الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثاني والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله
غيرك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فنحمدك بما حمدت به
نفسك في كتابك، ونصلي ونسلم على أنبيائك ورسلك {الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ
الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل: 59) وتحياته المباركات وصلواته الطيبات على خاتم
رسله محمد المصطفى، وآله المطهرين وأصحابه الحنفا، وعلى من اتبع هديهم
واقتفى {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) .
سبحانك اللهم وبحمدك، حكمت فعدلت، وقدرت فهديت، وانتقمت فقهرت،
فلك الحمد في السراء والضراء وحين البأس، لا قنوط من رحمتك ولا يأس،
فأسألك من رحمتك العامة للعالمين، ومن رحمتك الخاصة للمسلمين، ووفقني اللهم
للقيام في هذا المنار بالنصيحة الحق، النافعة لكل من بلغته من الخلق، ووفق اللهم
أئمة هذه الأمة وأمراءها، وقادتها وزعماءها إلى ما تخرجها به من ظلمات هذه
الفتن إلى النور الفائض من مطالع آياتك البينات، المنبسط شعاعه على الخلق
بسننك في سير البشر ونظام الكائنات، ليعلموا أن الغلو في الدين، مضيعة للدنيا
والدين، وأن الغرور بالدنيا مهلكة للمغرورين، وأن سنة الله تعالى في رد الفعل
إلى سواء الصراط، يتعاقب في سبيله التفريط والإفراط، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) .
سبحانك الله وبحمدك، أريتنا من آياتك في أنفسنا وفي الآفاق ما يتبين به
الحق، لمن زكت فطرته واستنارت بصيرته من الخلق، فوفقنا لمعرفة ما نراه منها
في هذا الزمان، معرفة اعتبار وحكمة وإيمان، كما وفقت لذلك آباءنا الأولين،
وسلفنا الصالحن؛ لنكون كما كانوا من الأئمة الوارثين، الجامعين بين سيادة الدنيا
وهداية الدين، إذا أوغلنا في الدين نوغل برفق فلا نغلو غلو المغرورين، وإذا
حكمنا بين الناس نحكم بالعدل فلا نعلو علو الجبارين، وإذا تصرفنا بما أحللت لنا
من الزينة والطيبات من الرزق نتصرف تصرف الشاكرين، فلا نستأثر بالنعمة
أثرة المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ
يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} (النحل: 83) .
سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا آياتك فإن جحدها أقوام فقد عرفناها وما نحن
لها بجاحدين، وعرفتنا نعمتك فإن يكفر بها الأكثرون فما نحن بها بكافرين، وقد
أنزلت عقابك الحق بالباغين الجبارين، وبالمترفين المسرفين، وبمن ذل لكبريائهم
ودان لطغيانهم من الجاهلين المفرطين، فاجعل اللهم ذلك عبرة وموعظة لنا، ولا
تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، فقد آن أن يستدير
الزمان، ويتجدد إعجاز القرآن، فيتوب الفاسقون، ويوقن المرتابون ويؤمن
الجاحدون {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *
فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ
يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 1-7) .
سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا من جهل أعلم الناس بشؤون خلقك، ما أقمت
به الحجة البالغة على صدق قولك وإحاطة علمك، فقد غلب الروس الذين كانوا
يعدون الخطر الأكبر على الإسلام، كما غلبت الروم في عهد ظهور النبي - عليه
الصلاة والسلام -، ثم غلبت الشعوب الجرمانية، وظهر جهلها بما كانت به أعلم
الشعوب من الفنون الحربية، ثم ظهر جهل أعلم الأقوام بجمع الثروة وحفظ المال
فكانوا من الخاسرين، وظهر جهل أعلم الأمم بشؤون الإدارة والاستعمار فكانوا من
الخائبين {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِءُونَ} (الروم: 10) .
سبحانك اللهم وبحمدك أنت الواحد القهار، مكور النهار على الليل ومكور
الليل على النهار، الكبرياء رداؤك، والعظمة إزارك، من نازعك فيهما قصمته،
وقد صرفت عن آياتك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، مغترين بما
استدرجتهم به من شدة القوة وسعة الرزق، فلم يعتبروا بما حل من قبلهم ممن كانوا
أشد منهم قوة، ولم يتعظوا بما أنزلت من آيات الوحي وشرعت من هدي النبوة،
واجعل ذلك تربية للمستضعين المتفرقين، وقهرك إياهم سلامًا ورحمة لجميع
العالمين، يعلو بها الحق على الباطل، ويقضي بها العدل على الظلم، ويغلب
القصد والاعتدال والإيثار، على السرف والأثرة والاستكبار، فقد ضاق البشر ذرعًا
بطمع الأغنياء المسرفين، وطغيان الرؤساء الجبارين، الذين طغوا في البلاد
فأكثروا فيها الفساد، واستكبروا على العباد فاستعبدوا الجماعات والشعوب للأفراد،
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ *
أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأعراف: 97-100) .
لقد أَنْذَرْنا أكابر الساسة في مثل هذه الفاتحة منذ عامين، أن ترك تنفيذ قواعد
العدل العام وحرية الأمم لا بد لها من إحدى العاقبتين، بقولنا: إن لا تفعلوه تكن
فتنة في الأرض وفساد كبير، وانقلاب بلشفي شره مستطير، أو تعود الحرب
جذعة، بهذه السياسة الخُدَعة الخُبَاة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا
يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، وقد صدقت الآيات ولم تغن النذر، واتبع
المنذرون أهواءهم وكل أمر مستقر، فهذه الأرض تضطرم بنيران الفتن والفساد،
والانقلاب البلشفي كل يوم في ازدياد، وإنما هو شر على منهومي المال، ومستعبدي
الأقوام ومذلي الأقيال، وقد يشقى ناس فيسعد بشقائهم آخرون، وتثل عروش قرى
عاتية فيرثها قوم آخرون {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ
رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 32-33) .
إن الناس لن يكونوا أمة واحدة، ولن تخضع الأمم منهم لأمة واحدة، ويا أيها
المثرون المترفون والرأسماليون الطامعون، إن طلب الزيادة ينتهي بالوقوع في
النقصان، وإن السواد الأعظم من البشر لا يرضى أن يكون عبدًا خادمًا لأفراد من
الأعيان، وإن سنة رد الفعل سيكون لها القول الفصل، والحكم العدل، ولكن
المجرمين يرون العدل عقابًا والمساواة بين الناس عذابًا، فكيف إذا سبقه الجزاء
على الظلم السابق، والإفراط الماحق، وكان تنفيذه على المعاندين، بمثل القسوة
التي كانوا يسومونها الضعفاء المساكين؟ وإن تبتم قبل أن يحاط بكم فهو خير لكم
{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى
وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأحقاف: 27) .
وأنت يا أيتها الأمة الأمية التي عاودها الارتكاس في عصبية الجاهلية، إلام
هذا التفرق والانقسام، بعد تلك السعادة بالوحدة والاعتصام؟ وحتام تلدغين من
الجحر الواحد مرارًا عديدةً، وقد حذرت من المرتين، وسمعت النذر بالأذنين،
ورأيت العبر بالعينين، ولمست العواقب باليدين؟ وإلى متى تغترين بالمظاهر
والألقاب، وتدعين الفرص تمر بك مر السحاب؟ تداعت عليك الأمم كما أخبرك
النذير؛ إذ كان لهم منك أي ولي وظهير، ورأيت الذين في قلوبهم مرض يسارعون
فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة. وابتغوا عندهم العزة والثروة، فكانت كرتهم
الخاسرة؛ لأنهم خسروا بولايتهم الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإن
كانوا عنه لمن الغافلين {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ
فِي الخَيْرَاتِ بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 53-56) .
فيا قوم إني لكم ناصح أمين، على علم بالحق المبين من هداية القرآن، وأحوال
الزمان، أن لا تعبدوا إلا الله، ولا تيأسوا من روح الله {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود: 3) أخاف عليكم عذاب يوم القيامة
الأولى، قبل عذاب يوم القيامة الأخرى، يوم الخزي والنكال، بفقد بقية الاستقلال،
فقابلوا أولياء الشيطان، بما أمركم به الرحمن، من غير تحريف ولا تصحيف في
القرآن، ولا تغرنكم أيمان أئمة ليس لهم إيمان، ولا يصدنكم عن آيات الله سبب ولا
نسب، ولا رغب ولا رهب، ولا ورق ولا ذهب، فقد برح الخفاء وانكشفت الظلمة،
فلا يكن أمركم عليكم غمة {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 135) .
وما لي لا أخص بالتذكير قومي وعشيرتي، بعد التذكير العام لجميع شعوب
أمتي، بما يشد أسر الجماعة ويضع عنها إصرها، ويحكم أواصر الجامعة ويرفع
لها ذكرها، وهم لا يزالون أشد تلك الشعوب تخاذلاً وتواكلاً، وأضعفهم تعاونًا
وتكافلاً، وأكثرهم تباغيًا وتفاشلاً، وتماحكًا وتماحلاً، وأقلهم تحالفًا وتناصرًا،
وتظافرًا وتظاهرًا، اتحد مسلمو مصر مع القبط فيما يفيد في الدنيا ولا يضر بالدين،
وتعاون مسلمو الهند كذلك مع الوثنيين، وتناصر مسلمو الترك مع الروس أعدى
أعدائهم الأولين، ولكن تعذر الاتفاق في الجزيرة بين أبناء الدين الواحد، واللغة
الواحدة والوطن الواحد، كما تعذر الاتحاد في قطر آخر بين السهل والجبل، بل
بين بلد وبلد، ولولا أن هذه الأمة مرحومة لأبسلت بذنوبها، وهلكت بتفريطها في
أمرها، ومن رحمة الله بها أن باب التوبة لا يزال مفتوحًا في وجهها، وأن مسالك
النجاة ما فتئت مرجوة لها، فما عليها إلا أن تأتي البيوت من أبوابها، وتطلب
المسببات من أسبابها، بتغيير ما أوقعها في سابق غرورها، والتواكل في أمورها،
والاتكال على أيمان مبيرها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} (الأنفال: 53-56) فتدبروا سائر الآيات
وأنتم لا تظلمون {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 20) .
استدار الزمان، ووقع من التطور الاجتماعي ما لم يكن في الحسبان، وسيندك
ما بقي من صروح الاستبداد، وينطلق سائر المستعبدين من مقاطر الاستعباد،
بفضل التظافر والتظاهر والاتحاد، وإنما الذل والهوان، والخزي والخذلان،
والبغي والعدوان، على أهل النفاق والدهان، والمتفرقين في المذاهب والأديان،
والمتعادين في الزعامات والبلدان، والمغرورين بالعهود والأيمان، والقوانين
وحقوق الإنسان، والمخدوعين بكلم العدل والمدنية، والمساواة والحرية، والرحمة
الإنسانية، وإنما المعاهدات حجج الأقوياء على الضعفاء، ولا وجود للعدل
والمساواة، إلا حيث العجز عن الظلم والمحاباة، ولا حق في الحرية ولا في
الرحمة، إلا لذوي الأيد والحرمة، والعاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة [1] ؟ على أن
قاموس السياسة تكثر فيه أسماء الأضداد، فلا تنافي فيه بين التحرير والاستعباد،
ولا تضاد بين الحماية والاستقلال، ولا تناقض بين الإساءة والإحسان، ولا
تعارض بين الكفر والإيمان {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ} (آل عمران: 167) ، {كيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ
وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 8) .
تبًّا للمنافقين المتملقين، وسحقًا للتائبين المستسلمين، وبعدًا للفاسقين الخائنين،
وطوبى للراجين العاملين، فرب خوف أعقب الرجاء، ورب عداء انتهى بولاء
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) .
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
(1)
هذه الكلمة لموقظ الشرق الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مأتم عاشوراء واقتحام الشيعةالنار فيه
س1 من صاحب الإمضاء في زنجبار إلى حضرة جناب الأفخم العلامة
الأستاذ السيد محمد رشيد رضا المحترم دام إقباله.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي بِطَيِّ الأحرف ورقة قطعناها من
الجريدة الرسمية بزنجبار أحببنا أن نطلعكم عليها، مضمونها أن الشيعة الإمامية الاثنا
عشرية يوقدون في ليلة العاشرة من المحرم في حفرة طويلة عريضة نارًا قوية
ويمرون فوقها ولا تحرقهم، وكنا قبل نسمع بهذا العمل أنه في الهند، وهذه السنة
شاهدنا بأعيننا هذا العمل بطرفنا.
ويزعمون أنها معجزة من معجزات أهل البيت، وكذلك يزعمون أن شجرة
في الهند يخرج منها دم في كل شهر محرم، وقد كثر من إخواننا الشيعة بطرفنا مثل
هذه الأشياء، ولولا أن بين أيدينا كتب العلامة ابن تيمية قدس الله روحه لكان أكثر
الناس تشيعوا، وقد عرفناكم بذلك لأجل أن تبينوا لنا الحقيقة على صفحات المنار
حتى ينجلي ما التبس علينا، ولكم من الله الأجر، ومن خلقه الشكر، والسلام.
من صغيركم صلاح الدين بن ناجي بن علي الكسادي
من زنجبار في 23 المحرم سنة 1339.
ترجمة
ما نشر في جريدة زنجبار الرسمية الإنكليزية
أرسل إلينا الوصف الآتي للأعياد المحلية لعاشر المحرم ولعله يلذ القراء:
من المعلوم الذي لا شك فيه أن تذكار استشهاد الحسين هو من أهم الأعياد
الإسلامية؛ لأن أول صدع عظيم حدث في الإسلام كان بناءً على هذا الحادث، أعني
مسألة الحق بالخلافة.
تحتفل فرقة الشيعة في زنجبار كل سنة باستشهاد الحسين بشعور انفعالي
عظيم ذي تأثير شديد، ففي ليلة العاشر من المحرم يضرب المخلصون صدورهم
ورؤوسهم، ويخوضون في النار وهم ينادون باسم محمد والحسين بنغمة مؤثرة
تبكي الناظرين، بل تحزن صدر السنيين، وغيرهم من المتفرجين، ولا يصاب
أحد من المخلصين بضرر، ثم ذكرت الجريدة الرسمية أن عاشوراء هذه السنة
كانت أول فرصة حدث فيها الاحتفال باقتحام النار في جزيرة زنجبار اهـ.
(ج) إن اقتحام بعض أفراد الشيعة الإمامية النار في الاحتفال بذكرى
استشهاد الإمام الحسين السبط عليه السلام في عاشوراء له نظير عند بعض
المنتمين إلى الطريقة الرفاعية وغيرها من طرق المتصوفة، ومنهم من يحمي
حديدة في النار حتى تحمر ثم يلحسها بلسانه حتى تبرد ويزول احمرارها، وكثير
من الناس المنتمين إلى أديان ومذاهب ونحل مختلفة في أقطار كثيرة يأتون بأعمال
غريبة في نظر جماهير الناس.
وهذه الأعمال الغريبة التي تتناقل جميع الأمم أخبارها ثلاثة أنواع:
(أحدها) صناعة الشعوذة التي يحذقها بالتعلم والتمرن وخفة الحركة أناس
كثيرون، فيأتون من الأعمال ما يعجز عنه غيرهم، وقد تخيل إلى الناظر الشيء
على غير صورته أو حقيقته، كأن ترى لسان أحدهم يصيب النار وهو لا يمسها بل
يقرب منها ويلقي لعابه عليها، وأسهل من ذلك اقتحام نار موقدة بسرعة لا تكفي
لعلوق النار بالمقتحم، وقد رأينا بعض الصبيان في بعض قرى سورية يتبارون في
اقتحام نار يوقدونها، وقلما تعلق بثوب أحد منهم.
(النوع الثاني) غرائب حقيقية يستعان عليها بالعلم بخواص الأشياء كعلم
الكيمياء والكهرباء وغيرهما، وإنما تكون غرائب عند الجاهل بأسبابها، وكذلك
النوع الأول، إنما يراه غريبًا من يجهل تلك الصناعة وما فيها من الحيل والتخيل.
(النوع الثالث) غرائب مصدرها تأثير النفس الإنسانية بقوة إرادتها وغيرها
من الخواص الروحانية كاستعدادها للعلم ببعض الأمور الواقعة أو المستقبلة من غير
طريقي الحس والفكر، وهذا النوع يتفاوت أهله فيه تفاوتًا عظيمًا بالاستعداد الفطري
وبالرياضة الروحية.
والمتكلمون يطلقون على كل ما جاء على خلاف المعروف المعهود مما لا
يعرف له سبب كلمة (خوارق العادات) ، ويعدون منها الآيات التي يؤيد الله تعالى
بها رسله عليهم السلام ويسمونها المعجزات، والخوارق الحقيقية لا تتكرر
كثيرًا؛ لأن ما يتكرر هو عادي؛ لأنه يعود كما بدأ، وكل ما كان من علم أو
صناعة أو قوة نفسية تستخدمها الإرادة البشرية فهو من جنس المعتاد ويتكرر؛ لأن
صاحبه يفعله بإرادته واختياره، وانحصاره في أفراد وفئات من الناس هو
كانحصار سائر الصناعات والعلوم في متعلميها ومزاوليها وقوة الاستعداد الجسدي
في أهلها.
وأما آيات الرسل التي أيدهم الله تعالى بها للدلالة على صدقهم في دعوى
الرسالة عنه فليست مما تتعلق به قدرتهم وإرادتهم بحيث يأتونها متى شاؤوا كسائر
أفعالهم الاختيارية ولا مما يتلقى بالتعليم، ولذلك أمر الله تعالى خاتم رسله الذي
أكمل دينه به أن يجيب من اقترحوا عليه الآيات بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} (العنكبوت: 50) بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: 93) ولكنها من شؤونه تعالى يجريها على أيديهم متى شاء، إما بغير
كسب منهم ألبتة كإعجاز القرآن وعصا موسى، وإما مقارنة لكسب ما منهم يأتونه
بإذنه ليس له من التأثير في خرق العادة إلا الصورة؛ كرمي نبينا - صلى الله عليه
وسلم - المشركين بقبضة من الرمل على البعد منهم أصابت أعينهم على كثرتهم
وبعدهم عنه واختلاف أوضاعهم وحالاتهم عند الرمي، وذلك قوله تعالى له: {وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ومن هذا القبيل إبراء الأكمه
والأبرص وإحياة الموتى لعيسى عليه السلام وإن جاز أن تكون قوة روحانيته
الوهبية هي المؤثرة بإذن الله تعالى فيه، وكرامات الأولياء أكثر ما تكون من النوع
الثالث للغرائب.
وأما السحر فليس من خوارق العادات في شيء، وإنما هو صناعة تؤخذ بالتعلم
والتمرن وتدخل فيما ذكرنا من أنواع الغرائب المعتادة التي يقصد بها الكيد والمكر
والخداع، ولذلك اتهم فرعون السحرة بأن ما فعلوه مع موسى مكر مكروه في المدينة
متواطئين عليه، وقال تعالى لموسى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ
حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) وقال في تأثير كيدهم وشعوذتهم فيه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) وذكر أن هاروت وماروت كانا يعلمان
الناس السحر ببابل، وخوارق العادات لا تكون بالتعلم كما تقدم؛ وفاقًا لما قاله الشيخ
محيي الدين بن العربي.
إذا تدبر السائل ما تقدم علم أن ما ذكره من اقتحام بعض الشيعة للنار هو مما
ذكرنا من العادات المكررة، والشجرة التي زعموا أنها تقطر دمًا في شهر المحرم لا
وجود لها، فأنا لم أسمع بها قبل ورود هذا السؤال، لا في بلاد الهند أيام كنت فيها
ولا في غيرها، ولما جاء هذا السؤال سألت بعض أفاضل الشيعة الذين يعرفون
الهند وإيران والعراق، فقال: لم نسمع بذكر هذه الشجرة في الهند ولا في إيران
ولا في العراق. وهذه الأقطار الثلاثة هي مواطن الشيعة الإمامية ومأوى الملايين
منهم، وفيها معاهدهم الدينية الكبرى، فكيف يجهل فيها أمر هذه الشجرة ويعرف في
زنجبار وحدها؟ !
وهب أن ما ذكر من اقتحام النار لا دخل فيه لصنعة ولا خفة وأنه كرامة لأهل
بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي دخل في ذلك لمذهب الإمامية
ومقتض لترك غيره إليه؟ وهل هو إلا مذهب موافق لسائر مذاهب المسلمين
المعروفة في أكثر مسائل العبادات والمعاملات، ومخالف لها في مسائل قليلة كما
يخالف بعضها بعضًا، وجميع أصحاب المذاهب الإسلامية يجلون آل بيت رسول
الله عليه الصلاة والسلام ويحبونهم ويوالونهم ويرون أنهم أهل لكل كرامة من
الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا ما شذ فيه بعض الخوارج الذين يتبرؤون من أمير
المؤمنين علي المرتضى - كرم الله تعالى وجهه - ومن أفراد آخرين من الصحابة
وأئمة الدين. وأس الإسلام ما أجمع عليه المسلمون ولا سيما في الصدر الأول،
وكل ما وقع فيه الخلاف بين أئمة العلم والفقه فهو من المسائل غير القطعية في
الدين التي يختلف فيها الاجتهاد، ولا ينحصر الصواب فيها بفرد من الأفراد، وفي
كل من المنتمين إلى المذاهب المنتشرة صالحون وطالحون، وأبرار وفجار، فإن
أوتي أحد الصالحين من أهل مذهب منها كرامة فلا وجه لجعلها حجة في ترجيح
مذهبه على سائر المذاهب في جميع المسائل الخلافية ولا في بعضها، ولو كان
حجة لاستغنى به عن الاجتهاد والاستدلال.
***
استطراد في تفرق المسلمين
والعبرة بمأتم عاشوراء
سبق لنا البحث في أمثال هذه المسائل مرارًا، وإنه ليحزننا أننا لا نزال في
أشد الحاجة إلى تكرير تذكير عامة إخواننا المسلمين من جميع المذاهب في جميع
الأقطار بأنه قد آن لهم أن يتركوا هذا التغاير والتناظر في المذاهب الذي أضعف
الدين، وفرق كلمة المسلمين، فإن المصائب العامة المشتركة أفصح معلم، وأحكم
مؤدب، وقد توالت عليهم نذرها، ووضحت لهم عبرها، ولا سيما في هذه السنين،
{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) بلى قد رأى الأكثرون ما لم يكونوا يرون، ولكنهم لا يزالون
يعمهون، وقد أضاعوا معظم الفرص، ولا يزال لديهم مجال للعمل، فإن أضاعوا
بقية الفرصة فهم هالكون.
قد كانت ذكرى قتل الحسين وإقامة المآتم له مما يقصد به غلاة الساسيين من
الباطنية وأتباعهم زيادة التفريق بين المسلمين، وتأريث الضغائن والأحقاد بينهم،
استرسالاً مع تلك الدسائس المجوسية التي دست في الصدر الأول الكيد للمسلمين
الذين أزالوا ملك المجوس وسلطانهم الديني وملكهم الكسروي، وكان جميع
الصادقين في الإسلام من شيعة آل البيت النبوي وغيرهم غافلين عن ذلك جاهلين
به، وظل بعض المتعصبين يقصد بمثله في بعض الأوقات تقوية العصبية والتذكير
بأخذ الثأر من المعتدين الظالمين، ولكن من هم اليوم؟ وإعادة الحق إلى الأئمة
الوارثين، وأين هم اليوم؟ فعل العباسيون ببني أمية فعلتهم، وفعل العبيديون
بالعباسيين فعلتهم، وصار المسلمون دولاً كثيرة أحاط بها الخطر منذ قرنين أو أكثر،
فأي استعداد اتخذ لذلك في مجموع الأمة الإسلامية، أو في أي مملكة من ممالكها؟
أين هم من العمل بما صح مِن أن مَنْ مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة
جاهلية؟ لقد مزقوا نسيج الوحدة، ولم يبق من الجامعة الدينية في أي جماعة منهم
إلا أسباب الفرقة، ولقد صار هذا المأتم كسائر ما أحدث المسلمون المختلفو المذاهب
من الاحتفالات باسم الدين، عادات تقليدية تشبه الملاهي التي يجتمع الناس لسماع
القصص التاريخية والخيالية، بل هي أقل فائدة وأكبر ضررًا من تمثيل القصص
المذكورة في الأمم الحية.
لو كان المسلمون يعيشون عيشة الجد لجعلوا الاجتماع في عاشوراء لذكرى
مولد الإمام الحسين - عليه رضوان الله وسلامه - وسيلة سياسية لإحياء المقصد
العظيم الذي بذل هذا السبط الشهيد السعيد حياته العالية الغالية في سبيله، لا حدثًا
دينيًّا يزيد تفريق الكلمة، ولا لعبًا بالسلاح والنار وندبًا بالخطب والأشعار لا يبعث
على إقامة حق، ولا تجديد ملك، بل هو إما أن يضر وإما أن لا ينفع، ذلك المقصد
الذي لم ترتق أمة من الأمم الراقية في هذا العصر إلا على أيدي رجال من أهله
يصح أن يسموا حسينيين بما كان من استهانتهم بالحياة الدنيا في سبيل دك سلطان
الظلمة المستبدين بأمتهم، وإقامة سلطة عادلة مقيدة برأي الأمة مكانها، ذلك هو
الإمام الأعظم لمن تسميهم الأمم العزيزة اليوم بالفدائيين المنقذين لها، فهل يوجد أحد
من زعماء مأتم عاشوراء في قطر من الأقطار بث هذه الفكرة فيه، أو فكر فيها؟
***
شاهد تاريخي في مأتم عاشوراء
كان الباطنية من زنادقة المجوس وغيرهم ممن قبل دعوتهم قد اتخذوا شيعة
آل البيت ذريعة إلى مقصدهم السياسي الذي ذكرناه آنفًا، وسبق لنا بيانه من قبل،
وكان جل كيدهم موجهًا إلى جعل ملك الإسلام في قبضتهم ليمكنوا من قتله بسيفه،
وقد نجحوا بتأسيس الدولة العبيدية الفاطمية بمصر، ولكن هذه الدولة زالت قبل أن
يتمكنوا من إزالة الإسلام بها، وهذه الدولة هي التي أحدثت مأتم عاشوراء في مصر
للمقصد الذي قامت به، وإننا نورد من تاريخ المقريزي الشهير صفة مأتم عاشوراء
عندهم وهو:
***
ما كان يعمل في يوم عاشوراء
قال ابن ذولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله: في يوم عاشوراء من سنة ثلاث
وستين وثلثمائة انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين: قبر كلثوم
ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين -
عليه السلام وكسروا أواني السقائين في الأسواق، وشققوا الروايا، وسبوا من
ينفق في هذا اليوم، ونزلوا حتى بلغوا مسجد الربح، وثارت عليهم جماعة من
الرعية أسفل، فخرج أبو محمد الحسين بن عمار وكان يسكن هناك في دار محمد
بن أبي بكر، وأغلق الدرب ومنع الفريقين ورجع الجميع فحسن موقع ذلك عند
المعز، ولولا ذلك لعظمت الفتنة؛ لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور
وعطلوا الأسواق، وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز بمصر، وقد كانت مصر
لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر
نفيسة، وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان في
الطرقات بالناس ويقولون للرجل: من خالك؟ فإن قال: معاوية. أكرموه، وإن
سكت لقي المكروه، وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور قد وكّل بالصحراء ومنع
الناس من الخروج.
وقال المسبحي: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة ست وتسعين وثلثمائة
جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى
جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد، ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي
القضاة عبد العزيز بن النعمان سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال
لهم: لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم ولا تؤذوهم، ولا
تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة
منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا على الشارع
بجمعهم، وسبوا السلف، فقبضوا على رجل ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة
وزوجها صلى الله عليه وسلم وقدم الرجل بعد النداء وضرب عنقه.
وقال ابن المأمون: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة خمس عشرة
وخمسمائة - عبي السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر التي كان يسكنها
الأفضل ابن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يعبى في غير
المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم،
والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات،
وجميع الخبز من شعير، وخرج الأفضل من باب فرد الكم، وجلس على بساط
صوف من غير مشورة، واستفتح المقرئون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم،
وحمل السماط لهم، وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر
السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفى إلى آخر السماط، ثم رفع وقدمت صحون
جميعها عسل نحل، ولما كان يوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة جلس
الخليفة الآمر بأحكام الله على باب الباذهنج - يعني من القصر - بعد قتل الأفضل،
وعود الأسمطة إلى القصر على كرسي جريد بغير مخدة متلثمًا هو وجميع حاشيته،
فسلم عليه الوزير المأمون وجميع الأمراء الكبار والصغار بالقراميز، وأذن للقاضي
والداعي والأشراف والأمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثمون حفاة، وعبي
السماط في غير موضعه المعتاد، وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان
في الأيام الأفضلية، وتقدم إلى والي مصر والقاهرة، بأن لا يمكنا أحدًا من جمع ولا
قراءة مصرع الحسين، وخرج الرسم المطلق للمتصدرين والقراء الخاص والوعاظ
والشعراء وغيرهم على ما جرت به عادتهم، قال: وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع
عشرة وخمسمائة اعتمد الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية من المضي فيها
إلى التربة الجيوشية، وحضور جميع المتصدرين والوعاظ وقراء القرآن إلى آخر
الليل وعوده إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة
على الأرض متلثمًا يرى به الحزن، وحضر من شرف بالسلام عليه، والجلوس على
السماط بما جرت به العادة.
قال ابن الطوير: إذا كان اليوم العاشر من المحرم احتجب الخليفة عن الناس،
فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيروا زيهم فيكونون كما هم
اليوم، ثم صاروا إلى المشهد الحسيني، وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر،
فإذا جلسوا فيه ومن معهم من قراء الحضرة والمتصدرين في الجوامع جاء الوزير
فجلس صدرًا، والقاضي والداعي من جانبيه والقراء، يقرؤون نوبة بنوبة، وينشد
قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرًا يرثون به أهل البيت عليهم السلام فإن
كان الوزير رافضيًّا تغالوا، وإن كان سُنيًّا اقتصدوا، ولا يزالون كذلك إلى أن تمضي
ثلاث ساعات فيستدعون إلى القصر بنقباء الرسائل، فيركب الوزير وهو بمنديل
صغير إلى داره ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب،فيجدون
الدهاليز قد فرشت سماطها بالحصر بدل البسط، وينصب في الأماكن الخالية من
المصاطب دكك لتحلق بالمصاطب لتفرش، ويجدون صاحب الباب جالسًا هناك،
فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القراء
وينشد المنشدون أيضًا، ثم يفرش عليها سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس
والملوحات والمخللات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النحل، والفطير والخبز
المغير لونه بالقصد، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة وأدخل
الناس للأكل منه، فيدخل القاضي والداعي ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير،
والمذكوران إلى جانبه، وفي الناس من لا يدخل ولا يلزم أحد بذلك، فإذا فرغ القوم
انفصلوا إلى أماكنهم ركبانًا بذلك الزي الذي ظهروا فيه، وطاف النواح بالقاهرة ذلك
اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر فيفتح الناس بعد ذلك وينصرفون
اهـ ما جاء في تاريخ المقريزي عقب الكلام على المشهد الحسيني وذكر خلاصة مقتل
الإمام الحسين، ثم قال في باب بيان أعياد الفاطميين ومواسمهم ما نصه:
(يوم عاشوراء) كانوا يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ويعمل فيه
السماط العظيم المسمى سماط الحزن، وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسيني فانظره،
وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير، فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب
يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم
ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون، ويدخلون الحمام جريًا
على عادة أهل الشأم التي سنها لهم الحجاج في أيام عيد عبد الملك بن مروان
ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - الذين يتخذون يوم
عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي؛ لأنه قتل فيه، وقد أدركنا بقايا
مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط، وكل الفعلين غير
جيد، والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف فقط، وما أحسن قول أبي الحسين
الجزار الشاعر يخاطب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، وكتب بها إليه ليلة
عاشوراء عندما أخر عنه ما كان من جاريه في الأهراء:
قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي
…
والسيد بن السيد بن السيد
أقسم بالفرد العلي الصمد
…
إن لم يبادر لنجاز موعدي
لأحضرن للهناء في غد
…
مكحل العينين مخضوب اليد
يعرض للشريف بما يُرْمَى به الأشراف من التشيع، وأنه إذا جاءه بهيئة
السرور في يوم عاشوراء غاظه ذلك؛ لأنه من أفعال الغضب، وهو من أحسن ما
سمعته في التعريض، فلله دره.
_________
الكاتب: محمد أبو زيد
خطبة للشيخ محمد أبو زيد
خطبها في الاحتفال برأس السنة الهجرية سنة 1339
…
...
…
...
وفيها اتفاقية الصلح بين الرسول وخصومه
أحمد الله تعالى ثم أقول: في هذا الأسبوع توالت الأعياد الثلاثة: العيد
المصري (عيد النيروز) والعيد العبري، والعيد الهجري، وتوالي هذه الأعياد
يبشرنا بأن الخير سيتوالى على مصر وأبنائها.
***
الحوادث مرجع التاريخ
جرت عادة الأمم على أن تؤرخ بالحوادث، فإذا كانت لها حادثة مهمة جعلتها
مبدأ لتاريخها، انظر العرب قبل الإسلام كانوا يرجعون إلى الحوادث في التاريخ،
فيقولون: عام الفيل، ويوم الحرب الفلانية، وانظر المسيحيين جعلوا تاريخهم حادثة
الشهداء الذين اضطهدهم الرومان وأبوا إلا أن يموتوا ضحية دينهم ومبدئهم.
***
فوائد الاحتفال بالأعياد
وفي الاحتفال بالأعياد فوائد ينبغي لنا أن نراعيها، منها إحياء ذكرى العاملين
وتخليد آثارهم لنقتدي بهم في خلقهم وعملهم، ومنها ارتباط الحاضر بالماضي
ارتباطًا يجدد للأمة قوتها، ويحفظ لها شخصيتها، ومنها تربية الشعور والعواطف
على الاتحاد والتعاون؛ فيشعر كل فرد في الاجتماع بأنه قوي بقوة المجتمعين،
مؤيد بروحهم، وروح الاجتماع معروف تأثيرها في النفوس والأعمال.
ثم من الفوائد كذلك أن تحاسب الأمة نفسها على ما عملته في الماضي وما
تعده للمستقبل، فتنظر كما ينظر التاجر في آخر كل سنة مقدار الربح أو الخسارة،
فإن كان عندها ضعف في الداخلية أو الخارجية، ورأت نفسها قد قصرت فيما مضى
فإنها تتوب إلى الله تعالى وتعمل على تقوية هذا الضعف، وتحترس من أن تقع
في مثله في المستقبل، وإن رأت أنها لم تقصر وأنها قوية متقدمة، فإنها تشكر الله
الذي وفقها، ثم تستزيد من الأعمال الرابحة المقدمة.
***
هجرة النبي حادثة عظيمة
هذا وإن هجرة النبي حادثة عظيمة، إذ كانت سببًا في إحداث إصلاح عظيم
وفتحًا لباب استقلال جديد، وقبل أن أبين هجرته أذكر حكمة إرساله وإرسال من
سبقه من الرسل - صلوات الله عليهم - أجمعين.
***
حكمة إرسال الرسل
خلق الله الناس أحرارًا مستقلين، فاقتضت حكمته - وهو وليهم وإليه يرجع
أمرهم - أن يربيهم تربية عملية تثبت في نفوسهم ما فطرهم عليه من الحرية
والاستقلال، فاختار منهم رسلا ًمربين لا تذل نفوسهم لشهوة أو هوى، ولا تضعف
إرادتهم أمام سلطة أو استبداد، وأرسلهم بالتعاليم الهادية إلى سعادة الدنيا والآخرة.
ولو رجعنا إلى ما كان يدعو إليه كل رسول لوجدناهم متحدين في الدعوة،
وكلهم يدعو إلى التوحيد {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:
59) وفي هذا منتهى العزة للنفوس؛ إذ إنها لا تستعبد إلا لربها الذي يربيها على
نعمه، ويواليها بفضله وإحسانه، والله سبحانه لم يجعل جنسًا عبدًا لجنس، ولم
يفاضل بين عباده إلا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:
13) ، فالأكرم عند الله من يتخلق بأخلاق الله، فلا يستبد بالناس ولا ينقص من
حريتهم، والله تعالى قد أرسل الرسل تأييدًا لهذا المبدأ، مبدأ السير بالناس إلى
الحرية لإخراجهم من الاستبداد.
***
موسى الرسول في مصر وصاحب الهجرة
تعلمون حادثة موسى لما أرسله الله لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد فرعون،
قال الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 5) .
وما كانت الظلمات إلا السلطات الاستبدادية التي أماتت إرادة القوم، وقضت
على حريتهم وإيمانهم، وما النور إلا الاستقلال الذي فيه يحيا الشعور وينمو الإيمان
وتقوى الإرادة.
كذلك قال الله لرسوله محمد: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 1) .
***
إيذاء المشركين إياه
إذا علمنا أن الله بعث الرسل لهدم قواعد الاستبداد والظلم، ونشر مبادئ
المساواة والعدل، فإننا نعلم السبب في الإيذاء الذي كان يفعل بهم، والعقبات التي
كانت توضع في طريقهم، وذلك أن المستبدين بالشعب المتحكمين في رقبته يخشون
من كل مبدأ يزلزل استبدادهم، ويخافون من كل عمل يوجد المساواة بينهم وبين
المغلوبين لهم، المقهورين بسلطتهم، فلذا تراهم عندما يشعرون بمصلح يأخذون في
محاربته ويسعون في صده عن سبيله بكل ما يستطيعون.
***
الحيلولة بينه وبين الشعب
ولعلمهم بأن الشعب يتأثر بهذه المبادئ تجدهم يحرصون على أن يحولوا بين
هذا المصلح والشعب، فالشعب المحكوم بالاستبداد مهما جَبُن ومهما ضَعُفت إرادته
فإنه باستماعه مبادئ الحرية وتكريرها على نفسه تنبعث فيه روح العمل لها فيخشى
المستبدون ذلك، ولا يمكنون المصلح منه، وانظر قول الله في أعداء الرسول لما
كانوا يرونه متصلاً بالشعب يتلو آيات القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا
القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .
***
صبر النبي وقوة إرادته
وأخيرًا تضايقوا منه [1] فرجعوا إلى عمه أبي طالب، وكانت صلته به تحميه
من القتل، فقالوا: قل لابن أخيك يرجع عما هو فيه، وإلا نكون في حل مما نوقعه
به. فلما عرض عليه عمه ذلك تحمس وقال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في
يميني والقمر في يساري ما رجعت عن دعوة ربي حتى أبلغها أو أموت دونها.
فنعمت هذه الروح العالية، وبُعِثَت هذه المبادئ الغالية.
***
سبب هجرته
لما مات عمه تآمر الخصوم على قتله، فأوحى الله إليه بأن يهاجر إلى يثرب
حيث يجد الأنصار والمساعدين فيعمل على تقوية نفسه ونشر مبادئه طوعًا لربه.
في الله والأوطان سعي مهاجر
…
لله لم يجبن ولم يتأثم
لم يرض يثرب بعد مكة موطنًا
…
إلا خضوعًا للمليك الأعظم
ما زال فيها غاديًا أو رائحًا
…
أبدًا يحن إلى الحطيم وزمزم
علم النبوة والمفاخر كلها
…
وخلاصة الشرف الذي لم يثلم
علمتنا حب البلاد عقيدة
…
لا يعلم الإيمان ما لم تعلم
ولقد هديت من الضلالة أمة
…
لولاك لم تنهض ولم تتقدم
وألنت جانبها وصعب شكيمها
…
بروائع الآيات لا بالمخذم
وأخذت من ميسورها ما يتقى
…
بقليله غيظ الفقير المعدم
وعقدت في عنق القوي ضمانة
…
تغني الضعيف عن الظبى والأسهم
كانت هجرته سببًا في أنه قابل ناسًا تمكن من نشر دعوته فيهم وتقوَّى
بنصرتهم، وكان على الدوام يحن إلى دياره التي احتلها الخصوم وأخرجوه منها.
***
مفاوضة في الصلح بين الرسول وخصومه
ذهب الرسول في أربع مائة وألف من أصحابه إلى مكة في السنة السادسة من
الهجرة، كي يزورها ويعتمر فيها، فيشرح صدره بها ويخفف من حنينه إليها،
ولما قرب منها أرسل العيون والجواسيس لتستطلع له حال الخصوم، وتبلغه ما هم
فيه من الاستعداد، ولما شاور الرسول أصحابه قالوا: ما جئنا مقاتلين، فإن منعونا
قاتلناهم. وبايعوه على ألا يفر منهم أحد، فمنعهم الخصوم وحاصروهم، وبعد
مناوشات ومضاربات وقعت بينهم، رأى الرسول أن جيشه لا يقوى على الجيش الذي
أمامهم [2] ، وأن الصلح خير لهم، فدارت المفاوضات بين الطرفين على إبطال
الحرب عشر سنين، ويباح للرسول أن يأتي مكة في كل عام آمنًا حرًّا.
***
الخصم يملي الشروط ويضع القيود
وقد وضع الخصم شروطًا وقيودًا أملاها بنفسه في اتفاقية الصلح.
***
اتفاقية الصلح وشروطها
قالوا: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فإنا لا نعرف الرحمن من هو،
واكتب: باسمك اللهم. فكتب، قالوا: لا تكتب: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله،
فإنا لا نقر بأنك رسول الله، ولو أقررنا لما منعناك فاكتب محمد بن عبد الله. فكتب،
قالوا: من يأتي منا مسلمًا إليك ترده إلينا، وأما من يأتي منكم إلينا فلا نرده.
فرضي وكتب، قالوا: لا تدخل مكة هذا العام، ولا بد أن ترجع إلى عام آخر لئلا
يتحدث العرب بأن قد ضُغِطَ علينا. فكتب، قالوا: إذا دخلت بعد هذا العام، فتدخل
بسلاح الراكب وتكون السيوف في القرب. فقبل الرسول كل هذه الشروط بعد
تحققه من تشبث الخصوم وتمسكهم بها، وكان الصحابة ينتقدونها ويعترضون على
كل شرط منها، فيقنعهم الرسول بالقبول للحاجة.
وقد اشتد اعتراضهم لما وصلوا إلى أن من جاء إليهم مسلمًا يردونه ومن ذهب
منهم لا يرد إليهم، فقالوا: كيف نرد من يأتي مسلمًا ونحن ندعو إلى الإسلام؟
وكيف لا يرد إلينا من يذهب منا؟ حتى المساواة في ذلك لا نحصل عليها؟ فقال
الرسول: (من ذهب منا فقد أبعده الله، ومن جاءنا ورددناه فالله يجعل له فرجًا
ومخرجًا) يعني هذا تحكم القوي في الضعيف وللضرورة أحكام.
هكذا أملى المشركون شروط الاتفاقية حسب إرادتهم وقبلها الرسول كلها على
ما فيها من الإجحاف ليكون حرًّا في دخول مكة كل عام فيتمكن من الاختلاط
بالشعب، ويبث فيه ما يشاء من المبادئ والتعاليم، ويتمكن من إعداد القوة التي
يحفظ بها الحق، وكان قبل هذا لا يمكن أحدًا من المسلمين أن يجهر بعقيدته خوفًا من
المشركين وفتنتهم وعذابهم وشدتهم [3] .
***
حكم القرآن في الاتفاقية
وقد أنزل الله في هذه الاتفاقية الآيات المبينة أنها فتح ونصر ومغانم،
قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 1- 3) وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (الفتح: 18- 20) فتأمل قوله: فعجل لكم هذه، يعني سيكون لهم مغانم كثيرة
من وراء هذه المغانم التي كسبوها بالاتفاقية، وما الاتفاقية إلا باب لتلك المغانم
الكثيرة ووسيلة للوصول إليها، ولقد كان ما وعد الله تعالى، وتحقق نظر الرسول
وأصحابه في صلاحية الاتفاقية؛ إذ تم لهم فتح مكة والاستيلاء علي بلادهم من
جميع جوانبها والتحكم فيها بكل حرية واستقلال بعد سنتين اثنتين من إمضاء المعاهدة
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً
قَرِيباً} (الفتح: 27) ، وقد أفاض بعد ذلك على العالم من مبادئه العالية ما ترون
في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، وبالإجمال كانت هجرة النبي - صلى
الله عليه وسلم - جديرة بأن تكون مبدأ التاريخ الإسلامي، وإنها لحادثة اهتز
العالم لها ونتج عنها الانقلاب الكبير في عالم المدينة وسنة الحرية والاستقلال.
***
اقتداؤنا بالرسول
وإنا نحمد الله إذ قد اقتدينا بالرسول واقتفينا أثره في الهجرة التي هاجرها وفدنا
المصري فاستحق بها فخرًا، ونال من أجلها كرمًا وأجرًا، فالله تعالى يوفقه للأصلح
فيما يتفق عليه لتقدم المصريين وتحرير مصر.
يا مصر إن قلوبنا ونفوسنا
…
رهن لديك فلا تخافي واسلمي
مهما استطال عليك جد عاثر
…
فالله جارك من عثار مؤلم
فثقي بأن الله بالغ أمره
…
والله خير حافظًا من مغرم
انتهت الخطبة
(المنار)
إن هذه الخطبة قد روعيت فيها المناسبة بين معنى العام الهجري وبين حال
مصر السياسية في هذا الوقت، فكانت المناسبة قوية، والمراعاة حسنة وأكثر
الخطبة حقائق، وأقلها معاني خطابية وشعرية قصد بها التأثير الذي يقتضيه الوقت،
كالتفاؤل بتوالي أهل الملل المختلفة. وبعض ما ذكر من فوائد الاحتفال بالأعياد،
ومثل هذا مما يتسامح به في أمثال هذه المواقف، ولكن فيها من مبالغات شعرية لا
يتسامح في مثلها، كالذي ذكره في حكمة إرسال الرسل، ولا سيما تفسيره الظلمات
بالسلطات الاستبدادية، والنور بالاستقلال على سبيل الحصر، وإنما الاستبداد أحد
تلك الظلمات، والاستقلال بعض لوازم ذلك النور، وما كل الأمم التي بعث فيها
الرسل كانت خاضعة لسلطة استبدادية كقوم موسى عليه السلام نعم إن الخطيب
قد تلقى عنا في مدرسة الدعوة والإرشاد أن التوحيد يعلي الأنفس ويرفعها حتى لا تذل
ولا ترضى بمهانة، ولا تخضع لسلطة استبدادية، ولكنه بالغ في تصوير ذلك بما ذكر
في الخطبة، وغفل عما قررناه في الدرس في المنار، ولا سيما مقالات ذكرى المولد
النبوي من اتصاف الأمة العربية قبل البعثة المحمدية بالحرية الشخصية واستقلال
الفكر وقوة الإرادة 0
وجملة القول أن هذه الخطبة كانت فريدة في بابها بمناسبتها لمقتضى الحال،
ولكن من بعض الوجوه، فالمقارنة المقصودة بها غير تامة، ومما أنكرناه من الخطبة
خلوها من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -عند ذكره فيها على
كثرته، والموضوع جله ديني، وهذا من تأثير السياسة والأحوال الاجتماعية في
الدين.
_________
(1)
تعدي عامة بلادنا تضايق بمن، ولم يرد في معاجم اللغة التي في أيدينا.
(2)
المنار: الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجنح لذلك الصلح عن ضعف، بل لإيثاره
السلم على الحرب، ورغبته في التمكن من تبليغ الدعوة بالحجة والبرهان.
(3)
يعني أنه لم يمكن لأحد من المسلمين قبل صلح الحديبية أن يظهر إسلامه أي: فيها قبل المدينة وما يتبعها، وناهيك باضطهاد المسلمين في مكة وما يتبعها.
الكاتب: محمد أبو الفضل
محاربة البدع
مشيخة الجامع الأزهر
أرسل إلينا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر رسالة بهذا العنوان مع كتاب
خاص منه ذكر فيه أنه سئل عما يسميه بعض أهل الطرق (اسم الصدر) ، فأجاب
بكتابة هذه الرسالة أو الفتوى، وأرسلها إلينا لأجل نشرها تعميمًا للفائدة وإرشادًا
للأمة، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، أما بعد، فإنكم تسألون عما يفعله الآن بعض أهل
الطرق من أبناء هذا العصر، من اجتماعهم صباح مساء، يرددون لفظ (أه، أه)
يعتقدونه اسمًا من أسماء الله، ويقولون: إنهم بذلك يذكرون الله سبحانه ويسمون
ذلك: (اسم الصدر) .
والجواب: أن هذا اللفظ المسئول عنه (أه) بفتح الهمزة وسكون الهاء ليس
من الكلمات العربية في شيء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقًا، وإن كان بالمد
فهو إنما يدل في اللغة العربية على معنى التوجع، وليس من أسماء الذوات، فضلاً
عن أن يكون اسمًا من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، كما قال تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) .
وقد أجمع العلماء على أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية [1] ، ولا يجوز لنا
إطلاق اسم عليه تعالى أو صفة لم يكن ورد بها الشرع، كما أنهم أجمعوا على أنه
لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع بجواز التعبد به.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله
لنا على يديه الدين، وأتم لنا النعمة، كما قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وفي الصحيحين
عن عائشة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي
صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في
خطبته: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور
محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) [2]، ومن تأمل قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ
فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وتدبر هذا الوعيد
الشديد اقشعر جسمه أن يذكر الله أو أن يدعوه بعد ذلك بغير أسمائه التي سمى بها
نفسه، وأذن لنا في تسميته بها على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، والإلحاد
في الأسماء هنا على ثلاثة معان: الخروج بها عما وضعت له من المعنى الشرعي،
تحريفها عن لفظها الوارد شرعًا، إدخال ما ليس منها فيها كموضوع السؤال،
وكما نقل المفسرون هنا من علماء اللغة أن الملحد العادل عن الحق، والمدخل فيه
ما ليس منه.
فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين انتشروا في المدن والقرى يجمعون
الناس، ويعقدون المجالس على ذلك ويتخذون ذلك وِردًا موقوتًا زاعمين أنهم
يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد
بما لم يتعبدنا الله به، وتسمية لله بغير أسمائه، نعوذ بالله من فعل ذلك أو الإعانة
عليه أو السكوت عنه.
ومهما قال زعماء تلك البدعة من قولهم: إنهم وجدوا مشايخهم كذلك. فليس في
ذلك برهان لهم في الدنيا، ولا مخلص لهم عند الله يوم القيامة من عذابه، كيف وقد
قال علماء الصوفية أنفسهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة فهو باطل؟ وقالوا:
إذا لم يستند كشف الولي إلى الكتاب والسنة فهو كشف شيطاني. لا: الولي غير
معصوم. وورد مثل هذا القول أيضًا عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه،
وأجمعوا على أنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام والمشاهدة إلا بعد عرضه على
الكتاب والسنة، وما يقولونه أيضًا من الاستدلال على بدعتهم هذه بقوله تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114) فليس من الاستدلال في شيء، بل هو
بقول الجاهلين أشبه؛ لأن الآية ليس معناها أنه كان يذكر الله بلفظ (أه) كما
يفعلون بل معناها - كما قال المفسرون - أنه كان مشفقًا رحيمًا، والله يقول الحق وهو
يهدي السبيل.
25 المحرم 1339م
…
...
…
...
…
شيخ الجامع الأزهر
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد أبو الفضل
وقد نشرت هذه الفتوى في الجرائد اليومية فرد عليها بعض المنتسبين إلى
الطريقة الشاذلية برسالة نشرت في جريدة الأهرام هذا نصها:
الرجوع إلى الحق فضيلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أما بعد، فأسأل الله
تعالى أن يهدي إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أزكى صلاة وأتم سلام،
وأن يعم بذلك سائر الأنبياء والمرسلين وآل كل والتابعين.
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) .
قال المفسرون: أسماء الله تعالى كلها حسنى؛ لأنها تدل على معاني الكمال
الإلهي سواء وردت في القرآن فقط كاسم الله تعالى القريب والمحيط والبديع والأحد
وأحكم الحاكمين وخير الفاصلين وذي العرش وذي الطول، وغير ذلك مما ورد في
الذكر الحكيم خاصة، أو جاءت به السنة أيضًا، كقوله صلى الله عليه وسلم:
(إن لله تسعًا وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة. الله الرحمن الرحيم)
الحديث أو وردت به السنة، وإن لم يرد في القرآن، كقوله - صلى الله عليه
وسلم -: (الديان لا يموت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى
طيب لا يقبل إلا طيبًا) وقوله صلى الله عليه وسلم في بعض أدعيته: (يا
حنان يا منان) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى جميل يحب
أن يرى أثر نعمته على عباده) وقد ورد هذا الاسم في خريدة التوحيد للدردير فهو
الجليل والجميل والولي وغير ذلك مما تفردت به السنة خاصة، وليس في القرآن
صراحة، فليس المراد بالأسماء الحسنى خصوص التسع والتسعين، وإلا لزم
عليه معارضة الأحاديث بعضها لبعض كما لا يخفى، وذلك لا يعقل.
إذا علمت ذلك علمت أننا مأمورون أن ندعو الله تعالى بكل اسم ثبت وروده
عن الشارع صلى الله عليه وسلم مطلقًا.
ومما تأكد ثبوته ذلك الاسم العظيم الذي اتخذه السادة الشاذلية من ضمن
أذكارهم وهو اسم الله تعالى (أه) جل جلاله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه فنهاه بعضهم عن الأنين وأمره بالصبر، فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: (دعوه يئن فإنه يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) ونقل العلامة
الحفني في حاشيته على الجامع الصغير للجلال السيوطي عند الكلام على الاسم
الأعظم قال: إن اسم الله تعالى (أه) هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا
سئل به أعطى.
وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره في شرح البسملة: اختلف العلماء في
الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو اسم الله الأعظم لاشتماله على سر الإشارة
وتكوين الكائنات وظهور التجليات. وذكر العلامة العزيزي في شرحه على الجامع الصغير أيضا أن اسم الله تعالى (أه) هو اسم يلهمه الله تعالى للعبد عند
تجليات الجلال. وقال الشيخ الأمير في حاشيته على متن (غرامي صحيح) : إن
(أه) من أسمائه تعالى. وصحح ذلك، وروى الحاكم في مستدركه حديثًا يذكر فيه أن
(أه) اسم عظيم من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من عباده؛ لأنه سر من
الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين. وقال الأستاذ الباجوري في
حاشيته عل جوهرة التوحيد - عند قول الناظم: حتى الأنين في المرض كما نقل -:
ينبغي للمريض أن يقول (أه) فإنه اسم من أسمائه تعالى، ولا يقول: أخ، فإنه من
أسماء الشيطان. فقد ثبت بالدليل النقلي أن (أه) اسم عظيم من أسماء الله الحسنى
أمرنا سبحانه أن ندعوه بها، فحينئذ لا إلحاد ولا تحريف - نعوذ بالله من ذلك -،
وإذًا ليس اسم (أه) مهملاً لا معنى له مطلقًا، كما قيل، بل معناه منزه عن الإهمال،
جليل عند أهل الإنصاف، ولو تتبعنا الآثار والأخبار الواردة في الاستدلال على صحة
هذا الاسم لما وسعتنا الصحف، وفي هذا القدر كفاية، لمن سطعت عليه أنوار
الهداية، ونسأل الله تعالى العناية وحسن الختام، بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة
والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الفقير
…
...
…
...
…
...
…
أحمد وافي الشاذلي الأزهري
نشر هذا الرد في عدد الأهرام الصادر في 26 المحرم، ولم ينشر من قِبل
مشيخة الأزهر رد عليه، ولكن كتب إلى الأهرام الرد الآتي فنشر في العدد الذي
صدر في 2 صفر، وهذا نصه:
رد على رد
أصدرت هيئة مشيخة الأزهر الأعلى بيانًا أنكرت فيه على بعضهم بدعًا
مستهجنة لم تؤيدها الأحاديث الصحيحة المتن، القوية الحجة المتعارضة مع روح
الدين الناصع، المنتشرة في بلاد هي كعبة العلم وحجة العارفين في اللغة والدين،
وانبرى أحدهم وسطر في صحيفتكم الغرَّاء كلمة لا نرى مندوحة من الرد عليها
إحقاقًا للحق الذي لا ينكره إلا المكابرون، وإنا لا نطيل الشرح في هذا الباب،
وإنما نورد الوجوه الآتية كي لا نضل الطريق السوي، وحتى لا يتسلط بعضهم على
السذج من الأمة، فيدخلون في الدين ما هو براء منه.
أولاً: إن ما أورده حضرة الكاتب من عزو حديث أبي هريرة الذي فيه: قال
الرسول الكريم لمعارضي المريض على أنينه: (دعوه يئن..) هذا العزو إلى
صحيح مسلم كذب محض، وإلا فليأتنا حضرته بالنص الصريح في صحيح مسلم،
وهو كثير متداول بين الأيدي كُرِّرَ طبعه مرارًا وتعددت طبعاته، وكلها خلو من هذا
الحديث، فليتفضل حضرته بذكر الصحيفة التي تتضمن هذا الحديث.
ثانيًا: إن الحديث المذكور مدون في الجامع الصغير، وعزاه صاحب الجامع
إلى الرافعي، فهو حديث لا تقوم عنده حجة؛ لأنه لم يُخَرَّج في الكتب الصحيحة ولم
يصححه أحد من المحدثين.
ثالثًا: لو فرضنا أن هذا الحديث صحيح، فلا يدل على بدعتكم هذه، فإن
الرسول إنما أشفق على المريض وتركه يئن، فإن صح أن لفظة (أه) اسم من
أسماء الله تعالى؛ فأسماء الله الحسنى معروفة، ولا حاجة إلى عدها في هذا المقام،
وحسبنا أن يكون ما أوردتموه إشفاقًا على المرضى، فلا يجب أن يكون ساريًا على
الأصحاء وإقناع السذج منهم بأن لفظ (أه) اسم من أسماء الله، والله بريء مما
تنسبونه إليه جلت أسماؤه.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد فهمي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... بالإسكندرية
***
تعليق المنار على الفتوى والرد عليها
الفتوى ودعامة الإصلاح
إن فتوى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مشتملة على بيان أساس الدين،
وأصل الإصلاح الأعظم فيه، وإن كانت في بيان بطلان بدعة خاصة، قد ابتلي أهل
الطرق بكثير من مثلها، ومما هو أبعد عن هدي الدين منها كما شرحناه في مواضع
من المنار، وهذه الأصول تقضي على جميع البدع، فقيمة الفتوى أكبر وأعظم من
إثباتها؛ لكون ما يسمونه (اسم الصدر) والتعبد به بدعة ليست من الدين في شيء.
ذلك الأساس الراسخ والأصل الثابت الذي هو جدير بتدبر المسلمين هو قول
الشيخ: إن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع
بجواز التعبد به. فهذا الأصل ثان للأصل الأول الذي جاء به جميع رسل الله -
صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لا يُعْبَدُ إلا الله وحده، وقد صرح شيخ الإسلام
ابن تيمية بأن الدين كله قائم على هذين الأصلين:
(1)
لا يُعْبَد إلا الله تعالى.
(2)
لا يُعْبَد الله تعالى إلا بما شرعه.
ولا نزاع في ذلك، وإنما نعيده ونكرره لزيادة الإيضاح والتقرير، وقد بيَّن
الشيخ - أدام الله النفع به - دليل هذا الإجماع بقوله: إن الرسول - صلى الله عليه
وسلم - لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله تعالى لنا على يديه الدين، وأتم لنا
النعمة، وذكر نص آية المائدة التي أنزلت عليه صلوات الله وسلامه في يوم عرفة
من حجة الوداع، ولعله إنما قال (على يديه) ولم يقل: على لسانه. مع أن الدين
تبليغ عن الله تعالى باللسان؛ ليفيد أنه صلى الله عليه وسلم بين ما نزله الله عليه
بالفعل والحكم والتنفيذ، كما بلغه بالقول، وعبارته تدل على حصر هذا الإكمال به -
صلى الله عليه وسلم دون غيره من الصحابة وعلماء التابعين ومن بعدهم، فليس
قول أحد منهم ولا فعله دينًا ولا حجة في الدين عند أهل السنة.
وقد بنى الشيخ - أيد الله به السنة - على هذا البطلان احتجاج أصحاب هذه
البدعة بأقوال شيوخهم وأفعالهم فقال: إنه ليس لهم في ذلك برهان في الدنيا ولا
منجاة من عذاب الله تعالى في الآخرة، ولما كان سبب افتتان الكثير من الناس ببدع
المتصوفة الاغترار بما كان عليه بعض شيوخهم من العرفان والصلاح، وما ينقل
عن بعض أفرادهم من معرفة الحقائق بالكشف، كَشف الشيخ هذه الشبهة بكلام
منقول عن بعض علماء الصوفية المشهورين مبني على ذلك الأساس الأعظم للدين،
وهو قولهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة من كشف وغيره فهو باطل.
وتسميتهم هذا الكشف شيطانيًّا، وقولهم: إنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام
والمشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة. وتصريحهم بأن الولي غير معصوم؛
أي: لا في كشفه ولا في غيره، وإنما نقل هذا القول عن علماء الصوفية؛ لأن غير
العلماء لا يعتد بقولهم ولا نقلهم، فمثل علماء الصوفية في ذلك غيرهم من
المتكلمين والفقهاء، فالدين قد أكمله الله تعالى، وهو محصور في الكتاب العزيز
والسنة النبوية الثابتة، ولا يوجد إجماع صحيح ولا قياس صحيح إلا وهو مستند
إليهما، وإنما كلام العلماء الذي يعتد به هو بيان الأصلين وما استنبط منهما واستند
إليهما من قياس وإجماع، على ما في القياس والإجماع من خلاف معروف في علم
أصول الفقه.
وقد استدل الشيخ - أيد الله حجته - على ما ذكر من أساس الدين بالسنة
الصحيحة، كما استدل بالكتاب العزيز واكتفى بأشهر الأحاديث وأصرحها في
الموضوع، حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وهو متفق عليه،
وحديث (أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله) إلخ، وهو متفق عليه أيضًا،
وإن لم يخرجه البخاري إلا موقوفًا على عبد الله بن مسعود، ورواهما غير الشيخين
كما تقدم.
بعد بيان هذه الأصول الأساسية في الدين، أشار الشيخ في سياق بيان بدعة ما
يسمونه (اسم الصدر) إلى قسمي البدعة اللذين أسهب الإمام الشاطبي في الكلام
عليهما بكتابه الاعتصام، وهما البدعة الحقيقية، كذكر الصدر الذي ليس له أصل في
الكتاب ولا في السنة، ولا كان موجودًا في صدر الإسلام، بل هو إحداث وابتداع
محض، والبدعة الإضافية، وهي ما كان له أصل، ولكن الابتداع فيه بالعوارض
والصفات كالعدد والتوقيت والاجتماع والصفة كصلاة الرغائب في رجب، وصلاة
شعبان، وقد قال فيهما الإمام النووي في المنهاج: وصلاة رجب وشعبان بدعتان
قبيحتان مذمومتان. ومن هذا القبيل جميع الأوراد التي جعلوها من شعائر الدين
بالتوقيت والاجتماع ورفع الصوت وغير ذلك.
قال الشيخ - نفع الله به -: (فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين
انتشروا في المدن والقرى يجمعون الناس ويعقدون المجالس على ذلك، ويتخذون
ذلك وردًا موقوتًا زاعمين أنهم يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة
ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد بما لم يتعبدنا الله به وتسمية لله بغير أسمائه،
نعوذ بالله من فعل ذلك، أو الإعانة عليه أو السكوت عنه) اهـ.
وقد عبر هنا عن البدعة بالسنة السيئة باعتبار أنها تتبع وتجعل كالمشروع،
ويقتدي بعض الناس فيها ببعض، وللإشارة إلى حديث جرير بن عبد الله البجلي في
صحيح مسلم مرفوعًا: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل
بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان
عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم
شيء) [3] وأخرجه الترمذي عنه بلفظ: (من سن سنة خير.. ومن سن سنة
شر..) فالمراد بالسنة هنا معناها اللغوي وهو الطريقة المسلوكة؛ إذ كان سبب
الحديث أن قومًا من مضر جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم حفاة عراة
فتمعر وجهه الشريف لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلَّى بالناس
ثم خطب، فحث على التصدق من النقد والثياب والطعام، فتلبث الناس حتى كان
رجل من الأنصار بدأ بأن جاء بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها لكبرها بل عجزت،
ثم تتابع الناس فكان ما جاؤوا به كومين من طعام وثياب، حتى تهلل وجه النبي -
صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام) إلخ، فالمراد بالسنة هنا
العمل الذي يكون به صاحبه قدوة فيه، سواء كان اتباعًا كفعل ذلك الأنصاري وهو
السنة الحسنة، أو ابتداعًا وهو السنة السيئة، وليس من السنة الحسنة أن يسن في
الدين عبادة جديدة ولو في الهيئة والصورة، نعم، قد يدخل في السنة الحسنة كل
اختراع دنيوي ينفع الناس في دينهم أو دنياهم، ويشترط في الثاني أن لا يكون
محظورًا شرعًا في نفسه ولا فيما يترتب عليه ويلازمه، وقد تضمن كلام الشيخ
إنكار جميع البدع وبيان حظرها، وحظر الإعانة عليها والسكوت عنها، كل
ذلك محرم شرعًا، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما من
عزائم الدين بل هما سياجه وحفاظه.
ونحمد الله أننا قد جرينا على هذه الأصول والقواعد في المنار، وما زال كثير
من المعممين الجاهلين أو الحاسدين ينكر علينا بناء الإصلاح الديني على اتباع
الكتاب والسنة وإنكار البدع كلها حقيقية كانت أو إضافية.
ونرجو من الشيخ، وهو رئيس للمعاهد الدينية في هذا القطر كله أن يجعل
العمل بهذه الفتوى مبدأ إصلاح جديد في الأزهر وسائر المعاهد الدينية قبل غيرها،
فإن البدع ومخالفة السنن كثيرة فيها حتى في عماد الدين، الصلاة، فقد صليت
الجمعة من عهد قريب في الجامع الأزهر، فوجدت قشر البصل وأوراقه الخضر
وقشر البيض منثورة في مواضع من المسجد، ووجدت المجاورين وغيرهم متحلقين
في صحنه يتكلمون وقت الخطبة، ووجدت الصفوف غير تامة ويبعد بعضها عن
بعض بعدًا واسعًا، وغير ذلك من المنكرات، كما نرجو منه أن يبطل من عقاب
مخالفي قانون المعاهد الحرمان من دروس العلم، فإنه يتضمن المنع من طاعة الله
تعالى وعبادته بتلقي علوم الدين: وسائلها، ومقاصدها، والله الموفق.
***
الرد على المعترض على الفتوى
انبرى أحد مشايخ الطريقة الشاذلية للرد على الفتوى وإثبات ما يسمونه
(اسم الصدر) وكون التعبد به مشروعًا، فاستدل على الاسم بحديث عزاه إلى
صحيح مسلم، وحديث عزاه إلى الحاكم، وبكلام بعض المصنفين.
أما الحديث الأول فنص عبارته فيه: ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فنهاه بعضهم عن الأنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعوه يئن فإنه
يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) وقد كذبه من رد عليه من الإسكندرية بعزو هذا الحديث
إلى صحيح مسلم، وطالبه ببيان مكانه منه، وذكر أن السيوطي عزاه في الجامع
الصغير إلى الرافعي، وأنه لم يصححه أحد من المحدثين، وأنه على فرض صحته لا
يدل على مطلوبه، وهو مصيب في هذه الأقوال كلها، ولكنها غير كافية في الرد
عليه، فنزيد عليه ما يأتي من الدلائل والفوائد:
(1)
أن المعترض زعم أن هذا الحديث من مسند أبي هريرة المخرجة في
صحيح مسلم، وليس في صحيح مسلم ولا في غيره من كتب الحيدث. والحديث الذي
عزاه السيوطي في جامعه إلى الرافعي من مسند عائشة، وبين السيوطي سببه في
الجامع الكبير كما ذكر في الإكمال من كنز العمال وهو: أن عائشة قالت: دخل
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا عليل يئن فقلنا له: اسكت. فقال:
(دعوه يئن، فإن الأنين اسم من أسماء الله تعالى يستريح إليه العليل) والمعترض
ذكر لحديث أبي هريرة سببًا مثل هذا، وهو ناقل له عن بعض كتب الطريقة،
وليس هو المخترع له، ومن المعروف عند العلماء أن الحديث كغيره من العلوم له
أئمة يؤخذ عنهم، فلا يعتد إلا بما رووه، ولا يحتج بشيء مما رووه إلا إذا
صححوا سنده، أو حسنوه، وإن كتب الصوفية وكتب التاريخ والأدب يكثر فيها
الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجوز العمل بها؛ لا في فضائل الأعمال، ولا
في غيرها، بل يوجد أمثال هذه الأحاديث في كتب التفسير والكلام (العقائد
وفلسفتها) ؛ لأن أكثر مصنفيها من غير المحدثين، وهذا كتاب إحياء العلوم من أشهر
الكتب، ومؤلفه من أكبر أئمة المتكلمين والفقهاء الصوفية، وهو يشتمل على كثير من
الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجيز أحد من الأئمة العمل بها في الفضائل،
فضلاً عن الاحتجاج بها في إثبات أسماء الله تعالى وصفاته، وشرعية عبادة لا دليل
لها سواها.
(2)
قال الشيخ محمد الحوت الكبير في كتابه الذي بين فيه ما في الجامع
الصغير من الأحاديث الضعيفة؛ أي: والموضوعة عند ذكر حديث (دعوه يئن) :
لكن هذا لم يرد في حديث صحيح ولا حسن، وأسماؤه تعالى توقيفية اهـ.
(3)
مما يدل على أن هذا الحديث مصنوع ليس له أصل: عدم ذكر أحد له
من المحدثين، ولا فقهاء الحديث في الكتب التي لا يهملون فيها مثله؛ ككتب لغة
الحديث وشروحه وفقه الحديث، فهذا الحافظ ابن الأثير لم يذكر كلمة الأنين في كتابه
النهاية الذي وضعه لتفسير مفردات الأحاديث، ولم يذكرها صاحب مجمع البحار في
كتابه ولا في تكملته على عنايته باستقصاء ما تركه صاحب النهاية.
ولم يذكره حفاظ الحديث والفقهاء في بحث حكم الأنين شرعًا هل هو مكروه
أم لا، وقد اعتمد أعلم الفقهاء بالأحاديث كراهته ونظر بعضهم فيها، ولو ثبت
هذا الحديث عندهم لقالوا: إنه مستحب أو مسنون.
(4)
قال الحافظ ابن حجر في شرحه حديث تفجع عائشة من وجع رأسها
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: (ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)
وهو في كتاب المرضى من صحيح البخاري ما نصه: قال القرطبي: اختلف الناس
في هذا الباب (المنار: يعني باب الشكوى في المرض ونحوه هل يقدح في الرضا من
الله والتسليم أم لا؟ والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على
وجدان ذلك، فلا يستطيع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في
حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه؛ كالمبالغة في التأوه، والجزع الزائد، كأن من
فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذمومًا حتى يحصل
التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه وشكواه، إنما هو ذكره
للناس على سبيل التضجر، والله أعلم.
(قال) : روى أحمد في الزهد عن طاوس أنه قال: أنين المريض
شكوى. وجزم أبو الطيب الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه
مكروه، وتعقبه النووي، فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي
مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم
أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى.
ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر
بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه
عن حاله، فلا بأس به اتفاقًا ، اهـ ما أورده الحافظ في شرح حديث عائشة من
البخاري، ولو كان لها حديث في شرعية الأنين لذكره النووي أو الحافظ الذي قال فيه
بعض العلماء: إن كل حديث قال الحافظ ابن حجر: لا أعرفه. فليس بحديث؛
لجودة حفظه لكتب السنة، وحسن استحضاره لها، ولا سيما في شرحه للبخاري
الذي كان يتلقاه عنه الحفاظ والفقهاء في الجامع الأزهر تلقي بحث واستدلال.
وكذلك فقهاء الحنابلة جزموا بكراهة الأنين في المرض في كتبهم، قال الفقيه ابن
مفلح في كتابه الفروع: (فصل) يكره الأنين في المرض إلخ، ثم قال في فصل
بعده: وكانوا يكرهون أنين المريض؛ لأنه يترجم عن الشكوى. ثم ذكر عن عبد
الله ابن الإمام أحمد أنه نقل في أنين المريض: أرجو أن لا يكون شكوى ولكنه
اشتكاء إلى الله اهـ. وذكر ذلك السفاريني في أواخر الجزء الأول من شرح
منظومة الآداب، ثم قال:
(قلت) : أنين المريض تارةً يكون عن تبرم وتضجر فيكره، وتارةً يكون
عن تسخط بالمقدور فيحرم فيما يظهر، وتارةً يكون لأجل ما يجد، ويجد به نوع
استراحة بقطع النظر عن التضجر والتبرم فيباح، وتارةً يكون عن ذل بين يدي
رب العالمين وانكسار، وخضوع وافتقار، ومسكنة واحتقار، مع حسم مادة العون
إلا من بابه، والشفاء إلا من عنده، والعافية إلا من كرمه، فهذا لا يكره فيما يظهر
بل يندب إليه، وإليه الإشارة في حديث، وإن لم يثبت (المريض أنينه تسبيح،
وصياحه تكبير، ونفسه صدقة، ونومه عبادة، ونقله من جنب إلى جنب جهاد في
سبيل الله) قال الحافظ ابن حجر: ليس بثابت والله أعلم اهـ.
فأنت ترى أن حديث عائشة الذي عزاه السيوطي إلى الرافعي أمثل ما يستدل به
على الحكم الصحيح في هذه المسألة؛ لأنه نص فيها، فلو كان له أصل لذكروه، ولو
مع التصريح بعدم ثبوته، كما قال الحافظ في حديث المريض المذكور آنفًا.
(5)
وأما الحديث الثاني فقد أورده المعترض بقوله: وروى الحاكم في
مستدركه حديثًا يذكر فيه أن (أه) من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من
عباده؛ لأنه سر من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين.
ونقول في هذا الحديث كما قلنا فيما قبله: الظاهر أنه نقله عن بعض كتب
أهل الطريق الذين لا يُعْتَدُّ بنقلهم، وهو لم يذكر لفظه، ولا اسم الراوي له من
الصحابة، ونحن لم نر كلمة (أه) في النهاية، ولا مجمع البحار، ولا تكملته، ولا
في غيرهما من معاجم اللغة العامة الشاملة في الكتاب والسنة ولغيره من كلام العرب،
ونزيد على ذلك أن هذه العبارة من الكلام المألوف عند الصوفية وليست من أساليب
كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام العرب في عصره، وكيف يصح أن يكون
سرًّا يعرف بالإلهام ويختص بالمقربين مع التصريح به؟ على أنه غير معروف إلا
عند غوغاء المنتسبين إلى الطريق، فلم يرد عن أحد من أكابر الصحابة والتابعين،
ولا الأئمة المجتهدين، ولا غيرهم من أكابر الفقهاء أو المتكلمين، وأئمة الصوفية
العارفين.
***
الأقوال في اسم الله الأعظم
(6)
ولما كانت الأقوال التي عزاها إلى العلماء في إثبات (اسم الصدر)
واردة في بيان كونه هو اسم الله الأعظم ننقل ما أحصاه الحافظ ابن حجر من
الأقوال في الاسم الأعظم عمن يقول به، فإن بعض العلماء أنكره كما قال الحافظ،
وهذا نص ما قاله في فتح الباري بعد أن أطال الكلام في أسماء الله الحسنى:
(تكميل) وإذ قد جرى ذكر الاسم الأعظم في هذه المباحث فليقع الإلمام بشيء من
الكلام عليه، وقد أنكره قوم كابن أبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري
وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز
تفضيل بعض الأسماء على بعض. ونسب ذلك بعضهم لمالك؛ لكراهيته أن تعاد
سورة أو تردد دون غيرها من السور؛ لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض،
فيؤذن ذلك باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل، وحملوا ما ورد من ذلك على أن
المراد بالأعظم العظيم، وأن أسماء الله كلها عظيمة، وعبارة أبي جعفر الطبري:
اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة؛ إذ لم
يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول: كل اسم من
أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم.
وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي
بذلك كما أطلق ذلك في القرآن، والمراد به مزيد ثواب القارئ.
وقيل: المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به
ربه مستغرقًا، بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتَّى له
ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما.
وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يُطلع عليه أحدًا من
خلقه، وأثبته آخرون معينًا واضطربوا في ذلك، وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة
عشر قولاً:
الأول: الاسم الأعظم (هو) نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف،
واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل له: أنت قلت
كذا وإنما يقول: هو يقول، تأدبًا معه.
الثاني: (الله) لأنه اسم لم يطلق على غيره؛ ولأنه الأصل في الأسماء
الحسنى، ومن ثم أضيفت إليه.
الثالث: (الله الرحمن الرحيم) ، ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة
أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلت
ودعت: اللهم إني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما
علمت منها وما لم أعلم) الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: إنه لفي
الأسماء التي دعوت بها. قلت: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال نظر لا يخفى.
الرابع: (الرحمن الرحيم الحي القيوم) لما أخرج الترمذي من حديث أسماء
بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في هاتين
الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) وفاتحة
سورة آل عمران: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} (آل عمران: 2) أخرجه
أصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي، وفي نسخة صححه، وفيه نظر؛
لأنه من رواية شهر بن حوشب.
الخامس: (الحي القيوم) ، أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة (الاسم
الأعظم في ثلاث سور: البقرة وآل عمران وطه) قال القاسم - الراوي عن أبي
أمامة -: التمسته منها فعرفت أنه (الحي القيوم) وقوَّاه الفخر الرازي، واحتج
بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتها.
السادس: (الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي
القيوم) ، ورد ذلك مجموعًا في حديث أنس عند أحمد والحاكم، وأصله عند أبي داود
والنسائي، وصححه ابن حبان.
السابع: (بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام) أخرجه أبو يعلى
من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي، وأثنى عليه قال: كنت أسأل الله
تعالى أن يريني الاسم الأعظم، فأريته مكتوبًا في الكواكب في السماء.
الثامن: (ذو الجلال والإكرام) أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل
قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام.
فقال: (قد استجيب لك فسل) واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في
الإلهية؛ لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع
الإضافات.
التاسع: (الله لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوًا أحد) ، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث
بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
العاشر: (ربّ ربّ) ، أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عباس
بلفظ (اسم الله الأكبر: رب رب)، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة: (إذا قال
العبد: يا رب يا رب. قال الله: لبيك لبيك عبدي سل تعط) رواه مرفوعًا وموقوفًا.
الحادي عشر: (دعوة ذي النون) أخرج النسائي والحاكم عن فضالة بن
عبيد رفعه (دعوة ذي النون في بطن الحوت {لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له) .
الثاني عشر: نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه
الاسم الأعظم فرأى في النوم: (هو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم) .
الثالث عشر: هو مخفي في الأسماء الحسنى، ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما
دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى، فقال لها صلى الله عليه وسلم:
(إنه لفي الأسماء التي دعوت بها) .
الرابع عشر: (كلمة التوحيد) نقله عياض كما تقدم قبل هذا. اهـ ما أورده
الحافظ من إحصاء الأقوال التي وقف عليها، ومنها عدة أقوال نقلها عن الرازي
ليس فيها ذكر اسم (أه) المدعى، وسننقل ما قاله في تفسيره، ومنها أدلة رواها
الحاكم، وكان الحافظ ابن حجر يحفظ مستدرك الحاكم وغيره من كتب السنة ولم
يذكر عنه في الروايات التي رواها في الاسم الأعظم ولا في الأسماء الحسنى أن
منها (أه) ، وبلغنا أنها كلمة سريانية.
وسننشر في الجزء التالي بقية الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر
مبدوءًا بكلام الفخر الرازي في اسم الله الأعظم، إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
المنار: إطلاق الحكم بالإجماع هنا سهو، فجمهور الأشاعرة قالوا بالتوقيف، وجمهور المعتزلة بعدمه، ولذلك قال صاحب الجوهرة: واختير أن اسماه توقيفية/ كذا الصفات فاحفظ السمعية.
(2)
لفظ مسلم أوله: (أما بعد فإن أحسن الحديث) إلخ، ورواه أحمد وأصحاب السنن باختلاف في الألفاظ، وأخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود موقوفًا بلفظ (إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين) وذكر الحافظ في شرحه له من الفتح أن أصحاب السنن أخرجوه عنه مرفوعًا، وأن مسلمًا أخرجه من حديث جابر مرفوعًا مع زيادة، وليس شيء من ذلك على شرط البخاري.
(3)
وفي رواية (شيئًا) في الموضعين، و (نقص) يستعمل لازمًا ومتعديًا.
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
تاريخ فنون الحديث [*]
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل من السنة تبيانًا للكتاب، ونورًا يهتدي به أولو الألباب،
وبعث إليها من الحفاظ المتقنين، والرواة الصادقين، والنقدة الباصرين، من قام
بصادق خدمتها، وحفظ عليها جلال حرمتها، ونفى عنها تحريف الغالين، وانتحال
المبطلين، وتأويل الجاهلين [1] ، وصانها من إفك المفترين، ودغل الدجالين،
فحفظت على مر العصور، من يد الدثور، وصينت - بعناية الله - من أرباب
الفجور، فلله مزيد الحمد والمنة على ما حفظ من معالم دينه وسبل رشاده، وعلى
صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلواته وسلامه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن من لا علم له بالكتاب والسنة لا حظّّ له من الملة الحنيفية،
والشرعة المحمدية، وليس له من نور الهداية ومصباح النبوة ما يهتدي به في
دياجير الشبهات، وظلمات الترهات، وإن صدره لغفل من برد اليقين، وعقله
بمعزل من إصابة الحق المبين، وقلبه خلو من واعظ الإيمان وخشية الديان،
فالخير كل الخير في اتباع الكتاب والسنة واقتفاء هديهما، والاغتراف من بحرهما
الواسع، وجودهما السابغ، ولا شيء أهدى للنفوس وأجلب لسعادتها، وأرجى
لطهارتها، من تفهم هذين الصنوين والعكوف على درسهما، وتدبر معانيهما،
والنفوذ إلى مغزاهما، فهناك طهارة القلب، وصفاء العقل، وكمال النفس.
فكان خليقًا بالعلماء ورواد الدين أن يجعلوا مقصدهم الأسمى وغايتهم القصوى
معرفة هذين الأصلين، والاستظلال بظل هاتين الدوحتين، والاحتماء بحماهما
وابتغاء الهداية من سبيلهما، ولكن - واأسفاه - صرفوا عنهما العناية، وولوا
وجوههم نحو الفروع وما إليها، وتحكموا بها في كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، فآثروا الفروع على الأصول، وقدموا آراء الرجال على قول الله
وقول الرسول، وما ذلك إلا إغماص لمقام الكتاب والسنة، وتغال في وضع الآراء
مواضع النصوص، وإنه لخطأ - لو يعلمون - عظيم تنكره أصولهم، وتأباه
عليهم - لو أنصفوا - عقولهم.
ومن عجيب أمرهم أن يعدوا من كبار المفسرين مَنْ درس مثل تفسير الجلالين
أو النسفي دون أن تكون له ملكة فهم في القرآن وذوق يدرك به سر فصاحته وكمال
اقتدار على تطبيقه على سير الناس ومعاملاتهم، وأعجب من ذلك أن يعدوا بخاري
زمانه ومسلم أوانه مَن مر على صحيح البخاري مر السحاب دون أن يطلق لنفسه
العنان في تفهم الأحاديث واستنباط الأحكام، ومقارنة ذلك بأفهام المتقدمين وما
استنبطوه منها، وأين صحيح البخاري من كتب الصحاح والمسانيد والأجزاء التي
يكاد يخطئها العد ولا يضبطها الحساب؟ وإن من المضحكات المبكيات أن نسأل
كثيرًا من العلماء عن أسماء الكتب الستة فلا يحير جوابًا، كأن ذلك ليس لديه من
الدين في ورد ولا صدر، ولا قبيل أو دبير، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
تنكرت معالم الدين وطبق الجهل على المنتسبين إليه، وسادت الفروع وعبدت
لها الأصول، وأنكر على المؤثر لها، المقتفي هديها، فزال جلال الدين من النفوس،
وكاد يرحل من دول القضاء، ويهاجر من أرض المعاملات.
فكل ذلك دعاني لأن أجعل رسالتي التي أقدمها لمدرسة القضاء الشرعي في
السنة الختامية، في تاريخ فنون الحديث، والكشف عما طرأ عليها من جمع
وتصنيف، وترتيب وتهذيب، وشرح وتبيين حتى تتمثل لك - أيها القارئ الكريم -
صورة واضحة ترى فيها كتب السنة ماثلة، وتلمح في ثناياها تلك الخدمات الجليلة
التي أداها للسنة سلفنا الصالح، وتبصر في أساريرها رفيع مقام السنة، وناصع
بياضها وجليل أمرها، وإني وإن لم أسبق إلى هذا النوع من الكتابة، حسب ما أعلم،
ولم يمهد أحد قبلي صعابه، فإن أملي في الله عظيم، ورجائي في واسع فضله كبير
أن يسدد لي خطاي، ويوفقني لمسعاي، ويمدني بروح من عنده يهديني بها قصد
السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.
***
معنى تاريخ السنة
السنة في اللغة: الطريقة المسلوكة، من سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه
حتى يؤثر فيه سنًّا؛ أي: طريقًا، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى الطريقة المحمودة،
وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة
سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) رواه مسلم، وتطلق في
عرف الشرعيين على قول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، عدم
إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادًا للشرع فهي مرادفة للحديث، وأعني
بتاريخها الأداوار التي تقلبت فيها من لدن صدورها عن صاحب الرسالة صلى
الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا من حفظ في الصدور، وتدوين لها في
الصحف، وجمع لمنشورها وتهذيب لكتبها ونفي لما اندس فيها، واستنباط من
عيونها، وتأليف بين كتبها، وشرح لغامضها ونقد لرواتها، إلى غير ذلك مما
يعرفه القائمون على خدمتها والعاملون على نشر رايتها.
***
أدوار تاريخ السنة
حفظها في الصدور، تدوينها مختلطة بالفتاوى، إفرادها بالتدوين، تجريد
الصحيح، تهذيبها بالترتيب والجمع والشرح، فنون الحديث المهمة، وتاريخ كل
علم، وأحسن المصنفات فيه.
وسنعقب ذلك بخاتمة فيها مسائل قيمة.
***
مكانة السنة من الكتاب
قبل أن نشرع في موضوعنا نقدم لك بين يديه فصلاً نبين فيه مكانة السنة من
الكتاب ومنزلتها منه حتى تنجلي لك مكانة الموضوع الذي نحن بصدده، فنقول
وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا:
إن للسنة عملين:
1-
تبيين الكتاب.
2-
والاستقلال بتشريع الأحكام. أما الأول؛ فلقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، فلا سبيل إلى العمل بجل
الشرائع التي تضمنها الكتاب إلا ببيان من المعصوم يفصل مجملها، ويوضح مشكلها،
ويعين محتملها، ويقيد مطلقها، وكيف تراك مصليًا إذا وقفت إلى ما نطق به الكتاب
فحسب، ولم تعرض على السنة فتتعرف أوقاتها وعدد ركعاتها وسجداتها وما يقيمها
أو يبطلها إلى سائر أحكامها وكثير أنواعها؟ وما الذي تخرجه من مالك زكاة إذا لم
تسترشد بكتاب الصدقات من السنة؟ ثم كيف تؤدي مناسك الحج إذا لم تأتس
بالرسول في قاله وحاله يوم أن حج بالناس حجة الوداع، فلا جرم كان القرآن في
حاجة إلى السنة ورحم الله الأوزاعي إذ يقول: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى
الكتاب. ولا عجب في ذلك، فإن المجمل في حاجة إلى البيان، ولا كذلك المفصل.
وأما الثاني؛ فلقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7)، وقوله جل شأنه: {وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) إلى غير ما آية، وكيف ننكر استقلال
السنة بتشريع الأحكام وقد أخرج أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته
يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال
استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما
حرم الله) زاد أبو داود: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، وقد حرمت السنة
نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وحرمت الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من
السباع ومخلب من الطير، وأوجبت رجم المحصن، إلى كثير مما ملئت به مدونات
فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام، كبلوغ المرام لابن حجر، والمنتقى
للمجد ابن تيمية، وشرحه نيل الأوطار للشوكاني.
ولا تنس ما في السنة من آداب وآخلاق وقصص ومواعظ ورقائق وعقائد،
وإن كانت لا تعدو شرح الكتاب.
وجملة القول أن الكتاب والسنة ينبوع هذا الدين المتين، ومعتمد المسلمين
وناموس المشرعين.
***
الدور الأول حفظ السنة في الصدور
لم تكن السنة في القرن الأول - عصر الصحابة وأكابر التابعين - مدونة في
بطون الكتب، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب، فكانت صدور الرجال
مهد التشريع النبوي ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق.
ولم يقيدوا السنة بكتاب لما ورد من النهي عن كتابتها، روى مسلم في
صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله- صلى الله
عليه وسلم -: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا
عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قال كثير من
العلماء: نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن، وهذا لا ينافي جواز
كتابته إذا أمن اللبس، وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه
وسلم في مرضه الذي توفي فيه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده)
وقوله عام الفتح: (اكتبوا لأبي شاه) ، وإذنه لعبد الله بن عمرو بتقييد العلم،
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده
في موضع واحد وسموا ذلك (المصحف) واقتصروا عليه ولم يتجاوزوه إلى كتابة
الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن الكريم، وصرفوا همهم إلى نشره
بطريق الرواية، إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه صلى الله عليه وسلم إن
بقيت في أذهانهم، أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم، فإن المقصود بالحديث هو
المعنى، ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن، فإن للألفاظ مدخلا ًفي
الإعجاز، فلا يجوز إبدال لفظ منه بآخر، ولو كان مرادفًا له؛ خشية النسيان مع
طول الزمان، فوجب أن يقيد بالكتابة، وأما السنة فتقييدها مباح ما أمن الاختلاط.
فأنت تراهم سلكوا مسلك الجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة، لكن نظرت
لابن القيم في كتابه (زاد المعاد) أثناء الكلام على قصة الفتح ما يأتي: وفي القصة
أن رجلاً من الصحابة يقال له: أبو شاه قام فقال: اكتبوا لي. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه) يريد خطبته. ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ
النهي عن كتابة الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كتب عني
شيئًا غير القرآن فليمحه) ، وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي
يتلى بالوحي الذي لا يتلى، ثم أذن بالكتابة لحديثه.
وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه، وكان مما كتبه
صحيفة تسمى الصادقة، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب، عن أبيه، عنه،
وهي من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب،
عن نافع، عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها.
وإلى القول بالنسخ أميل: ذلك أن القرآن وإن كان بدعًا في أسلوبه، فريدًا في
نظمه يمتاز على غيره بالإعجاز، لكن المسلمين في أول الإسلام كانوا حديثي عهد
بنزوله، وكان النازل منه يسيرًا، فلم تكن ميزته المثلى قد توطنت النفوس جد
التوطن، ولا تمكنت فيها فضل التمكن، فكان من الممكن أن يشتبه على من دون
فرسان البلاغة الوحي المتلو بغير المتلو، فوجب التمييز بالكتابة، فلما مرنوا على
أسلوبه، وطال عهدهم بسماعه وتلاوته حتى أصبحوا إذا سمعوا الآية تتلى أو السورة
تقرأ أدركوا لأول كلمة تقرع أسماعهم أن ذلك وحي الله المتلو، ولم يحم الاشتباه
حول نفوسهم، لما مرنوا على ذلك أَذِن لهم بكتابة الحديث لأمن اللبس.
ولعل من دواعي النهي عن كتابة الحديث أولاً، ثم الإذن بكتابته ثانيًا أن
العارفين بالكتابة كانوا في غربة الإسلام قليلين فاقتضت الحكمة قصرهم على كتابة
القرآن، فلما توافر عددهم أَذِن صلوات الله وسلامه عليه بكتابة الحديث.
ولا يقعن في نفسك مما أسلفت أنه لم يدون شيء من الأحاديث في القرن
الأول، ولكن كان هذا هو الشأن الغالب، فقد كان عبد الله بن عمرو يقيد كل ما
سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو عمر يوسف بن عبد البر
في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) عن مطرف بن طريف قال: سمعت الشعبي
يقول: أخبرني أبو جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم من رسول
الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة، إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في
الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل كافر بمسلم) .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات والديات والفرائض
والسنن لعمرو بن حزم وغيره، وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: (وجد في
قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها: (ملعون من
أضل أعمى في سبيل، ملعون من سرق تخوم الأرض، ملعون من تولى غير
مواليه، أو قال: ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه) وعن معن قال: (أخرج
إليّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا، وحلف لي أنه خط أبيه بيده) ، وعن
سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة
الرحل، فإذا نزل نسخه، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: (كنا
نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت
أنه أعلم الناس) وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة في
خلافة يزيد، وكان يقول: لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي.
***
تثبت الصحابة في رواية الحديث
عساك تقول: إذا كانت الصدور وعاء السنة في القرن الأول فكيف يؤمن
عليها النسيان، وأن يندس بين المسلمين من يتقول على الرسول؟ فنقول إجابة
على ذلك: إن الصحابة وأكابر التابعين كانوا على علم بالكتاب، وكانوا أسبق
الناس إلى الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، وقد علموا ما أوعد الله به كاتم العلم من
لعن وطرد وإبعاد عن رحمة الرب، فكانوا إذا علموا شيئًا من سنن الرسول بادروا
إلى تعليمه وإبلاغه خروجًا من التهمة، وابتغاءً للرحمة، فسرعان ما ينتشر بين
الجماهير، فلئن نسي بعض منهم، فرب مبلغ أوعى من سامع، فمن البعد بمكان أن
يضيع شيء من السنة أو يخفى على جمهور المسلمين، ولم يكن الصحابة يقبلون
الحديث من كل محدث، بل علموا أن من الحديث محرمًا ومحللاً ومخطئًا ومصوبًا،
وأن سبيل ذلك اليقين أو الظن الآخذ بأهدابه، لذلك تثبتوا في رواية الحديث جد
التثبت، فكان لهم في الراوي نظرة، كما كانت لهم في المروي، وكان كثير منهم
يأبى إلا شاهدًا معضدًا أو يمينًا حاسمة تميط لثام الشك عن وجه اليقين، فهذا أبو
بكر الصديق كان أول من احتاط في رواية الحديث، روى ابن شهاب عن قبيصة
(أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله
شيئًا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطيها السدس فقال: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بذلك، فأنفذه لها أبو
بكر رضي الله عنه .
وعمر بن الخطاب سنَّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في
خبر الواحد إذا ارتاب، روى الجربزي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى
سلَّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في
أثره فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إذا سلم أخوكم ثلاثًا فلم يجب، فليرجع) قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن
بك. فجاء أبو موسى منتقعًا لونه، ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال:
فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه. فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر
فأخبره. وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته، فإن حلف لي
صدقته، وإن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر.
ولقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الرواية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يدخلوا في الحديث ما ليس منه سهوًا أو
خطأ، فينالهم من وصف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أولئك
الزبير وأبو عبيدة والعباس بن عبد المطلب، وكانوا ينكرون على من يكثر من
الرواية؛ إذ الإكثار مظنة الخطأ، والخطأ في الدين عظيم الخطر، فأنكروا على أبي
هريرة كثرة حديثه حتى اضطر لتبرئة ساحته أن يبين السبب الذي حمله على الإكثار
فقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت
حديثًا، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) إن إخواننا
من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم
العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبع
بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
***
مبدأ تدوين السنة
لما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وشاع الابتداع، وتفرقت الصحابة في
الأقطار، ومات كثير منهم، وقل الضبط - دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده
بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ، فلما أن أفضت
الخلافة إلى الإمام العادل عمر بن عبد العزيز كتب على رأس المائة إلى أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم عامله وقاضيه على المدينة: انظر ما كان من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وأوصاه
أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية [2] والقاسم [3] ، وكذلك كتب
إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه محمد بن
مسلم بن عبيد الله بن عبد الوهاب بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام،
وعالم أهل الحجاز والشام [4] ، ثم شاع التدوين في الطبقة [**] التي تلي طبقة
الزهري، فكان أول من جمعه بمكة ابن جريج [5] ، وابن إسحاق [6] ، أو مالك [7]
والربيع بن صبيح [8] ، أو سعيد بن أبي عروبة [9] ، أو حماد بن سلمة [10] ، وسفيان
الثوري [11] ، والأوزاعي [12] ، وهشيم [13] ، ومعمر [14] ، وجرير بن عبد
الحميد [15] ، وابن المبارك [16] ، وكل هؤلاء بالقرن الثاني، وكان جمعهم للحديث
مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
***
أشهر الكتب المؤلفة في القرن الثاني
من أشهر الكتب المؤلفة في المائة الثانية الموطأ للإمام مالك بن أنس المدني
إمام دار الهجرة [17] ، ومسند الإمام الشافعي [18] ومختلف الحديث له [***] ، والجامع
للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني [19] ، ومصنف شعبة بن الحجاج [20] ،
ومصنف سفيان بن عيينة [21] ، ومصنف الليث بن سعد [22] ، ومجموعات من
عناصرهم من حفاظ الحديث، وعقال أوابده كالأوزاعي والحميدي [23] .
ولما كان موطأ مالك أسير هذه الكتب ذكرًا، وأبعدها صيتًا، وأجلها قبولاً رأيت
أن أفرد له فصلاً يجلي شأنه، ويوضح ما لاقاه من عناية الأمة وأئمة الدين.
***
موطأ الإمام مالك
درجة حديثه: قال الحافظ ابن حجر: إن كتاب مالك صحيح عنده، وعند من
يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع [24] وغيرهما. قال
المحدث الدهلوي صاحب كتاب (حجة الله البالغة) : أما على رأي غيره، فليس فيه
مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى، فلا جرم كانت صحيحة
من هذا الوجه، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه،
ووصل منقطعه؛ مثل كتاب ابن أبي ذئب وابن عيينة والثوري وغيرهم ممن شارك
مالكًا في الشيوخ، قال السيوطي في تقريبه نقلاً عن ابن حزم: أحصيت ما في
موطأ مالك، وما في حديث سفيان بن عيينة، فوجدت في كل واحد منهما من
المسند [25] خمسمائة ونيفًا مسندة وثلاثمائة مرسلاً، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد
ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء.
عناية الناس به: قد روى الموطأ عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل،
وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد، مصداقًا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب
العلم فما يجدون بأعلم من عالم المدينة) قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس. رواه
الترمذي، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن [26] ، وابن
وهب والقاسم، ومنهم شيوخ المحدثين كيحيى بن سعيد القطان [27] ، وعبد الرحمن
ابن مهدي [28] وعبد الرزاق بن همام [29] ، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد [30]
وابنيه الأمين [31] والمأمون [32] ، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على جميع ديار
الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر به شهرة وأقوى به عناية، وعليه بنى فقهاء
الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل العلماء يخرجون
حديثه ويذكرون متابعاته وشواهده [****] ، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله،
ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية.
روى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي:
قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من
أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى
غيره. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل
وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس
وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس
قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على
ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا
في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله.
روايات الموطأ: قال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي: الموطآت
المعروفة عن مالك أحد عشر، معناها متقارب، والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى
ابن يحيى، وموطأ ابن بكير، وموطأ أبي مصعب، وموطأ ابن وهب، ثم ضعف
الاستعمال في الأخيرين، وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة
ونقص، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، فقد قال ابن حزم: إنها
تزيد على سائر الموطآت نحو مائة حديث.
***
شروح الموطأ ومختصراته
ممن شرح الموطأ أبو مروان بن عبد الملك بن حبيب المالكي [33] ، وصنف
الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر [34] كتابًا سماه: (التقصي لحديث الموطأ) وله
كتاب (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)، قال ابن حزم: هو
كتاب في الفقه والحديث، ولا أعلم نظيره. وكذلك شرح الموطأ أبو محمد عبد الله
ابن محمد النحوي البطليوسي [35] ، والقاضي الحافظ أبو بكر محمد بن العربي
المغربي [36] وسماه (القبس)، ومما جاء فيه في وصف الموطأ: هذا أول
كتاب ألف في شرائع الإسلام، وهو آخره؛ لأنه لم يؤلف مثله، إذ بناه مالك رحمه
الله على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع
إليه في مسائله وفروعه. وممن شرحه جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر
السيوطي [37] وسمى شرحه (كشف المغطا في شرح الموطأ) ، ومحمد بن
عبد الباقي الزرقاني المصري المالكي [38] شرحه شرحًا بسيطًا في ثلاثة مجلدات،
وللموطأ مختصرات كثيرة، فمنها مختصر الإمام الخطابي أحمد بن محمد
البستي [39] ، ومختصر أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي [40] ، وابن رشيق
القيرواني [41] .
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) رسالة صنفها الشيخ عبد العزيز الخولي الطالب في السنة النهائية لمدرسة القضاء الشرعي.
(1)
روى البيهقي في المدخل من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) .
(2)
توفيت سنة 98.
…
... (3) توفي سنة 120.
…
(4) توفي سنة 124.
(**) الطبقة في اصطلاح المحدثين عبارة عن جماعة اشتركوا في السن ولقاء المشايخ.
(5)
توفي سنة 150.
…
(6) توفي سنة 151.
…
(7) توفي سنة 179 بالمدينة.
(8)
توفي سنة 160.
…
(9) توفي سنة 156.
…
(10) توفي سنة 167 بالبصرة.
(11)
توفي سنة 161 بالكوفة. (12) توفي سنة 156 بالشام.
(13)
توفي سنة 188 بواسط. (14) توفي سنة 153 باليمن.
(15)
توفي سنة 188 بالري. (16) توفي سنة 181 بخراسان.
(17)
توفي سنة 179.
…
(18) توفي سنة 204.
(***) يطلق مختلف الحديث على الأحاديث المعارضة بمثلها في القوة، ويمكن الجمع بينها بغير تعسف.
(19)
توفي سنة 211.
…
(20) توفي سنة 160.
…
(21) توفي سنة 198.
(22)
توفي سنة 175.
…
(23) توفي في 219.
(24)
المرسل من الحديث: ما سقط من سنده الصحابي بأن يروي التابعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، والمنقطع: ما سقط من أثناء سنده راو أو أكثر مع عدم التوالي.
(25)
المسند: مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال.
(26)
توفي الأول سنة 204 والثاني 189.
(27)
سنة 198.
…
... (28) سنة 198.
…
... (29) سنة 211.
(30)
سنة 193.
…
... (31) سنة 198.
…
... (32) سنة 218.
(****) الحديث الذي ينفرد بروايته واحد يسمى غريبًا، فإن انفرد به في موضع واحد من الإسناد قيل للحديث: إنه فرد نسبي أيضًا، وإن كان في كل موضع منه سمي فردًا حقيقيًّا، فإذا وافق ذلك المفرد غيره في رواية ذلك الحديث عن نفس الصحابي الذي رواه عنه، قيل: إنه وجد للأول متابع، وإن وجد متن يشبه متنه وهو مروي عن صحابي آخر قيل للثاني: شاهد.
(33)
توفي سنة 239.
…
(34) سنة 463.
…
... (35) سنة 521.
(36)
سنة 546.
…
... (37) سنة 911.
…
... (38) سنة 122.
(39)
سنة 288.
…
... (40) سنة 474.
…
... (41)456.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
إننا ندعو من يطلع على المنار من علماء الدين وغيرهم من أهل العلم والرأي
أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل الدينية وغيرها، أو ما ينافي
مصلحة أمتنا وأوطاننا التي نعيش فيها، ونعد المنتقدين بنشر كل ما يرسل إلينا من
نقد مع بيان رأينا فيه، بشرط أن يكون على الوجه الذي بيناه في خاتمة المجلد 21
وفيما قبله.
ونذكر عامة قراء المنار أن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا في المنار بكتابة
انتقاده وإرساله إلى صاحبه لينشره فيه، فيطلع قراؤه عليه وعلى ما يقرن به من قبول
أو رد، ويأخذوا بما يرونه الحق، ويعلموا أن كل منتقد أبى أن يكتب انتقاده ويرسله
إلينا فهو فاسق مغتاب، أو حاسد كذاب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاتحاد والاقتصاد
كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ميزان سياسة الأمم ونظام
الاجتماع، كثر في هذا العصر تشدق الخطباء بذكرهما، وشرح الكُتاب لفوائدهما،
ولما يفقه الدهماء حقيقة معناهما، بل لما يُحط أكثر العلماء والزعماء منا خبرًا بهما؛
لأن فقه الحقائق وإحاطة الخبر لا يحصلان إلا بطول التجارب في الحوادث،
والاصطلاء بنيران الكوارث، بعد تلقي الحكمة بالتعليم، والتربية على سلوك
الصراط المستقيم.
كنا منذ أنشأنا المنار في أواخرسنة 1315 للهجرة قد جعلنا أهم ما ندعو إليه
القراء في مصر وسائر البلاد أن يجعلوا جل عنايتهم في إصلاح شؤونهم بالتربية
الملية التي تكوّن أمة متحدة، والاقتصاد الذي تكون به الأمة غنية تتصرف بثروتها
في القيام بمصالحها كما تشاء، بثثنا هذه الدعوة في (المؤيد) في ذلك العهد؛ إذ كنا
نكتب فيه مقالات بإمضاء (م. ز) وبغير إمضاء، ثم أعدنا بثها في (الجريدة) في
أول العهد بظهورها في مقالة عنوانها: (إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج)
نشرناها أيضًا في الجزء الثاني للمجلد العاشر من المنار الذي صدر في صفر سنة
1325.
ونحمد الله تعالى أن رأينا في هذه السنين آيات الاتحاد في هذه البلاد العزيزة،
ورأينا من نتائجه قرب الحصول على الاستقلال الذي نعتقد أنه لا ينال إلا به، بل
نقول: إن الاتحاد بغير استقلال خير من الاستقلال بغير اتحاد؛ لأن الاتحاد يأتي
بالاستقلال المفقود، وفقده يذهب بالاستقلال الموجود، فالواجب الآن على كل
مصري أن يكون أحرص على تعزيز الاتحاد والتكافل الذي وقع منه على نيل
الاستقلال الذي يرجى به ويتوقع، فإن الاتحاد إذا ثلم وانفصمت عروته قبل بدو
صلاح ثمرته نفضت الشجرة، أو خرجت الثمرة شيصًا لا غناء فيها، وإذا انتكث
فتله بعده، زال أثره بزواله، فإذًا لا استقلال ابتداءً ولا بقاء إلا بالاتحاد.
ولما كان لكل كثرة دائرة منظمة جهة وحدة تضبطها وتعرف بها، وكان الوفد
المصري هو عنوان الاتحاد الذي ارتقت إليه البلاد وممثله، وجب على الشعب
المصري المتحد أن يظل متمسكًا بحبله معتصمًا بعروته، ولا سيما بعد الذي ظهر
من كفاءته وأمانته، وإلا كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وناهيك به
جهلاً وأفنًا وخسرانًا.
ثم ليعلم علم تدبر أنه لا قوام لاستقلال الأمم وحريتها إلا بالثروة، ولا ثروة
إلا بالاقتصاد، وأن الاقتصاد السياسي، متوقف على الاستقلال الاقتصادي، ونحن
مقصرون في سبيل هذا الاستقلال تقصيرًا إذا لم نبادر إلى تداركه كنا من الهالكين.
إن للكسب والإنفاق علومًا وفنونًا اتسع نطاقه في هذا العصر اتساعًا عظيمًا؛
لأنها قطب الرحى لمدنية الأمم والشعوب وعزتها ورفاهتها وسيادتها، وقد برّزت
بها الأمم الشمالية الغربية، فاستعمرت أو استعبدت به الأمم الشرقية والجنوبية،
حتى ظن كثير من القاصرين أن الشعوب والأجناس أو الأقاليم الغربية، أعظم
استعدادًا بطبيعة العرق وخاصية الجنس من الشعوب الشرقية، ويبطل هذا القول ما
هو معلوم من أن اليهود أرقى أهل الأرض في جميع هذه العلوم والفنون والأعمال
والمترتبة عليها، أينما وجدوا وحيثما حلوا من أقطار الأرض، وهم شعب شرقي
محافظ على نسبه ودمه، وكذلك الشعب الياباني في الشرق الأقصى قد جارى
الغربيين فيها من عهد قريب.
ولكن الأمر الغريب أن المسلمين في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا
يزالون مقصرين في هذا المضمار، وبهذا التقصير أضاعت أكثر دولهم ملكها،
وأمسى الباقي لها بين براثن الخطر، ويضيع أكثر أفرادهم ملكهم في البلاد التي
يزاحمهم فيها غيرهم، فإن كان جل ثروة مصر وسورية والعراق لا يزل بيدهم،
فما ذلك من كسبهم بعلومهم وفنونهم، وإنما ذلك إرث رقبة الأرض تسلسل فيهم؛
لأنهم أكثر السكان المالكين لها، فهذه مصر أقدر البلاد العربية على اقتباس العلوم
والفنون المالية وغيرها، وأكثرها نفقة عليها نراها مقصرة في هذا الاقتباس، فجميع
من يعيش فيها من الشعوب الأوربية واليونانيين والسوريين يفوقون المصريين في
العلوم والفنون المالية الاقتصادية، وفي إدارة المال بالتجارة وغيرها، وفي
الاقتصاد وحفظ الثروة من التبذير والضياع، بل القبط من المصريين يفوقون
المسلمين في ذلك عملاً، وثروتهم النسبية تفوق ثروة المسلمين، وأكثر أعمال
الحكومة المالية في أيديهم وأيدي الأوربيين والسوريين، بل أكثر المسلمين يعتمدون
على كتبهم في إدارة ثروتهم على أن المسلمين أشد إسرافًا في الإنفاق وتبذير الأموال
منهم ومن سائر الشعوب التي نعرف أحوالها.
من فطن لهذا من علماء الاقتصاد يعلله بادي الرأي بأن الدين الإسلامي هو
السبب في الأمرين، وهذا التعليل يضاهي في البطلان تعليل من عساه يقول: إن
الدين المسيحي هو سبب ثراء نصارى الغرب وسعة عيشهم وشدة سطوتهم
وجبروتهم، والحق أن كلاًّ من النصارى والمسلمين مخالف لهدي دينه ونصوص
كتابه في الأمرين، فالإنجيل يهدي إلى المبالغة في الزهد والقناعة والتواضع
والخضوع لكل سلطان، وينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السماوات،
والإسلام دين سيادة واقتصاد، وجمع بين مطالب الروح والجسد، كما بينا ذلك
وفصلناه مرارًا كثيرة، ومن نصوصه فيما نحن بصدده قوله تعالى في أوائل سورة
النساء: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) ؛
أي: جعل عليها مدار قيام مصالحكم ومرافقكم وحفظها وثباتها، وقوله في صفات
المؤمنين من أواخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، ونهى في وصايا سورة الإسراء عن المبالغة
في قبض اليد وبسطها في الإنفاق، وعن التبذير وسمى المبذرين إخوان الشياطين،
وهذه الوصايا هي أمهات أصول الدين وفضائله وآدابه، وهي تشمل الوصايا العشر
التي في التوراة ما عدا بطالة يوم السبت وتزيد عليها، وفي السنة وصايا وأحكام
كثيرة في ذلك.
فالمسلمون مخالفون لدينهم فيما اعتادوا من الإسراف في النفقات، وهذا إذا
كانت فيما أبيح لهم من الزينة والطيبات، فكيف إذا كانت في المحرمات؟ ولا سيما
الفواحش الثلاث المفسدات للفطرة المخربات للديار؛ السُكْر والزنا والقمار، وهم
على هدمهم بذلك لدينهم يهدمون كل ما يبنى من صرح استقلالهم، وإنني لم أر ولم
أسمع من أخبار البشر أن شعبًا منهم يعادي النقد الذي هو ميزان الأعمال والقوة في
الاجتماع البشري كالشعب المصري، فالمصري أسرع الناس بذلاً لما يصل إلى يده
من النقد، فالمتمتعون بالزينة واللذات ينفقون في سبيلهما ما تصل إليه أيديهم من
كسب وقرض، ولو بالربا الفاحش، وغير المتمتعين يشترون بما تصل إليه أيديهم
من كسب وقرض بالربا أرضًا أو عقارًا، ولا يبالي أكثر الفريقين أن يشتري
الشيء بأضعاف ثمنه، وإن استدان الثمن بالربا الفاحش؛ لأن النقد أحقر الأشياء
في نظره، ولذلك ترى أكثر المصريين على سعة ثروتهم الزراعية مرهقين بالدين،
فيجب على الزعماء والعلماء والخطباء وكتاب الصحف أن يتعاونوا على درء هذا
الخطر بوسيلتي العلم والعمل، وإلا ظل المنتجون منهم كالأجراء الأجانب؛ لأن
جل ما ينتجون يتسرب إلى صناديق المصارف المالية ومنائر المرابين وجيوب
أصحاب الحانات والمواخير وموائد القمار وتجار عروض الزينة والترف، وبعبارة
أخرى أن جل ثروة البلاد تخرج منها إلى البلاد الأجنبية.
ومن الضروري أن يبادروا إلى تأليف جمعية اقتصادية يكون من أعمالها
إرسال بعض الطلاب المستعدين إلى معاهد العلم في أوربة لأجل الأخصاء في علم
الاقتصاد السياسي وسائر الفنون المالية والصناعات الضرورية، ولا سيما الغزل
والنسيج، ثم جعلهم معلمين لهذه الفنون والصناعات وعاملين بها، والاستقلال
المنتظر يزيل إن شاء الله ما كان من الموانع دون مثل هذا، وإنني رأيت في الهند
معامل عظيمة للمنسوجات الأوربية - دع المنسوجات الوطنية الخاصة بأهل البلاد -
وجميع عمال هذه المعامل من الوطنيين، إلا أنني رأيت في معمل كبير في
بمباي رجلين من الإنكليز وظيفتهما اختيار نقوش النسيج، ويكون أهم أعمال هذه
الجمعية وشعبها تعميم النقابات الزراعية في البلاد وتأليف الشركات للمشروعات
الاقتصادية المختلفة، ويكون منها السعي لإرشاد جمهور الأمة إلى الاقتصاد،
وجعل ثروة البلاد قوة لها، وضمانًا لاستقلالها بنفسها وحريتها في التصرف
بثروتها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نصيحة اقتصادية
إن هذا الغلاء الشديد الذي تئط من حمله جميع الأمم - الذي كانت الحرب
سببًا طبيعيًّا [1] له، وابتدع له الطامعون من التجار وغيرهم أسبابًا صناعية وحيلاً
كثيرة - قد بلغ مده الغاية في حده، ولم يعد للعمران قِبل باحتماله، ومن المقطوع
به في علم الاقتصاد أن الأشياء التي قلت بقلة الأيدي العاملة لاشتغال ألوف الألوف
من البشر بالحرب عن الزراعة والصناعة ستكثر بعد عود تلك الأيدي إلى العمل،
فتجد المستهلكين للأقوات والمصنوعات قد قل عددهم؛ إذ أهلكت الحرب خمسة
وثلاثين مليونًا من البشر منها 12 مليونًا في ميادين القتال على أوسط تقدير،
والباقي فيما تولد عنها من الأدواء والأمراض والمجاعات كما قيل، ويوجد عشرات
الملايين أو مئات الملايين من البشر في الشرق لا يزال يتعذر إيصال البضائع
الأوربية إليهم، فلا بد إذًا أن تهبط أثمان البضائع والأقوات هبوطًا عظيمًا ربما كان
فوق تقدير المقدرين.
فالواجب على كل عاقل حريص على ماله أن يتبع القاعدة المعقولة التي جرينا
نحن عليها وكنا نوصي الناس بها، وهي أن لا يشتري أحد شيئًا ما قبل عودة
الأسواق إلى الأسعار المعتدلة إلا إذا كان لا غنى له عنه، وبعد البحث عن أسعاره في
عدة مواضع، ولا يغترن أحد بعد اليوم بحيل التجار بادعاء تنزيل الأثمان مؤقتًا،
ودعوتهم إلى ما يسمونه الفرصة العظيمة أو (الأوكازيون) ، فإن هذه الفرص
ليست بمؤقتة، وإنما هم مضطرون إلى الهبوط بها إلى ما دونها، فهم يغتنمون فرصة
حاجة الناس إلى الشيء وألفتهم للغلاء قبل الهبوط الشديد العام المنتظر، فالغنم لهم
والغرم على من يصدقهم.
بدأ أحذق التجار ينقص أسعار البضائع بالتدريج، ولا سيما المنسوجة، وظل
أغبياء الطامعين مصرين على نهب الناس بتلك الأسعار الفاحشة، بل علمنا علم
اليقين أن بعض الذين أعلنوا للناس وجوب اغتنام الفرصة بالنقص المؤقت من سعر
البضائع قد زادوا في سعرها بما كتبوا على بطائقها كما كانوا يفعلون في زمن
الحرب والهدنة، ولكن قلَّ مَن ينخدع بعد اليوم بهؤلاء القادة المستحقين للإفلاس
والفقر.
_________
(1)
القاعدة في النسبة إلى فعيلة فعلي وصرحوا باستثناء السليقة فقالوا: سليقي، استعمل وجرى علماء المعقول وغيرهم على ذلك في النسبة إلى الطبيعة؛ لأنها بمعنى السليقة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجود والإحسان
والمقابلة فيهما بين نساء الإنكليز اليوم ونساء الصحابة رضي الله عنهم
نشرت جريدة (المقطم) منذ بضعة أشهر ما يأتي:
قابل أحد أغنياء لندن محافظها من أيام، وأبلغه أنه مستعد للتبرع بمائة وخمسين
ألف جنيه لإنشاء حديقة في لندن تدعى حديقة النصر، وقد وعد هذا المحسن أن
يتبرع بكل ثروته، وتقدر بأكثر من مليون للأعمال الخيرية قبل وفاته.
واجتمع المؤتمر الإنكليزي الكاثوليكي في لندن؛ لاستنداء الأكف لمساعدة
الرسالات الدينية الخارجية وخطب الخطباء، قالت (الديلي مايل) : فأخذت النساء
ينزعن حليهن، ويلقينها في العلب والبرانيط التي أديرت على المجتمعين، وتبرع
كثيرون بحوالات كتبوها بأقلام استعارها بعضهم في الاجتماع، وبعض هذه
الحوالات بألف جنيه، وبعضها بثماني مائة، والبعض بخمس مائة، وقدر ما
اجتمع من الساعات ذات السوار والحلي الأخرى بمئات الجنيهات، ونزعت إحدى
الحاضرات الحلية التي على حذائها، وتبرعت أخرى بأزرار اللؤلؤة التي على
بلوزتها، وتبرعت أخرى بقرطين صغيرين من الذهب والألماس نزعتهما من
أذنيهما، وكان المجموع الأول 1745جنيه اهـ.
***
الاعتبار بهذا الخبر
ذكرنا تبرع نساء الإنكليز بحليهن لمساعدة نشر دينهم ما ورد في الصحيحين
من مثل ذلك عن نساء الصحابة رضي الله عنهن ففي (باب عظة النساء) من
كتاب العلم عند البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أشهد على
النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء
فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يأخذ في
طرف ثوبه) .
وهذا الوعظ للنساء كان في يوم عيد الفطر، خص النبي فيه النساء بالموعظة
بعد الخطبة العامة لظنه أنه لم يسمعهن؛ لأنهن كن يصلين ويجلسن وراء الرجال،
وأخرج البخاري الحديث في (باب موعظة الإمام النساء يوم العيد) ، من كتاب
(العيدين) عن جابر في تفسير سورة الممتحنة عن ابن عباس، ويؤخذ من
مجموع الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم شق صفوف الرجال بعد خطبة
العيد حتى أتى النساء، فقرأ عليهن آية المبايعة، ثم قال لهن: (هل أنتن على
ذلك؟) فأجابته واحدة عنهن: نعم. ولما أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة قال
لهن بلال: هلم لكن فدًا أبي وأمي، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال، وزاد
في رواية لمسلم الخلاخيل، فأما الأقراط، فهي حلي الآذان، وأما الفتخ وهي جمع
فتخة، فحلق تلبس في أصابع اليدين والرجلين.
والعبرة فيما تقدم من وجوه: أهمها أن الإفرنج اليوم أقرب منا إلى هداية ديننا
وسيرة سلفنا الصالح في أمور كثيرة، وأهمها حياة الدين والغيرة عليه، والبذل في
سبيله، ومشاركة النساء للرجال في حضور العبادة في المسجد مع الرجال، وسماع
المواعظ والتعاون على المصلحة الملية العامة، ولا يبعد أن يعود نساؤنا إلى شيء
هداية دينهن اقتداءً بالمحسنات من نساء الإفرنج كما يقلد الكثيرات منهن المسيئات
الآن في الأمور المنتقدة، ومتى دبت الحياة في الأمة يحيا فيها كل ما يتعلق بحياتها
الاجتماعية.
_________