة الاشتراك في السنة العاشرة

- ‌اللائحة الثالثةمن لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية

- ‌تمثيل القصص أو التياترو

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌صفر - 1325ه

- ‌الهوى والهدىأو اللذة والمنفعة [*]

- ‌سنن الاجتماعفي الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم

- ‌إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج

- ‌فتاوى المنار

- ‌التعليم الديني

- ‌كلمة إنصاف واعتراف

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌استقالة اللورد كرومر وتقريره

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌ربيع أول - 1325ه

- ‌تاريخ المصاحف(2)

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق [*]

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌تشبيه كتاب الإحياء بالقرآن

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌إخلاص ابن سعود

- ‌ربيع الآخر - 1325ه

- ‌خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

- ‌أسئلة من بعض أهل العلم بتونس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌المشروبات الروحية وتأثيرها

- ‌آراء الناس في مكاتبتنا مع لورد كرومر

- ‌حادثة دمياطفي طي الأرض، تقبيل أعتاب القبور، صناديق النذور

- ‌جمادى أول - 1325ه

- ‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

- ‌الأشربة الروحية

- ‌أسئلة من الحجاز

- ‌استفتاء عن الكشف الطبي على الميت

- ‌أسئلة من الهند

- ‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌بدعة غريبة في مصر

- ‌جمادى الآخر - 1325ه

- ‌العسر المالي والربا والبنوك

- ‌أسئلة من القاهرة عن الربا

- ‌الجنة والنار

- ‌القسم برب موسى وعيسى وإبراهيم

- ‌مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

- ‌رجب - 1325ه

- ‌بغداد في القرن السادس

- ‌هلال الصوم والفطر

- ‌سؤالان أو أسئلة من جاوه

- ‌العصبية الجنسية واللواء

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1325ه

- ‌السنوسية والجامعة الإسلامية [*]

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌أبو حامد الغزالي(2)

- ‌أثارة من التاريخ

- ‌نموذج من إنجيل برنابا(2)

- ‌فتاوى المنار

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رمضان - 1325ه

- ‌نموذج من إنجيل برنابا(3)

- ‌بحث في المؤتمر الإسلامي

- ‌النسخ في الشرائع الإلهية

- ‌خطبة إسماعيل بك عاصم المحامي

- ‌أبو حامد الغزالي(3)

- ‌المؤتمر الإسلامي

- ‌رزيئة مصر بحسن باشا عاصم

- ‌الاحتفال بالعقد الأول من عمر المنار

- ‌شوال - 1325ه

- ‌الماديون والإلهيون [

- ‌التدوين في الإسلام

- ‌إصلاح الأزهر

- ‌الأحزاب في مصر

- ‌أوربا والإسلام

- ‌أعمال حسن باشا عاصم

- ‌رزيئة مصر بحسن باشا عبد الرازق

- ‌أقوال الجرائد اليومية في الاحتفال بالمنار

- ‌ذو القعدة - 1325ه

- ‌كتابان سياسيان لحكيم الإسلامالسيد جمال الدين الأفغاني [*]

- ‌كتابان سياسيان للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

- ‌نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية

- ‌حياة اللغة العربية

- ‌أوربا والإسلام

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌شيء من سيرة حسن باشا عبد الرزاق

- ‌مصائب الأمة الإسلامية بفقد رجالها

- ‌ذو الحجة - 1325ه

- ‌خطاب الشيخ أحمد الإسكندري في اللغة العربية

- ‌رأي كبار ساسة الغرب في الحركة المدنية الجديدةفي الشرق

- ‌أبو حامد الغزالي(4)

- ‌تعريف وكلام عام في العربية والاستعرابوالتعريب والإعراب [*]

- ‌رأي الشيخ أحمد المنوفي في الإصلاح ورجاله

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌نادي دار العلوم الخديوية

- ‌ترجمة فقيد الإصلاح ذكاء الملك

- ‌فاجعة أدبية

- ‌خاتمة المجلد العاشر

الفصل: ‌ربيع الآخر - 1325ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة العاشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم أنبيائه، وعلى

آله وصحبه، وأهل وداده وقربه، وعلى كل عبد مصطفى من جميع الورى، أما

بعد: فإن المنار قد دخل بهذا الجزء في سنته العاشرة، فقطع مرحلة الأعداد المفردة،

ووقف بباب الأعداد المركبة، فكان نموه، وثباته، وتغذيه بما يحفظ عليه حياته،

وقوته على دفع عوارض العلل التي تواثبه، ومقاواته لما يناهضه ويناصبه؛ آيات

بينات على أنه كائن حي، يرجى أن يبلغ منتهى العمر الطبيعي، الذي يكون لمثله

بالاستعداد الموهوب والمكسوب، وتوفيق الله المطلوب، وبإسعاد محبي الإصلاح

الذي يدعو إليه، والحق الذي يناضل دونه، وما إسْعَادهم إلا الدعوة به وإليه،

والنصيحة له، والدفاع عنه، فالدعوة حياة المذاهب في الفلسفة، والسياسات،

والأديان، وكل ما يرتقي به شأن هذا الإنسان، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ

وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .

المنار يدعو جميع المسلمين بكتاب الله إلى سعادة الدارين: بتقويم فطرة الله،

ومعرفة سنن الله، وينهاهم به عن التفرق في الدين، ويأمرهم بالاعتصام بحبله

المتين، فالدين والفطرة صنوان، والشريعة والطبيعة شقيقتان، فمُنزِّل القرآن، هو

مُنْزِل الفرقان والميزان، وواضع الشريعة هو خالق الطبيعة؛ فالقرآن هداية

وعرفان، وعروج بالأرواح إلى الروح والريحان، بالعبودية المؤدية إلى رضا

الرحمن، والانتهاء باضطراب أمواج النزعات البشرية إلى مستقر السكينة

والاطمئنان، {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) .

والفرقان عقل يفرق بين الحق والأباطيل، ويدرك أسرار الخليقة وفقه التنزيل،

فهو المخاطب بإقامة الشريعة، وهو المطالب بالتصرف في الطبيعة، فيأخذ منها

بقدر اجتهاده، على حسب استعداده، والميزان عدل عام، في الأخلاق والأفكار

والأحكام، به ينفذ حكم القرآن والفرقان، حتى يلتئم شمل الإنسان؛ فيعطي كل ذي

حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه، وإن لربه عليه حقًّا، ولنفسه عليه

حقًّا، ولزوجه عليه حقًّا، ولأهله عليه حقًّا، ولقومه عليه حقًّا، ولأمته عليه حقًّا،

ولمجموع الناس عليه حقًّا، فالقرآن يهدي إلى الحقوق ويبين، والفرقان يفرق

بين المتشابهات ويعين، وإنما القسمة بالميزان، وبالثلاثة تكمل فطرة الديان،

فالقرآن كتاب مسطور، وضياء ونور، وبالفرقان نقرأ وندرس، ونجتلي ونقبس،

وبالميزان نعمل بالعلم، ونقوم بالقسط، ومن شذ عن هذه الثلاثة فلم يهتد بالنقل

والعقل، ولم يخضع لسلطان العدل، فقد أنزل الله لعلاجه الحديد، الجامع بين

المنافع والبأس الشديد، فيؤدب بقوة السلاح، حتى يستقيم أمر الإصلاح {وَلَا

تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا

يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} (الإسراء: 33) .

{الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ

يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 1-4) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا

رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ

بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} (الحديد: 25) ؛ فهذا بيان للناس؛ بأن بناء معاشهم،

ومعادهم، يقوم على أربعة أركان: الكتاب، والعقل، والعدل، والقوة، وهي

هي القرآن والفرقان، والميزان، والحديد. وقد هدم التقليد الأربعة الأركان، استبدل

بها قول فلان وفلان، أسماء سماها المقلدون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.

فأما ركن الكتاب فبزعمهم أن فهمه، والاهتداء به خاص بنفر يسمون

المجتهدين، وأنهم انقرضوا وقد عقم الزمان عن مثلهم إلى يوم الدين. وأما ركن

الفرقان فيما أهملوا من الحكمة العقلية والدينية، والعلوم النظرية والعملية. وأما ركن

الميزان فبإباحة الاستبداد لذوي السلطان، وتحتيم طاعتهم، ولو في الإثم والعدوان.

وأما ركن الحديد: فبالإعراض عن الأعمال الصناعية، وما تتوقف عليه من

الفنون الرياضية والطبيعية، فمتى يثبت لشعوبهم ودولهم بنيان، وقد هدموا

جميع هذه الأركان، وفسقوا عن هداية القرآن، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا

مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .

فالمنار يدعو المسلمين إلى إقامة الأركان الأربعة باسم الإسلام، من حيث

يحتجون على هدمها بالإسلام. وإنما إقامتها أن يكون أمر الأمة بأيدي أهل القرآن

العرفاء، وأصحاب الفرقان الحكماء، ومقيمي الميزان في السياسة والقضاء، وحملة

الحديد لمدافعة الأعداء ومنع الاعتداء، وهؤلاء الأصناف هم: أولو الأمر، الذين لم

يجب أن يرد إليهم كل أمر، وهم أهل الإجماع الجديرون بالاتباع، وهم أحل الحل

والعقد الذين ينقضون ويبرمون، ويحلون ويعقدون، وهم أهل الشورى الذين

ينصبون الخلفاء والأمراء، ويضعون الأحكام في السياسة والإدارة والقضاء، وعلى

هذا أراد النبي تربية المؤمنين واتبعه بقدر الاستعداد الخلفاء الراشدون، وبترك هذا

حل ما حل من البلاء بالمسلمين {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ

لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .

بهذه الأركان الأربعة كان الإسلام دين الفطرة، والهادي بسنن الشريعة إلى

كمال سنن الطبيعة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا

تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)

فالمسلم من يقيم دين الله، بإقامة سنن فطرة الله، ومن يجمع بين العلم بما أنزل

الله، والعلم بما خلق الله، ويفقه الاتفاق بين قوله:{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس: 64)، وقوله:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30) ، ومن ذهب إلى

التفريق بين دين الله وفطرته، وزعم أن العلم بكتاب الله لا يتفق مع العلم بخليقته،

فقد جهل الخالق والخليقة، والشريعة والحقيقة، وكان حجابًا دون الإيمان، يصد

عنه أولي العلم والعرفان، فما بال من يزعم أن العلم والدين ضدان، أولئك أعداء

القرآن، وأولياء الشيطان {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً

مُّبِيناً} (النساء: 119){يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} (النساء: 120) .

أيحسب هؤلاء الهائمون في أودية الأوهام؛ أن هذا الشيء الذي يسمونه فقهًا

هو الإسلام؟ أليس أصل هذا الإسلام هو القرآن؟ أليست السنة من قبيل العمل به

والبيان؟ فما بالهم قد حصروا الدين فيما لم يحفل بأكثره الكتاب، ولم يفصل فيه

شيء مما وضعوا له من الفصول أو فتحوا من الأبواب؟ أرأيتك كم سورة أو آية

نزلت في أحكام البيع والإيجار، والكفالة والحوالة والجعالة والإقرار، والمساقاة

والمزارعة، والشفعة والوديعة والرهان، والحجر والصلح والغصب والضمان؟ بل

أين ما أكثرتم من أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس؟ وما أطلتم به من الكلام

على الطهارة والطهارات والأنجاس؟ وما جئتم به في جميع العبادات من الرأي

والقياس؟ هل أنزل الله في ذلك كله عشر معشار ما أنزل من الأمر بالنظر في

المخلوقات، واجتلاء آياته في الأرض والسموات من تصريف الرياح والبحار،

وتفجير الينابيع والأنهار، وإنبات الحدائق والجنات متشابهات وغير متشابهات،

وتسخير الدواب والأنعام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، ونصب الجبال

كالأوتاد، وبناء السبع الشداد، ورفع السماء ووضع الميزان، وجعل الشمس والقمر

بحسبان؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ

عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ

سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا

مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} (الفرقان: 45-49) .

فكيف تحصرون جميع أمور الدين، فيما سكت عنه الكتاب أو أجمله أو فوضه

إلى المستنبطين، وتجعلون ما فصل الإرشاد إليه، وجعل المعوَّل في معرفته تعالى

عليه، هو الذي يأتي بنيانه من القواعد، ويقتلع أصول أحكامه والعقائد، أليس هذا

منتهى التفريط في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء؟ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ

تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ

إِلَاّ كُفُوراً} (الفرقان: 50) .

إذا شغلك الفقه عن آيات الله التي بين يديك، فهل يصح أن يشغلك عن آياته

في نفسك التي بين جنبيك، ألم يرشد القرآن إلى السير في الأرض؛ لاستطلاع

العبر؟ ألم ينبئك بسننه في نظام البشر، ألم يهدك إلى أنه- تعالى -لا يهلك

المصلحين؟ وإن كانوا في العقيدة مشركين، وأنه لا يبقي على الظالمين، وأن

العاقبة للمتقين، فما لك لا تعد من هذا الدين معرفة تواريخ الأمم الغابرة، واختبار

أحوال الأمم الحاضرة، ومعرفة الأقطار والبقاع، والعلم بشؤون الاجتماع، أليس

هذا من إقامة القرآن، واستعمال الفرقان والميزان؟ أليس قد أنزل الثلاثة لترقية

شأن الإنسان؟ فكيف تشغلك أحكام حركات الأبدان، ومعاملات الأقران، عن حكم

الديان، في الأناسي والأكوان؟ {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا

مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً

فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الفرقان: 53-54) .

ألا ليت الذين يجعلون هذا الفقه معظم الدين، عنوا به بعض عناية أهل

القوانين، فطابقوا بينه وبين مصالح الناس، من جميع الشعوب والأجناس، وقربوه

من الأفهام، وأبعدوه عن الأوهام، إذًََََََا لبقي لهم ذكرًا وشرفًا، ولم تجد حكامهم عنه

منصرفًا، وها نحن أولاء، نراهم قد نسخوا أحكامه السياسية والمدنية والجنائية، ولم

يتركوا للمسلمين إلا ما يعتقدون من الأحوال الشخصية، وهل كانت أحكام فقهائهم فيها

مرضية، أم تتألم الحكومة منها، وتتألم الرعية؟ ألا إنهم قد نَفَّرُوا الناس من الفقه

والدين، ولولا الجرايات والعسكرية؛ لأعرض عن ممارسة كتبهم أكثر هؤلاء

الشراذم المقبلين، ولو رجعوا إلى هداية القرآن، وأقاموا الفرقان والميزان، وتركوا

التقليد وأحسنوا الحديد، لولَّوا عن هذه الكتب نفورًا، وأوتوا الحكمة {وَمَن يُؤْتَ

الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) {وَإِذَا

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} (الإِنسان: 20) .

إن بعد رجال الدين عن علوم القرآن والفرقان؛ والميزان والحديد، وجمودهم

على ما أوجبوه على أنفسهم من التقليد، جعلهم بمعزل من الزعامة، وحرمهم مقام

الأسوة والإمامة، فلم يبق لهم شيء من الأمر والنهي، وباتوا لا يقصد إليهم في

الاستشارة والرأي، ولا يستفتون في إدارة المصالح ودرء المفاسد، ولا يعتمد عليهم

في نظام التربية والتعليم في المدارس والمكاتب، فَقلَّتْ بعدم الثقة بهم ثقة الناس

بالدين، وكثر الفسق في الجاهلين والكفر في المتعلمين، انحلت رابطة جامعته

الجنسية، وكادت تنفصم عروة أخوته الروحية، وأنشأت الشعوب تتعصب لجنسيتها

الجاهلية، في الأنساب واللغات، والأوطان والجهات، يتسللون منه لِوَاذًا ويفارقون

الجماعة أفذاذًا، فسهل على الأجانب تخطفهم شعبًا شعبًا، وانتقاص بلادهم قطرًا

قطرًا، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} (الإسراء:

41) .

اللهم قد ثقلت علينا الأوزار، فأحاطت بنا النوائب والأخطار، ولا نكاد نرى

فينا علماء يدعون إلى القرآن، ولا حكماء يرفعون شأننا في علوم الفرقان، ولا

حكام يقيمون القسط بالميزان، ولم نشكر نعمتك بإنزال الحديد، ففاتنا معظم ما فيه

من المنافع والبأس الشديد، بل لم نشكر لك شيئًا مما أنزلت علينا، فأنزلت بسنتك

العادلة ما أنزلت بنا.

اللهم إنك تعلم أن مثار بلائنا، ومنشأ ضعتنا وشقائنا، لا يرجع إلى الأجراء

والزُّراع، وإلى السوقة والصناع، ولا إلى الصعاليك والرعاع، اللهم إنك تعلم أن

مثاره سادتنا المستبدون، وكبراؤنا المترفون، 33: 67 {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا

سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .

اللهم إننا أطعناهم مضطرين أو جاهلين، لا مختارين ولا متعمدين، وقد

أيقظنا بلاؤك من رقدتنا، ونبهتنا سنتك من سِنَتِنا، فأنشأنا نفكر في إقامة ما أنزلت

من البينات والهدى، والشكر لك على ما آتيت من المواهب والقوى، بإرشاد

المقلدين، وإرجاع المستبدين {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ * رَبَّنَا

لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة:

4-

5) {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن

لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} (الإسراء: 80) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

السيد محمد رشيد رضا الحسيني

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان في الدين، حافظتان لجميع

الفرائض، ومرغبتان في جميع الفضائل، وتركهما معصيتان كبيرتان، مسهلتان

للفسوق والعصيان، فالمنار يدعو كل من ينظر فيه، إلى انتقاد ما يرون أنه ينتقد

عليه ويعد المنتقدين بأنه ينشر ما يرسلونه إليه، إذا كان مقرونًا بالدليل والبرهان

ولا برهان في الدين إلا السنة المتبعة والقرآن، ومن يتبدل الغيبة بالنصيحة،

وينصرف عن الهداية إلى الغواية، فيخوض فيما نكتبه مع الخائضين، ويزعم أنه

مخالف لهدي الدين، فهو الذي خالف كتاب الله فترك ما أمره به، وفعل ما نهاه عنه،

فإنه فرض النصيحة، وحرم الغيبة والوقيعة.

_________

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قيمة الاشتراك في السنة العاشرة

قد جعلنا قيمة الاشتراك على أهل القطرين مصر والسودان ستين قرشًا

صحيحًا، وعلى عمال البريد منهم ثلاثين قرشًا، وأبقيناها في سائر الأقطار كما

كانت.

_________

ص: 9

الكاتب: محمد عبده

‌اللائحة الثالثة

من لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية

للأستاذ الإمام

يظهر أنه كتبها؛ لأجل إقناع أولي الأمر في مصر بالعناية بالتربية الدينية بعد

عودته من سوريا، وعفو الأمير عنه، وقد وجدت مسودتها بخطه بالعنوان الذي

تراها مفتتحه به. وجامع الكتاب وضع سائر العنوانات قال- رحمه الله تعالى-:

هذا مجمل أفكار فيما يجب الالتفات إليه من نظام التربية بمصر

(ويمكن تفصيله عند إرادة العمل به)

إذا كان الناس في حاجة إلى صلاح الحاكم؛ فما حاجة الحاكم إلى صلاحهم؛

بأخف من حاجتهم إلى صلاحه، فإن السلطة سلطتان: جيدة ورديئة، فالجيدة ما

كانت على المحكومون للمحكومين. والرديئة ما أخذ بها المحكومون لغاية الحاكم،

وقضاء غرضه الثابت.

أما الأولى: فإن منزلتها من المحكومين منزلة الروح من الجسد، لها التدبير

وعلى أعضاء الجسد وظائف العمل، وغاية التدبير والعمل حفظ حياة الكائن الحي،

وهو مجموع الروح والبدن، فكل يستفيد من الآخر ما به بقاؤه ونماؤه.

وكما تحتاج الآلات البدنية إلى سلامة الروح من العلل النفسية: كالجنون

والخمود والجهل ونحو ذلك، تحتاج الروح إلى سلامة الآلات البدنية من الآفات؛

التي تعطلها عن الحركة: كالشلل والخدر والتشنج وما شابه ذلك، وماذا يمكن

للروح السليمة أن تأتيه في بدن؛ تعطلت آلاته وفسدت أعضاؤه.

وأما السلطة الثانية: فمنزلتها منهم منزلة الصانع من آلته، فصاحب السلطة

صانع والمحكوم آلته في الصنع، فهو كاتب مثلاً والمحكومون قلمه، أو هو حارث

والمحكوم محراثه، وكما أن الآلة لا تعمل إلا بالعامل، ولا يظهر أثرها إلا في يده

كذلك العالم لا يمكن له العمل إلا بآلته. وكما يجب أن تكون اليد العاملة قادرة على

إدارة الآلة، يجب أن تكون الآلة وأجزاؤها صالحة للعمل، فإن فقد أحد الأمرين

امتنع العمل أو نقصت ثمرته، فكل من السلطتين في حاجة إلى صلاح المحكوم،

فكما يطلب المحكوم في كل حال؛ أن يكون حاكمه صالحًا لأن يحكمه، كذلك يطلب

صاحب السلطة في أي منزلة كان؛ أن يكون المحكوم بحيث ينقاد إلى كل ما يحكم

به، وعلى الصفات التي تنساق به إلى الغاية التي يذهب إليها حاكمه.

أما ما رسخ في خيال بعض الشرقيين، ومن اغتر بحالهم ممن خالطهم من

الأوروبيين، من أن صاحب السلطة قوته علوية، والمحكوم طبيعته سفلية، ولا

نسبة بينهما إلا أن الأول قاهر والثاني مقهور، وأن الثاني في حاجة إلى صلاح

الأول؛ ليكون به رؤوفًا رحيما، وأن الأول لا حاجة به إلى صلاح الثاني؛ لأنه

مقهور له على كل حال، فذلك منشؤه الغرور والجهل بطبيعة الجمعيات الإنسانية

ونظامها القطري. ولذلك نرى أرباب هذا الاعتقاد من ذوي السلطة، لا تدوم له

دولة، ولا يثبت لهم سلطان؛ لتخبطهم في سيرهم بجهلهم منزلتهم من محكوميهم،

وتصرفهم فيهم على خلاف ما يجب أن يصرفوهم فيه، وتغافلهم عن استطلاع

طباعهم بما يؤهلهم للعمل على ما يريدون منهم.

يقال: إن الرعية في كثير من البلاد آلة للحاكم في بلوغ مقاصده في دولته،

فقد يكون ذلك حقًّا لكنها آلة ذات شعور وإرادة، وما له شعور وإرادة فجميع أعماله

إنما تكون عن شعوره وإرادته، فتصلح الأعمال بصلاح الشعور والإرادة، وتفسد

بفسادهما، فلا يمكن أن تكون تلك الآلة صالحة للعمل، إلا إذا كان الشعور والإرادة

صالحين له، وصلاحهما بأن يكون الشعور وجدانًا للفرق بين النافع والضار،

وبين النظام والاختلال؛ ليكون ما يقرره الحاكم من القوانين وأصول الإدارة معروفًا

عند أغلب الرعية، وأن تكون الإرادة صادرة عن هذا الوجدان، حتى يكون النظام

منها في مكانة الاحترام.

فإذا كان الشعور مختلاًّ والإرادة فاسدة، كانت الأحلام طائشة، والأهواء

متحكمة، ومداخل السوء كثيرة، فويل لذي السلطة من تلك الرعية وبعيد عليه أن

يستقر لسلطانه فيها قرار، وكل ما يتخيله إصلاحًا لهم أو له فيودعه في أصول

حكومته، فهو كالنقش على الماء، أو الرسم في الهواء.

طبيعة مصر والمصريين

أرض مصر ضيقة عن حاجة أهلها، فمساحة الصالح منها للسكنى لا تزيد عن

حاجة الساكنين زيادة بينة، وهي محاطة من أطرافها بالصحاري الجدبة والمياه

المالحة، وليس فيها من الغابات ما يعوذ به الوحشي من الحيوان؛ فضلاً عن

الإنسان؛ ولذلك نرى كثيرًا من أنواع الوحوش؛ التي كُنا نراها كثيرة في البلاد من

نحو أربعين سنة: كالضباع والذئاب والخنازير، قد كادت تنقرض بإصلاح

الأراضي الزراعية؛ وانتشار الإنسان في أطرافها وتعهدها بالزرع والعمارة، وأهل

مصر لا يعرفون معنى المهاجرة من دار إلى دار، ولا يمكن أن يتصوروا ذلك ما دام

في أرضهم نبات ينبت، فإذا أمحلت أرضهم فضلوا الموت فيها على المهاجرة

منها، وتاريخ الماضي وشاهد الحال ينطقان بذلك.

ولذلك كان أهل مصر سكان أرضهم من آلاف من السنين، وكل قادم إليهم

امتزج بهم، وغلبت عليه عوائدهم وأطوارهم، وانتسب نسبتهم فصار مصريًّا،

وأحرز جميع خواص المصريين، ونسي أصله وغاب عن أعقابه منشؤه، ثم إن

طباعهم مرنت على الاحتمال وألفت مقاومة القهر بالصبر، فلو أن سيف المتغلب كان

أعدى من سيف المماليك، وجوره أشد من جور إسماعيل باشا، لما أمكنه أن ينقص

من عددهم مقدارًا يذكر، ولا أن يزيلهم عن مواقفهم مسافة تعتبر؛ ولهذا كان المتغلبون

يفنون فيهم وهم باقون.

أهل مصر قوم سريعو التقليد، أذكياء الأذهان، أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل

الفطرة، فما أيسر أن تفعل الحوادث فيهم؛ فتنبههم إلى الأخذ بما يحفظ عليهم حياتهم

في ديارهم من أي الوجوه، فلا يبيدون من حاجة، فأهل مصر على ذلك هم رعية

حاكمهم، ولا يمكن لحاكمهم أن يستبدل بهم رعية أخرى في بلادهم.

فحاكمهم إذا كان رأسًا فهم بدنه، وإذا كان عاملاً فهم آلته، فلا بد من

استصلاحهم، حتى يستقر سلطانه عليهم زمنًا مديدًا، ترمي إليه أنظار الدول السامية

المقام في المدنية.

أهل مصر في موقع عرف كل الناس منزلته في الأرض، وهو ممر أهل

المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى المشرق، وهو في حلق أوروبا تتلاقى فيه

سيارة الأمم، فقلما توجد بلاد يكثر فيها اختلاط الأمم مثل هذه البلاد.

الأمم العظيمة الأوروبية يحسد بعضها بعضا؛ على التمكن في أرض مصر أو

الفوز بإحراز المنافع السياسية أو المالية فيها، فالوساوس والدسائس لا تنقطع نفثاتها

من أولئك الأحزاب، يبثونها بين المصريين؛ ليوغروا صدورهم على من علت

كلمته فيهم. وأعظم فاعل في نفوسهم (وأغلبهم مسلمون) أن يقال: إن صاحب

هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه وانتهاز الفرص؛ لكشف

سلطانه متى أمكنت.

أهل مصر شديدو الانفعال بما يلقى إليهم؛ كثيرو التذكار لما ينطبق على

أهوائهم، فلكل كلمة من هذا القبيل مكان من نفوسهم، ولكن ربما لا يظهر أثر ذلك؛

لاحتجابه بحجاب العجز أحيانًا، غير أن طباع المصريين كالكرة المرنة تتأثر

بالضغط، فينخفض بعض سطحها قليلاً من الزمن، ثم لا يلبث أن يعود إلى حاله،

فالله يعلم متى يظهر أثر تلك الانفعالات؛ التي يمكن أن تتأثر بها نفوسهم بما يُلقى

إليهم.

يقال: إن أهل مصر ضعفاء، ولكن قد أظهر التاريخ أنه متى وُجِدَ القائد؛

كانوا أشد على الخصم من أشجع الأمم؛ وأثبتهم قدمًا في المواطن، ولا يعلم متى

يوجد القائد، ومن أي جنس يكون، إذا تركت أهواؤهم بغير تهذيب تجري، حيث

تجد سبيلاً للاندفاع، ثم لا يقدرون النظام قدره، مهما كان بالغًا من الصلاح؛ ولا

يبالون به، بل يعتقدون أن كل نظام حبر على ورق، فلا يستطيع حاكمهم أن يثبت

سلطته عليهم على أمر مكين، بل هم دائمًا في التواء عليه بالمخالفة، متى أمكنت

الفرصة، إلا إذا أخذوا بتربية صحيحة، فهناك تنضبط أحوالهم، وينشئ النظام

احترامه في قلوبهم، ويهتدي صاحب السلطة إلى طرق تصريفهم.

احتقار أمر النظام والتأثر بالوساوس؛ إذا لم يكن مبعثهما الحق، ينشآن عند

المصريين من أمرين: الأول: بُعد جمهورهم عن المعرفة بوجوه المصالح. والثاني:

حرمانهم من التربية التي تطبع في نفوس أغلبهم الاستقامة والتؤدة والتبصر في

العواقب، ومرجع الأمرين إلى سوء العقيدة، وظن ما ليس بواجب واجبًا، وظن

الواجب غير واجب، فما دامت هذه حالهم فهم رعية غير صالحة، فلا يصلحون

بدنًا لرأس ولا آلة لعامل؛ لاختلال المدارك وفساد الإرادات.

أهل مصر لم يأتهم التاريخ القديم بذي سلطة يَفْهَمُ هذا السر، وتَنْفَذ بصيرته

إلى هذه الحقيقة، فلذا لم تثبت فيهم دولة لقبيل زمنًا يُعْتد به، وكل إصلاح نظامي

نشأ فيهم كان كالبناء على الهواء، فالسلطة التي تسعى في أن تجعلهم رعية

صالحة، تكون قد فتحت في نفوسهم فتحًا جديدًا، وظفرت ببغيتها منهم ظفرًا

مبينًا، وأمنت كل غائلة تخشى من دسائس الأعداء ووساوسهم.

أهل مصر قوم أذكياء كما قلنا، يغلب عليهم لين الطباع؛ واشتداد القابلية

للتأثر، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا

كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها وإلا ماتت

البذرة بدون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على البذرة وصحتها، وإنما

العيب على الباذر.

أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين، حتى صار طبعًا فيها، فكل من

طلب إصلاحها من غير طريق الدين، فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه

فيها، فلا ينبت ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك؛ ما شوهد من

أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم

يزدادوا إلا فسادًا، وإن قيل: إن لهم شيئًا من المعلومات، فما لم تكن معارفهم

العامة وآدابهم مَبْنِيَّة على أصول دينهم، فلا أثر لها في نفوسهم.

ولا أتكلم عن إصلاح لدين غير الإسلام في مصر، فإن غير المسلمين فيها

العدد القليل، والجمهور الأغلب من المسلمين.

الدين الإسلامي الحقيقي ليس عدو الأُلفة، ولا حرب المحبة، ولا يحرم

المسلمين من الانتفاع بعمل من يشاركهم في المصلحة، وإن اختلف عنهم في الدين

وفي آدابه كفاية لتعريف الآخذ به بوجوه المصالح، وإرشاده إلى مظان الفوائد

والبصر بالعواقب، وتقويمه بفضائل الأخلاق، وبالجملة فهو أفضل كافل لجعل

الرعية صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل. وقد أرشدتنا التجربة إلى أن

كل عارف بحقيقة الدين الإسلامي، كان أوسع نظرًا في الأمور، وأطهر قلبًا من

التعصب الجاهلي، وأقرب إلى الألفة مع أبناء الملل المختلفة، وأسبق الناس إلى

ترقية المعاملة بين البشر، وإنما يبعد المسلم عن غيره جهله بحقيقة دينه، وهذه

آيات القرآن شاهدة على ما نقوله، اللهم لمن يفهمها كما جاءت، ويعرف معناها كما

وردت.

إن القرآن وهو منبع الدين، يقارب بين المسلمين وأهل الكتاب، حتى يظن

المتأمل فيه أنهم منهم، لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام قليلة، ولكن عرض

على الدين زوائد؛ أدخلها عليه أعداؤه اللابسون ثياب أحبائه، فأفسدوا قلوب أهاليه

ولا قلوب أقرب إلى الإصلاح من قلوب أهل مصر.

أهل مصر مضى عليهم الزمن الطويل والقرون العديدة، ولم يروا مربيًا

يأخذهم بدينهم، فحرموا خيره، ولم يبق عندهم إلا ما فيه المضرة لهم ولغيرهم،

تحت اسم الدين وليس بدين. على أنه ليس فيهم من ينكر أن القرآن كلام الله، وأنه

ينبوع الدين، ولكن ليس لهم من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية،

ومدرسة الأزهر الدينية، وليس في الجهتين ما يهديهم لما يجعلهم رعية صالحة،

وهم الآن على غاية الاستعداد لقبول ما يصلحهم.

من يتوجه من ذوي السلطان إلى ذلك، لا يجد أقل مقاومة من العامة ولا أغلب

الخاصة، وفي مصر فرصة لا توجد في غيرها لمن أراد ذلك، فإن بلادًا غير مصر؛

يوقف فيها مثل هذا الأمر على همة أهل الدين وسلامة أفكارهم، ونشاطهم لفتح

المدارس الدينية على الطرق المناسبة لحالة البلاد. أما مصر فلها مدارس أميرية؛

يمكن أن يسلك فيها أي مسلك يُخْتار للتربية، وليس عليها رقيب سوى أهل السلطة

السياسية لا غير، فلهم أن يأخذوا من الدين أصوله، ويغرسوها في المدارس،

ويحملوا نفوس طلاب العلم عليها، ولا يتعرضون لما زاد عنها لا بالنفي ولا

بالإثبات، ويندبون لتدريس ذلك ذوي قدرة على صرف الأذهان عما وقر فيها،

وتطهيرها مما علق بها من الزوائد الضارة، ولا يجدون معارضًا لهم من أهل الدين؛

لأنهم لا يهتمون بما لا يقع تحت نظرهم مباشرة، وما دامت الأصول محفوظة،

فأنظارهم عن غيرها منصرفة، وأكبر دليل على ما نقول، سكوت أهل الدين عن

نوع التربية المعروف في المدارس؛ على ما فيه من مباينة الدين، والانتهاء إلى

خلعه بالمرة.

المدارس الأميرية

المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية؛ ولا التربية

الصحيحة. هذه المدارس أنشأها محمد علي باشا بإشارة بعض الفرنسويين؛ لتعليم

بعض أولاد الأرناؤوط والأتراك والمورلية؛ ليكون منهم رجال عندهم إلمام ببعض

الفنون المحتاج إليها في نظام الحكومة التي أسسها، وأهم تلك الفنون: الهندسة

والطب والترجمة، أماغيرها من العلوم فما كان إلا وسيلة إليها، ثم لم يشترط في

العلم بها أن يكون تامًّا. أما التربية على أخلاق سليمة، فلم تخطر له ولا لمن تولى

إدارة هذه المدارس على بال، ثم لما لم يكن في أبناء تلك الأجناس وفاء لمطلبه في

الوظائف، أدخل في تلك المدارس بعض المصرين جبرًا، وما كان يدخل مجبورًا

إلا الذين لا قوة لهم من الفقراء، وكان دخول المدارس أشبه بدخول العسكرية في

ثقله على المصرين.

ثم جاء خلف محمد علي من عباس وسعيد فأهملوا النظر في المدارس بالمرة،

حتى جاء إسماعيل فوسع نطاقها، وزاد فيها من المعارف ما له دخل في الإدارة

والقضاء، وله تعلق بتثقيف العقول في ظاهر الأمر. غير أن جميع ما أتاه من ذلك

كان صوريًّا، ليقال: إن له في حكومته مثل ما لأوربا في حكوماتها، ولم يكن القصد

منه تربية العقول، ولا تهذيب النفوس، ولا تحصيل رجال يصلحون لتولي أعمال

الحكومة.

وفي زمن إسماعيل باشا كثرت رغبة الناس في المدارس، ولكن من الأعيان

الذين يطلبون لأولادهم مساند في الحكومة، يحتاج في الوصول إليها إلى بعض

الفنون، ومن الفقراء الذين لا يجدون ما يقتات به أبناؤهم؛ فيرسلونهم إلى المدارس؛

ليستريحوا من نفقتهم. ولم يكن القصد من جميع تلك الأحوال إلا أن يتعلم التلميذ

ما يؤهله للقيام بعمل ما من أعمال الحكومة، أو بعبارة أخرى: ليكون في يده شهادة

تبيح له أن يشغل كرسيًّا من كراسي أقلام الدواوين. أما تكوينه بالتعليم والتربية

رجلاً صالحًا في نفسه، يحسن القيام بالعمل الذي يفوض إليه في الحكومة أو في

غيره، فذلك لم يخالط عقول المعلمين، ولا من ولاهم أمر التعليم، فسرى ذلك من

السابقين إلى اللاحقين حتى اليوم.

ولو كشفنا عن أذهان التلامذة، لم نجد فيها غاية لتعلمهم سوى أن يعيشوا كما

عاش غيرهم على أي صفات كانوا، ولو استفرغنا أذهان المعلمين، لم نجد فيها

من المقاصد سوى أنهم يلقون ما يجدونه في الكتب المقررة للتلامذة، ويطالبونهم

بحفظه، وفهم عبارته إن كان ليعيدوا يوم الامتحان تلاوة ما ألقي إليهم حتى تتم

مدتهم في المدرسة، ولا يسألونهم مرة واحدة عن مجال أفكارهم، هل هو في صالح

أو فاسد؟ ولا مطامح أنظارهم، هل إلى نافع أو ضار؟ وذلك رسم يؤديه

المعلمون؛ ليأخذوا مرتباتهم الشهرية لا غير. ولهذا لا يكون تلامذتها في آخر الأمر

إلا صناعًا، أو ناطقين ببعض الألسنة، ولا ثقة في الأغلب بشيء من عقولهم ولا

أخلاقهم، إلا من كانت له فطرة سليمة، وله موهبة طبيعية، فأولئك تؤدبهم الأيام،

وتهذبهم التجارب، وعلى مثل ذلك كانت مكاتب الأوقاف، ولا تزال. فإن استمر

السير على الطريقة المعروفة الآن، كانت النتيجة دائمًا كما بيناه، فلا يؤول ذلك

بالمصرين إلى أن يكونوا رَعِيَّة صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لصانع.

المدارس الأجنبية

وأما المدارس الأجنبية على تنوعها؛ فاختلاف المذاهب بين المعلمين

والمتعلمين في الأغلب، يضعف أثر تلك المدارس من التربية العمومية، فقليل من

المصرين من يرغب في تعليم أولاده فيها، ومن أرسل بولده إليها داوم نصيحته بعدم

الالتفات إلى ما يقوله المعلمون فيها؛ حفظًا لاعتقاده، ثم ذلك يحدث من الاضطراب

في طبيعة الفكر، والتزلزل في الأخلاق، ما يكون ضره أكثر من نفعه. وقد غلط

من زعم: أن لتلك المدارس الأجنبية أثرًا سياسيًّا أو أدبيًّا في مصر بل قد أحدثت

بعض النفرة في قلوب المسلمين من رؤساء تلك المدارس وأممهم، ولذلك تاريخ

في البلاد معروف فهي ضارة بالألفة، مبعدة للمحبة، رغمًا عما يزعمه أربابها مما

يخالف ذلك، فلا يصح الاكتفاء بها في التربية عن المدارس الأهلية على اختلافها.

الجامع الأزهر

الجامع الأزهر مدرسة دينية عامة، يأتي إليها الناس: إما رغبة في تعليم

علوم الدين؛ رجاء ثواب الآخرة. وإما طمعًا في بعض الامتيازات لطلاب العلم فيه.

ولا يزال بعضها إلي اليوم، ولكن مما يؤسف عليه: أنه لا نظام لها في دروسها،

ولا يسأل فيها التلميذ أيام الطلب عن شيء من أعماله، ولا يبالي أستاذه حضر عنده

في الدرس أم غاب، فَهِم أم لم يفهم، صلحت أخلاقه أم فسدت، ويمر عليه الزمان

الطويل، لا يسمع فيه نصيحة من أستاذه؛ تعود عليه بالإصلاح في دنياه أو دينه،

وإنما يسمع منه ما يملأ القلب بغضا؛ لكل من لم يكن على شاكلته في الاعتقاد حتى

من بني ملته، ويطبق علي الذهن غفلته، ويستفزه الطيش لتصديق كل ما يسمع؛

إذا كان موافقًا لمبدأ التعصب الجاهلي، فأغلب الأوقات تمر على أهل الجد منهم في

فهم مباحثات لبعض المتأخرين لا فائدة فيها، ولا يتعلمون من الدين إلا بعض

المسائل الفقهية، وطرفًا من العقائد على نهج يبعد عن حقيقته أكثر مما يقرب منها.

وجل معلوماتهم تلك الزوائد التي عرضت على الدين، ويخشى ضررها، ولا

يرجى نفعها، ثم إن المعروفين بالعلماء؛ وهم الذين يتممون دروسهم في هذه

المدرسة، ويؤذن لهم بالتدريس فيها؛ هم قدوة الناس وأئمتهم مع أنهم أقرب للتأثر

بالأوهام، والانقياد إلى الوساوس من العامة، وأسرع إلى مشايعتها منهم؛ وذلك بما

ينشؤون عليه من التعليم الرديء، والتربية المختلفة التي لا ترجع إلى أصل صحيح

فبقاؤهم فيما هم عليه اليوم، مما يؤخر الرعية عن تقدير السلطة الصالحة قدرها.

إصلاح مدرسة الأزهر لابد أن يكون بالتدريج؛ في تغير نظام الدروس

وجعلها في الابتداء تحت قواعد ساذجة قريبة من الحالة الحاضرة فيها، بحيث

يقرر فيها أن كل من أدرج اسمه في جدول الطلبة، يلزم بالحضور في الدروس وإلا

حرم الامتياز. وكل أستاذ يسأل عن طلبته، ثم يجعل ما ينالونه من المنافع الطفيفة

منوطًا بالفهم لا بالكتب، وتغيير بروغرام الدروس، ويزاد عليه أصناف من الكتب،

بحيث يدخل فيه تدريس الآداب الدينية المفقود الآن بالكلية، ويكلف الأستاذ بتعهد

أخلاق تلميذه؛ لتكون منطبقة على تلك الآداب بقدر الإمكان، ويجعل شيخ الجامع

رقيبًا على الأساتذة والتلامذة في ذلك، ثم يعدل نظام الامتحان النهائي وشروطه،

وكل ذلك يكون على طرق بسيطة، لا تستلفت الأذهان إلى شيء خلاف المصلحة،

وتفصيلها يكون في لائحة مخصوصة.

ولا بأس أن يجعل نظام هذه المدرسة مرتبطا بالمعارف العمومية أو بإدارة

الأوقاف على قواعد تفصل في اللائحة المختصة به، وقد يظن بعض من لم يتفكر

في حالة البلاد ومرتبتها الأدبية والدينية، أن إصلاح الأزهر لا يمكن؛ لأنه يترتب

على مجرد الشروع فيه تشويش أذهان العلماء والعامة على أثرهم، فهذا ظن فاسد

لا يؤيده دليل، ولم تقض به تجربة، إلا ما كان من بعض الرؤساء من مدة نحو

عشرين سنة، عند ما أراد إدخال بعض العلوم الصناعية فيه، فقاومه بعض من

كان موجودًا من العلماء، فيئس من الإصلاح وترك الأمر إلى اليوم، فقد كان ذلك

قبل أن تتقلب الحوادث على مصر، ولم يكن بالتدريج اللائق، أما الآن فقد تغيرت

الأحوال، وأصبح الإصلاح فيه أهون منه في جميع المصالح، وكل رئيس للنظار

يمكنه أن يأتي هذا الإصلاح بمجرد التوجه إليه، وما يعجز عنه من ذلك، فصاحب

هذا الفكر هو الكفيل بتنفيذه، إذا فوض ذلك إليه، على أن العناء في ذلك لا يطول،

إذا صلحت المدارس الأميرية، فإن الناس لا يختارون الأزهر؛ إلا لسوء ظنهم

بالمدارس، أو لاعتقادهم أن الأزهر أحفظ للدين منها، فإذا حصل الإصلاح فيها،

وجدوها أدنى إلى المنفعة منه، فعند ذلك تنفرد بكونها معاهد التعليم ويصبح الناس

كلهم في طريق واحدة.

الكتاتيب الأهلية

المدارس الأميرية يتعلق النظر فيها بنظارة المعارف، ولا يتم لها إحسان

النظر من وجه التربية؛ إلا بتوجيه العناية أولاً إلى الكتاتيب الصغيرة المنتشرة في

القرى والمدن؛ فإنها هي المغذية للمكاتب المنتظمة التابعة للمعارف وللمدارس

الأميرية وللأزهر، فإن كان الغذاء فاسدًا كان المزاج المتغذي أشد فسادًا. وقد

خطر ببال أحد نظار المعارف أن ينظر فيها، ولكن من الوجه التعليمي وإصلاح

الأمكنة، بحيث تكون أوفق للصحة، لا من الوجه التهذيبي، والثاني هو أهم

مطلوب دون الأول، فإنما ينظر إليه من حيث هو وسيلة للثاني. فالمعلمون في تلك

الكتاتيب يسمون الفقهاء وهم لا يعرفون شيئًا سوى حفظ القرآن لفظًا بغير معنى.

وإذا كان في أذهانهم شيء باسم الدين؛ فما هو إلا الزائد الضار دون الأصل النافع،

وقد عُرفوا بأنهم أفسد حالاً من العامة. على أن الكتاتيب يرد عليها أبناء الأهالي

جميعا إلا القليل، ثم يرجع الغالب إلى ما كان عليه آباؤهم، فهي منابت للعامة،

ولكنها لا تنبت الآن إلا جهلاً.

ولا يمكن إصلاح تلك الكتاتيب إلا بإصلاحهم (أي: الفقهاء) ، وإصلاحهم مرة

واحدة أو إبدالهم بخير منهم متعسر، ولكن إذا وجهت العناية إليهم أمكن إصلاحهم،

وإصلاح طرق تعليمهم بالتدريج في بضع سنين، ثم إن ذلك الإصلاح يستدعي عملاً

يتعلق بعضه بالمعارف وبعضه بالأوقاف، من حيث إن أولئك المعلمين خطباء

المساجد في الأغلب، فلا بد أن ينظر في انتخابهم من المستعدين للفهم، وقبول

الإصلاح بقدر الإمكان، وهو يقتضي سعيًا حثيثًا، وتدقيقًا شديدًا وسيرًا في أرض

مصر أجمعها، ونظرًا في كل قرية من قراها، وهو ليس بعسير على الشخص

الواحد؛ فضلاً عن أشخاص كثيرين، متى وجهت العناية بذلك.

ثم يلزم لذلك تقرير بعض المعلومات التي لا يستغني عنها مصري، مما يزاد

على تعليمه القرآن في تلك الكتاتيب، حتى إذا خرج التلميذ من الكُتَّاب كان

شاعرًا بأنه في أي جمعية محكومة بأي طريقة فإذا دخل المدرسة أو الأزهر كان

نماء معلوماته على ذلك الأساس، وذلك يستدعي تقرير بعض الكتب الصغيرة،

وتعيين ما يدرج فيها على نمط سهل؛ يفهمه الصغير والكبير بأن تبين لهم فيه

نسبتهم إلى: المأمور، والمدير، والناظر، والمهندس، والطبيب، والعالم، وإلى

المقام الخديوي، وغير ذلك.

وتحدد الطريقة التي يتعلم بها الفقهاء هذه الأمور القريبة من الأذهان، والمكان

الذي يتعلمون فيه، والوقت الذي يخصص لذلك، والمعلم الذي يعلمه، ثم تقرير

العلاقة بين أولئك الفقهاء، وبين إدارة الأوقاف، ونظارة المعارف.

المكاتب الرسمية الابتدائية

تلامذة هذه المكاتب لا يزالون إلى الآن من الأطفال الذين يقصد كفلاؤهم

بتعليمهم التوصل بهم إلى خدمة الحكومة، سواء نالوا ما قصدوا أم لا، إلا أنهم

في الغالب لا يستطيعون أن يذهبوا إلى نهاية التعليم المعد لذلك، فيرجع الوالد إلى

أبيه أو من يقوم مقامه بعد نهاية المكتب عارفًا ببعض مبادئ العلوم التي لا يجد لها

موضعًا تستعمل فيه، فلا يلبث أن ينساها، فيضيع الزمن الذي شغله بالتحصيل بلا

فائدة، ثم إنه يعود بأخلاق أشد فسادًا من أخلاق الذين بقوا على الفطرة، لم يمسهم

التعليم، ويجد في نفسه نفرة وعجزا عن العمل فيما كان يعمل والده وأهله من قبله،

فيقضي عمره في البطالة أو ما يقرب منها، فتزداد أخلاقه فسادًا، وأفكاره اختلالاً،

ويقف نفسه على عبادة الأوهام، وخدمة الدسائس التي تنبهه على طلب ما يغير الحالة

التي عليها الناس؛ طمعًا في تغيير حالة نفسه بلا تعقل، فيكون زيادة في أمراض

البلاد، بدل أن يكون عضوًا نافعًا.

فأول ما يجب لإصلاح هذه المكاتب ووضعها على أساس يفيد العامة: أن

يراعى في البروجرام إدخال مبادئ العلوم من وجهها العملي الذي ينطبق على

المعاملات الجارية في البلاد، فقواعد الحساب مثلاً تؤخذ من وجهها العملي مطبقة

على المعروف في المعاملات التجارية، وحساب الصيارفة الأميريين، وغيرهم،

فيتعلمون طريقة وضع المدفوع من الأموال في الأوراق والدفاتر، وطرق التحصيل

لأموال الحكومة، ونحو ذلك، ويدخل فيها فن الأوزان والمكاييل، وإن كانت مبادئ

هندسية، فليدخل فيها شيء من المساحة على الطريقة المعروفة في البلاد، أو على

أفضل منها. وما يؤخذ من قواعد العربية، يكون مصحوبًا بالعمل في المكاتبات

العادية، والمشارطات المتداولة بين الأهالي، حتى إذا انفصل التلميذ من المكتب،

يكون عنده ما يحتاج إليه شخصه أو عائلته وأقاربه وأهل بلده، فلا ينقطع عن

العمل به؛ لكثرة ما يرد عليه منه.

ثم يضم إلى ذلك تعويده على بعض الأعمال الزراعية أو الصناعية في

أوقات الرياضة، أو يخصص لذلك يوم في الأسبوع؛ ليعلم كفلاء التلامذة أن للتعليم

غاية سوى خدمة الحكومة، وأنهم إذا لم ينالوا الخدمة، فإن لهم شأنًا سوى البطالة،

والتفرغ للأوهام الرديئة، ثم يضاف إلى البروجرام مبادئ العقائد الدينية على

الأصل الصالح وأصول الآداب الدينية على ما يجمع الألفة، ويعرف وجه المصلحة

في المعاملة والمخالطة، وشيء من تاريخ البلاد، وما كانت تعانيه في

سابق زمنها، وما صارت إليه من الراحة في هذه الأوقات، وشيء من القواعد

العامة للنظام الذي هم فيه؛ ليعلم التلميذ أنه من أي جنس، وفي أي شكل من أشكال

الحكومة، فيتعلم الخضوع والانقياد لكل مسند فيما يصدر منه، ثم يكون أهم العناية

بحمل التلامذة على العمل بما يعلمونه من الآداب، وتشديد المراقبة عليهم في ذلك،

وتوضع لهذا لائحة مخصوصة؛ يحدد فيها البروغرام اللازم للمكاتب الابتدائية

وطريق التعليم، ويبين فيها المسلك الذي يتخذه المربي المفوض إليه مراقبة أخلاق

التلامذة، وملاحظة أعمالهم، فإذا أتم التلميذ مدة المكتب الابتدائي، ولم يتيسر له أن

ينتهي إلى غاية التعليم، رجع إليه بشيء نافع، ونمت الأخلاق الصالحة، والأفكار

الحسنة، وانطبع قلبه على الخير والسلامة، وكانت له بصيرة في وجوه المعاملة مع

من يشترك معهم في المصلحة، ونبت في قلبه احترام النظام الذي يضبط مصلحته،

ومصلحة بني وطنه، ونشأ على محبة العمل والرغبة فيه، فلا يكون إلى فؤاده

سبيل للوساوس، ولا منفذ للدسائس.

المدارس التجهيزية والمدارس العالية

لا أتكلم في بروغرامات دروس الفنون التي تقرأ فيها؛ لأن النظر في ذلك

يتعلق بالغرض الذي جعلته الحكومة غاية لإقامة تلك المدارس، وإنما كلامي فيها

منحصر فيما يتعلق بالتربية وتهذيب الفكر، وغرس مبدأ الصلاح في نفوس التلامذة

ليحسنوا في استعمال ما تعلموا.

قلنا فيما سبق: إن التربية مفقودة في تلك المدارس، لا يخطر ببال أحد أن

يعتني بها عناية حقيقية، وإنما الموجود فيها صور ورسوم تغر الناظر فيها، وهي

بمعزل عن الحقيقة، فالذي يجب لتأسيس التربية فيها؛ تعليم العقائد الدينية على

الأصل الصحيح، تعليم الآداب الدينية على الطريق الصالحة، إلزام التلامذة

في تصرفهم بموافقة ما تعلموا، كل ذلك على نمط أرقى مما كان في المكاتب

الابتدائية. تعليمهم الإجادة في الكتابة كل في فنه الذي يريد الوصول إلى غاية

التعليم فيه تعليمهم أصول النظام العام، ثم زيادة التوسع لكل فيما يتعلق بفنه من

النظام، فالقانونيون يتوسع لهم في أصول النظام المتعلق بالقضاء والإدارة، وهو

شيء غير نفس القانون. والمهندسون في أصول النظام المتعلق بالري وتدبير النيل،

وهو شيء غير الهندسة وعلى هذا القياس.

والمربي في كل ذلك يودع في أفكارهم أن القيام بهذه الأعمال مما يطالب به

الدين، وأن فوائدها ليست قاصرة على خدمة الحكومة، بل هي من لوازم الحياة

الطيبة، ويورد الأدلة على ذلك وهي كثيرة لا تعد، حتى إذا بلغ التلميذ نهاية التعليم،

أمكنت الثقة به، واؤتمن على عمل يفوض إليه، وكانت الأنفس مطمئنة من جهته؛

لعلمه أن للنظام علاقة بحياته الروحانية، كما له علاقة بحياته الجسدانية، فإن لم

يكن له نصيب في خدمة الحكومة وجد سبيلاً آخر للعمل، وهو في رضى عن

النظام المحيط بأعمال وطنه، فيكون بذلك عضوًا صالحًا، ويقوم بينه وبين

الدسائس حجاب منيع من الاستقامة الفكرية والخلقية، حتى لو أن التلميذ بعد ذلك

حمله الشطط في الفكر على خلع العقيدة الدينية، بقيت فيه ملكات الأخلاق الفاضلة

طبيعة ثابتة، لا تتبدل بتبدل العقيدة.

المعلمون والمربون ومدرسة دار العلوم

وجود مثل هؤلاء المعلمين عسير، كما يقوله كثير ممن له تعب في البلاد،

ولم يتفكر في حالتها، ولم يدقق البحث في مصلحتها، أما أنا فلا أرى في ذلك

صعوبة بقدر ما يتصورونها، كما أن كثيرًا مثلي لا يرون ذلك.

أما أولاً: فلأن بلادًا واسعة مثل مصر، لا تعدم أفرادًا متفرقين في أنحائها،

يعرفون من الدين حقيقته، وللزمان ما يلزم له، وإنما يجمعهم البحث والتنقيب،

وكما ساح ناظر المدرسة الزراعية؛ ليختبر الأرض، ويعرف الطرق المسلوكة في

البلاد لخدمتها واستنباتها، كذلك يجب أن يسيح مدير التربية في الأطراف؛ ليعرف

الصالحين لتوليها. على أن المعروف منهم ليس دون الكفاية للابتداء في العمل، فإن

لم يكن الموجود بالغًا الغاية في المقصود، فلا أقل من أن يكون قريبًا منها. وأما

ثانيا: فلأنه يمكن تكوين جماعة كثيرة ممن يحتاج إليهم في الغرض بطريقة هي

مرسومة الآن، ولكن لم يطبق العمل منها على الرسم الحقيقي، على أن في الرسم

نقصًا يجب تتميمه، وتلك الطريقة قد رسمت في المدرسة المسماة بدار العلوم.

دار العلوم مدرسة ابتدعها سعادة علي باشا مبارك من نحو خمس عشرة سنة،

وشرط أن يكون تلامذتها من طلبة الأزهر، وأن يكونوا حصلوا من العلوم المقررة

فيه مبلغًا يكاد يؤهلهم للتدريس، ثم جعل في دروس تلك المدرسة دروسًا لجميع ما

كانوا يقرؤونه في الأزهر من العلوم الدينية؛ ليتمموه على وجه أجلى وأنفع،

وأضاف إلى ذلك أطرافًا من الفنون الصناعية كالطبيعة والكيمياء، والحساب،

والهندسة، وشيئا من الجغرافية، والتاريخ، وقدَّر غاية الدراسة أن يكون التلميذ

المتمم لدروسه فيها صالحًا لأن يكون أستاذًا في العلوم العربية والدينية في المكاتب

والمدارس الرسمية، ولكن جاءت على تلك المدرسة أدوارًا كثيرة أسقطتها عن

مرتبتها التي كانت تنبغي لها، ثم لم يوضع فيها أساس للتربية التي كان يجب أن

تكون أهم شيء يُقصد من الانتظام فيها، ولهذا كان يخرج تلامذتها على ما يخرج

عليه تلامذة غيرها من الأخلاق والأفكار، لا يمتازون عنهم إلا قليلاً، وإن كانت مع

ذلك، أنشأت أفرادًا من أهل العلم والأدب هم الآن معروفون تشهد لهم حالهم بأنهم

أفضل من جميع الناشئين في غير تلك المدرسة، ولكنهم أقل عددًا مما كان ينتظر.

ثم من غريب التصرف، أن هذه المدرسة مع أنه لم يكن الغرض منها إلا

تكوين أساتذة قادرين على التربية عارفين بالعلوم الدينية والعربية حق المعرفة، لا

يقيمون عليها من النظار إلا جاهلاً بالدين واللغة العربية، بل غير معتقد بالدين

بالكلية كما فعلوا سابقًا، ويريدون أن يفعلوا في هذه الأيام، ولا يعينون فيها من

المعلمين للدروس الدينية إلا من يقصد تعيشهم بمرتباتهم، وفيهم من لا تجوز معاشرة

التلامذة له؛ فضلاً عن أخذهم العلم عنه، وفيهم من لا يحسن أداء ما كلف به،

وليس فيهم أهل لوظيفته إلا شخصان فقط. والكل لا عناية له بأمر التربية، ولا

يهمه فساد أخلاق التلامذة أو صلاحها، ولا استقامة عقولهم وأفهامهم أو اعوجاجها،

وتعليمهم الدين على ما هو المعروف في الأزهر لا يغيرون منه فاسدًا، ولا

يزيدون عليه صالحًا، وسائر المعلمين للفنون يؤدونها نقلاً من الكتب، لا يبينون

للتلامذة الغاية من تعلمها.

وليس العيب في ذلك راجعًا إليهم، ولكن إلى من لم يضع أصلاً لسيرهم في

تعليمهم، ولم يؤسس قاعدة ترجع إليها جميع الأعمال صادرة من المعلمين أو

المتعلمين، ولم يقم على تلك القاعدة خبيرًا بالبناء عليها، عارفًا بالغاية التي توجه

المدرسة إليها، حكيمًا في تصرفه بأذهان التلامذة والأساتذة، حتى يقيم للتربية بناءً

معنويًّا حقيقيًّا، يأوي إليه كل معلم ومتعلم، يأتي من بعده.

هذه المدرسة تصلح أن تكون ينبوعًا للتهذيب النفسي والفكري والديني

والخلقي، ويمكن أن ينتهي أمرها إلى أن تحل محل الأزهر، وعند ذلك يتم توحيد

التربية في مصر ولكن يلزم لذلك أمور:

(الأول) إصلاح البروجرام، وحذف بعض العلوم التي اشتغل بها التلامذة

في الأزهر، والاكتفاء بتمرينهم على العمل بها، وتقدير ما يلزم من الفنون الباقية،

وزيادة بعض علوم ليست فيها الآن منها علوم الآداب الدينية، وفن أصول النظام مع

تعلقه بالدين.

(الثاني) تغيير طريقة تدريس تفسير القرآن، وتعلم الأحاديث النبوية.

(الثالث) اختيار معلمين صالحين للقيام بالعمل الموصل إلى الغاية المطلوبة

للمدرسة.

(الرابع) تعيين ناظر للمدرسة قد ملأ قلبه، وغمر فكره الميل إلى المقصد

الذي وضعت له المدرسة عالمًا بالدين ولغته موثوقًا به عند العامة.

(الخامس) إعطاء تلامذتها بعد نهاية التعلم حق التدريس في الأزهر.

(السادس) توسيعها إلى ما يسع مائة تلميذ.

(السابع) أن يزاد في مدتها سنة بعد الدراسة للتمرين على التعليم في نفس

المدرسة.

(الثامن) وهو أهم ما يجب - أن يكونوا تحت نظام شديد في التهذيب،

وملازمة العمل بما يعلمون.

(التاسع) أن تكون وظائف التدريس في المدارس والمكاتب منحصرة فيهم.

(العاشر) أن تكون درجتهم في الوظائف على حسب أدبهم واقتدارهم على

التأديب.

(الحادي عشر) أن يكون للموظف منها في مدرسة ما سلطة تامة على تهذيب

التلامذة، وتربية نفوسهم، وتقويم أخلاقهم وطباعهم، وأرقاهم وظيفة في تلك

المدرسة يكون رئيسًا لمن دونه.

(الثاني عشر) أن يبقوا بلباسهم الذي هو لباس أهل الدين، مهما ترقوا في

الوظائف.

ثم إنه يلزم لهذا المشروع كتب تؤلف جديدًا، ولوائح تنظم للعمل على

مقتضاها، وذلك كله يمكن بعد العزم على الإجراء.

نفقات الإصلاح

يمكن أن يظن أنه يلزم للإصلاح زيادة نفقات، ولكن إذا دبرت مصاريف

المعارف على الوجه اللائق، فلا أظن أنه يحتاج إلى زيادة، على أنه لو احتج إليها لا

يثقل احتمالها بعد اليقين بأن هذا الإصلاح يؤول إلى تمكن السلطة، وجعل الرعية

صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل، وأظن أن بذل النفقات في هذا السبيل

وهو سبيل حياة السلطة وحياة الرعية أفضل منه في جميع السبل، فإن كانوا

يصرفون آلافًا من الجنيهات على بعض المباني الخربة؛ بدعوى أنه أحفظ للآثار

القديمة، فأولى أن يصرف بعض تلك المبالغ على حفظ الذين تبقى لأجلهم تلك الآثار

فإن التربية هي الحصن الحقيقي للبلاد، والذي يصونها من جيش الفساد، وهي

آلة صاحب السلطة في الانتفاع بالمحكومين بفائدة أعم من الفوائد التي جاء بها مشروع

السيد أحمد خان في الهند، وهو أبعد من ذلك المشروع عن سوء الظن.

شبهة من يعارض المشروع ومكانته في نفسه

ربما يوجد أشخاص خصوصًا من الرؤساء، يقولون: إن هذه الطريق بعيدة

النهاية لا توصل إلى الغاية. كما قالوا ذلك من قبل فنقول لهم: إن الطريق التي

سلكوها وسلكها أسلافهم من محمد علي إلى الآن، قد جربت فلم تعد بخير على البلاد

فليسلكوا الآن هذه الطريق على سبيل التجربة بعض سنوات، فليس هناك ضرر

ينتظر، فإن لم تكن فائدة فلا خوف من المضرة.

إن من يزعم العجز إنما يلجأ إليه؛ لأنه لم يتصور ما يرد من الأمر عليه،

فإن كانت له أدلة فليوردها، ولا نعدم لها من الحقيقة دافعًا، فإن أبى إلا العجز،

فربما يوجد من لو وكِّل إليه الأمر قام به، ولم يعجز عنه، والتجربة مشرق الحقيقة

إن شاء الله - تعالى - على أنه يمكنني أن أضمن كل ضرر يتصور في هذا

المشروع، وأكفل أن يكون له من النفع، ما هو أوفر من الفائدة المطلوبة في السبر

الحاضر.

وإني لا أزال أكرر أن غارس هذا الغرس، يجني ثمرته الطيبة، وأن فوائده

ربما نقلت إلى أقطار أخر فعادت بجزيل الخير على من نماه، وفي الزمن القريب

يبدو صلاحه لصاحب السلطة وللمحكومين له، ويسهل له تقرير أمره فيمن صلحوا

بإصلاحه على قاعدة المحبة والألفة، لا على طائشة الإخافة والرهبة، ويكون

بذلك قد كون لنفسه شعبًا جديدًا يعينه في الشدة، وينصره في الفتنة، ويعضده فى

ساعة المحنة، ويمحو من نفسه خيال التعلق بغيره، وتزول من طريقة عقبات

تعصب الجاهلية، وحمية الحماقة اللابسة ثوب الحمية الدينية، وفي ظني أن من

عارض هذا المشروع؛ فقد عادى سلطته وعرض نفسه لغير الزمان، وسياسته

لنفوذ شياطين الفتن من مقاوميه. والله ولي الأمر وبيده كل شيء يهدي من يشاء

إلى صراط مستقيم اهـ.

يقول جامع الكتاب

نقلت هذه اللائحة عن مسودة للإمام غير منقحة، ولا معروضة للنشر كما

سبقت الإشارة، بل كتبت لأجل أن تترجم، وهي مع ذلك آية في البلاغة وحسن

العبارة.

ومن كان حديد الفهم، بعيد الغوص في أسرار الكلام، يعلم أنها لامست سماء

الإعجاز- أو كادت - على عدم العناية فيها بزينة اللفظ وزخرف القول، ذلك إنه لا

يرى لعقله مذهبًا آخر أرجى من مذهب الإمام فيها لإقناع السلطة في مثل هذه

البلاد بالتربية الإسلامية التي كانت قصده في أمته مع الصدق في القول والإخلاص

في النية، وإذا قارن هذه اللائحة باللائحتين قبلها تجلى له معنى (لكل

مقام مقال) فغرض إمامنا في الإصلاح الديني واحد؛ ولكنه كان يتوسل إليه في كل

بلاد بأقرب الوسائل التي يرجى أن ترضى بها السلطة وهو ما يجعله موافقًا

لمصلحتها، وتلك هي الحكمة البالغة والبلاغة السابقة.

ناهيك بما تومئ إليه مقدمة هذه اللائحة من الرسوخ في علوم العمران

كطبائع الأمم وأخلاقها، ونظام التربية، والتعليم والسياسة، فيا ليت الأستاذ الإمام

فرغ للتأليف؛ لم يشغله عنه الإصلاح العملي، ومحاولة تربية الأزهر، وإصلاح

الشورى والمحاكم، إذًا لكان لنا منه مصنفات تفعل في النفوس بعد وفاته، أكثر مما

كان يريد أن يعمله في حياته رحمه الله تعالى على نيته وحسناته.

(المنار)

هذا ما نبهنا به على مكان اللائحة في جزء المنشآت من تاريخه الذي نطبعه،

وقد طال هذا الجزء أكثر مما كنا نظن؛ لأننا وجدنا من آثاره ما لم نكن عثرنا عليه

عند الشروع في الطبع. أما جزء التأبين والمراثي فقد تم أو كاد؛ وسيشرع في

جمعه قبل صدور هذا الجزء إن شاء الله.

_________

ص: 20

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تمثيل القصص أو التياترو

(س1) من الشيخ محمد نجيب التونتاري الأستاذ المدرس بالمدرسة الشمسية

بروسيا.

بسم الله تعالى

حضرة الأستاذ العلامة السيد الرشيد مولانا: محمد رشيد رضا - سلمه الله -

وأدام فيضه. أرجوكم حل هذه المسألة الآتية، ببيان حكمها الشرعي بيانًا فلسفيًّا،

بسبكها في القالب العصري؛ لكي يؤثر في الجميع، ولا يرتاب أحد في حكمها،

لا زلتم مرشدين ومأجورين، وهو أن النابتة العصرية بيننا، أنشؤوا في هذه الأيام

تياترو مليًّا ببلدة قزان، مثلوا فيه القصص الغرامية، فحضرت الممثلات المسلمات

فيما بينهم، وقد أنكر ذلك العلماء، وعدوه من الملاهي المحرمة، ونحن وإن لم

ننكر فائدة التمثيل، من حيث كونه عبرة وعظة، ودرسًا تاريخيًّا مليًّا.

ولكن لا يمكننا أن نكابر في مضراته المحسوسة، من ابتذال النساء، ورقصهن

مع الرجال مما ينافي الآداب الإسلامية، ويهيج الشهوات البهيمية، وقد قرر

العلماء أن المجموع الذي يتضمن المحذور، يكون محذورًا لا محالة، وأن درء

المفاسد يقدم على جلب المصالح، فبناء على ذلك، أظن أنه يجب النهي والانتهاء عن

ذلك، نعم إن سائر مجالسنا ربما لا تخلو من ضرر أيضًا، فإن مجالس العلماء بيننا

قلما تخلو من فضول الكلام، بل من الشتم والغيبة والبهتان، تلك الأمور المحرمة

قطعًا، ولكن إذ اعتادوها، أصبحوا لا يرون فيها بأسًا، ويجري الأمر من غير نكير،

وعسى أنها تصلح بصلاح العلماء، ولو بعد أمد بعيد - إن شاء الله تعالى- وقد

أورد الأستاذ الوجدي هذه المسألة في دائرة المعارف، وبسط القول في حكمها،

ولكني أحب أن أراها في صفحات المنار، بأظهر مجاليها والله الموفق.

(ج) (الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من

الناس) كما ورد في الحديث، وهذه المشتبهات هي التي يسأل عنها ويستفتى فيها.

وما جعل هذه المسألة من قبيل المشتبهات، إلا ما يعبرون عنه بروح العصر، وهو

انفعال نفوس المتعلمين على الطريقة الجديدة، ومن يقلدونهم بجمال مدنية أوروبا،

وتوجهها إلى تقليد الأوروبيين في كل ما يسهل التقليد فيه، وأي شيء أسهل من

التقليد في الزينة، والزخرف، واللهو، واللعب؟

نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير بعولتهن أو آبائهن،

وغيرهم من المحارم، فهل يشتبه بعد هذا في إبداء الزينة مع ما هو شر منها، وهو

الرقص مع الأجانب، ومطارحتهم الغرام، وتمثيل معاملتهم معاملة الأزواج تارة،

والأخدان تارة أخرى؟ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه،

والمساعدة لأهله، بل وفي إقرارهم عليه والسكوت عن إنكاره عليهم. ولا حاجة

إلى البحث في مفاسده فإنها بديهية. ولكن المفتونين بالتقليد يستحبون ترك هذه

الآداب الإسلامية، والحكم بأن المحافظة عليها ضارة بالمسلمين؛ لأنها تحرمهم من

منافع تمثيل القصص التي هي أنفع منها. وينقسم هؤلاء إلى قسمين:

(الأول) المارقون من الدين؛ الذين يودُّون لو يمرق منه سائر المسلمين،

فهؤلاء يهزؤون بمن يخالفهم في كل ما يسمونه تمدنًا، وإن كان مما يشكو منه

عقلاء وفلاسفة أئمتهم الأوروبيين، فهم كما قال الشاعر:

عُمي القلوب عموا عن كل فائدة

لأنهم كفروا بالله تقليدا

وقد كثر عددهم في الترك وهم يكثرون في مصر، ولا يمكن إقناع هؤلاء

بشيء من طريق الدين، فالحلال والحرام عندهم سيان، وإنما يمكن إقناع أذكيائهم

الذين يقدرون جنسية الدين قدرها؛ بأن كذا ضار بالأمة أو نافع لها في سياستها،

ومصالحها الاجتماعية.

(الثاني) المؤمنون بأصل الدين، الراغبون في التوفيق بينه وبين المدنية

الحديثة؛ بالتساهل في بعض أحكامه والتأويل لبعض نصوصه، كما فعل أهل

الكتب الدينية من كل أمة، في كل زمان يغلب عليه روح خاص، يسري في

الكبراء والخواص، وهؤلاء هم الذين يحاولون الموازنة، بين منافع (التياترو)

ومضاره التي يعترفون بأن أهمها هتك النساء المسلمات لصيانة الحجاب،

ومخالفتهن للنصوص الصريحة في الكتاب، وهؤلاء يسهل إقناعهم بالدلائل الدينية

والعقلية جميعًا.

هؤلاء هم الذين يقولون: إننا لا نرتاب في عصيان المرأة؛ بإبداء خفي زينتها

في المتمثَّل (ملهى التمثيل) ورقصها مع الرجال، ولا في عصيان من يغريها بذلك،

ولكن التمثيل الذي يوجد فيه العاصيات والعاصون لله عمل نافع في نفسه،

فالمعصية فيه قاصرة على أهله، ولا حرج على المؤمنين في شهوده؛ بنية الاستفادة

من الغرض والمقصد منه، دون نية الإسعاد على الوسيلة المحرمة، كما أنه لا

حرج على من يشاهد الصور والتماثيل، وإن كان صانعوها آثمين في عملهم.

ولعل هذا أقوى ما نبين به شبهتهم في شهود التمثيل، وما هو بالذي يقنع

الفقيه فيفتي بنفي الحرج؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض.

فكيف تباح المفسدة اليقينية لأجل مصلحة وهمية؟ إن أمكن إثبات حصرها في

التمثيل، فلا سبيل إلى إثبات معارضتها لمنع المسلمات من هتك حرمة الشرع

والخروج عن أدب الدين؛ إذ يمكن أن يكون هذا التمثيل المفيد من الرجال خاصة،

وإن كان لا بد من وجود النساء، فيمكن استخدام غير المسلمات فيه كما يفعلون في

مصر، وهؤلاء النساء غير مكلفات بفروع الشريعة عند الحنفية ومَنْ وافقهم، ولا

يحرم النظر إليهن بغير سوء، أو يمكن للنساء المسلمات فيه أن لا يبدين زينتهن إلا

ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان، وأن لا يرقصن مع الرجال، ولا يأتين بمنكر

آخر معهم، فالحرص على إتيانهن في المتمثل بكل ما يأتي به غير المسلمات، لا

يمكن أن يكون لأجل المصلحة المزعومة، التي بنينا هذا الإلزام على التسليم بها

جدلاً.

فثبت أن الغرض من ذلك تغذية الشهوة واتباع الهوى؛ تقليدًا للأوروبيين في

شيء فيه إثم لكم ولهم، ومنافع لهم لا لكم؛ لأنهم جروا في هذا التمثيل على جعل

لهوهم ولعبهم الذي لا خروج فيه عن عاداتهم وآدابهم المُقَومَة لشعوبهم، مشتملاً على

بعض الفوائد والعبر، بعد الارتقاء في العلوم والآداب، وسائر مقومات الاجتماع، فإن

كنتم مقلديهم ولا بد، فاعفونا من التحريف والتأويل في الدين، فما أنتم إلا عون عليه

لأولئك المارقين.

وأما المارقون من الدين من حيث هو دين، الراضون به من حيث هو رابطة

اجتماعية كالجنس، واللغة. فيقال لهم: إن تحويل النساء عن الآداب، والعادات

الإسلامية اتباعًا وتقليدًا لغير المسلمين مبدأ لقطع الرابطة الإسلامية، وهدم هذه

الجنسية، فليس ضررها محصورًا في عصيان بعض النساء لأمر الله، وجرأتهن

على انتهاك محارمه؛ إذ يستحيل أن لا تعصي امرأة من الأمة ربها قط، ولا شك

أن معصية بعضهن بما ذكر، لا تستلزم عصيان سائرهن به؛ إذ جعل كل امرأة

ممثلة محال، فلا خوف على الأمة من عصيان قليل من أفرادها، وإنما الخوف

عليها محصور في: الانتقال من طورإلى طور؛ بتأثير روح أجنبي غايته تحويل

المسلمين عن دينهم وجنسهم، وجذبهم إلى غيرهما بالإقناع والاستحسان، حتى

يكونوا غذاء له، ومادة تمده في نمائه وبقائه.

مَثَل المُقَلِد مع المُقَلَد: كَمَثَل الطفل مع الرجل، يحسب الطفل أن كل ما يفعله

الرجل مفيد له، إذا هو حاكاه فيه ساواه في فائدته منه، فإذا رآه يدخن حاول

التدخين مثله ما لم يمنعه مانع، وربما كان في التدخين هلاكه؛ إذ لا يحتمل بدنه من

سم الدخان ما يحتمله بدن الكبير المعتاد عليه، وما كل ما يفعله الرجل نافعًا له، وما

كل نافع له ينفع الطفل والدارج، ولا اليافع والشارخ، وقد تكون وسيلة المنفعة

الواحدة للرجل غير وسيلتها هي للطفل، فالتغذية منفعة ووسيلتها للطفل اللبن.

وللدارج الطعام اللطيف، وأما الرجل الأيِّد فإنه يستفيد من الطعام الكثيف من الغذاء

ما ربما يكون ممرضًا لمن دونه.

هكذا شأن الأمم الجاهلة الضعيفة مع الأمم العالمة القوية، تظن الأولى أن كل

ما تفعله الثانية مفيد لها فتحاول تقليدها فيه، غير شاعرة بأنها تقلد على غير بصيرة

تامة، ولا اكتناه للمقاصد البعيدة - وإنما الأمور بمقاصدها -، فتقع في الخسران

المبين من حيث ترجو الفلاح العظيم، كما نقلدهم الآن في الأزياء، والعادات التي

تزيد في ثروتهم، وتذهب بثروتنا. والآداب التي ترسخ بها جنسيتهم من حيث

تضعضع جنسيتنا، وأهم هذه العادات ما أدى إلى تركنا للدين، وإرخاء عنان التفرنج

للنساء في التهتك والخلاعة.

تدخل المرأة النصرانية المُتمثل ولا شعور عندها، بأنها قد أحدثت في جنسيتها

حدثًا، أو جاءت في دينها أمر فَرِيَّا. وأما المسلمة فإنها تشعر إذا فعلت ذلك، بأنها قد

انسلخت من قديم مرغوب عنه، ودخلت في جديد مرغوب فيه، ويسري هذا الشعور

منها وممن تربى مثل تربيتها إلى سائر نساء قومها، ورجالهم الذين يألفون عملها،

ويقرونه.

أنقلدهم بهذا؟ ولا نقلدهم في تربية النساء الدينية، التي نرى أقوى شعوبهم،

وأعزها، وأعلمها كالجرمانيين، والسكسونيين، هم أشد عناية بها ممن دونهم، بلغ

من رسوخ الشعور الديني عند نسائهم: أن المرأة التي يقذفها الفقر في مهواة البغاء،

تعلق صورة المسيح أو أمه في بيتها؛ لإحياء ذكرى الدين في قلبها، فإذا همت بالمنكر

فيه، حولت وجه الصورة إلى جهة الجدار استحياءً وأدبًا.

إذا صح أن هذا التياترو يفيد مسلمي روسيا في آدابهم وأخلاقهم، مثل ما يزعم

الإفرنج أنهم يستفيدون منه؛ فما هذه الفائدة المدعاة إلا من الأمور التي تسمى

تحسينية أو كمالية؛ أي: مما يطلب وراء الضروريات والحاجات التي لم يستكملوا

شيئًا منها. وقد دعاني إلى رؤية هذا التمثيل العربي بمصر بعض الفضلاء أول مقدمي

إليها، وبعد رؤيته سئلت عن فائدته. فقلت: إنني لم أر له فائدة وراء التسلية إلا

تمرين أسماع من يحضره من العوام على كلام عربي، هو وسط بين كلامهم وبين

العربية الفصحى. ثم رأيت أن بعض القصص لا تخلو من فائدة وعبرة.

أقول هذا وأنا أعلم أن المقلدين، يضيع عندهم البرهان إن خوطبوا به، فكيف

ولا سبيل إلى مخاطبتهم بما يفهمون. وقد كان يكون هذا مفيدًا، لو كان للمسلمين

زعماء عقلاء يدبرون أمرهم، ويديرون بالرأي والروية مصالحهم، ولكنهم أضحوا

فوضى، لا سراة لهم إلا أننا نرجو الخير من بعض العلماء وأصحاب الصحف.

فنسأل الله أن يوفقهم لخير الإرشاد، وينفع بهم العباد.

_________

ص: 38

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة من جاوه

إسلام من دون البلوغ

(س2) السيد عقيل بن عثمان بن يحيى في (تيمور كونغ - جاوه) .

ما قولكم في إسلام من دون البلوغ من اللقطاء، وأولاد الكفار، وأهل الكتاب،

هل تجري عليه أحكام الشرع، كالمكلف في حياته وموته، أم ينفرد بأحكام تخصه؟

(ج) قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة - وفي

لفظ: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وفي رواية: على فطرة الإسلام، وفي

رواية زيادة: حتى يُعْرِبَ عنه لسانه - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)

الحديث رواه أحمد والشيخان واستدل به على أن الصغير لا يحكم عليه قبل التمييز

إلا بالإسلام الذي هو دين الفطرة، حتى يميز ويعبر عن فكره فإنه يحكم له بالملة التي

يختارها. وهو المراد برواية جابر عن أحمد: (حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب

عنه لسانه: فإما شاكرًا، وإما كفورًا) .

وينقل أهل الأثر صحة إسلام المميز عن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن شيبة

وعدمها عن الشافعي وزفر. واستدل على هذا بحديث (رُفِع القلم عن ثلاثة) ، وذكر

منهم الصبي حتى يبلغ. والحديث حسنه الترمذي، وفيه بحث وأجيب عنه: بأن

الإسلام يكتب له لا عليه، وإنما يدل الحديث على أنه يؤاخذ لا على أنه لا

يقبل إسلامه، كيف وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم يقبل إسلام الصغار لا

يرد أحدًا، ومن المشهور الذي لا يرده أحد من المختلفين في المسألة، إسلام علي - كرم الله وجهه - وهو دون البلوغ. قال عروة: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان

سنين، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير، لسبع أو ثمان سنين.

وقد يصح الاستدلال بالحديث على أن من دون البلوغ؛ لا تصح ردته عن الإسلام.

وهي رواية عن أحمد والمذهب: الأول؛ أي: أن المميز يصح إسلامه وردته.

وفي رواية ثالثة: لا يصح شيء منهما.

على أن المميز الذي في حجر والديه يكون تابعًا لهما في الأحكام الدنيوية،

وإن قلنا بصحة إسلامه على المختار، حتى يبلغ سن الرشد أو يخير، كما

أمر النبي- صلى الله عليه وسلم بتخيير أولاد أصحابه؛ الذين كانوا متهودين مع

بني النضير وكانوا أرادوا إكراههم على الإسلام، وفيهم نزل {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) راجع تفسير الآية في المجلد التاسع ص 161.

***

حمل الميت على عربة

(س3) ومنه: هل يجوز حمل الميت على عربة تجرها الخيل أو الرجال،

إذا قيل: إن هناك مصلحة كبعد القبر، أو خفة المؤنة. وهل فيه إزراء بالميت أو

تشبه غير محمود؟ المسألة ذات بال، فمن القوم من يشدد النكير، ومنهم من يقول

بالتيسير.

(ج) إنما جعل المسألة ذات بال التقاليد والعادات، ولا يهتم الناس من جميع

الأمم بشيء من العادات، كالعادات في تجهيز الموتى ودفنهم وزيارتهم، حتى

إن الذين ينسلخون من الأديان ويتركون العبادات وسائر التقليد، يظلون محافظين

على ما درج عليه أهل ملتهم؛ من التقاليد والعادات المتبعة في هذا الأمر.

لا دليل في الكتاب ولا في السنة على تحريم حمل الميت على عربة من غير

تشبه بغير المسلمين في دينهم؛ لا سيما إذا كان هناك مصلحة؛ لأن المراد بحمله

نقله وإيصاله إلى القبر ليدفن، وقد كانوا يحملون النعش في صدر الإسلام بالكيفية

المعروفة في زمنهم، ولم يقل الشارع: إن هذه الكيفية تعبدية، لا ترفعها المشقة

التي تجلب التيسير. ولو كانت الوسائل العادية التي كانوا يفعلونها واجبة على سبيل

التعبد بمجرد جريهم عليها، لوجب علينا أن لا نقاتل إلا بمثل سلاحهم، وإن سحقتنا

المدافع سحقًا، وأن لا نلبس إلا مثل ملابسهم، وإن سبقتنا الأمم في النشاط سبقًا،

أما التشبه المحظور في مثل هذا العمل، فهو ما يشتبه فيه المتشبه بالمتشبه به في

أمر من أمور دينه، ويكون ذلك عن قصد، وما أغنى المسلمين عن هذا؛ إذ

يحتاجون إلى نقل ميتهم على عربة، فالعربات التي ينقل عليها أهل الكتاب أمواتهم

لها شكل مخصوص مزين بالتماثيل، لا يحتاج المسلم إلى مثله قط. ولا نفتيه

باتخاذه، وإن لم يقصد التشبه بهم.

على أن هذا الشكل من عاداتهم لا من عباداتهم، والمسلمون لم يسلَموا في أكثر

البلاد من التشبه بهم، فيما هو عندهم من قبيل العبادة المحضة والتقاليد الدينية

الخالصة كحمل المباخر والقماقم أمام الجنازة، والترنم بالأناشيد الدينية. ويفعل

المسلمون هذه البدع التي سرت إليهم ممن جاورهم من أهل الكتاب في مصر

وغيرها لغير حاجة إليها، ويزعمون - إن اعترض عليهم بالتشبه -: أنها لا تشبه

فيها؛ لأن أناشيد أهل الكتاب هي غير أناشيدنا، وهم يضعون في مباخرهم البخور

ونحن نضع فيها الزهور، وأنت ترى أنه يمكن أن تكون مسافة البعد عن التشبه في

العربة أوسع؛ بأن تكون العربة التي تحمل عليها أموات المسلمين من قبيل عربات

النقل، ولكنها أنظف وأكثر ارتفاعًا، ويوضع التابوت عليها بالهيئة التي يحمل بها

على الأكتاف عادة، وبهذا ينتفي التشابه بالمرة، لكنه لا ينتفي في البدع المعتادة بما

ذكر آنفا؛ لأن الفرق بين أناشيدنا وأناشيدهم المتحدة في الظاهر، ليس بذي شأن،

لا سيما إذا كانوا يمدحون المسيح والحواريين، ويستعينون بهم، ويطلبون الرحمة

من الله للميت، فأكثر أناشيدنا المتبعة من هذا القبيل؛ لأنهم ينشدون قصيدة البردة

ونحوها، ومدح النبي وأصحابه من قبيل مدح المسيح وحواريه عليهم السلام

أجمعين.

وبهذا نعلم أن المسألة مسألة عادات وتقاليد، لا مسألة حرص على السنة، فإن

ما خالفوا فيه السنة، وأخذوا فيه بالبدعة لا حاجة إليه، وما حرصوا فيه على العادة قد

يحتاج إلى تركه لمصلحة، ونحن نتبع المصلحة في العادات، ومتبع المصلحة لا

يسمى متشبهًا بمن سبقه إليها، ولا مقلدًا له على أن تشبهنا بغيرنا في عادة له لم يحرم

علينا، ما لم يكن فيه مفسدة وضرر فله حينئذ حكمه.

***

رهن العقار والديار على مديري الكنائس والأديار

(س4) ومنه: ما قولكم فيمن يرهن عقاره أو دياره على مديري أموال

الكنائس والأديار؛ ويوفيهم ما اصطلح معهم عليه من ربح المال شهريًّا؛ ويَدَّعي أن

ذلك ليس من المعاملات الربوية. ما هو حكمه؟ هل يفسق بهذا الفعل أو هذا

الاعتقاد، أم له فيه فسحة أو مسامحة؟ وما يقال في مساهمة أو معاملة من هذا

ديدنه؟

إن أشبعتم الفصل والنقل في هذا الباب فهو من المهم في الدين؛ لتساهل أهل

هذه الجهة في الاحتياط والورع، بل تقادعهم في الحرام السحت والطغيان،

وتعاقدهم على الإثم والعدوان، وتقاعدهم عن المبرات والإحسان، فصارت معاملتهم

كلها فاسدة بما يدعونه صحيحًا، وقد عم الربا هذا القطر (جاوى) من غير مبالاة،

فعسى أن يحصل لهم بما تضعونه ارتداع، ولكم ثواب الدلالة على الهدى وإيضاح

الحق.

(ج) مديرو الكنائس والأديار كغيرهم من الناس في المعاملات المالية ما

خصهم الدين بأحكام في العقود والمعاوضات، فالرهن عندهم كالرهن عند غيرهم، إن

جائزًا في نفسه فجائز معهم، وإن ممنوعًا فممنوع. والدين قد حرم الربا؛ لما فيه من

قساوة القلب وترك التعاطف والمواساة للمحتاج، كما بيَّنا ذلك بالتفصيل في تفسير

آيات الربا، وبيَّنا ما هو الربا المحرم بالنص، فيراجع في المجلد التاسع.

واعلم أنك إذا عددت كل ما يقوله المصنفون في كتب الأحكام التي يسمونها فقهًا

من أمور، وحكمت بفسق التارك لبعض شروطهم في هذه المعاملات الدنيوية، فإنك

تقذف بالمسلمين في مأزق من الحرج، لا قبل لهم به ولا طاقة لهم باحتماله. إن الدين

حرم الربا والغش والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، والضرر والضرار،

وكل ما فيه إفساد للأخلاق وتدنيس للأرواح، وأوجب عليهم الوفاء بالعقود، وأقرهم

على عقودهم ما لم تحل حرامًا أو تحرم حلالاً، وأباح لهم بعد ذلك أن يتعاملوا كيف

أرادوا بالتراضي بينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا، وهم غير مكلفين بالعمل بآراء الفقهاء

واجتهادهم، التي لا دليل عليها في النص، إلا إذا أمر الحكام بالقضاء فيها، فحينئذ

تتبع لأجل أن تكون المعاملات نافذة تدينًا وتعبدًا، مثال ذلك: اشتراط الإيجاب

والقبول في البيع مثلاً لما يتعبدنا الله به، وقد قال به من قال؛ اجتهادًا لما رآه من

المصلحة فيه. فإذا تعارف الناس على نوع من المعاطاة وتراضوا به، جاز لهم ذلك

دينًا، ولكنهم يضطرون إلى التزام الإيجاب والقبول، إذا أرادوا أن يكون البيع نافذًا

عند حاكم يشترطه.

***

حُكم شرب البيرا وعصير الزبيب

(س 5و6) ومنه: ما هذا الشراب المسمى (بيرا) ؟ وما حكمه؟ وما مادة

أخذه؟ وهل يقال: إنه من الأجزاء الدوائية، أو غير المسكرات، أو يحل تناوله؟

وهل هو أنواع؟ وهل في عصير الزبيب ما يجوز شربه؟

(ج) البيرا هي (الجعة) ؛ أي: الشراب المأخوذ من ماء الشعير، ويقال:

إنها تخمر بحشيشة الدينار، وهي أنواع ولا شك في كونها من المسكرات، ولكن

يقال: إن القليل منها لا يسكر لا سيما بعد الاعتياد، والصحيح المختار عند

جماهير المسلمين ومنهم الشافعية الذين يقلدهم أهل بلادكم، أن ما أسكر كثيره فقليله

حرام وهي ليست من الأدوية، ولكنها تفيد في تحليل البول، وفي الحلال ما يغني

عنها في ذلك كالبقدونس. ومن مرض بحصر البول، ولم يجد محللاً غيرها، حل

له التداوي بها بقدر الحاجة.

وعلمت أنه يوجد نوع منها يستعمل للتحليل، لا يسكر قليله ولا كثيره ولكنه

قليل المكث؛ يشرب عقب صنعه، فإذا طال عليه الأمد أيامًا، فسد وذهبت فائدته.

وأما عصير الزبيب: فلا يحرم إلا إذا اختمر وصار مسكرًا، وقد عجبت من

هذا السؤال في غير شبهة، وما زال المسلمون مذ كانوا يشربون ماء الزبيب

وغيره منبوذًا ومعصورًا؛ ما لم يمكث زمنًا يتخمر فيه ويصير مسكرًا، وله في

مصر وغيرها مواضع يباع فيها هو وماء الخروب وعرق السوس وغير ذلك.

***

يانصيب

(س7) ومنه: (يا نصيب) لم نعرف ما هيته، ولم نر استئناسًا لتعاطيه

أو دليلاً على حله. فما هو؟ وما حكمه هو وأشباهه؟

(ج) هو نوع من أنواع القمار، كيفيته أن يضع امرؤ أو شركة

قراطيس صغيرة فيها أرقام تسمى نمرًا؛ أي: أعدادًا، يذكر في كل قرطاس منها ما

يدل على أن كذا من هذه النمر؛ يسحب في يوم كذا من شهر كذا وأن طائفة منها

(أي: النمر) يربح كذا قرشًا أو جنيهًا أو فرنكًا، وكذا منها يربح كذا؛ أي: أقل من

ذلك. ويبيعون هذه القراطيس بثمن قليل، بالنسبة إلى ما يُرجى من بعضها،

ويشتريها من يشتريها؛ آملاً أن تكون النمرة فيما يشتريه من النمر الرابحة، وإذًا

يكون أعطى قليلاً وأخذ كثيرًا. وكيفية السحب: أن توضع بطائق عليها أرقام تلك

النمر في وعاء مستدير فيه ثقب، يفتح بعد أن تخضخض البطائق في الوعاء؛ فينزل

منه بطاقة بعد أخرى أمام شهود يصيح صائحهم: ببيان نمرة كل بطاقة تنزل؛ إذ

تكون رابحة حتى إذا تم عدد ما كتب على القراطيس أنه ربح يكون السحب قد تم

وعرف الرابح من غيره. مثال ذلك: أن تكون النمر التي قدر لها الربح عشرة من

مائة، فالمعنى أن البطائق العشر التي تسقط أولاً هي التي تكون رابحة، ومن العادة

أن تكون الأولى أوفر سهمًا، وهذا العمل من القمار؛ أي: الميسر المحرم في الدين

كما هو معلوم.

_________

ص: 42

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

] نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [[*]

قال الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله تعالى -: (يستحيل بقاء الأزهر

على حاله: فإما أن يصلح، وإما أن يسقط) ، وكان - أكرم الله مثواه - باذلاً جُلَّ

عنايته في إصلاحه؛ حذرًا من سقوطه وحرمان المسلمين مما يرجى بإصلاحه، وكان

أقدر من عرفنا من الناس على هذا الإصلاح وسائله ومقاصده، وأحكمهم في تنفيذه،

إلا أنه أخطأ في أمر واحد لولاه لتم له ما أراد من الإصلاح؛ وهو فوق ما طلب منه

ذلك الأمر هو محاولة إصلاحه برضى كبراء شيوخه، واستعمالهم فيه بالإقناع

دون السلطة، إلا ما بدأ به من وضع قانون لإدارته، والسعي في إصدار إرادة من

الأمير به بناءً على قرار من مجلس النظار؛ لعلمه أن العمل بدون ذلك متعذر.

ولا محل لشرح ذلك هنا بل موضعه الجزء الأول من تاريخه الذي نعتني بطبعه

الآن، وإنما نريد أن نبين أنه كان يحاول تنفيذ هذا القانون بدون استعانة بسلطة

التنفيذ في البلد؛ بل بمجرد رضى شيخ الأزهر وأعضاء الإدارة.

كان الشيخ حسونة النواوي أول من ولي المشيخة، واختير للعمل بهذا القانون

مع المرحوم وسائر من اختيروا للإدارة، وكان المرحوم هو الذي اختاره، وسعى

لدى الأمير بتعيينه وكيلاً للشيخ الإنبابي المرحوم ثم أصيلاً، وقد استعان على هذا

ببعض أصدقائه كالمرحوم أمين باشا فكري. ذلك أنه كان يعتقد أن الشيخ حسونة

أمثل الشيوخ وأرجاهم لقبول الإصلاح، علمت ذلك منه أول مقدمي لمصر سنة

1315؛ إذ قلت له: سمعت من بعض مجاوري الأزهر الطرابلسيين أن شيوخ

الأزهر قد امتعضوا من جعل الشيخ حسونة شيخًا للأزهر؛ لأنهم لا يعدونه من كبار

العلماء.

فقال: إن كانوا يعنون بذلك أنه لا يقدر على إيراد الاحتمالات الكثيرة في مثل

عبارة جمع الجوامع؛ فهذا صحيح ولكن هذه الاحتمالات التي يوردونها ليست من

العلم في شيء، والشيخ حسونة أمثلهم. وقد دلت التجارب على صدق هذا القول-

ولا ننسى فضل المرحوم السيد علي الببلاوي الذي ظهر من فضله فوق ما كان يظن

فيه - فإن ما جرى على يد الشيخ حسونة أولاً وآخرًا، لم يجر على يد غيره

مثله.

نعم كان الشيخ حسونة يرجئ بعض ما يقترح المرحوم؛ عملاً بالتدريج عن

رأي واعتقاد، ولكنه لم يكن يقرر الشيء ولا ينفذه؛ كما فعل من جاء بعده ما عدا

الببلاوي، وقد تقلب على الأزهر في هذه المدة عدة شيوخ، كان أشهرهم في علوم

الأزهر أبعدهم عن الإصلاح. فالشيخ سليم البشري من أشهرهم لم يجر على يده

شيء، بل كان معارضًا لكل شيء فأرضى أمثاله من المحافظين على القديم،

وأغضب طلاب الجديد، والشيخ عبد الرحمن الشربيني أشهرهم على الإطلاق وهو

لم يفعل شيئا، ولم يرض طائفة من الطائفتين.

قلت للأستاذ الإمام مرة: إن قرار مجلس إدارة الأزهر هو كقرار كل مجلس

رسمي وكل محكمة يطالب القانون بتنفيذه ويعاقب على تركه، فلماذا لا تطالب

بتنفيذ هذه القرارات الكثيرة التي يمتنع شيخ الأزهر من تنفيذها بصفة رسمية؟

فلو فعلت هذا مرة واحدة؛ لنفذ كل قرار. فقال: إن هذا لا يكون إلا بسلطة

الحكومة، وإنني أرجو أن لا أدع الحكومة تتداخل في الأزهر ما دمت فيه، فكيف

أكون أنا الذي يدعوها إلى ذلك؟ فنحن ندعو الشيوخ بالإقناع معتصمين بالصبر.

وكان يكره أن يكون (للمعية) أصبع في الأزهر، كما يكره أن يكون

للحكومة يد فيه؛ لاعتقاده أن خير الإصلاح في العلم والدين؛ ما كان بعيدًا عن

السياسة فائضًا عن اقتناع العلماء به واستقلالهم فيه، ولكن (المعية) ولعت بالأزهر

ولوعًا كاد يكون عشقًا وغرامًا، ولما رأت أن تمتعها بهذا المعشوق لا يتم مع وجود

هذا العذول الرقيب، طفقت تناهضه حتى كان ما كان من أمر استقالته من إدارة

الأزهر، وكان ما كان بعده من الخلل في هذا المكان، حتى أدى ذلك إلى إقامة نائب

عن شيخه الشربيني، يدبر الأمر من دونه عدة أشهر ثم إلى استقالته، وإعادة الشيخ

حسونة إلى المشيخة وعلى يد الشيخ حسونة تم مشروع مدرسة القضاء الشرعي،

وصدر به الأمر العالي فصدق قول المرحوم فيه: إنه أمثلهم في حياته وبعد مماته.

مما كان ينويه من إصلاح الأزهر إنشاء قسم قضائي فيه يرشح فيه الطلاب

لمنصب القضاء. زاده حرصًا عليه اقتراح المستر سكوت - المستشار القضائي

الأول - إصلاح المحاكم الشرعية، وجواز جعل المتخرجين في مدرسة الحقوق

الخديوية قضاة شرعيين. لم أر الأستاذ مهتمًّا في مقاومة شيء كاهتمامه في حمل

الحكومة على الإغضاء عن جعل متخرجي الحقوق قضاة للشرع. سعى في ذلك.

وحاول إقناع كبراء الشيوخ بأن يسعوا معه، فلم ير منهم مبالاة فكان يتململ ويقول:

إذا نفذ هذا المشروع، قضي على الأزهر، وقد نجح سعيه فلم ينفذ.

وعندما حاولت الحكومة تعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية للمحكمة

الشرعية العليا بمصر، ولم يتم ذلك قوي عزمه، وظن أن الفرصة سنحت لإنشاء

القسم القضائي، وقد فتحنا كوة للبحث في ذلك؛ إذ أنشأنا مقالة في المنار الذي صدر

في ذي الحجة سنة 1316؛ نقترح فيه إنشاء هذا القسم القضائي، ولكن حال دون

إنشائه عزل الشيخ حسونة من المشيخة، وتولية الشيخ عبد الرحمن القطب في 24

المحرم سنة 1317، ولم يلبث هذا أن توفي بعد شهر من توليته، وولي الشيخ سليم

البشري الذي وقف في عهده سير الإصلاح، وكان من أمر (المعية) من أول عهده

إلى الآن ما أشرنا آنفًا إلى أنه انتهى باستقالة المصلح العظيم من إدارة الأزهر،

وبهذا انقطع رجاء الحكومة من إصلاح حال القضاة الشرعيين الذين ضجت منهم

الأمة طالبة بلسان الجمعية العمومية ولسان مجلس الشورى إصلاح المحاكم

الشرعية، فعهدت إليه بوضع مشروع إنشاء مدرسة قضائية، يتولى هو بنفسه

أمرها.

وكان هذا المشروع آخر عمل إصلاحي عمله؛ إذ تم في أوائل مرض

الموت. وما كان يؤلمه من هذا المشروع إلا انفصاله عن الأزهر، وقصارى ما

أمكنه من وصله به، جعله تحت نظر مفتي الديار المصرية دائما، وكان للحكومة

معه وقفة في هذه المسألة.

تبارك ناصر المخلصين، أحياء وميتين. فقد قضت حكمته عز وجل أن

يقوم بتنفيذ المشروع، ويجعله أشد صلة بالأزهر سعد باشا زغلول ناظر المعارف لهذا

العهد، ولا يجهل أحد من المصريين من هو سعد باشا من الأستاذ الأمام، وأن يكون

ذلك في عهد مشيخة الشيخ حسونة وبعد موافقته عليه، وجعله تحت نظره، وقد علم

القراء اعتقاد المرحوم في الشيخ حسونة، وما كان من نيته في أيام مشيخته الأولى،

وهاك نص القانون في ذلك:

مشروع أمر عال

بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي

نحن خديوي مصر:

بعد الاطلاع على قانون الجامع الأزهر الصادر به الأمر العالي بتاريخ 20 محرم سنة 1314 (أول يوليه سنة 1896) . نمرة 3

وبناء على ما عرضه علينا ناظر المعارف العمومية، وموافقة رأي مجلس

النظار، أمرنا بما هو آت:

المادة الأولى - يخصص قسم من الأزهر؛ لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء

ووكلاء دعاوي وكتبة للمحاكم الشرعية، ويسمى (مدرسة القضاء الشرعي) .

المادة الثانية - تكون هذه المدرسة باعتبار كونها قسمًا من الأزهر تحت

إشراف شيخه، وتكون لطلبتها من الامتيازات ما لغيرهم من الأزهريين، ويتولى

إدارتها ناظر، يعينه ناظر المعارف، ويكون لها محل مخصوص.

المادة الثالثة - تنقسم هذه المدرسة إلى قسمين: القسم الأول لتخريج كتبة للمحاكم الشرعية. والقسم الثاني لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء ووكلاء دعاوي للمحاكم الشرعية أيضًا.

القسم الأول

المادة الرابعة - يشترط فيمن يدخل القسم الأول من مدرسة القضاء الشرعي

ما يأتي:

أولاً - أن يكون طالب علم في الأزهر أو أحد ملحقاته مدة ثلاث سنين، وأن

يكون حميد السيرة.

ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم، سليمًا من العاهات.

ثالثًا - أن ينجح في امتحان الدخول في المواد الآتية:

(أ) حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل.

(ب) المطالعة في الكتب السهلة مع الصحة وفهم المعنى.

(ج) الإملاء.

(د) النحو.

(هـ) الفقه.

(و) مبادئ علم الحساب.

المادة الخامسة - يكون امتحان الدخول في هذا القسم تحت رياسة شيخ الجامع

الأزهر، أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من

عضوين ينتخبهما ناظر المعارف العمومية؛ بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في

المادة 18.

المادة السادسة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم خمس سنوات.

المادة السابعة - تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:

التفسير - الحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - التوثيقات الشرعية -

التوحيد - المنطق - آداب وأخلاق دينية - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف

والمجالس الحسبية ونظام القضاء والإدارة - اللغة العربية - الحساب والهندسة

- التاريخ والجغرافيا - الخط.

المادة الثامنة - الامتحان النهائي للقسم الأول: يكون تحت رياسة شيخ الجامع

الأزهر أو من ينيبه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من عضوين

ينتخبهما ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في المادة 18.

المادة التاسعة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الأول تحريريًّا

وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.

المادة العاشرة - تعطى لمن نجح في الامتحان النهائي لهذا القسم شهادة الأهلية

الأزهرية، ويكون أهلاً بموجبها لأن يعين كاتبًا بالمحاكم الشرعية؛ فضلاً عن

المزايا المقررة لها بحسب قانون الأزهر.

القسم الثاني

المادة الحادية عشرة - يشرط فيمن يدخل القسم الثاني من مدرسة القضاء

الشرعي ما يأتي:

أولاً - أن يكون حاملاً لشهادة القسم الأول.

ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم سليمًا من العاهات.

ثالثًا - أن يكون حميد السيرة؛ لم يسبق الحكم عليه بسبب أمر مخل بالشرف

وأن يكون عاملاً بأمور دينه.

المادة الثانية عشرة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم أربع سنين.

المادة الثالثة عشر- تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:

تفسير وحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - حكمة التشريع - الأصول على

مذهب أبي حنيفة - آداب البحث - توحيد - منطق - آداب وأخلاق دينية - أصول

القوانين - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية ونظام القضاء

والإدارة - محاضرات عامة ودراسة بعض القضايا ذات المبادئ الشرعية - اللغة

العربية - العلوم الرياضية - التاريخ - تقويم البلدان - الخواص التي أودعها الله

تعالى في الأجسام.

المادة الرابعة عشرة - الامتحان النهائي للقسم الثاني يكون تحت رياسة شيخ

الجامع الأزهر أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال،

وتتألف كل لجنة من خمسة أعضاء ينتخبون من علماء الأزهر وأرباب المعارف

الفنية بمعرفة ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة. المبينة في المادة 18.

المادة الخامسة عشرة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الثاني

تحريريًّا وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.

المادة السادسة عشرة - يصدر لمن نجح في الامتحان النهائي للقسم الثاني:

البيورلدي العالي - المنوه عنه في المادة 53 من قانون الأزهر- وزيادة عما

لحامله من المز يا، يصير أهلاً بموجبه لأن يكون وكيل دعاوى أو قاضيًا أو عضوًا

أو نائبًا بالمحاكم الشرعية.

أحكام عمومية

المادة السابعة عشرة - يكون للمدرسة لجنة إدارية تسمى لجنة الإدارة،

وتتألف من: شيخ الجامع الأزهر أو من ينوب عنه رئيسًا، ومن مفتي الديار

المصرية، ومن ناظر المدرسة، ومن عضوين آخرين ينتخبهما ناظر المعارف

بالاتفاق مع ناظر الحقانية.

المادة الثامنة عشرة - تختص لجنة الإدارة بما يأتي:

أولاً - تحرير اللائحة الداخلية.

ثانيًا - وضع برجرامات الدراسة وتوزيعها على السنين والأوقات المختلفة

وبيان درجات كل علم.

ثالثًا - انتخاب المدرسين بالمدرسة.

رابعًا -انتخاب أعضاء لجان الامتحانات المختلفة.

خامسًا - تقرير ما ينبغي صرفه من الإعانات الشهرية لطلبة القسم الأول

والثاني.

سادسًا - تقرير الأجازات التي تعطل فيها الدارسة.

سابعًا - ما يطلب منها ناظر المعارف النظر فيه.

قرارات هذه اللجنة تكون نافذة بعد تصديق ناظر المعارف عليها.

المادة التاسعة عشرة - مرتبات الموظفين والمدرسين بهذه المدرسة تقدر على

حسب أهمية وظائفهم، وأهمية الدروس التي يكلفون بإلقائها، ويعطى لطلبتها

إعانة شهرية.

المادة العشرون- لا يصح أن ينتخب مدرس في هذه المدرسة من غير علماء

الأزهر، إلا إذا كان مسلمًا حميد السيرة، ومشهودًا له بالبراعة في الفن المعين

لتدريسه.

المادة الحادية والعشرون - ناظر المدرسة هو المكلف بضبطها، ونظامها،

وتنفيذ قرارات لجنة الإدارة فيها.

أحكام وقتية

المادة الثانية والعشرون - إذا ظهر من نتيجة امتحان الدخول في القسم الأول

في أثناء السنوات الأربع الأولى التالية لافتتاح المدرسة؛ وجود طلبة مستعدين لتلقي

دروس أي سنة من السنة الأولى وعددهم كاف لتشكيل هذه السنة، جاز تشكيلها

وذلك بطريق الاستثناء، من أحكام المادة 6.

المادة الثالثة والعشرون - يجوز في أثناء السنوات الخمس الأولى التالية

لافتتاح المدرسة، أن يقبل بالقسم الثاني طلبة الأزهر ممن قضوا ثمان سنوات بدون

شهادة الأهلية أو العالمية إذا توفرت فيهم الشروط الأخرى المنصوصة في تلك

المادة وذلك استثناء من أحكام المادة (11) .

المادة الرابعة والعشرون -على ناظر المعارف تنفيذ هذا القانون.

(المنار)

عرض هذا المشروع على كبيري العلماء ورئيسهم الشيخ حسونة شيخ الأزهر

والشيخ بكر الصدفي مفتي الديار المصرية؛ قبل عرضه على الحكومة رسميًّا، وبعد

مذاكرة بينهما وبين ناظر المعارف وبعد تحوير اقترحاه، فأجابهما

الناظر إليه أقرَّا المشروع. ثم أرسل ناظر المعارف نسخة إلى (المعية) والنظار

ووصل بعضها إلى جريدة اللواء فنشرته. وبعد أيام من نشره لم يسمع له فيها

صوت انبرى بعض المدرسين في الأزهر إلى انتقاد بعض مواده في الجرائد،

وكتبوا إلى ناظر المعارف عريضة. ذهب وفد منهم فقدمها إليه في النظارة، فطلب

منهم أن يختاروا أربعة منهم للكلام معه، فوعد الأربعة بإجابتهم إلى ما طلبوا، وأهمه

عدم امتحان من يطلب الدخول في المدرسة من حاملي شهادة العالمية، وكان ذلك حتمًا

مقضيًّا في المشروع، ثم ذهبت طائفة أحرى من المجاورين النبهاء، فشكوا إلى

الناظر من اشتراط كون طالب الدخول حنفي المذهب، وكونه حاملاً لشهادة العالمية،

فوعدهم بإجابة طلبهم، فانقلبوا كسابقيهم مسرورين شاكرين، وقد وفى الناظر

بوعده للفريقين.

ثم إننا سمعنا بعد ذلك من جانب الأزهر دندنة وجمجمة، وقيل: إن بعض

المشايخ جاء من خارج القاهرة فطاف على كبار الشيوخ، واجتهد في إقناعهم

بمعارضة المشروع حتى إنه ظاهر بين المتدابرين؛ لأجل الاتفاق. وتحدث الناس

بأن صدور الأمر العالي بالمشروع سيرجأ، وذكرت الجرائد ما يدل على ذلك قبل

اجتماع مجلس النظار برياسة الأمير بيوم أو يومين. ولكن المشروع عرض على

المجلس وصدر الأمر العالي به، وقضى الله أمرًا كان مفعولاً، وانفتح لطلاب

العلوم الدينية باب النظام في التعليم، وباب علوم الكون وذلك فتح مبين، ومبدأ

تاريخ في المسلمين جديد.

ولا نزال نسمع عن الشيوخ أنباء الائتمار والدعوة إلى الاتفاق على طلب

نسخ بعض مواد هذا القانون؛ بناءً على المقرر في الأصول من جواز نسخ الحكم

المشروع قبل العمل به، وإذا جاز في الدين؛ فلأن يجوز في القوانين أولى.

والمشتغل منهم بالسياسة، والمتحرك فيهم بالسياسة يقول: إن الأمر العالي الذي

صدر بتعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية في المحكمة الشرعية العليا، قد

أوقف تنفيذه لما كان من معارضتهم. وإننى أخشى إن استرسلوا في هذا الغرور،

وغرهم بما يغريهم به الغرور، أن يلجئوا الحكومة إلى السيطرة عليهم، وتعيين

مدير للأزهر يدبر أمر التعليم وينفذ القانون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولكن

الرجاء في الشيخ حسونة - وقد حنكه الزمان وهو أعلم منهم بما كان - أن يتلافى

ذلك بالحكمة، ويرضي بحسن إدارته الحكومة والأمة.

_________

(*)(الصف: 13) .

ص: 48

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(وقائع الحرب)

نظم فارس أفندي الخوري أحد كتاب الشام وشعرائها المشهورين أربع

قصائد في تاريخ الحرب بين الروس واليابان؛ التي كان مبدأها أوائل فبراير

(شباط) سنة 1904 ونهايتها في أوائل سبتمبر (أيلول) سنة 1905. وأهداها

إلى صديقه الدكتور حسين أفندي حيدر فطبعها هذا طبعًا متقنًا بمطبعة الأخبار

بمصر، وهي تباع بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بقرشين صحيحين.

وإننا نورد بعض الفصول من هذه القصائد؛ لما فيها من الفائدة والعبرة في

ثوب الفكاهة والتسلية؛ ومنها يعلم القارئ درجة الناظم في القدرة على نظم

الوقائع وضبطها مع الإنصاف، والأمانة في النقل، وتحري تنبيه الذهن وإنارة

العقل، قال في القصيدة الأولى وهو الفصل 5، 6، 7 (وما في الهوامش من

تفسير بعض الكلم منقول من الأصل؛ إذ وضع في آخره جدول لذلك) .

(نكبة الروس بغرق الأميرال مكروف على الدارعة بتروبالسك في 13

نيسان سنة 1904)

سعى طوغو على مكروف يوم الـ

ـلقا، وأعد تدبيرًا مريرا

أقام له الفخاخ بكل وجه

يؤججه بها نارًا حرورا

وناصبه بعرض البحر حربًا

فكر عليه لا يخشى نكيرا

أثارته الشهامة عن عرين

ويأبى الليث إلا أن يثورا

فقاتله وناضله بقلب

يريه كل معتاص يسيرا

ولكن قلما عدد قليل

يفوز ويغلب العدد الكثيرا

تدفقت الكرات عليه حتى

رأى في الكر موقفه مبيرا [1]

فدار إلى الخليج يريد أمنًا

وكان بواره في أن يدورا

مضى يجتاز فوق فخاخ طوغو

كملاح يحاذر أن يجورا

إلى أن شقت الغمرات فاهًا

وأصعدت البلايا والسعيرا

فشاهد تحت أخمصه جحيمًا

وقد فتحت قذائفه حفيرا [2]

كأن جهنما وجدت سبيلاً

ومطوياتها لقيت نشورا

كأن هناك بركانًا تلظى

وأطلق في الفضا نارًا ونورا

كأن البحر غضبان عليهم

لما جروا على الدنيا شرورا

طوى بضميره حنقًا، فلما

دنا مكروف كاشفة الضميرا

هوت فيه السفينة في خليج

وكانت قبل تخترق البحورا

على مكروف، قد بكت البواكي

وأطلقت المدامع والشعورا

ففاض له بأرض الروس دمع

يؤلف لو يضم معًا غديرا

بمصرعه عزوم الروس خارت

وحق لها بذلك أن تخورا

رجاء القوم معقود عليه

ليدفع عنهم الخطب العسيرا

أميرهُمُ وعند أشد ضيق

يراد لكشفه فقدوا الأميرا

فكان بهديه قمرًا مضيئًا

وكان بكره أسد مزيرا [3]

وإن الروس لا يسلون عنه

ولو وجدوا له فيهم نظيرا

(6)

(الوقعة البرية الأولى على نهر يالو في 1 أيار سنة 1904)

أقام الروس في يالو قلاعًا

على تحصينها صرفوا شهورا

مسيل النهر دونهم فظنوا الـ

ـعدى لا يستطيعون العبورا

ومن خاض البحور إلى الأعادي

أيأبى أن يخوض لهم نهورا؟

مشى اليابان لا يخشون بؤسًا

وماء النهر يكتنف الصدورا

بجيش كل من فيه جريء

تمنى للأعادي أن يطيرا

وصبوا من مدافعهم كرات

يفلق عزم صدمتها الصخورا

لئن صبرت جيوش الروس شيئًا

فبعد هنيهة ولت ظهورا

وأبقت من ذخائرها نهابا

ومن أعتادها شيئًا كثيرا [4]

ولليابان في الآثار

شد

فكم قتلوا وكم أخذوا أسيرا

أتوا أَنْطُنْغَ بالرايات، حتى

على أسوارها خطرت خطيرا

لعمرك ليس يحمي السور مُدْنًا

إذا عدمت من التدبير سورا

فهل حدثت في أخبار دلني

وما شادوا بساحتها قصورا

وما قد أنفقوا عملاً ومالاً

على المرسى وكيف جرى أخيرا

أباحوها إلى اليابان غنمًا

وما نالوا على نصب أجورا

ولا عجب لمختال مدل

إذا أخلى الحواضر والثغورا

إذا غفل الرعاة عن المواشي

فمن ذا يدرأ الأسد الهصورا

وإن الخاشع اليقظان يكوي

بحد حسامه البطل الفخورا

كذلك من توخى البغي متنًا

تراه بدون معثرة عثورا

(7)

(وقعة كنشو)

وكنشو بالمدافع منعوها

وولوا حفظها جيشًا كبيرا

وظنوا أنها تبقى طويلاً

وتثبت في خفارتهم دهورا

أغار الخصم منقضًّا عليها

ونار الروس تكتسح المغيرا

إلى أن كوروا القتلى تلالاً

وأوشكت المعاقل أن تمورا [5]

رأوا أن العدو يموت طوعًا

ولا يأبى التقحم والكرورا

ومن رغب المنية وانتحاها

يبيت عدوه عنها نفورا

بدا للروس أن الفتح دان

يغذ فلا معين ولا مجيرا [6]

فولوا تاركين على الروابي

ذخائرهم لأعداهم نصيرا

لقد شمخوا على اليابان لما

رأوا جنديهم قزما زميرا [7]

وقالوا: سوف نطحنهم فتغدو

قبورهم الضواري والنسورا

ولكنا على يالو وكنشو

وجدنا القول بهتانًا وزورا

فعرض الجسم لا يغني فتيلاً

وطول القد لا يجدي نقيرا

ألست ترى الوليد وفيه حزم

يسوم الفيل خسفًا والبعيرا

رهام الطير تنخلع ارتياعًا

إذا رأت البواشق والصقورا

***

وقال في أول القصيد الثانية:

(الوقعة الكبرى في جوار مكدن في 15 شباط سنة 1905)

(1)

بمكدن كور بتكن لَمَّ جيشًا

وشاد له المعاقل والحصونا

رأى الأعتاد وافرة لديه

فظن مقامه حرزًا حصينا

ولكن رأي أوياما أراه

أمورًا خيبت تلك الظنونا

أقام له المراصد في الصياصي

وبين جفونه بث العيونا [8]

تخبره بما اصطنعوا دفاعًا

لحوزتهم وكيف يدبرونا

أعد الخطة المثلى ليوم

يروع حر أزمته السنينا

ورتب للهجوم عليه رأيًا

يكون لمجد رايته ضمينا

وهز جناحي الجيش التفافًا

على أعدائه المتحصنينا

رمى اليسرى بكوركي فندزو

فأكو ثم في نوجي اليمينا

(2)

ودارت للمنون رحى طحون

لها الأجساد قد صارت طحينا

وطبق كل ناحية دخان

كثيف أسود يعمي العيونا

وصوت القذف أوقر كل أذن

فإن سمعته تحسبه طنينا

فليس بمبصر أحد أخاه

وما هو سامع منه الأنينا

فصار الحزن من دك سهولاً

وصار السهل من جثث حزونا

لو انقشع الدخان بدت أمور

ترد المرد شيبًا منحنينا

جيوش كيفما العين استدارت

تراهم يظهرون ويختفونا

كأن الأرض بالأبطال حبلى

تدفعهم حيارى صارخينا

فلا حجر تراه العين إلا

يحجب خلفه منهم جنينا

كأن حجارها الصم استحالت

رجالاً بالحديد مسربلينا

فلا واد بتك الأرض إلا

ويخرج من معاطفه كمينا

كأن عقولهم ذهبت شعاعًا

فليس لهم بها ما يرهبونا

فكل فتى غدا أسدًا هصوراً

وموطئ رجله أضحى عرينا

***

(حديث عيسى بن هشام أو قرة من الزمن)

لمحمد بك المويلحي مقالات أدبية، كان ينشرها في جريدة مصباح

الشرق بأسلوب مقامات البديع والحريري، وراويتها عيسى بن هشام. وكان

يتمنى كثير ممن قرأها من محبي الأدب لو تجمع في كتاب فكان لهم ما تمنوا.

جمع الكاتب نفسه هذه المقالات ونقَّحها، وزاد فيها ونقص منها وطبعها، فكانت

كتابًا صفحاته 336، وقد قال في (إهداء الكتاب) ما يأتي:

(أَلِفَ المؤلفون والكُتَّاب أن يبدؤوا كتبهم عند نشرها بإهدائها إلى بعض

ذوي الشأن والفضل، والضعيف العاجز يهدي هذا الكتاب إلى كل من يقرأه من

أديب يجد فيه طرفًا من الأدب، وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة، وعالم

يبصر فيه شذرة من العلم، ولغوي يصادف فيه أثرًا من الفصاحة، وشاعر

يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال. وأهديه إلى أرواح المرحومين -

الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي

الشنقيطي والشاعر البارودي، أولئك الذين أنعم الله عليهم، وأولئك الذين تأدبت

بأدبهم وأخذت عنهم) اهـ. ونقول: إن هذا العبارة أبلغ ما في الكتاب من خيال

الشعر الفصيح، ولمحات الحكمة في التلويح، ثم ذكر صورة كتاب كانت عنده

من السيد جمال الدين بخطه وهي:

حبيبي الفاضل

تقلبك في شؤون الكمال يشرح الصدور الحرجة من حسراتها، وخوضك

في فنون الآداب يريح قلوبًا علقت بك آمالها، وليس بعد هذا الإرهاص إلا

الإعجاز ولك يومئذ التحدي، ولقد تمثلت اللطيفة الموسوية في مصر كرة

أخرى، وهذا توفيق من الله - تعالى -، فاشدد أزرها، وأبرم بما أوتيت من

الكياسة والحذق أمرها، حتى تكون كلمة الحق هي العليا، ولا تكن كالذين

غرتهم أنفسهم بباطل أهوائها، وساقتهم الظنون إلى مهواة شقائها، وحسبوا

أنهم يحسنون صنعًا، ويصلحون أمرًا، كن عونًا للحق ولو على نفسك، ولا

تقف في سيرك إلى الفضائل عند عجبك، لا نهاية للفضيلة ولا حد للكمال، ولا

موقف للعرفان، وأنت بغريزتك السامية أولى بها من غيرك والسلام.

...

...

...

جمال الدين الحسيني الأفغاني

***

(الدقائق في الحقائق)

ألف يعقوب أفندي جبرائيل مراد، مترجم وسكرتير إدارة دائرة

بوالينودرانبت باشا بكفر الدوار كتابًا سماه بهذا الاسم، أودع فيه أفكاره في

النفس والروح والقدرة الإلهية والأديان، وقد أهدى إلينا نسخة مطبوعة منه،

فنظرنا في بعض صفحاتها من أوائلها وأواخرها، فرأينا فيها فكرة حسنة،

سبق المؤلف فيها أناس؛ ولكنه لم يأت بها تقليداً بل هداه إليها النظر والفكر،

فتقبلها بقبول حسن، بل أدهشه حسنه وجمالها، وراعته عظمتها وجلالها،

فملكت قلبه وفتنت لبه، حتى ظن أنها إلهام، أفاضه عليه ذو الجلال والإكرام؛

لأن مثلها لا يأتي من الفطنة ولا يستفاد بالتعليم، كما قال عاشقات يوسف: {مَا

هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) ثم سرت منها عدوى الافتتان

بها، إلى الهيام بالعبارة المؤدية لها، فتخيل أن الإعجاز ينطوي في كلامه،

الناشر لإلهامه أو المعبر لأحلامه.

أما الفكرة الحسنة: فهي الجمع بين الكتب المنزلة - التوراة والزبور

والإنجيل والقرآن - وإزالة التفرق بين متبعيها. هذا ما دعا إليه الإسلام،

ونادى به القرآن، وهو وحي الرحمن، فكل من دعا إليه فقد دعا إلى المقصد

الحق، وإن أخطأ في الوسيلة، ولا بد لكل قول من تأثير في نفوس مستعدة

له فإذا كان في الناس من يعد هذا الكتاب، كما قال الأستاذ الإمام في بعض

الجرائد (نوبات عصبية) فلا بد أن يوجد فيهم، من يعده حكمة مرضية.

***

(القول المتين في الرد على المخالفين)

رسالة للشيخ قاسم بن سعيد الشماخي صاحب مجلة نبراس المشارقة

والمغاربة، طبعت في العام الماضي، وأهدانا نسخةً منها في هذه الأيام،

فرأينا في فاتحتها، أنه يَرُد فيها على مجلة اسمها الإسلام، يصدرها في بعض

الأحيان رجل اسمه الشيخ أحمد علي الشاذلي وكأن الشيخ قاسمًا ظن أن لهذه

المجلة شأنًا، أو لما تكتبه وقعًا، فعني بالرد عليها وما هي مما يرد عليه،

ولو عرف حقيقتها، لما بذل شيئًا من الزمن في قراءتها بله الرد عليها، وقد

ألقيت إلينا مرة نسخة منها. قيل لنا: إن فيها ردًّا علينا، فلم يحركنا ذلك إلى

تناولها، حرصًا على الوقت أن يضيع في قراءة شيء منها.

وقد وقع نظري في هذه الفاتحة على اسم المنار، فقرأت أسطراً من الكلام

الذي ذكر فيه، فإذا هو حكاية عن رجل هندي، أنكر على المنار إنكار التقليد،

والدعوة إلى معرفة الدين بالدليل. عرفت ذلك الهندي، وما هو بهندي، إن

هو إلا رجل مصري، كان يبيع الكتب في أسواق مصر وشوارعها، وملاهيها -

كما قيل لي- ثم طوحت به الطوائح إلى كلكته، وهناك عين إمامًا في مسجد، وما

هو ممن يحفل بقوله ولا باعتراضه، فعسى أن يسامحني الشماخي إذا لم أجبه إلى

قراءة ما كتبه في هذه الرسالة، وقد علمت أنه دافع عني، فأنا أشكر له ذلك،

وأسأل الله لي وله التوفيق.

***

(فتاة مصر)

قصة وضعها الدكتور يعقوب أفندي صروف، وجعلها ذيلاً للمقتطف في

مجلد سنة 1905، وهي قصة لا كالقصص، فإن أكثر القصص لغو وما عساه

يوجد فيها من الفائدة، فهو كما قيل في الخروب: درهم عسل في قنطار خشب،

وأما هذه القصة فكثيرة الفوائد، وترجع فوائدها إلى شيئين عظيمين: أحدهما

مالي، والآخر أدبي اجتماعي.

أما الأول: ففيه بيان مكانة المال في هذا العصر، وقوة رجاله وما لهم من السلطان في عالم السياسة، حتى صور الكاتب أن الحرب اليابانية الروسية،

ما أشعل نارها إلا رجال المال في أوروبا وفيه بيان تلاعب رجال بيوت المال

المعروفة (بالبورص) بالأغنياء، وابتزاز أموالهم بالمكايد، وفي ذلك عبرة

لأغنياء مصر المفتونين بالبورصة والقمارا، إن كانوا يعتبرون.

وأما الثاني: ففيه تصوير لمعاشرة الوجهاء: من المسلمين، والنصارى،

واليهود، بعضهم لبعض، ورغبة بعضهم في مصاهرة بعض. وجعل من رجال

القصة شيخًا عبر عنه بالشيخ أحمد والإمام أحمد كان يرجع إليه في المسائل التي

لها علاقة بالإسلام فيتكلم بالحكمة، وما يليق بالإسلام من حب الألفة والسلام، وقد

انتقد الناس من القصة بعض ما جاء في موضوع ألفة الطوائف، ورغبة بعضها في

مصاهرة بعض، زاعمًا أن فيه تمثيلاً لا ينطبق على الحقيقة، فإن صح هذا صحَّ

أن يجاب عنه بأن القصص النافعة قسمان: قسم يصور الواقع لمعرفة التاريخ.

وقسم يصور مع الواقع ما ينبغي أن يكون، كأنه كائن واقع، ترغيبًا فيه، أو إيلافًا

له، وتقريبًا منه.

وجملة القول: إن القصة مفيدة، وقد طبعها على حدتها إسحاق أفندي

صروف أحد محرري المقطم، وهي تطلب منه، وثمنها عشرة قروش.

***

(مرآت علوم)

مجلة تركية، تبحث في العلوم والفنون وشؤون الاجتماع، أنشأها فئة من

الكتاب الفضلاء، وعهدوا بإدارتها إلى أحدهم رفيق بك العظم الشهير،

والغرض الأول منها: إسعاد مسلمي روسيا في نهضتهم العلمية الجديدة،

فنحث قراء اللغة التركية العذبة في كل مكان على الاشتراك في هذه المجلة؛

وقيمته أربعون قرشًا في السنة، وهي قليلة جدًّا لا تفي بنفقات المجلة إلا إذا

كثر المشتركون كثرة عظيمة، وأحسنوا الأداء.

***

(سلام الإسلام)

رسالة للشيخ محمد نسيم العازار كتبها؛ لبيان ما تنويه دول أوروبا

وتحاوله من ابتلاع بلاد المسلمين وطريق تلافيه. أما الكاتب فهو من بيت

العازار من (أميون) بلدة أو قرية في الكورة من أعمال جبل لبنان، وهو بيت

معروف بالوجاهة، يدين بمذهب الأرثوذكس من مذاهب النصرانية، وقد دخل

الكاتب في الإسلام من عهد قريب دخولاً رسميًّا في محاكم مصر الشرعية،

وهو شاعر ناثر. فرأى أن يكون أول ما يخطه بعد الدخول في الإسلام،

إنهاض همة المسلمين بالنثر والنظم وبيان رأيه السياسي في أمرهم. وأما هذا

الرأي فهو ما قاله في رسالة (سلام الإسلام) بعد التمهيد له وهو (كما في ص

9، 10، 11 منها) :

(إن ما يجب عمله بسيط جدًّا، ولكنه في بساطته يضمن للإسلام عمومًا

القاطنين في أنحاء الأرض جميعها، والمستظلين تحت ظلال أعلام دولهم،

وألوية الدول الأجنبية راحتهم وسعادتهم، وذلك العمل هو:

أن يشكل الإسلام مجلسًا نيابيًّا، يؤلف من كافة المقاطعات الإسلامية

وغير الإسلامية، فينتخب له رجال سياسيون، قد خبروا الدهر فحنكهم، وعلماء

عاملون، لا توجلهم شدة، ولا تقعدهم معضلة، ولا تبيعهم غاية، وتجعل إقامة

هذا المجلس في مدينة، تطلق يديه لأعماله الجليلة، وتقرب المواصلات بينه

وبين أهل تلك المقاطعات النائب عنها، والمشكل من رجالها للذود عن مصالحهم

وحقوقهم، إبان الضرورة وفي كل حين ومكان.

أما فضائل هذا المجلس وأعماله فكثيرة وعظيمة الفائدة، وبما أن المقام لا

يسمح باستيعابها كلها، فأقتصر على ذكر الأخص منها الذي يبين الغاية

المقصودة من تشكيله، والنتيجة المطلوبة التي يؤتيها وبذلك كفاية لأولي

البصائر، الذين لا أخالهم يتقاعدون عن الاهتمام بتأليفه في أقرب وقت

ممكن؛ لكيلا تفوت الغاية منه، والفرصة السانحة له.

أولاً: إن تشكيل هذا المجلس من تلك الأجناس المختلفة، يجعل جامعة

حقيقية للأمم الإسلامية المرتبطة بالدين؛ ارتباط الأجسام بالأعصاب والشرايين.

ثانيًا: يجعل لتلك الأمم المتباعدة بالوطنية رابطة سياسية، تجمع أوطانهم

إلى وطن واحد، ومصالحهم المتباينة إلى مصلحة واحدة هي: الدفاع بالاشتراك

والتعاون عن راحة الإسلام، وسلامة كيانهم بين الأمم الحية الراقية.

ثالثًا: يحسن أخلاق الأفراد ومشاربهم، فيقوي الصالح فيهم، وينفي

الفاسد منهم، ويجلب النافع لهم، وبالجملة فإنه يجعلهم أمة عصر النشاط والقوة

والكمال.

رابعًا: يسهل سبل الرقي الأدبي والمادي بأنواعهما، ويمهد طرق

الإصلاح في الممالك الإسلامية المفتقرة للإصلاح الذي يرفع شأنها بين العالم،

ويؤيد كيانها أبدًا.

خامسًا: يدافع عن حقوق الأمم الخاضعة للدول الأجنبية أمام مجالسها العالية

في عواصم ممالكها إذا ما اهتضمت تلك الحقوق في مستعمرة من المستعمرات،

أو لحق بتلك الأمم شيء من الاستبداد فيها الذي لا تخلو منه مملكة من

الممالك المختلفة الأجناس والمذاهب.

سادسًا: يمهد سبيل انضمام الممالك الإسلامية المستقلة إلى بعضها،

واستظلالها في ظل أكبر مملكة بينها (ولا شك في أن أكبرها الدولة العثمانية

المشيدة الأركان) ، كما انضمت إلى بعضها الممالك الجرمانية والولايات

الأميركية وكثير غيرهما، وإذا كان ثم مانع لانضمامها فلا أقل من أن يؤلف

بينها، ويجمع كلمتها المتفرقة فتتضامن وتتكاتف على العمل معًا، وواحدة من

هاتين الحالتين كافية لجعل هذه الدول الضعيفة بإزاء الدول الأوروبية دولة

واحدة، عظيمة السلطان، منيعة الجانب، تقتسم السراء، وتشترك مع بعضها

في الضراء.

(المنار)

هذا الرأي ليس بدعًا من الآراء كما يحسب الكاتب، بل هو مسبوق

بتصوير أقرب إلى الحصول، ودعوة أجذب للقلوب وأخلب للعقول، واحتراس

يحول دون مناهضة الأعداء، وتؤمن معه مغاضبة الأودَّاء، وما صادف شيء

من ذلك استعدادًا، وما كان إلا هداية لبعض العقلاء ورشادًا، وإن أبعد

المسلمين عن قبول دعوة الاتحاد ملوكهم وأمراؤهم المفتونون بالاستبداد، فما

قال: إنه (بسيط جدًّا) هو مركب تركيبًا لا سبيل إلى تحليله، ولا استعداد

فيمن دعوا إليه لقبوله، وإن الأمل في إصلاح أكبر هؤلاء المستبدين لدولته،

وترقيته لشعبه ورعيته، قد أصبح من الأحلام والأماني، أو من قبيل العنقاء

والخل الوفي، فكيف نرجو من هؤلاء المخربين، عناية بإقامة بناء المسلمين.

إلا أنه لا سلامة للمسلمين من البلاء المؤصد، والعدو الواقف لهم في كل

مرصد، إلا في تربية الأمة الملية، وجمعها بين العلوم الكونية والروحية،

وأمانة التقليد وإحياء اللغة العربية، ثم اتفاق شعوبهم في كل قطر مع سائر

الشعوب، على حفظ الموجود واسترجاع المسلوب، وإلزام حكوماتهم بقوة

الاتحاد، على استبدال العدل بالاستبداد، مع إلقاء الطاعة إليها، وتأمينها من

تفضيل غيرها عليها، فإن هذا شرط لإمكان العمل الواجب، لا سيما في

الشعوب التي تحت سلطة الأجانب.

***

(كتاب السجل المصري)

يؤلف علي أفندي يوسف الكريدلي كتابًا بهذا الاسم، قال في وصفه: كتاب

دوري يصدر في منتصف كل شهر أفرنجي مشتملاً على كل ما حدث

في الشهر السابق، من الحوادث، والوقائع، وأعمال الحكومة من أوامر عالية،

ومنشورات، ولوائح، وتنقلات ورتب ونياشين ووفيات ومواليد، وأفراح

إلخ.

وقد صدر الجزء الأول من السنة الأولى وهو لشهر يناير، فكان هذا

الكتاب ملخص لأخبار الجرائد اليومية رسمية وغير رسمية، يغني عن حفظها

لأجل ما فيها من أخبار التاريخ، وقد بلغت صفحات هذا الجزء 184 صفحة

صغيرة، فإذا ضربناها في 12 كان الحاصل 2408، وذلك تاريخ لأخبار السنة

(جامع للذرة، وأذن الجرة) ، وقيمة الاشتراك فيه إلى سنة كاملة 60 قرشا،

وثمن كل جزء منه خمسة قروش على نسبة الاشتراك.

***

(الإحياء)

مجلة ذات ثمان صفحات أنشئت بالجزائر في غرة هذا العام (1325)

وهي تصدر في الشهر العربي مرتين، قيمة الاشتراك فيها أربعة فرنكات في

قطري الجزائر وتونس وفي جميع بلاد فرنسا وخمسة فرنكات في سائر

الممالك وقد كتب عليها (مجلة إسلامية أدبية إخبارية) ، ولكن لم يكتب عليها

اسم منشئها، ولا مديرها، ولا محررها، والعبرة عند المحققين بالقول لا بالقائل،

وإننا قد سررنا بهذه المجلة، ونسأل الله - تعالى - أن يجعلها نافعة للمسلمين،

وحجة على الذين يعتقدون في هذه البلاد وغيرها أن حكومة الجزائر تضرب بين

مسلمي الجزائر وبين العلم والدين حجبًا لا تخرق؛ إذ لا حجة أقوى من العمل

المشهود، والأمر الموجود، كما نبهنا على ذلك فيما مضى. وإننا نعتقد أنه لا

سبيل إلى التآلف بين فرنسا وبين المسلمين إلا هذه السبيل، فعسى الله أن يوفق

بين الحكام والمحكومين لهم بما فيه الخير، والمصلحة للإنسانية.

***

(شوراي عثماني)

جريدة سياسية أصدرتها في القاهرة جمعية الشورى العثمانية، التي

تكلمنا عنها في آخر المجلد التاسع؛ لتكون لسانها الناطق بدعوتها، ولذلك جعلتها

بأشهراللغات التي يعرفها قراء العثمانيين: وهي التركية والعربية في الأكثروالفرنسية

والأرمنية والرومية أحيانًا؛ أي: إن كل عدد منها يكتب بعدة لغات وقيمة الاشتراك

فيها عشرة فرنكات أو أربعون قرشًا مصريًّا، وقد رأيناها أقرب إلى الاعتدال من

سائر ما رأينا من جرائد أحرار الترك، وطلاب الإصلاح ونرجو أن تلتزم الاعتدال

دائماً؛ لأنه أقوى تأثيرًا وأكثر نصيرًا، هذا وإن الاشتراك في هذه الجريدة والسعي

في نشرها، يعد خدمة للدولة العلية، وللأمة العثمانية، لا لشخص معين؛ لأن ما

يأتي من الجريدة ينفق على الجمعية، وجميع أعضاء الجمعية ومحرري الجريدة

يبذلون المال مع الوقت في هذه السبيل.

***

(جريدة الأخبار)

كان الشيخ يوسف الخازن أنشأ منذ بضع سنين جريدة سياسية سماها

(الأخبار) ، نشرت زمنًا، وطويت زمنًا، وقد عاد صاحبها إلى نشرها في هذه

الأيام، فسر بذلك العارفون بمكانة الخازن في هذا العمل، واستعداده الغريزي الذي

ارتقت به التجارب؛ وحرية قلمه في التعبير عن رأيه، وقد اختار أن ينشرها في

الصباح، فنتمنى له أحسن الفوز والنجاح.

***

(الجريدة)

كنا ذكرنا في الجزء السادس من المجلد التاسع (ص 477) خبر تأسيس

شركة من وجهاء القطر؛ لإنشاء جريدة يومية، وأنهم اختاروا أن يسموها

(الجريدة) ، وأن بعض أصحاب الصحف أرجفوا بهذه الجريدة، وأساؤوا الظن

بها من حيث نحسنه، ويسرنا أن ننوه بصدورها في أول جزء من هذه السنة،

مصدقة لظننا، مكذبة لظنون المرجفين، يسرنا أن نذكر في جزء واحد خبر

ظهور مشروعين عظيمين، كان شيخنا الأستاذ الإمام روَّح الله روحه متوجهًا

إلى القيام بهما في آخر حياته، وقد علم القارئ أنهما مدرسة القضاة الشرعيين

وهذه (الجريدة) .

صدر العدد الأول منها في 24 المحرم (19 مارث) ، والشمس مقبلة

على برج الحمل، والأرض تستقبل الربيع الذي هو خير الفصول وأبهجها،

فكان ذلك فألاً بأن (الجريدة) ستكون عنوان حياة أدبية بهيجة، كما تتجدد

نشأة الحياة لكل حي في هذا الفصل البهيج. وقد اتفق اجتماع شهر المحرم

بشهر مارث لأول مرة من تاريخ الهجرة الشريفة في عام 13، وفيه أمر أبو

بكر بعد استشارة الصحابة - عليهم الرضوان - بجمع القرآن في مصحف واحد

وفي ذلك ما فيه من الحياة الدينية والدنيوية فهذا فأل آخر روحاني، أحسن من

ذلك الفأل الطبيعي. وإن شئت أن أزيدك فكاهة تاريخية أخرى، أذكرك بأن

عمرو بن العاص بنى مسجده وهو أول مسجد أسس في مصر في 23 المحرم،

وهو اليوم الذي وضعت فيه الجريدة في المطبعة، وإن صدرت في اليوم

الثاني.

افتتح العدد الأول من الجريدة بفاتحة بليغة لمديرها أحمد لطفي بك السيد

قال فيها:

ولقد اختلف القوم في أمر الجريدة منذ وضع مشروعها، وقدر بعضهم

لها مذهبًا ما لهم به من علم إلا اتباع الظن {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ

لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} (الحجرات: 5) ، وأجدر بحفظ الكرامة لكبراء رجال وطنهم،

وأدنى إلى عدم الفت في أعضاد الجامعة الوطنية، ولكنهم لا يصبرون.

ولو وقف الأمر عند غير العالمين لهان، ولكن بعض الكتاب أبى إلا أن

ينتقص الجريدة قبل ظهورها، فخلق لها نسبًا لا نعرفه؛ إذ يقول: إنها أنشئت

بوحي من جناب اللورد كرومر، أو أنها متحيزة إلى طرف دون آخر، على

أنها من كل ذلك براء.

ومهما يكن من الأمر، فإنا نمر بتلك المغامز مرًّا؛ إذ لا نقصد درء شبهة

ولا أن نقف بأحد موقفًا أظهرنا فيه على صاحبه، أخسرنا لوقته. وكل في

حل مما قال: هنيئًا مريئًا غير داء مخامر.

ثم ذكر اختلاف الناس في الرأي بطبعهم، ومكان الصحف من التذكير،

بما يكوِّن الرأي العام في البلاد الحديثة العهد بالرقي، ثم حاجة الصحف إلى

الرقابة عليها من الجماعة، وكون أولى الجماعة بذلك الشرفاء بالفضل، أو

علو النسب، كمؤسسي الجريدة ثم قال في هؤلاء المؤسسين:

ولما أنهم كثيرو العلاقات بالحكومة؛ بسبب مراكزهم واشتراكهم معها في

كثير من الأعمال العامة، وأن أمثالهم لا يجتمعون لعمل ذي أثر سياسي، إلا

أحاطت به الشكوك، رأوا أن يكاشفوا الحكومة في أمر المشروع؛ دفعًا لتلك

الشكوك المحتملة، وأخذًا بأقوم الطرق إلى نيل ما عساهم يطلبونه من تقويم

معوج أو إصلاح خطأ؛ لأن الحكومة قد تجيب الطلب مما يهون عليها، إذا

أقنعت بأنه لمصلحة الأمة.

وإن أسهل سبل الإقناع وآكدها في الوصول إلى الغرض: هو سبيل

المحاسنة التي لا تجَّر إلى ترك حق، أو تزيين باطل، وهي أجلى مظاهر

الاعتدال الذي يجب أن يكون دعامة العلاقات بين أمة وحكومة كلتاها في طور

التكون؛ لئلا يقع بينهما من الجفاء ما يحجب الحكومة من الوقوف على مواطن

المصلحة، وآمال الأمة، ويحجب الأمة عن الاطلاع على مقاصد الحكومة،

فتعطل بذلك أسباب الرقي التي يتوقف جلها على اشتراط الطرفين.

والجريدة أحسن الجرائد اليومية ورقًا وطبعًا، وألطفها شكلاً؛ لأنها وسط بين

كبراها وصغراها. وإن عبر بعضهم عنها بلفظ الصغر أو الأصغر وليست الكبرى

بأكثر منها مادة؛ لأن الجريدة ليس فيها الآن إعلانات، ثم إن اشتراكها أقل من

اشتراك صغراها وهو 120 قرشًا في السنة - لأهل القطر المصري،

و150 قرشًا لسائر الأقطار.

***

(جريدة العجائب)

أتمت هذه الجريدة سنتها الخامسة، ودخلت في السادسة، ويدل انتظامها

على أنها من الجرائد الحية الثابتة، فنتمنى لها طول البقاء، مع التوفيق لما يفيد

القراء.

_________

(1)

المبير: المهلك.

(2)

الحفير: القبر.

(3)

المزير: الشديد القلب والقوي النافذ.

(4)

أعتاد الحرب: أدواتها وعدتها.

(5)

المعاقل: الحصون ، وتمور: تهتز وتميل إلى السقوط.

(6)

يغذ: يسرع في السير.

(7)

القزم: الزمير القميء الصغير الجثة الذي لا غناء عنده.

(8)

الصياصي: جمع صيصية وهي مرتفعات الأرض والمشارق التي يمتنع بها.

ص: 61

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(علماء تونس ومصر وجامع الزيتونة والأزهر)

كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- يقول: إن مسلمي تونس سبقونا (يعني

أهل الأزهر) إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة

خيرًا مما عليه أهل الأزهر. ولما عاد من سفره الأخير إلى تونس، كتب مذكرات

عن حال التعليم فيها، وجاء ببعض الأوراق الرسمية في ذلك، وقال لي غير مرة:

إنني سأعطيك ما عندي في ذلك؛ لأجل أن تضم إليه رأيي وما تراه، وتنشره

بالمنار في مقال يكتب في المقابلة بين جامع الزيتونة والجامع الأزهر. وكنا نرى

أن هذا مما يجب في شرعة الإصلاح على التراخي؛ ولكن أَجَل المصلح لم يكن

على التراخي، بل عاجله الأجل قبل أن يفرغ من الأهم إلى هذا المهم.

* * *

(وزراء تونس من العلماء)

ذكرنا بهذا ما رأيناه في الجرائد التونسية الأخيرة من خبر وفاة الوزير الأكبر

وجعل وزير القلم والاستشارة خلفًا له، وجعل رئيس محكمتي الاستئناف من قبل

خلفًا لهذا. فالوزير المتوفى كان نابغًا في العلوم العربية والدينية؛ إذ تلقاها في

جامع الزيتونة. حتى قيل: إنه يعد من طبقة أهل الترجيح في الفقه، وكذلك وزير

القلم الجديد وهو الشيخ يوسف جعيط فهو من أشهر المتخرجين في ذلك الجامع، وقد

درس فيه ثم اشتغل بالسياسة، وتقلب في المناصب حتى صار اليوم وزير القلم

والاستشارة، فهذان الوزيران قد دخلا باب السياسة، وهما شيخان زيتونيان بكل

معنى الكلمة كما يقول الغربيون، حتى ارتقيا إلى منصة الوزارة. فهل يخطر في

بال أحد من مدرسي الأزهر، أن يستعد لمثل ذلك حتى يكون أهلاً للوزارة، أو لما

دونها من أعمال الحكومة؟ كلا إن أحدًا منهم لا يفكر في مثل هذا الاستعداد، ولو

فعله أحد منهم لكان خيرًا لهم، وأشد تثبيتًا في العلم والدين، فإن لم يولوا من تلك

الأعمال شيئًا؛ لأن نظام الحكومة المصرية لا يسمح بذلك، فربما كانوا أنفع لأمتهم

مع البعد عن الحكومة منهم، وهم لها عاملون.

ههنا يخطر في البال أن سعد باشا زغلول ناظر المعارف العمومية بمصر

كان أزهريًّا، وقد ارتقى في الحكومة إلى أعلى مرتبة في القضاء، ومنها إلى

الوزارة، ونرى الأزهريين يفاخرون به لا سيما بعد أن رأوا الأمة مبتهجة،

والجرائد متفقة على الثناء عليه عندما ولي الوزارة، والحكومة نفسها تكاد تمن

على الأمة باختياره، ولكن سعد باشا وزير المعارف بمصر، ليس عريقًا في

الأزهرية كعراقة الشيخ يوسف حعيط وزير القلم والاستشارة بتونس بالزيتونية،

فإن الشيخ يوسف تعلم في الزيتونة على الطريقة المألوفة راضيًا بها، حتى

صار مدرسًا، وقرأ المطول فيه درسًا وهو أعلى كتب البلاغة. والأزهريون

يقرؤون مختصره لأهل النهاية، ويمتحنونهم به.

وسعد زغلول صحب الأستاذ الإمام في أول المجاورة، وأدرك السيد

جمال الدين فأخذ عنهما، واعتقد في أول نشأته العلمية أن طريقة الأزهر في

التعليم رديئة، فتبع الحكيمين المصلحين، قبل أن تطبع الطريقة الأزهرية ملكتها

في نفسه، ولم يرض أن يجري عليها إلى منتهى شوطها، ويأخذ شهادة العالمية،

ويصير من المدرسين، بل أخرجه الأستاذ الإمام من الأزهر، عندما ولي هو رياسة

تحرير الجريدة الرسمية، وجعله محررًا معه، ثم كان من أمره ما هو معروف. ومنه

أنه تعلم اللغة الفرنسية وهو قاض، ودرس علم الحقوق بها حتى أدى الامتحان في

فرنسا، وأخذ منها شهادة (الليسانس) ، وهو يَعُدُّ مثل المطول والمختصر من

الكتب، التي تبعد عن البلاغة وتحول دون ملكتها. على أننا لا نقصد الآن إلى بيان

طريقة التعليم في الجامعين والمفاضلة بينهما. وإنما غرضنا من المقابلة والتنظير أمران:

(أحدهما) بيان أن العالم الديني إذا اختبر الأحوال العامة ونظر في طرق

نظام الحكومة التي تتولى أمره، وتناول شيئًا من العلوم الدنيوية يكون أقدر على

خدمة بلاده وأمته، سواء تقلد الأحكام الدنيوية أم لم يتقلدها، وقد كان كثير من

الناس يعتقدون أن الأستاذ لو ترك خدمة الحكومة ومنصب الإفتاء؛ لأمكنه أن

يعمل للأمة الإسلامية عامة، وللشعب المصري خاصة، أضعاف ما كان يعمل وهو

في الحكومة.

(وثانيهما) التنبيه إلى شيء من الفرق بين تونس ومصر، في حال علماء

الدين، ونسبتهم إلى الحكومة. وإليك ما هو أبلغ من ذلك.

* * *

(جمعية طلاب جامع الزيتونة)

ألف بعض النبهاء من جامع الزيتونة جمعية، يعلم غرضهم منها من الخطبة

الآتية وقد ساعدهم على ذلك بعض شيوخهم الفضلاء. وقد اجتمعوا في اليوم الرابع

من هذا الشهر (المحرم) في المدرسة الخلدونية؛ للمذاكرة في قانون الجمعية،

وحضر اجتماعهم هذا كثير من كبار المدرسين، وكانوا قد اختاروا أحد العلماء،

رئيسًا لعملهم في التأسيس ووضع القانون وهو الشيخ الطاهر النيفر، فافتتح الجلسة

بخطاب بليغ في الموضوع.

فقام الشيخ الخضري بن الحسين من العلماء الحاضرين، فشكر له وللتلاميذ

الذين نهضوا بهذا العمل النافع، ثم وزعت الرقاع لانتخاب رئيس وأعضاء

للجمعية، فأجمعت الآراء على اختيار الشيخ محمد رضوان للرياسة، وهو من العلماء

الفضلاء أصحاب الرأي والروية، كما يؤخذ من بعض الجرائد التونسية، وفيها أنه

متقن للغة الفرنسية، ولما يرتق طلاب الأزهر إلى مثل هذا العمل.

ورأينا في جريدة (لسان الأمة) التي صدرت حديثًا في تونس صورة

خطبة للشيخ محمد النخلي من كبار العلماء المشهورين، كان أعدها ليلقيها في هذا

الاجتماع، فحال دون ذلك مانع من الحضور، فأحببنا أن ننشر هذه الخطبة برمتها

لما لنا من الحرص على معرفة آراء علماء الدين في الأمور الاجتماعية، ولما فيها

من بيان حقيقة الجمعية، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) .

أيها السادة العلماء، والأفاضل الأعيان:

يحسن في هذا المقام أن أصدر هذا الخطاب الوجيز بكلمات حكمية، سارت

سير الأمثال: ليس أحد بأقل من أن يعين، ولا بأكبر من أن يعان. لا تكال الرجال

بالقفزان، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه لا بقميصه وطيلسانه.

ليس الحداثة في سن بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

وهي أمثال إذا تأملنا معانيها، وتدبرنا مغازيها، أكسبتنا حسن الظن، وكامل

الثقة بالمشروع، الذي هيأه لنا أبناؤكم بجامع الزيتونة، وقضت علينا أن نمد لهم يد

المشاركة والمساعدة؛ لإحداث مشروع، افتكره هؤلاء التلامذة؟ ولزمنا بمقتضى

قاعدة الإنصاف، التي هي أخص حلاكم التي تحليتم بها، أن نطهر ضمائرنا من

احتقار الأفكار، وأن نلاحظ المصالح بقطع النظر عن مصدرها، بعين ملؤها

التوقير والاعتبار، هذا وإن نخبة من ناشئة تلامذة الجامع الأعظم دار العلوم

الشرعية أدام الله عمرانه، وشيد بحسن عنايتكم أركانه، انبعث فيهم شعور شريف،

نهض بعزائمهم إلى الشروع في تأسيس جمعية تحت اسم (جمعية تلامذة جامع

الزيتونة) ، واقترحوا على العبد العاجز: أن ألقي خطابًا في الموضوع ونتائجه

وألحوا، وقالوا: إن المؤمن أخو المؤمن. وحقًّا ما قالوا.

أيها السادة: لا أقصد بهذا الخطاب أن أعلمكم ما تجهلون، أو أفيدكم ما أنتم

عنه غافلون، وإنما هو ذكرى لكم ببعض ما تعلمون، والذكرى تنفع المؤمنين،

وتؤكد يقين المستيقنين.

ليست ألسنة التقليد للغير هي التي تأمرنا بلم شعثنا، ومد يد الإعانة لبعضنا،

وإقامة التعارف مقام التناكر، والتواصل مكان التفاصل، حتى نحيي رابطة العلم أو

نمي هذا الشعور،، بل لسان الدين الحنيف الذي نزاول علومه آناء الليل وأطراف

النهار في هذه المدرسة الزاهرة هو الذي يأمرنا بذلك في عمومه وخصوصه،

وتصريحه وتلويحه، لمن سبر أغواره، واستقرأ آثاره، كيف ولا يعزب عنكم ذلك

وأنتم علماء الدين وحملة الشريعة المطهرة.

ألم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مجالس يحضرها أصحابه الكرام؟

وكانت تلك المجالس مجالس هدي وإرشاد، وتعميم نفع للعباد، وكانت أحيانًا مهبط

الوحي، فيها يتلقون تعاليم الدين، وعنها يصدرون فائزين، وكذلك خلفاؤه

الراشدون من بعده، وأذكركم بنادي عمر بن الخطاب فإنه كان غاصًّا بالشيوخ،

والكهول، والشبان. وكان يقول: لا يمنع أحدكم حداثة السن أن يبدي رأيه. في

هذه النوادي يتعارفون، ويتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، ويتعاونون على

البر والتقوى.

أما إذا أردنا أن نثبت ما للجمعيات من الفوائد العامة والخاصة بلسان التاريخ

فإن البحث في هذا الموضوع، يستدعي حشد مجلدات عما تأسس في العالم المتمدن

من الجمعيات، وما كان لها من النتائج على اختلاف الأحزاب والمقاصد، حتى

بالحاضرة التونسية. نحن - وإن كنا يجمعنا الجامع - متفرقون، وإن وجد بيننا

رحم علم - فنحن والحق يقال - متقاطعون، ولا أكلكم إلا للمشاهدة، وربما كانت

المشاهدة تفصح لكم عن الحالة الحاضرة أكثر مما أفصح لكم عنه هذا اليراع الكليل.

هل عملنا بالآية التي توجنا بها هذا الخطاب؟ هل عملنا بقوله تعالى: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) هل عملنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا

تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا) هل عملنا بقوله صلى الله

عليه وسلم: (ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟

أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلَفُون) ونحن أبناء العلم

الديني أحق بالعمل، هل نحن أبناء العلم نألف ونؤلف، وهو من صفات الأحبين

الأقربين؟ أظن أن المجافاة بلغت بيننا النهاية، والمنافرة من غير سبب شرعي

رمتنا إلى أبعد غاية.

فهلم بنا إلى العمل بديننا القويم. وأن يصافح أحدنا الآخر مصافحة الودود

المخلص الكريم، كما جاء ذلك في حديث صاحب الخلق العظيم.

عزم إخواننا في الدين، وأبناؤكم في تلقي علومه على إحداث هذه الجمعية

المباركة، ودعوكم للانتخاب والمشاركة في العمل. الغرض من هذه الجمعية:

أولاً - إيجاد روابط الألفة والوداد بين كل من أنبتته هذه المدرسة الإسلامية.

ثانيًا - تمكينهم من وسائل التعاون بينهم، على ما فيه مصلحتهم العامة

والخاصة.

ثالثًا - إسعاف فقراء التلامذة، وصونهم من معيشة الابتذال التي يعيشونها

اليوم بفضل الإهمال والغفلة.

وأنتم تعلمون أن قسمًا عظيمًا من تلامذة جامع الزيتونة، كادوا يتكففون،

وأنهم لا يجدون القوت الضروري إلا بطرق ممتهنة، لا ترضاها معزة العلم بل

والكرامة الإنسانية، وإن قسمًا مهمًّا منهم يسكن حيث مرابط الحيوانات المعدة لذلك؛

لأن عدد المدارس التونسية - لتكاثر التلامذة - صار غير كاف لإيوائهم أجمعين،

وسيكون هذا الموضوع أهم المواضيع التي تداول الجمعية البحث فيها، وتطرق

أبواب المساعدة من همم الرجال لنوالها.

هذا أنموذج من مقاصد هذه الجمعية، وهي - وايم الله- مقاصد سامية محتاجة

إلى همم الرجال وبذل المال؛ لأنه قوام الأعمال، فمن ساعد فقد امتثل لأوامر إنفاق

المال في سبيل الله، واستحق رضاء الله وثناء الناس.

الناس خصوصًا الجمعيات الأخر يَزِنُون هممنا، ويقدرون عزائمنا، بما يكون

من نتيجة هذا المشروع، وما يحبطه من الفشل والخيبة - لا قدر الله - وهم

ينتظرون ما يكون في مشروع هيأه أمثالكم، فهل يقارنه النشاط فالعمل فالنجاح، أو

يقذفه اليأس في مهواة السقوط؟ فإن كانت الأخرى - لا قدر الله - حققتم ما خامر

بعض الأفكار، من أن حملة العلم الديني جهال بالحياة الاجتماعية، بعداء بمراحل

عن تأسيس المشروعات الخيرية - لا قدر الله وأستغفر الله -.

أنتم أكثر من كل جمعية بتونس وأوفر عددًا، فهل أنتم أقوى عددًا، وأعلى

همة، وأقوى استعدادا، وأسمى مدارك ونظرًا للمصالح؟

منكم أهل المجلس العلي الشرعي - أيده الله - ومنكم مدرسو جامع الزيتونة

الأعلام، ومنكم قضاة الإيالة ومفاتيها، ومنكم مدرسوها، وكثير من عدولها، ومنكم

كثير من متوظفي الوزارة، وجمعية الأوقاف، وإدارة المال، فلن تفشلوا من قلة

متى كان هؤلاء الجماهير مساعدين على تحسين حال إخوانهم التلامذة متظارفين

والأمل وطيد في بقية إخوانكم التونسيين، ولا ينقصنا إلا الاجتماع والتعاضد،

والسعي والعمل، وهي نتائج الهمم السامية، والغيرة المتوقدة، والإنسانية الكاملة،

وأنتم أحق بها وأهلها، ونعوذ بالله أن يصدق علينا قول الشاعر:

ما أكثر الناس، لا بل ما أقلهم

والله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على كثير، ولكن لا أرى أحدا

ونرجو الله الذي لا يخيب الآمال، ولا يمنع من قرع بيد السعي أبواب

الاستكمال، أن تكون جمعيتكم مصداقًا لقول الشاعر:

ولله قوم، كلما جئت زائرًا

وجدت قلوبًا كلها ملئت حلما

إذا اجتمعوا، جاؤوا بكل فضيلة

ويزداد بعض القوم من بعضهم علما

(المنار)

نحيي الجمعية الزيتونية المباركة، ونحمد الله أن وجد في علمائنا مثل هذا

الخطيب، وعسى أن يكون لطلاب الأزهر جمعية مثلها.

* * *

(مشيخة الأزهر)

قد علم مما كتبناه في باب التربية والتعليم عن الأزهر وهذه المدرسة،

أن الشيخ حسونة النواوي الشهير عين شيخًا للأزهر بعد إقالة الشيخ عبد الرحمن

الشربيني من المشيخة وإننا نعتقد أنه أمثل كبراء الشيوخ الذين يرشحون لإدارة

الأزهر ولعله لم يتول هذه المشيخة أحد في هذا العصر وكان مرضيًّا عند الأزهريين

وغيرهم إلا الشيخ حسونة في هذه الكرة فنسأل الله تعالى أن يجعل التوفيق رائده

وقائده في إدارة هذا المكان، الذي صار أمره شغلاً شاغلاً للمسلمين في هذا الزمان،

وهنا نصرّح بأننا لا نريد بمدح الشيخ حسونة تعريضًا بغيره ولا نعني بما سبق عن

الأستاذين الكبيرين البشري والشربيني إلا أنهما شديدا المحافظة على القديم وهذا

يوجد في كل أمة وزمن فكلامنا بيان للواقع مع احترام الشيخين.

* * *

(مدرسة القضاة بين الأزهر والمعارف)

قد علم القراء مما كتبنا عن الأزهر وهذه المدرسة أن أهل الأزهر في أمر

مريج من هذه المدرسة، وقد رأينا بعد ذلك في جريدة الحكومة الرسمية صورة

كتاب أرسله ناظر المعارف إلى شيخ الأزهر، وصورة كتاب من شيخ الأزهر إلى

الناظر جوابًا عنه، فرأينا أن ننقلهما في المنار حاذفين كلمات الخطاب الرسمية

وهما:

الكتاب الأول: من ناظر المعارف

تبين لي من المكالمة الأخيرة مع فضيلتكم، أن هناك أوهامًا بشأن لائحة

مدرسة القضاء الشرعي؛ ولذلك أردت أن أكتب لفضيلتكم هذا الخطاب؛ إزالة لتلك

الأوهام.

إن الغرض من هذه المدرسة هو تخريج قضاة متصفين بالأوصاف الحميدة،

جامعين بين المعارف الدينية الصحيحة والمعارف الدنيوية، والقصد من ربطها

بالأزهر ليس هو التداخل في شؤونه بأي وجه من الوجوه، وإنما الغرض منه أن

تستظل هذه المدرسة بظل الأزهر الشريف، وأن يكون للمتخرجين منها بواسطة

انتسابهم إليه منزلة في قلوب العامة والخاصة، حتى لا يجد المتقاضون أمامهم حرجًا

في صدورهم من قضائهم.

إن القصد من الامتيازات التي نصت المادة الثانية على أنها تكون لطلبة هذه

المدرسة إنما هي الامتيازات المعنوية، لا الحقوق في الجرايات والمرتبات، فإن

طلبة هذه المدرسة، لا يكون لهم شيء منها بمقتضى هذه اللائحة بعد التحاقهم

بالمدرسة، وعلى فرض أن يكون لواحد منهم أو أكثر حق في شيء منها؛ بسبب

شرط واقف أو غيره. فإن نظارة المعارف لا دخل لها فيه، وإنما الشأن يرجع فيه

إلى مشيخة الأزهر دون سواها.

إنه لا صحة مطلقًا لما قيل من أن المراد بأصول القوانين الواردة في المادة

الثالثة عشرة هو القانون الروماني، وإنما المراد بها مقدمة القوانين التي تشتمل على:

تعريف القوانين، وكيفية صدورها، ووقت وجوب العمل بها، والحوادث التي

تنطبق هي عليها، وما أشبه ذلك من المبادئ الأولية للقوانين الوضعية، التي لا

يستغني واحد من القضاة الشرعيين وغيرهم عن معرفتها.

إن لسيادتكم السلطة التامة في إبطال تدريس كل علم؛ لم يكن واردًا في

اللائحة المذكورة، وكل درس يكون موضوعه القانون الروماني، ولسيادتكم الرأي

الأعلى في نشر خطابي هذا على الأزهريين، إذا وجدتم في نشره فائدة للحقيقة.

...

...

...

...

... ناظر المعارف

الكتاب الثاني من شيخ الأزهر

وصلني مكتوب سعادتكم بتاريخ 22 محرم سنة 1325، مسفرًا عن حسن

نواياكم فيما جاء بمشروع مدرسة القضاء، مما أنف منه بعض الناظرين، وأزلتم

بما أبنتموه -لله الحمد- الشبه التي كان يظن أنها تحتك بالأزهر احتكاك العادين،

فشكر الله صنيعكم، وأحسن بيانكم، وجزاكم عن الأمة خيرًا. وعهدي وآمال الناس -

ولا سيما الأزهريين - بناظر المعارف أن يكون أول قائم بما يجب عليه، أمام

أمته وأمام أئمة الدين، وأن يسود في وقته كل معهد من معاهد العلم ولا سيما معهد

الأزهر، الذي له اليد البيضاء على الأفاضل من أكابر المسلمين. وفي الختام أسأل

الله -سبحانه- أن يوفقنا وإياكم لصالح العمل. 24 محرم سنة 1325 خادم العلم

والفقراء بالأزهر حسونة النواوي.

***

(الجريدة واللواء)

زعمت جريدة اللواء: أن (الجريدة) ترى المحاسنة المطلقة في مطالبة

الحكومة بمصلحة الأمة، وقامت تعنفها على هذا الإطلاق وتنكره عليها، محتجة بأن

حكومة مصر الآن حكومة أجنبية، تظلم الأمة وتحقرها

والجريدة ما قالت

بمحاسنة مطلقة كما زعم صاحب جريدة اللواء، وإنما قالت بمحاسنة مقيدة بكونها لا

تجرّ إلى ترك حق، أو تزيين باطل. فهل نقول: إن صاحب جريدة اللواء لا يفرق

بين المطلق والمقيد. أم نقول: إنه لا يتحامى أن يسمي المقيد مطلقًا عامدًا متعمدًا؟

وإذا كان الثاني هو الصواب، فهل يظن أن قرَّاء جريدته، لا يفهمون هذا الخطأ

الصريح؛ لأنهم من العوام الجاهلين، أم يعتقد أنه يرضيهم كل ما يقول؛ لأنهم من

المبطلين، أم هو لا يبالي باعتقادهم بخطئه وإن كانوا مصيبين؟

***

(تقريظ واقتراح من عالم شاب يحب الإصلاح)

بسم الله الرحمن الرحيم

هنيئًا لك أيها المنار الأغر، فلقد قضيت تسع سنين، أخرجت فيها الأمة من

الظلمات، وهديتها إلى سبيل الرشاد؛ الذي لا عوج فيه ولا أَمْتَا، وخدمت الملة

الحنيفية بما يخلده لك التاريخ، ويسطره قلم الثناء {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) .

والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها لقد وضح بك السبيل، واهتدت بك أفكار

بعد أن هامت في أودية الأضاليل، جعلت أكبر همتك البحث عما يحيي عظام أمتك

وهي رَمِيم، واعتمدت على مبدع الكائنات، حتى أنتج سعيك {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ

فَهُوَ حَسْبُه} (الطلاق: 3) ، ولقد جاهدت في سبيل الله حتى هزمت أعداءه،

ونصرت أولياءه، وهل {يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ

وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 95) أفلم تدفع من الشبه عن الإسلام؛ ما قد

يدع اللبيب في حيرة ما له منها من محيص، فشكرًا لك بعد شكر، وثناءً بعد ثناء،

على مديرك الرجل الوحيد الذي نصبك لتهدي الساري في الليل البهيم، ويرشده إلى

الصراط المستقيم، ورضي عن والده الذي استنار به فكره، وانشرح لتلقي المبادي

الشريفة صدره.

ولك الهناء بالعام الجديد الذي سترينا فيه - إن شاء الله - ما يذهلنا عن الماضي

ونود لو يحليك حضرة مديرك بشيء من التاريخ مما فيه عظة وعبرة، ويضمنك

بنبذ مما وعد به؛ من تخطيط فصل لمقاومة تيار البدع، والخرافات، والتقاليد،

والعادات، فإن آخر ما رأيناه في هذا الموضوع ما نشر في الجزء الثاني من المجلد

(التاسع) .

ولسنا نرجو لك من الله إلا أن يطيل عمرك، ويتم نعمته عليك - وهذا دعاء

للبَرية شامل -.

***

(المنار)

نشرنا هذا؛ لاعتقادنا بأن كاتبه عبر عن شعوره وفكره في حب الإصلاح،

وإن نشره مما يزيد في هذا الشعور قوة، والفكر رسوخًا، ولما فيه من الاقتراح،

فأما اقتراح التاريخ فقد اقترحه آخرون بالقول، ولعلنا بعد إتمام تاريخ الأستاذ الإمام

نكتب في تاريخ الإسلام، وأما باب البدع والخرافات فسنعود إليه كرة بعد أخرى.

***

(تاريخ الأستاذ الإمام)

قد تم طبع جزء التأبين والرثاء من تاريخ الأستاذ الإمام، وهو الذي كتبنا في

المجلد الثامن من المنار (ص640) ، أننا شرعنا في طبعه قبل جزئي الترجمة

والمنشآت، وقلنا فيه: إنه متى تم طبعه، نجعل لكل مشترك في المنار الحق في

أخذ نسخة منه مجانًا، إذا كان قد أدى قيمة الاشتراك تامة. ومعنى قولنا: (له

الحق) أنه إذا طلبه يعطاه لا أنه يرسل إليه. ومعنى تأدية القيمة تامة: أن لا

يكون أداها ناقصة كعمال البريد. إذًا كل من أدى قيمة الاشتراك في المنار في هذه

السنة تامة؛ أي: (60 قرشًا) ، فله الحق بأن يحضر أو يرسل من شاء؛ ليأخذ

نسخة من الجزء الذي تم.

وهذا الجزء كتاب مؤلف من 424 صفحة من كلام أشهر الكتاب والشعراء في

مصر والشام وتونس، وغيرها من الأقطار الغربية والشرقية؛ مع تراجم

أقوال الجرائد الفارسية والتركية والإفرنجية، وكل ذلك في موضوع واحد

وسنعين ثمنه في جزء آخر، ونعلن ذلك في الجرائد.

أما جزء منشآت الإمام، فقد طبع منه نحو الجزء الذي تم وظهر لنا آثار

غير التي كنا نعرفها، وما بقي دون ما طبع، ونحن الآن شارعون في إتمامه وفي

طبع جزء الترجمة.

_________

ص: 71

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الهوى والهدى

أو اللذة والمنفعة [*]

يولد الحيوان ذا وجدانين متضادين؛ وجدان اللذة بما يلائمه، ووجدان الألم

مما لا يلائمه، وإحساس الطبيعة الحيوانية بالحاجة إلى اللذيذ يسمى (شهوة) ،

وهو يطلبه قبل وجوده، ويلتذ به بعد أن يصيبه. فالشهوة: هي الشعور الأول

للحيوان، واللذة: هي الشعور الثاني والمطلب الأول. لا فصل في هذا بين

الحيوان الأعجم والناطق؛ على أن الإنسان لا يولد ناطقًا، بل يولد أشد عجمة

وأضعف شعورًا من سائر الحيوانات.

يتعلم وليد الإنسان النطق بعد ولادته بأشهر؛ فيعبر عن شعوره وإدراكه،

ويفهم من غيره بعض ما يعبر به عما في نفسه، ثم يتولد فيه الميل إلى البحث

ومعرفة المجهولات، ثم الفكر فيما تدركه مشاعره، والتذكر، والتخيل، والقياس،

والاستنتاج؛ وهي اللذة المعنوية؛ تسوقه إليها شهوة عقلية، ينفرد بالترقي فيها دون

الحيوان الأعجم، وبذلك يميز بين النافع والضار، ويحكم بوجوب طلب الأول وإن

كان مُؤلِمًا كالدواء، واتقاء الثاني وإن كان مشتهى ومستلذًّا كالخمر والحشيش،

وكالإسراف في اللذات النافعة. كما يميز بين الحق والباطل في الاعتقاد، ويرجح

الحق على الباطل.

يرتقي الإنسان في التمييز بين النافع والضار، والحق والباطل بالتدريج،

وربما بلغ أشده واستوى، وهو يرى بعض النافع ضارًّا، وبعض الباطل حقًّا، ولا

يحيط أحد من الناس خبرًا بالمنافع والحقائق ولو لشخصه، فما قولكم -دام فضلكم-

في الباحث عن المنافع والمضار لأمة عظيمة أو دولة كبيرة.

ترتقي معرفة الناس بالمنافع والمضار بارتقاء التربية الصالحة، والتعليم النافع

وإنك لتجد أكثر المترقين في تربيتهم وتعليمهم يؤثرون اللذة على المنفعة

في كثير من شؤونهم وأحوالهم، فما بالكم بمن دونهم في ارتقائهم.

إيثار اللذة على المنفعة، والباطل على الحق: هو اتباع الهوى، وعكسه هو

اتباع الهدى، ولو كان كل لذيذ ضارًّا، أو كل نافع مؤلمًا؛ لهلك الناس باستحباب

الهوى على الهدى، ولكن أكثر اللذائذ نافعة، وأكثر المؤلمات ضارة، والحق

والخير محببان إلى النفوس البشرية طبعًا، وإنما يكرهها الجاهل بهما، أو من تربي

على ضدهما، حتى ملك الباطل أو الشر وجدانه، واستحوذ على نفسه استحواذًا.

فليس في فطرة الإنسان غريزة تصده عن الكمال في اتباع الهدى باختيار الحق

على الباطل، وترجيح النافع على الضار، فتبارك الفاطر الحكيم.

يحب الطفل اللعب وهو نافع له، وقد يؤثره في سن التمييز على التعليم،

فيظن الجاهل أن هذا إيثار للذة على المنفعة؛ لفساد في الفطرة، وما هو بفساد في

الفطرة، وإنما هو مظهر الحكمة فيها.

لا ينفر الولد من التعلم إلا إذا كان فيه إرغام للفطرة بتكليفه، فَهْمُ ما هو غير

مستعد لفهمه، وذلك ضار به، أو بمنعه من اللعب النافع له، أو بمعاملته بالشدة

العائقة له عن كماله، وهذا التحكم في عقله ونفسه كالتحكم في جسمه بسومه حمل

الأثقال ومصارعة الرجال، وأكثر الناس يعرفون درجات قوى الأجسام، دون

درجات قوى النفوس والأحلام.

جرب بعض الناس طريقة الحكمة في التعليم والتربية، وهي الطريقة التي لا

تخرج الناشئ عن طوره، فتجعل الدارج يافعًا، أو الطفل كهلاً؛ الطريقة التي لا

تحمل الطبيعة ما لا تحمل، فجذبوا الناشئين بسلاسل اللذة التي عرفوها إلى جنة

المنفعة التي جهلوها، فانجذبوا طائعين مسرورين.

هكذا يمكن للمربي الحكيم أن يجمع بين الهوى والهدى، ولولا هذا الإمكان لما

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) ،

ولكن المربي الجاهل يمد الناشئ في الهوى، ويغذيه باللذة، ويصور له الألم أو

الحرمان في المنفعة، حتى يكون من الخاسرين.

سنة الله في الأمم تشبه سنته في الأفراد، فللأمة طفولة وتمييز، وشباب

واستواء. وهي تُؤْثِرُ قبل بلوغها سن الكمال الاجتماعي اللذة على الفائدة، وتستحب

العمى على الهدى؛ للجهل بوجوه المصالح العامة، وما يرفع الأقوام وما يضعها،

وحينئذ تكون أحوج إلى المربي الحكيم من الطفل اليتيم.

ما ارتقاء الأمة إلا كثرة الحكماء والفضلاء فيها، ومهما كثر هؤلاء، فلا

يكونون في سواد الأمة إلا عدداً قليلا، فأكثر أفراد الأمم الراقية الآن يؤثرون اللذة،

ويسعون لها سعيها في عامة أحوالهم. ألم يأتك نبأ خسارة من طبع كتب الفيلسوف

(هربرت سبنسر) في علم الاجتماع، وفلسفة التربية والتعليم، وهي أنفع ما كتب

حكماء الغرب في أرقى أممه؟ ! قارن بين هذا وبين الربح العظيم الذي يناله من

يطبعون القصص الغرامية وغير الغرامية. نعلم أن الدَهْمَاء من كل أمة يتبعون

مواقع اللذة، وينفرون من النافع إذا لم يكن مستلذًّا، ولكن الأمة المرتقية لا يروج

عندها الضار بها، وإن كان لذيذا.

تربية الأمم وإرشادها أشرف الأعمال وأفضلها وأشقها وأعسرها، ويعوزه من

العلم والحكمة والإخلاص والنزاهة، ما لا يعوز غيره. فإن فتنة الهوى فيه لا يقاس

بها فتنة، حتى إن الملك العاطل من حلية هذه الصفات يتبع هواه في سياسة رعيته،

حتى يودي بشعبه ورعيته، ولو كان خساره في ذلك موازيًا لخسار الأمة في

مجموعها. آية من يتبع الهدى في إرشاد الأمة أن لا يتبع فيه هواها، ولا يتحرى ما

يرضيها وإن كان يرديها، وأن يكون كالطبيب يجرعها المر؛ ليقيها الضر، إذا

تعذر أن تجذب باللذات إلى المنافع، كما يجذب الدارج واليافع.

لا يؤمن الفرد من اتباع الهوى في سياسة الأمة، وإرشادها عن علم أو جهل

لذلك جاء الوحي بوجوب جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وبذلك ارتقت الأمم

العزيزة وينبغي لمرشديها أن يسلكوا سبيل الشورى كحاكميها، فلا يستبد أحد الأفراد

برأيه في الإرشاد، لهذا نرجو من هذه (الجريدة) من تحرير الفوائد، فوق ما

نرجو من غيرها من الجرائد، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح العقل على

الهوى.

_________

(*) كتبنا هذه المقالة وما بعدها (للجريدة) ونشرت فيها.

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سنن الاجتماع

في الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم

طبيعة الاجتماع تقضي بوجود الحكام، ما قضت بوجود النزاع والخصام،

فإذا لم يتغلب على الناس من يحكم فيهم كما يشاء، اختاروا هم لأنفسهم من يحكم

بينهم كما يشاءون؛ لأن ما قضت به سنن الوجود واقع ما له من دافع.

الحكم حاجة من حاجات الناس، يقوم به بعضهم بالنيابة عن الباقين، فهو

كسائر الحاجات من العلوم، والمهن، والحرف كالزراعة، والصناعة، والتجارة

التي يقوم بكل فرع من فروعها من يكفي المجتمع همها، كما يقوم هو بسائر

حاجاتهم، ويكفيهم ما أهمهم. فالحاكمون كغيرهم من العاملين، كل صنف يخدم

مجموع الأصناف، التي يعبر عنها بالشعب أو الأمة، من حيث يخدمونه (وكلٌ

ميسرٌ لما خُلِق له) ومسير إلى حيث يسوقه استعداده، فمن سابق ومتخلف، ومن

محسن ومسيء، ولكل جزاء، والجزاء إما مال يكفي أو يغني، وإما مال وجاه

يعلي.

جزاء الأعمال التي تتطلبها طبيعة الاجتماع طبيعي مثلها، ولولا ذلك لما

اندفع كل فريق إلى العمل الذي يزين له استعداده جزاءه والغبطة به، فمن يطلب

من الجزاء الطبيعي على العمل أكثر مما تفرضه سنة الاجتماع من الجزاء عليه فهو

باغ، متنكب صراط الحق، غير مقيم لميزان العدل، إذ يطفف لنفسه ويخسر للأمة.

البغي في اقتضاء الجزاء، يكون من الأفراد، ومن الجمعيات، والأصناف،

فالأول: لا تأثير له في إفساد الأمة وتلافيه سهل. وأما الثاني: فهو البلاء المبين؛

لأن قوة الاجتماع هي أعظم القوى. وإنما يتحقق البغي بتحديد قيم الأعمال

والأشياء تحديدًا طبيعيًّا - إن أمكن- أو قانونيًّا؛ ليكون متجاوز الحد هو الباغي الذي

يجب إرجاعه عن بغيه.

ينجح زيد في بغيه على عمرو، إذا كان أقوى منه علمًا أو جسمًا، والحاكم

يفصل بينهما، إذا رفع الأمر إليه، وإلا كان الراضي بالهضيمة مستحقًّا لها

جزاء على جهله، ومن ذلك ما يقع كثيرًا من الحوذية، يطلبون فوق ما حدد لهم في

التعريفة، فالعارف يهددهم، والجاهل قد ينقدهم، والخطب في الأمرين سهل.

وإنما الخطب الجلل: أن يتفق صِنْف من القائمين بأعمال المجتمع، فيبغون في

طلب الجزاء. ومنه ما يعرف في هذا العصر باعتصاب العمال، ولكن

هذا الاعتصاب يجري في أعمال لم تحدد أجورها تحديدًا طبيعيًّا، ولا شرعيًّا،

ومسلك العدل في تحديد القانون له دقيق، ولا أرى له وجهًا ترضى به طبيعة

الاجتماع، إلا أن يكون النسبة بين كسب المالكين وأجور العاملين، ويأبى علينا هذا

المقال أن نخوض فيه، ويرضى لنا أن نرده إلى الحاكمين.

لا نقول: إن اعتصاب العمال من البغي، ولا نقول: إن فيه خطرًا على

الشعب، وإنما الخطر العظيم في بغي الحاكمين، الذين يوكل إليهم تلافي بغي

الأفراد والجمعيات من المحكومين لهم.

ما هو نوع عمل الحكام في الأمة؟ وما هو نوع جزائهم عليه؟ جاء في

فاتحة الكلام أن الحاكم إما متغلب بالقوة؛ يحكم كما يشاء، وإما مختار من

المحكومين له؛ فيحكم بينهم بما يشاءون من الشرائع والقوانين، فالحاكم الأول يرى

أن عمله من قبيل إدارة صاحب المزرعة والماشية والعبيد لما يملك، وأن ما يأخذه هو

من قبيل الغلة والريع، وأنه يجب على المحكومين له، أن يقوموا له في مزرعته

الكبيرة (المملكة) بما يطلب، وأن يرضوا بما يفرضه لهم وعليهم والمحكومون له

يرونه سلطانًا باغيًا، يتربصون به الدوائر على حسب حالهم في العلم والقوة، أو

الجهل والضعف. والحاكم الثاني يعلم كما يعلم المحكومون له أن عمله من قبيل

عمل الأجراء، وأن ما يأحذه من الجزاء المالي عليه أجرة مفروضة، وأن الجزاء

المعنوي وهو الجاه أثر طبيعي لإحسانه في عمله كما لغيره من المحسنين إلى الأمة في

ترقية العلوم والفنون والأعمال. على حسب حال الأمة يكون حكامها في نفس الأمر

الذي تقضي به طبيعة الاجتماع (كما تكونون يولى عليكم) أما حكم الشرع والعقل

فهو يقضي بوجوب جعل الحكام أجراء للأمة، قال أبو العلاء فيلسوف الشعراء:

ملّ المقام، فكم أعاشر أمة

حكمت بغير كتابها أمراؤها

ظلموا الرعية، واستجازوا كيدها

فعدوا مصالحها، وهم أجراؤها

كذلك شأن أكثر الأجراء والوكلاء مع المالكين الجاهلين بما يجب أن يكون عليه

ملكهم، العاجزين عن تحديد أجور العمال وإلزام كل عامل أن يلزم حده؛ لذلك

أنحى الفيلسوف في شعره باللائمة على الأمة التي مكنت أجراءها من الاستبداد في

السيادة عليها، حتى تجاوزوا مصالحها، ينبهها بذلك إلى إقامة الشريعة فيهم،

وإرجاعهم إلى الكتاب العزيز الذي جعل أمر المؤمنين شورى بينهم.

ذلك حكم الشريعة والعقل، ولن تقدر الأمة على القيام به، إلا بتغيير الأفكار

التي كان من أثرها الطبيعي، أن صار الأجراء سادة مالكين، وتحصيل الأفكار

والعلوم والأخلاق التي تمكنها بالاتحاد من جعل المتغلب بقوته مختاراً لعدله

وفضيلته.

إذا أحسن الحاكم المتغلب في عمله، واقتصد فيما يتناول من مال الأمة جزاء

عليه، كان جديرًا بالجاه الصحيح، وهو ملك القلوب وقيادتها بالمحبة والتعظيم،

وبما يتبعه من الحمد والثناء، وإذا أساء عملاً وأسرف فيما يأخذ يفوته الجاه الصحيح،

ويستبدل به الجاه الباطل، وهو قهر الرعية على أن تعامله معاملة الحاكم العادل

من الثناء والتعظيم الصوري مكابرة للنفس وعصيانًا للقلب، في سبيل طاعته

الإلزامية. أما الحاكم المختار للأمة، فهي التي تفرض له برضاها أجره، وتملكه

قلوبها طائعة مختارة.

روى ابن سعد في الطبقات عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر قال

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افرضوا لخليفة رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - ما يعينه، قالوا: نعم، برداه (ثوباه) إن أخلقهما وضعهما، وأخذ

مثلهما، وظهره (أي ما يركبه) إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق على

أهله قبل أن يستخلف، قال أبو بكر: رضيت. وفي رواية أنه أراد أن يعمل في

التجارة طرفًا من النهار لأجل عياله، وينظر في أمور الناس في سائر الأوقات

فمنعوه، وقال عمر: نفرض لك، فأراد أن يتمنع فأقنعوه، وفرضوا له كواحد من

المهاجرين، لا أرقاهم ولا أدناهم، وكذلك كان ينفق قبل الخلافة.

هكذا كانت حكومة المسلمين في أول عهدها، كانت من القسم الثاني من

التقسيم المتقدم، فعرض عليها من عوارض الاجتماع ما حولها عن وضعها،

وجعلها من القسم الآخر. وكم من حكومة كانت ظالمة بالتغلب، فزحزحتها طبيعة

الاجتماع عن مكانها، ووضعتها تحت سيطرة الأمة، كحكومات الفرنجة في بلادها.

لم تكن حكومة الشورى في المسلمين أثرًا لارتقاء اجتماعي فيهم، ولذلك لم يطل

عليها العهد، وإنما كانت ائتمارًا بأمر الدين وعملاً بهدايته، وقد تغلبت العصبيات في

الأمة قبل أن يستقر هذا النوع من الحكومة، ويلقي بوانيه (أي يثبت ويقيم) بهدي

الدين، ويصير طبيعيًّا في الأمة.

للحكومات آجال مقدرة بقدر أحوال المحكومين لها الاجتماعية، ولمدبر الكون

فيها سنن لا تتبدل ولا تتحول، فما قصر أجل حكومة الشورى في المسلمين،

إلا لأن ذلك المجموع المؤلف من جميع الشعوب والأجناس لم يكن مستعدًّا لأن يكون

مسيطرًا على حاكميه لقلة معارفه الاجتماعية، ولانتفاء الوحدة التي تجعل الأمة

كرجل واحد.

وإنما يستفيد الناس من الدين والدنيا في كل زمان بقدر استعدادهم، ولو كانوا

شعبًا واحد في قطر واحد، لرجي لهم طول هذا الأجل، كما طال أجل حكومة

الرومان، ثم قضي عليها بالتوسع في العمران، ودخول الشعوب الكثيرة تحت

سلطانها.

إذا أراد الله بأمة أن تنهض إلى جعل حكومتها تحت سيطرتها، كما يجب أن

تكون، سهل لها من أسباب العلم الصحيح والتربية القويمة، ما ينير أذهانها،

ويجمع كلمتها حتى تكون أمة عاقلة حكيمة (والعاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) كما

قال الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني.

يسرنا أن نرى بوادر العلم والتربية في أفراد من أمتنا الإسلامية، في كل

شعب وكل قطر، وأن نرى بعض مرشديها يحثونها على الاستزادة منهما، ويسوءُنا

أن نرى بعض الجاهلين المرائين، يفتاتون على المرشدين المخلصين، فيعلقون

آمال الأمة بغير هذا الطريق المعبد، والصراط السوي في تقويم الحكومة، وما يجب

أن تعاملها به الأمة، ولكن قضت سنة الله بأن يغلب الحق الباطل، ويرجح النافع

على الضار ولو بعد حين.

يسهل على من أوتي الخلابة في القول والعرفان بأهواء الجماهير، أن

يغش أمة هي في طور الطفولة في الحياة الاجتماعية، وليس لها زعماء وحكماء

ترجع في الأمور العامة إليهم، ويسهل على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، أن

ينصح لها ويهديها سبل الرشاد، فإذا هي رزئت بالمختلبين وحدهم شقيت، وإذا

هي رزقت الناصحين سعدت، وإذا تنازعها الصنفان وجد صاحب الحق من

نصر العقلاء وإن قلوا، ما يفل جموع أنصار الباطل وإن كثروا، وبذلك ترتقي

الأمة ارتقاء يجعلها أهلاً لأن تختار حكامها، وتحدد لهم الجزاء المالي على

أعمالهم، وتمنحهم الجاه والشرف باختيارها؛ لأنهم يحكمونها بمشيئتها المبنية

على الحكمة والعرفان، وهي تجزيهم بمشيئتها الناشئة عن الرضا والإذعان.

_________

ص: 107

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج

للقطر المصري في هذا العصر حال لا يشاركه فيها قطر آخر من أقطار

الأرض، وهذه الحال مفيدة له من وجه، وخطر على أهله من وجه آخر، فيجب

أن يعرفوا كيف يجتنون الفوائد من الوجه الأول، ويجتنبون الغوائل من الوجه

الثاني.

الحال التي انفرد بها، هي أن جميع الأمم الراقية تنازع أهله الحياة في

المعاش أو الاقتصاد كما يقال، وفي الاجتماع والآداب، وما من أمة منها إلا وهي

أرقى من أهله في العلوم والأعمال، ولها من الحقوق فيه أكثر مما لهم، فالقوانين

المصرية تبيح للأجانب أن يملكوا من البلاد كل ما يملكه الوطني، وأن ينشروا فيها

لغاتهم، وأديانهم، ومذاهبهم، ويأتوا بعاداتهم وتقاليدهم، كما يفعل الوطني، ولكن

الحكومة المصرية ليس لها من المراقبة والسلطان على الأجنبي مثل ما لها على

الوطني، فالأجنبي أوسع حرية، وأكثر استقلالاً في أعماله كلها.

أما وجه الفائدة من هذه الحال، فهو أن الأوروبيين في مجموعهم مدرسة

جامعة في البلاد، تعلم أهلها من الأعمال المالية بأنواعها، والاجتماعية، والأدبية ما

لم يكونوا يعلمون، وتعليم العمل أقرب إلى النفع من تعليم العلم؛ إذ العمل مقصد

والعلم وسيلة إليه في الغالب، فكل عامل ينفع البلاد ويرقيها، وما كل عالم ينفع،

وما علينا - والمدرسة العملية مفتحة الأبواب، ودروسها مبذولة في كل مدينة وقرية

لكل من له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل يدرك، وقلب يتأثر - إلا أن

نتعلم كيف نكتسب، وكيف نقتصد، وكيف نؤسس الشركات، وكيف نؤلف

الجمعيات، وكيف نحافظ على الآداب والعادات، وكيف نقيم بناء وحدتنا الجنسية،

وكيف ندعو إلى عقائدنا وآدابنا الدينية، وكيف نوزع هذه الأعمال على أصناف

العاملين، وكيف نكون مع هذا التوزيع متعاونين متكافلين.

وأما وجه الخطر فهو أجلى وأظهر، فإن ضعيفًا ينازع الأقوياء الحياة،

يوشك أن ينزعوه. وواهنًا يصارع الأشداء يقرب أن يصرعوه، وإذا كان في

الأمثال المسلمة (ضعيفان يغلبان قويًّا) فما بالك بعدة أقوياء يغالبون ضعيفًا واحدًا،

ألا يكون الخطر عليه شديداً؟ بلى إنه يخشى أن تنزع هذه الشركات الأجنبية

والمصارف (البنوك) ؛ أكثر ما في أيدي المصريين من أرض مصر، حتى يكون

أكثرهم فيها أجراء، لا رزق لهم إلا ما يفيضه المالك الجديد عليهم من أجور أعمالهم

من الحرث والخدمة، ويكون الكثيرون منهم عالة، لا يجدون من جود الأغنياء ما

يسد رمقهم، ويفنى الباقون في الغالبين بالتقليد والمحاكاة، يومئذ (لا كان يومئذ) لا

يستطيع أن يقول المصري: هذه بلادي، فأنا أولى وأحق بأن أتولى أحكامها بنفسي،

وأدير نظامها بيدي.

إنما يخشى أن يسرع هذا الخطر المادي، إذا شايعه الخطر المعنوي، وأمده

في سيره وهو التهاون في أمر مقومات الأمة ومشخصاتها من الدين واللغة والآداب

والعادات الحسنة، بل أقول: لا يمكن لأمة أن تحفظ كونها إلا بالمحافظة

على عاداتها، وإن كانت غير حسنة ولا قبيحة، وأن تتروى في القبيح منها،

فتدعو إلى تركه إن تحقق قبحه بالتدريج، واستبدال النافع بالضار، ولا حسن في

عادات الأمم إلا النافع، ولا قبيح إلا الضار. ألم تروا أن أعز الأمم وأوسعها

سلطانا، هي أشد الأمم محافظة على العادات والتقاليد المشخصة لها، وإن كان

غيرها خيرًا منها. ألم تعلموا أن أكثر الأمم الأوروبية قد استنفدت حيلتها، بعد ما

استنفرت بلاغتها وفصاحتها في محاولة إقناع الإنكليز باستبدال المقياس العشري

(المتر) بمقاييسهم (اليرد) بل بتوحيد المقاييس، وناهيكم بفوائده فلم يزد ذلك

الإنكليز إلا محافظة وثباتًا على ما درجوا عليه. ألم يأتكم نبأ ما كان لاستبدال

إسماعيل باشا الخديو، التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري من الفرح والسرور في

أوروبا. قيل: إن ذلك اليوم كان عند الأوروبيين عيدًا من الأعياد، بل فتحًا مبينًا،

من أجلِّ الفتوحات في تحويل الشعوب من حال إلى حال. وهم ينظرون عيدًا ثانيًا

أو فتحًا آخر بإقناع المسلمين عامة بترك العمل يوم الأحد كما فعل بعض تجارهم.

تنتزع أراضي مصر من أهلها قطعة بعد قطعة، فلا تشعر الأمة بانتزاعها؛

لأن البلاد تبقى على حالها، لا يتغير من معالمها، ولا من شؤون عولمها شيء،

وتترك مقومات الأمة ومشخصاتها، عقيدة بعد عقيدة، وعادة بعد عادة، ولا تشعر

الأمة بتركها، وما له من الأثر في حياتها؛ لأن تحول الأمم كتحول الظل، لا يشعر

أحد بحركته، ويشعر كل أحد بعاقبته، وانتقال الثروة من الشعب الكبير كانتقالها

من الرجل الواحد الذي يغتر بكثرة ماله، فيسرف ويبذر، لا يلاحظ عند كل نفقة

ما بقي من ماله، ونسبتها إلى دخله، وإنما تنحصر ملاحظته في شيء واحد وهو

أنه يملك مليونًا، فهو اليوم ينفق عشرة آلاف، على أنها عشرة من مليون، وفى غد

ينفق عشرة أخرى على أنها عشرة من مليون، ولا يزال يرى المليون مليونًا، وإن

لم يضم إليه شيئًا، والعشرة عشرة وإن صارت بانضمامها إلى ما قبلها عشرات

فمئات، حتى تستغرق المليون فلا يبقى منه شيء، أو يبقى منه ما يكون مثله في يد

الفقير والمسكين.

لا يهولنك ما قرأت فتكون من اليائسين ولا تستهينن به فتكون من المغرورين

فإن الخطر الذي ذكرناه وإن كان صحيحاً مما يمكن اتقاؤه، وإن لمصر

على ضعفها قوة المالك المدافع عن ملكه، أو المحافظ عليه في زمن لا غصب فيه،

ولا مصادرة في المال، ولا استبداد يحول دون التربية والتعليم، والمحافظة على

مقومات الأمة من اللغة والشعائر والأخلاق، والعادات. فالخطر المخشي ليس

خطرًا اضطراريًّا لا قبل لنا به، ولا حول لنا ولا قوة على دفعه، وإنما هو خطر

نتقحم فيه بمشيئتنا واختيارنا، وإذا نحن اتقيناه كان مصدره وهو التنازع بيننا وبين

الأجانب مصدر علم وعرفان، وترقٍ في الاجتماع والعمران، نعم إنه لا يخلو من

إثم، ولكن منافعه تكون أكبر من إثمه.

كيف يُتقى هذا الخطر؟ قد علم مما مر، أن الخطر محصور في أمرين:

إضاعة الثروة، وإهمال مقومات الأمة، فأما الثروة فلها ثلاث آفات أو ثلاث

بلاليع: القمار، ومنه مضاربات البورصة، وقد فشا وباؤه في القطر المصري،

حتى لم يدع قرية ولا مزرعة (عزبة) سالمة من فتكه، وإعطاء الربا للأجانب،

وبيع الأطيان والأملاك منهم، ولا سبيل إلى إقناع الناس باتقاء هذه الآفات الثلاث،

ولكن الجرائد إذا فصلت مضارها، وكررت النذر فيها، وتتبعت الوقائع والحوادث

في تخريبها للبيوت، وإفقارها للأغنياء، وإذلالها للأعزاء، رجونا أن يقل فتكها حتى

لا يصل إلى درجة الخطر على الأمة.

وأما مقومات الأمة، فأمرها أعظم ومجال القول فيها أوسع، وإنما يخاطب في

شأنها الزعماء المصلحون، والعلماء العاملون، والأغنياء العاقلون، وأصحاب

الصحف الغيورون، والخطباء المؤثرون، إذ المدار فيها على إيجاد معاهد للتربية

والتعليم، ينشأ فيها الرجال المستقلون، والنساء القادرات على تربية الولدان وإقامة

النظام في البيوت، وهذا ما يطلب من الزعماء والأغنياء، ولا ينكر ما

للجرائد الناصحة من التأثير في الحث عليه، ثم على النصح المتتابع للأمة في

المحافظة على تلك المقومات، وإعلاء شأنها، والتقريع الشديد للذين يهملون شيئًا

منها، وهذا ما يطلب من الخطباء والكتاب.

وإني لأعجب! كيف تقصر الجرائد الوطنية في هذين الركنين العظيمين؟

حفظ ثروة الأمة، وحفظ مقوماتها الجنسية وترقيتهما. وتطيل الكلام في المسائل

الخارجية والحوادث الجزئية، فيكون أكثر ما تقوله لغوًا، لا فائدة فيه للجمهور،

أليست مصر أحوج إلى حفظ ثروتها ومقوماتها منها إلى سائر الأشياء؟ أليست هذه

الثروة والمقومات على خطر من التنازع مع سائر الأمم، يجب تداركه؟ أليست

الجرائد هي المطالبة ببيان ذلك والحث على تلافيه؟ بلى وعسى أن يكون عناية

الجريدة به أكبر من عنايتها بسواه والله الموفق.

_________

ص: 111

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

الكرامة والمعجزة

(س8) السيد محمد بن هاشم علوي (بجاوة) أسألك عن كلمة: (كل معجزة

لنبي فهي كرامة لولي) هذه الكلمة تلهج بها الناس عندنا لا سيما عبدة الخوارق، ولا

أدري هل هي حديث أو أثر وما معناها؟

(ج) العبارة ليست حديثًا ولا أثرًا عن الصحابة، وهذه الاصطلاحات

من المعجزة، والكرامة، والولاية قد حدثت بعدهم، وإنما هي كلمة لبعض

المشايخ وافقت هوى الناس، فتلقوها بالقبول، وصارت عندهم من قبيل القواعد

الدينية، وسارت بها الأمثال فيما بينهم، ونحمد الله أننا لم نعدم في شيوخ التصوف

والعلم من أنكرها.

ينقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي من أئمة الأشعرية، أنهما

وافقا المعتزلة على إنكار الكرامات. وذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى

أنه يزداد تعجبه من نسبة إنكارها إلى الأستاذ (وهو من أساطين أهل السنة

والجماعة) وكذَّب ذلك، ثم قال ما نصه:

(والذي ذكره الرجل في مصنفاته، أن الكرامات لا تبلغ مبلغ خرق العادة

قال: وكل ما جاز تقديره معجزة لنبي، لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي. قال:

وإنما مبلغ الكرامات إجابة دعوة، أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو

مضاهي ذلك مما ينحط عن خرق العادة، ثم مع هذا قال إمام الحرمين: من أئمتنا

هذا المذهب متروك. قلت: وليس بالغًا في البشاعة مبلغ مذهب المنكرين للكرامات

مطلقا، بل هو مذهب مفصل بين كرامة وكرامة، رأى أن ذلك التفصيل هو المميز

لها من المعجزات. وقد قال الأستاذ الكبير أبو القاسم القشيري في الرسالة: إن

كثيرًا من المقدورات يعلم اليوم قطعا، أنه لا يجوز أن تظهر كرامة للأولياء

لضرورة أو شبهة ضرورة يعلم ذلك، فمنها حصول إنسان لا من أبوين وقلب جماد

بهيمة أو حيوانا، وأمثال هذا كثير. انتهى، وهو حق لا ريب فيه، وبه يتضح أن

قول من قال: (ما جاز أن يكون معجزة النبي، جاز أن يكون كرامة لولي) ليس

على عمومه، وأن قول من قال:(لا فارق بين المعجزة والكرامة إلا التحدي) ليس

على وجهه اهـ. كلام السبكي هنا.

وقال بنفي العموم أيضًا في جوابه عن شبهة القائلين بأنه لو جازت الكرامة

لاشتبهت بالمعجزة. وقال في الكلام على إحياء الموتى نحوه، ومنه قوله: (ولا

أعتقد الآن أن وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمانًا طويلا، كما

عمرا قبل الوفاة، بل ولا زمنًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء، كما خالطاهم قبل

الوفاة) .

***

محو الناس للأسماء من اللوح المحفوظ

(س9) ومنه معطوفًا على السؤال السابق: وأسألك سيدي عن قول من

سمعته يقول: (فلان محينا اسمه من اللوح المحفوظ) وهذا القائل ممن يدَّعون

الكرامات والتصوف، وهو غبي عن أول ما يجب عليه، وإذا فرضنا حسن استقامته

ومعرفته، فهل يسوغ له هذا القول؟ وما معناه؟ وهل هو مدح لمحو اسمه أم ذم؟

وقد أنكرت عليه قوله فلامني الناس المتهافتون على الخزعبلات؛ لصغر سني

وعدم كبر عمامتي، وعدم قولي لمن يطلب من الدعاء، أنت في رقبتي. تفضل يا

سيدي بين لي ما أشكل علي، فقد اختلج بخاطري أنهم مصيبون في تصديقهم قوله،

وأنه ما قال منكرًا من القول، وأني مخطئ في إنكاري، وما يدريني أن الحق معهم،

أجبني يا والدي.

(ج) إنك مصيب في إنكارك وهم المخطئون، وليس الحق بكبر السن

أو العمامة، فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة

وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فاثبت على فطرتك السليمة، ولا تقبل من أحد قولاً

بغير دليل بيِّن. أما كلمة الدجالين، فلا تفهم إلا بالقرينة، فإنهم قد يريدون بمحو

الاسم الحكم بالموت، وقد يريدون به إخراج المسمى من أهل المرتبة التي هو

فيها حقيقة، كالولايات الدنيوية أي عزله منها، أو ادعاء كالذين يعترفون لهم

بالولاية.

ومهما كان المراد، فهذا القول من الجرأة على الله، لا يصدر إلا من جهول،

غرَّه افتتان العامة بدعاويه، وتقبيلهم ليديه. فصدقهم، وافتتن بنفسه، أو نسي بهذا

الجاه ربه فأنساه نفسه. وينبغي لك أن تتلطف في الإنكار على هؤلاء؛ لئلا تأخذهم

العزة بالإثم، فيؤذوك، فإنهم لخضوع العامة لهم يطغون، ويستحلون الإيذاء لاسيما

إذا أمكنهم إخفاء سببه؛ ليدعوا أن المعترض قد عاقبه الله كرامة لهم، فإن

أكثر كراماتهم المزعومة هي الإيذاء للناس، ولم نسمع أن أحداً منهم قد نال من

الكرامة أن أنقذ بعض بلاد المسلمين من الظلم أو أخرجهم من ظلمات البدع

والخرافات.

***

قتلى مسلمي الروس في الحرب اليابانية

(س10) يوسف أفندي هندي بالبريد المصري (تأخر)

ما حكم الشرع الشريف فيمن قُتل من مسلمي الجند الروسي في حرب اليابان؟

هل ماتوا طائعين أم عاصين؟ ولا أظنهم يُعدون شهداء؟ أرجو التكرم بالإفادة؛

لازلتم ملجأ لكل مستفيد.

(ج) إنني أعتقد أن محاربة مسلمي روسيا لليابان، ليست معصية لله -

تعالى - ولا ممنوعة شرعًا، وأنها قد تكون مما يثابون عليها عند الله، إذا كانت

لهم فيها نية صالحة، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، وللنية الصالحة

في حرب المسلم مع دولته غير المسلمة وجوه، منها أن طاعته إياها، تدفع

عن إخوانه من رعيتها شيئا من ظلمها وشرها، إذا كانت استبدادية ظالمة، وتساويهم

بسائر أهلها في الحقوق والمزايا، إذا كانت نيابية عادلة، أو تفيدهم ما

دون ذلك إذا كانت بين بين، ومنها أن العلوم والأعمال الحربية لا تزال من أهم

عناصر الحياة الاجتماعية في البشر، فإذا حرم منها شعب من الشعوب ضعفت

حياته، والضعيف لا يكون إلا ذليلاً مهينا. والخير للمسلمين من رعايا تلك الدول أن

يكونوا مشاركين لسائر أهل الملل فيها في جميع مقومات الحياة الاجتماعية،

أقوياء بقوتهم، أعزاء بعزتهم، لا أن يكونوا فيهم ضعفاء أذلاء بدينهم، فإن دين

الإسلام لا يبيح لأهله أن يختاروا الضعف والذلة على القوة والعزة، وإذ هم

اختاروا ذلك، عجزوا عن حفظ دينهم، فكان ذلك إضاعة للدين نفسه، فلا تلتفت

إلى متعصب جهول، يقول لك: إن المنار يبيح للمسلمين أن يعتزوا بالكافرين،

إلا إذا رأيته يعقل الكلام. فقل له: إنه ينصح للمسلمين بأن يختاروا العز على

الذل، - مهما كان مصدر العز - والقوة على الضعف، ويرى أن حفظ الإسلام

في غير داره لا يكون إلا بذلك. ويتمنى نصارى العثمانيين لو تدخلهم الدولة في

الجندية لذلك.

***

الدخان هل هو نجس وضار

(س11) من محمد أفندي زيدان بسنورس الفيوم (تأخر)

ما قولكم - جعلكم الله منار الإسلام، وينبوع العلم، ومنهل الوارد - في مسألة

الدخان التي أخذ اختلاف الناس فيها كل مأخذ، ضاربًا أطنابه على أفكارهم

وعقولهم، فأصبح معظمنا - والحمد لله - إن لم أقل الكل مغمورًا في غياهب الجهل

بكنهها مضطرب الضمير، تلعب به أيدي الخلاف على موائد الجهالات، مختلج

الصدر بالسؤال عما يكشف لثامها ويرفع نقابها، وعن بيان أحكامها، وهل

الدخان نجس، أو منع منه الإمام؟ وهل يضر؟ وهل يكون حجابًا بين العبد وربه

من الأنوار؟ وإني لأرى هذه المسألة أهم مسألة توجه إليها أنظار النظار بالبحث

في خبايا أسرارها؛ ليستخرجوا معادنها الجوهرية، ولا أرى مقدامًا على خوض

بحارها، وسلوك سباسبها إلا منار الإسلام، فوليت وجهي شطره بلسان حال الأمة؛

مريدًا بيان حقيقتها بما يسر الضمير، ويرتاح إليه الخاطر، مشدودًا نطاقه بساطع

براهين مناركم، كما عهدنا من قبل، ولازلنا نعهد نشر لواء المنارعلى عويص

المسائل، فأدحض سحاب الجهل بقوى الحجة، وبياض المحجة، فلعله يتفضل عليَّ

بل على الشعب بأسره، بنقطة من بحار علومه الفياضة، أو بشعاع من شمس

معارفه، فنهتدي بها سواء السبيل، والسلام.

(ج) قد نشرنا هذا السؤال بنصه؛ لما فيه من الفكاهة، وبيان استعداد

الناس للإحفاء والاستقصاء في كل شيء، وأن ما يراه بعضهم من الأمور التي لا يؤبه

لها، يراه آخرون ذا بال بل من أهم المهمات.

أما كون الدخان نجسًا أو غير نجس فالجواب عنه: أن هذا النبات الذي يسمى

دخانا - لأنه يستعمل إحراقًا ليتمتع بدخانه - هو كسائر النبات طاهر، ولا يوجد

في الدنيا نبات نجس، وأما كونه ضارًّا أم لا، فهذا مما يرجع فيه إلى الأطباء لا

إلى الفقهاء، والمعروف في الفقه أن كل ضار محرم على من يضره، وما كان من

شأنه أن يضر قطعًا إلا في أحوال نادرة، يمكن إطلاق القول بحرمته، أو ظنًّا يحكم

بكراهته. والمشهور عن الأطباء أن في هذا النبات المعروف بالدخان، وبالتبغ،

والتتن، وبالتنباك، مادة سامة تسمى نيكوتين، فهو لذلك يضر المصدرين قطعًا، وأن

صحيح الجسم إذا تعوده بالتدريج، فإنه لا يضره ضررًا بيِّنًا، ولا شك أن تركه خير

للصحة من استعماله. فينبغي لمن لم يُبْتَلَ به أن لا يقلد الناس فيه، فإنه إذا لم يخلُ

من ضرر ما، يكون مكروهًا شرعا، وعلى من ابتلي به أن يراجع الطبيب الحاذق

فإذا جزم بضره، وجب عليه تركه، وإذا قال: يحتمل أن يضره، استحب له تركه،

وإذا قال: إنه لا يضره مطلقًا، أبيح له استعماله، وإذا اتفق أن كان نافعًا له

لمقاومة مرض ما، كما ينفع كثير من السموم في مقاومة بعض الأمراض، صار

مطالبًا باستعماله شرعًا، وقد يكون حينئذ واجبًا، إذا جزم الطبيب بتوقف منع الضرر

على استعماله، وإلا كان مخيرًا بينه وبين ما يقوم مقامه. فعلم من ذلك كله أنه قد

تعتريه الأحكام الخمسة كما يقولون.

***

النهي عن الجمع بين الأختين

والتزوج بامرأة الأب إلا ما قد سلف

(س12) عكاشة أفندي خليل بالأبيض من السودان: أرشدني أرشدك الله إلى

الصراط المستقيم إلى تفسير قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 23) وقوله: {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22) ورجائي نشره في مناركم ولكم الثواب.

(ج) معنى قوله عز وجل: {إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22) لكن ما

سلف أي سبق لكم من ذلك في زمن الجاهلية لامؤاخذة عليه، وكانوا في الجاهلية

يجمعون بين الأختين في الزواج، ويتزوجون بنساء آبائهم إذا ماتوا عنهن، فنهى

الله عن ذلك، وبيّن أن ما سبق في الجاهلية لا يؤاخذ عليه. وهذا الاستثناء يسميه

النحاة الاستثناء المنقطع.

ويقول بعض المفسرين: إن الاستثناء متصل ولا حاجة إلى بيان قوله لمن يريد

فهم المعنى، ولا حاجة له في الاصطلاحات النحوية.

***

الحب وهل هو اختياري أم اضطراري؟

(س13)

التلميذ بمدرسة الناصرية بمصر: ما هو الحب؟ وهل هو

اختياري أم اضطراري؟ أفيدونا بأجلى بيان، وأعظم برهان، وإن شئتم فأرسلوا لنا

الرد على غير صفحات المنار، ويكون لكم الفضل، والله لا يحرمنا من أمثالكم.

(ج) ورد لنا هذا السؤال منذ سنة وشهر، ولم يأمر السائل بكتمان اسمه

ولا بالرمز إليه، وكنا ترددنا في الجواب عنه، ثم نسيناه، ولما راجعنا في هذه الأيام

ما تأخر من الأسئلة التي جاءتنا في السنة الماضية؛ ولم نجب عنها رأيناه فيها،

واستحسنا أن نجيب عنه جوابًا مفيدًا، لأمثال السائل من الناشئين الذين أنشأت بوادر

الحب تعبث بنفوسهم، وتنشئ له في مخيلاتهم جنات باسقة الأشجار، بهيجة

الأزهار، تجري من تحتها الأنهار، وتغرد من فوقها الأطيار، تتهادى في أفيائها

كواعب الأبكار، فيتراءى لهم من سعادة الحياة في مناغاة أولئك الغادات، في حدائق

هاتيك الجنات، ما قد يشغلهم عن تحصيل العلم، ويعوقهم عن تربية النفس،

ويجذبهم إلى مطالعة قصص الغرام التي تغذي تلك التخيلات والأوهام، حتى يزين

لهم التعرض للحب اختيارًا، أو يقعوا في حبالته اضطرارًا، فيجني عليهم ما

يجني مما لا محل لذكره هنا.

معنى الحب بديهي، لا يمكن تعريفه بما هو أجلى عند النفس منه، فإذا قلت

لك: إن حبك للشيء عبارة عن ميلك إليه، أو هو انفعال ارتياح، وأنس بالشيء

المحبوب، أو شعور ملائم للطبع، مثاره أو منشؤه ذلك الشيء، أو غير ذلك، لا

يزيدك ذلك معرفة بالحب، وإنما يزيدك معرفة بالألفاظ المترادفة، أو المتقاربة في

المعنى، فمن أحب شيئًا ما، عرف معنى الحب المطلق في الجملة، وحب ذلك

الشيء بالتحديد، وإذا فرضنا أنه يوجد في البشر من لا يحب شيئًا قط، فإننا نجزم

بأن إفهامه معنى الحب محال، ومن أحب شيئًا دون شيء، فإننا نعرفه معنى الحب

المجهول عنده؛ بتشبيهه بالمعروف له، ولكن هذا التعريف يكون بالتقريب لا

بالتحديد؛ لأن حب الاحترام غير حب الشفقة، وحب القرابة والصداقة، غير حب

الزوجية. وصفوة القول أن الحب من الوجدانات التي لا يعرفها إلا من ذاقها

كالسرور، والفرح، والخوف، والحزن.

وأما كونه اختياريًّا أو اضطراريًّا؛ فهو مما اختلف فيه الباحثون، فقال

بعضهم بالأول، وبعضهم بالثاني، وذهب آخرون إلى أن أوله اختياري وآخره

اضطراري، وقد نظموا هذه الآراء، واشتهرت فيها أشعارهم، وإذا رجع الإنسان

إلى نفسه، وإلى ما يعرف عن أبناء جنسه، ودقق النظر في ذلك، يتجلى له أن

لكل قول وجهًا ولكنه قاصر عن تمحيص الحقيقة؛ وذلك أن الإنسان قد يحدث له

الحب فجأة، وقد يختار معاشرة بعض من يستحسن، والتودد إليه لأجل أن يحبه

فيحبه، وقد يحب امرأً أو امرأة فجأة، أو بعد تحبب، ثم يفطن إلى أن هذا الحب لا

خير فيه، وأن تركه خير من البقاء عليه، فيتكلف السلوّ بالبعد وترك المعاشرة حتى

يسلو، وقد يكون ضعيف الإرادة فاقد العزيمة، لا يقوى على مغالبة الحب،

وإن هو اعتقد عبثه بشرفه ودينه، وذهابه بماله، وإفساده لمصالحه، فيظل مغلوبًا

له خاضعًا لسلطانه.

كل أولئك كان واقعًا معروفًا للمختبرين، وما قال من قال: إن الحب اختياري

دائما، أو اضطراري مطلقا، أو أوله اختياري وآخره اضطراري - إلا حكاية عما

يجد في نفسه، مع الغفلة عما عليه غيره من الناس، وإلا فهو جاهل بنفسه

وبغيره.

وإن شئت تفصيلاً ما لهذا الإجمال، فلا تنس أن موضع الخلاف هو حب

الشهوة الذي يسمى عشقًا: كحب الرجل للمرأة التي يشتهي أن يقترن بها، حبًّا يملك

شعوره ووجدانه، لا مطلق حب الإنسان الجميل، أو القريب، أو المحسن، أو

الفاضل، فإن الحب المطلق للجميل المستحسن من الإنسان وغير الإنسان، مما

غرز في طبائع البشر، واصطبغت به فطرتهم، لا يملكون دفعه ولا اختيار لهم فيه.

وقلما يكون العشق اضطرارًا، بل الغالب فيه أن يستحسن المستعد للعشق، من

تحسن صورته أو صورتها في عينه، وتحل محلاًّ من قلبه، فيطيل في ذلك الفكر

والتخيل، ويعود إلى النظر والتأمل، ويتدرج من ذلك إلى المكالمة والمعاشرة،

حتى يصير عاشقا، واسترساله في هذه الأمور يكون باختياره في الأكثر، وما

كان من الخواطر والتخيلات الأولى بغير اختيار، تسهل مدافعته بتكلف التفكر في

غيره قبل أن يتمكن، ولذلك عبَّرنا بلفظ الاسترسال، ومن سبر هذا وفقهه حق الفقه،

يجزم بأن أكثر الذين عشقوا ما بلغوا في ميلهم واستحسانهم إلى درجة العشق، إلا

بأعمال نفسية وبدنية، استرسلوا فيها باختيارهم، ولو شاءوا لما استرسلوا، ولو لم

يسترسلوا لما عشقوا، ولكنهم اختاروا أن يعشقوا؛ لأنهم توهموا أن في العشق غبطة

وهناء، ونعمة وسعادة.

ومن النادر الذي يبعد تصوره ويعسر تعليله، أن ينظر الإنسان إلى صورة

جميلة، فيفجأه عشقها مستغرقًا شعوره ووجدانه، مالكًا عليه أمره، سالبًا منه إرادته

واختياره، ولو قال قائل: إن هذا غير ممكن أو غير واقع، لما صلحت حكايات

(ألف ليلة وليلة) ، وأشباهها من القصص (الروايات) ناقضًا لقوله، ذلك بأن

الانفعالات التي تعرض للنفوس، لا تكون بالغة منتهى القوة والشدة إلا إذا

اصطدمت بوجدان يقابلها: كالحزن الشديد لفقد المحبوب العزيز، والفرح الشديد

بلقائه بعد اليأس منه، وكالخوف على الحياة من خطر مفاجئ.

وقد يقال أيضًا: إن داعية النسل قد تقوى في بعض الناس الذين ليس لهم

شواغل عقلية، فتحدث استعدادًا يستغرق الوجدان، ويعم تأثيره المجموع العصبي،

فيتفق أن يرى صاحب هذا الوجدان في هذه الحال من الصور ذوات الجمال ما

يشاكله، فينفعل لرؤيته انفعالاً شديدًا، ويتمكن تأثيره في نفسه لأول وهلة، فلا

يكون له اختيار فيه، ولا مطمع في تلافيه، ولكن هذا نادر كما قلنا آنفًا، والنادر

لا حكم له كما يقولون.

والغرض من هذا البيان، أن الحب الذي تثيره داعية النسل كسائر أنواع

الحب، يخضع للتربية والتهذيب، وليس من شأنه سلب الاختيار بطبيعته،

وإنما ينمو كغيره بالأعمال الاختيارية، حتى يخرج عن طوق الاختيار أحيانًا لا سيما

مع ضعفاء الإرادة، وأهل البطالة، فقد يولع المرء بلعب الشطرنج أو اللهو

بإطارة الحمام، حتى يرى تركهما فوق إرادته واختياره، فعلى السائل وأمثاله

من الناشئين أن لا يسترسلوا مع أهوائهم في الحب؛ لئلا يحكم عليهم سلطانه

الجائر حكمًا يتجرعون غصصه طول حياتهم.

_________

ص: 115

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعليم الديني

لا نعرف بلادًا إسلامية أثَّر فيها التفرنج، كما أثر في مصر. وأغرب مظاهر

هذا التأثير ما جرى منذ أشهر من الخلاف بين المسلمين، في تعليم الدين

بالمدارس، بل وفي فائدة تعليم الدين وعدم فائدته، وإمكان الاستغناء عن الدين في

تهذيب الأخلاق، وتربية النفوس.

فتحت باب البحث في ذلك الجرائد، وتبعها الناس كعادتهم فمن قائل: إن

موضع تعليم الدين البيوت لا المدارس، وإنه ينبغي للحكومة أن تبطل تعليم الدين

من مدارسها. ومن قائل: إن ما يعلم في هذه المدارس كاف، لا حاجة إلى الزيادة

عليه. ويقابل هذا القول، طلب أعضاء مجلس الشورى والجمعية العمومية زيادة

التوسع في تعليم الدين بهذه المدارس. ووراء هذه الأقوال والآراء ما كتبه بعض

الناظرين في آراء فلاسفة أوربا، ونشر في جريدة المؤيد من بيان وجه الحاجة إلى

تعليم الدين، وبيان الاستغناء عنه، ومن قال بذلك من علماء الغرب.

ومما يتشدق به المقلدون لأصحاب الآراء الفلسفية الناقصة، قولهم أنه يمكن

الاستغناء عن الدين، بالتربية الأدبية العقلية، المبنية على الإقناع بضرر الرذائل،

ونفع الفضائل، كأن يقول المعلم للتلميذ: إن الكذب قبيح، ومقترفه محتقر بين

الناس، لا يوثق بقوله، ولا يعتد بشهادته، ولا بخبره، وإن الخمر ضارة؛ تذهب

بالصحة والمال. ومن هؤلاء من يرى أن هذه الطريقة أفضل من طريقة الدين

المبنية على التخويف من عذاب الآخرة؛ لأن في هذا التخويف من إضعاف النفس،

وإيقاعها في الأوهام ما فيه على زعمهم.

ومن أهل الدين الراسخ من سرى له شيء من أوهام المتفلسفة، فصار يرى

أن تعليم الدين والتربية عليه في الصغر ضار، ولكنه يجب بعد بلوغ العقل أشده؛

لأن الدين عبارة عن فلسفة روحية، والمبتدئ ليس أهلاً لتلقي الفلسفة.

قد استعجل متفرنجو المسلمين جدًّا، في جعل مسألة التعليم الديني محل بحث

ونظر، واستعجل المتفلسفة منهم في الحكم بأن الإقناع العقلي كافٍ في تهذيب

الناشئين، ومُغنٍ عن الأخذ بالدين أو خير منه، فإن أئمتهم من غلاة الملاحدة في

أوربا لم يظفروا بإقناع شعب من شعوبهم برأيهم هذا، ولا يزال جميع

الأوربيين يقيمون بناء التربية والتعليم على أساس الدين، على أن حاجتهم إليه

دون حاجتنا لوجوه، منها انتشار التعليم الأدبي والإقناعي في جميع طبقاتهم، حتى

إن بعض بلادهم لا يوجد فيها أمي ولا أمية، ونحن عاجزون عن تعميم التعليم

بدين أو بغير دين، فهل من الصواب أن تجعل المتعلمين منا على قلتهم

غير متدينين، وهم القدوة لسائر الأمة؟ أم الصواب أن يسعى هؤلاء النفر من

المتفلسفة، إلى محو الدين من الأمة برمتها متعلمها وأميها. وهل يظنون أن جميع

أفراد الأمة يكونون حينئذ فلاسفة أو متفلسفين مثلهم، يتركون الشرور لقيام الدليل

العقلي على ضررها أو منافاتها للشرف؟

قلما تجد أحدًا من أصحاب هذا الرأي العقيم تاركًا للمعاصي والشرور؛ لأنها

ضارة بالمجتمع، أو مخلة بالشرف، ومن ترك ذلك ظاهرًا لا يتركه باطنا، إلا من

تربى منهم تربية دينية حقيقية، طبعت في نفسه ملكات الفضائل طبعًا، عجزت عن

محوه نزغات الفلسفة الناقصة.

يمكن أن يجمع للناشئ بين الإقناع والدين؛ بأن يبين له ضرر الرذائل

والمعاصي في سياق حكمة تحريمها، وبيان محاسن الفضائل ومنافعها في سياق

حكمة إيجابها أو استحبابها، وإلا تعسر الإقناع أو تعذر؛ لاختلاف الأفهام في حقيقة

الشرف، والخير، والشر، والنفع، والضر. فإذا قلت للناشئ: إن الزنا قبيح أو

مخل بالشرف، لا يمنعه ذلك أن أقنعه بأن يأتيه سرا؛ لأن أمر الشرف منوط بنظر

الناظرين وعرفهم. وإذا قلت له: إنه خطر على الصحة؛ لأنه مدعاة للإسراف،

أو مجلبة لبعض الأدواء. لم يكن لقولك من التأثير - إن أخذ بالتسليم - إلا العزم على

الاقتصاد فيه، والحذر من غشيان المصابات بالأدواء، ويظن أن ذلك مما يسهل

عليه، وربما وجد من الناصحين من يقول له: إن ترك ذلك العمل ضار بالصحة،

فكانت نصيحته أقرب إلى القبول من نصيحتك. وإذا قلت له: إن لهذه الفاحشة

غوائل اجتماعية: كاختلاط الأنساب، وقلة النسل، وإثارة الشرور بين المتنازعين

فيها عند المشاركة، فلا نطمع منه إن عقل قولك، بأن يترك لذته الثائرة حبًّا

بالمصلحة العامة. ولكن أكثر الذين يتربون تربية دينية صحيحة، لا يستحلون

الفاحشة ويستهينون بها كما يفعل من فقدوا ذلك، وإنك لتجد في كل بلد يدين أهله

بحرمة هذا الفاحشة كثيرين يتقونها خوفًا من الله عز وجل -على ضعف العلم بالدين

وعدم التربية عليه، ولولا الخرافات التي زلزلت العقائد، وشوهت وجه الأحكام:

كالاعتماد على الكفارات، والشفاعات، والغفران، لكان وقوع هذه الفاحشة من

المتدينين من النوادر.

وقل مثل ذلك في الخمر، فإن المتعلمين على الطريقة التي يطلبها المتفرنجون

والمتفلسفون؛ أعرف من غيرهم بما فيها الضرر، وهم مع ذلك أكثر شربًا لها من

سواهم. وأضف إلى ذلك جريمة القمار، وما فيها من المضار، على أن المتفرنجين

والمتفلسفين منا لا يحرِّمون بعقولهم هذه الموبقات الثلاث، التي يجاهدها فلاسفة

أوروبا بعقولهم، وعلومهم أشد الجهاد، ويعدونها شر غوائل المدنية الأوروبية، وهي

لا تزداد بالرغم منهم إلا انتشارا.

إن الجميع متفقون على قبح الكذب وضرره، وإنهم لأعجز عن إقناع الناشئين

بتركه مهما قويت حجتهم من أضعف مرشد ديني، وإن لم يأت بحجة أو حكمة وراء

النص، وقصارى ما يبلغه قولهم من نفس من يقبله، أن يحترس من الفضيحة بالكذب

الجلي، لا أن يتركه مطلقا.

أما زعم المتفلسفين: أن تربية الدين، قد تضر بالعقل أو النفس بما فيها من

الإرهاب والتخويف، فهو زعم باطل، لا يقوله إلا من يجهل الدين والناس،

وسنبين ذلك في فرصة أخرى.

وأما القول بأن الدين فلسفة لا ينبغي أن يتلقاه إلا المتعلم المستعد لتلقي

العلوم العالية فله وجه، وفيه قصور، فإن الدين له طرفان: أدنى وهو الهداية

العامة لكل مكلف، وإن أميًّا جاهلا. وطرف أعلى وهو كما قيل: حكمة وفلسفة.

والصواب أن يعلم التلميذ في المدرسة الابتدائية، ما يليق به من الطرف الأول،

ويترقى به تدريجا. يعلم في السنين الأولى مع القراءة بالحكايات عن الأشياء، أن

الله -تعالى- هو الذي أعطى كل شيء خلفه ثم هدى، فإذا كان موضوع درسه

في النحل مثلا: يذكر له بعد شرح ما يليق بفهمه من حالها وأعمالها، أن الله -

تعالى- هو الذي خلقها، وألهمها أن تعمل لحفظ حياتها هذه الأعمال، ويترقى به في

ذلك.

ويعلم مع الإلهيات على هذا النحو شيئًا وجيزًا من سيرة النبي - صلى الله

عليه وسلم - وأخلاقه، وآدابه، ويذكر له أن الله - تعالى - ميزه هو وأمثاله من

الأنبياء بعلم خاص بهم دون سائر الناس، يهدون به الناس إلى الحق والخير، كما

ميز النحل بعلم خاص بها لا يشاركها فيه غيرها، وأما العبادات: فيجب أن

يتعلمها الناشئون بالعمل لا بالقول، وكذلك العامة اتباعًا للسنة السنية (صلوا كما

رأيتموني أصلي) رواه البخاري، وأما تعليم المبتدئين فلسفة السنوسي وأمثاله في

الإلهيات: كالصفات العشرين، فهو من العبث الذي يعد جناية على الدين، من ينتقده

فإني معه أول المنتقدين، والله على ذلك من الشاهدين.

سألت أحد الفضلاء المستمسكين بالدين عن ولد له، لعله في الثانية عشرة

أيصلي؟ فقال: لا أدعه يصلي الآن؛ لأنه لا يعقل معنى الصلاة، فإذا بلغ السن

التي يفهم فيها معنى الصلاة، فإنه يصلي.

هذا الوالد الذي يرى هذا الرأي من أبناء كبار الباشوات، وقد تعلم في أوربا

وتقلد بعض الأعمال العالية في الحكومة، وهو يفهم من معنى الصلاة، ما لا يفهم

أكثر أهل الأزهر؛ لأنه قرأ الإحياء قراءة استهداء، ويقل فيهم من قرأه، وكثير من

مدرسيهم لا يعرف عدد أجزائه، ولا رأى منها شيئًا، وهو على ما نعتقد غير

مصيب، ولعمري إنه ينبغي لمن يرى رأيًا يخالف ما درجت عليه أمته، أن لا

يتعجل العمل به، بل يبحث، ويستشير، ويناظر من يعلم، أو يظن أنهم أهل

للبحث في ذلك، لعله يرجع عن رأيه أو يمضي فيه على بينه تامة، ولا يعتد في

هذا المقام بتجربة الواحد والآحاد.

نقول في الصلاة ما قلنا في الدين بجملته، إن لها طرفًا أدنى وطرفًا أعلى، ومن

فوائد حمل الناشئ المميز على الصلاة: تعويده الطهارة، والوضوء، ومنها

توليد الشعور الإجمالي بالعبادة في قلبه، وهذا شيء عرفناه بنفسنا، ورأينا أثره في

غيرنا ممن تربوا تربية دينية، فلا يصح لمن لم يذقه أن ينكره، ومنها تعويده

المحافظة على المكتوبات في أوقاتها، فإن كل عمل يؤدى بنظام في أوقات معينة،

يحتاج فيه إلى التعويد في الصغر، فقلما يحافظ الإنسان على عمل منتظم لم يتعوده،

وإن هو اعتقد نفعه في الكبر. فأنا اعتقد أن الرياضة البدنية من الضروريات لذي

الأعمال العقلية مثلي، واستحث عزيمتي للارتياض كل يوم، فلا تواتيني إلا في

بعض الأيام، وإنني أعاتب نفسي منذ سنين على هذا الإهمال والتقصير، ولو لم

أكن مواظبًا على الصلاة من الصغر، لما بعد أن أترك بعض أوقاتها تكاسلاً أو تأوّلا.

ومن فوائد المواظبة على الصلاة قبل البلوغ، أن المواظب عليها لا يقع بعد

البلوغ في مهلكة الشبان، التي يعبر عنها كتاب العصر بالعادة المضرة، وناهيك

بشرورها ومضارها، وإذا هو اجترحها لا يفرط فيها، فإن لم يتركها لأنها محرمة،

امتنع من الإسراف فيها؛ استثقالاً لتكرار الغسل، وهذا ضرب من ضروب

نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، والناس عنه غافلون.

تعليم الدين

في المدارس المصرية

بحث قوم في تعلم الدين بمدارس الحكومة، فمنهم من قال بوجوب الزيادة فيه،

ومنهم من قال: إن ما فيها كاف، ومنهم من قال: إنه لا ينبغي أن يعلَّم الدين في

المدارس، وإنما موضع تعليمه البيوت، وهم يعلمون أن تعليم البيوت منوط بالنساء،

وأن النساء المصريات لسن على شيء من علم الدين، ولا من علم الدنيا الذي يؤخذ

بالتلقين ، وقد رددت الجرائد هذه الأقوال، ولم أر فيما قرأته فيها بيانًا صحيحاً لما

يجب أن يكون عليه هذا التعليم في هذه المدارس، ولا في غيرها. وقد طلبت

الجمعية العمومية من الحكومة التوسع في تعليم الدين بمدارسها، فقررت نظارة

المعارف زيادة دروسه في المدارس الابتدائية، فانتقدت ذلك الجرائد التي لا يرضيها

من الحكومة شيء ولم تبين ما هو الصواب. وعندنا أنه يجب أن يكون معظم هذه

الدروس في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ثم في سيرة الخلفاء الراشدين إن

اتسع لها الوقت، وإلا كانت عبثا.

وقد وجد القبط فرصة في هذه الأيام لطلب كان قد سبق لهم فلم يجب، فطلبوه

فأجيب الآن، وهو أن تعلَّم الديانة النصرانية في هذه المدارس أيضا وقد عُدَّتْ إجابتهم

إلى هذا الطلب غريبة؛ إذ لا يعهد تعليم دينين في مدارس حكومة من حكومات

الأرض، بل لا تسمح حكومة أوربية أن يعلم في مدارسها مذهب من مذاهب الديانة

المشتركة بين أهل المملكة، غير مذهب الحكومة، أعني أن حكومة إنكلترا التي

تدين بمذهب البروتستانت، لا تسمح لرعيتها من الكاثوليك أن يعلموا مذهبهم في

مدارسها.

وجم المسلمون لهذا العمل وكثر كلامهم فيه، ولو خاضت الجرائد فيه لكان هو

الشغل الشاغل للقطر كله، ولكنها سكتت لما نعلم ويعلم سائر العقلاء العارفين بالمأزق

الذي وضعت فيه نفسها. وقد سألني كثير من المتفكرين عن رأيي في ذلك، وكان

منهم بعض المدرسين في المدارس والأزهر، فقلت ما حاصله: إن للمسألة وجهًا

دينيًّا، ووجهًا سياسيًّا، فهي من الوجه الديني نافعة للمسلمين؛ لأن التعليم الديني

في المدارس كان نائما فهي توقظه، أو كان ميتًا فهي تنفخ فيه شيئًا من روح الحياة.

وأما من الجهة السياسية فهي ضارة بهم؛ لأنها من أمارات كون الحكومة

ليست إسلامية، والذنب في هذا على أهل الشغب من المسلمين الذين أخذوا على

أنفسهم مناصبة القوة المحتلة، وإظهار العدوان لها، ومحاولة إقناع الجمهور بذلك،

وبأن كل من يعمل معهم، أو يعرفهم، فهو عدو للوطن خائن للأمة. ومن العجائب

أن هؤلاء المشاغبين قد ظلموا اسم الإسلام والمسلمين؛ إذ مزجوه بكلامهم، وأدخلوه

في سياستهم الأفينة حتى ظلموا المسمى، لا بتعليم دين آخر في مدارس الحكومة؛

فإن هذا نافع له غير ضار به كما قلنا آنفا، ولكن بما أحدثوا في نفوس الأوروبيين

من أن المسلمين يريدون الاجتماع باسم الإسلام؛ لمقاومة سلطتهم في الشرق، وهذا

غير صحيح، وإن تبجح بما يدل عليه طلاب المال والجاه، باسم الإسلام ومصر،

وقد رأينا بوادر شرور سياستهم، ونعوذ بالله من أواخرها.

ويظن بعض الناس أن تعليم النصرانية في المدارس، ربما يكون مثارًا

للتعصب الديني الجاهلي، ونظن أنه لا خوف من ذلك. ويظن بعضهم أن هذا يكون

سببًا لترك التلاميذ من القبط لحضور دروس القرآن، وحفظ ما يحفظ عادة منه،

وأن ذلك يكون نقصًا في اكتسابهم ملكة اللغة العربية، وهذا معقول ولكن أكثرهم

لا يتركون القرآن فيما أظن.

_________

ص: 123

الكاتب: محمد توفيق صدقي

تاريخ المصاحف

بقلم الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره

(1)

لما لهذا الموضوع من العلاقة الكبرى بجميع مباحثي في الإسلام التي سبق

نشرها في المنار الأغر، رأيت أن أفيض القول فيه بما يزيل ما ران على قلوب

كثير من الناس من الشبهات والإشكالات التي يقذف بها المسلمين دعاةٌ من

المسيحيين، لا يميزون بين الغث والسمين. ولإيضاح المسألة إيضاحًا تامًّا، رأيت

أن أضع مقدمة هامة تمهيدًا للبحث، ودعامة للفحص، فنقول: غير خاف على أحد

أن الأمة العربية قبل الإسلام كانت أمة أمية، يقل فيها وجود من يعرف القراءة

والكتابة معرفة جيدة، وكان جل اعتمادهم في جميع ما يروونه من أنسابهم

وأشعارهم وغيرها على حفظهم لها في صدورهم، ولم يعرف أنه كان عندهم كتاب ما

من الكتب في أي موضوع كان، وغاية ما كانوا يفهمونه من لفظ (كتاب) أنه أي

صحيفة مكتوب عليها؛ من نحو الجلود أو العظام أو الحجارة أو الجريد، بل إن

الصالح للكتابة من كل هذه الأشياء كان لديهم قليلاً؛ ولذلك لم يستغنوا بنوع واحد

منها عن باقيها، ولم يكن عندهم الورق الذي نعرفه الآن، وهذا اللفظ ما كان يطلق

عندهم إلا على ورق الشجر وعلى رقاع من الجلود رقيقة، والإطلاق الأخير

مستعار من الأول.

ولا تجد في اللغة العربية اسمًا خاصًّا بما يشبه ورقنا المعروف سوى لفظ

واحد وهو (الكاغد) وهو فارسي معرب، وقد أدخلته العرب في لغتها بعد النبي

صلى الله عليه وسلم؛ فلذا لم يرد في كلامهم قبله عليه السلام ولا في عصره، ولم يرد في أحاديثه ولم نسمع أنه كان مما يكتب عليه القرآن في حياته عليه السلام، والغالب أن هذا اللفظ دخل في اللغة العربية بعد فتح المسلمين لبلاد فارس، وأما لفظ

(القرطاس) فهو أقدم في اللغة، وورد في القرآن الشريف، وكان معناه عندهم

الصحيفة من الأشياء التي كانوا يستعملونها للكتابة، ثم أطلقوه فيما بعد على

الكاغد أيضًا حينما عرفوه، وصاروا يسمون به كل ما يكتبون عليه من الصحف،

هذا وإن ما ورد في كلامهم من لفظ (كتاب) كانوا يريدون به ما يطلق عليه في

عرفنا اليوم لفظ (خطاب) أو جواب، ومنه قوله تعالى في قصة سليمان: {اذْهَب

بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم} (النمل: 28) ، ومنه كتب النبي صلى الله عليه وسلم

إلى الملوك؛ يدعوهم إلى الإسلام، ومثل الكتاب: السفر والزبور والسجل والدفتر،

فإن معانيها كلها متقاربة، وما كانوا يفهمونها كما نفهمها الآن؛ ولذلك لما جمع القرآن

بعد النبي، اختلفت الصحابة في ماذا يسمونه به وتوقفوا؛ لأنهم لم يعهدوا مثله من

قبل، ثم استقر رأيهم أخيرًا على تسميته بالمصحف؛ تبعًا لأهل الحبشة في تسمية

مجموعاتهم بذلك، والمصحف: الكتاب، بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن عند الإطلاق؛

لأنه مأخوذ من أصحف أي جمع الصحف. وكل صحيفة كتاب عند العرب كما

ذكرنا، وكانت أيضًا كتب بعض الأمم غير العربية عبارة عن قطع من الجلود أو

القماش، يختلف عرض الواحدة منها من 12 إلى14 قيراطًا، وكانوا يلفونها على

قضيب من الخشب ملصق بأحد أطرافها كما تلف الخرائط الجغرافية الآن. وهذا هو

الطي المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب} (الأنبياء:

104) ولا تزال التوراة مطوية كذلك عند السامريين إلى اليوم.

هذا الذي تقدم، ليس خاصًّا بمشركي العرب، بل يشمل أيضًا أهل الكتاب

منهم، ولذلك لا نسمع بوجود نسخه كاملة من التوراة أو الإنجيل بينهم كالنسخ

الموجودة الآن، ولم يكن عندهم سوى أجزاء قليلة منهما مكتوبة على قطع متفرقة

من الجلود أو العظام أو الخشب أو نحوه. فلذا وصفهم القرآن الشريف بقوله:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَاب} (آل عمران: 23)، وخاطبهم بقوله:

{يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} (المائدة: 15) وقال فيهم: {وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) وقال

لهم:] قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ [1] الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ

قَرَاطِيسَ [أي صحفًا متفرقة (الأنعام: 91) ] تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ

تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ [وقال أيضًا: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ

هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا

يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) وهذا كله يدل على أن كتبهم المقدسة ما كانت تامة ولا

محصورة بين دفتين، بحيث لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وإنما كانت مبعثرة في

رقاع منثورة، وأن بعض صحفهم كان حقًّا والبعض الآخر كان باطلاً. أما ما ورد في

القرآن من نحو قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّه} (المائدة: 43) ، فمعناه أن عندهم أجزاء من التوراة فيها حكم الله في المسألة التي

تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكما يطلق لفظ القرآن ويراد به أجزاء

منه، كذلك يطلق لفظ التوراة أو الإنجيل ويراد به بعضها أو أجزاء منها، وهذه مسألة

شائعة في القرآن الشريف وفى اللغة، ومن ذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي

أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} (البقرة: 185) أي بعضه أو جزء منه.

قدمنا لك هذه المقدمة؛ لتعلم أن العرب ما كانت تعرف الكتاب ولا

الورق بمعنييهما عندنا، وأوضحنا لك فيها درجة معرفتهم القراءة والكتابة، وذكرنا

لك ما كانوا عليه يكتبون.

بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم وحالتهم كما علمت، وأوحي إليه

هذا القرآن ليبلغهم إياه، فانظر ماذا فعله هذا الرسول الأمين حتى نشر بينهم

الكتاب المبين.

علم قوة ذاكرتهم واعتمادهم عليها في نقل أخبارهم وأشعارهم، حتى إن

كثيرًا منهم كان يسمع الأبيات من الشعر أو القصيدة الطويلة تتلى عليه فيحفظها من

أول مرة، فداوم صلى الله عليه وسلم على حضهم على تلاوة القرآن، وبالغ في

حثهم على حفظه وضبطه. وفرض عليهم قراءته في الصلوات، وبقي على هذه

الحالة بضعًا وعشرين سنة حتى كثر فيهم القراء، وكانت السورة الواحدة يحفظها

الألوف من الناس، والقرآن كله يحفظه الكثيرون منهم. لم يكتف صلى الله عليه

وسلم بذلك؛ بل أمر بكتابته، واختار طائفة منهم لتكتبه له على ما تيسر له إذ ذاك

من الجلود والعظام والجريد والحجارة وغيره مما كانوا يعرفونه، وأكثر في ترغيبهم

في التعلم ومدح القراءة والكتابة بنحو قوله: يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدماء

الشهداء، ومثل ذلك في الأحاديث كثير. ورد في القرآن الشريف أيضًا قوله

تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) وقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي

عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) وذم الله تعالى أهل الكتاب

بقوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (البقرة:

78) وألزم تعالى المؤمنين بكتابة الدَّين في الآية المشهورة في آخر سورة البقرة؛

وبذلك وجدت فيهم الرغبة في تعلم القراءة والكتابة، وأخذ عدد الكاتبين بينهم يزداد

شيئًا فشيئًا، وكتب كل ما نزل من القرآن كثير من المسلمين في عهده عليه الصلاة

والسلام. ولم يمت إلا بعد أن كانت جميع السور مرتبة الآيات، مكتوبة في السطور

عند الكثير منهم، محفوظة في صدور الجماهير وبعد أن سمعوها منه مرات عديدة في

الصلوات والخطب وغيرها، وسمعها هو أيضًا منهم. والخلاصة أن النبي عليه

السلام تبع أقرب الطرق لتعميم نشر القرآن المجيد بين أفراد الأمة العربية، وعمل

أحسن ما يمكن عمله بالنسبة لمعلوماتهم وحالتهم.

سمت نفوسهم بعد ذلك للعلا بما بثه فيهم واستعدت للرقي، فلما كثر اختلاطهم

بمن جاورهم من الأمم، أخذوا ينقبون ويفتشون في أحوالهم بعيون مبصرة

وعقول مفكرة؛ كي يعثروا على جديد يقتبسونه أو إصلاح إلى بلادهم يسوقونه،

فبصروا بما لم يبصروا به من قبل. ووجدوا أن لتلك الأمم طريقة أخرى في

تدوين معلوماتهم لم تكن تخطر على بالهم. وهي أن يكتبوها على صفحات صحف من

نوع واحد، يضمون بعضها إلى بعض مرئية على حسب ترتيب عباراتها،

وربما رأوا أنواعًا أخرى من القرطاس أحسن من التي كانوا يعرفونها؛ كأوراق

البردي بمصر مثلاً.

دعاهم داعي الفزع عند قتل سبعين من القراء يوم اليمامة إلى المبادرة

والإسراع في جمع القرآن على طريقة تلك الأمم؛ خوفًا عليه من الضياع من تلك

الرقاع المختلفة، فعقدوا في الحال اجتماعًا، واستقر رأيهم إجماعًا على العمل

على تلك الطريقة. وهكذا جمع القرآن، ووجد بين العرب أول كتاب بالمعنى الذي

نفهمه نحن الآن، وتحقق وعد الرحمن:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) .

اختلف المسلمون في ترتيب سور القرآن وطرق قراءته. وتبع ذلك اختلاف

مصاحفهم؛ لأن الرسول لم يلزمهم باتباع ترتيب مخصوص في السور، ولم يجمعهم

على قراءة واحدة، سور القرآن كل منها ككتاب قائم بذاته كما قال تعالى: {رَسُولٌ

مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (البينة: 2-3) فليس ثم فائدة كبيرة

في التزام ترتيب مخصوص، ولفظ (سورة) مأخوذ من سور المدينة سميت به

القطعة المخصوصة من القرآن؛ لأنها طائفة مستقلة بذاتها. فكأنه صلى الله عليه وسلم

ترك بين المسلمين 114 كتابًا، كل منها محفوظ مكتوب مرتبة آياته، وجمعها

بالطريقة الحاضرة لم يكن معروفًا في عهده، وإنما حدث بعده بقليل، وإن كانت في

زمنه مجموعة عند بعضهم في الصحف المتنوعة التي ذكرناها.

أما اختلاف القراءات فهو نوعان: اختلاف بسبب اللهجات كالإمالة

وعدمها، واختلاف آخر في الكلمات كتغيير شكلها أو إعرابها أو بعض حروفها أو

نحو ذلك، ولكل من النوعين فوائد، ففوائد الاختلاف بسبب اللهجات هي:(1)

تسهيل نطقه وفهمه وحفظه لقبائل العرب (2) إظهار أنهم يعجزون جميعًا عن

الإتيان بمثل سورة منه كما تحداهم بذلك، ولو بلغاتهم المختلفة، وأن عجزهم عن

المعارضة ليس ناشئًا عن نزوله بلهجة واحدة لا يعرفها كثير منهم. وفوائد اختلاف

الكلمات هي: (1) تسهل حفظه على كل أحد. وبيان ذلك أن من أراد حفظ

القرآن كثيرًا ما يسبق لسانه بنطق مخصوص. فإذا علم أن هذا خطأ جاهد نفسه

لتقويم لسانه، ولكن إذا علم أن قراءته جائزة لم يحتج إلى هذا العناء مثلاً إذا أراد أن

يحفظ قوله تعالى: {كَلَاّ بَل لَاّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الفجر: 17- 18) فيجهد نفسه في العدول عن ذلك، ولكنه إذا علم أن هذه

قراءة جائزة لا يحتاج إلى التعب. وهذا الأمر يدركه جيدًا من عانى حفظ القرآن

الشريف. ومن ألزم بإصابة غرض واحد لا غير، ليس كمن أبيح له إصابة أي

غرض من بين بضعة أغراض. ولا تنس ما لتسهيل حفظ القرآن على الأمة من

الفوائد، فإنه أعظم طريقي القرآن في نقله وروايته، وخصوصًا في الأزمنة القديمة

وبين الأمم الساذجة. (2) تكثير المعاني، فبتعدد القراءات تكثر المعلومات وتزداد

الفوائد. وقد يكون بعض المعاني مبينًا للبعض الآخر. (3) تخفيف بعض

الأحكام فمثلاً قوله تعالى في آية الوضوء: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) بالكسر، يفهمنا أن الغسل المفهوم من قراءة الفتح غير واجب على

التعيين وأن المسح يكفي. فلهذه الأسباب ولغيرها كان الرسول صلى الله عليه

وسلم يقرئ المسلمين القرآن بأوجه مختلفة؛ ولذلك قال كما تواتر عنه (أنزل

القرآن على سبعة أحرف) الحديث، ولفظ السبعة تستعمله العرب أحيانًا للمبالغة في

الكثرة، فيحتمل أن يكون هذا هو المراد هنا، وأن المراد سبع لهجات العرب

الشهيرة، وهو لا ينافي أن هناك قراءات أخرى غير اللهجات؛ إذ لفظ الحديث لا

يفيد القصر.

وقع الخلاف بين المسلمين في هذه القراءات إلى أن اشتد في زمن عثمان -

رضي الله عنه؛ إذ كان بعضهم إذا تلقى قراءة وسمع من غيره ما يخالفها

نازعه في ذلك، واتهمه بالتحريف، فخشي أن يحصل بينهم من الاختلاف في

القرآن ما حصل بين أهل الكتاب. ورأى أن يجمع المسلمين على مصحف واحد،

ينسخون عنه ويرجعون إليه في ضبط مصحافهم؛ حتى لا يكون فيها اختلاف ولا

تكثر فيها هذه القراءات، وأخبر جمهورًا عظيمًا من أصحاب رسول الله بذلك،

فوافقوه على رأيه، فأمر بكتابة المصحف على طريقة قريش في الرسم، وكان

الكتَّاب فريقا من الصحابة أيضًا، فكتب عدة مصاحف بهذه الطريقة بعد التحري

والتدقيق ومراجعة ما كتب قبل ذلك، وبعد السماع من الحفاظ وإن كان الكاتبون هم

أيضًا من الحفظة، ثم أرسلت هذه المصاحف إلى الآفاق التي انتشر فيها الإسلام،

وفيها الجماهير من الصحابة ومن أخذ القرآن عنهم حفظًا وكتابة، فوافقوا جميعًا على

استعمالها والتعويل عليها، وأعدموا غيرها مما عندهم. وكان ذلك بعد وفاة النبي

بخمس عشرة سنة (أي سنة 25 هجرية) .

هذا ومن علم طباع العرب وغلظها وشدة إيمانهم وتمسكهم بدينهم، وعرف

ما كان عليه الخلفاء الراشدون من الأخلاق، وأنهم ما كانوا ليستبدوا بالأمر في شيء،

حتى لو أرادوه لما قدروا عليه؛ وعرف حال عثمان وسبب قتله من عرف ذلك كله

أيقن أنهم لو كانوا وجدوا في مصاحف عثمان عيبًا لرفضوها، ولأثيرت حروب

وأريقت دماء، وكان دم عثمان في أولها، ولارتد كثير من الناس عن الإسلام لهذا

السبب، ولَعَاب المسلمين بتحريف القرآن من خالطهم أو دخل فيهم من أهل الكتاب

وغيرهم، ولما اتفقوا جميعًا على قبول هذه المصاحف، ولوجدت مصاحف مختلفة

بينهم إلى اليوم. فعدم حصول شيء من ذلك يدل على أن هذه المصاحف هي عين ما

تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصوصًا لأن الذين تلقوها بالقبول ما

كانوا جاهلين حرفًا واحدًا من القرآن، بل كانوا حافظين له حفظًا جيدًا في الصدور من

قبل وجود هذه المصاحف وكثير منهم كانوا ممن تلقوه كله أو بعضه مباشرة عن النبي

صلى الله عليه وسلم.

هذه المصاحف العثمانية لم تكن منقوطة ولا مشكولة، ورسمها في كثير

من المواضع يخالف ما اصطلح عليه الناس فيما بعد من قواعد رسم الكلمات

العربية، ولكن جرى المسلمون على تقليد هذا الرسم في جميع بقاع الأرض؛ على

مخالفة بعضه لما وضعوه من القواعد؛ يُعد محافظة منهم على عمل الصحابة

رضوان الله عليهم، وتحاشيًا لعمل أي تصحيح أو تحرير في الكتاب، ولم يخرجوا

عنه إلا في الأزمة الأخيرة في كلمات قليلة كتبوها على مقتضى طريقتهم، على

أن أكثر مصاحفهم لا يزال إلى اليوم كالكتْبة الأولى، لكنها في الغالب منقوطة

مشكولة.

أما القراءات، فاستمرت مختلفة بين المسلمين إلى زمننا هذا، فهم وإن

كانوا أجمعوا على المصاحف العثمانية إلا أن القراءات التي كانوا يقرأون بها من

قبل - هي وكانت غير مخالفة للرسم العثماني مخالفة يعتد بها - استمروا على القراءة

بها فيما بعد، أما التي تخالفه، فأخذت تتلاشى من بينهم شيئًا فشيئًا. وعليه

فوجود المصاحف العثمانية أفاد المسلمين ثلاث فوائد:

(الأولى) إجماعهم على مصحف واحد في الكتابة.

(الثانية) تقليل الاختلاف بينهم في القراءة.

(الثالثة) اتفاقهم على ترتيب مخصوص للسور، ولعل هذا الترتيب كان

يستحسنه الرسول، وإن لم يوجبه كما سبق.

تواتر من هذه القراءات المختلفة سبع، روى كلا منها عن رسول الله صلى

الله عليه وسلم الجم الغفير من أصحابه، وأخذ عنهم في البقاع المختلفة الجماهير

من التابعين، فأخذ عنهم من بعدهم وهكذا إلى اليوم. وهذا القراءات المتواترة

يحتملها رسم المصاحف، ولا تخالفه كما قلنا مخالفة يعتد بها أو صريحة إذا

جردت من النقط والشكل كما كانت.

اشتهر بين التابعين ومن تبعهم أناس بإتقان هذه القراءات وتعليمها

لغيرهم، فنسبت إليهم، وسموا أئمتها وإن كانت متواترة بين المسلمين في جميع

البلاد، وهؤلاء هم عبد الله بن كثير بمكة، وعبد الله بن عامر بالشام،

وعاصم بالكوفة، وكذلك حمزة والكسائي ونافع بالمدينة، وأبو عمرو بن العلاء

بالبصرة وفيهم الثلاثة الأول تابعيون، بقي المصحف غير منقوط ولا مشكول

إلى أن كثرت الأعاجم واختلطت بالعرب، ففشا فيهم اللحن حتى اضطروا إلى

ضبطه، فكان أول من وضع عليه الضبط أبو الأسود الدؤلي في أوائل حكم بني

أمية، وكان ضبطه أن يضع نقطة فوق الحرف إن كان مفتوحًا، وتحته إن كان

مكسورًا، وبجانبه إن كان مضمومًا، واستمرت الحال على ذلك إلى زمن الخليل

ابن أحمد النحوي المشهور، فوضع للمصحف شكلاً آخر، كان أساسًا للشكل الحالي

الذي جرى عليه المتأخرون، وكانت وفاة الخليل هذا سنة 170 للهجرة.

أخذت طرق كتابة المصاحف تتحسن شيئًا فشيئًا إلى أن اخترعت

المطابع، فطبع أول مصحف في مدينة همبورغ بألمانيا سنة 1694 للميلاد، أي

في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، وبعد ذلك انتشرت المصاحف المطبوعة في

العالم، وحلت محل المنسوخة باليد، وقد أخذوا الآن يرسمونها بواسطة المصورات

الشمسية (الآلات الفتوغرافية) ، وهكذا حفظ الله تعالى كتابه حتى وصل إلينا بدون

تحريف ولا تبديل. وكان المصحف في جميع هذه الأطوار المختلفة التي وصفناها لك

مهيمنا عليه بآلاف الألوف من الحفظة في جميع البقاع الإسلامية، ولا تزال الحال

كذلك إلى عصرنا هذا مع ضعف المسلمين وتأخرهم. ومن عجيب عناية الله بهذا

الكتاب المجيد أن قيض لنا اليوم في مصر؛ من يحثنا من غير أهل ديننا ومن غير

جنسنا على تعميم الكتاتيب في جميع الأقاليم، من بعد أن ظننا أن زمن الحفظة

انقضى أو كاد ينقضي من بيننا، فأجيب دعاء الداعي إلى ذلك، وانتشرت الكتاتيب

في البلاد، وكثرت الحفاظ مرة أخرى، وتجدد عندنا ألوف من الأطفال يحفظونه

كله في صدورهم فضلاً عن الرجال والشيوخ.

نظرنا في هذا الكتاب المتواتر عن صاحبه نظرة، فأيقنا بسببه بدون نظر

إلى أي شيء سواه مِن صِدقه عليه السلام في دعواه، وأنه مبلغ عن الله (راجع

مقالنا الدين في نظر العقل الصحيح) ، ثم وجدنا فيه أن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا

الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فعلمنا أن كل رواية يفهم منها أن القرآن

ضاع منه شيء لابد أن تكون موضوعة مدسوسة، وإن لم يتضح هذا الأمر من

سندها؛ لأنها تنافي ذلك القول المتواتر عن النبي الصادق. على أن جميع هذه

الروايات منقولة عن الآحاد، وقد اتضح كذب كثير من رواتها وهي أيضًا معارضة

بأمثالها؛ كالذي روي عن ابن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري أنه قال:

(ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين) وناهيك بابن عباس ثقة

في هذا الموضوع، وقد أجمع المحققون من المسلمين أن القرآن لا يثبت إلا

بالتواتر، فما زعم الآحاد أنه كان قرآنًا وضاع أو نسخ لا يقبل منهم (راجع مقالتنا

في الناسخ والمنسوخ) ، فقد وجد بين الرواة من هو ضعيف الفهم أو سخيف الرأي

أو كذوب يريد تشكيك المسلمين في دينهم، أو يريد أن يؤيد دعوى أو مذهبًا له

بأمثال هذه الروايات، ولكن العقلاء لا يقبلونها لئلا يؤديهم ذلك إلى رفض المتواتر،

فيكونوا ممن يرجح الدلالة الظنية على الدلالة المقطوع بها، ومن كان كذلك

كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم

يحسنون صنعًا.

بقي عليّ نقطة واحدة في هذا الموضوع، لا بد لي من الكلام عليها قبل

الانتهاء منه؛ وهي دعوى بعض الجهلة الغافلين أن في القرآن لحنًا، ويذكرون من

ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة:

69) ، وقوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ

وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) ؛ لأن

مقتضى الظاهر نصب (الصابئين) ورفع (المقيمين الصلاة) طبقًا لقواعد النحو

المعروفة، وما مثلهم في هذه الدعوى إلا كمثل تلميذ في مكتب سمع من أستاذه بعض

نظريات يفسر بها ظواهر وجودية طبيعية، فظن أنه عرف كل شيء، وأن أستاذه لا

تخفى عليه خافية، وبعد ذلك رأى في الوجود شيئًا يخالف ما وضعه له المعلم من

القواعد، فصاح قائلا: الطبيعة أخطأت، النظام اختل، الكون فسد لأنه خالف قواعد

أستاذي. وما دري أن عقله في الحقيقة هو الذي اختل وفسد، فكذلك شأن هؤلاء

القوم. القرآن ينبوع الفصاحة والبلاغة وحجة اللغة الناهضة، وهو أساس ما وضع

من القواعد النحوية بعده، فلا يليق أن نلزمه بالجري عليها، وأن نجعلها أصلاً له

ونحكم بخطئه إذا هو خالفها، بل الواجب إذا لم ينطبق شيء منه على بعضها؛ أن

تعلم أنها معيبة أو أنها غير وافية بالغرض في بعض المسائل؛ لعدم إحكام وضعها

هذا إذا لم يمكنا التطبيق. وما من لغة إلا وفى أشهر كتبها القديمة وأبلغها ما

يخالف ما وضع من القواعد فيما بعد، حتى يضطر الواضعون إلى استثنائه أو

تطبيقه عليها بوجه ما، وكذلك فعل علماء اللغة العربية في أمثال هذه الآيات، حتى

أجروها على قواعدهم كما هو مبين في التفاسير، ولا حاجة بنا لنقل ذلك هنا لعدم

أهميته.

فإن قيل: نحن لا نقول: إن هذا الخطأ كان في أصل القرآن، وإنما هو

من نساخ المصاحف في زمن عثمان، قلنا: إن هؤلاء النساخ كانوا من الفصحاء

اللدّ، فكيف يقعون في هذا الخطأ، ويتفقون عليه في جميع المصاحف التي كتبوها

وأرسلوها إلى الأقطار الإسلامية؛ بحيث لا يوجد مصحف واحد خاليًا من الغلط في

هذه الآيات بعينها؟ وكيف تتفق الحفظة في جميع الأزمنة على قراءة هذه الألفاظ

المتنازع فيها كما كتبت في المصاحف؛ مع العلم بأن القراء إنما يتلقون قراءتهم

عمن قبلهم بقطع النظر عن مرسوم الخط وعما وضع من القواعد النحوية، وقد

توارثوا هذه القراءات بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجود

مصاحف عثمان، كما بينا ذلك فيما سبق؟ ومن علم عناية المسلمين بالتجويد وضبط

القراءات وأحكام نطق اللهجات المختلفة، وأنهم لا يأخذون ذلك من الكتب بل

بسماع من أتقنها ممن تقدمهم، علم فساد أمثال تلك الانتقادات الباردة وسقوطها.

وصفوة المقال أن القرآن وصل إلينا بدون تحريف حرف واحد منه أو تبديله

فهو مكتوب اليوم كما كتبه الصحابة أنفسهم، مقروء كما قرأه النبي صلى الله عليه

وسلم، ولا نعرف كتابًا آخر في الدنيا بلغت العناية به من أهله مبلغها بالقرآن، فإن

الكتب الأخرى التي نعرفها، لا يخلو كتاب منها من الوصمات الآتية كلها أو بعضها

(1)

أنها لم تكتب في زمن الآتي بها أو لم يعرف باليقين من هو. (2) لم تحفظ

في الصدور لا من العامة ولا من الخاصة. (3) لم تكن نسخها كثيرة، وفي

أغلب الأزمنة القديمة لم تكن في أيدي العامة. (4) رواها الآحاد، واختلفت

روايتهم. (5) فقدت وانقطع سندها؛ إما بسبب الارتداد العام من أصحابها،

أو بسبب الاضطهادات الشديدة، وقصد الأعداء إبادتها وإحراقها. (6) وجد أمثالها

معارضًا لها، وكثير منها لا يرجح عليها بزيادة في قوة إسناده. (7) وجود بعض

فقرات فيها تدل على بطلان النسبة إلى من نسب إليه الكتاب. (8) مملوءة بخلط

النساخ. (9) مملوءة بالتناقض والزيادة والنقصان والتبديل. (10) وجود

اختلافات بين نسخها قديمًا وحديثًا. (11) اختلاف الطوائف في قبول بعضها أو

رفضه، بل اختلاف الطائفة الواحدة في قبول بعض الكتب أو ترجمتها في

بعض الأزمنة ورفضها في الأخرى. (12) وجود ما يقطع بعدم صحته فيها،

والغلطات التاريخية والعلمية وغيرها، واشتمالها على ما ينافي الآداب ويفسد

الأخلاق. (13) وجود كثير من اللغو فيها وما لا فائدة فيه، وما يناقض

البراهين العقلية القطعية. (14) وجودها منذ أزمنة بعيدة وخلو أهلها إذ ذاك من

العلم والتحقيق والتمحيص. (15) مناداة مخالفيهم في الأعصر الأولى بأنهم

يحرفون كتبهم ويبدلونها ويغيرونها، كما جاهر بذلك (سكسوس) الفيلسوف الشهير.

فهذه خمسة عشر وجهًا مما تنتقد به تلك الكتب، وجميعها يتنزه عنها القرآن

الشريف. وقد ذكرت عدة من شواهدها بالإيجاز في رسالتي التي نشرت سابقًا في

المنار. ومن أراد الإيضاح فعليه بالكتب المؤلفة في هذا الشأن إسلامية كانت أو

غيرها عربية أو إفرنجية، والسلام على من اتبع الهدى.

(المنار)

ذكرتنا هذه المقالة بكتاب تاريخ القرآن والمصاحف الذي يؤلفه صاحبنا موسى

أفندي جار الله الروسي، وإننا وعدنا عند ذكره في آخر جزء من السنة الثامنة

بالعودة إلى تقريظه، وكنا نسينا الكتاب والوعد، وقد أوضح مسألة جمع القرآن،

وأطال في بيان حفظه وعدم ضياع شيء منه، وسننقل منه ذلك في الجزء الآتي.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

حاشية للكاتب - المراد بالكتاب في جميع هذه الآيات الوحي المكتوب، بقطع النظر عن كيفية كتابته ووضعه، كقوله تعالى:(ذلك الكتاب لا ريب فيه)، وقوله:(كتاب أنزل إليك) ، والقرآن حينئذ لم يكن تامًّا ولا مجموعًا، وإنما المراد ما كان يوحي في ذلك الوقت فيكتب.

ص: 129

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌كلمة إنصاف واعتراف

محمد توفيق صدقي

يرى الناقد البصير أن ما كتبته في هذه المسألة ينحصر في بحثين، بحث في

السنة القولية وبحث في السنة العملية، ثم يرى أن الرادّين عليّ لم يأتوا بشيء في

المبحث الأول يشفي عليلاً أو يروي غليلاً. وأن أستاذنا الكبير ومصلح الإسلام

العظيم السيد محمد رشيد يوافقني في هذا البحث، بل هو مرشدي الأول. وأما

البحث الثاني (السنة العملية) فالشطط الوحيد الذي ارتكبته فيه على ما أرى؛ هو

إنكاري وجوب ما فهم الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه دين واجب ولم

يكن مذكورًا في القرآن، ولكن أجمع عليه المسلمون سلفهم وخلفهم؛ عملاً واعتقادًا

بدون أدنى اختلاف بينهم. وأهم ذلك في الحقيقة مسألة ركعات الصلاة، وأرى أن

ما كتبه صاحب المنار الفاضل في هذه المسألة كافٍ في الرد عليّ، فأنا أعترف

بخطأي هذا على رؤوس الأشهاد وأستغفر الله تعالى مما قلته أو كتبته في ذلك،

وأسأله الصيانة عن الوقوع في مثل هذا الخطأ مرة أخرى. وأصرح بأن اعتقادي

الذي ظهر لي من هذا البحث بعد طول التفكر والتدبر هو أن الإسلام هو القرآن وما

أجمع عليه السلف والخلف من المسلمين عملاً واعتقادًا أنه دين واجب وبعبارة أخرى

أن أصلَي الإسلام اللذين عليهما بني هما الكتاب والسنة النبوية بمعناها عند السلف؛

أي طريقته صلى الله عليه وسلم التي جرى عليها العمل في الدين. ولا يدخل في ذلك

عندي السنن القولية غير المجمع على اتباعها، ولا ما كان ذا علاقة شديدة بالأحوال

الدنيوية كبعض الحدود ومقادير زكاة المال والفطر والأصناف التي تؤخذ منها؛

وغير ذلك مما لم يذكر في الكتاب العزيز. فأبيح بعض التصرف في أمثال هذه

المسائل إذا وجد عندنا مقتض، وبهذا التقرير تزول جميع الإشكالات التي أوردتها

في مقالتيّ السابقتين، نسأل الله تعالى الهداية في القول والعمل، والصيانة من

الشطط والزلل.

...

...

...

...

الدكتور

...

...

...

... محمد توفيق صدقي

...

...

...

الطبيب باسبتاليات سجن طره

(المنار)

نحمد الله أن ظهر صدق قولنا في الرجل وأنه معتقد، ويذعن لما يظهر له أنه

الحق.

_________

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(اللص والقاضي)

عن محمد بن مقاتل الماسقوري قاضي الري قال: كان محمد بن الحسين

يكثر الإدلاج إلى بساتينه فيصلي الصبح، ثم يعود إلى منزله إذا ارتفعت الشمس

وعلا النهار، قال محمد بن مقاتل فسألته عن ذلك، قال: بلغني في حديث عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي الصلاة في الحيطان)

وذلك أن أهل اليمن يسمون البستان الحائط، قال محمد بن الحسين: فخرجت

إلى حائط لأصلي فيه الفجر؛ رغبة في الثواب والأجر، فعارضني لص جريء

القلب، خفيف الوثب في يده خنجر كلسان الكلب، ماء المنايا تجول على فرنده،

والآجال تحول في حده، فضرب يده إلى صدري، وَمَكَّنَ الخنجر من نحري،

وقال لي بفصاحة لسان وجراءة جنان: انزع ثيابك واحفظ إهابك، ولا تكثر

كلامك، تلاق حمامك ودع عنك اللوم، وكثرة الخطاب، فلا بد من نزع الثياب.

فقلت له: يا سبحان الله، أنا شيخ من شيوخ البلد، وقاض من قضاة المسلمين،

يُسمع كلامي ولا تُرد أحكامي، ومع ذلك فإني من نقلة حديث رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - منذ أربعين سنة، أما تستحي من الله أن يراك حيث نهاك. فقال:

يا سبحان الله، أنت أيضًا أما تراني شابًّا ملء بدني أروق الناظر وأملأ الخاطر

وآوي الكهوف والغيران، وأشرب القيعان والغدران، وأسلك مخوف المسالك،

وألقي بيدي في المهالك، ومع ذلك فإني وجل من السلطان، مشرد عن الأهل

والأوطان، وأخشى أن أعثر بواحد مثلك وأتركه يمشي إلى منزل رحب، وعيش رطب، وأبقى أنا هنا أكابد التعب، وأناصب النصب، وأنشأ اللص يقول:

تُري عينيك ما لم تَرَ إياه

كلانا عالم بالترهات

قال القاضي: أراك شابًّا فاضلاً ولصًّا عاقلاً ذا وجه صبيح ولسان فصيح،

ومنظر وشارة، وبراعة وعبارة. قال اللص: هو كما تذكر، وفوق ما تنشر. قال

القاضي: فهل لك إلى خصلة تعقبك أجرًا، وتكسبك شكرًا، ولا تهتك مني سترًا؟

ومع ذلك فإني مسلم الثياب إليك، ومتوفد بعدها عليك، قال اللص: وما هذه

الخصلة؟ قال القاضي: تمضي معي إلى البستان، فأتوارى بالجدران، وأسلم إليك

الثياب، وتمضي على المسار والمحاب. قال اللص: سبحان الله! تشهد لي بالعقل

وتخاطبني بالجهل ويحك، من يؤمِّنني منك أن يكون لك في البستان غلامان جلدان

علجان، ذوا سواعد شديدة، وقلوب غير رعديدة، يشداني وثاقا، ويسلماني إلى

السلطان، فيحكم في آراءه، ويقضي علي بما شاءه، قال له القاضي: لعمري، إنه

من لم يفكر في العواقب فليس له الدهر بصاحب، وخليق بالرجل من كان السلطان له

مراصدًا، وحقيق بأعمال الحيل من كان لهذا الشأن قاصدًا، وسبيل العاقل أن لا

يغتر بعدوه؛ بل يكون منه على حذر؛ ولكن لا حذر من قدر، ولكن أحلف لك ألية

مسلم، وجهد مقسم، أني لا أوقع بك مكرًا، ولا أضمر لك غدرًا.

قال له اللص: لعمري، لقد حسّنت عبارتك ونمّقتها، وخشّنت إشارتك

وطبقتها، ونثرت خيرك على فخ ضيرك، وقد قيل في المثل السائر على ألسنة

العرب: (أنجز حر ما وعد) (أدرك الأسد قبل أن يلتقي على الفريسة لحياه ولا

يعجبك من عدو حسن محياه) ، وأنشد

لا تخدش وجه الحبيب، فإنا

قد كشفناه، قبل كشفك عنه

واطلعنا عليه والمتولي

قطع أذن العيار، أعير منه

ألم يزعم القاضي أنه كتب الحديث زمانا، ولقي فيه كهولاً وشبانا، حتى فاز

ببكره وعونه، وحاز منه معنى متونه وعيونه، قال القاضي: أجل. قال اللص:

فأي شيء كتبت في هذا المثل الذي ضربت لك فيه المثل، وأعملت الحيل؟ قال

القاضي: ما يحضرني في هذا المقام الحرج حديث أسنده، ولا خبر أورده، فقد

قطعت هيبتك كلامي، وصدعت قبضتك عظامي، فلساني كليل، وجناني عليل

وخاطري نافر، ولبي طائر، قال اللص: فليسكن لبك، وليطمئن قلبك، اسمع ما

أقول، وتكون بثيابك حتى لا تذهب ثيابك إلا بالفوائد. قال القاضي: هات. قال

اللص: حدثني أبي عن جدي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال، قال:

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين المكره لا يلزمه فإن حلف وحنث فلا شيء

عليه) وأنت إن حلفت حلفت مكرهًا، وإن حنثت فلا شيء عليك، انزع ثيابك.

قال القاضي: يا هذا قد أعيتني مضاة جنانك، وذرابة لسانك، وأخذك عَلَيَّ الحجج

من كل وجه وجانب، أتيت بألفاظ كأنها لسع العقارب، أقم ههنا، حتى أمشي إلى

البستان، وأتوارى بالجدران، وأنزع ثيابي هذه، وأدفعها إلى صبي غير بالغ، تنتفع

بها أنت ولا أتهتك أنا، ولا تجري على الصبي حكومة؛ لصغر سنه وضعف متنه،

قال اللص: يا إنسان، قد أطلت المناظرة، وأكثرت المحاورة، ونحن على طريق

ذي غرر، ومكان صعب وعر، وهذه المراوغة لا تنتج لك نفعا، وأنت لا تستطيع

لما أرومه منك دفعا، ومع هذا فتزعم أنك من أهل العلم والرواية، والفهم والدراية،

ثم تبتدع وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشريعة

شريعتي، والسنة سنتي، فمن ابتدع في شريعتي وسنتي فعليه لعنة الله) قال

القاضي: يا رجل، وهذا من البدع. قال اللص: اللصوصية بنيَّة بدعة، انزع ثيابك، فقد أوسعت من ساعة مجالك، ولم أشدد عقالك، حياء من حسن

عبارتك، وفقه بلاغتك، وتقلبك في المناظرة، وصبرك تحت المخاطرة. فنزع

القاضي ثيابه ودفعها إليه، وأبقى السراويل. فقال اللص: انزع السراويل؛

كي تتم الخلعة. قال القاضي: يا هذا دع عنك هذا الاغتنام، وامض بسلام، ففيما

أخذت كفاية، وخل السراويل فإنها لي ستر ووقاية، لا سيما وهذه صلاة الفجر قد

أزف حضورها وأخاف تفوتني فأصليها في غير وقتها، وقد قصدت أن أفوز بها

في مكان يحبط وزري، ويضاعف أجري، ومتى منعتني من ذلك، كنت كما

قال الشاعر:

إن الغراب وكان يمشي مشية

فيما مضى من سالف الأحوال

فأضل مشيته وأخطأ مشيها

فلذاك كنوه أبا المرقال

قال اللص: القاضي -أيده الله تعالى- يرجع إلى خلعة غير هذه، أحسن منها

منظرا، وأجود خطرا، وأنا لا أملك سواها، ومتى لم تكن السراويل في جملتها،

ذهب حسنها، وقل ثمنها لا سيما والتكة مليحة وسيمة، ولها مقدار وقيمة، فدع

ضرب الأمثال واقنع عن ترداد المقال، ما دامت الحاجة ماسة إلى السروال. ثم

أنشد:

دع عنك ضربك سائر الأمثال

واسمع، إذا ما شئت فصل مقالي

لا تطلبن مني الخلاص، فإنني

أُفتي متى ما جئتني بسؤال

ولأنت إن أبصرتني ذا

قول، وعلم كامل وفعال

جارت عليه يد الليالي فإنني

أبغي المعاش بصارم ونصال

فالموت في ضنك المواقف دون

أن ألقى الرجال بذلة التسآل

والعلم ليس برافع أربابه

أولا، فقد مسه على البقال

ثم قال: ألم يقل القاضي أنه يتفقه في الدين، ويتصرف في فتاوى المسلمين؟

قال القاضي أجل. قال اللص: فمن صاحبك من أئمة الفقهاء؟ قال القاضي:

صاحبي محمد بن إدريس الشافعي، قال اللص: أسمع هذا وتكون بالسراويل،

حتى لا تذهب عنك السراويل إلا بالفوائد؟ قال القاضي: أجل. يا لها من نادرة، ما

أغربها، وحكاية ما أعجبها، قال: حدثني أبي عن جدي عن محمد بن إدريس

يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة العريان جائزة، ولا

إعادة عليه) تأول في ذلك غرقى البحر، إذا سلموا إلى الساحل، فنزع القاضي

السراويل، وقال خذها وأنت أشبه بالقضاء مني، وأنا أشبه باللصوصية منك، يا

من درس على أخذ ثيابي موطأ مالك وكتاب المزني. ومدَّ يده؛ ليدفعه إليه فرأى

الخاتم في إصبعه اليمنى فقال: انزع الخاتم. فقال: إن هذا اليوم ما رأيت أنحس

منه صباحا، ولا أقل نجاحا، ويحك ما أشرهك وأرغبك، وأشد طلبك وكلبك،

دع هذا الخاتم، فإنه عارية معي، وأنا خرجت ونسيته في إصبعي، فلا تلزمني

غرامته.

قال اللص: العارية غير مضمونة ما لم يقع فيها شرط عندي، ومع ذلك أفلم

يزعم القاضي أنه شافعي؟ قال: بلى. قال اللص: فلم تختمت في اليمنى.

قال القاضي: فأنا أعتقد ولاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله

وجهه - وتفضيله؛ على كل المسلمين من غير طعن على السلف الراشدين،

وهذا في الأصول اعتقادي، وعلى مذهب الشافعي في الفروع اعتمادي، فأخذ اللص

في رد مذهب الرفض، وجرت بينهما في ذلك مناظرة طويلة، رويناها بهذا

الإسناد، انقطع فيها القاضي، وقال بعد أن نزع الخاتم ليسلمه إليه: خذ يا فقيه، يا

متكلم، يا أصولي، يا شاعر، يا لص. اهـ (من طبقات الشافعية الكبرى) .

***

(شرح عقيدة السفاريني)

للشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي (رحمه الله تعالى) عقيدة

منظومة اسمها: (الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية) بلغني أن الشيخ حسن

الطويل (عليه الرحمة)، قال لما اطلع عليها ما معناه: إن هذه أول عقيدة

إسلامية اطلعت عليها. ولناظمها شرح مطول عليها سماه (لوائح الأنوار البهية

وسواطع الأسرار الأثرية) .

جمع فيه المؤلف أقوال السلف والخلف، ومذاهب الفرق في مسائل الاعتقاد،

وبين رجحان مذهب السلف على غيره، مؤيدًا ذلك بالدلائل النقلية، وكذا العقلية،

فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جل تحقيقاته فيه من كلام الإمامين الجليلين:

شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم، عليهما الرحمة والرضوان، فجاء

كتابًا حافل الري، جامعًا لما لم يجمعه غيره من المأثور والمروي، كثير الفوائد، جم

الأوابد والشوارد، لا يكاد يستغني عنه طالب السعة والتحقيق في العقائد الإسلامية،

أو يحيط بما في كتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية. نعم إنه ينكر عليه كثرة الروايات

والأقوال المأثورة في أشراط الساعة، ونحوها من المسائل التي ليست من العقائد

الدينية، ومنها ما لا يصح له سند، ولكن من يعلم أنه لا يجب عليه أن يعتقد ما لا

يقوم عليه البرهان، لا يضره إيراد ذلك، وقد ينفعه الاطلاع على تلك الأقوال،

فيستخرج من مجموعها ما يحق الحق ويبطل الباطل.

وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه بشيء من كتب العقائد التي

يتداولها طلاب العلم، وكلها من وضع المتكلمين الذين جروا على طريقة فلاسفة

اليونان، ليس فيها بيان لمذهب السلف يجلي حقيقته، ويوضح طريقته، بل فيها ما

يشعر بأن مذهب السلف هو التمسك بالظواهر من غير فهم ثاقب، ولا علم راسخ،

وأن الخلف أعلم منهم، وهيهات هيهات لذلك، بل السلف أفهم، وأعلم، وأحكم، وما

خالف المتكلمون فيه السلف فهو جهل مبين، أو نزغات شياطين، وبمثل هذا الكتاب

تعرف ذلك.

رغب في نشر هذا الكتاب بعض محبي العلم والدين؛ من العرب الكرام

المخلصين، فأرسل إلينا نسخة خطية منه، فطبعنا له عنها عددًا معينًا، جعله وقفًا

لله - تعالى - يوزع على طلاب العلم السلفيين في بلاد مختلفة، وطبعنا منه على

نفقتنا طائفة من النسخ زيادة عن النسخ الموقوفة، بإذن الطابع الواقف، وهي تباع

بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بثمن قليل بالنسبة حجم الكتاب، وحسن ورقه

وطبعه.

جعل الكتاب جزأين، صفحات الأول 388 والثاني 448، ووضعنا له فهرسًا

مرتبًا على حروف المعجم؛ لتسهيل مراجعة فوائده الكثيرة المطوية في مباحثه

المختلفة، وجدولاً للخطأ والصواب، فدخل ذلك مع ترجمة المؤلف في 38 صفحة

فمجموع صفحات الكتاب 864 ورقة كورق المنار، وثمن النسخة منه غير مجلدة

عشرون قرشًا صحيحًا، ما عدا أجرة البريد.

***

(الوجيز في القانون الجنائي)

عمر بك لطفي من أشهر علماء القوانين في هذه الديار، أتقنها علمًا وتعليمًا

وعملاً، فقد كان مدرسًا بمدرسة الحقوق، ووكيلاً لها زمنًا طويلا، والآن تحسبه

مدرس شرف فيها، وهو الآن يشتغل بالمحاماة وبتدريس القانون الجنائي بمدرسة

البوليس.

وقد ألف في هذه الأيام كتابًا في القانون الجنائي سماه (الوجيز) ، فحسبنا في

تقريظه أن نقول: إنه من تأليفه، وفي الدلالة على وجه الحاجة إليه إلحاح طلاب

المدرستين الحقوق والبوليس عليه، بطلبه وإيداعه ما ألقاه من الدروس عليه.

طبع الجزء الأول من الكتاب على ورق جيد، فكان 378 صفحة، وثمن

النسخة منه ثلاثون قرشا، وهو يباع في إدارة مجلة المجلات العربية وفي المكاتب

الشهيرة.

***

(لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر)

ألَّف ميخائيل أفندي بن أنطون الطقال الحلبي كتابًا سماه (لطائف السمر في

سكان الزهرة والقمر، أو الغاية في البداءة والنهاية) وهو كتاب خيالي الوضع،

أدبي المغزى، من أحسن ما كتب أهل هذا العصر عبارة وموضوعا، تقرأ

الصفحات منه، ولا تكاد تعثر بشيء من الأغلاط التي اعتادها كتابنا عامة، وأهل

الصحف منهم خاصة، ولا تقف عند معنى ينكره الأدب الصحيح، أو يمجه الذوق

السليم، وفي بعض فصوله كثير من مفردات اللغة التي يحتاج إليها الكتَّاب، وهم في

غفلة عنها؛ لقلة بحثهم واطلاعهم في الغالب. وقد طبعه وجعل ثمنه ريالا، وإننا

نورد لك فصلاً منه في تربية الطفل قال:

الفصل الأول من الباب الرابع

في الطلق والولادة وتربية الطفولة

قال والدي: كل امرأة عندنا (أي في الزهرة) خصوف [1] لا تجر [2] ولدها،

وهي تأكل، وتشرب، وتضحك، ولا تشكو، ولا تئن، ولا تتوجع شكوى وأنين

وتوجع بني آدم، بل تضع كأنها تمغص مغصًا ليس بشديد، لا تحتاج إلى قابلة؛

لأنها لا يهددها خطر، إننا لا نُظائر [3] لأننا نقول من رضع من غير أمه فقد تخلق

بأخلاقها، إن المرأة بعد أن تحجم للمولود: أي بعد أن ترضعه أول رضعة،

ترضعه في كل ساعة حترتين (والحترة الرضعة الواحدة) ، حتى إذا بلغ الشهر

السادس من عمره، أرضعته في ثلاث ساعات مرة، فإذا زادت منعت، وعدت

جاهلة بين نسائنا، وهذا يحدث قليلاً أو لا يحدث، لا تعجوه [4] ولا تجدعه [5] . إن

المرضع عندنا لا تأفل [6] والرضيع لا يحصأ [7] .

لا تضع الأم ولدها في سرير يهز، فقد عرفنا أنه تنجم عنه أخطار عظمية،

وربما كان سبب هلاك الطفل منها، إن الاهتزاز الشديد يؤثر في مجموع عصبه،

ويحدث له القيء، وغير ذلك من الأمراض، هذا إذا كان معافى. فإذا كان عليلاً

متألمًا من حالة عصبية دماغية، أو معدية، أو غيرها، ازداد تألمًا بالهز، وتمكنت

منه العلل.

وقد علم أن كثيرين أصيبوا منه بالشوص والحول، هذا إذا لم يسقط الطفل من

سريره؛ لأن في سقوطه الوبال عليه، ومن المعلوم أن الطفل إذا هزز سريره؛ لا

ينام في أول الأمر إلا بعد أن يأخذه دوار، وربما كان التهزيز يمدد منه الرقبة، ويلوي

الرأس، وفي كلا الأمرين خطر عظيم عليه.

تلفه والدته بلفائف من المرن، لا تقمطه قمطًا شديدا؛ لئلا يلوي الساقين

والقدمين والساعدين واليدين؛ ولئلا يضغط. تضعه في سرير ثابت، وتضع عليه

لحافًا من المرن، يمنعه من التحرك القوي.

لا تتركه وحده، ولا تقدم إليه ما يمتصه؛ ليلتهي به عن الرضاع، يخرج من

غرفته في كل يوم ثلاث مرات، إلى محل طيب الهواء نقيه، وبعد خروجه تفتح

النوافذ؛ ليبدل هواءها، غير أنه يحترز عليه من البرد والحر، لا تسلمه أمه إلى

أحد، ولا تتخذ له مربية؛ فإن الوالدة أحن على الولد من غيرها، وأشد انتباهًا إليه،

وأحرص عليه. لا تقبله، ولا يقبله أحد؛ لئلا تنتقل إليه حيوانات فم المقبل

الضارة. لا يضحك تضحيكًا شديدا؛ لئلا تغثى نفسه [8] أو يغمى عليه، بل يترك

ليضحك حينما يشتهى ويريد ضحكًا طبيعيًّا.

لا تلاعبه أمه بخفضه ورفعه، ولا تقبض يده بيدها، وترفعه أو تجره. لا

تضغطه بضمه إلى صدرها، ولا تجعل ملاعبته إلا بقدر جسمه، لا بقدر جسمها.

إذا لاعبته وانزعج أو كاد، تركته حالا؛ ليستريح ويرتاح [9] .

لا تطعمه إلا بعد أن يسن [10] وتقوى أضراسه وأنيابه معًا؛ فإن الأسنان وحدها

لا تستطيع طحن الطعام وتنعيمه، فإن أطعمته أصيب بعلة الأسنان المعروفة

عندكم تقريبا. وبعد الأسنان ونبات الأضراس وخروج الأنياب، تؤكله والدته أكلاً

خفيفًا لطيفا، لا يقاسي في مضغه تعبًا لئلا يبلعه. لا تطعمه إلا قليلاً حينما ترى

منه اشتهاء وإقبالاً على المطعم، فإذا آنست منه قلة في الاشتهاء، رفعت الطعام

وأخفته.

إذا أبصر شيئًا ضارًّا ولو قليلاً ورغب فيه منعته، واجتهدت في تحويل فكره

عنه، ونقله إلى غيره فينتقل. لا يسمع أصواتًا عالية مرتفعة على غرة، مزعجة

كانت أو غير مزعجة، ولا تعرض عليه المتحركات السريعة الانتقال والتغير؛ لئلا

تزيد في تحريك عينيه، ولا يحد أحد نظره إليه، ولا ينظره وهو قطوب عبوس؛

ليسكته ويسكنه بالإرهاب، بل يُسكن بالكلام بالرقيق، ويلهى بالمناغاة [11] إذا كان

الصوت رخيما لا نبرة فيه، فإنه يأنس بهما، ويطيب خاطره. فإذا ربي هذه

التربية، فلا خوف عليه أن يقصع [12] بل ينمو قويًّا: صحيح الجسم، والعقل. إذا

أخذ في الكلام، قوَّمت أمه لسانه. إننا لا نعرف الرتة [13] واللثغة [14] واللكنة [15]

والفأفأة [16] والتمتمة [17] والرأرأة [18] واللجلجة [19] والخنخنة [20] والمقمقة [21]

والهتهتة والهثهثة [22] والتعتعة والثعثعة [23] واللفف [24] والليغ [25] ولا نعرف

التبع [26] .

إن الوالدة مؤاخذة بعيِّ ولدها، وحصره وفهاهته، فتنبهه على كل كلمة غير

فصيحة.

كلامنا فصيح بليغ، فكلنا لسن [27] في بيان وتبيان [28] اهـ.

***

(القواعد المنطقية)

كتاب مطول في علم المنطق، ألفه بالفرنسية (الأب تونجورجي اليسوعي) ،

ونقله إلى العربية (الخوري جرجس فرج صفير الماروني) متصرفًا بعض التصرف

في الترجمة، كما قال في مقدمته. وقد تفضل بإهداء الكتاب إلينا مع رقيم،

يرغِّب إلينا فيه بمطالعته وانتقاده، فمرت علينا شهور نرقب فيها فرص الفراغ

لذلك، فلم يسنح منها شيء يكفي لمطالعته كله أو بعضه مطالعة نقد، فرأينا

والشواغل عن مطالعة مثله تزداد، أن نجيل النظر فيه جولة عجلى، ونقرأ من بعض

فصوله جملاً، تسمح لنا بأن نحكم عليه حكمًا إجماليًّا، فرأينا أن الكتاب من أحسن ما

ألف وأفيده، وفيه من المباحث والفوائد ما لا يوجد في الكتب العربية المتداولة بين

المشتغلين بهذا العلم، وهو يخالفها في كثير من الاصطلاحات، والتعريفات،

والتقسيم، والترتيب، وفي هذه المخالفة من الفائدة زلزال الجمود على الكتب

المألوفة، وتحريك الذهن في مسائل العلم، وتعويده الجولان في المعاني، وإطماعه

في الإتيان بغير ما تلقاه من الكتب أو الأستاذين.

ورأيت في الترجمة ضعفًا، يحول دون الفهم في بعض المواضع، وغلطًا

واضحًا في العبارة كقوله في صـ 144 (لا يصح قولك، إما أنت جالس أو ماشي

لعدم المساواة في التقسيم؛ إذ قد يكون لا جالس ولا ماشي) . وقوله في ص 31

(ففي الشق الأول فإما أنه يعم الماهية)، ومع هذا نقول: إن الكتاب يفيد كل من

يطالعه من أبناء العربية في هذا العلم، ولعل المترجم الفاضل، يُعنى عند طبعه

ثانية بتصحيح عبارته؛ لتكون الفائدة منه تامة. هذا وإن ثمن النسخة من الكتاب

3 فرنكات، وهو يطلب من المطبعة المصرية بالإسكندرية.

***

(التقرير السنوي لمشيخة علماء الإسكندرية)

أرسلت إلينا هذه المشيخة تقريرها عن سنة 1323 الدراسية، ولما نتمكن من

مطالعته، ولكننا أجلنا الطرف في بعض صفحاته، فإذا به قد وقف عند قوله: (وإني

لأرجو أن أقدم للعالم الإسلامي بعد أعوام قليلة من خيرة الشبان رجالا، تفتخر بهم

الأمة المصرية، وتقوم بها الحجة على الذين يزعمون أن التعليم الديني لا ينهض

بالأمم، ولا يصلح أن يشاد على دعائمه عرش المدنية، ولا أن يضم تحت راياته

مفاخر التقدم والارتقاء) اهـ فذكرني هذا القول بأمر كنت عنه ذاهلا، ذكرني

بأن من علماء مكة وأشرافها عالمًا يقيم الآن في بعض جزائر جاوة، أرسل ولدًا له؛

ليطلب العلم في الإسكندرية، لما قرأه في الصحف المصرية ومنها المنار من

تفضيل الطلب فيها على الطلب في الأزهر بالمراقبة والنظام والتدريج، فلم يقبله

الشيخ محمد شاكر واعتذر عن ذلك بعدم حفظه للقرآن، وهو عذر لا ينطبق على

قانون الأزهر؛ الذي تتبعه مشيخة الإسكندرية كسائر معاهد التعليم الديني في القطر،

وكل ما تفضل به مشيخة الإسكندرية الأزهر هو أنها تنفذ من هذا القانون ما لا

ينفذ فيه، فهذا الشرط الذي زاده الشيخ محمد شاكر على القانون، يقفل باب مشيخته

في وجوه (العالم الإسلامي) ؛ لأن الذين يحفظون جميع القرآن في أكثر أقطار هذا

العالم هم من العميان، أومن العلماء الذين يحفظونه في الكبر، ولا يرجى أن يرحل

أحد منهم إلى الإسكندرية؛ لطلب العلم. ولما كان الأزهر معهدًا للعالم الإسلامي،

وعلم واضع قانونه أن أكثر أقطار هذا العالم، لا يحفظون القرآن في الصغر، لم

يشترط في قبولهم بالأزهر أن يكونوا من الحافظين، بل لم يشترط في المبصر من

أهل القطر المصري، أن يكون حافظًا للقرآن كله.

فإن الشيخ شاكر يحب أن يمتاز طلاب العلم عنده بحفظ القرآن كله، فله أن

يكلفهم ذلك في مدة الطلب، وليس له أن يمنعهم من طلب علم الدين المفروض عليهم

لأنهم قصروا من قبل في حفظ القرآن الذي لم يفرض على الأعيان.

فهذا المنع من العلم لا يجيزه الشرع ولا القانون فيما نعلم، ولا ينطبق على

إرادة خدمة العالم الإسلامي بهذا التعليم الديني، إلا إذا أريد بالعالم الإسلامي مصر،

وكان هذا الإصلاح الخاص للذين أحدثوا في الإسلام نفسه وطنية، لم ينزل الله بها

من سلطان مستحسنًا عند مثل الشيخ شاكر، وقد يرجح هذا قوله في الرجال الذين

يريد أن يخرجهم (للعالم الإسلامي) ينهضون به، ويشيدون عرش المدنية على

دعائمه (تفتخر بهم الأمة المصرية) ولكن هذه الوطنية المموهة بكلمات الدين

والإسلام، يتبرأ منها دين الإسلام، وتنكرها قوانين المدنية عند جميع الأنام،

فأما الوطنية المعروفة عند الأمم التي قامت بالوطنية فهي عبارة عن اتحاد

المقيمين في وطن واحد، المختلفين في الملل والنحل، على ما يرقي شأنه،

ويزيد في عمرانه، وهذه الوطنية لا تعارض الإسلام الذي جعل المؤمنين إخوة،

يتعاونون على البر والتقوى، ويتعاطفون، ويتراحمون كأنهم أعضاء جسد

واحد، إن اختلفت أوطانهم وتناءت بلدانهم.

لا أطيل الكلام الآن في هذه المسألة، ولكنني أتمنى لو يقبل الشيخ شاكر هذا

الطالب المكي وغيره ممن عساه يقصد إلى الطلب في الإسكندرية، وأن لا يمزج

دعوته الدينية، بتلك النزعة المنكرة في الوطنية، وإلا فليجعل الدعوى على قدر

الدعوة، إن كانت مما لا بد منه، وإنني لأشد تمنيًا لو أعرف عذرًا معقولاً، لعدم

قبول غير المصريين أو الحافظين طلابًا للعلم الديني في مشيخة الإسكندرية.

وسنعود إلى قراءة التقرير وكتابة ما يبدو لنا في أمره أنه نافع إن شاء الله تعالى.

***

(البغاء أو خطر العهارة في القطر المصري)

ألف الدكتور بورتقاليس بك كتابًا باللغة الفرنسية، الذي سماه بهذا الاسم،

ونقله للغة العربية داود أفندي بركات رئيس تحرير جريدة الأهرام. المؤلف طبيب

أخصى في معالجة الأمراض الجلدية والزهري، وما يتعلق بذلك، والكتاب صحي

أدبي، يفهمه كل قارئ، وإننا نرى خير تقريظ له أن ننشر نبذًا منه، لعل

الذين تركوا الدين، فوقعوا في الأدواء التي تنشأ من الزنا، يعرفون الأخطار التي

تساورهم في آحادهم وفي ذريتهم، فيقل تهافتهم على هذه الفواحش المحرمة في كل

دين، على أنني أعتقد بأنه لا علاج لهذه المصائب العمرانية، والاجتماعية، إلا

التربية الدينية، وأن من يزعم أن الاقتناع بضرر المعاصي وحده، يعمل ما يعمل

الدين في الردع عنها، فهو من الجاهلين كما بينا ذلك بعض البيان في مقالة

(التعليم الديني) من هذا الجزء. قال المؤلف:

16

سبب المواصلة مع الغير مراقبات

إن العدوى تنتقل إلى الرجال الذين يخالطون النساء غير المراقبات انتقالاً

رائعاً، لا يماثله انتقاله إليهم من النساء الموضوعات تحت المراقبة.

فالرجال على وجه عام، والمتزوجون منهم على نوع خاص، يخالطون

العاهرات غير الموضوعات تحت المراقبة؛ أكثر من مخالطتهم العاهرات اللائى

يفحصهن الأطباء؛ وسبب ذلك أن الفريق الأول من العاهرات، يظهر بغير مظهره

أي بمظهر النساء النزيهات، إذ يقلن أن لهن أزواجًا وأولادا، وأنهن إنما يسلمن

أنفسهن، بعامل الحب والغرام والوجد والهيام، وأنهن لم يرتكبن هذا الخطأ إلا في

هذه المرة، ثم يتممن خدع الرجال بأنهن يتوسلن إليهم، بأن لا يبوحوا بسرهن، إلى

آخر ما هنالك من ضروب الخداع والنفاق.

فيصدِّق الرجال المخدوعون هذا الكلام، ويعتقدون صحة ما تقوله تلك

العاهرات، بل هم يفتخرون بالاختلاط بهن كأن الواحد منهم قد اكتشف كنزًا، وملك

أمرًا عزيزًا.

وبما أن تلك النساء الخادعات، لا يعتنين بأنفسهن كسواهن ممن يحترفن

حرفة البغاء علنا، فهن بحكم الطبيعة أقرب إلى العدوى، وأقدر على نقلها إلى كل

من يقترب منهن وهم يظنون أنهم عشاق، وأنهم محبوبون معشوقون. وإذا

أصيب المخدوع، وجاء يؤنب المرأة التي نقلت إليه العدوى، جاءته بألف حيلة

وخدعة، وقلبت دماغه، وكذبت حسه، وأظهرت طهارتها ونقاوتها فيصدق، فما

أضعف الرجل أمام المرأة، وما أصغر نفسه، وأقل إدراكه، وأخف عقله! !

18

مراقبة العاهرات

لا توجد في القاهرة مراقبة البوليس، ولا مراقبة الصحة، فالعاهرة حرة،

تلطخ بالأمراض من أصابته، وتنقضُّ على الناس انقضاض الوحش المفترس،

ومن لم يصدق، فليمر عند منتصف الليل بشارع كامل ولا سيما تحت القناطر.

مع أن هذه العاهرات، لو أنهن ارتكبن في بلادهن ربع ما يرتكبنه هنا من

مخالفة البوليس، ومخالفة قانون الصحة، لقبض عليهن سريعًا، فلا تسمع بهن

شفاعة، ولا يقبل رجاء، ولا تنفع رشوة، وبفضل ذلك كله، لا تجرؤ واحدة على

مخالفة القانون، ومن هربت من الكشف الطبي، وضعت تحت المراقبة الشديدة

على نوع أخص، فمع كل عاهر ورقة حمراء، تقضي عليها بأن تأتي إلى محل

الكشف في كل أسبوع مرة، وهي فوق ذلك موضوعة تحت المراقبة الشديدة، فهذه

التحوطات التي أسفرت عن نتائج حسنة جدًّا في أوربا لا وجود لها في القاهرة.

أما عاصية القانون: فهي العاهرة التي ترتكب خلسة واستراقا، ويعد من هذا

النوع النساء المتزوجات اللائى لهن أزواج وأولاد؛ اللائى يعشن في أحضان

عائلاتهن، والخياطات الفاسقات، والفاعلات، والمغنيات، والراقصات،

والخادمات، وكل من كان على شاكلتهن، وارتضى الفجور والاستسلام للزنا

والفسق، وبيع العرض بالمال.

فالحكومة لا تعرف هؤلاء، ولا تراقبهن، ولا تحمل منهن ورقة الكشف

الطبي؛ مع أنهن لا يفرقهن عن العاهرات والبغيات فارق؛ غير أن العاهرات لا

يسكنًّ منزل العائلة، ولا يكتمن أمرهن عن الجمهور، وعن الحكومة، ومصالح

الصحة، ويحملن الورقة الطبية التي تدل على احترافهن حرفة البغاء. أما تلك

العاصيات فإن لهن منازل عائلية يبتن فيها، ولا يحملن ورقة الصحة. أما من حيث

احتراف البغاء، والسعي وراء الرجال، واستثارة أميالهم، والتحكك بهم، فهن

والعاهرات سواء، وإذا قبض البوليس على واحدة منهن وهي متلبسة بالجناية،

أرسلها إلى الطبيب؛ ليكشف عليها.

ولقد قلت وأردد وأعيد الآن تكرارا: إن النسوة غير الخاضعات، هن أشد

خطرًا على الإنسانية من سواهن، ولا أخطئ إذا قلت: إن جميعهن مصابات

بالأدواء الزهرية على اختلاف أنواعها، وثلاثة أرباعهن في حالة من الإصابة شديدة

الخطر على الرجال، وشديدة العدوى لمن يختلط بهن.

وهذه المرتبة من النساء هي أيضا على نوعين: نوع عال، ونوع واطئ.

وقد لقبت مدام هنري تورو المرتبة الواطئة، بمرتبة الفعلة في هيأة الحب، وهي

محتقرة مهانة، مرذولة كثيرة الخطر؛ لأنها تسلم نفسها لمن عثر عليها دون تردد،

ولا إتمام نظر.

أما المرتبة العالية: فهي مع أنها محتقرة مرذولة كالمرتبة الأولى، إلا أنها أقل

خطرا؛ لأنها لا تسلم نفسها إلى من عثر عليها، أو حاول التوصل إليها، ولا

تطوف الشوارع للبحث عن صيد يقع في شراكها، ولكنها تتربع العربات،

وتعيش عيشة الأغنياء، وتشهد التمثيل في التياترات، ولا يزيد عشاقها على اثنين

أو ثلاثة؛ فلهذا لا تستطيع الواحدة منهن أن تبذر العدوى بين الجمهور، إذا كانت

مصابة بالأمراض، بل إن عدواها تقتصر أو تنحصر في محبيها، ومحبو مثل هذه

العاهرات هم الأغنياء وأصحاب الثروة، ولقد درج في القاهرة، أن يكون لكل شاب

غني حظية أو حبيبة، حتى يكون ذلك الشاب معدودًا في مصاف المتمدنين،

ويؤمره اللطفاء والظرفاء من الراقين والسامين.

والواحدة منهن تقول معجبة بنفسها أنها لا تسمح لأحد بأن يدنو منها

ويجامعها، إذا لم يدفع لها 40 أو 50 جنيها، فهن يحسبن لأنفسهن فضيلة غلو

السعر، وارتفاع الأجرة، لا حفظ العرض والعفة، فمثل هذا الطلب لا يجيبه إلا

العدد القليل من الجمهور، خلافًا لتلك البغيات بنات السوق والشارع، فإن الواحدة

منهن تسلم لأي كان عرضها، بما يكفي لدفع ثمن الخبر في يومها، أو ثمن الشرب

في ليلتها.

فإذا هن تمكن من الخلاص من يد البوليس دهرًا طويلا، فإن أكثرهن يقع في

قبضته؛ لأن الفقر يقضي عليهن بأن يطفن الشوارع ويتحرشن بهذا وذاك،

ويحرضن على الفسق والفجور كل مار، وكل سائر، فإذا نجون من يد البوليس مرة،

فإنهن لا ينجون من يده كل مرة.

عدد المصابين في سنة واحدة

من أنعم النظر قليلا في حال تلك العاهرات، وكثرة عددهن، وكثرة

المصابات منهن بالأمراض، وعرف أن الواحدة منهن، تسلم نفسها في كل ليلة لعدة

رجال، قد يكونون سليمين من الأمراض والأدواء، عرف أن عدد الرجال الذين

يصابون بأمراض أعضاء التناسل عظيم هائل، فإذا لم يصابوا يكون الفضل في ذلك

للمراقبة الطبية، وللتحوطات الصحية التي تنتشل الإنسانية من هوة بعيدة القرار،

وشر مستطير، لا يعرف أحد لولا وقاية الطب، ماذا يكون من ورائه على

الإنسانية كلها؟

فلهذا أرى أنه لا بد من مراقبة العاهرات في القاهرة، ولا أسلم قط بأن هذه

المراقبة غير ضرورية، بل لا يمكنني أن أقتنع وأسلم بأن الخطر ليس شديدًا على

الإنسانية، وليس مهددًا البلاد كلها.

وإذا ما خطر لي التأمل بإهمال المراقبة هنا جزعت؛ لعلمي ما وراء ذلك من

الخطر، والمصاب الجليل، والضربة الشديدة.

يؤخذ من إحصاء مدينة باريز، على أن متوسط عدد النساء اللائي يقبض عليهن

وهن مصابات بالأدواء هو 11 امرأة في اليوم، من غير الخاضعات للمراقبة الطبية،

فإذا حسبت هذا على دورة العام كان عدد المصابات 3600 مصابة أو 4000

مصابة، قد أخرجتهن حكومة باريز من وسط الجمهور، وحجرت عليهن وعزلتهن

إلى أن يتم شفاؤهن، فإذا مكثن على معاطاة حرفتهن، ونقلن العدوى إلى

شخص واحد في كل يوم، كان عدد الذين يصابون منهم في كل عام مليونا و640

ألف رجل.

فلماذا لا تكنس شوارع مصر كما تكنس باريس من هذه العاهرات، ولماذا لا

تعزل النساء الوطنيات، ولا تطرد من البلاد النساء الأجنبيات المريضات؟

بل لماذا لا تطهر شوارع المدن والحواضر من هذه المستودعات المخزونة

فيها الأمراض والأوصاب، وفساد العائلات، والأجساد، والسلالة.

سؤال أردده في نفسي، ولا أجد عليه جوابا، ولكني أعرف أن آلافًا من

النفوس تضيع الآن ضحية الإهمال، وليس من يزع الشر أو يرد المصيبة.

***

(جناية أوربا على نفسها وعلى العالم)

أهدي إلينا هذا الكتاب أو القصة منذ أشهر، فاستكبرنا الاسم، وما بعده من

الوصف وهو: (كتاب صحي عصري أدبي اجتماعي عمومي نسائي روائي)

وفهمنا من كلمة (روائي) أنه يبين فيه ما في هذه القصص، التي تسمى روايات

من الجناية على الآداب، كما فهمنا من كل كلمة قبلها نحو ذلك، وعزمنا على

مطالعة الكتاب قبل الكتابة عنه، فإذا هو قصة وضعية في بيان ضرر استعمال

المشد الحديدي، الذي يضغط به النساء أحشاءهن. وقد أحسن واضع القصة أحمد

أفندي فهمي فيما كتب، فجاء بالنزاهة والأدب في الغراميات، وأحسن في التنفير

عن المشد، وكان كلامه مؤثرًا يستعبر القارئ، ولكن الاسم أكبر من المسمى.

والقصة مطبوعة طبعًا حسنا، وهي تطلب من مكتبة المعارف بالفجالة، فنحث

القارئات قبل القارئين على مطالعتها.

***

(قاطع الحبل)

قصة من قصص (مسامرات الشعب) ، صدر منها جزءان، وهي مما اختاره

للترجمة نقولا أفندي رزق الله المعروف بأدبه وحسن ذوقه في الاختيار.

***

(الريحانة)

مجلة تاريخية أدبية قصصية، تصدر في منتصف كل شهر عربي،

لصاحبتها جميلة حافظ (صدر الجزء الأول منها في 15 المحرم، وقد جاء في

فاتحته ما يأتي:

أفتتح مجلتي الريحانة بسم الله، الذي خلق الرجل والمرأة من أصل واحد،

ووهبهما عقلاً جوهره واحد، وسوى بينهما في الحقوق، فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي

عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) وأسأله تعالى أن يوفقني إلى القيام بما عهدته

إلى نفسي خير قيام.

(أمنيتي الوحيدة: أن تكون لحياتي ثمرة وغاية شريفتان في الوجود، لا أن

تكون حياة خمول وكسل، تنقضي بلا ثمرة، وجودها عدم وعدمها خير) إلخ.

هذه الكلمة من الكلم الطيب، لا يتدبرها عاقل، ويأخذ على نفسه الميثاق ليعلن

بها، إلا كانت حياته مباركة طيبة، وكان هو بها أسعد منه بكل ما يملك من عرض

الدنيا. هذه الكلمة ترفع من تربى تربية حسنة إلى مراتب الكمال، وتكون خير

مرب لمن قصر في تربيته الوالدون والمعلمون، وما كثر الذين يقدرونها قدرها في

أمة من الأمم، إلا وارتقى شأنها، وصلحت حالها، وكانت من أسعد الأمم لا يفضلها

إلا الأمة التي تسبقها في العمل بالكلمة. وإني لأرجو أن تكون هذه المجلة من أنفع

المجلات، برعاية منشئتها لكلمتها، وعنايتها بالعمل بها. ولنا أن نعد من آيات هذه

العناية، قولها في الجزء الثاني: (رأيت أن أساعد مشروع الجامعة بكل ما في

وسعي، فأنا من الآن أتبرع سنويا بكل ما يزيد عن مصروف المجلة من جنيه إلى

مائة، وما زاد عن المائة فيصرف في ترقية المجلة، بزيادة عدد صفحاتها،

وإصدارها مرتين في الشهر بدون زيادة في قيمة الاشتراك. وهذا التبرع يبقى- إن

شاء الله -ما بقيت المجلة، وبقي لها مشتركون) .

إننا لنشم من هذا القول عبير الإخلاص والصدق، ولكن رجاءنا في تحقق

أمنية الكاتبة المخلصة ضعيف؛ لأنها جعلت قيمة الاشتراك ثلاثين قرشا، وهي تكاد

لا تكفي لنفقات المجلة، على ما تعهد من قلة القارئات والقارئين، وكثرة مطل

المشتركين، إلا أن تصادف المجلة من يقدر نية منشئتها حق قدرها، وينتدبون

لمساعدتها على أمرها، وإننا ننصح لها بأن تزيد في قيمة الاشتراك الآن، فإن أهل

الوفاء لا يثقل على الواحد منهم دفع عشرة قروش، أو عشرين قرشًا في السنة،

وأهل المطل يثقل عليهم أداء القرش الواحد، فإن لم تقبل نصيحتنا الآن، فستقبلها

في يوم من الزمان.

***

(الجامعة الأسبوعية)

ارتحل فرح أفندي أنطون صاحب مجلة الجامعة الشهيرة إلى نيويورك،

وجعلها مقرًّا له، ومصدرًا للجامعة، ثم اشترك مع رشيد أفندي سمعان وهو من

التجار الميالين إلى السياسة؛ في إصدار جريدة يومية باسم (الجامعة) ، واختار أن

يجمعا من الجامعة اليومية أفضل مقالاتها وأخبارها كل أسبوع فى نسخة أسبوعية ذات

ثماني صفحات، وقد وافانا عدة نسخ من الجامعة الأسبوعية، فإذا هي من أحسن

الجرائد العربية تحريرًا، وأغزرها فائدة، وقيمة الاشتراك فيها عشرون فرنكًا.

_________

(1)

الخصوف من النساء التي تلد، ولا تدخل في العاشر.

(2)

جرت المرأة ولدها وجرت به: وهو أن يجوز ولدها عن تسعة أشهر، فيجاوزها بأربعة أيام أو ثلاثة، فينضج ويتم في الرحم.

(3)

ظائرت مظائرة إذا اتخذت ظئرا، الظئر: المرضعة غير ولدها.

(4)

الأم تعجو ولدهاأي: تؤخر رضاعه عن مواقيته، ويورث ذلك ولدها وهنًا.

(5)

جدع الغلام يجدع جدعا: ساء غذاؤه، والحثل أيضًا سوء الرضاع، وقد أحثلته أمه؛ أي: أساءت غذاءه.

(6)

أفلت المرضع: ذهب لبنها.

(7)

حصأ الصبي من اللبن، وحصئ يحصأ، حتى امتلأ بطنه.

(8)

غثت نفسه، تغثي غثيا وغثيانا وغثيت غثي: جاشت وخبثت قال بعضهم: هو تحلب الفم فربما كان من القيء: وهو الغثيان.

(9)

ارتاح: سر ونشط.

(10)

أي تنبت أسنانه.

(11)

المناغاة: تكليمك الصبي بما يهوي وناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة.

(12)

قصع الغلام: أبطأ شبابه وغلام قصع أي: بطيء الشباب (يعني حان وقت شبابه ولم يشب) وقصيع ومقصوع مثل: قصع، وقصع الغلام: ضربه ببسط كفه على رأسه، وقصع هامته كذلك قالوا: والذي يُفعل به ذلك: لا يشب ولا يزداد، وغلام مقصوع وقصيع كادي الشباب إذا كان قميئا، لا يشب ولا يزداد، وقد قصع قصاعة.

(13)

الرتة: حبسة في اللسان والرتة حبسة في لسان الرجل، وعجلة في كلامه.

(14)

اللثغة: عقدة وعجز في الكلام واللثغة أن يصير الراء لاما في كلامه.

(15)

واللكنة والحكلة: عقدة في اللسان، وعجز في الكلام والحلكة أيضا: العجمة في الكلام.

(16)

الفأفأة: أن يتردد في الفاء.

(17)

التمتمة: أن يتردد في التاء.

(18)

الرأرأة: أن يتردد في الراء تكلم أو قرأ.

(19)

اللجلجة: أن يكون فيه عي، وإدخال بعض الكلام في بعض.

(20)

الخنخنة: أن يتكلم من لدن أنفه ويقال: هي أن لا يبين الرجل كلامه، فيخنخن في خياشيمه.

(21)

المقمقة: أن يتكلم من أقصى حلقة.

(22)

الهتهتة والهثهثة: حكاية التواء اللسان عند الكلام.

(23)

التعتعة والثعثعة أيضا: حكاية صوت العيي والألكن.

(24)

اللفف: أن يكون في اللسان ثقل وانعقاد.

(25)

الليغ: أن لا يبين الكلام أو يرجع الكلام إلى الياء، تأتأ تردد في التاء إذا تكلم، والاسم التأتأة، العقلة: اعتقال اللسان عن الكلام.

(26)

التبع: من يتبع بعض كلامه بعضا، والسريع الكلام رجل طعمطم في لسانه عجمة لا يفصح.

(27)

اللسن: جمع لسن، ورجل لسن أي: فصيح بليغ.

(28)

قيل الفرق بين البيان والتبيان: هو أن البيان عمل اللسان والتبيان عمل الجنان وقيل: إن التبيان أبلغ من البيان؛ لأن الزيادة في الحروف أعطته زيادة في المعنى.

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استقالة اللورد كرومر وتقريره

ما كاد اللورد كرومر يتم تقريره السنوي عن مصر والسودان، حتى عرض

له في معدته مرض شديد حتى صار يُغَذَّى بالحقن، وحتى لم يسطع الحفاوة بأخي

ملك الإنكليز الذي زار مصر في هذه الأيام كما يجب، وحتم عليه الأطباء الاستقالة

من منصبه، وترك الأعمال العقلية بتة، فكتب إلى حكومته بذلك؛ فرَاجَعَتْه

عسى أن يثني عزمه؛ فلم يفد ذلك، فقبلت استقالته مع إظهار الأسف العظيم على

اضطراره إلى ترك الخدمة، والثناء العاطر عليه الذي شارك الحكومة فيه جميع

أحزاب الأمة.

وقد صرحت الحكومة تصريحًا رسميًّا بأن سَتُسَيَّر في مصر على طريقته،

وتعمل بما أرشد إليه في تقريره الأخير، وهذا التقرير هو أشد التقارير وطأة على

الوطنيين؛ لا سيما الذين يعرفون بالحزب الوطني، من حيث ما يراد فيه من

تغيير نظام الجنسية المصرية، ومحاولة إقناع دول أوروبا بترك الامتيازات،

والاستغناء عنها بمجلس تشريع وطني؛ معظم أعضائه من رعايا هذه الدول؛

وباقيهم من الوطنيين.

ومما نقل عن التقرير، فكان شديد الوقع على نفوس المسلمين، كلام في

الشريعة الإسلامية فحواه: أنها لا تصلح لهذا الزمان. وكلام فيما يسمونه الجامعة

الإسلامية، وكلام عن المستر دنلوب في اللغة العربية، وإننا ننتظر صدور نسخة

التقرير العربية؛ لنقرأها ونبين ما هو الحق في الشريعة، ومعنى كونها خاتمة

الشرائع الإلهية.

أما اللورد نفسه فهو بما عمل في مصر، يعد من أعظم السياسيين في هذا

العصر، وقد اعترف له الوطنيون مع الأجانب بالنزاهة التامة، وترقية مالية البلاد

وتكثير مواردها، واحترام استقلال القضاء والحرية الشخصية فيها، وناهيك بحرية

المطبوعات، ويشكو منه الوطنيون أنه لم يرق المعارف، ولم يزد مصر إلا بعدًا

عن الاستقلال.

ويقولون: إن نجاحه الذي ظهرت به عظمته، يقوم على ثلاثة أركان: مزاياه

الشخصية وثقة حكومته به، ومساعدتها إياه في كل ما يطلب، وطول الزمن الذي

صرفه في مصر، ونسوا ركنًا رابعًا: وهو طبيعة مصر وأهلها، فمصر تواتي كل

حاكم قوي، وتخضع لإرادته في كل ما يريد منها، ولولا استعداد القابل لما ظهر

استعداد الفاعل، والحكيم من يراعي في عمله الاستعداد الطبيعي فيما يعمل فيه،

ولو وجد في أمرائها رجل كاللورد كرومر، لعمل فيها خيرًا مما عمل اللورد؛ لأن

أميرها كان يراعي مصلحتها من كل وجه خالصة لها، واللورد كان ينظر إلى

مصلحة دولته أولا، وإلى مصلحة مصر ومصالح دول أوروبا ثانيا. وقد اهتزت

مصر وأوروبا لاستقالته، وخاف الماليون على أموالهم، والأحرار على حريتهم من

بعده، واستحسن بعض النزلاء والوطنيين أن يعمل له تذكار في مصر. وكانت

جريدة المؤيد و (الجريدة) ، أكثر الجرائد المصرية اعتدالا في الكتابة عنه.

وأفضل ما استفادت مصر في هذه المدة؛ مدة اللورد كرومر أو الاحتلال،

استيقاظ الشعور بوجوب الاستقلال الذاتي، أو الاعتماد على النفس في الرقي.

استيقظ هذا الشعور في بعض النفوس، ولولا أن أكثر الجرائد شغلت الأمة عنه

بالأماني والأوهام؛ لانتشر انتشارا عظيما، ولجاء بالإصلاح المبين.

شغلت الأمة عن نفسها بمقاومة الاحتلال؛ ولكن بالأماني والغرور، وبالطعن

في الحكومة؛ لأنها تواتي الاحتلال، وبمطالبة الحكومة مع ذلك بكل ما يرقيها،

ويرفع شأنها، بذلك نسيت نفسها، فلم تتعاون على الأعمال الاستقلالية، ولم يوجد

فيها معاهد للتربية الملية، والتعليم الذي يقصد به الرفعة والكمال؛ من غير طريق

الحكومة. بل لم يوجد فيها عون ولا نصير، لذلك الأب البر الرحيم (الأستاذ الإمام

رحمه الله الذي أراد أن ينتهز هذه الفرصة؛ لإصلاح الأزهر على عمله هذا،

ولكنه وجد بعض الأعوان على النهوض بجمعية خيرية إسلامية، فنهض بها.

هذا وقد ابتدأت الأمة؛ تشغل نفسها بما يوهمها الموهمون من سياسة خلف

اللورد كرومر، وهو أنها ستكون مرقية للشؤون المعنوية، كما رقي اللورد كرومر

بالشئون المادية.

وإننا ننصح لها بأن لا يشغلها عن استعدادها الذاتي شاغل، وأن تعلم أن

من لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره، وأن أفضل ما يمكن أن تستفيده من الإنكليز هو

تمكينها من ترقية نفسها بالتربية والتعليم الذي تقوم به، وهي بثروتها قادرة عليه،

وما بينها وبينه إلا أن تتوجه بتوفيق الله - تعالى - إليه.

ويظن أن الأمير سيكون أشد مواتاة؛ للسير (ألدن غورست) خلف اللورد

كرومر على عمله بمصر منه لسلفه، وأن السير يكون أكثر تساهلا من اللورد مع

الماليين؛ فيما ينشئون من الشركات، ويعمرون من أرض الحكومة، ولا يظن أنه

يكون أوسع منه صدرًا لمشاغبات الصحف، وأقرب مودة للحرية، وجملة ما يقال

أن السياسية الإنكليزية لا تتغير في مصر؛ بذهاب إنكليزي ومجيء إنكليزي.

_________

ص: 158

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

كتب إلينا أحمد أفندي الألفي ينتقد علينا أمورًا؛ إجابة لدعوة المنار إلى الانتقاد

عليه، ولكن ما انتقده آراء في تحرير المجلة وإدارتها وكتابة التفسير، وهو على ما

فيه من الفائدة لنا، ليس مما ندعو إليه، إنما ندعو إلى انتقاد ما يراه أهل العلم في

المنار باطلا، وبيان ذلك بالدليل، ولعل منه قوله: مغالاتك في الجريدة حتى أخذت

(بالفأل) ووضعت المجلة موضع المتشيع للجريدة، وظنه أنني اشتغلت عن

المنار بالتحرير فيها.

وهكذا رأيت كثيرًا من الناس، ينسبون إليَّ أكثر ما يكتب في (الجريدة)

ويظنون أنني من محرريها، والحق أنني ساعدتها بعدة مقالات في أوائل ظهورها،

وأنا أحسن الظن بها، وإذا كتبت فيها فإنما أكتب في موضوع أدبي أو اجتماعي،

لا في سياسة مصر ولا أكتب عن لسانها، وأما العناية بتقريظها فسببه هضم الناس

لها بغير حق، وكونها تنفيذًا لرأي الأستاذ الإمام، وإن لم تكن كما كان يريد من كل

وجه (والفأل) ذكر فكاهة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل

الحسن.

_________

ص: 160

الكاتب: موسى أفندي جار الله الروسي

‌تاريخ المصاحف

(2)

هذا ما وعدنا بنشره مما كتبه صاحبنا موسى أفندي جار الله الروسي قال:

(قال العلماء: أول ما نزل من القرآن {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ

الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 1-4) ولم

ينزل بعده شيء إلى ثلاث سنوات (وتسمى هذه السنوات زمن فترة الوحي) ، ثم

أخذ القرآن ينزل في تضاعيف عشرين سنة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى

مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106)، {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32) ، فمنه ما نزل مفرقًا وهو غالب القرآن، ومنه ما نزل جمعًا

كالفاتحة، والإخلاص والكوثر وأغلب الأنعام. وكلما نزل عليه صلى الله عليه

وسلم آية أو سورة وسري عنه، كان يُقرئ الصحابة ما نزل ويستحفظهم

فيحفظونه على الفور عن ظهر قلب، ويعتنون بذلك تمام الاعتناء؛ لأن الحفظ

الحرفي في عصر الرسالة وزمن النزول كان من أعظم العبادات وأقرب القرب،

وكانوا إذا حفظوا آية من النبي عليه السلام يترددون عليه غير مرة؛ ويتلونها

أمامه حتى يزداد تثبتهم من حفظها وأدائها، ويسألونه هل حُفظت كما أنزلت حتى

يقرهم عليها، وبعد إتقان الحفظ والتثبت في تمام الضبط، أخذ كل واحد منهم ينشر

ما حفظ: كانوا يعلِّمونه للأولاد، والصبيان، وللذين لم يشهدوا النزول ساعة الوحي

من أهل مكة والمدينة، ومن حولهم من الناس، فلا يمضي يوم أو يومان إلا وما

نزل محفوظ في صدور جماعة غير محصورين، وقد عين جماعة عظيمة من

الصحابة على حفظ القرآن وإقرائه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم -إلى

المدينة قبل الهجرة جماعة من حفظة الصحابة؛ يعلمون القرآن لأهل المدينة

وأولادها، وكان الرجل إذا هاجر إلى المدينة دفعه النبي- عليه السلام -إلى رجل

من أولئك الحفظة يعلمه القرآن، ولما فتح مكة ترك فيها معاذ بن جبل لذلك. وكان

من أكابر الصحابة - وهم ألوف- من يعتني بتعرف فقه القرآن ومعانيه وإتقانه

حفظًا وكتابة. كانوا لا يأكلون نهارهم، ولا ينامون ليلهم باهتمامهم واشتغالهم بضبط

الآيات وحروفها ووجوهها، وكان بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صيحة

وزجل بتلاوة القرآن، وكان النبي يسمع إلى الملأ منهم، ويحمد الله على أن جعل

في أمته أمثالهم.

وبمثل هدا الاهتمام التام لإتقان القرآن في صدر الإسلام، حفظه ألوف من

الصحابة في تضاعيف عشرين سنة.

وحيث إن القرآن كان ينزل مفرقًا منجمًا، ويحفظه الذين يعتنون به على مهل

ومكث في تضاعيف سنوات كثيرة، وذلك أعون في الحفظ وأيسر للذكر. وأكثر

من حفظه كان شرع في حفظه من صباه، وزد عليه ما كان للنبي عليه السلام

المعصوم من نسيان القرآن، من كمال الاعتناء والاهتمام بالترغيب في حفظه،

والأمر بتعاهده، فكل من تأمل أدنى تأمل، يتبين ويقطع أن القرآن قد حُفِظ في

الصدور بتمام الإتقان وأرسخ الحفظ وأتم الضبط وكامل البيان، وقد نطقت

الأحاديث، ودلت الآثار على أن النبي- عليه السلام كان يوقف أصحابه على

ترتيب آيات السور، ويعلِّمهم مواضعها من السورة نصًّا، وكان يقرأ السورة في

الصلوات وغيرها، ويسمعونه فيعرفون من ذلك ترتيب الآيات، فالصحابة ضبطت

عنه عليه السلام ترتيب آي كل سورة ومواضعها، كما ضبطت عنه نفس الآيات

وتلاوتها. وكانت السورة مرتبة لحديث أحمد وأبي داود في تحزيب القرآن، وحديث

(واثلة) في إعطاء السبع الطوال والمئين والمثاني؛ بدل الكتب الثلاثة السماوية

والتفضيل بالحواميم والمفصل، والأحاديث تدل على أن النبي- صلى الله عليه

وسلم - كان يختم القرآن وأن الصحابة كانوا يختمون عنده عدة ختمات، وكل ذلك

يدل دلالة واضحة على أن القرآن كان محفوظًا في صدور ألوف من الصحابة،

مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم عند كل واحد منهم. قال معاذ: عرضنا القرآن

على النبي عليه السلام فلم يعب منا أحدا.

وكان للنبي عليه السلام كَتَبة؛ يكتبون فورًا كل ما نزل إليه على الصحائف

والقراطيس من الرقوق والأوراق غالبًا، وعلى الألواح وعسب النخل أحيانًا. كان

النبي عليه السلام يملي عليهم مباشرة، بقول: إن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا

في سورة كذا. وكان كتابة ما نزل من القرآن ملتزمة منهم. حتى زمن الاختفاء في

أوائل الإسلام، إذ كان المسلمون يتدارسون القرآن من الصحائف في البيوت، وكان

المشركون يدعون الدراسة إذ ذاك الهينمة [1] من شواهد حديث عمر قبل إسلامه مع

أخته وختنه.

وكانت العرب تكتب كل شيء نفيس أو مهم عندهم، كالأشعار الفصيحة،

والخطب البليغة من شواهد ذلك القصائد المعلقة، والصحيفة التي أكلتها الأرضة.

وكان كثير من الصحابة لهم علم بالقلم، وكان أنس بن مالك يقول: هذه أحاديث

سمعتها من رسول الله وكتبتها وعرضتها، وكثير من هؤلاء كانوا يكتبون في

الصحائف كل آية حفظوها، ويعرضونها على النبي عليه السلام وعين من

هؤلاء جماعة على كتابة الوحي، كانوا متمكنين من الكتابة باللسان العربي كل

التمكن كعلي وعثمان وعمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وأنس بن مالك وعبد الله

ابن سلام وغيرهم.

فكان النبي يملي عليهم مباشرة؛ فيكتبون ما نزل بحضرته، ويعرضون عليه

مرة بعد أخرى حتى يقرهم. بهذا الكيفية كتب القرآن من أوله إلى آخره في حياة

الرسول على صحائف وقراطيس متفرقة، وكانت هذه الصحائف والقراطيس أغلى

عندهم من أنفسهم، وأنفس من كل نفيس، وأحب إليهم من كل حبيب جليس. يدل

عليه أحاديث رويناها في تنافسهم في حفظ هذه الصحائف والقراطيس، وفي حبهم

التبرك بها أحيانًا في المجالس.

وكل ما ذكرته عن شأن حفظ القرآن في الصدور، وما أجملته بعد ذلك في

كيفية جمعه في الصحائف وأثبته في السطور، يدل دلالة قطعية باهرة على أن

القرآن زمن النبي عليه السلام -كان مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم؛ محفوظًا

في الصدور مكتوبا على ترتيب الحفظ في السطور والأحاديث متضافرة متساعدة

في ذلك.

ولأن إهمال الحفظ والكتابة والترتيب من النبي، ومن ألوف مؤلفة من

الصحابة الذين يتيقنون أن السبب في عزهم وسعادتهم هو القرآن، وأنه هو أساس

دينهم وشريعتهم، وأنه هو الذي يقربهم إلى الله عز وجل والذين كانوا يبذلون

جميع ما يستطيعون وما يتصوره العقل في سبيل حفظه كما أنزل مصونًا عن أدنى

شائبة - الإهمال من مثل هؤلاء شيء محال لا ريب فيه.

ثم توفي رسول الله يوم أكمل الله لنا ديننا ورضي لنا الإسلام دينا، والإسلام

قد ظهر في جميع جزيرة العرب؛ وفيها مدن وقرى كثيرة كاليمن والبحرين وعمان

ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة كلهم قد

أسلم، وبنوا المساجد ليس فيها مدينة ولا قرية ولا حلة أعراب إلا وقد قرئ فيها

القرآن في الصلوات، وعلمه الصبيان والنساء وكتب. ومات رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - والمسلمون كذلك؛ ليس بينهم اختلاف في شيء أصلا، كلهم أمة

واحدة، ودين واحد، ومقالة واحدة، ثم تولى الأمر أبو بكر سنتين وستة أشهر

فغزا فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس القرآن، وجمع الناس

المصاحف جمعًا مبتدأ، كأُبيّ وعمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود وسالم. ولم

يكن بين المسلمين اختلاف في شيء زمن خلافته، وما كان من ظهور الأسود

العنسي في صنعاء ومسيلمة باليمامة وانقسام العرب أربعة أقسام:

طائفة ثابتة على الطاعة، وطائفة مانعة للزكاة، وطائفة معلنة بالردة، وطائفة

متوقفة متربصة لمن تكون الغلبة. فقد أَخرَج إليهم أبو بكر البعوث، وجهز إليهم

عصابة من المسلمين فقتل الأسود ومسيلمة، ولم يمض عام واحد حتى راجع

الجميع الإسلام، فلم تكن هذه الفتن إلا كنار اشتعلت فانطفأت للساعة. فبعد أن

سكنت هذه الفتن، أحس عمر الفاروق بضرورة جمع القرآن في كتاب واحد؛ على

مشهد من جميع الصحابة وملأ من الحفظة والكتبة، ولما استقر رأي أبي بكر وعمر

على ذلك، أحضرا زيد بن ثابت، وأبديا له ما عزماه. واستعظم زيد ذلك أولا،

واستسهل نقل الجبل، شأن كل مقتدر على عظام الأمور، يقدر الأمر حق قدره،

محتاط عاقل، لا يغفل عما يلزم عليه في القيام بأعظم المصالح عن كمال الاقتدار،

وواجب الاحتياط، وعظيم التثبت، وبالغ الجد والاجتهاد، ووفور السعي، غير

مغتر بما له من الخصال، وإن كان فردًا مفردًا فائقًا على أقرانه وأهل عصره.

ووافق أخيراً فعزم على ما عزما عليه. والإنسان مهما بلغ فى الاقتداروعلو الهمة،

قد يكون إذا وقع عليه أمر عظيم وعزمه وتصوره من جميع وجوهه؛ غير غافل عن

وسائل تحصيله وأسباب الوصول إليه يعتريه طبعًا نوع من التردد وشيء يشبه

التوقف. لكنه لا يلبث فيزول، ويمضي العازم على عزمه، وجمع أبو بكر

الحفظة المشهود لهم بالضبط والإتقان. وكان أهمهم زيد وأبي بن كعب وعثمان

وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن

السائب وخالد بن الوليد وطلحة وسعد وحذيفة وسالم وأبو هريرة وعبادة بن

الصامت أبوزيد وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص واجتمعوا

برياسة زيد بن ثابت في منزل عمر ليتشاوروا في كيفية جمعه وتخصيص أعمال

كل واحد منهم. ثم أخذوا يوالون اجتماعاتهم في مسجد المدينة؛ لكتابة القرآن.

وكلهم كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، وكانوا قد اعتنوا قبل بكتابته جملة مرار

من ذاكرتهم ليتحققوا من ضبطهم له وحفظهم إياه، وجاء من كان كتب مصحفًا

بمصحفه، وأحضروا كل الصحائف والقراطيس التي كتبوا فيها القرآن بحضرة

النبي عليه السلام وإملائه، وعهدوا إلى بلال أن ينادي بأنحاء المدينة، أن من

كانت عنده قطعة عليها شيء من القرآن، فليأت بها إلى الجامع، وليسلمها إلى

الكتبة المجتمعين لجمع القرآن على مشهد الصحابة، وجيء بعدد كثير من القطع،

وما كانوا يقبلون قطعة حتى يتحققوا أنها كتبت بين يدي النبى وحضرته؛ إذ كان

غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يديه، وما كانوا يفعلون ذلك إلا مبالغة

في الاحتياط، ومغالاة في التحفظ، وإيغالا في الضبط. وكانوا يقابلون القطع

بعضها ببعض لئلا يبقى مجال شك في تمام الضبط. وكتب القرآن زيد بن ثابت

جميعه. قال زيد: حتى وصلنا إلى آية {لَقَدْ جَاءَكُمْ} (التوبة: 128) من سورة

التوبة ففقدناها، وفتشناها لنجدها مكتوبة ثم وجدناها مكتوبة عند أبي خزيمة ابن

أوس بن زيد الأنصاري. وقال زيد: حتى وصلنا إلى سورة الأحزاب، ففقدت آية

من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف، قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها

فالتمسناها لنجدها مكتوبة، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ المُؤْمِنِينَ

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: 23) فألحقناها في سورتها في

المصحف وتم جمعه. وجمع عمر جميع الحفظة والصحابة وقرأه عليهم. ولم يقع من

أحد منهم اعتراض حين العرض، ولم يسمع ولم يظهر بعد أيضا. وبعد إجماع أكابر

الصحابة على هذا الترتيب في هذا المصحف، لا يمكن أن يقال أنهم رتبوا ترتيبًا

سمعوا النبي عليه السلام -يقرأه على خلافه. وإجماعهم على هذا الترتيب

وإقرارهم عليه بلا خلاف من أحد منهم؛ أقوى برهان على أنهم وجدوا ما أفادهم

علمًا لا يدع عندهم ريبا.

فتقرر أمر القرآن تقريرًا قطعيًّا في هذا المصحف. وكان ذلك أعظم فرض قام

به سلفنا الصحابة، وأهم شيء حدث في الإسلام، وأفضل مَنّ لهم علينا إلى يوم

القيامة وتوفي أبو بكر وهو أعظم الناس أجرًا في المصاحف، وتولي الأمر بعده

عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضا، وفتحت الشام كلها، والجزيرة ومصر كلها،

ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد، ونسخت فيه المصاحف، وقرأ الأئمة القرآن

وعلمه الصبيان في المكاتب شرقًا وغربًا، بقي كذلك عشرة أعوام وأشهرا

والمسلمون لا اختلاف بينهم في شيء، ملة واحدة ومقالة واحدة. والمسلمون إذ مات

عمر، وإن لم يكن عندهم زيادة على مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى

الشام إلى اليمن فما بين ذلك، فلم يكن أقل من ذلك؛ لأن الخليفة عمر الذي كان كاد

يموت همًّا بأمر المسلمين؛ والذي حفر الخليج بعد عام الرمادة فساقه من النيل إلى

القلزم، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام لأجل

المدينة ومكة وما بينهما، خليفة هذا شأنه، لم يكن ليترك بلدًا فتحها ومدينة وقرية

تولى أمرها بلا مصحف يقرأ فيه أهلها.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الهينمة: ما كانوا يسمون كل قراءة هينمة بل القراءة الخفية والهينمة الصوت الخفي.

ص: 187

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق [*]

(1)

سأل سائل بترعة السويس هل كانت نافعة للمسلمين أو الشرقيين أم ضارة

بهم؟ فأجاب غير واحد بأنها كانت مثار المضار، وبركان الأخطار، لولاها لما

جاس الأوروبيون خلال هذه الديار، ولما تمكنت سلطتهم في كثير من الأقطار،

وأجاب واحد ممن حضر بأنها كانت نافعة أكثر مما كانت ضارة؛ إذ لولاها لكان

أهل الهند والأفغان كأهل مراكش في جهلهم وغفلتهم، وجفوتهم للمدنية وفنونها

التي وصلت إليها في هذا العصر، بل ولكانت مصر التي تزهو بعمرانها الآن خرابا

يؤدي ذكران البوم العشرات من قراها مهورًا لإناثها؛ على الطريقة التي كانت

متبعة عند البوم في الزواج على عهد إسماعيل باشا. ناهيك باليابان وما صارت إليه،

وبالصين وما تشرف عليه.

يسهل على غير الخبير المحقق في طبيعة الاجتماع، العارف حقيقة حال الهند

والأفغان ومراكش ومصر، أن يماري في القول مراءً ظاهرًا أو غير ظاهر، وأن

يستفتي أمثاله: أليس الفرق عظيمًا بين الهند التي كانت زاهية على عهد السلطنة

التيمورية، بالمعارف والصنائع الوطنية، مستغنية بنفسها عن أوروبا وسائر العالم،

وبين مراكش التي كانت ولا تزال تغلب عليها البداوة، بجهالتها، وغباوتها،

وعصيانها لكل نظام؟ أليس كل ما ينسب إلى الأفغانيين من الفضل هو تجافيهم عن

المدنية الأوروبية، ومنع الأوربيين أن يساكنوهم في بلادهم أو يتجروا فيها آمنين؟

ولولا ذلك لضاع استقلالها وكانت ولاية من ولايات الهند. ألم تأخذ مصر بأسباب

المدنية الأوروبية من عهد محمد علي باشا وهي على استقلالها؟ ألم تدخل في أول

ولاية محمد توفيق باشا في طور جديد من إصلاح، خابت به آمال طلاب الزواج

من البوم بالقرى والمزارع التي آلت إلى الخراب؟ كل هذا يقال في الاستفتاء،

ويقال أكثر منه، ويكون نص الفتوى عن كل سؤال: بلى. وهي كلمة يكتفي بمثلها

مشايخ الإسلام في الآستانة إذ يجيبون بكلمة (أولور) في مقام الإيجاب، وبكلمة

(أولماز) في مقام السلب، وبعد ذلك يأتي الحكم على الأوروبيين كافة بأنهم ما

جاؤوا الشرق بخير ما ولا منفعة، بل جاؤوا بشرور ومضار أعظمها إزالة استقلاله،

وأي خير أو نفع يوزن بسلب الاستقلال، حتى تصح المقابلة بين منافع الأوروبيين

ومضارهم في الشرق؟

هذا هو الحكم الذي يرمي قاضيه عن قوس عقيدة الجماهير، والجماهير في

الشرق جاهلون بالسياسة راغبون عنها، ويقل في المشتغلين منهم بها والباحثين

عنها من يحيط بأطراف مسائلها، ويعرف المطالب ببراهينها ودلائلها، ولولا أن

هؤلاء العارفين قليلون فينا، لما كنا نشكو مرض الأمة الذي يعبرون عنه بلفظ

التأخر والانحطاط. وهؤلاء العارفون القليلون لا يرضون بهذا الحكم، وإنهم لأعلم

من غيرهم بقيمة الاستقلال الذي عبث به الأوروبيون، وبأنه لا يوزن به شيء.

ولكنهم يعطون كل شيء حقه ثم يوازنون بين الأشياء، لا يمنعهم من ذلك أن يكون

في إحدى كفتي الميزان؛ ما يَرجَح بكل ما يوضع في الأخرى. على هذه الطريقة

القويمة نسير في بيان منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق، بعد تمهيد مقدمات

تعين على فهم مرادنا من المقابلة وهي:

(1)

إننا نريد بالمنافع كل ما يزيل شيئا من شقاء الأمة أو يزيد في

سعادتها، فيدخل فيها أمور الصحة ولا سيما مطاردة الأوبئة، وأمور المعاش

والكسب ولا سيما ترقية الزراعة، وتأسيس الشركات المالية، ويدخل فيها العلم

والتربية، والآداب، وأمور الاجتماع، وتدبير المنزل، والعلم بالإدارة، والسياسية،

وأصول النظام، وغير ذلك، مما ينقل الأمة من طور أدنى إالى طور أرقى.

(2)

إننا نريد بالمضار ما يقابل المنافع بجميع وجوهها التي أومأنا إليها آنفا،

وهو كل ما تصير به الأمة إلى حال شر مما كانت عليه، في أفرادها، وبيوتها

وهيئتها العامة سواء كان ذلك من جهة البدن كالمعاش والصحة، أو من جهة النفس

كالعلوم والأخلاق والآداب، وإن شئت فقل كما يقول كُتَّاب العصر من الجهة المادية

والجهة الأدبية، ويدخل في الجهة الأدبية الدين.

(3)

إننا نريد بالأوربيين كل ما يتناوله اللفظ، لا الحاكمون منهم خاصة.

(4)

إن المقابلة التي نوازن بها بين المنافع والمضار إضافية، أي إننا

ننسب حال الأمة بعد اختلاطها بالقوم إلى حالها قبله، لا إلى ما ينبغي أن تكون عليه

من الكمال، ولا إلى ما عليه الأمم الأوروبية في أنفسها، ولا إلى ما تهوى عامتنا أو

خاصتنا أن نكون عليه.

(5)

إن الكلام في المقابلة لا يتناول نيات القوم ومقاصدهم فينا، وإنما هو

خاص بالأثر الطبيعي لدخولهم في البلاد، سواء جاء على وفق ما يقصدون أو على

ضده.

(6)

إن الغرض من بيان المنافع التنويه بها، والتنبيه إلى الاستزادة منها

ومن بيان المضار، تقبيحها والتنفير عنها، ووراء ذلك تلبية نداء التاريخ بتخليد

هذه الحقيقة في ألواح الصحف، سالمة من نزعات تعصب الجاهلية، محفوظة من

نزغات الأهواء السياسية؛ لأن مدونها يحبها لذاتها، ولا يخاف في تقريرها لومة

لائم، ويحب أن يكون المسلمون وسائر أهل الشرق على هدى وبصيرة فيما يأخذون،

وفيما يتركون.

(7)

إنه لا يفقه هذا الموضوع حق الفقه، إلا من كان عارفًا تاريخ الشرق

حق المعرفة، خبيرًا بأخلاق الناس فيه، وعاداتهم، وطبائع الأمم، وأحوال

الاجتماع، وشئون السياسة، ونحن لا نكتب هذه المقارنة والموازنة لمثل هذا العالم

الاجتماعي النحرير، وإنما نكتبها للجمهور الذي لا يعرف من حال نفسه، وحال

من يعيش معهم، إلا ظواهر غرَّارة لا تنفذ بصيرته إلى شيء مما وراءها، وإن

كان يوجد في أفراده من يظن أنه أحاط بما هنالك علما، وقتله فقهًا وفهما.

من مسائل علم الاجتماع، أن الأفراد والأمم المؤلفة منها تقتبس ممن يخالطها

ويجاورها ما يناسب استعدادها. فالأفغانيون لما كانوا أهل حرب، وأولي قوة وبأس،

اقتبسوا من الأوروبيين النظام العسكري؛ وما يتبعه من الاستعداد للحرب والكفاح.

والسوريون لما عرف من استعداهم القديم للتجارة، كان أول شيء استفادوه من

الأوروبيين فنون التجارة وطرقها الجديدة حتى بذوهم في ذلك، فقد كان معظم تجارة

سوريا الكلية ببيروت في أيدي الأجانب، فغلبهم عليها من كانوا يخدمونهم من

الأهالي حتى لم يبق لهم منها إلا أقلها. والمصريون وهم أهل حرث وزرع، قد

استفادوا منهم في ترقية زراعتهم؛ ما سبقوا به جميع الزراع في المشرق. وكذلك

يكون اقتباس المضار على حسب الاستعداد، فلابد من تدبير هذه القاعدة الاجتماعية

فيما نذكر من المقابلة والموازنة في الفصول الآتية.

(2)

نبتدئ بذكر المنافع والفوائد التي استفدناها بمخالطة الأوروبيين والاتصال بهم

وفي اقتباس علومهم ومعرفة أحوالهم وشئونهم، فنعد منها ما يسبق إلى الذهن أنه

الأهم، ونختار في سردها معدودة لفظ الفوائد فنقول:

الفائدة الأولى

استقلال الفكر

رأيت في يد أحد طلاب العلم جريدةً جديدةً، وكنت تلميذًا في فرقته، ورأيته

يغمطها، ويدعي أنه يقدر على إنشاء جريدة خير منها. فقلت له: إنني لا أدعي

مثل هذه الدعوى، فإن كنت واثقًا، فاكتب لي مقالة في موضوع اجتماعي أو

سياسي، مما تبحث في مثله الجرائد. قال: اقترح. قلت: اكتب لي مقالة في

الاستقلال، فسكت ولم يرجع إلي قولا، ولا كتب شيئا.

عزمت على أن أكتب شيئًا في استقلال الفكر، ولم أفرغ له إلا بعد ثماني

ساعات، لم تخطر في بالي فيها تلك الواقعة. ولكن كانت أول ما سبق من الذهن

إلى القلم عند الكتابة، وما أثبتها عبثا ولا فكاهة؛ بل أردت أن أنبه القارئ إلى

جلال الموضوع الذي لا أزال أجله من ذلك اليوم؛ عسى أن يهبه من انتباهه ما

يليق به لا سيما إذا كان يحب الاستقلال لنفسه ولأمته.

يكثر في الجرائد ذكر استقلال الأمم والشعوب، وقلما تذكر شيئًا في استقلال

الأفراد الذي هو أصل استقلال الجماعات الكبيرة؛ التي تسمى أممًا وشعوبا.

استقلال الآحاد نوعان: استقلال الفكر، واستقلال الإرادة. وهذان النوعان

هما الجناحان للإنسان يطير بهما إلى الكمال في العلم والعمل، ويكون حظه من

النجاح على قدر حظه من قوتهما، وحسن استعمالهما.

استقلال الفكر يكون ببلوغ العقل أشده وارتقائه إلى مستوى رشده، فإن العقل

القاصر؛ هو الذي يتبع مذهب التقليد في كل ما يلقى إليه، كما نرى من الأطفال،

ومن هم في حكم الأطفال من الرجال. فالمستقل في فكره هو الذي يستعمل عقله في

البحث عن الحق والصواب في معارفه، والتمييز بين النافع والضار من مصالحه أو

مصالح أمته عندما يبحث فيها، فلا يقبل من هذا ولا ذاك قول من هو مثله، إلا إذا

ظهر له أنه الحق والصواب.

إن الذي لا يعرف الحق والصواب بالنظر والاستدلال، لا يعد عالمًا ولا

سياسيا، بل لا يعد عاقلا؛ لأن ما يحفظه من أقوال الناس في الكتب والجرائد، أو

في البيوت والمحافل، لا يرفعه إلى مرتبة العقلاء الذين يميزون بين الأقوال بالدليل

العقلي، فإن الأولاد المميزين يحفظون الأقوال مثله ولا يعدون من العقلاء، إلا إذا

أريد بالعاقل من ليس مجنونا؛ يجب أن يُساق إلى البيمارستان أو مستشفى المجاذيب

فإن هذا الاصطلاح يسمح لنا أن نطلق لقب العاقل على الإمعة الذي لا رأي له،

وإنما يتابع كل واحد على رأيه؛ لا سيما إذا لم يكن متهمًا عنده بعداوته له، لسبب

من أسباب التهم.

استقلال الفكر طبيعي في البشر، كما أن ضده وهو التقليد طبيعي فيهم. فأما

التقليد فهو طبيعي في الراشدين، ولولا ذلك لما ارتقوا في علم ولا عمل، ولسار

جميعهم على ما كان عليه أول واحد منهم، فكانوا كالبهائم متساوين في علمهم

وعملهم {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} (الزمر: 9) لو ترك

الناس وفطرتهم، لأعطوا طور القصور حقه، وطور الرشد حقه. ولكن معظم

الأفراد الذين بلغوا أشدهم مستقلين في أفكارهم، مستدلين على آرائهم، ولكانت

أعمالهم على حسب أفكارهم؛ لاستقلال إرادتهم المعبر عنه بالحرية الشخصية في

عرف هذا العصر. ولكن الرؤساء المسيطرين قد تصرفوا في الفطرة تصرفًا

ذهب بالاستقلال الذي لا يتفق مع الاستبداد. ولذلك ترى أهل البداوة أقرب إلى

الاستقلال من أهل الحضارة المحكومين بسلطة استبدادية.

الحضارة كمال بشري وآفته الاستبداد، الذي يحول دون ما تقتضيه الحضارة

من كمال الأفراد، لعبثه باستقلالهم وسيطرته عليهم في علومهم وأعمالهم.

التعليم في البلاد التي تساس بالاستبداد يكون مبنيًّا على التقليد بطبع

الحكومة؛ لأن الذين يعرفون الحقائق لا يرضون أن يتحكم في مجموعهم

واحد منهم، إرادته حكم، وهواه شريعة وقانون. فاستقلال الأفكار حرب لحكم

الاستبداد وكثيرا ما كانت هذه الحرب سجالاً، والعاقبة للمستقلين.

الشرق أعرق في التقليد من الغرب، فهو أعرق في الاستبداد أيضا. وقد ظهر

الإسلام في الشرق؛ وهو يرسف كالغرب في قيود التقليد، ويئط من وزر الاستبداد

الثقيل، فكسر القيود، ووضع الأوزار. ولكن عاد الاستبداد إلى المسلمين بعد أقل

من نصف قرن. فكان كلما قوي يقوى التقليد، ويضعف الاستقلال حتى زال من

مجموع الأمة، وصار الأفراد المستقلون فيها كالغرباء، لا وليّ لهم، ولا نصير.

قاست أوربا من بلاء الاستبداد أكثر مما قاست ممالك الشرق. وحلكت

ظلمات التقليد فيها أكثر مما حلكت في غيرها. ولكن ما عتمت أن ضاء لها قبس من

علوم عرب الأندلس وغيرهم، فوجد فيها من عرف قيمته، وأنضى في استعماله

عزيمته، حتى صار ضياء ساطعا، ونورًا في تلك الآفاق لامعا، وجاءت ساعة

المشرق بطلوع الشمس من المغرب.

جاهدت أوربا أفضل الجهاد في سبيل استقلال الفكر والإرادة، حتى ظفرت

بأعدائها من رجال الدين، والملوك المستبدين، وجعلت كلمة الدليل هي العليا،

وكلمة التقليد هي السفلى، فجمعت بين عزة البداوة، ومحاسن الحضارة، فارتقت

فيها العلوم والأعمال، إلى درجة لم تعهد في جيل من الأجيال، من حيث رجع

الشرق القهقرى (وغدًا يقدمه الزمان إلى ورا) .

ما كان العلم ليدع الجهل على ما هو عليه؛ حتى يحكم فيه حكمه، ويوقع على

أهله عدله أو ظلمه، اندفعت أوروبا إلى الشرق مستعمرة للأرض، أو داعية إلى

الدين، أو طالبة للكسب، فامتزج أهلها بأهله، ووصلوا حبلها بحبله، بما أنشأوا

من المدارس، وما تقلدوا من الأعمال والوظائف، فطفق أهل الشرق يتعلمون على

الطريقة الأوروبية طريقة البحث والاستدلال، والاستنباط والاستنتاج وأنشأوا

يستنشقون نسيم الاستقلال، ويتوجهون إلى طلب الكمال.

فهذه فائدة كبرى قد استفدناها من الأوروبيين، ينبغي أن نشكرها لهم، ونحمد

لأجلها معرفتهم. وليس للمسلم أن ينكر ذلك؛ محتجًا بأن القرآن الحكيم قد أرشد إلى

هدم التقليد، وقام على أساس الاستقلال في الاستدلال، فإن هذا وإن كان حقًّا

يعترف به المنصف من علماء أوروبا، لم يكن هو المنبه في هذا العصر للشرق

عامة، وللمسلمين خاصة، ودليلنا على هذا، أن رجال الدين منا لا يزالون في

الأكثرأسرى التقليد، وأعداء الاستقلال، فيجب أن ننصف أنفسنا، ونشكر لمن نبهنا

إلى مصلحتنا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) كتبنا هذه المقالة (للجريدة) ونشرت فيها.

ص: 192

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامعة الإسلامية

تكلم اللورد كرومر في تقريره الأخير عن الجامعة الإسلامية كلامًا يؤيد الذين

أظهروا يقظة المسلمين في غير شكلها، فرأينا أن ننشر ما كتبه الأستاذ الإمام عن

ذلك في رده الثاني على موسيو هانوتو، وهو لم ينشر في الرسائل المتداولة، ناقلين

ذلك عن الجزء الثاني من تاريخه قال رحمه الله:

شأن المسلمين اليوم، وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين، وجمع

السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية.

أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد

المسلمين، ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه، ما خطر بباله أن

يشير إلى هذه الدعوى، فضلاً عن أن يبني عليها حكما، وإن ما علق بالأوهام منها

فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحيي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسيي

المغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها.

وإني أعرض الحقيقة كما هي، لا يغشاها ستار من تمويه، ولا غطاء من

تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين

اليوم في كلامهم عن الدين، وما يَرُد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه [1]

إلى رشدهم؛ حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم، ولا يتخذ بعضهم من السلم

حربا، ولا من السكون شغبا.

لا أنكر أن طائفًا من الدين؛ طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض

المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، وإن نسمة من نفس الرحمن مرت بأنفس

قليل من أهل الفضل فيهم فحركت ساكنهم، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان

عليه أهل هذا الدين، وفيما صاروا إليه، وإن منهم من يتكلم بما يرى؛ إذا وجد

سبيلاً إلى الكلام، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة؛ إذا تهيأت له الوسائل

لذلك. ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولا

كلام لنا في هذر المقلدين، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين.

ظهر الإسلام لا روحيًّا مجردًا، ولا جسدانيًّا جامدًا، بل إنسانيًّا وسطًا بين ذلك

أخذ من كل القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملائمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره.

ولذلك سمى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدُّوه المدرسة

الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية. ثم لم يكن من أصوله أن يدع ما

لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في

عمله. جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا، وألان قاسيًا، وهذب

خشنًا، وعلم جاهلاً، ونبه خاملاً، وأثار إلى العمل كسلاً، وأقدر عليه وكلا،

وأصلح من الخلق فاسدا وروج من الفضيلة كاسدا ثم جمع متفرقا ورأب منصدعًا

وأصلح مختلاًّ، ومحا ظلمًا، وأقام عدلاً، وجدد شرعًا، ومكن للأمم التي دخلت

فيه نظامًا امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله

كمالا للشخص وألفة في البيت، ونظاما للملك. وظهرت به آثار النعمة عليهم في

جميع شؤونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته، بل كان قائده في جميع وجوه سيره.

فإن شاء قائل أن يقول: إن الدين لم يعلمهم التجارة، ولا الصناعة، ولا

تفصيل سياسية الملك، ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم

السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه

وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة، وما ظنك بدين يقول خليفته

الثاني - وهو في المدينة من بلاد العرب - (لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب

لسئل عنها عمر) ويقول خليفته الرابع: (أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا

أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش) أي خشونته، يريد

بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان، وأسوة الفقراء

في حسن الصبر.

هكذا كان الإسلام مهمازًا للمسلمين؛ يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصباحًا

لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال، وتقويم الأفكار، وعاطفًا يعطف

قلوبهم على الأمم بالعفو، والمرحمة، وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض

سادة لها، وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم.

أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم،

ويمقت ما مقته؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغًا في دينه، وإن

كان ملك الأرض أو ملكوت السموات، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في

هذا الدين ما شهد؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية ينساق إليها الأمر بنفسه

بحكم سنة الله في خلقه.

واأسفا، لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه، أما الدين نفسه فقد انقلب

في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته،

وانطمست في نظره وحق فيه قول علي -كرم الله وجهه - (إن هؤلاء القوم قد

لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا) .

لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت.

ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول: قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه،

وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها، بل ما يهدم قواعدها

ويأتي على أساسها، عرضت البدع في العقائد والأعمال، وحلت محل الاعتقاد

الصحيح، وأخذت مكان الشرع القويم وظهرت آثارها في أعماله، وعم شؤمها

جميع أحوالها.

إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح

فالقرآن يؤيد معناه، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه، فالرجل

والمرأة سواء في الخطاب التكليفي، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض

الإسلام، وخصال الإيمان، وفي طلب العلم بما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما

وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في

كتاب الله، وسنة رسوله، وعمل الصالحين من بعده، حتى لم يبق باب من أبواب

العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان. ضل المسلم بعد ذلك في معنى

العلم، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة: فرائض الوضوء،

والصلاة، والصوم، في صورة أدائها، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها، ووسيلة

قبولها عند الله، فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر.

أما آداب الدين، وتهذيب الروح، واستكمال الخصال الجليلة، مما جعله

الإسلام غاية العبادات، وثمرة الأعمال الصالحات، فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا

تتوجه إليه عزيمة، ولا تنصرف نحوه، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في

أطراف الأرض، لا ترقى بهم أمة، ولا تسمو بهم كلمة. أما من ينقطعون لطلب

العلوم؛ ليحصلوا جملة منها، فقد انقسموا إلى فريقين:

الأول - من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها، وقد قل أفراده في

معظم البلاد الإسلامية، ولم يبق منه إلا رسوم، لا يكاد يدركها نظر الناظر،

والمشتغلون منهم في بعض البلاد، كمصر والآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل

ما هو، أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان، ويفهمها

بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى، ومتى تم له ذلك فقد استكمل

العلم، سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم، فكان مثلهم مثل من ورث

سلاحا، فكان همه أن ينظر إليه، ويملأ عينه منه، ولا يمد يده إليه يستعمله أو

يزيل الصدأ عنه، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث، ويزعمون أن الدين

يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة، ومن رأي هؤلاء أن لا شأن لهم مع

العامة، ولا يجب عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، وقد ارتكبوا

بذلك خطأ في فهم دينهم، لا يساويه في سوء عاقبته خطأ، وللكثير منهم بل الأغلب

من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في

العلم، لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود.

والفريق الثاني من يهيؤه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو

سافل، وأفراد هذا الفريق إن كثروا أو قلُّوا، يحصِّلون مبادي العلوم المعروفة

بالعلوم العصرية. ثم يحصِّل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده،

على أن ما يحصل إما لفظ يحفظ، أو خيال يخزن. والمدار على الوصول إلى

ورقة الشهادة. ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا؛ لاستعمال التربية فيها، ولا غاية

لهم سوى هذه الغاية. فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها، وحصر همه على

العمل فيها، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها، فإذا مل الانتظار أو تقضى

زمن العمل، وجدته في قهوة أو ملهى يسرف في أوقاته، ويفسد في أدواته.

والصالحون منهم - وقليل ما هم - لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت، هلكت أو

قامت، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة؟ وأستثني منهم شواذ في كل بلد

على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم، وتجني الأمم ثمار أعمالهم. هذا شأن الرجال

مع العلم.

أما النساء فقد ضُرِب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن

بستار، لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة، أو يؤدين فريضة

سوى الصوم، وما يحافظن عليه من الفقه؛ فإنما هو بحكم العادة، وحارس الحياء

وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وحشو أذهانهن الخرافات،

وملاك أحاديثهن الترهات، اللهم إلا قليلاً منهن، لا يستغرق الدقيقة عدهن، وكل

من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما، يعدها الجنة، ويمنيها السعادة.

أخطأ المسلم في فَهْم معنى التوكل والقدر، فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل

ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه

ويوافي رغائب دينه.

أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم، وأن العزة

والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة

الشأن تابعة للفظه، وإن لم يتحقق شيء من معناه، فإن أصابته مصيبة أو حلت به

رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب؛ بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ،

أو ينهض إلى عمل؛ لتلافي ما عرض من خلل، أو مدافعة الحادث الجلل،

ومخالفًا في ذلك كتاب الله، وسنة نبيه.

أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر، والانقياد لأوامرهم، فألقى

مقاليده إلى الحاكم، ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه، حتى ظن أن

الحكومة؛ يمكنها القيام بشئونه جميعها من إدارة وسياسة؛ بدون أن يكون لها منه

عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم

لأداء الخدمة العسكرية، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها، حكم بأن مما

يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة، لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات

العقل، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه؛ من حيث ظنوه قادرًا على

كل شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه، من

حيث أنهم تركوه وشأنه، لا يساعدونه في حادث، ولا يعينونه فى أمر مهم، اللهم

إلا إذا أرغموا على ذلك، ومن ذا الذى يحسن عملاً إذا ألجئ إليه بالرغم؟ ومن

هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها

وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها.

أما الحكام وقد كانوا قدر الناس على انتياش الأمة مما سقطت فيه، فأصابهم

من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم؛ ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة،

ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة

سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلا،

لا يستشيرون كتابًا، ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على

النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظلم، وما يتبع ذلك من الخصال التي

ما فشت في أمة، إلا حل بها العذاب.

هذا كله إلى ما حدث من بدع أخرى من مذاهب شتى في العقائد، وطرق

متخالفة في السلوك، وآراء متناقضة في الشرائع، وتقليد أعمى في جميع ذلك،

فتفرقت المشارب، وتوزعت المنازع، وعظم سلطان الهوى على أرباب النزعات

المختلفة، كل يجذب إلى نفسه، لا ينظر إلى حق، ولا يفزع من باطل، وإنما همه

أن يظفر بخصمه، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الإسلام في معرض التشدق

بالكلام.

وزد على ذلك؛ وهذا أكبر بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم،

وهي بدعة اليأس من أنفسهم ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأن ما

نزل بهم من الضر لا كاشف له، وأنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه.

مرض سرى في نفوسهم، وعلة تمكنت من قلوبهم؛ لتركهم المقطوع به من كتاب

ربهم وسنة نبيهم، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار، أو خطأهم في فهم ما صح منها،

وتلك علة من أشد العلل فتكًا بالأرواح والعقول، وكفى في شناعتها قوله جل شأنه

{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .

تبع هذه البدع جميعها وأخرى يطول ذكرها، هزال في الهمم، وضعضعة في

العزائم، وفساد في الأعمال، ويبتدئ من البيت، وينتهي إلى الأمة، يمر في كل

طبقة، ويجول في كل دائرة خصوصًا من دوائر الحكومات، وما يُرمى به

المسلمون من التعصب الديني الأعمى، فإنما عرض على أقوام في البلاد الإسلامية

تبعًا لهذه البدعة الضالة، على أنني لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم

المسيحية شرقية كانت أو غربية، والتاريخ شاهد لا يكذب.

هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في

دينهم، وخطأهم في فهم أصوله، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله، لهذا سلط الله عليهم

من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم

بدفعه، إلا إذا تداركهم الله بلطفه، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب ويقرنه

إذا ذكره بما يتبرأ منه، ويعده حجابا بين الأمم والمدنية، بل يعده منبع شقائهم

وسبب فنائهم.

تنبه لذلك أفراد من عقلاء المسلمين في أواسط القرن الماضي من سني

الهجرة، في أقطار مختلفة من بلاد فارس والهند وبلاد العرب ثم في مصر، وكل

منهم بحث في الداء، وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم، ولعلهم يلتقون

يومًا من الأيام عند الغاية إن شاء الله.

مقصد الجميع ينحصر في استعمال ثقة المسلم بدينه في تقويم شئونه، ويمكن

أن يقال: إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما

طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع،

تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد،

واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات

السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة. فإذا سمعت داعيًا يدعو إلى العلم بالدين

فهذا مقصده، أو مناديا يحث على التربية الدينية فهذا غرضه، أو صائحا ينكر ما

عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته، وهذه سبل لمريد الإصلاح في المسلمين لا

مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين،

يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من

عماله أحدا، وإذا كان الدين كافلاً بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل

النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه، وهو حاضر

لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من أحداث ما لا إلمام لهم به لا - فلم

العدول عنه إلى غيره؟

لم يخطر ببال أحد ممن يدعو إلى الرجعة إلى الدين؛ سواء في مصر أو

غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أوغيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين، غير

أن بعض المسيحيين إذا سمع قولاً في الدين أعرض عن فهمه، وأنشأ لنفسه غولاً

من خياله، يخاف منه ويخشى غائلته، يسميه باسم الدين. وبعضهم يظن أنه لو

انتبه المسلمون إلى شؤونهم، ورجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم، لاعتصموا

بجامعتهم، واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم، واستغنوا عمن أدخلوه في أعمالهم

من غيرهم، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم، وهو

سوء ظن من الزاعم بنفسه، فإنه بظنه هذا يعتقد أنه غاش مغرر، وسالب متلصص،

وسوء ظن بالمسلمين أيضا، فإن أهل الوطن الواحد لا يستغني بعضهم عن بعض

مهما ارتقت معارفهم، وعظم اقتدراهم على الأعمال. وغاية الأمر أن ما كان ينال

اليوم بدون حق يصبح وهو لا ينال إلا بحق، والأجنبي الذي كان ينفق الواحد

ويربح المائة، يرجع إلى الاعتدال في الكسب، ويحتاج إلى شيء من التعب في

استيراد الربح، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية؛ وهي في عنفوان

قوتها، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها؛ وهي في أرفع مقام من عزتها.

نعم يعرض في طريق الدعوة إلى الدين على هذا الوجه، أن يلتمس مسلم

بمصر معونة من مسلم آخر بسوريا أو بالهند أو بالعجم أو بأفغانستان أو بغير

هذه الأقطار؛ لأن مرض الجميع واحد وهو البدعة في الدين، فإذا نجح الدواء في

موضع كان السليم أسوة للمريض في موضع آخر، أما السعي في توحيد كلمة

المسلمين، وهم كما هم، فلم يمر بعقل أحد منهم، ولو دعا إليه داع لكان أجدر به

أن يرسل إلى مستشفى المجانين.

يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج، ويقول: إنه صلة

بين المسلمين في جميع أقطار الأرض، ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم، فعليهم

أن يستفيدوا منه. وهو كلام حق، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه، فإن

الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين، حتى يستعين بعضهم

ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم، أو أضل من أعمالهم، وفي مدافعة ما

ينزل بهم من قحط، أو ظلم، أو بلاء، وهو أمر معهود عند جميع الأمم التي تدين

بدين واحد؛ خصوصًا عند الأوربيين.

يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، ويعلقون

آمالهم بهمته، وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له، وهذا أمر لا ينبغي أن يدهش

أحدا؛ فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم، وسلطانها أفخم سلاطينهم، ومنه

يرتجى إنقاذ ما بين يديه من المسلمين مما حل بهم، وهو أقدر الناس على إصلاح

شؤونهم، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد، وتهذيب الأخلاق؛ بالرجوع

إلى أصول الدين الطاهرة النقية. فأي شيء في هذا يزعج أوربا حتى تتحد على

هضم حقوق المسلمين؟ إذا حدثت حوادث مثل الحوادث الماضية، كما يقول موسيو

هانوتو.

بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد، يقول فيه

موسيو هانوتو: إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية من السلطة

المدنية، وهو كلام صحيح. ولكنه لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند

المسلمين. لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت

للبابا على الأمم المسيحية؛ عند ما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر

الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية. وقد قررت الشريعة الإسلامية

حقوقًا للحاكم الأعلى؛ وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة

الدينية. وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب أو

السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا التولية

والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وهذه

الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظامًا لطريقة الحكم،

وعدد الحاكمين، ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين

وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها. وكذلك حكومة مصر أُنشئت فيها محاكم

مختلطة ومحاكم أهلية، بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم،

ولا دخل لشيء من ذلك في الدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى، كما

يطلب مسيو هانوتو. ولكن مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين، بل

كان الأمر معكوسًا، فإن أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين، لما

استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم، والمغالاة في وضع المغارم،

والمبالغة في التبذير الذي جر الويل على بلاد المسلمين، وأعدمها أعز شيء كان

لديها وهو الاستقلال.

إن فرنسا تسمي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق، وملكة إنكلترا تلقب بملكة

البروتستانت، وإمبراطور الروسيا ملك ورئيس كنيسة معا، فلم لا يسمح للسلطان

عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين، أو أمير المؤمنين.

لا أظن أن مسيو هانوتو، يسيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بيناه،

وأظنه يكون عونًا للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنساوية، إذا وجد

فيها من يقوم بها، وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح

الفرنساويين، فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين سابقوا الأوربيين في

اكتساب العلوم، وتحصيل المعارف، ولحقوا بهم في التمدن، وعند ذلك يسهل

الاتفاق معهم إن شاء الله.

سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا كلها، وعدم ثقة سياسييهم بدولة من الدول،

واعتقاد المسلمين بأن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية،

وعدم اطمئنانهم إلى سياسة الدول المسيحية، حتى أدى بهم فقدان الثقة بالمسيحيين،

إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة، وصدق معهم، سمع

بذلك كله موسيو هانوتو من صاحب الجريدة المعروفة؛ ومن بعض العثمانيين في

الآستانة وباريس؛ ثم أخذ يبرهن على أن سياسة أوربا اقتصادية ملكية، لا دينية

لاهوتية.

لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم موسيو هانوتو، ومن أبلغه أخبارهم،

أهم الهنود؟ وهم في حكم دولة أجنبية، ولا نزال نرى في خطبهم وجرائدهم ما يدل

على طاعتهم لحكامهم، وتعليقهم الآمال بعدلهم، والتماسهم الحق من طرقه.

هل هم مسلمو روسيا؟ وثقتهم بحكومتهم وثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد

حتى إن الدولة الروسية تفضلهم على المسيحيين من غير المذهب الأرثوذكسي.

هل هم الأفغانيون؟ وإخلاص أميرهم في مصافاة الإنكليز أشهر من أن يذكر،

ولا ينفي إخلاصه حرصه على بلاده ومحافظته على مصلحتها.

هل هم الفرس؟ واستنامتهم إلى السياسية الروسية لا يجهلها أحد؟

هل هم المراكشيون، وهم بمعزل عن كل ما يسمى سياسة، بل هم في غفلة

عن الدين والدنيا جميعا، شغل بعضهم ببعض، فلا ينفكون يتقاتلون ويتسالبون،

حتى يقضي الله فيهم بقضائه.

هل هم التونسيون؟ وقد أثنى عليهم موسيو هانوتو بما هم أهله، وثبت له

ارتياحهم إلى السلطة الفرنساوية؛ لمجرد ما أطلقت لهم الحرية في دينهم.

لعله لم يقصد إلا العثمانيين كما يدل عليه بقية كلامه، وكما يفيده قوله: أن لا

يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا، والعثمانيون منهم المصريون ومنهم غيرهم. فأما

المصريون فلا شيء عندهم يدل على عدم الثقة بالأوربيين وبالمسيحيين العثمانيين

فإنهم يشاركون في العمل مواطنيهم من الأقباط في جميع مصالح الحكومة، ما عدا

المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين، وهم معهم على غاية الوفاق، خصوصًا أهل

الإخلاص وسلامة النية منهم، ولكل من الفريقين أصدقاء وأحبة في الفريق الآخر،

ثم شأنهم هو ذلك الشأن مع سائر الطوائف المسيحية، إلا من ظهر منهم بالتعصب

البارد للدين، وآذاهم في دينهم أو فى منافعهم الخاصة بهم؛ لا لشي سوى التعصب

الأعمى، ولا نطلب على ذلك شاهدًا أقرب من صاحب الجريدة الذي يحادثه موسيو

هانوتو؛ إنه بعد أن كان على المسلمين أثناء الحرب الروسية العثمانية، وبعد أن

أتى ما أتى عقب الحوادث العرابية، شهد له المسلمون بأنه صديقهم والساعي في

خيرهم، كما افتخر بذلك مرارًا فى جريدتة، وإن كانت له إليهم هنات لا تزال

تبدو من فيه إلى وقت ذلك الحديث. فأين فقد هذه الثقة بالعثمانيين المسيحيين في

مصر؟ هل طرد أحد من خدمة الحكومة؛ لأنه مسيحي عثماني؟ هل حرم أحد حق

المحاماة، أو إنشاء الجرائد، أو المطابع، أو إقامة المصانع، أو تأسيس البيوت

التجارية؛ لأنه مسيحي عثماني؟ فليأت صاحبنا بشاهد واحد.

أما حالهم مع الأوربيين، فإنا نراهم إذا أحسوا بعدل من إنكليزي ذكروه، أو

وصل إليهم معروف من أي عامل أوربي شكروه، بل أزيدك على هذا أن المستغيث

منهم بالحكومة، يطلب منها أن يتولى تحقيق مظلمته إنكليزي، كما شوهد ذلك كثيرًا

في شكاياتهم، وليس بقليل من يعرض شكواه على جناب اللورد كرومر، وهو ليس

بحاكم رسمي. فأي دليل على الثقة أكبر من هذا.

ليس بقليل فى مصر من يثق بالفرنساويين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم

ويعتد بولائهم، ومسيو هانوتو وصاحب الجريدة يعرفان ذلك.

كثيرًا ما أغرى الأوربيون من فرنساويين وأمريكيين من أرباب المدارس في

مصر شبانًا من المسلمين بالمروق من دينهم؛ والدخول في الديانة المسيحية، وفروا

ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية؛ وأحرقوا كبد والديه، ومع ذلك لا

نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارسهم، وناظر المعارف عندنا وزير

مسلم وأولاده يتربون في مدارس الجزويت، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس

الفرير، فأي ائتمان يفوق هذا الائتمان.

زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوربيين؛ خصوصًا في المعاملات،

حتى أساء أولئك الأوربيون استعمالها، وانتهزوا فرصتها، وسلبوا كثيرًا من أهل

الثروة ما كان بأيديهم، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم، ويغالون في الاستنامة

إليهم، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم وعوائدهم، فماذا يطلب من الثقة فوق هذا؟ !

هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شيء مثل ما يشكون من الثقة

العمياء بالأجنبي من غير تمييز فيما هو عليه، من إخلاص أو غش، من صدق أو

كذب، من أمانة أو خيانة، من قناعة أو طمع، حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا

إليه من خسارة المال وسوء الحال، فهل هذا هو فقد الثقة بالأوربيين والعثمانيين

المسيحيين؛ الذي يعنيه حضرة صاحب الجريدة وجناب موسيو هانوتو؟

وأما العثمانيون من غير المصريين، فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها - أيده

الله - وجدنا أن نظام الدولة قاض باستعمال المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في

كل بلد فيه مسيحيون، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشين والرتب ما

يناله المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك، وكثير من المسيحيين نالوا من

الامتيازات والمنافع في الدولة ما لم ينله مسلم، وسفارات الدولة ومناصبها العالية لا

تخلو من المسيحيين.

إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية، وإنعامه عليهم بوسامات

الشرف، واختصاصه لبعضهم بشرف المثول في حضرته، والإحسان إليه برقيق

المخاطبة، لا ينقطع ذكره من الجرائد، صاحب الجريدة التي نقلت الحديث أمثل

شاهد على مثل ذلك، فقد جاهر زمنًا ليس بالقصير بما لا ترضى الدولة بمثله ولا

بأقل منه من مسلم، ثم سهل عليه وهو مسيحي؛ أن يكون موضع ثقة للجانب

السلطانى، حتى أدناه منه وقبله فى مجلسه، وسمع منه أمير المؤمنين تلك النصيحة

المفيدة التي نشرها في جريدته من نحو شهرين، إثر هبوبه لنصرة مسيو هانوتو،

ثم والى عليه إحسانه بالرتب والنياشين وغيرها، فما هي الثقة إن كان هذا فقدها.

أما سياسة الدولة الخارجية: فالفرنساويون يشكون من مصافاة السلطان؛

وثقته بدولة ألمانيا وهي دولة مسيحية، ولا أظنهم يشكون من ثقة أخرى لدولة

إسلامية، وكانت للدولة ثقة لا تتزعزع بالسياسة الإنكليزية، ثم حدثت حوادث

أهمها نشأ من ضعف سياسة موسيو غلادستون، فأعقبها اضطراب في تلك الثقة مدة من الزمان بحكم الضرورة، ثم إنا نراها اليوم تتراجع، وفي رجال

الدولة من لهم ثقة بصداقة روسيا، ويودون لو مالت إليها سياسة الدولة وهم

مسلمون.

والذي أحب أن يعرفه موسيو هانوتو؛ أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول

الأوربية ليست بسياسة دينية، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم. وإنما

كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسة ومدافعة، ولا

دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوربية.

إمبراطور ألمانيا جاء إلى سوريا؛ للاحتفال بفتح كنيسة، فبالغ السلطان في

الاحتفال به إلى الحد الذي اشتهر وبهر. يجيء الأمراء المسيحيون من الأوربيين

إلى الآستانة، فيلاقون من الاحتفال ما لا يلاقونه في بلاد مسيحية، وينفق في تعظيم

شأنهم من المال، ما المسلمون في حاجة إليه، أليس ذلك لمجاملتهم واكتساب مودتهم؟

وهل بعد المودة إلا الثقة بصاحب المودة؟ كان يمكن للسلطان أن يكتفي

بالرسميات ولا يزيد عليها. ولكن عهد في معاملته ما يفوق الرسمي بدرجات، فإن

سلمنا أن سياسة أوربا ليست بدينية من جميع وجوهها. فسياسة الدولة العثمانية مع

أوربا هي كذلك، ومسلموها تبع لها.

فإن قال قائل: إن حوادث الأرمن لم تزل في ذاكرة أهل الوقت، وينسبون

وقائعها إلى التعصب الديني، بل يقولون: إن أسبابها مظالم جَرَّ إليها ذلك التعصب

أمكن أن يجاب بأن العداوة مع طائفة مخصوصة لا تدل على فقد الثقة بكل مسيحي

منها ومن غيرها، ومع ذلك فإن كثيرًا من الأرمن في خدمة الدولة إلى اليوم، وهم

بذلك موضع ثقتها، وهذا وذاك يدل على الريب فيما يزعمون من أن منشأ تلك

الوقائع التعصب الديني. فإن المسيحيين سواهم في الممالك العثمانية أنعم حالاً من

المسلمين، كما شاهدناه بأنفسنا، ولو أنصف الأوربيون لأمكنهم فهم أسباب هذا

الاضطراب الذي يظهر زمنًا بعد زمن في تلك الأقطار، ولسهل عليهم أن يعرفوا أن

منبعه في أوربا لا في آسيا.

لا يغث عليَّ أن أقول: إن المسيحيين في الممالك العثمانية متمتعون بنوع

من الحرية في التعليم والتربية وسائر وجوه الخير، يتمنى المسلمون أن يساووهم

فيه. فهل هذا عنوان سوء الظن بالمسيحيين وعدم الثقة بهم؟ لا يليق بكاتب مثل

صاحب الجريدة؛ أن يروي عن المسلمين كافة مثل ما رواه؛ فإن ذلك مما يحزن

المسلمين والمسيحيين جميعا، وإني أعتقد أنه عند الكلام على المسلمين، لم يكن في

ذهنه إلا بعض أشخاص لم تعجبه آراؤهم فيه، فاستحضر في صورهم جميع

المسلمين وسياسييهم.

ليعلم موسيو هانوتو أن جميع ما يقال له أو يكتبه بعض العثمانيين، لا حقيقة

له إلا في ذهن القائل أو الكاتب، فلا ينبغي أن يعول على مثله في أحكامه، وعليه

أن يحقق الأمر بنفسه؛ إن كان يهمه أن يتكلم فيه.

وأما أن المسلمين أخذوا عليه فيما كتب عن الإسلام؛ مع أنه خدمهم. وقوله:

فكيف بحالهم مع من لم يخدمهم - فنبين له الوجه فيه؛ ليزول عنه ما سبق إلى فهمه

لو اقتصر على الكلام في السياسة، وبحث في علاقة المسلمين مع حكومته، ولم

يسط على الدين نفسه في أصلين من أهم أصوله، لما أخذ عليه أحد إلا من ينتقد

رأيه من جهة ما هو صحيح أو غير صحيح. ولكنه لم يكتف بذلك، وطعن في عقيدة

التوحيد، وبَيَّن رداءة أثرها في المسلمين، واستل سلاحه على عقيدة القدر، وبَيَّن

سوء ما جَرَّت إليه فيهم، وهو بذلك يثبت أن المسلمين لا يزالون منحطين، ما

داموا مسلمين، وهو ما لا يرضاه أحد منهم.

لو لام على المسلمين فيما هم عليه اليوم وفي انحرافهم عن أصول دينهم،

واكتفى بتعنيفهم على إهمالهم لشؤونهم، وغفلتهم عن مصلحتهم، كما جاء في حديثه

الذي نحن بصدده، لما وجد من المسلمين إلا معتبرًا بقوله، متعظًا بنصيحته والسلام.

***

قول اللورد كرومر

في

الجامعة الإسلامية والشريعة

(مأخوذ من ترجمة إدارة المقطم لتقريره الأخير عن سنة 1906)

إذا قلنا: إن الحركة الوطنية المصرية الحالية ليست إلا حركة إلى الجامعة

الإسلامية، لم يطابق قولنا الواقع من كل وجه. ولكن لا ريب في كون هذه الحركة

مصبوغة صبغاً شديدًا بصبغة الجامعة الإسلامية. وهذا الأمر كان معلومًا عندي منذ

زمان طويل، وقد علمه كثيرون من الأوربيين الآن، كما يظهر مما يرد في

الجرائد المحلية؛ ولكن علمهم به أبطأ كثيرا. ويسهل عليَّ إيراد كثير من الشواهد

والأدلة على صحة هذا القول، إذا اقتضى الأمر إيرادها [2] . ولكن أقول الآن:

إن الحوادث التي حدثت في الصيف الماضي، إنما كشفت عنصرًا جديداً من

عناصر الحالة المصرية؛ لأنه ولو سلَّم الإنسان بما لا ريب في صحته؛ وهو أن

الدين أعظم قوة محركة في الشرق [3] وأن الشرقيين لا تحلو لهم حكومة كالحكومة

الثيوقراطية [4] فقد كان يجوز له مع ذلك أن ينتظر.

إن تذكر المصريين لما أصابهم في الماضي واعتبارهم؛ لتقدم بلادهم في

الثروة واليسر في الحال تقدمًا عظيمًا جدًّا بالنسبة إلى ما جاوروها من الولايات

العثمانية، يحولان دون نمو الجامعة الإسلامية في بلادهم أكثر مما حالا في الظاهر،

وإنما قلت في (في الظاهر) لأني رغمًا عن كل الظواهر، لا أزال غير مقتنع بأن

الميل إلى الجامعة الإسلامية متأصل كثيرًا في الهيئة الاجتماعية المصرية، بل إني

واثق أنه لو كان المصريون يعتقدون إمكان إخراج الآراء المتعلقة بتلك الجامعة من

القوة إلى الفعل، لانقلب الرأي العام عليها انقلابًا عظيمًا سريعًا.

ومهما يكن من ذلك، فقد اتضح أن الجامعة الإسلامية عنصر من عناصر

الحالة المصرية؛ التي يجب حفظها في البال، فلذلك يحسن بنا فهم المقصود منها.

المقصود من الجامعة الإسلامية بوجه الإجمال؛ اجتماع المسلمين في العالم كله

على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فإذا نظر إليها من هذا الوجه، وجب

على كل الأمم الأوربية التي لها مصالح سياسية في الشرق، أن تراقب هذه الحركة

مراقبة دقيقة؛ لأنها يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة، فتضرم فيها نيران

التعصب الديني في جهات مختلفة من العالم. وقد أوشكت هذه النيران أن تضطرم

بمصر في الربيع الماضي. على أني أرى قومًا يقولون: إن القلق الذي جرت

الإشارة إليه في مجلس النواب في الصيف الماضي كان وهميا، فأنا لا أوافقهم على

هذا القول مطلقا؛ لأن طبع الطبقات الدنيا من أهل مصر ولا سيما سكان المدن

متقلب كثيرا. فهاجوا من قراءة المقالات التي كانت تصدر في الجرائد الإسلامية

طافحة بالإغراء والكذب هيجانا شديدا دفعة واحدة، وسكنوا دفعة واحدة، كذلك

عندما زيدت عساكر جيش الاحتلال، ولطَّفت الجرائد الإسلامية لهجتها بتشديد

العقلاء من أهل بلادها النكير عليها. ولكن لا ريب عندي أن البلاد كانت عرضةً

لخطر حقيقي برهة من الزمن، فقد جاءتني أخبار وتقارير عديدة عن تهديد

المسيحيين والأوربيين. ثم إن الأخبار الغامضة المبهمة التي تشيع قبل حدوث

الفتن والقلاقل في الشرق عادة؛ شاعت شيوعًا يستحق الاعتبار، حتى تولى الرعب

الأوربيين الساكنين في القطر، فجعلوا يتقاطرون من القرى إلى المدن، ولم

يعترِهم هذا الرعب لغير سبب معقول، فقد شرحت في تقريري عن سنة 1905

(وجه 17-19) ما جرى في الإسكندرية أواخر سنة 1905، حين أفضى وقوع

الخصام بين رجلين يونانيين إلى شغب عظيم، لم يلبث أن انقلب هيجانًا على

المسيحيين. فلو اتفق حدوث حادثة من هذا القبيل في إبان الهيجان الذي حصل؛

بسبب حادثة الحدود بين تركيا ومصر- وحدوثها لم يكن أمرا بعيدا - لأمكن، بل

لترجح أنها كانت تفضي إلى عواقب وخيمة.

أما ما يقوله قوم آخرون من أن ذلك القلق أتي عن سياسة الحكومتين البريطانية

والمصرية في أمور مصر الداخلية، فخالٍ من كل أثر للصحة؛ لأن

القلق كله وليس بعضه فقط نتج عن تصديق خلق كثير من الأهالي الذين كانوا

تحت تأثير الجامعة الإسلامية، لما كان يقال لهم من أن ما كان يجري حينئذ، إنما

كان يقصد به التعدي على رأس الديانة الإسلامية.

ولنعد إلى ما كنا عليه فأقول: إني إن كنت لا أصدق أن الجامعة الإسلامية

تنتج غير اضطرام نيران التعصب في أمكنة متفرقة؛ كما سبقت إليه الإشارة،

فذلك:

أولاً - لأني لا أصدق أن المسلمين يتَّحدون معا ويتعاونون، متى خرجت

المسألة عن القول إلى الفعل.

وثانيًا - لأني واثق بقوة أوربا واقتدارها عند الاقتضاء على تلافي هذه

الحركة من الجهة المادية، وإن كانت غير قادرة على ذلك من الجهة الروحية.

والجامعة الإسلامية أيضًا عبارة عن معانٍ أخرى غير معناها الأصلي. ولكنها

لا تخلو من علاقة به. وهذه المعاني أهم بالنظر إلى ما نحن فيه من المعنى الأعم

الذي سبقت الإشارة إليه.

فمنها أولاً في مصر، الخضوع للسلطان وترويج مقاصده، وهذا المعنى يدل

على دخول عنصر جديد في حالة مصر السياسية. فقد كانت الحركة الوطنية

المصرية دائرة على مضادة التُّرك إلى عهد قريب؛ إذ الثورة العرابية كانت في

الأصل على تركيا والتُّرك، أما الآن فيبلغني أن زعماء الحركة الوطنية يقولون

إنهم لا يقصدون توثيق عرى الاتحاد بين تركيا ومصر، وإنما يقصدون حفظ سيادة

السلطان على مصر. ولكن قولهم هذا يختلف عما كانوا يقولونه منذ عهد قريب

جدًّا اختلافًا جليًا، بحيث لا يتمالك الإنسان عن الظن بأن قولهم الآخر إنما خطر

على بالهم بعدما علموا أنهم إذا وسعوا نطاق العلائق التركية، أبعدوا عنهم أميالا

يتمنون قربها منهم ودوامها معهم. ولكن ليس من الإنصاف تقييد الحزب الوطني

جملة بأقوال يلقيها أفراد قليلون غير مسؤولين على عواهنها. فإذا سلمنا بأن القول

الأخير هو رأي الحزب الوطني الصحيح، فعندي عليه أن سيادة السلطان على

مصر لم ينازع فيها قط على ما أعلم، ولا يحتمل أن يصيبها شيء، ما دام كل ذوي

الشأن في الفرمان - الذي هو اتفاق بين فريقين كما لا يخفى - لا يفعلون شيئًا

خارجا عن دائرة حقوقهم. فحادثة سيناء، إنما بلغت ما بلغت من الأهمية وعظم

الشأن؛ لما خيف من خرق حرمة الفرمان، وما يتصل به من المستندات الرسمية

المحسوبة جزأ منه على وجه يعود بالضررعلى القطر المصري.

وثانيًا إن الجامعة الإسلامية؛ تستلزم بالضرورة تهييج الأحقاد الجنسية

والدينية إلا في ما ندر. فلا شك أن كثيرين من أنصارها ينصرونها عن حرارة

دينية حقيقية، وآخرين يودون لو أمكنهم أن يفرقوا بين القضايا السياسية والدينية،

وبينها وبين الجنسية أيضا؛ إما لأن مبالاتهم بالدين قد قلَّت، حتى أوشكوا أن يحكوا

(اللاأدريين) أو لكون أغراضهم سياسية، أو لكونهم يقصدون تحين الفرص للانتفاع

بها، أو لكونهم اتبعوا الآراء الحديثة عن وجوب التسامح في الدين كما هو مأمولي.

ولكن متى كانت هذه رغبتهم ومقاصدهم، فلا شك عندي أنهم يعجزون عن تنفيذها؛

لأنهم إن لم يقنعوا عامة المسلمين بأفعالهم أنهم من المسلمين المجاهدين، لم

يستطيعوا أن يحولوا انتباههم إليهم، ولا أن يكتسبوا ميلهم أيضا. فالضرورة تقضي

عليهم بتهييج الأحقاد الجنسية أو الدينية: إما ظاهراً أو خفية؛ ليرقوا بيانهم السياسي.

وثالثًا: إن الجامعة الإسلامية تستلزم تقريبًا السعي في إصلاح أمر الإسلام

على النهج الإسلامي، وبعبارة أخرى السعي في القرن العشرين في إعادة مبادئ

وضعت منذ ألف سنة [5] هدًى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة، وهذه

المبادئ منها ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سننًا وشرائع عن علاقات الرجال

والنساء؛ مناقضة لآراء أهل هذا العصر، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم من ذلك كله؛

وهو إفراغ القوانين المدنية، والجنائية، والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا

تحويرًا، وهذا ما وقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام.

فلهذه الأسباب؛ وبقطع النظر عن كل الاعتبارات السياسية، لا يجد المهتمون

بإصلاح مصر بدًّا من استنكار الدعوة إلى الجامعة الإسلامية. ويجب أيضًا بذل

أقصى العناية في السهر على كل ميل طبيعي جائز إلى الجامعة الوطنية؛ لكيلا

تجتذبه على غير انتباه من صاحبه هذه الحركة -حركة الجامعة الإسلامية - التي

هي من أعظم الحركات المتقهقرة، فلا تستحق أن يميل أحد إليها؛ لأنه قد يعسر

على الإنسان أن يميز شبح الجامعة الإسلامية؛ إذا تجلبب بجلباب الجامعة الوطنية

اهـ. كلام اللورد.

(المنار)

إن البحث في هذا الفصل الذي أقام المسلمين هنا وأقعدهم بحق ينحصر في

ثلاث مسائل: (1) الجامعة الإسلامية نفسها وما عده من أسباب استنكارها

وهو (2) إجازة الرق، و (3) مناقضة علاقات الرجال بالنساء لآراء أهل العصر

(4)

الجمود على قوانين وضعت لأهل السذاجة.

(1)

الجامعة الإسلامية

يعرف اللورد كما يعرف جماهير القراء أن السيد جمال الدين الأفغاني كان

أشهر دعاة ما يسمونه الجامعة الإسلامية ذكرا، وأقواهم صوتا، وأكثرهم سعيا،

وأشدهم اضطلاعا، وقد اشتهر عنه أنه كان يحاول جمع كلمة المسلمين على خليفة

واحد أو سلطان منهم، والصحيح أنه لم يكن يدعو إلى ذلك، ولم يخطر له على بال

أن هذا مما تتناوله يد الإمكان، بل قال في معرض تنبيه المسلمين وحثهم على

الوحدة (ولست أعني أن يكون لهم إمامًا واحدًا، فإن هذا ربما كان متعذرًا، وإنما

أعني أن يكون إمامهم القرآن) .

وكان الأستاذ الإمام أعظم أنصاره في عمله بمصر وأوربا، وقد استقر رأيه

بعد السعي معه، والعمل من طريق السياسية والدين معًا على قاعدة (ما دخلت

السياسة في عمل إلا وأفسدته) وكثيرًا ما قال لنا: إن السيد جمال الدين كان أقدر

من عرفنا على الإصلاح، وأنه لولا افتتانه بالسياسة لعمل عملاً عظيما، وأن

الأساس الذي يجب أن يبنى عليه إصلاح حال المسلمين هو تحرير الفكر من قيد

التقليد، وفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف والبدع، واعتباره من

موازين العقل البشري التي وضعها الله - تعالى - لترد من شططه وتقلل من

خبطه، وأنه بهذا الاعتبار يعد صديق العلم، وباعثًا على البحث في أسرار

الكون ، ويتوقف هذا على إصلاح أساليب اللغة العربية وإحيائها في الألسنة

والأقلام.

وقد عرف اللورد الأستاذ المرحوم، وحمد طريقته هذه، وشبهها في بعض

تقاريره بطريقة السيد أحمد خان في الهند، وقال: إن حزبه جدير بالمساعدة

والتنشيط من الأوربيين. والذي نعرفه نحن بعد السيرعلى هذه الطريقة تسع

سنين وأشهرا، أن طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وسوريا وتونس كلهم على

طريقة الشيخ محمد عبده، كما أن معظم المصلحين في الهند على طريقة السيد أحمد

خان، ولا يوجد في غير هذه الأقطار حركة إسلامية إلى الإصلاح إلا في روسيا

وإيران.

فأما مسلمو روسيا فقد ثبت لدولتهم في الحرب الأخيرة وما أعقبته من

الثورة، أنهم خير رعاياها وأسلمهم قلوبا، وهم الآن لا يطلبون من حكومتهم

إلا العدل والمساواة، ومن أنفسهم إلا العلم والثروة.

وأما الفرس فحركتهم محصورة في إصلاح حال حكومتهم، وليس بين هؤلاء

ولا أولئك وبين سائر المسلمين صلات سياسية، ولا أحد منهم يقاوم

الأوربيين؛ وهم يسكنون الأحقاد لا يهيجونها.

فالجامعة الإسلامية بالمعنى الذي يفهم من كلامه لا وجود لها في الأرض،

وإنما يوجد في المسلمين دعوتان: دعوة إسلامية وتنحصر فيما بيَّناه آنفًا وهو ترك

البدع والجمع بين الدين وبين العلم والمدنية، ودعوة وطنية أو سياسية؛ وهي

تنحصر في مطالبة أصحاب السلطة فيهم بما يرقي بلادهم، ويحفظ حقوقهم فيها،

ولا علاقة لهذه الدعوة بالدين، بل كثيرًا ما تخالفه.

نعم إنه يوجد في كل بلاد من القوَّالين أفراد؛ يتخذون اسم الإسلام، والجامعة

الإسلامية، والخلافة الدينية، والخليفة الأعظم، والعالم الإسلامي، وغير ذلك من

الكلمات أناشيد تستمال بها النفوس؛ لتعظيم القائل أو لبذل المال له، وقد يوهم

كلامهم شيئًا مما أشار إليه اللورد، وإننا جازمون بأن هؤلاء لا عمل لهم في الإسلام

يخشى أو يرجى، ولا دعوة لهم تطاع أو تعصي، وإنما مثلهم كمثل أصحاب تلك

الأناشيد في مدح الأولياء، وفي الزهد في الدنيا التي يستعطفون بها الناس ويستندون

بها أكفهم، ومن خشي منهم لغطه. وقد أغنانا عن التطويل في هذه المسألة ما نقلناه

عن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- وهو القول الفصل فيها.

(2)

مسألة الرق

يقول اللورد: إن الشريعة الإسلامية تجيز الرق، ونقول: نعم إنها أجازته

ولكنها ما فرضته فرضا، ولا أوجبته إيجابا، ولا ندبت إليه ندبا، ولا استحبته

استحبابا، بل نقول بعبارة أوجز: إنها لم تجعله كما يخشى اللورد دينا يتقرب به

إلى الله. فيقال: إن المسلمين لا يتركونه، بل أقرت البشر- وكلهم كانوا

يسترقون - على ما في أيديهم من الأرقاء، وشرَّعت لهم العتق وتحرير الرقيق،

وجعلت ذلك دينًا ويُتقرب به إلى الله عز وجل. فتارة على سبيل الوجوب والحتم

الذي لا بد منه، وتارة على سبيل الندب.

ما أجازت الشريعة الإسلامية الرق إلا لأنه قد يكون موافقًا لمصلحة من

يُسترقون: كأن يقتل الرجال في حرب شرعية، ويبقى النساء والأطفال بدون عائل

ولا كافل، فقد يكون من الخير والمصلحة في مثل هذه الحالة أن يسترقوا للعجز

عن الاستقلال في الحياة، فإذا تسرى الرجال بالنساء وولدن لهم كما هو الغالب،

زال رقهن إذ يمتنع انتقالهن إلى ملك آخر، ويعتقن بموتهم، ولا يكون حالهن معهم

في الحياة دون حال الزوجات بالعقد.

وأما الأطفال فإنهم يكونون بمثابة الأولاد؛ إذ المشروع في هذا الدين أن

يكون الرقيق مساويًا لمولاه وأهل مولاه في أكله ولبسه وعمله، وورد في الحديث

النهي عن تسميتهم بالعبيد والإماء، ثم حثت الشريعة على العتق حثًّا شديدا؛ وجعلته

كفارة لكثير من الخطايا، ومن أفضل النذور، ومحللا للحنث باليمين، وهي مع

تضييقها في الاسترقاق، جعلت الرق خلاف الأصل، حتى أن أي رقيق ادعى أنه

حر عدته حرًّا بمجرد دعواه، إلا أن يثبت مدعي ملكه أصل رقيته (ومن أراد زيادة

البيان في هذا فليرجع إلى المجلد الثامن من المنار) .

وجملة القول: إن الإسلام لم يأمر بالاسترقاق. ولكنه أمر بتحرير الأرقاء

وعتقهم، ولم يوجب ذلك على الناس دفعة واحدة؛ لما فيه من الحرج الشديد على

المالكين والأرقاء جميعا، فإن السادة الذين تعودوا أن يقوم عبيدهم بجميع شؤونهم،

لا يمكنهم أن يتركوا هؤلاء العبيد دفعة واحدة؛ لأن نظام معيشتهم يختل، وشمل

مصالحهم يتفرق، كما أن العبيد الذين تعودوا على كفالة غيرهم لهم وكفايتهم أمر

المعاش، يصعب عليهم أن يعيشوا بالاستقلال إذا هم أعتقوا مرة واحدة، كما حصل

في أمريكا، فإن الحكومة لما أبطلت الرق، تحير كثير من الأرقاء في أمر معيشتهم

ورضي كثير منهم بأن يظلوا عند مواليهم كما كانوا، ما كانوا يعاملون بما يأمر به

الإسلام، في مثل حديث الصحيحين وغيرهما، عن أبي ذر رضي الله عنه

قال: (إني ساببت رجلاً (يعني بلالاً) فعيرته بأمه - وفي رواية فقلت له:

يا ابن السوداء - فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن شكا إليه بلال

ذلك: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم

الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما

يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) وقد أورد البخاري

هذا الحديث في كتاب الإيمان؛ للإشارة إلى أن معاملة الرقيق بهذه المعاملة

من شُعب الإيمان، وأورده أيضا في العتق والأدب.

أما والله لو وجد الرق الذي يجيزه الإسلام، وعومل الرقيق بما يأمر به

الإسلام؛ لتمنى ألوف من الناس الذين يموتون جوعا في مثل شوارع لوندره فما

دونها من المدن والقرى في كل مملكة - أن يكونوا أرقاء يشاركون أهل النعمة

والثراء في أكلهم ولبسهم وعملهم، كما أمر الإسلام في مثل هذا الحديث.

أين هذا من أمر التوراة بالرق، ومن سكوت السيد المسيح عليه السلام عن

الوصية به بمثل ما أوصى بعده أخوه محمد عليه السلام؟ بل بعشر معشاره، على

ما كان عليه الأرقاء في عصر المسيح من الظلم والاضطهاد. يقول (بطرس) :

في رسالته الأولى (2: 18) أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة، ليس

للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضا؛ لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل

ضمير نحو الله؛ يحتمل أحزانًا متألمًا بالظلم؛ لأنه أي مجد إن كنتم تلطمون

مخطئين فتصبرون، بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون، فهذا فضل عند

الله، لأنكم لهذا دعيتم) وقال (بولس) في رسالته إلى أهل أفسس (6: 5 أيها

العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم للمسيح) إلخ

وفي رسالته إلى أهل كولوسي (3: 22 أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب

الجسد لا بخدمة العين؛ كمن يرضي الناس، بل ببساطة القلب خائفين الرب)

وغاية ما أُمر به السادة أن يقدموا للعبيد العدل والمساواة، فلا يفضلوا بعضهم على

بعض. فأين هذا من أمر الإسلام بالمساواة بينهم وبين السادة أنفسهم؟ وبجعل

الطاعة في المعروف لا في كل شيء؟ وقد نص الإسلام على كون الطاعة لا

تكون إلا بالمعروف، حتى للنبي صلى الله عليه وسلم. ففي آية المبايعة {وَلَا

يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوف} (الممتحنة: 12) ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا

بالمعروف؛ كما وصفه تعالى في قوله {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَر} (الأعراف: 157) .

وجملة القول: إن الإسلام أجاز الرق ولم يأمر به. ولكنه أمر بالعتق

والتحرير. وأن الديانتين اليهودية والنصرانية أجازتا الرق أيضا، ولم يرد فيهما من

الأمر بالعتق، وتحرير الرقيق، ولا بحسن معاملته ما دام موجودا، بمثل ما أمر به

الإسلام. فإذا سهل على الدول النصرانية إبطال الرق، ولم يمنعها الدين فهو على

المسلمين أسهل؛ لأن الدين لا يكتفي بعدم منعهم منه، بل يحثهم عليه. فدينهم أقرب

إلى هذه الفضيلة المدنية من جميع الأديان؛ فلا خوف عليها منه، وإنما الخوف على

كل فضيلة من الحكام الظالمين الذين يسيئون التصرف بالشرائع والقوانين.

(3)

علاقة النساء بالرجال

جاء الإسلام وجميع الأمم تهضم حقوق النساء على تفاوت بينها في ذلك، فكان

أكثر الرجال يعدون المرأة كالأمة أو المتاع. ومذهب علماء الاجتماع أن الناس

كانوا في أمر الزواج كالبهائم في أطوارها المختلفة، فكانوا أولاً يبيحون كل أنثى

لكل رجل، وكان أول الاختصاص بزوجة أو زوجات، بالسبي واحتكار القوي

من تعجبه من النساء، واستئثاره بها وعدم السماح لغيره بملامستها، إلا أن يكون

ذلك بإذنه، ولا يزال في البشر من لا يرى بمثل هذا الإذن بأسا. ولما صار للزواج

روابط وأحكام دينية أو عرفية، قُيِّدت المرأة فيها بقيود لا ترفعها عن مرتبة الأمة عند

الأكثرين، وبقي في تقاليد كثير من الشعوب والقبائل ما يدل على أصل السبي

وخطف المرأة، وكان كثير من الرجال يتزوجون بنساء كثيرات، لا يتقيدون بعدد،

ويُطلِّقون من شاءوا متى شاءوا، بلا تأثم ولا حرج، وما جاء في اليهودية

والنصرانية من الأحكام والوصايا، لم يرفع قدر المرأة، ولم يقربها من مساواة

الرجل في الحقوق والاستقلال بشؤونها، وقصارى ما تفاخرنا فيه النصرانية منع

تعدد الزوجات، وتحريم الطلاق إلا بعلة الزنا.

أما الإسلام فقد جاء بإصلاح لم يُسبق إليه، ولم تبلغ كنهه أوربا في مدنيتها

حتى اليوم. إذ لا تزال تحجر على المرأة أن تتصرف حتى بمالها بدون إذن

الزوج، ويرجع هذا الإصلاح إلى آيات من الكتاب العزيز:

(إحداها) قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا

إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)

وعلى هذه الآيات بنينا مقالات الحياة الزوجية التي نشرناها في المجلد الثامن،

وتكلمنا فيها عن الطلاق وتعدد الزوجات.

(الآية الثانية) قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى

أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) .

(الآية الثالثة) قوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ

وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) وليراجع تفسيرها في ص 368 م 8.

(الآية الرابعة) قوله جل شأنه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ

أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) .

(الآية الخامسة) قوله وسعت رحمته: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ

بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) .

(الآية السادسة) قوله تبارك اسمه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى

وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3) الآية ويلاحظ مع هذه

الآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129) .

(الآية السابعة) قوله جل ثناؤه: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ

وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً

مَّفْرُوضاً} (النساء: 7) فجعل المرأة تملك وتتصرف كالرجل وفي الحديث أن

المرأة تملك، ولا يحل للرجل أكل شيء مما تملك إلا بإذنها وطيب نفسها.

فهذه الآيات يشبه أن تكون هي أصول الإصلاح؛ وفي معناها آيات مفصلة،

وإن أوربا المدنية على مبالغتها في تكريم النساء، لم تقم هذه القواعد، ولم تأت بكل

ما أمر به الإسلام في ذلك، بل لم تصل إلى درجة جماهير فقهائنا الذين يفرضون

على الرجل للمرأة كل شيء تحتاجه بحسب الاستطاعة، ولا يفرضون عليها له إلا

مواتاته بالاستمتاع بها، وعدم خروجها من داره بدون رضاه، وهما واجبان سلبيان

فكأنما لا يوجبون على المرأة عملاً ما لزوجها، بل يعدون كل عمل تعمله في

إدارة بيته فضلا منها وإحسانا، فهل وصل الأوربيون إلى هذه المبالغة في تكريم

المرأة؟

كلا إنه ليس في شريعة المسلمين من أحكام الزوجية وآدابها؛ إلا ما لابد منه

لسعادة البيت، وإن بيان هذه الأحكام التي وَضَعَت أساسها تلك الآيات منذ ثلاثة

عشر قرن وربع قرن آية على كون الإسلام شرعًا إلهيا، لا وضعًا بشريًّا.

بيان ذلك أنها قد خوطب بها الناس في عصر كانوا أقرب فيه إلى البداوة،

فأفادهم رقيًّا وتهذيبًا بحسب استعدادهم، ثم إننا نرى أن أعلى ما وصل إليه البشر

من الرقي في الحضارة؛ هو دون ما تهدي إليه تلك القواعد والأحكام من الكمال

الاجتماعي، ولعلهم يصلون إليه في يوم من الأيام. وما منع الإفرنج الذين استعدوا

لهذا الكمال من رؤيته في القرآن إلا ذانك الحجابان الكثيفان دونه وهما: المسلمون

الذين صاروا بأعمالهم وأفكارهم حجة عليه، وغلبة الأفكار المادية على أكثر

الباحثين.

يظهر أن الشعور الذي كان مستوليًا على اللورد عندما أفلتت تلك العبارة من

قلمه، كان مزيجًا متولدًا من الفكر في اعتقاد جمهور العالم الأوربي في الإسلام

والمسلمين، والفكر في كثرة الشكاوي التي ترد عليه في خلل المحاكم الشرعية، وما

يقاسيه فيها النساء المطلقات، والضرائر المهجورات، وطوالب النفقات، وما

يلاقين في باب القاضي من الإهانات، وما يقاسين من جمود القضاة على التقاليد

والعادات، وإنها لحالة تحرك عصب الرحمة في الفؤاد، وعضل اللسان بالانتقاد.

ولكن تسعة أعشار الذنب في ذلك على المسلمين؛ وعشره على بعض آرائهم الفقهية

والإسلام نفسه بريء من كل لائمة يشكو منهم بلسان كتابه المنزل أضعاف ما

يشكو جميع المنتقدين، وأنى يسمعون شكواه، وقد ضربوا دونه سوراً من التقليد؛

له باب يسمى باب الاجتهاد؛ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب؟ قد أقفلوه

بأيديهم، فمنعوا بذلك رحمة الله أن تصل إليهم.

طالما انتقد الأوربيون على الإسلام نفسه مشروعية الطلاق وتعدد الزوجات،

وهما لم يُطلبا، ولم يحمدا فيه، وإنما أجيزا؛ لأنهما من ضرورات الاجتماع كما

بينا ذلك غير مرة، وقد ظهر لهم تأويل ذلك في الطلاق فشرعوه، وإن لم يشرعه

لهم كتابهم إلا لعلة الزنا، وأما تعدد الزوجات فقد تعرض الضرورة له، فيكون من

مصلحة النساء أنفسهن؛ كأن تغتال الحرب كثيرًا من الرجال، فيكثر من لا كافل له

من النساء فيكون الخير لهن أن يكن ضرائر، ولا يكن فواجر يأكلن بأعراضهن،

ويعرضن أنفسهن بذلك لمصائب ترزحهن أثقالها، وقد أنشأ القوم يعرفون وجه

الحاجة، بل الضرورة إلى هذا، كما عرفوا وجه ذلك في مسألة الطلاق، وقام من

نساء الإنكليز الكاتبات الفاضلات يطالبن في الجرائد بإباحة تعدد الزوجات؛ رحمة

بالعاملات الفقيرات، وبالبغايا المضطرات. وقد سبق لنا في المنار ترجمة بعض ما

كتبت إحداهن في جريدة (لندن ثروت) مستحسنة رأي العالم تومس في أنه لا

علاج لتقليل البنات الشاردات إلا تعدد الزوجات، وما كتبت الفاضلة مس إني رود

في جريدة (الإسترن ميل) والكاتبة اللادي كوك في جريدة (الايكو) في ذلك

(راجع ص 481 م 4) .

إن قاعدة اليسر في الأمور ورفع الحرج من القواعد الأساسية لبناء الإسلام

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) و {مَا يُرِيدُ اللَّهُ

لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّيْنِ مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) ولا يصح أن يبنى على هذه

القاعدة تحريم أمر تلجئ إليه الضرورة أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة

(كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية وغيرها) وهو مما يشق امتثاله دفعة

واحدة لاسيما على من اعتاد المبالغة فيه كتعدد الزوجات، كذلك لا يصح السكوت

عنه، وترك الناس وشأنهم فيه على ما فيه من المفاسد، فلم يبق إلا أن يقلل العدد

ويقيد بقيد ثقيل؛ وهو اشتراط انتفاء الخوف من عدم العدل بين الزوجات؛ وهو

شرط يعز تحققه، ومن فقهه واختبر حال الذين يتزوجون بأكثر من واحدة، يتجلى

له أن أكثرهم لم يلتزم الشرط، ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي.

وجملة القول في هذه المسألة: إن القرآن أتى فيها بالكمال الذي لابد أن

يعترف به جماهير الأوربيين، ولو بعد حين كما يعترف به بعض فضلائهم

وفضلياتهم الآن. أما المسلمون فلم يلتزموا هدايته؛ فصاروا حجة على دينهم.

ونحن أحوج إلى الرد عليهم والعناية بإرجاعهم إلى الحق منا إلى إقناع غير المسلمين

بفضل الإسلام، مع بقاء أهله على هذه المخازي والآثام؛ إذ لو رجعوا إليه لما كان

لأحد أن يعترض عليه.

(4)

الأحكام المدنية والجنائية

في الشريعة الإسلامية

يُفَرِّق كُتَّاب العصر بين الدين والشريعة، فيعنون بالدين الاعتقاد والعبادات

والفضائل؛ أي ما يراد به إصلاح الأرواح وإعدادها لسعادة الآخرة أولا وبالذات،

وإن كان يفيد في سعادة الدنيا أيضا، ويعنون بالشريعة ما يسوس به الحكام الناس،

ويُفْصِلون به بينهم في الخصومات؛ أي ما يراد به إصلاح أحوال الاجتماع السياسية

والمدنية والجنائية، ومن المعروف أن موسى جاء بدين وشريعة، ومعظم ما جاء به

أحكام دنيوية. وأن عيسى جاء بدين فقط، وأقر اليهود على شريعة موسى، وأن ما

جاء به محمد (عليه وعليهم الصلاة السلام) جمع بين الأمرين، ويعتقد الإفرنج أن

المسلمين لا يفرقون بين الدين والشريعة؛ لأن كلا منهما إلهي عندهم، ولما كانت

الأمور الدنيوية تختلف باختلاف الزمان والمكان حتما، كان من المحال أن توضع

لها شريعة تامة توافق مصلحة الناس في كل زمان ومكان، وهذه مسألة لا يختلف

فيها عاقلان، ومن ثم يعتقد الإفرنج أنه يستحيل على المسلمين أن يجاروهم في

مدنيتهم، ماداموا يعدون شريعتهم التي عليها مدار أمور دنياهم إلهية، لا يجوز فيها

التغيير والتبديل، ولا يفرق فيها بين حال البدو في الصحراء، وحال من بلغوا من

الحضارة ذروة الارتقاء، ويعدون حكامهم رؤساء يتقرب إلى الله بطاعتهم، فلا

يعارضونهم في استبدادهم بهم، ولا يأنفون من استعبادهم إياهم.

لو اعتقد القوم فينا أننا لا نرتقي ما دمنا على شريعتنا وتركونا وشأننا لما

بالينا. ولكنهم يعرضون لنا في شؤوننا ويفتاتون علينا في خاصة أنفسنا، زاعمين

أن المدنية التي سفكوا في وسائلها دماءهم، ووقفوا على مقاصدها حياتهم، وبذروا

بذورها في الشرق بعد أن جنوا ثمرتها في الغرب - لا يرجى أن تنمو لها نبتة ولا أن

تحفظ لها بذرة في مكان للشريعة الإسلامية فيه سلطة، ينشرون هذه الآراء بالكتابة،

ويبثونها في النفوس بالتعليم والخطابة، وقد يضيفون إليها الطعن في قسم العقائد

حتى التوحيد والقدر كما فعل موسيو هانوتو وغيره، منهم من ينطقه الاعتقاد

ومنهم من تملي عليه السياسة، والسياسة تبيح المحرم، وتحل الكذب، وتقلب

الأوضاع، وتأتي المنكرات.

ويقول العارفون بحقيقة ما عليه الشعوب الأوربية من التربية العالية: إن

السواد الأعظم منهم لا يكابر الحق، ولا يرضى بالظلم والهضم، وإن رجال

السياسة في كل شعب منهم قد يحتالون في إقناعه بما تقضي به السياسة من مخالفة

الحق والعدل أحيانا؛ ليجيز عملهم. وإن من أمكنه أن يقنع هذه الشعوب بحق من

الحقوق العامة، فإنه يجد له منهم خير نصير، وأقوى ظهير.

على هذه الطريقة، جرى شيخنا الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) في مناظراته

القولية والكتابية لعلماء الإفرنج وساستهم كرنان وهانوتو وغيرهما، فقد

حجَّ وأقنع منهم جِبِلاًّ كثيرا بأن الإسلام جاء بإصلاح يوافق مصلحة البشر في كل

زمان. وكذلك فعل في ردوده على الشاذين من أهل الشرق الذين يقولون في الإسلام

بغير علم. ويعلم قراء المنار أننا لا نألو جهدًا في بيان التوفيق، بين عقائد الإسلام

وآدابه وأحكامه، وبين العقل والفطرة والمصلحة، وإننا نبني هذا التوفيق على

ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي مضت بالدوران مع

المصلحة في كل حال، بحسبها لا على ما جاء في كتب الفقهاء من الآراء التي أداهم

إليها اجتهادهم، ومنهم المخطئ فيها والمصيب، ونحن عاجزون عن الانتصار لكل ما

في كتب الفقه؛ كما ننتصر لكل ما جاء في الكتاب، ومضت به السنة السنية. على

أن ما ينتقد على الآراء الاجتهادية في فقهنا، ينتقد مثله على القوانين الوضعية. ولكن

المنتقدين يقولون لنا إن ما يظهر خطأه في القوانين يسهل الرجوع عنه، وما يظهر

خطأه في الفقه يتعذر الرجوع عنه؛ لأنه في عرفكم من الدين، وهو قول لا يمكن

دفعه مع الجمود على التقليد، فهدم التقليد شرط يتوقف عليه كل إصلاح ويطلبه

عقلاء المسلمين مع المحافظة على الإسلام، ونشره في عالم المدنية العصرية،

والجمع بينه وبين العلوم والمعارف التي عليها مدار العمران والعزة. وإن طريقتنا

هذه يؤيدها خيار المسلمين من أهل الدين والدنيا؛ كالسلفيين، والقائلين بوجوب

الاجتهاد في الدين، وأكثر المتعلمين على الطريقة العصرية سواء منهم المتدين

حقيقة، والمتدين جنسية وقد صار الذين يصرحون بذلك كثيرين. وأذكر من

الشواهد عن العصريين، قول أحمد شوقي بك شاعر الأمير عباس حلمي باشا في

منظومته التي رفعها إليه؛ يهنئه فيها بميلاد ولي عهد الإمارة (الأمير محمد عبد

المنعم) .

ويا جيل الأمير إذا نشأنا

وشاء الجد أن تعطي وشئنا

فخذ سبلاً إلى العلياء شتى

وخل دليلك الدين القويما

وضن به فإن الخير فيه

وخذه من الكتاب وما يليه

ولا تأخذه من شفتي فقيه

ولا تهجر مع الدين العلوما

فهذه وصية من شاعر الأمير إلى ولي عهده، يأمره فيها باتباع الكتاب والسنة

وعدم اتباع الفقهاء، وقد رضيها الأمير أعزه الله، ولم ينكرها.

ليست طريقتنا هذه بخفية على الإفرنج، فقد كتبت الجرائد الفرنسية عن رحلة

الأستاذ الإمام إلى تونس والجزائر، ما يدل على أنها عارفة بخطته راضية بها،

وذكرت أن آراءه في الإصلاح الديني تنشر في بعض المجلات المصرية؛ تعني بها

المنار، وقد كتب في الجرائد الفرنسية في تونس وأوربا وفي غيرها من الجرائد

الأوربية شيء عن مذهب المنار، ومنه ما كتب في المجلة الفرنسية في أوائل سنة

1905 وهذا نصه:

(المنار)

أُسِس في القاهرة سنة 1897، أسسه الشيخ محمد رشيد رضا أحد كتاب

المسلمين المشهورين؛ تلميذ الفيلسوف المصري الكبير الشيخ محمد عبده مفتي الديار

المصرية، وهو لا يبحث في الجملة إلا في المسائل الدينية والفلسفية، وغايته التي

يرمي إليها هي تعليم المسلمين دينهم على أنقى صورة له، نافيًا عنه الأوهام

والخزعبلات والبدع القديمة وقد قال الشيخ محمد عبده: إن دين الإسلام في شكله

الحقيقي هو غاية ما يطلبه الإنسان من الكمال - هذه هي خطة المنار؛ وهو مجلة

تصدر في الشهر مرتين.

وجاء في عدد آخر منها:

(المنار)

الصادر بالقاهرة في شهر فبراير (أي من سنة 1905) أهم مقالة في

هذا العدد تبحث عن مثال للحكومة الإسلامية، وكاتب هذه المقالة صالح بن علي

اليافعي وهو كاتب هندي [6] قد بين فظائع الحكومة المطلقة التي مقتها القرآن والنبي،

وقد بين هذا الكاتب أن الحكومة الإسلامية كانت في زمن الخلفاء الأولين ديمقراطية

محضة وأن الخليفة نفسه كان ينتقده نواب الأمة الذين كانت مهمتهم مراقبة سيره

مراقبة شديدة.

الإسلام لا يقبل من شكل الحكومة إلا الملكية المقيدة والجمهورية، والجملة أن

كل ضرب من ضروب الحكومة المطلقة يديره أي حاكم مسلم كائنًا من كان، ليس

من الإسلام في شيء. جاءت هذه المقالة عقب جزء من تفسير القرآن للشيخ محمد

عبده اهـ.

والمراد مما تقدم أن الباحثين في أمور الشرق من الأوربيين عارفون بمرامي

طلاب الإصلاح من المسلمين، وأنهم يريدون الرجوع بالدين إلى ما كان عليه في

أول نشأته، غير متقيدين بما وضعه العلماء من التقاليد التي قد تحول دون مجاراة

أهل هذا العصر، بل مسابقتهم في علومهم ومدنيتهم؛ لأنهم يرون أن الكتاب

والسنة يحثان على ذلك، لا يحولان دونه، والمقلدون للفقهاء يرون غير ذلك.

ولا يُعقَل أن يكون اللورد كرومر غير عارف ما عرفه كثير من الأوربيين الذين

لم يقيموا في الشرق كما أقام، ولم يكتنهوا أمر المسلمين كما اكتنهه، فإن كان بعد

هذا الاختبار كله يقول للأوربيين: إن رجوع المسلمين إلى أصول شريعتهم

المدنية وعملهم بها، يرجع بهم إلى طور السذاجة المضادة للحضارة، فإن قوله

هذا أعظم صدمة للإصلاح الذي ندعو إليه؛ لأن كلامه في ذلك يؤخذ بالقبول

عند الأمم الأوربية كلها، ويخشى أن يناهضوا الدعوة إلى الإصلاح في بلادهم؛

ولا شيء يدفع ذلك إلا كلام من اللورد نفسه.

لهذا وقعت علينا عبارة التقرير في القوانين الإسلامية كالصاخة، وأخذنا نجيل

قداح الفكر فيها، فرأينا بعد طول التأمل أن العبارة وإن كان المتبادر منها أنها في

الإسلام نفسه، كتابه وسنته وفقهه، وكل شيء فيه يتعلق بالمعاملات - يجوز أن

تُحمل على الفقه وحده؛ لأن حكام المسلمين لا يحكمون إلا به، إذا هم أرادوا

الرجوع إلى الإسلام، وإنما قلنا: يجوز أن يكون هذا هو مراد اللورد، وإن كانت

عبارته مطلقة تفيد ما هو أعم من هذا، وتشمل الأحوال الشخصية؛ لأن التمسك

بالفقه هو الذي رآه المانع من إصلاح المحاكم الشرعية. كما بينا ذلك بالتفصيل في

مقالة نشرت في المجلد السابع من المنار (ص212) استشهدنا فيها بما قاله في

تقريره عن سنة 1902 وسنة 1903 وبشيء من محاضر مجلس شورى القوانين.

من ذلك أن أحمد بك يحيى (أحمد باشا الآن) اقترح تأليف لجنة لوضع

تقرير في إصلاح المحاكم الشرعية. فقال الشيخ حسونة النواوي " إني لا أعلم أن

المحاكم الشرعية تحتاج إلى الإصلاح في أمر من أمورها " قال في محضر الجلسة:

(تقرر بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) وقد ذكر اللورد هذا في

كلامه عن المحاكم الشرعية في تقريره سنة 1903؛ وهو مع ذلك أعلم الناس بكثرة

شكوى المسلمين من هذه المحاكم.

ومن ذلك أن قاضي مصر قال لما طرحت مسألة إصلاح المحاكم الشرعية

في الجمعية العمومة سنة 1904 ما نصه: (قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم

الشرعية، ونقول: إن أعمال تلك المحاكم ترجع أولا إلى الشرع الشريف، وهذا

لا يمكن لمسلم أن يقول إنه يحتاج إلى إصلاح)

إلخ.

فأمثال هذه الأقوال من كبار الفقهاء؛ هي التي جعلت اللورد كرومر يعتقد أن

هذا الفقه الذي يحكمون به، قد صبغ كله بصبغة الدين، فلا يمكن تنقيحه، وهو

يعتقد قطعًا أنه لا يوافق مدنية هذا العصر، ولا ينطبق على مصالح أهله. أما أصل

الدين وهو الكتاب العزيز والسنة النبوية، فقد يعتقد فيه ذلك، وقد يكون مصدقًا

لطلاب الإصلاح في قولهم لا ينافي المدنية، ويدل على الأخير حثه الأوربيين على

مساعدة حزب الشيخ محمد عبده الذين يطلبون الإصلاح من غير مس لأصول الدين.

وقد حدثني الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أنه كان يكلمه مرة في هذا الموضوع

بمناسبة مقاومة الجامدين لإصلاح المحاكم الشرعية، فأقام المرحوم له الدلائل على

أن الإسلام يدعو إلى كل صلاح، ويناسب كل زمان، فقال له اللورد: أتصدق يا

أستاذ أنني أعتقد أن دينًا أوجد مدنية جديدة، وقامت به دول عظيمة لا يكون أساسه

العدل؟ هذا محال. ولكنني أعلم أن هذه المقاومات أمور (إكليركية) أي: تقاليد

كتقاليد الكنيسة.

تذكرنا هذا، فقلنا في نفسنا: لعل اللورد لا يقصد بعبارة التقرير ما يتبادر منها

لئلا يتناقض ذلك مع ما ذكرنا آنفا. ولكن هذا لا يمكن أن يعرف إلا من - قبله

فكتبنا إليه كتابًا نسأله، أي الأمرين يعني بعبارته: هذا نصه:

القاهرة في 20 ربيع الأول سنة 1325

جناب اللورد العظيم:

أحييك بما يليق بمكانتك؛ وإن لم يسبق لي شرف المعرفة لحضرتك، وأرجو

أن تمن علي ببضع دقائق من وقتك الثمين تجيبني فيها عن السؤال الآتي الذي

يهمني، من حيث أنا صاحب مجلة إسلامية، تدافع عن الدين، وتبحث في فلسفته

وهو:

هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي

وضعت منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه؛ الذي هو عبارة عن القرآن

الحكيم والسنة النبوية؟ أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء؟ فإن كنت

تعني الثاني فهو من وضع البشر؛ وقد مزجت فيه آراؤهم بما يأخذونه عن الأول،

وخَطَّأ فيه بعضهم بعضا، وقد ترك حكام المسلمين أنفسهم العمل بكثير منه، ولطلاب

الإصلاح من المسلمين انتقاد على كثير من تلك الآراء في كل مذهب.

وإن كنت تعني الأول، فهذا العاجز مستعد لأن يبين لجنابكم أن معظم ما

جاء في الدين نفسه من الأحكام القضائية والسياسية هو من القواعد العامة؛ وهي

مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درء المفاسد وجلب المصالح

وبحكم الشورى - وما فيه من الأحكام الجزئية (وهو مقابل المعظم) راجع إلى

ذلك، وأختم رقيمي مودعًا لجنابكم بالتحية والاحترام.

...

...

...

...

منشئ المنار بمصر

...

...

محمد رشيد رضا

كتبنا إليه هذا ونحن نتمنى لو يجيبنا؛ بأنه يبرئ أصل الدين من معارضة

المدنية ونخشى أن لا يفعل، ذلك بأننا نعتقد أن كلامه في الإسلام يؤثر في جميع

الشعوب الأوروبية، ما لا يؤثر كلام غيره، فإذا هم اعتقدوا بشهادته أن الإسلام

نفسه يتفق مع المدنية، ويسير مع العدل، وأن السبب فيما يرى من سوء حال أهله

هو ما ألصقوا به من التقاليد والآراء؛ وجعلوه بهذا الإلصاق دينا، فإن هذا الاعتقاد

يكون أكبر عون لنا على خدمة الإسلام؛ والدفاع عن أهله الذين أصبح معظمهم

تحت سلطة الأوربيين. وإذا هم اعتقدوا بالعكس كان ذلك أشد منفر لهم عن الإسلام

وحامل لهم على إلزام حكوماتهم بالضغط على رعاياهم. وكنا عازمين على أن

نكتب إليه رسالة في بيان أن ما جاء في الإسلام من الأصول الأساسية للأحكام

الدنيوية، يوافق مصالح البشر في كل زمان، ونقدمها إليه مترجمة بالإنكليزية،

ونسأله باسم العدل والإنصاف أن يبدي رأيه فيها، كنا عازمين على هذا لو أجابنا

بأنه يعني بما كتب الإسلام نفسه؛ أو مجموع ما عليه المسلمون من كتاب وسنة وفقه

لأنه يعتقد ذلك، ولا يخاف في إظهاراعتقاده أحد. ولكنه تفضل بالجواب الآتي

بنصه العربي موقعاً ومؤرخًا بخطه الإفرنجي وهو:

حضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار؛

جوابا على خطابكم أقول: إني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي

تسمونها الفقه؛ لأنها هي التي تجري عليها الأحكام، ولم أعن الدين الإسلامي نفسه

ولذلك قلت في هذا التقرير الأخير وفي غيره بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي

الذي يطلب الإصلاح، ويسير مع المدنية من غير أن يمس أصول الدين. ولعل

العبارة التي كتبتها بتقريري كانت موجزة، فلم تؤد المراد تماما، واقبلوا يا حضرة

الأستاذ احترامي الفائق.

...

...

...

... في 4 مايو سنة 1907

...

...

...

...

... كرومر

والقارئ المنصف يرى أن ما استدل به على كونه لا يريد بما كتب الدين

الإسلامي نفسه معقول لا يمكن دفعه بعد تصريحه بأن عبارة التقرير لم تؤد

مراده تمام الأداء، والإنسان أعلم بمراده نفسه. غاية ما كان يقال: إن مراد القائل

يعرف من قوله، وقول اللورد في التقرير يشمل الفقه وينابيعه من الكتاب، ويقال

الآن: إنه استثنى تلك الينابيع بقول آخر مبين لمراده من القول الأول، فليعتبر هذا

القول تصحيحًا، أو تخصيصًا لسابقه، أو استداركًا عليه. ولعل أهل الغيرة

الصحيحة على الإسلام ينشرونه في الجرائد الأوربية؛ ليطلع عليه الأوربيون

الذين قرءوا التقرير، فإنه خير لنا من شهادة بعض المستشرقين بفضل الإسلام؛

لأن المستشرقين يُتهَمون في أوربا بالتعصب للشرق وأهله.

ولا يعذر من يعدون اللورد كرومر عدوًا إذا هم قصروا في نشره؛ إذ يقال لهم

إن شهادة العدو لك أقوى من شهادة الصديق، على أنه بلغنا من مصدر يوثق به،

أن شيخ الأزهر قال للورد عند ما زاره مودعًا له: إننا قرأنا العبارة التي ترجمت

عن تقرير جنابكم في الإسلام، فلم نجد طعنًا فيه ولا مسًّا لكرامته، أو ما هذا معناه.

ولعل مراد الشيخ أن ما ذكر من إجازة الرق، ومناقضة أحكام الزوجية لآراء أهل

العصر، وكون الأحكام المدنية الجنائية لا تتغير، كل ذلك صحيح وحسن عند

المسلمين، فإن لم يستحسنه المخالفون فذلك لا يعيبه، فإذا كان مناقضا لآرائهم فهو

موافق لآراء أهله. ونحن معاشر طلاب الإصلاح لا نقول بهذا، ونعده طعنًا نبرئ

منه الإسلام دون الفقه، ووافقنا اللورد على ذلك.

أما ما يجب أن يعتبر به المسلم العاقل في هذا المقام؛ فهو أننا نعلم علم اليقين

أنه لو تيسر للمسلمين إنشاء حكومة إسلامية، لما رضي جمهور علمائهم ومن

ورائهم العامة، أن يحكم بغير هذه الكتب الفقهية بما فيها من أحكام الرق والزوجية

وغير ذلك على علاته، ومن أكبر علاته الخلاف الكثير في المسألة الواحدة،

واختلاف التصحيح والترجيح فيها، حتى ورد في بعضها بعد ذكر تصحيح قولين

متناقضين في مسألة من مسائل الطلاق (نحن مع الدراهم قلة وكثرة) أي إن

المرجح لأحد القولين المصححين في المذهب هو الدراهم التي يأخذها المفتي من أحد

المستفتين.

بلغ من جمود فقهائنا على هذه الكتب التي يوجد فيها مثل هذه الفضيحة،

أنهم يعدون العدول عنها إلى كتاب يوضع خاليًا من مسائل الخلاف، موافقًا لحال

الزمان جناية على الدين نفسه. ومن عجائب هذا الجمود أن شيخ الإسلام العثماني

لا يفتي بمجلة الأحكام العدلية، ولا يأذن لأحد من المفتين الذين يعينهم بالفتوى منها

وإذا ذكر شيء منها في فتوى، فإنما يذكر بعد النص الفقهي من الكتب المعتمدة

عندهم. على أن الدولة لم تعمل عملاً شرعيًّا أفضل من وضع هذه المجلة، فمن لنا

بجمعية من العلماء العقلاء، تدرس بعد التمكن من علم الكتاب والسنة والفقه وقوانين

الأمم، ثم تستخرج من هذه الشريعة كتابًا يفوقها عدلاً وسهولة، وموافقة لمصالح

البشر في هذا العصر، يكون حجة ناطقة على كل من ينسب القصور إلى الشريعة

أو الدين. وينبغي أن تعزل فيه الأمور الدينية عن القضائية، أو يذكر في أول كل

باب من أبواب المعاملات أو كتبها، ما هو ديني منها، كأن يقال في كتاب

المعاملات المالية: إن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل والغش والخيانة، وأكل

الربا أضعافا مضاعفة، وأوجب الوفاء بالعقود، وأداء الأمانات إلى أربابها.

ويذكر في أول بابا القضاء تحريم الظلم والرشوة، وكون حكم القاضي بالشيء

لا يحله للمحكوم له؛ إذا كان يعلم أنه ليس له. أما هذا الفقه فهو على ما فيه من

محاسن حجة علينا لا لنا، بما فيه من المساوي، وإلى الله المشتكى.

إنا نحن المسلمين قد أمسينا؛ ولا مثل أصدق علينا من قول ابن دريد:

نحن ولا كفران لله كما

قد قيل في السارب أخلى فارتعى

إذا أحس نبأه ريع وإن

تطامنت عنه تمادى ولها

فنحن نرتع في غفلات الزمان ما وجدنا مرعى، فإذا صاح بنا نذير تقلبات

الزمان، نراع ونجفل، وقد نصرخ من الذعر، أو ننتفج انتفاج الهر، فإذا سكنت

نبأة النذير، عدنا إلى سابق التقصير، نرتع ولا نعمل، وإذا وُجِد العامل لإحياء

الدين وإقامة حجته على المخالفين، فإننا نخذله مع المخذولين، أفنرضى أن نكون

في حكم القرآن من الممقوتين الذين يقولون ما لا يفعلون، أو المنافقين الذين يفتنون

في كل عام مرة أو مرتين؛ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون! !

_________

(1)

يعني بالجريدة الأهرام، وقد نشر فيها حديثاً دار بينه وبين هانوتو بعد الرد الأول عليه، وما ننشره هنا هو من الرد على هذا الحديث.

(2)

أشير هنا إلى كتاب ورد عليّ في الربيع خاليا من الإمضاء، ونشر في ورقة من الأوراق التي عرضت على البرلمان، فقد ارتاب بعضهم في صحته، ولكن لا ريب عندي في ذلك على الإطلاق، وقد استغربت شدة اهتمام الناس بأمره، وخصوصا في بلاد الإنكليز فإني ما أرسلته إلى لندن إلا على سبيل المثال لأفكار ومعان ألفتها منذ زمان طويل، ولم يبق عندي ريب في وجودها، ولكنه مفرغ في عبارات أبلغ من المعتاد.

(3)

أقصد بالشرق: البلاد الشرقية التي لي معرفة بها لا الصين واليابان.

(4)

يراد بالحكومة الثيوقراطية: الحكومة التي يعتقد أتباعها أن الله هو الحاكم الأصلي فيها وأن سننها وشرائعها، هي أوامره ومناهيه، لا سنن البشر وشرائعهم، وأن العلماء ورجال الدين هم خدمة الله ومأموروه فيها (المترجم) .

(5)

المنار: اشتهر أن العبارة بالإنكليزية (منذ أكثر من ألف سنة) .

(6)

هو هندي الموطن عربي الأصل يقيم في حيدر آبار.

ص: 200

الكاتب: رضاء الدين بن فخر الدين

‌تشبيه كتاب الإحياء بالقرآن

حضرة السيد منشئ المنار محمد رشيد رضا أفندي سلمه الله وعافاه.

يزعمون أن الإمام النووي قال في حق الإحياء: كاد الإحياء أن يكون قرآنا،

ونقله الشيخ عبد القادر العيدروس باعلوي في كتابه (الأحياء في فضائل الإحياء)

المطبوع في هامش الإحياء. ولا شك أن الإحياء كتاب عزيز، قلما يكون له مثيل.

ولكن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل، من بين يديه، ولا من خلفه.

وكيف يقاس كلام المخلوق على كلام الخالق؟ ونحن نستغرب جدًّا صدور القول من

النووي وإن كان غير معصوم من الخطأ، وقد كنت طالعت في زمان مضى شرح

مسلم لهذا الإمام الجليل. ولكن لا (اتخطر) أني رأيت فيه ما يقرب من هذا القول،

وليس عندنا من سائر تأليفاته شيء، ولذلك جئنا نستفسر رأيكم في هذا الأمر،

وهل القول المذكور منقول من النووي بالسند الصحيح؛ أو رأيتموه في آثاره

المتداولة في تلك الأصقاع بأنفسكم، ويا حبذا لو كتبت هذا في المنار، فلعلنا نستفيد

منه ويستفيد غيرنا، ولكم في ذلك جميل الثناء وكثير الإكرام.

...

...

عضو الجمعية الشرعية ببلدة أوفا سابقا

...

... ومحرر جريدة (وقت) ببلدة أورنبورغ حاليًا

...

...

...

رضاء الدين بن فخر الدين

(المنار)

ليست عبارة النووي - رحمه الله تعالى -بالمكان الذي وضعتموها فيه وإن

صحت نسبتها إليه، فإنها لا تدل على مساواة كتاب الإحياء لكتاب الله، ولا كونه

يقاس به، وإنما هي عبارة يقصد بمثلها المبالغة، واعتبر بحديث أنس عند أبي

نعيم في الحلية (كاد الفقر أن يكون كفرا، وكاد الحسد أن يغلب القدر) فأنت ترى

أن الحديث لا يمكن حمله إلا على المبالغة المعهودة في الأسلوب العربي بمثل هذا

التعبير، وضعف سنده لا ينافي مجيئه على أساليب العرب وقوانين البلاغة،

فمعنى العبارة المعزوة إلى النووي أن كلام الإحياء يؤثر في القلوب ويرغبها في

الهداية، بحيث أن يقال فيه بلسان المبالغة إنه قريب من القرآن في ذلك.

_________

ص: 235

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

من أحمد موسى المنوفي بكلكته

كلكته 17 ربيع الأول سنة 1325

فضيلتلو أفندم صاحب مجلة المنار المحترم

من بعد إهداء التحية، أقول: حيث أفدناكم في خط خصوصي قبل هذا، بأن

غرض الفقير من مكاتبتكم والاشتراك في مجلتكم؛ هو الوقوف على حقيقة قصدكم

من إنكار تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في فهم معنى الكتاب والسنة

وأقوال الصحابة ليس إلا، فنرجوكم الإفادة عن ما إذا كان قصدكم إظهار المخالفة،

لتعرفوا فنعذركم؛ إذ لستم أول من خالف لهذا الغرض، وإن كانت الآخرة خيرًا

وأبقى، وقد يضطر الإنسان في التماس قوته إلى ما لا يجوز {إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ

إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ، فإن كان هذا قصدكم، فنحن نكتفي منكم بالإشارة ولو

من طرف خفي؛ لعلمنا أن ساحة عفو الله واسعة، ورحمته وسعت كل شيء،

وعليه فنكف اليراع عن الاسترسال في موضوع ولجتموه مضطرين، وإن كان قصد

حضرتكم هو رد الأمة إلى الصواب لما تحقق عندكم، وثبت لديكم من خطأ الأئمة

الأربعة أو أحدهم في فهم كلام الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة فالمأمول من

غيرتكم على الشرع الشريف؛ أن تبينوا لنا في أي موضوع أخطأ الأئمة أو بعضهم

في فهم ما ذكر، فإن بينتم لنا ذلك، فالأصل أن تفيدونا عما إذا كان أصحاب

المخطئ منهم أجمعوا على موافقته على الخطأ أو على مخالفته، بحيث تركوا العمل

بقوله بالمرة، وصار العمل على خلاف ما ذهب إليه، أم اختلفوا فمنهم من خالف

ومنهم من وافق، فإن كان الأول فإنا نلتمس من فضيلتكم مع الاحترام لشخصكم أن

تعرفونا: أولا - وجه خطأ الإمام في فهم معنى الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة

المجمع عليها. وثانيا - محل اتفاق أصحابه معه على الخطأ من ذلك العهد إلى

عهدنا هذا، فإن عرفتمونا عن ذلك ولا أخا لكم فاعلين، تبين لي صحة قصدكم،

وسلامة نيتكم، وشدة غيرتكم على الأمة المحمدية، وحرصكم على انتشالها من

مهاوي الضلالة، وحينئذ أضم صوتي مع صوتكم؛ قياما بالواجب وعلى الله إتمام

المقاصد {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران: 110) الآية، (من رأى منكم منكرًا)

الحديث، وإن لم تفعلوا كما هو الراجح، علمنا أن القصد غير صحيح والنية غير

سليمة، وإنما القصد إظهار المخالفة تحيلاً لالتماس القوت، هنا يحسن بي أن أقول

لحضرتكم: إن انتظامكم في سلك محرري الجريدة، يغنيكم عن ارتكاب هذا الشطط

الذي يأباه مقام من يدعى بفيلسوف الإسلام مرة، وبالمصلح أخرى. وإن كان الثاني

وهو اتفاقهم على مخالفة إمامهم فيما أخطأ. أو الثالث وهو اختلافهم في ذلك. فقد

تحقق لدينا أن القوم لم يحابوا إمامهم، ولم يأخذوا أقواله قضايا مسلمة، ولم يتبعوه

إلا فيما تحقق لديهم بالأدلة الصحيحة؛ لأنهم لا يعتقدون عصمته، بل الإمام نفسه لا

يعتقد لنفسه العصمة من الخطأ. ولذا لا نجد إمامًا إلا وقد خالفه أصحابه في كثير من

المسائل، وضَعَّف له أتباعه كثيرًا من الأقوال، فعلام يلام المتبوع وهو مقر بجواز

وقوع الخطأ منه، وبأي دليل يؤاخذ التابع؛ وهو لم يراع لإمامه في مقابل الحق

حرمة. وإن قلت أيها المصلح: نحن لا نعتقد أن الأئمة أو أحدهم لم يفهموا معنى

الكتاب والسنة، بل فهموا ذلك. غير أنهم أو أحدهم قد يسلك سبيل القياس في

مقابل نص القرآن أو صحيح السنة أو إجماع الصحابة، بلا ضرورة ملجئة. فنقول:

إن كان لديكم من ذلك فتفضلوا بتحريره؛ لنكون لكم من الشاكرين، ولخطتكم إن

كان حقًّا من السالكين، وإياكم واتباع الهوى، وسلوك خطة المكابرة أو المغالطة،

فإنا عند ذلك معرضون، وللحق راضخون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ

يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) هذا وإن تفضلتم على الفقير المذنب بالجواب عن

اعتقاده في أن وقوع الخطأ من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ الذين قد قلدهم

في فهم معنى الكتاب والسنة جمهور الأمة إلا قليلا ممن أغواهم الشيطان من زمن غير

بعيد؛ أقل منه ممن أصيبوا في عقولهم، وزين لهم الشيطان أنهم أدركوا من أسرار

الشريعة ما لم يدركه هؤلاء الأئمة؛ حملة الشرع الشريف؛ وإن تقليد أحد الأئمة

المذكورين، أولى من تقليد من ذكرنا من الغواة على فرض أنهم على شيء من العلم

والتقوى. هل أنا الفقير مصيب في هذا الاعتقاد أم لا؟ بينوا تؤجروا ودمتم أفندم.

...

...

...

...

محسوبكم المطيع

...

...

...

... أحمد موسى المنوفي

...

...

...

...

... بكلكته

(المنار)

تعجلنا بنشر هذه الرسالة برمتها على مجيئها قبيل إتمام المنار، وعلى قيام

القرائن السابقة واللاحقة عندنا، بل الدلائل الناطقة على سوء اعتقاد صاحبها بنا،

وظنه أنه قادر على دحض حجتنا والتنفير عن خطتنا، بل على كونها ليست شرطنا

في انتقاد المنار، وهو أن يذكر لنا المنتقد شيئًا مما نشرناه، ويبين بطلانه بالدليل

أو يطالبنا بالدليل عليه إذا نحن أوردناه غفلاً. وليس منه أن يحاسبنا على نيتنا

وكسبنا، أو يُعرِّض بسبنا وثلبنا، أو يخترع لنا رأيًا ويسألنا عنه. نشرنا الرسالة على

هذه كله؛ لنبين لمرسلها أن ما فيها ليس بالشيء الذي يسمى انتقادا، وأننا فيما نحن

عليه من البصيرة ولبينة في الدين، لا نحفل بقول من يقول أو يكتب أننا نخَطِّئ

الأئمة الأربعة، وإن كان ذلك مما ينفر عن المنار جماهير العوام، وكثيرين ممن

يعدون من الخواص؛ الذين يجلون هؤلاء الأئمة إجلالاً خياليًّا تقليديا، لا يوازي

معشار إجلالنا الحقيقي لهم رحمهم الله وجزاهم خيرًا.

وأول ما نقوله في الجواب: إن طريقتنا التي جرينا عليها في المنار ليست

من الوسائل التي يلتمس بها (القوت) - لو كنا معوزين - لأنها مخالفة لأهواء

الأكثرين وآرائهم، ومظنة لأن تكسد سوقها فيهم، وإنما يلتمس القوت من يلتمسه من

أصحاب النفوس الصغيرة؛ من حملة الأقلام بما يرضي الجمهور. وقد صرحنا في

مقدمة المنار بأننا أنشأناه ونحن نتوقع عدم رواجه، وأن أهل الخبرة والرأي

أنذرونا ذلك، ثم ظهر لنا صدق ذلك، وظل المنار أربع سنين لا يأتي من اشتراكه

إلا جزء قليل ينفق عليه، وهو الآن على سعة انتشاره لا يعد ربحه مقصودًا لمن

يقدر أن يربح بغيره؛ إذا تركه أضعاف ما يربح منه، وقد تمر السنين ولا نطالب

أكثر المشتركين بقيمة الاشتراك، بل نترك ذلك لأمانتهم، وما هذا شأن من يعمل

لأجل القوت. ولسنا من محرري الجريدة؛ كما قال في فضوله الذي يشبه سائر

أقواله في كونه رجمًا بالغيب. ثم إننا لقينا من الإيذاء في سبيل المنار ما يعرفه

الكثيرون إجمالاً وتفصيلا، ولا نطيل فإن الإخلاص صلة بين العبد وربه، ومن لم

ير في دعوتنا إلى انتقاد ما نكتب، ونشر ما ينتقد علينا، آية على أننا لا نريد إلا

بيان الحق، فله أن يسيء الاعتقاد بنا كيف شاء، وعلينا أن نسأل له العفو والمغفرة

والهداية من الله تعالى. ثم إننا نتكلم في المقصد فنقول:

ملخص الجوهر في كلامه، أننا ننكر على من نظروا فيما فهم الأئمة الأربعة

من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فاتبعوا منه ما رأوه صوبا، وردوا ما رأوه

خطأ، وسمي هذا الاتباع تقليداً؛ وهو لو وجد لا يعد تقليدا، ونحن لم ننكر ذلك

قط، فإن أصر على زعمه، فليبين لنا مكانه من المنار، وإنما ننكر التقليد في الدين

وهو الأخذ بقول القائل من غير دليل؛ لما قام عندنا من الحجج والدلائل على بطلانه

وبذلك قال الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وما أجاز التقليد إلا ضعفاء

المقلدين الذين خالفوا أئمتهم في استباحة التقليد. أما كون الأئمة أصابوا في فهم

الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؛ فهو لا يمنع بطلان التقليد في نفسه؛ إذ لا ينقض

دلائله، بل ربما يؤكده؛ لأن ما جاز لهم جاز لغيرهم؛ لأنه ليس وحيًا اختصهم الله

به، وجعله فوق كسب سائر البشر، بل هو أمر ممكن يتناوله كسب كل كاسب،

وإن تفاوت الناس فيه و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) . ?

والحق أن المجتهد منهم ومن غيرهم يخطئ ويصيب، بل قال أهل الأصول:

إن اجتهاد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - قد يقع فيه الخطأ. ولكن الله لا يقرهم

عليه، بل يبين لهم الحق فيه، وأنى للأئمة الأربعة وغيرهم بذلك. والمقلدون يأخذون

بما صح في مذاهبهم، وإن بحث العلماء فيه، وبينوا مخالفته للدليل، وليراجع

أصول الكرخي.

أما الدلائل على بطلان التقليد؛ فقد بيناها بالتفصيل في مقالات خاصة وفي

تفسير القرآن، وفي كثير من الفتوى وغيرها، فلا سبيل إلى إعادتها هنا، بل عليه

أن يراجعها في مجلدات المنار السابقة، وله بعد ذلك أن يذعن لها أو أن يرد عليها إن

استطاع، ونحن نعده بنشر رده في المنار؛ بشرط أن لا يتعدى البحث في

الموضوع إلى ما ليس منه؛ كما فعل في هذه الرسالة. ومن أقدم ما كتبناه تفصيلاً

في ذلك (محاورات المصلح والمقلد) وفيها نصوص الأئمة في بطلان التقليد لهم

ولغيرهم، وهي مطبوعة على حدتها في كتاب، فله أن يطلبه من مصر وثمنه مع

أجرة البريد روبية واحدة.

وقد طبع في هذا الأيام أجزاء من كتاب (الأم) للإمام الشافعي؛ وعلى هامشه

مختصر صاحبه الإمام المزني، وهو مفتتح بهذه العبارة بعد البسملة (قال: أبو

إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني - ورحمه الله -: اختصرت هذا الكتاب من علم

محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومعنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه

عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه، وبالله التوفيق) .

ثم ماذا يريد المنتقد من حصره الإنكار في تقليد الأئمة الأربعة؛ فيما فهموه من

الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ هل يريد أنه يجب تقليدهم فيما فسروا به القرآن،

وشرحوا به الحديث وأقوال الصحابة. وعدم تقليدهم فيما اجتهدوا فيه من الأحكام

التي لم يصرحوا بأخذها من هذه المصادر الثلاثة، إن كان يريد هذا وهو ظاهر

عبارته الأولى؛ فقد هدم معظم الفقه الذي يدين الجمهور بتقليده خصوصًا فقه الحنفية،

وإلا فليدلنا على تفسير الإمام أبي حنفية للقرآن، وشرحه للأحاديث وأقوال الصحابة

ليقلدها من يتبع رأيه الجديد، ويترك ما عداها من مسائل الفقه المأخوذة بالقياس

والاستحسان. وإن كان يقول بقول عامة المقلدين أنه يجب تقليد ما في هذه الكتب

من غير القيد بالالتفات إلى مآخذها؛ فما هو معنى العبارة الأولى؟

الموضوع طويل الأذيال، واسع الأردان، صنف العلماء فيه مصنفات كثيرة

وأحسن ما رأيناه فيه؛ هو ما كتبه الإمام ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين)

المطبوع في الهند، ونقلنا كثيرًا منه في المجلد السادس، فعلى المنتقد أن يقرأ ما

كتبنا، وما كتب هذا الإمام وغيره في المسألة، ثم يكتب بعد ذلك ما يظهر له أنه

الحق إن كان طالبًا له. وليعلم أن جماهير المسلمين قد أهملوا الاهتداء بالكتاب

والسنة؛ اكتفاء بهذا الفقه، ثم أهملوا هذا الفقه فقلَّ فيهم من يتعلمه، وقلَّ في

متعلميه من يعمل به، حتى صار الإسلام عند الأكثرين جنسية لا هداية، وقد أخذهم

الله بذنوبهم، وإننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا ترجى لهم هداية إلا بدعوة الكتاب

والسنة والرجوع بالدين إلى ما كان عليه في عهد السلف، ولا نجد حائلاً دون هذا

إلا التقليد الذي صار على بطلانه في نفسه اسمًا بلا مسمى، وهو مع ذلك لا يزيد

المسلمين إلا تفرقًا واختلافًا وضعفًا وهلاكا فنحن نحاول هدمه، وندعو المسلمين

كافة - لا المنتمين إلى المذاهب الأربعة فقط - إلى الاهتداء بما لا خلاف فيه بين

أحد منهم؛ لعلهم يرجعون. وإننا لا نجيز لأحد أن يقلدنا، كما يتوهم المنتقد وغيره

من الذين يتبعون فينا الظن، وإنما نحيل الجميع على الكتاب والسنة، ومتى قرأ

كلامنا بإنصاف عرف ذلك، والله الموفق.

_________

ص: 236

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إخلاص ابن سعود

كتب إلينا من بلاد العرب أن الدولة العلية؛ ظهر لها بعد رجوع العسكر ثم

المفتشين من نجد إخلاص ابن سعود لها، وما كان من كذب ابن الرشيد وغشه،

وأرسل ابن سعود بطلب الآستانة وفدًا إلى السلطان مؤلفًا من صالح بن عذل

وإبراهيم بن عبد العزيز بن رافح وخدمهما وهم أربعة، ولما وصلوا البصرة أكرمتهم

الحكومة جدًّا وسافروا على نفقتها، وأخيراً كتبت الدولة لابن سعود، والظاهر أنها

تطلب منه فيه تأديب قاتلي أبناء الرشيد ظلمًا وعدوانًا.

_________

ص: 240

الكاتب: موسى أفندي جار الله الروسي

تاريخ المصاحف

بقية ما كتبه موسى أفندي جار الله الروسي

(3)

ثم أصيب الإسلام بموت عمر، وولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر،

وسعى الساعون في إيقاع الخلاف بنشر الاختلاف، فدعت الحال إلى نشر المصاحف

المكتوبة على مشهد من الصحابة عظيم، فجمع الصحابة، وكانت عدتهم

يومئذ بالمدينة تزيد على اثني عشر ألفًا، فطلب المصحف من حفصة أم المؤمنين،

وأحضر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن

الحارث بن هشام، فكتبوا خمسة مصاحف من غير تغيير ولا تبديل، عما كان عليه

المصحف الذي كتبه زيد بأمر أبي بكر.

وما ورد عن عثمان في الأنفال وبراءة فإبداء عما كان يراه قبل من أنهما

سورة واحدة؛ إذ لم يقف على بيان من النبي صلى الله عليه وسلم وقد شهد

عثمان النسخ الأول، وقد وقع الإجماع فيه على هذا الترتيب، ولم يبد عثمان خلافًا

فيه، ولو كان له رأي يراه لوجب عليه أن يظهره، وما جرى بين عبد الله بن

عباس وبين عثمان من سؤال وجواب فحكاية لما كان يراه عثمان قبل. وعين زيدًا

أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع

الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن قيس مع البصري، وقرأ

كل مصر بما في مصحفه على هؤلاء الصحابة، ونسخوا من هذه المصاحف الخمسة

مصاحف لا يحصى عددها، فلم يبق في الإمكان كيد الكائدين، ولا وهم الواهمين.

بقي عثمان كذلك اثني عشر عامًا، حتى مات، وبموته حصل الاختلاف،

وابتدأ أمر الروافض. ثم تولى الأمر عليّ وملك، وبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر

خليفة مطاعًا غالب الأمر، ساكنًا بالكوفة، والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان،

وهو يؤم به الناس، والمصاحف معه وبين يديه، ثم بعده ابنه الحسن. وكان علي

يثني ثناءً على أبي بكر وعثمان فيما فعلا في المصاحف. ولو كان وقع من أبي بكر

وعثمان تغيير في شيء بنقص أو زيادة (ولا يمكن ذلك؛ لامتناع تواطئ

الكثير المتفرق على التغيير في شيء، فلو وقع من أحد لظهر ولافتضح المرتكب من

ساعته) ، لما قدر على مذلة التحمل والصبر عليه بعدما تولى الأمر، وهو الذي قاتل أهل الشام في رأي يسير رآه، ورأوا خلافه. وعلي شهد النسخين، ورأس

في كلا الوقتين:

غالب القول فيصلا في القضايا

نافذ الرأي حائز الجلايا

فلا يمكن أن أبا بكر وعثمان قد أسقطا بعض ما نزل في أهل البيت. ولم

يكن أبو بكر وعثمان إلا كغيرهما من الصحابة في شأن جمع القرآن. ولو كان نزل

شيء في أهل البيت؛ لتواتر كسائر الآيات، وكَتْم ما شاع وذاع أمر محال لا

يستطاع [1] .

وعلماء الإمامية - رحمهم الله تعالى - أَجَلّ من أن يقولوا: قد وقع نقص

في القرآن بمكر أبي بكر أو أمر عثمان. والشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي

ابن بابويه، والسيد المرتضى علم الهدى ذو المجد أبو القاسم علي بن الحسين

الموسوي، والقاضي نور الله في مصائب النواصب، والإمام الطبرسي في مجمع

البيان، هؤلاء أعلم علماء الإمامية وأعلام أمتنا الإسلامية، قد قالوا بامتناع وقوع

التغيير في القرآن، وقالوا: إن العلم بتفاصيل القرآن وأبعاضه كالعلم بكله وجملته.

فمن رام في إسقاط بعض آيات نزلت، فليسع أولاً في رفع كل القرآن، وكتم

أخبار انتشرت. وما نقل عن بعض علماء الشيعة من سقوط بعض آيات نزلت، فلا

أرى أن ذلك كان رأيًا لهم يرونه، إنما ذلك من جملة بقايا أخبار كانت تنشر من

عند الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والفتنة في المسلمين، ومن عند الذين يبغون

خبالاً ويسعون فسادًا في الدين.

وقد كانت مثل هذه الأخبار أنفع وسيلة في الحصول على أغراضهم السياسية

ففازوا فوزًا عظيمًا في دعوتهم، ونالوا فوق ما أملوا في كسر شوكة الأمة

الإسلامية وتفريق وحدتهم وقد دس هؤلاء من أباطيل الأخبار شيئًا كثيرًا في

الدين، قد تلقاه واغتَّر به قوم من أهل الخير؛ فأدخلوه في دواوين الأحاديث

والأخبار، وأسفار السنن والآثار.

وقد مَنَّ الله علينا؛ إذ جعل فينا رجالاً عدولاً ميزوا سنن نبينا عن

موضوعات الأخبار، وأكاذيب الآثار، فسقونا من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا

للشاربين. هذا وكل ما ذكرته من تاريخ القرآن والمصاحف فهو حق؛ لأن الأمر

كان ووقع كذلك، ومن ادعى انتصاف الشمس في النهار، فإنما عليه أن يشير إلى

ما هنالك، ومن خالف فلا يعتد به، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم نقلوا

أخبارًا ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته، وإلى قوم أتوا

بأقوال لا يقوم لها من عالم الشهود شاهد، ولو أننا سلكنا مسلكهم، واستجزنا

التدليس على أنفسنا، وارتكبنا ما لم يرتكب سلفنا؛ لأتينا بما يبلس به خصومنا أسفًا

لكن يكفينا في بيان الحق أن نأتي بما كان، وليس من شأن العاقل أن يتمسك بما بَعُد

عن الحق وبان. وحيث وَفَّينا الموضوع بعون الله - تعالى - بما استطعنا من البيان.

وكان ذلك خير ما جنينا، وخيار ما اقتطفنا من حدائق الأعيان، رأينا من واجب

الإحسان علينا أن نأتي بما يدل على امتناع وقوع التحريف في القرآن.

ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في إجمال ما فصله العلماء في ذلك، وأن

نجمع ونلتقط ما انتشر في صحائف الدواوين من هنا وههنا وهنالك.

البرهان الأول: أن النبي- صلى الله عليه وسلم انتقل والصحابة ألوف

مؤلفة ما منهم أحد إلا وهو يحفظ قسطًا وافرًا من القرآن، وفيهم مئات يحفظونه كله

بتمام الضبط والإتقان عن ظهر قلب. ثم إن الكثير منهم تشتتوا إثْر ذلك في الأقاليم

وانتشروا في الأقطار؛ استيطانا بمواطنهم الأصلية، أو تعينًا لعمل من الأعمال

الملكية والدينية. ثم نسخت المصاحف ووصلت إلى هذه الأعداد الكثيرة في المدن

والبلاد، فلو كان وقع تغيير في كلمة أو تحريف في حرف؛ لظهر ولثارت الأمة،

وهاجت الخواطر على جامعي المصاحف، وقاتلوهم قتالا، ولارتد كثير من

الناس؛ لأن اندساس أقل تغيير فيه بجهل العباد، أو وقوع تصرف فيه الأفكار

وكيد أهل الفساد، يقضي بأنه غير منزل من عند الله سبحانه وتعالى لكنا لم

نسمع أن أحدًا من مسلم وغيره عارض في شيء من القرآن، وادّعى ذلك فيه. ولو

وقع حبة تغيير فيه في العصر الأول، لوقع تغييرات في العصور الأخيرة، على

سنن قانون الطبيعة في النمو. لكنَّ القرآن قضى من أجله ثلاثة عشر قرنًا وزيادة،

وملأت المصاحف وجه الأرض وطباقها، ولم يوجد مصحف يختلف عن الآخر

بحرف واحد.

البرهان الثاني: أن القرآن أكبر دلائل النبوة به ظهر الدين وعز شوكة

المسلمين، هو آية ظلت أعناق الجبابرة لها خاضعين، فأذعنوا له بخفض الجناح

طائعين لأوامره، عاملين بأحكامه. فلا يمكن أن يُرضِي الأمة تحريفُ شيء منه،

ولو كان دونه بذل المُهج والنفوس.

البرهان الثالث: من أَلَمَّ بتاريخ الصحابة، ونظر نظرة في صحاح الأحاديث

يعلم أتم العلم ما كانت عليه الصحابة من غاية الاعتناء، ونهاية الاهتمام في حفظ

القرآن وضبطه، حتى مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، ويعرف ما لهم من مزيد

العناية في ضبط الأحاديث، والرواية حفظًا وكتابة، ومن وفور الاحتياط، وعظيم

التثبت عند أدائها، وتبليغها للأمة.

والعقل يحكم طوعًا بالقطع، وضرورة باليقين أن الجم الغفير والجمع الكثير

الذين أخذوا القرآن تلقيًا عنه عليه السلام في تضاعيف عشرين سنة، وضبطوه حفظًا

في الصدور، وثبتًا في الصحائف والسطور، لا يجوز عليهم التخليط فيه ولا التغيير.

وشِعْرُ الأقدمين مع أنه لا يمكن أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا

أن يضبط مثل ضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه مساسها للقرآن، لو زيد فيه بيت

أو لفظ، أو غُيِّر فيه حرف أو حركة، لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه، وطعن

فيه عارفوه، وجحده راووه.

وقد شوهد ذلك في كثير من الأشعار والخطب والأراجيز، يعرفه من يعتني

بلغة العرب ورواياتها.

فإذا كان ذلك مما لا يمكن في شعر الأقدمين. فكيف يجوز وقوعه في القرآن

مع العناية الصادقة، والضبط المتقن، والعلم بأنه دليل النبوة، ونور الشريعة،

وملجأ الأمة؟

البرهان الرابع: أن العلم بالقرآن كله وجملته فاق في الوضوح والاشتهار

أشهر المتواترات من كبار الحوادث، وعظائم الوقائع، ومهمات الأمور،

وحواضر الأحوال، والعلم بآيات القرآن، وسوره، وتفاصيله، وأبعاضه، عند

حفاظه ورواته في العصر الأول، كالعلم به كله وجملته: فإن العناية إذ ذاك توفرت،

والدواعي اشتدت، والقرائح انبعثت إلى حفظه الراسخ، وضبطه المتقن، والغايات

تباينت، والأغراض اختلفت: فمنهم من يضبطه لإتقان قراءته ومعرفة وجوهها

وصحة أدائها. ومنهم من يحفظه لاستنابط الأحكام وبيان تعاليم الإسلام، ومنهم من

يقصد بحفظه معرفة تفسيره ومعانيه، والوقوف على غامضه وغرائبه. ومنهم

من يعجبه بالغ فصاحته، وفائق بلاغته، ورائق أسلوبه، وشائق نظمه، وعجيب

تأليفه. ومنهم من يحفظه استلذاذًا بتلاوته واستحبابًا في كرامته، وتقربًا بقراءته،

وتعبدًا بدراسته، ومنهم من يحفظه لمجرد التشرف بشرف حمله، والقيام بواجب

أدائه وتعليمه وهو الأغلب.

فبالضرورة لا يمكن على أهل هذه الهمم العالية، والأغراض المتفاوتة،

والغايات المتباينة، مع كثرة أعدادهم وتباعد بلادهم أن يجتمعوا على التحريف

والتغيير، ويتواضعوا على التبديل.

البرهان الخامس: لا يخفى على الخبير بعلوم القرآن وطرقه الثابتة؛ أنه لم

يَنْقَضِ عصر الرسالة إلا وتتابع التابعون، وأخذوا عن الصحابة مباشرة، وقل

فيهم من لا يحفظ كل القرآن. وكان الرجل لا يكون عظيمًا في الأعين، ولا يعد

صاحب حديث ما لم يحفظ عشرات آلاف من الحديث. فتتبعوا حفظه الصحابة في

كل زمان ومكان، فما بلغهم أن صحابيًّا كذا، يحفظ آية كذا، بلغة كذا من اللغات

التي نزل بها القرآن - وسأبين معنى اللغات والأحرف في القرآن، بما لا أظن أن

الحق يتعداه إن شاء الله - إلا ارتحلوا إليه وتلقوا عنه، حتى جمعوا القراءات التي

قرأ بها القرآن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء قرن كان حفظ

القرآن عندهم؛ كأنه أمر لازم، وكأن أقطار حوافظهم قد امتدت، ودوائر إحاطتهم

قد اتسعت. فكثر فيهم من يحفظ مئات ألوف من الحديث، ومن يحفظ أشعار

الجاهلية، وأيام العرب، وخطبها، وأمثالها، وأراجيزها، ما لا تسعها ضخام

الأسفار، كانوا يحفظون كل ذلك؛ لأجل القرآن وعلومه، فوضعوا علوم الرسوم

والتجويد والقراءات، وعلوم الدين وكل مبادئها.

وكان من أساس دينهم في الله تشديد النكير على البدع، وشدة الاعتصام بالسنة

الثابتة، والمحافظة على ما ورد، والوقوف عند حد أمر ثبت. وما مضى قرن إلا

وجاء الذي بعده محققًا باحثًا في علوم القرآن، جاريًا على ما جرى عليه سلفه. كل

إنسان أحاط بعلوم القرآن خبرًا يعلم أن طرقه ورسمه واختلاف رواياته كلها

توقيف، لم يتصرف فيها أحد بشيء. فوقوع التحريف في القرآن من مثل هذه الأمة

غير ممكن.

البرهان السادس: الصدر الأول كان محاطًا بالأعداء من اليهود وغيرهم.

وكانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا عمومًا وللنبي عليه السلام خصوصًا،

واقفين له ولقومه بالمرصاد، ناصبين لهم حبائل الفتن، موغرين عليهم صدور

الناس. فلو عثروا على أدنى تحريف أو تغيير؛ لشنوا على جامعي المصاحف غارة

الفتنة، وشنعوا عليهم في جميع القبائل. ولكان ذلك من أعظم الفرص المساعدة على

اتهامهم في نظر الأمة. وأكبر الوسائل المؤدية إلى تفريق الجامعة الإسلامية،

وتشتيت كلمتها.

كانت مدينة النبي- عليه السلام -غاصة بالمنافقين؛ كان عرفهم بسيماهم،

ويعرفهم في لحن أقوالهم، كانوا يحضرون في مجالسه، يسمعون منه، ويقرأون في

من قرأ، ويصلون مع من صلى.

وهم في كل لحظة، يتوقعون هفوة تصدر منه؛ ليتخذوها ذريعة إلى رد الناس

عن الإيمان به، وقد صاحبوا أصحابه بعده، ولم يسمع أن واحدًا منهم قال بتغيير

حرف من القرآن، وهم أولى الناس بذلك وأقدرهم على فرض وقوعه؛ لسماعهم

الأصل من النبي. وتتابع الفتن المساعدة لهم في طعن الدين بأكبر المطاعن.

أمة غربلت أقوال نبيها ونخلتها، وبحثت فيها بحث تدقيق، ونقدتها، وروت

من أخبار العصر الأول ما عليها، قبل نقل ما لها. أمة عنايتها بكلام ربها أضعاف

عنايتها بأحاديث نبيه. يستحيل عليها أنها عكفت على هذا الدين، وفي القرآن أقل

تغيير قاض أنه ليس من عند الله.

أمة إذا سمع عالمها بيتًا من الشعر، واستطلع معناه، قال: هذا مأخوذ من

قول فلان الجاهلي. أيغيب عنها البحث في القرآن؟ هل وقع فيه تغيير وشيء جديد أو هو باق على ما كان عليه تنزيل من حكيم حميد اهـ.

_________

(1)

يريد المؤلف بهذا الرد على ما ينقل عن بعض غلاة الشيعة من زعم كتمان الصحابة لآيات؛ ادعوا أنها نزلت في آل البيت عليهم السلام كما سيصرح به.

ص: 260