الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثاني والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله
غيرك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فنحمدك بما حمدت به
نفسك في كتابك، ونصلي ونسلم على أنبيائك ورسلك {الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ
الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل: 59) وتحياته المباركات وصلواته الطيبات على خاتم
رسله محمد المصطفى، وآله المطهرين وأصحابه الحنفا، وعلى من اتبع هديهم
واقتفى {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) .
سبحانك اللهم وبحمدك، حكمت فعدلت، وقدرت فهديت، وانتقمت فقهرت،
فلك الحمد في السراء والضراء وحين البأس، لا قنوط من رحمتك ولا يأس،
فأسألك من رحمتك العامة للعالمين، ومن رحمتك الخاصة للمسلمين، ووفقني اللهم
للقيام في هذا المنار بالنصيحة الحق، النافعة لكل من بلغته من الخلق، ووفق اللهم
أئمة هذه الأمة وأمراءها، وقادتها وزعماءها إلى ما تخرجها به من ظلمات هذه
الفتن إلى النور الفائض من مطالع آياتك البينات، المنبسط شعاعه على الخلق
بسننك في سير البشر ونظام الكائنات، ليعلموا أن الغلو في الدين، مضيعة للدنيا
والدين، وأن الغرور بالدنيا مهلكة للمغرورين، وأن سنة الله تعالى في رد الفعل
إلى سواء الصراط، يتعاقب في سبيله التفريط والإفراط، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) .
سبحانك الله وبحمدك، أريتنا من آياتك في أنفسنا وفي الآفاق ما يتبين به
الحق، لمن زكت فطرته واستنارت بصيرته من الخلق، فوفقنا لمعرفة ما نراه منها
في هذا الزمان، معرفة اعتبار وحكمة وإيمان، كما وفقت لذلك آباءنا الأولين،
وسلفنا الصالحن؛ لنكون كما كانوا من الأئمة الوارثين، الجامعين بين سيادة الدنيا
وهداية الدين، إذا أوغلنا في الدين نوغل برفق فلا نغلو غلو المغرورين، وإذا
حكمنا بين الناس نحكم بالعدل فلا نعلو علو الجبارين، وإذا تصرفنا بما أحللت لنا
من الزينة والطيبات من الرزق نتصرف تصرف الشاكرين، فلا نستأثر بالنعمة
أثرة المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ
يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} (النحل: 83) .
سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا آياتك فإن جحدها أقوام فقد عرفناها وما نحن
لها بجاحدين، وعرفتنا نعمتك فإن يكفر بها الأكثرون فما نحن بها بكافرين، وقد
أنزلت عقابك الحق بالباغين الجبارين، وبالمترفين المسرفين، وبمن ذل لكبريائهم
ودان لطغيانهم من الجاهلين المفرطين، فاجعل اللهم ذلك عبرة وموعظة لنا، ولا
تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، فقد آن أن يستدير
الزمان، ويتجدد إعجاز القرآن، فيتوب الفاسقون، ويوقن المرتابون ويؤمن
الجاحدون {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *
فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ
يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 1-7) .
سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا من جهل أعلم الناس بشؤون خلقك، ما أقمت
به الحجة البالغة على صدق قولك وإحاطة علمك، فقد غلب الروس الذين كانوا
يعدون الخطر الأكبر على الإسلام، كما غلبت الروم في عهد ظهور النبي - عليه
الصلاة والسلام -، ثم غلبت الشعوب الجرمانية، وظهر جهلها بما كانت به أعلم
الشعوب من الفنون الحربية، ثم ظهر جهل أعلم الأقوام بجمع الثروة وحفظ المال
فكانوا من الخاسرين، وظهر جهل أعلم الأمم بشؤون الإدارة والاستعمار فكانوا من
الخائبين {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِءُونَ} (الروم: 10) .
سبحانك اللهم وبحمدك أنت الواحد القهار، مكور النهار على الليل ومكور
الليل على النهار، الكبرياء رداؤك، والعظمة إزارك، من نازعك فيهما قصمته،
وقد صرفت عن آياتك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، مغترين بما
استدرجتهم به من شدة القوة وسعة الرزق، فلم يعتبروا بما حل من قبلهم ممن كانوا
أشد منهم قوة، ولم يتعظوا بما أنزلت من آيات الوحي وشرعت من هدي النبوة،
واجعل ذلك تربية للمستضعين المتفرقين، وقهرك إياهم سلامًا ورحمة لجميع
العالمين، يعلو بها الحق على الباطل، ويقضي بها العدل على الظلم، ويغلب
القصد والاعتدال والإيثار، على السرف والأثرة والاستكبار، فقد ضاق البشر ذرعًا
بطمع الأغنياء المسرفين، وطغيان الرؤساء الجبارين، الذين طغوا في البلاد
فأكثروا فيها الفساد، واستكبروا على العباد فاستعبدوا الجماعات والشعوب للأفراد،
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ *
أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأعراف: 97-100) .
لقد أَنْذَرْنا أكابر الساسة في مثل هذه الفاتحة منذ عامين، أن ترك تنفيذ قواعد
العدل العام وحرية الأمم لا بد لها من إحدى العاقبتين، بقولنا: إن لا تفعلوه تكن
فتنة في الأرض وفساد كبير، وانقلاب بلشفي شره مستطير، أو تعود الحرب
جذعة، بهذه السياسة الخُدَعة الخُبَاة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا
يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، وقد صدقت الآيات ولم تغن النذر، واتبع
المنذرون أهواءهم وكل أمر مستقر، فهذه الأرض تضطرم بنيران الفتن والفساد،
والانقلاب البلشفي كل يوم في ازدياد، وإنما هو شر على منهومي المال، ومستعبدي
الأقوام ومذلي الأقيال، وقد يشقى ناس فيسعد بشقائهم آخرون، وتثل عروش قرى
عاتية فيرثها قوم آخرون {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ
رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 32-33) .
إن الناس لن يكونوا أمة واحدة، ولن تخضع الأمم منهم لأمة واحدة، ويا أيها
المثرون المترفون والرأسماليون الطامعون، إن طلب الزيادة ينتهي بالوقوع في
النقصان، وإن السواد الأعظم من البشر لا يرضى أن يكون عبدًا خادمًا لأفراد من
الأعيان، وإن سنة رد الفعل سيكون لها القول الفصل، والحكم العدل، ولكن
المجرمين يرون العدل عقابًا والمساواة بين الناس عذابًا، فكيف إذا سبقه الجزاء
على الظلم السابق، والإفراط الماحق، وكان تنفيذه على المعاندين، بمثل القسوة
التي كانوا يسومونها الضعفاء المساكين؟ وإن تبتم قبل أن يحاط بكم فهو خير لكم
{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى
وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأحقاف: 27) .
وأنت يا أيتها الأمة الأمية التي عاودها الارتكاس في عصبية الجاهلية، إلام
هذا التفرق والانقسام، بعد تلك السعادة بالوحدة والاعتصام؟ وحتام تلدغين من
الجحر الواحد مرارًا عديدةً، وقد حذرت من المرتين، وسمعت النذر بالأذنين،
ورأيت العبر بالعينين، ولمست العواقب باليدين؟ وإلى متى تغترين بالمظاهر
والألقاب، وتدعين الفرص تمر بك مر السحاب؟ تداعت عليك الأمم كما أخبرك
النذير؛ إذ كان لهم منك أي ولي وظهير، ورأيت الذين في قلوبهم مرض يسارعون
فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة. وابتغوا عندهم العزة والثروة، فكانت كرتهم
الخاسرة؛ لأنهم خسروا بولايتهم الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإن
كانوا عنه لمن الغافلين {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ
فِي الخَيْرَاتِ بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 53-56) .
فيا قوم إني لكم ناصح أمين، على علم بالحق المبين من هداية القرآن، وأحوال
الزمان، أن لا تعبدوا إلا الله، ولا تيأسوا من روح الله {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود: 3) أخاف عليكم عذاب يوم القيامة
الأولى، قبل عذاب يوم القيامة الأخرى، يوم الخزي والنكال، بفقد بقية الاستقلال،
فقابلوا أولياء الشيطان، بما أمركم به الرحمن، من غير تحريف ولا تصحيف في
القرآن، ولا تغرنكم أيمان أئمة ليس لهم إيمان، ولا يصدنكم عن آيات الله سبب ولا
نسب، ولا رغب ولا رهب، ولا ورق ولا ذهب، فقد برح الخفاء وانكشفت الظلمة،
فلا يكن أمركم عليكم غمة {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 135) .
وما لي لا أخص بالتذكير قومي وعشيرتي، بعد التذكير العام لجميع شعوب
أمتي، بما يشد أسر الجماعة ويضع عنها إصرها، ويحكم أواصر الجامعة ويرفع
لها ذكرها، وهم لا يزالون أشد تلك الشعوب تخاذلاً وتواكلاً، وأضعفهم تعاونًا
وتكافلاً، وأكثرهم تباغيًا وتفاشلاً، وتماحكًا وتماحلاً، وأقلهم تحالفًا وتناصرًا،
وتظافرًا وتظاهرًا، اتحد مسلمو مصر مع القبط فيما يفيد في الدنيا ولا يضر بالدين،
وتعاون مسلمو الهند كذلك مع الوثنيين، وتناصر مسلمو الترك مع الروس أعدى
أعدائهم الأولين، ولكن تعذر الاتفاق في الجزيرة بين أبناء الدين الواحد، واللغة
الواحدة والوطن الواحد، كما تعذر الاتحاد في قطر آخر بين السهل والجبل، بل
بين بلد وبلد، ولولا أن هذه الأمة مرحومة لأبسلت بذنوبها، وهلكت بتفريطها في
أمرها، ومن رحمة الله بها أن باب التوبة لا يزال مفتوحًا في وجهها، وأن مسالك
النجاة ما فتئت مرجوة لها، فما عليها إلا أن تأتي البيوت من أبوابها، وتطلب
المسببات من أسبابها، بتغيير ما أوقعها في سابق غرورها، والتواكل في أمورها،
والاتكال على أيمان مبيرها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} (الأنفال: 53-56) فتدبروا سائر الآيات
وأنتم لا تظلمون {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 20) .
استدار الزمان، ووقع من التطور الاجتماعي ما لم يكن في الحسبان، وسيندك
ما بقي من صروح الاستبداد، وينطلق سائر المستعبدين من مقاطر الاستعباد،
بفضل التظافر والتظاهر والاتحاد، وإنما الذل والهوان، والخزي والخذلان،
والبغي والعدوان، على أهل النفاق والدهان، والمتفرقين في المذاهب والأديان،
والمتعادين في الزعامات والبلدان، والمغرورين بالعهود والأيمان، والقوانين
وحقوق الإنسان، والمخدوعين بكلم العدل والمدنية، والمساواة والحرية، والرحمة
الإنسانية، وإنما المعاهدات حجج الأقوياء على الضعفاء، ولا وجود للعدل
والمساواة، إلا حيث العجز عن الظلم والمحاباة، ولا حق في الحرية ولا في
الرحمة، إلا لذوي الأيد والحرمة، والعاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة [1] ؟ على أن
قاموس السياسة تكثر فيه أسماء الأضداد، فلا تنافي فيه بين التحرير والاستعباد،
ولا تضاد بين الحماية والاستقلال، ولا تناقض بين الإساءة والإحسان، ولا
تعارض بين الكفر والإيمان {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ} (آل عمران: 167) ، {كيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ
وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 8) .
تبًّا للمنافقين المتملقين، وسحقًا للتائبين المستسلمين، وبعدًا للفاسقين الخائنين،
وطوبى للراجين العاملين، فرب خوف أعقب الرجاء، ورب عداء انتهى بولاء
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) .
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
(1)
هذه الكلمة لموقظ الشرق الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مأتم عاشوراء واقتحام الشيعةالنار فيه
س1 من صاحب الإمضاء في زنجبار إلى حضرة جناب الأفخم العلامة
الأستاذ السيد محمد رشيد رضا المحترم دام إقباله.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي بِطَيِّ الأحرف ورقة قطعناها من
الجريدة الرسمية بزنجبار أحببنا أن نطلعكم عليها، مضمونها أن الشيعة الإمامية الاثنا
عشرية يوقدون في ليلة العاشرة من المحرم في حفرة طويلة عريضة نارًا قوية
ويمرون فوقها ولا تحرقهم، وكنا قبل نسمع بهذا العمل أنه في الهند، وهذه السنة
شاهدنا بأعيننا هذا العمل بطرفنا.
ويزعمون أنها معجزة من معجزات أهل البيت، وكذلك يزعمون أن شجرة
في الهند يخرج منها دم في كل شهر محرم، وقد كثر من إخواننا الشيعة بطرفنا مثل
هذه الأشياء، ولولا أن بين أيدينا كتب العلامة ابن تيمية قدس الله روحه لكان أكثر
الناس تشيعوا، وقد عرفناكم بذلك لأجل أن تبينوا لنا الحقيقة على صفحات المنار
حتى ينجلي ما التبس علينا، ولكم من الله الأجر، ومن خلقه الشكر، والسلام.
من صغيركم صلاح الدين بن ناجي بن علي الكسادي
من زنجبار في 23 المحرم سنة 1339.
ترجمة
ما نشر في جريدة زنجبار الرسمية الإنكليزية
أرسل إلينا الوصف الآتي للأعياد المحلية لعاشر المحرم ولعله يلذ القراء:
من المعلوم الذي لا شك فيه أن تذكار استشهاد الحسين هو من أهم الأعياد
الإسلامية؛ لأن أول صدع عظيم حدث في الإسلام كان بناءً على هذا الحادث، أعني
مسألة الحق بالخلافة.
تحتفل فرقة الشيعة في زنجبار كل سنة باستشهاد الحسين بشعور انفعالي
عظيم ذي تأثير شديد، ففي ليلة العاشر من المحرم يضرب المخلصون صدورهم
ورؤوسهم، ويخوضون في النار وهم ينادون باسم محمد والحسين بنغمة مؤثرة
تبكي الناظرين، بل تحزن صدر السنيين، وغيرهم من المتفرجين، ولا يصاب
أحد من المخلصين بضرر، ثم ذكرت الجريدة الرسمية أن عاشوراء هذه السنة
كانت أول فرصة حدث فيها الاحتفال باقتحام النار في جزيرة زنجبار اهـ.
(ج) إن اقتحام بعض أفراد الشيعة الإمامية النار في الاحتفال بذكرى
استشهاد الإمام الحسين السبط عليه السلام في عاشوراء له نظير عند بعض
المنتمين إلى الطريقة الرفاعية وغيرها من طرق المتصوفة، ومنهم من يحمي
حديدة في النار حتى تحمر ثم يلحسها بلسانه حتى تبرد ويزول احمرارها، وكثير
من الناس المنتمين إلى أديان ومذاهب ونحل مختلفة في أقطار كثيرة يأتون بأعمال
غريبة في نظر جماهير الناس.
وهذه الأعمال الغريبة التي تتناقل جميع الأمم أخبارها ثلاثة أنواع:
(أحدها) صناعة الشعوذة التي يحذقها بالتعلم والتمرن وخفة الحركة أناس
كثيرون، فيأتون من الأعمال ما يعجز عنه غيرهم، وقد تخيل إلى الناظر الشيء
على غير صورته أو حقيقته، كأن ترى لسان أحدهم يصيب النار وهو لا يمسها بل
يقرب منها ويلقي لعابه عليها، وأسهل من ذلك اقتحام نار موقدة بسرعة لا تكفي
لعلوق النار بالمقتحم، وقد رأينا بعض الصبيان في بعض قرى سورية يتبارون في
اقتحام نار يوقدونها، وقلما تعلق بثوب أحد منهم.
(النوع الثاني) غرائب حقيقية يستعان عليها بالعلم بخواص الأشياء كعلم
الكيمياء والكهرباء وغيرهما، وإنما تكون غرائب عند الجاهل بأسبابها، وكذلك
النوع الأول، إنما يراه غريبًا من يجهل تلك الصناعة وما فيها من الحيل والتخيل.
(النوع الثالث) غرائب مصدرها تأثير النفس الإنسانية بقوة إرادتها وغيرها
من الخواص الروحانية كاستعدادها للعلم ببعض الأمور الواقعة أو المستقبلة من غير
طريقي الحس والفكر، وهذا النوع يتفاوت أهله فيه تفاوتًا عظيمًا بالاستعداد الفطري
وبالرياضة الروحية.
والمتكلمون يطلقون على كل ما جاء على خلاف المعروف المعهود مما لا
يعرف له سبب كلمة (خوارق العادات) ، ويعدون منها الآيات التي يؤيد الله تعالى
بها رسله عليهم السلام ويسمونها المعجزات، والخوارق الحقيقية لا تتكرر
كثيرًا؛ لأن ما يتكرر هو عادي؛ لأنه يعود كما بدأ، وكل ما كان من علم أو
صناعة أو قوة نفسية تستخدمها الإرادة البشرية فهو من جنس المعتاد ويتكرر؛ لأن
صاحبه يفعله بإرادته واختياره، وانحصاره في أفراد وفئات من الناس هو
كانحصار سائر الصناعات والعلوم في متعلميها ومزاوليها وقوة الاستعداد الجسدي
في أهلها.
وأما آيات الرسل التي أيدهم الله تعالى بها للدلالة على صدقهم في دعوى
الرسالة عنه فليست مما تتعلق به قدرتهم وإرادتهم بحيث يأتونها متى شاؤوا كسائر
أفعالهم الاختيارية ولا مما يتلقى بالتعليم، ولذلك أمر الله تعالى خاتم رسله الذي
أكمل دينه به أن يجيب من اقترحوا عليه الآيات بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} (العنكبوت: 50) بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: 93) ولكنها من شؤونه تعالى يجريها على أيديهم متى شاء، إما بغير
كسب منهم ألبتة كإعجاز القرآن وعصا موسى، وإما مقارنة لكسب ما منهم يأتونه
بإذنه ليس له من التأثير في خرق العادة إلا الصورة؛ كرمي نبينا - صلى الله عليه
وسلم - المشركين بقبضة من الرمل على البعد منهم أصابت أعينهم على كثرتهم
وبعدهم عنه واختلاف أوضاعهم وحالاتهم عند الرمي، وذلك قوله تعالى له: {وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ومن هذا القبيل إبراء الأكمه
والأبرص وإحياة الموتى لعيسى عليه السلام وإن جاز أن تكون قوة روحانيته
الوهبية هي المؤثرة بإذن الله تعالى فيه، وكرامات الأولياء أكثر ما تكون من النوع
الثالث للغرائب.
وأما السحر فليس من خوارق العادات في شيء، وإنما هو صناعة تؤخذ بالتعلم
والتمرن وتدخل فيما ذكرنا من أنواع الغرائب المعتادة التي يقصد بها الكيد والمكر
والخداع، ولذلك اتهم فرعون السحرة بأن ما فعلوه مع موسى مكر مكروه في المدينة
متواطئين عليه، وقال تعالى لموسى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ
حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) وقال في تأثير كيدهم وشعوذتهم فيه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) وذكر أن هاروت وماروت كانا يعلمان
الناس السحر ببابل، وخوارق العادات لا تكون بالتعلم كما تقدم؛ وفاقًا لما قاله الشيخ
محيي الدين بن العربي.
إذا تدبر السائل ما تقدم علم أن ما ذكره من اقتحام بعض الشيعة للنار هو مما
ذكرنا من العادات المكررة، والشجرة التي زعموا أنها تقطر دمًا في شهر المحرم لا
وجود لها، فأنا لم أسمع بها قبل ورود هذا السؤال، لا في بلاد الهند أيام كنت فيها
ولا في غيرها، ولما جاء هذا السؤال سألت بعض أفاضل الشيعة الذين يعرفون
الهند وإيران والعراق، فقال: لم نسمع بذكر هذه الشجرة في الهند ولا في إيران
ولا في العراق. وهذه الأقطار الثلاثة هي مواطن الشيعة الإمامية ومأوى الملايين
منهم، وفيها معاهدهم الدينية الكبرى، فكيف يجهل فيها أمر هذه الشجرة ويعرف في
زنجبار وحدها؟ !
وهب أن ما ذكر من اقتحام النار لا دخل فيه لصنعة ولا خفة وأنه كرامة لأهل
بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي دخل في ذلك لمذهب الإمامية
ومقتض لترك غيره إليه؟ وهل هو إلا مذهب موافق لسائر مذاهب المسلمين
المعروفة في أكثر مسائل العبادات والمعاملات، ومخالف لها في مسائل قليلة كما
يخالف بعضها بعضًا، وجميع أصحاب المذاهب الإسلامية يجلون آل بيت رسول
الله عليه الصلاة والسلام ويحبونهم ويوالونهم ويرون أنهم أهل لكل كرامة من
الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا ما شذ فيه بعض الخوارج الذين يتبرؤون من أمير
المؤمنين علي المرتضى - كرم الله تعالى وجهه - ومن أفراد آخرين من الصحابة
وأئمة الدين. وأس الإسلام ما أجمع عليه المسلمون ولا سيما في الصدر الأول،
وكل ما وقع فيه الخلاف بين أئمة العلم والفقه فهو من المسائل غير القطعية في
الدين التي يختلف فيها الاجتهاد، ولا ينحصر الصواب فيها بفرد من الأفراد، وفي
كل من المنتمين إلى المذاهب المنتشرة صالحون وطالحون، وأبرار وفجار، فإن
أوتي أحد الصالحين من أهل مذهب منها كرامة فلا وجه لجعلها حجة في ترجيح
مذهبه على سائر المذاهب في جميع المسائل الخلافية ولا في بعضها، ولو كان
حجة لاستغنى به عن الاجتهاد والاستدلال.
***
استطراد في تفرق المسلمين
والعبرة بمأتم عاشوراء
سبق لنا البحث في أمثال هذه المسائل مرارًا، وإنه ليحزننا أننا لا نزال في
أشد الحاجة إلى تكرير تذكير عامة إخواننا المسلمين من جميع المذاهب في جميع
الأقطار بأنه قد آن لهم أن يتركوا هذا التغاير والتناظر في المذاهب الذي أضعف
الدين، وفرق كلمة المسلمين، فإن المصائب العامة المشتركة أفصح معلم، وأحكم
مؤدب، وقد توالت عليهم نذرها، ووضحت لهم عبرها، ولا سيما في هذه السنين،
{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) بلى قد رأى الأكثرون ما لم يكونوا يرون، ولكنهم لا يزالون
يعمهون، وقد أضاعوا معظم الفرص، ولا يزال لديهم مجال للعمل، فإن أضاعوا
بقية الفرصة فهم هالكون.
قد كانت ذكرى قتل الحسين وإقامة المآتم له مما يقصد به غلاة الساسيين من
الباطنية وأتباعهم زيادة التفريق بين المسلمين، وتأريث الضغائن والأحقاد بينهم،
استرسالاً مع تلك الدسائس المجوسية التي دست في الصدر الأول الكيد للمسلمين
الذين أزالوا ملك المجوس وسلطانهم الديني وملكهم الكسروي، وكان جميع
الصادقين في الإسلام من شيعة آل البيت النبوي وغيرهم غافلين عن ذلك جاهلين
به، وظل بعض المتعصبين يقصد بمثله في بعض الأوقات تقوية العصبية والتذكير
بأخذ الثأر من المعتدين الظالمين، ولكن من هم اليوم؟ وإعادة الحق إلى الأئمة
الوارثين، وأين هم اليوم؟ فعل العباسيون ببني أمية فعلتهم، وفعل العبيديون
بالعباسيين فعلتهم، وصار المسلمون دولاً كثيرة أحاط بها الخطر منذ قرنين أو أكثر،
فأي استعداد اتخذ لذلك في مجموع الأمة الإسلامية، أو في أي مملكة من ممالكها؟
أين هم من العمل بما صح مِن أن مَنْ مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة
جاهلية؟ لقد مزقوا نسيج الوحدة، ولم يبق من الجامعة الدينية في أي جماعة منهم
إلا أسباب الفرقة، ولقد صار هذا المأتم كسائر ما أحدث المسلمون المختلفو المذاهب
من الاحتفالات باسم الدين، عادات تقليدية تشبه الملاهي التي يجتمع الناس لسماع
القصص التاريخية والخيالية، بل هي أقل فائدة وأكبر ضررًا من تمثيل القصص
المذكورة في الأمم الحية.
لو كان المسلمون يعيشون عيشة الجد لجعلوا الاجتماع في عاشوراء لذكرى
مولد الإمام الحسين - عليه رضوان الله وسلامه - وسيلة سياسية لإحياء المقصد
العظيم الذي بذل هذا السبط الشهيد السعيد حياته العالية الغالية في سبيله، لا حدثًا
دينيًّا يزيد تفريق الكلمة، ولا لعبًا بالسلاح والنار وندبًا بالخطب والأشعار لا يبعث
على إقامة حق، ولا تجديد ملك، بل هو إما أن يضر وإما أن لا ينفع، ذلك المقصد
الذي لم ترتق أمة من الأمم الراقية في هذا العصر إلا على أيدي رجال من أهله
يصح أن يسموا حسينيين بما كان من استهانتهم بالحياة الدنيا في سبيل دك سلطان
الظلمة المستبدين بأمتهم، وإقامة سلطة عادلة مقيدة برأي الأمة مكانها، ذلك هو
الإمام الأعظم لمن تسميهم الأمم العزيزة اليوم بالفدائيين المنقذين لها، فهل يوجد أحد
من زعماء مأتم عاشوراء في قطر من الأقطار بث هذه الفكرة فيه، أو فكر فيها؟
***
شاهد تاريخي في مأتم عاشوراء
كان الباطنية من زنادقة المجوس وغيرهم ممن قبل دعوتهم قد اتخذوا شيعة
آل البيت ذريعة إلى مقصدهم السياسي الذي ذكرناه آنفًا، وسبق لنا بيانه من قبل،
وكان جل كيدهم موجهًا إلى جعل ملك الإسلام في قبضتهم ليمكنوا من قتله بسيفه،
وقد نجحوا بتأسيس الدولة العبيدية الفاطمية بمصر، ولكن هذه الدولة زالت قبل أن
يتمكنوا من إزالة الإسلام بها، وهذه الدولة هي التي أحدثت مأتم عاشوراء في مصر
للمقصد الذي قامت به، وإننا نورد من تاريخ المقريزي الشهير صفة مأتم عاشوراء
عندهم وهو:
***
ما كان يعمل في يوم عاشوراء
قال ابن ذولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله: في يوم عاشوراء من سنة ثلاث
وستين وثلثمائة انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين: قبر كلثوم
ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين -
عليه السلام وكسروا أواني السقائين في الأسواق، وشققوا الروايا، وسبوا من
ينفق في هذا اليوم، ونزلوا حتى بلغوا مسجد الربح، وثارت عليهم جماعة من
الرعية أسفل، فخرج أبو محمد الحسين بن عمار وكان يسكن هناك في دار محمد
بن أبي بكر، وأغلق الدرب ومنع الفريقين ورجع الجميع فحسن موقع ذلك عند
المعز، ولولا ذلك لعظمت الفتنة؛ لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور
وعطلوا الأسواق، وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز بمصر، وقد كانت مصر
لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر
نفيسة، وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان في
الطرقات بالناس ويقولون للرجل: من خالك؟ فإن قال: معاوية. أكرموه، وإن
سكت لقي المكروه، وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور قد وكّل بالصحراء ومنع
الناس من الخروج.
وقال المسبحي: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة ست وتسعين وثلثمائة
جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى
جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد، ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي
القضاة عبد العزيز بن النعمان سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال
لهم: لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم ولا تؤذوهم، ولا
تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة
منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا على الشارع
بجمعهم، وسبوا السلف، فقبضوا على رجل ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة
وزوجها صلى الله عليه وسلم وقدم الرجل بعد النداء وضرب عنقه.
وقال ابن المأمون: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة خمس عشرة
وخمسمائة - عبي السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر التي كان يسكنها
الأفضل ابن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يعبى في غير
المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم،
والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات،
وجميع الخبز من شعير، وخرج الأفضل من باب فرد الكم، وجلس على بساط
صوف من غير مشورة، واستفتح المقرئون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم،
وحمل السماط لهم، وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر
السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفى إلى آخر السماط، ثم رفع وقدمت صحون
جميعها عسل نحل، ولما كان يوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة جلس
الخليفة الآمر بأحكام الله على باب الباذهنج - يعني من القصر - بعد قتل الأفضل،
وعود الأسمطة إلى القصر على كرسي جريد بغير مخدة متلثمًا هو وجميع حاشيته،
فسلم عليه الوزير المأمون وجميع الأمراء الكبار والصغار بالقراميز، وأذن للقاضي
والداعي والأشراف والأمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثمون حفاة، وعبي
السماط في غير موضعه المعتاد، وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان
في الأيام الأفضلية، وتقدم إلى والي مصر والقاهرة، بأن لا يمكنا أحدًا من جمع ولا
قراءة مصرع الحسين، وخرج الرسم المطلق للمتصدرين والقراء الخاص والوعاظ
والشعراء وغيرهم على ما جرت به عادتهم، قال: وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع
عشرة وخمسمائة اعتمد الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية من المضي فيها
إلى التربة الجيوشية، وحضور جميع المتصدرين والوعاظ وقراء القرآن إلى آخر
الليل وعوده إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة
على الأرض متلثمًا يرى به الحزن، وحضر من شرف بالسلام عليه، والجلوس على
السماط بما جرت به العادة.
قال ابن الطوير: إذا كان اليوم العاشر من المحرم احتجب الخليفة عن الناس،
فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيروا زيهم فيكونون كما هم
اليوم، ثم صاروا إلى المشهد الحسيني، وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر،
فإذا جلسوا فيه ومن معهم من قراء الحضرة والمتصدرين في الجوامع جاء الوزير
فجلس صدرًا، والقاضي والداعي من جانبيه والقراء، يقرؤون نوبة بنوبة، وينشد
قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرًا يرثون به أهل البيت عليهم السلام فإن
كان الوزير رافضيًّا تغالوا، وإن كان سُنيًّا اقتصدوا، ولا يزالون كذلك إلى أن تمضي
ثلاث ساعات فيستدعون إلى القصر بنقباء الرسائل، فيركب الوزير وهو بمنديل
صغير إلى داره ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب،فيجدون
الدهاليز قد فرشت سماطها بالحصر بدل البسط، وينصب في الأماكن الخالية من
المصاطب دكك لتحلق بالمصاطب لتفرش، ويجدون صاحب الباب جالسًا هناك،
فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القراء
وينشد المنشدون أيضًا، ثم يفرش عليها سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس
والملوحات والمخللات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النحل، والفطير والخبز
المغير لونه بالقصد، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة وأدخل
الناس للأكل منه، فيدخل القاضي والداعي ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير،
والمذكوران إلى جانبه، وفي الناس من لا يدخل ولا يلزم أحد بذلك، فإذا فرغ القوم
انفصلوا إلى أماكنهم ركبانًا بذلك الزي الذي ظهروا فيه، وطاف النواح بالقاهرة ذلك
اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر فيفتح الناس بعد ذلك وينصرفون
اهـ ما جاء في تاريخ المقريزي عقب الكلام على المشهد الحسيني وذكر خلاصة مقتل
الإمام الحسين، ثم قال في باب بيان أعياد الفاطميين ومواسمهم ما نصه:
(يوم عاشوراء) كانوا يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ويعمل فيه
السماط العظيم المسمى سماط الحزن، وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسيني فانظره،
وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير، فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب
يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم
ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون، ويدخلون الحمام جريًا
على عادة أهل الشأم التي سنها لهم الحجاج في أيام عيد عبد الملك بن مروان
ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - الذين يتخذون يوم
عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي؛ لأنه قتل فيه، وقد أدركنا بقايا
مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط، وكل الفعلين غير
جيد، والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف فقط، وما أحسن قول أبي الحسين
الجزار الشاعر يخاطب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، وكتب بها إليه ليلة
عاشوراء عندما أخر عنه ما كان من جاريه في الأهراء:
قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي
…
والسيد بن السيد بن السيد
أقسم بالفرد العلي الصمد
…
إن لم يبادر لنجاز موعدي
لأحضرن للهناء في غد
…
مكحل العينين مخضوب اليد
يعرض للشريف بما يُرْمَى به الأشراف من التشيع، وأنه إذا جاءه بهيئة
السرور في يوم عاشوراء غاظه ذلك؛ لأنه من أفعال الغضب، وهو من أحسن ما
سمعته في التعريض، فلله دره.
_________
الكاتب: محمد أبو زيد
خطبة للشيخ محمد أبو زيد
خطبها في الاحتفال برأس السنة الهجرية سنة 1339
…
...
…
...
وفيها اتفاقية الصلح بين الرسول وخصومه
أحمد الله تعالى ثم أقول: في هذا الأسبوع توالت الأعياد الثلاثة: العيد
المصري (عيد النيروز) والعيد العبري، والعيد الهجري، وتوالي هذه الأعياد
يبشرنا بأن الخير سيتوالى على مصر وأبنائها.
***
الحوادث مرجع التاريخ
جرت عادة الأمم على أن تؤرخ بالحوادث، فإذا كانت لها حادثة مهمة جعلتها
مبدأ لتاريخها، انظر العرب قبل الإسلام كانوا يرجعون إلى الحوادث في التاريخ،
فيقولون: عام الفيل، ويوم الحرب الفلانية، وانظر المسيحيين جعلوا تاريخهم حادثة
الشهداء الذين اضطهدهم الرومان وأبوا إلا أن يموتوا ضحية دينهم ومبدئهم.
***
فوائد الاحتفال بالأعياد
وفي الاحتفال بالأعياد فوائد ينبغي لنا أن نراعيها، منها إحياء ذكرى العاملين
وتخليد آثارهم لنقتدي بهم في خلقهم وعملهم، ومنها ارتباط الحاضر بالماضي
ارتباطًا يجدد للأمة قوتها، ويحفظ لها شخصيتها، ومنها تربية الشعور والعواطف
على الاتحاد والتعاون؛ فيشعر كل فرد في الاجتماع بأنه قوي بقوة المجتمعين،
مؤيد بروحهم، وروح الاجتماع معروف تأثيرها في النفوس والأعمال.
ثم من الفوائد كذلك أن تحاسب الأمة نفسها على ما عملته في الماضي وما
تعده للمستقبل، فتنظر كما ينظر التاجر في آخر كل سنة مقدار الربح أو الخسارة،
فإن كان عندها ضعف في الداخلية أو الخارجية، ورأت نفسها قد قصرت فيما مضى
فإنها تتوب إلى الله تعالى وتعمل على تقوية هذا الضعف، وتحترس من أن تقع
في مثله في المستقبل، وإن رأت أنها لم تقصر وأنها قوية متقدمة، فإنها تشكر الله
الذي وفقها، ثم تستزيد من الأعمال الرابحة المقدمة.
***
هجرة النبي حادثة عظيمة
هذا وإن هجرة النبي حادثة عظيمة، إذ كانت سببًا في إحداث إصلاح عظيم
وفتحًا لباب استقلال جديد، وقبل أن أبين هجرته أذكر حكمة إرساله وإرسال من
سبقه من الرسل - صلوات الله عليهم - أجمعين.
***
حكمة إرسال الرسل
خلق الله الناس أحرارًا مستقلين، فاقتضت حكمته - وهو وليهم وإليه يرجع
أمرهم - أن يربيهم تربية عملية تثبت في نفوسهم ما فطرهم عليه من الحرية
والاستقلال، فاختار منهم رسلا ًمربين لا تذل نفوسهم لشهوة أو هوى، ولا تضعف
إرادتهم أمام سلطة أو استبداد، وأرسلهم بالتعاليم الهادية إلى سعادة الدنيا والآخرة.
ولو رجعنا إلى ما كان يدعو إليه كل رسول لوجدناهم متحدين في الدعوة،
وكلهم يدعو إلى التوحيد {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:
59) وفي هذا منتهى العزة للنفوس؛ إذ إنها لا تستعبد إلا لربها الذي يربيها على
نعمه، ويواليها بفضله وإحسانه، والله سبحانه لم يجعل جنسًا عبدًا لجنس، ولم
يفاضل بين عباده إلا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:
13) ، فالأكرم عند الله من يتخلق بأخلاق الله، فلا يستبد بالناس ولا ينقص من
حريتهم، والله تعالى قد أرسل الرسل تأييدًا لهذا المبدأ، مبدأ السير بالناس إلى
الحرية لإخراجهم من الاستبداد.
***
موسى الرسول في مصر وصاحب الهجرة
تعلمون حادثة موسى لما أرسله الله لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد فرعون،
قال الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 5) .
وما كانت الظلمات إلا السلطات الاستبدادية التي أماتت إرادة القوم، وقضت
على حريتهم وإيمانهم، وما النور إلا الاستقلال الذي فيه يحيا الشعور وينمو الإيمان
وتقوى الإرادة.
كذلك قال الله لرسوله محمد: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 1) .
***
إيذاء المشركين إياه
إذا علمنا أن الله بعث الرسل لهدم قواعد الاستبداد والظلم، ونشر مبادئ
المساواة والعدل، فإننا نعلم السبب في الإيذاء الذي كان يفعل بهم، والعقبات التي
كانت توضع في طريقهم، وذلك أن المستبدين بالشعب المتحكمين في رقبته يخشون
من كل مبدأ يزلزل استبدادهم، ويخافون من كل عمل يوجد المساواة بينهم وبين
المغلوبين لهم، المقهورين بسلطتهم، فلذا تراهم عندما يشعرون بمصلح يأخذون في
محاربته ويسعون في صده عن سبيله بكل ما يستطيعون.
***
الحيلولة بينه وبين الشعب
ولعلمهم بأن الشعب يتأثر بهذه المبادئ تجدهم يحرصون على أن يحولوا بين
هذا المصلح والشعب، فالشعب المحكوم بالاستبداد مهما جَبُن ومهما ضَعُفت إرادته
فإنه باستماعه مبادئ الحرية وتكريرها على نفسه تنبعث فيه روح العمل لها فيخشى
المستبدون ذلك، ولا يمكنون المصلح منه، وانظر قول الله في أعداء الرسول لما
كانوا يرونه متصلاً بالشعب يتلو آيات القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا
القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .
***
صبر النبي وقوة إرادته
وأخيرًا تضايقوا منه [1] فرجعوا إلى عمه أبي طالب، وكانت صلته به تحميه
من القتل، فقالوا: قل لابن أخيك يرجع عما هو فيه، وإلا نكون في حل مما نوقعه
به. فلما عرض عليه عمه ذلك تحمس وقال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في
يميني والقمر في يساري ما رجعت عن دعوة ربي حتى أبلغها أو أموت دونها.
فنعمت هذه الروح العالية، وبُعِثَت هذه المبادئ الغالية.
***
سبب هجرته
لما مات عمه تآمر الخصوم على قتله، فأوحى الله إليه بأن يهاجر إلى يثرب
حيث يجد الأنصار والمساعدين فيعمل على تقوية نفسه ونشر مبادئه طوعًا لربه.
في الله والأوطان سعي مهاجر
…
لله لم يجبن ولم يتأثم
لم يرض يثرب بعد مكة موطنًا
…
إلا خضوعًا للمليك الأعظم
ما زال فيها غاديًا أو رائحًا
…
أبدًا يحن إلى الحطيم وزمزم
علم النبوة والمفاخر كلها
…
وخلاصة الشرف الذي لم يثلم
علمتنا حب البلاد عقيدة
…
لا يعلم الإيمان ما لم تعلم
ولقد هديت من الضلالة أمة
…
لولاك لم تنهض ولم تتقدم
وألنت جانبها وصعب شكيمها
…
بروائع الآيات لا بالمخذم
وأخذت من ميسورها ما يتقى
…
بقليله غيظ الفقير المعدم
وعقدت في عنق القوي ضمانة
…
تغني الضعيف عن الظبى والأسهم
كانت هجرته سببًا في أنه قابل ناسًا تمكن من نشر دعوته فيهم وتقوَّى
بنصرتهم، وكان على الدوام يحن إلى دياره التي احتلها الخصوم وأخرجوه منها.
***
مفاوضة في الصلح بين الرسول وخصومه
ذهب الرسول في أربع مائة وألف من أصحابه إلى مكة في السنة السادسة من
الهجرة، كي يزورها ويعتمر فيها، فيشرح صدره بها ويخفف من حنينه إليها،
ولما قرب منها أرسل العيون والجواسيس لتستطلع له حال الخصوم، وتبلغه ما هم
فيه من الاستعداد، ولما شاور الرسول أصحابه قالوا: ما جئنا مقاتلين، فإن منعونا
قاتلناهم. وبايعوه على ألا يفر منهم أحد، فمنعهم الخصوم وحاصروهم، وبعد
مناوشات ومضاربات وقعت بينهم، رأى الرسول أن جيشه لا يقوى على الجيش الذي
أمامهم [2] ، وأن الصلح خير لهم، فدارت المفاوضات بين الطرفين على إبطال
الحرب عشر سنين، ويباح للرسول أن يأتي مكة في كل عام آمنًا حرًّا.
***
الخصم يملي الشروط ويضع القيود
وقد وضع الخصم شروطًا وقيودًا أملاها بنفسه في اتفاقية الصلح.
***
اتفاقية الصلح وشروطها
قالوا: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فإنا لا نعرف الرحمن من هو،
واكتب: باسمك اللهم. فكتب، قالوا: لا تكتب: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله،
فإنا لا نقر بأنك رسول الله، ولو أقررنا لما منعناك فاكتب محمد بن عبد الله. فكتب،
قالوا: من يأتي منا مسلمًا إليك ترده إلينا، وأما من يأتي منكم إلينا فلا نرده.
فرضي وكتب، قالوا: لا تدخل مكة هذا العام، ولا بد أن ترجع إلى عام آخر لئلا
يتحدث العرب بأن قد ضُغِطَ علينا. فكتب، قالوا: إذا دخلت بعد هذا العام، فتدخل
بسلاح الراكب وتكون السيوف في القرب. فقبل الرسول كل هذه الشروط بعد
تحققه من تشبث الخصوم وتمسكهم بها، وكان الصحابة ينتقدونها ويعترضون على
كل شرط منها، فيقنعهم الرسول بالقبول للحاجة.
وقد اشتد اعتراضهم لما وصلوا إلى أن من جاء إليهم مسلمًا يردونه ومن ذهب
منهم لا يرد إليهم، فقالوا: كيف نرد من يأتي مسلمًا ونحن ندعو إلى الإسلام؟
وكيف لا يرد إلينا من يذهب منا؟ حتى المساواة في ذلك لا نحصل عليها؟ فقال
الرسول: (من ذهب منا فقد أبعده الله، ومن جاءنا ورددناه فالله يجعل له فرجًا
ومخرجًا) يعني هذا تحكم القوي في الضعيف وللضرورة أحكام.
هكذا أملى المشركون شروط الاتفاقية حسب إرادتهم وقبلها الرسول كلها على
ما فيها من الإجحاف ليكون حرًّا في دخول مكة كل عام فيتمكن من الاختلاط
بالشعب، ويبث فيه ما يشاء من المبادئ والتعاليم، ويتمكن من إعداد القوة التي
يحفظ بها الحق، وكان قبل هذا لا يمكن أحدًا من المسلمين أن يجهر بعقيدته خوفًا من
المشركين وفتنتهم وعذابهم وشدتهم [3] .
***
حكم القرآن في الاتفاقية
وقد أنزل الله في هذه الاتفاقية الآيات المبينة أنها فتح ونصر ومغانم،
قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 1- 3) وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (الفتح: 18- 20) فتأمل قوله: فعجل لكم هذه، يعني سيكون لهم مغانم كثيرة
من وراء هذه المغانم التي كسبوها بالاتفاقية، وما الاتفاقية إلا باب لتلك المغانم
الكثيرة ووسيلة للوصول إليها، ولقد كان ما وعد الله تعالى، وتحقق نظر الرسول
وأصحابه في صلاحية الاتفاقية؛ إذ تم لهم فتح مكة والاستيلاء علي بلادهم من
جميع جوانبها والتحكم فيها بكل حرية واستقلال بعد سنتين اثنتين من إمضاء المعاهدة
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً
قَرِيباً} (الفتح: 27) ، وقد أفاض بعد ذلك على العالم من مبادئه العالية ما ترون
في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، وبالإجمال كانت هجرة النبي - صلى
الله عليه وسلم - جديرة بأن تكون مبدأ التاريخ الإسلامي، وإنها لحادثة اهتز
العالم لها ونتج عنها الانقلاب الكبير في عالم المدينة وسنة الحرية والاستقلال.
***
اقتداؤنا بالرسول
وإنا نحمد الله إذ قد اقتدينا بالرسول واقتفينا أثره في الهجرة التي هاجرها وفدنا
المصري فاستحق بها فخرًا، ونال من أجلها كرمًا وأجرًا، فالله تعالى يوفقه للأصلح
فيما يتفق عليه لتقدم المصريين وتحرير مصر.
يا مصر إن قلوبنا ونفوسنا
…
رهن لديك فلا تخافي واسلمي
مهما استطال عليك جد عاثر
…
فالله جارك من عثار مؤلم
فثقي بأن الله بالغ أمره
…
والله خير حافظًا من مغرم
انتهت الخطبة
(المنار)
إن هذه الخطبة قد روعيت فيها المناسبة بين معنى العام الهجري وبين حال
مصر السياسية في هذا الوقت، فكانت المناسبة قوية، والمراعاة حسنة وأكثر
الخطبة حقائق، وأقلها معاني خطابية وشعرية قصد بها التأثير الذي يقتضيه الوقت،
كالتفاؤل بتوالي أهل الملل المختلفة. وبعض ما ذكر من فوائد الاحتفال بالأعياد،
ومثل هذا مما يتسامح به في أمثال هذه المواقف، ولكن فيها من مبالغات شعرية لا
يتسامح في مثلها، كالذي ذكره في حكمة إرسال الرسل، ولا سيما تفسيره الظلمات
بالسلطات الاستبدادية، والنور بالاستقلال على سبيل الحصر، وإنما الاستبداد أحد
تلك الظلمات، والاستقلال بعض لوازم ذلك النور، وما كل الأمم التي بعث فيها
الرسل كانت خاضعة لسلطة استبدادية كقوم موسى عليه السلام نعم إن الخطيب
قد تلقى عنا في مدرسة الدعوة والإرشاد أن التوحيد يعلي الأنفس ويرفعها حتى لا تذل
ولا ترضى بمهانة، ولا تخضع لسلطة استبدادية، ولكنه بالغ في تصوير ذلك بما ذكر
في الخطبة، وغفل عما قررناه في الدرس في المنار، ولا سيما مقالات ذكرى المولد
النبوي من اتصاف الأمة العربية قبل البعثة المحمدية بالحرية الشخصية واستقلال
الفكر وقوة الإرادة 0
وجملة القول أن هذه الخطبة كانت فريدة في بابها بمناسبتها لمقتضى الحال،
ولكن من بعض الوجوه، فالمقارنة المقصودة بها غير تامة، ومما أنكرناه من الخطبة
خلوها من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -عند ذكره فيها على
كثرته، والموضوع جله ديني، وهذا من تأثير السياسة والأحوال الاجتماعية في
الدين.
_________
(1)
تعدي عامة بلادنا تضايق بمن، ولم يرد في معاجم اللغة التي في أيدينا.
(2)
المنار: الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجنح لذلك الصلح عن ضعف، بل لإيثاره
السلم على الحرب، ورغبته في التمكن من تبليغ الدعوة بالحجة والبرهان.
(3)
يعني أنه لم يمكن لأحد من المسلمين قبل صلح الحديبية أن يظهر إسلامه أي: فيها قبل المدينة وما يتبعها، وناهيك باضطهاد المسلمين في مكة وما يتبعها.
الكاتب: محمد أبو الفضل
محاربة البدع
مشيخة الجامع الأزهر
أرسل إلينا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر رسالة بهذا العنوان مع كتاب
خاص منه ذكر فيه أنه سئل عما يسميه بعض أهل الطرق (اسم الصدر) ، فأجاب
بكتابة هذه الرسالة أو الفتوى، وأرسلها إلينا لأجل نشرها تعميمًا للفائدة وإرشادًا
للأمة، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، أما بعد، فإنكم تسألون عما يفعله الآن بعض أهل
الطرق من أبناء هذا العصر، من اجتماعهم صباح مساء، يرددون لفظ (أه، أه)
يعتقدونه اسمًا من أسماء الله، ويقولون: إنهم بذلك يذكرون الله سبحانه ويسمون
ذلك: (اسم الصدر) .
والجواب: أن هذا اللفظ المسئول عنه (أه) بفتح الهمزة وسكون الهاء ليس
من الكلمات العربية في شيء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقًا، وإن كان بالمد
فهو إنما يدل في اللغة العربية على معنى التوجع، وليس من أسماء الذوات، فضلاً
عن أن يكون اسمًا من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، كما قال تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) .
وقد أجمع العلماء على أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية [1] ، ولا يجوز لنا
إطلاق اسم عليه تعالى أو صفة لم يكن ورد بها الشرع، كما أنهم أجمعوا على أنه
لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع بجواز التعبد به.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله
لنا على يديه الدين، وأتم لنا النعمة، كما قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وفي الصحيحين
عن عائشة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي
صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في
خطبته: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور
محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) [2]، ومن تأمل قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ
فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وتدبر هذا الوعيد
الشديد اقشعر جسمه أن يذكر الله أو أن يدعوه بعد ذلك بغير أسمائه التي سمى بها
نفسه، وأذن لنا في تسميته بها على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، والإلحاد
في الأسماء هنا على ثلاثة معان: الخروج بها عما وضعت له من المعنى الشرعي،
تحريفها عن لفظها الوارد شرعًا، إدخال ما ليس منها فيها كموضوع السؤال،
وكما نقل المفسرون هنا من علماء اللغة أن الملحد العادل عن الحق، والمدخل فيه
ما ليس منه.
فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين انتشروا في المدن والقرى يجمعون
الناس، ويعقدون المجالس على ذلك ويتخذون ذلك وِردًا موقوتًا زاعمين أنهم
يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد
بما لم يتعبدنا الله به، وتسمية لله بغير أسمائه، نعوذ بالله من فعل ذلك أو الإعانة
عليه أو السكوت عنه.
ومهما قال زعماء تلك البدعة من قولهم: إنهم وجدوا مشايخهم كذلك. فليس في
ذلك برهان لهم في الدنيا، ولا مخلص لهم عند الله يوم القيامة من عذابه، كيف وقد
قال علماء الصوفية أنفسهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة فهو باطل؟ وقالوا:
إذا لم يستند كشف الولي إلى الكتاب والسنة فهو كشف شيطاني. لا: الولي غير
معصوم. وورد مثل هذا القول أيضًا عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه،
وأجمعوا على أنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام والمشاهدة إلا بعد عرضه على
الكتاب والسنة، وما يقولونه أيضًا من الاستدلال على بدعتهم هذه بقوله تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114) فليس من الاستدلال في شيء، بل هو
بقول الجاهلين أشبه؛ لأن الآية ليس معناها أنه كان يذكر الله بلفظ (أه) كما
يفعلون بل معناها - كما قال المفسرون - أنه كان مشفقًا رحيمًا، والله يقول الحق وهو
يهدي السبيل.
25 المحرم 1339م
…
...
…
...
…
شيخ الجامع الأزهر
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد أبو الفضل
وقد نشرت هذه الفتوى في الجرائد اليومية فرد عليها بعض المنتسبين إلى
الطريقة الشاذلية برسالة نشرت في جريدة الأهرام هذا نصها:
الرجوع إلى الحق فضيلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أما بعد، فأسأل الله
تعالى أن يهدي إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أزكى صلاة وأتم سلام،
وأن يعم بذلك سائر الأنبياء والمرسلين وآل كل والتابعين.
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) .
قال المفسرون: أسماء الله تعالى كلها حسنى؛ لأنها تدل على معاني الكمال
الإلهي سواء وردت في القرآن فقط كاسم الله تعالى القريب والمحيط والبديع والأحد
وأحكم الحاكمين وخير الفاصلين وذي العرش وذي الطول، وغير ذلك مما ورد في
الذكر الحكيم خاصة، أو جاءت به السنة أيضًا، كقوله صلى الله عليه وسلم:
(إن لله تسعًا وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة. الله الرحمن الرحيم)
الحديث أو وردت به السنة، وإن لم يرد في القرآن، كقوله - صلى الله عليه
وسلم -: (الديان لا يموت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى
طيب لا يقبل إلا طيبًا) وقوله صلى الله عليه وسلم في بعض أدعيته: (يا
حنان يا منان) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى جميل يحب
أن يرى أثر نعمته على عباده) وقد ورد هذا الاسم في خريدة التوحيد للدردير فهو
الجليل والجميل والولي وغير ذلك مما تفردت به السنة خاصة، وليس في القرآن
صراحة، فليس المراد بالأسماء الحسنى خصوص التسع والتسعين، وإلا لزم
عليه معارضة الأحاديث بعضها لبعض كما لا يخفى، وذلك لا يعقل.
إذا علمت ذلك علمت أننا مأمورون أن ندعو الله تعالى بكل اسم ثبت وروده
عن الشارع صلى الله عليه وسلم مطلقًا.
ومما تأكد ثبوته ذلك الاسم العظيم الذي اتخذه السادة الشاذلية من ضمن
أذكارهم وهو اسم الله تعالى (أه) جل جلاله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه فنهاه بعضهم عن الأنين وأمره بالصبر، فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: (دعوه يئن فإنه يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) ونقل العلامة
الحفني في حاشيته على الجامع الصغير للجلال السيوطي عند الكلام على الاسم
الأعظم قال: إن اسم الله تعالى (أه) هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا
سئل به أعطى.
وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره في شرح البسملة: اختلف العلماء في
الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو اسم الله الأعظم لاشتماله على سر الإشارة
وتكوين الكائنات وظهور التجليات. وذكر العلامة العزيزي في شرحه على الجامع الصغير أيضا أن اسم الله تعالى (أه) هو اسم يلهمه الله تعالى للعبد عند
تجليات الجلال. وقال الشيخ الأمير في حاشيته على متن (غرامي صحيح) : إن
(أه) من أسمائه تعالى. وصحح ذلك، وروى الحاكم في مستدركه حديثًا يذكر فيه أن
(أه) اسم عظيم من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من عباده؛ لأنه سر من
الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين. وقال الأستاذ الباجوري في
حاشيته عل جوهرة التوحيد - عند قول الناظم: حتى الأنين في المرض كما نقل -:
ينبغي للمريض أن يقول (أه) فإنه اسم من أسمائه تعالى، ولا يقول: أخ، فإنه من
أسماء الشيطان. فقد ثبت بالدليل النقلي أن (أه) اسم عظيم من أسماء الله الحسنى
أمرنا سبحانه أن ندعوه بها، فحينئذ لا إلحاد ولا تحريف - نعوذ بالله من ذلك -،
وإذًا ليس اسم (أه) مهملاً لا معنى له مطلقًا، كما قيل، بل معناه منزه عن الإهمال،
جليل عند أهل الإنصاف، ولو تتبعنا الآثار والأخبار الواردة في الاستدلال على صحة
هذا الاسم لما وسعتنا الصحف، وفي هذا القدر كفاية، لمن سطعت عليه أنوار
الهداية، ونسأل الله تعالى العناية وحسن الختام، بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة
والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الفقير
…
...
…
...
…
...
…
أحمد وافي الشاذلي الأزهري
نشر هذا الرد في عدد الأهرام الصادر في 26 المحرم، ولم ينشر من قِبل
مشيخة الأزهر رد عليه، ولكن كتب إلى الأهرام الرد الآتي فنشر في العدد الذي
صدر في 2 صفر، وهذا نصه:
رد على رد
أصدرت هيئة مشيخة الأزهر الأعلى بيانًا أنكرت فيه على بعضهم بدعًا
مستهجنة لم تؤيدها الأحاديث الصحيحة المتن، القوية الحجة المتعارضة مع روح
الدين الناصع، المنتشرة في بلاد هي كعبة العلم وحجة العارفين في اللغة والدين،
وانبرى أحدهم وسطر في صحيفتكم الغرَّاء كلمة لا نرى مندوحة من الرد عليها
إحقاقًا للحق الذي لا ينكره إلا المكابرون، وإنا لا نطيل الشرح في هذا الباب،
وإنما نورد الوجوه الآتية كي لا نضل الطريق السوي، وحتى لا يتسلط بعضهم على
السذج من الأمة، فيدخلون في الدين ما هو براء منه.
أولاً: إن ما أورده حضرة الكاتب من عزو حديث أبي هريرة الذي فيه: قال
الرسول الكريم لمعارضي المريض على أنينه: (دعوه يئن..) هذا العزو إلى
صحيح مسلم كذب محض، وإلا فليأتنا حضرته بالنص الصريح في صحيح مسلم،
وهو كثير متداول بين الأيدي كُرِّرَ طبعه مرارًا وتعددت طبعاته، وكلها خلو من هذا
الحديث، فليتفضل حضرته بذكر الصحيفة التي تتضمن هذا الحديث.
ثانيًا: إن الحديث المذكور مدون في الجامع الصغير، وعزاه صاحب الجامع
إلى الرافعي، فهو حديث لا تقوم عنده حجة؛ لأنه لم يُخَرَّج في الكتب الصحيحة ولم
يصححه أحد من المحدثين.
ثالثًا: لو فرضنا أن هذا الحديث صحيح، فلا يدل على بدعتكم هذه، فإن
الرسول إنما أشفق على المريض وتركه يئن، فإن صح أن لفظة (أه) اسم من
أسماء الله تعالى؛ فأسماء الله الحسنى معروفة، ولا حاجة إلى عدها في هذا المقام،
وحسبنا أن يكون ما أوردتموه إشفاقًا على المرضى، فلا يجب أن يكون ساريًا على
الأصحاء وإقناع السذج منهم بأن لفظ (أه) اسم من أسماء الله، والله بريء مما
تنسبونه إليه جلت أسماؤه.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد فهمي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... بالإسكندرية
***
تعليق المنار على الفتوى والرد عليها
الفتوى ودعامة الإصلاح
إن فتوى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مشتملة على بيان أساس الدين،
وأصل الإصلاح الأعظم فيه، وإن كانت في بيان بطلان بدعة خاصة، قد ابتلي أهل
الطرق بكثير من مثلها، ومما هو أبعد عن هدي الدين منها كما شرحناه في مواضع
من المنار، وهذه الأصول تقضي على جميع البدع، فقيمة الفتوى أكبر وأعظم من
إثباتها؛ لكون ما يسمونه (اسم الصدر) والتعبد به بدعة ليست من الدين في شيء.
ذلك الأساس الراسخ والأصل الثابت الذي هو جدير بتدبر المسلمين هو قول
الشيخ: إن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع
بجواز التعبد به. فهذا الأصل ثان للأصل الأول الذي جاء به جميع رسل الله -
صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لا يُعْبَدُ إلا الله وحده، وقد صرح شيخ الإسلام
ابن تيمية بأن الدين كله قائم على هذين الأصلين:
(1)
لا يُعْبَد إلا الله تعالى.
(2)
لا يُعْبَد الله تعالى إلا بما شرعه.
ولا نزاع في ذلك، وإنما نعيده ونكرره لزيادة الإيضاح والتقرير، وقد بيَّن
الشيخ - أدام الله النفع به - دليل هذا الإجماع بقوله: إن الرسول - صلى الله عليه
وسلم - لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله تعالى لنا على يديه الدين، وأتم لنا
النعمة، وذكر نص آية المائدة التي أنزلت عليه صلوات الله وسلامه في يوم عرفة
من حجة الوداع، ولعله إنما قال (على يديه) ولم يقل: على لسانه. مع أن الدين
تبليغ عن الله تعالى باللسان؛ ليفيد أنه صلى الله عليه وسلم بين ما نزله الله عليه
بالفعل والحكم والتنفيذ، كما بلغه بالقول، وعبارته تدل على حصر هذا الإكمال به -
صلى الله عليه وسلم دون غيره من الصحابة وعلماء التابعين ومن بعدهم، فليس
قول أحد منهم ولا فعله دينًا ولا حجة في الدين عند أهل السنة.
وقد بنى الشيخ - أيد الله به السنة - على هذا البطلان احتجاج أصحاب هذه
البدعة بأقوال شيوخهم وأفعالهم فقال: إنه ليس لهم في ذلك برهان في الدنيا ولا
منجاة من عذاب الله تعالى في الآخرة، ولما كان سبب افتتان الكثير من الناس ببدع
المتصوفة الاغترار بما كان عليه بعض شيوخهم من العرفان والصلاح، وما ينقل
عن بعض أفرادهم من معرفة الحقائق بالكشف، كَشف الشيخ هذه الشبهة بكلام
منقول عن بعض علماء الصوفية المشهورين مبني على ذلك الأساس الأعظم للدين،
وهو قولهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة من كشف وغيره فهو باطل.
وتسميتهم هذا الكشف شيطانيًّا، وقولهم: إنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام
والمشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة. وتصريحهم بأن الولي غير معصوم؛
أي: لا في كشفه ولا في غيره، وإنما نقل هذا القول عن علماء الصوفية؛ لأن غير
العلماء لا يعتد بقولهم ولا نقلهم، فمثل علماء الصوفية في ذلك غيرهم من
المتكلمين والفقهاء، فالدين قد أكمله الله تعالى، وهو محصور في الكتاب العزيز
والسنة النبوية الثابتة، ولا يوجد إجماع صحيح ولا قياس صحيح إلا وهو مستند
إليهما، وإنما كلام العلماء الذي يعتد به هو بيان الأصلين وما استنبط منهما واستند
إليهما من قياس وإجماع، على ما في القياس والإجماع من خلاف معروف في علم
أصول الفقه.
وقد استدل الشيخ - أيد الله حجته - على ما ذكر من أساس الدين بالسنة
الصحيحة، كما استدل بالكتاب العزيز واكتفى بأشهر الأحاديث وأصرحها في
الموضوع، حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وهو متفق عليه،
وحديث (أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله) إلخ، وهو متفق عليه أيضًا،
وإن لم يخرجه البخاري إلا موقوفًا على عبد الله بن مسعود، ورواهما غير الشيخين
كما تقدم.
بعد بيان هذه الأصول الأساسية في الدين، أشار الشيخ في سياق بيان بدعة ما
يسمونه (اسم الصدر) إلى قسمي البدعة اللذين أسهب الإمام الشاطبي في الكلام
عليهما بكتابه الاعتصام، وهما البدعة الحقيقية، كذكر الصدر الذي ليس له أصل في
الكتاب ولا في السنة، ولا كان موجودًا في صدر الإسلام، بل هو إحداث وابتداع
محض، والبدعة الإضافية، وهي ما كان له أصل، ولكن الابتداع فيه بالعوارض
والصفات كالعدد والتوقيت والاجتماع والصفة كصلاة الرغائب في رجب، وصلاة
شعبان، وقد قال فيهما الإمام النووي في المنهاج: وصلاة رجب وشعبان بدعتان
قبيحتان مذمومتان. ومن هذا القبيل جميع الأوراد التي جعلوها من شعائر الدين
بالتوقيت والاجتماع ورفع الصوت وغير ذلك.
قال الشيخ - نفع الله به -: (فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين
انتشروا في المدن والقرى يجمعون الناس ويعقدون المجالس على ذلك، ويتخذون
ذلك وردًا موقوتًا زاعمين أنهم يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة
ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد بما لم يتعبدنا الله به وتسمية لله بغير أسمائه،
نعوذ بالله من فعل ذلك، أو الإعانة عليه أو السكوت عنه) اهـ.
وقد عبر هنا عن البدعة بالسنة السيئة باعتبار أنها تتبع وتجعل كالمشروع،
ويقتدي بعض الناس فيها ببعض، وللإشارة إلى حديث جرير بن عبد الله البجلي في
صحيح مسلم مرفوعًا: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل
بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان
عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم
شيء) [3] وأخرجه الترمذي عنه بلفظ: (من سن سنة خير.. ومن سن سنة
شر..) فالمراد بالسنة هنا معناها اللغوي وهو الطريقة المسلوكة؛ إذ كان سبب
الحديث أن قومًا من مضر جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم حفاة عراة
فتمعر وجهه الشريف لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلَّى بالناس
ثم خطب، فحث على التصدق من النقد والثياب والطعام، فتلبث الناس حتى كان
رجل من الأنصار بدأ بأن جاء بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها لكبرها بل عجزت،
ثم تتابع الناس فكان ما جاؤوا به كومين من طعام وثياب، حتى تهلل وجه النبي -
صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام) إلخ، فالمراد بالسنة هنا
العمل الذي يكون به صاحبه قدوة فيه، سواء كان اتباعًا كفعل ذلك الأنصاري وهو
السنة الحسنة، أو ابتداعًا وهو السنة السيئة، وليس من السنة الحسنة أن يسن في
الدين عبادة جديدة ولو في الهيئة والصورة، نعم، قد يدخل في السنة الحسنة كل
اختراع دنيوي ينفع الناس في دينهم أو دنياهم، ويشترط في الثاني أن لا يكون
محظورًا شرعًا في نفسه ولا فيما يترتب عليه ويلازمه، وقد تضمن كلام الشيخ
إنكار جميع البدع وبيان حظرها، وحظر الإعانة عليها والسكوت عنها، كل
ذلك محرم شرعًا، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما من
عزائم الدين بل هما سياجه وحفاظه.
ونحمد الله أننا قد جرينا على هذه الأصول والقواعد في المنار، وما زال كثير
من المعممين الجاهلين أو الحاسدين ينكر علينا بناء الإصلاح الديني على اتباع
الكتاب والسنة وإنكار البدع كلها حقيقية كانت أو إضافية.
ونرجو من الشيخ، وهو رئيس للمعاهد الدينية في هذا القطر كله أن يجعل
العمل بهذه الفتوى مبدأ إصلاح جديد في الأزهر وسائر المعاهد الدينية قبل غيرها،
فإن البدع ومخالفة السنن كثيرة فيها حتى في عماد الدين، الصلاة، فقد صليت
الجمعة من عهد قريب في الجامع الأزهر، فوجدت قشر البصل وأوراقه الخضر
وقشر البيض منثورة في مواضع من المسجد، ووجدت المجاورين وغيرهم متحلقين
في صحنه يتكلمون وقت الخطبة، ووجدت الصفوف غير تامة ويبعد بعضها عن
بعض بعدًا واسعًا، وغير ذلك من المنكرات، كما نرجو منه أن يبطل من عقاب
مخالفي قانون المعاهد الحرمان من دروس العلم، فإنه يتضمن المنع من طاعة الله
تعالى وعبادته بتلقي علوم الدين: وسائلها، ومقاصدها، والله الموفق.
***
الرد على المعترض على الفتوى
انبرى أحد مشايخ الطريقة الشاذلية للرد على الفتوى وإثبات ما يسمونه
(اسم الصدر) وكون التعبد به مشروعًا، فاستدل على الاسم بحديث عزاه إلى
صحيح مسلم، وحديث عزاه إلى الحاكم، وبكلام بعض المصنفين.
أما الحديث الأول فنص عبارته فيه: ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فنهاه بعضهم عن الأنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعوه يئن فإنه
يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) وقد كذبه من رد عليه من الإسكندرية بعزو هذا الحديث
إلى صحيح مسلم، وطالبه ببيان مكانه منه، وذكر أن السيوطي عزاه في الجامع
الصغير إلى الرافعي، وأنه لم يصححه أحد من المحدثين، وأنه على فرض صحته لا
يدل على مطلوبه، وهو مصيب في هذه الأقوال كلها، ولكنها غير كافية في الرد
عليه، فنزيد عليه ما يأتي من الدلائل والفوائد:
(1)
أن المعترض زعم أن هذا الحديث من مسند أبي هريرة المخرجة في
صحيح مسلم، وليس في صحيح مسلم ولا في غيره من كتب الحيدث. والحديث الذي
عزاه السيوطي في جامعه إلى الرافعي من مسند عائشة، وبين السيوطي سببه في
الجامع الكبير كما ذكر في الإكمال من كنز العمال وهو: أن عائشة قالت: دخل
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا عليل يئن فقلنا له: اسكت. فقال:
(دعوه يئن، فإن الأنين اسم من أسماء الله تعالى يستريح إليه العليل) والمعترض
ذكر لحديث أبي هريرة سببًا مثل هذا، وهو ناقل له عن بعض كتب الطريقة،
وليس هو المخترع له، ومن المعروف عند العلماء أن الحديث كغيره من العلوم له
أئمة يؤخذ عنهم، فلا يعتد إلا بما رووه، ولا يحتج بشيء مما رووه إلا إذا
صححوا سنده، أو حسنوه، وإن كتب الصوفية وكتب التاريخ والأدب يكثر فيها
الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجوز العمل بها؛ لا في فضائل الأعمال، ولا
في غيرها، بل يوجد أمثال هذه الأحاديث في كتب التفسير والكلام (العقائد
وفلسفتها) ؛ لأن أكثر مصنفيها من غير المحدثين، وهذا كتاب إحياء العلوم من أشهر
الكتب، ومؤلفه من أكبر أئمة المتكلمين والفقهاء الصوفية، وهو يشتمل على كثير من
الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجيز أحد من الأئمة العمل بها في الفضائل،
فضلاً عن الاحتجاج بها في إثبات أسماء الله تعالى وصفاته، وشرعية عبادة لا دليل
لها سواها.
(2)
قال الشيخ محمد الحوت الكبير في كتابه الذي بين فيه ما في الجامع
الصغير من الأحاديث الضعيفة؛ أي: والموضوعة عند ذكر حديث (دعوه يئن) :
لكن هذا لم يرد في حديث صحيح ولا حسن، وأسماؤه تعالى توقيفية اهـ.
(3)
مما يدل على أن هذا الحديث مصنوع ليس له أصل: عدم ذكر أحد له
من المحدثين، ولا فقهاء الحديث في الكتب التي لا يهملون فيها مثله؛ ككتب لغة
الحديث وشروحه وفقه الحديث، فهذا الحافظ ابن الأثير لم يذكر كلمة الأنين في كتابه
النهاية الذي وضعه لتفسير مفردات الأحاديث، ولم يذكرها صاحب مجمع البحار في
كتابه ولا في تكملته على عنايته باستقصاء ما تركه صاحب النهاية.
ولم يذكره حفاظ الحديث والفقهاء في بحث حكم الأنين شرعًا هل هو مكروه
أم لا، وقد اعتمد أعلم الفقهاء بالأحاديث كراهته ونظر بعضهم فيها، ولو ثبت
هذا الحديث عندهم لقالوا: إنه مستحب أو مسنون.
(4)
قال الحافظ ابن حجر في شرحه حديث تفجع عائشة من وجع رأسها
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: (ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)
وهو في كتاب المرضى من صحيح البخاري ما نصه: قال القرطبي: اختلف الناس
في هذا الباب (المنار: يعني باب الشكوى في المرض ونحوه هل يقدح في الرضا من
الله والتسليم أم لا؟ والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على
وجدان ذلك، فلا يستطيع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في
حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه؛ كالمبالغة في التأوه، والجزع الزائد، كأن من
فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذمومًا حتى يحصل
التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه وشكواه، إنما هو ذكره
للناس على سبيل التضجر، والله أعلم.
(قال) : روى أحمد في الزهد عن طاوس أنه قال: أنين المريض
شكوى. وجزم أبو الطيب الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه
مكروه، وتعقبه النووي، فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي
مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم
أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى.
ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر
بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه
عن حاله، فلا بأس به اتفاقًا ، اهـ ما أورده الحافظ في شرح حديث عائشة من
البخاري، ولو كان لها حديث في شرعية الأنين لذكره النووي أو الحافظ الذي قال فيه
بعض العلماء: إن كل حديث قال الحافظ ابن حجر: لا أعرفه. فليس بحديث؛
لجودة حفظه لكتب السنة، وحسن استحضاره لها، ولا سيما في شرحه للبخاري
الذي كان يتلقاه عنه الحفاظ والفقهاء في الجامع الأزهر تلقي بحث واستدلال.
وكذلك فقهاء الحنابلة جزموا بكراهة الأنين في المرض في كتبهم، قال الفقيه ابن
مفلح في كتابه الفروع: (فصل) يكره الأنين في المرض إلخ، ثم قال في فصل
بعده: وكانوا يكرهون أنين المريض؛ لأنه يترجم عن الشكوى. ثم ذكر عن عبد
الله ابن الإمام أحمد أنه نقل في أنين المريض: أرجو أن لا يكون شكوى ولكنه
اشتكاء إلى الله اهـ. وذكر ذلك السفاريني في أواخر الجزء الأول من شرح
منظومة الآداب، ثم قال:
(قلت) : أنين المريض تارةً يكون عن تبرم وتضجر فيكره، وتارةً يكون
عن تسخط بالمقدور فيحرم فيما يظهر، وتارةً يكون لأجل ما يجد، ويجد به نوع
استراحة بقطع النظر عن التضجر والتبرم فيباح، وتارةً يكون عن ذل بين يدي
رب العالمين وانكسار، وخضوع وافتقار، ومسكنة واحتقار، مع حسم مادة العون
إلا من بابه، والشفاء إلا من عنده، والعافية إلا من كرمه، فهذا لا يكره فيما يظهر
بل يندب إليه، وإليه الإشارة في حديث، وإن لم يثبت (المريض أنينه تسبيح،
وصياحه تكبير، ونفسه صدقة، ونومه عبادة، ونقله من جنب إلى جنب جهاد في
سبيل الله) قال الحافظ ابن حجر: ليس بثابت والله أعلم اهـ.
فأنت ترى أن حديث عائشة الذي عزاه السيوطي إلى الرافعي أمثل ما يستدل به
على الحكم الصحيح في هذه المسألة؛ لأنه نص فيها، فلو كان له أصل لذكروه، ولو
مع التصريح بعدم ثبوته، كما قال الحافظ في حديث المريض المذكور آنفًا.
(5)
وأما الحديث الثاني فقد أورده المعترض بقوله: وروى الحاكم في
مستدركه حديثًا يذكر فيه أن (أه) من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من
عباده؛ لأنه سر من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين.
ونقول في هذا الحديث كما قلنا فيما قبله: الظاهر أنه نقله عن بعض كتب
أهل الطريق الذين لا يُعْتَدُّ بنقلهم، وهو لم يذكر لفظه، ولا اسم الراوي له من
الصحابة، ونحن لم نر كلمة (أه) في النهاية، ولا مجمع البحار، ولا تكملته، ولا
في غيرهما من معاجم اللغة العامة الشاملة في الكتاب والسنة ولغيره من كلام العرب،
ونزيد على ذلك أن هذه العبارة من الكلام المألوف عند الصوفية وليست من أساليب
كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام العرب في عصره، وكيف يصح أن يكون
سرًّا يعرف بالإلهام ويختص بالمقربين مع التصريح به؟ على أنه غير معروف إلا
عند غوغاء المنتسبين إلى الطريق، فلم يرد عن أحد من أكابر الصحابة والتابعين،
ولا الأئمة المجتهدين، ولا غيرهم من أكابر الفقهاء أو المتكلمين، وأئمة الصوفية
العارفين.
***
الأقوال في اسم الله الأعظم
(6)
ولما كانت الأقوال التي عزاها إلى العلماء في إثبات (اسم الصدر)
واردة في بيان كونه هو اسم الله الأعظم ننقل ما أحصاه الحافظ ابن حجر من
الأقوال في الاسم الأعظم عمن يقول به، فإن بعض العلماء أنكره كما قال الحافظ،
وهذا نص ما قاله في فتح الباري بعد أن أطال الكلام في أسماء الله الحسنى:
(تكميل) وإذ قد جرى ذكر الاسم الأعظم في هذه المباحث فليقع الإلمام بشيء من
الكلام عليه، وقد أنكره قوم كابن أبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري
وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز
تفضيل بعض الأسماء على بعض. ونسب ذلك بعضهم لمالك؛ لكراهيته أن تعاد
سورة أو تردد دون غيرها من السور؛ لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض،
فيؤذن ذلك باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل، وحملوا ما ورد من ذلك على أن
المراد بالأعظم العظيم، وأن أسماء الله كلها عظيمة، وعبارة أبي جعفر الطبري:
اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة؛ إذ لم
يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول: كل اسم من
أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم.
وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي
بذلك كما أطلق ذلك في القرآن، والمراد به مزيد ثواب القارئ.
وقيل: المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به
ربه مستغرقًا، بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتَّى له
ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما.
وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يُطلع عليه أحدًا من
خلقه، وأثبته آخرون معينًا واضطربوا في ذلك، وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة
عشر قولاً:
الأول: الاسم الأعظم (هو) نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف،
واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل له: أنت قلت
كذا وإنما يقول: هو يقول، تأدبًا معه.
الثاني: (الله) لأنه اسم لم يطلق على غيره؛ ولأنه الأصل في الأسماء
الحسنى، ومن ثم أضيفت إليه.
الثالث: (الله الرحمن الرحيم) ، ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة
أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلت
ودعت: اللهم إني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما
علمت منها وما لم أعلم) الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: إنه لفي
الأسماء التي دعوت بها. قلت: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال نظر لا يخفى.
الرابع: (الرحمن الرحيم الحي القيوم) لما أخرج الترمذي من حديث أسماء
بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في هاتين
الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) وفاتحة
سورة آل عمران: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} (آل عمران: 2) أخرجه
أصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي، وفي نسخة صححه، وفيه نظر؛
لأنه من رواية شهر بن حوشب.
الخامس: (الحي القيوم) ، أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة (الاسم
الأعظم في ثلاث سور: البقرة وآل عمران وطه) قال القاسم - الراوي عن أبي
أمامة -: التمسته منها فعرفت أنه (الحي القيوم) وقوَّاه الفخر الرازي، واحتج
بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتها.
السادس: (الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي
القيوم) ، ورد ذلك مجموعًا في حديث أنس عند أحمد والحاكم، وأصله عند أبي داود
والنسائي، وصححه ابن حبان.
السابع: (بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام) أخرجه أبو يعلى
من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي، وأثنى عليه قال: كنت أسأل الله
تعالى أن يريني الاسم الأعظم، فأريته مكتوبًا في الكواكب في السماء.
الثامن: (ذو الجلال والإكرام) أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل
قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام.
فقال: (قد استجيب لك فسل) واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في
الإلهية؛ لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع
الإضافات.
التاسع: (الله لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوًا أحد) ، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث
بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
العاشر: (ربّ ربّ) ، أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عباس
بلفظ (اسم الله الأكبر: رب رب)، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة: (إذا قال
العبد: يا رب يا رب. قال الله: لبيك لبيك عبدي سل تعط) رواه مرفوعًا وموقوفًا.
الحادي عشر: (دعوة ذي النون) أخرج النسائي والحاكم عن فضالة بن
عبيد رفعه (دعوة ذي النون في بطن الحوت {لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له) .
الثاني عشر: نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه
الاسم الأعظم فرأى في النوم: (هو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم) .
الثالث عشر: هو مخفي في الأسماء الحسنى، ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما
دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى، فقال لها صلى الله عليه وسلم:
(إنه لفي الأسماء التي دعوت بها) .
الرابع عشر: (كلمة التوحيد) نقله عياض كما تقدم قبل هذا. اهـ ما أورده
الحافظ من إحصاء الأقوال التي وقف عليها، ومنها عدة أقوال نقلها عن الرازي
ليس فيها ذكر اسم (أه) المدعى، وسننقل ما قاله في تفسيره، ومنها أدلة رواها
الحاكم، وكان الحافظ ابن حجر يحفظ مستدرك الحاكم وغيره من كتب السنة ولم
يذكر عنه في الروايات التي رواها في الاسم الأعظم ولا في الأسماء الحسنى أن
منها (أه) ، وبلغنا أنها كلمة سريانية.
وسننشر في الجزء التالي بقية الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر
مبدوءًا بكلام الفخر الرازي في اسم الله الأعظم، إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
المنار: إطلاق الحكم بالإجماع هنا سهو، فجمهور الأشاعرة قالوا بالتوقيف، وجمهور المعتزلة بعدمه، ولذلك قال صاحب الجوهرة: واختير أن اسماه توقيفية/ كذا الصفات فاحفظ السمعية.
(2)
لفظ مسلم أوله: (أما بعد فإن أحسن الحديث) إلخ، ورواه أحمد وأصحاب السنن باختلاف في الألفاظ، وأخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود موقوفًا بلفظ (إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين) وذكر الحافظ في شرحه له من الفتح أن أصحاب السنن أخرجوه عنه مرفوعًا، وأن مسلمًا أخرجه من حديث جابر مرفوعًا مع زيادة، وليس شيء من ذلك على شرط البخاري.
(3)
وفي رواية (شيئًا) في الموضعين، و (نقص) يستعمل لازمًا ومتعديًا.
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
تاريخ فنون الحديث [*]
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل من السنة تبيانًا للكتاب، ونورًا يهتدي به أولو الألباب،
وبعث إليها من الحفاظ المتقنين، والرواة الصادقين، والنقدة الباصرين، من قام
بصادق خدمتها، وحفظ عليها جلال حرمتها، ونفى عنها تحريف الغالين، وانتحال
المبطلين، وتأويل الجاهلين [1] ، وصانها من إفك المفترين، ودغل الدجالين،
فحفظت على مر العصور، من يد الدثور، وصينت - بعناية الله - من أرباب
الفجور، فلله مزيد الحمد والمنة على ما حفظ من معالم دينه وسبل رشاده، وعلى
صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلواته وسلامه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن من لا علم له بالكتاب والسنة لا حظّّ له من الملة الحنيفية،
والشرعة المحمدية، وليس له من نور الهداية ومصباح النبوة ما يهتدي به في
دياجير الشبهات، وظلمات الترهات، وإن صدره لغفل من برد اليقين، وعقله
بمعزل من إصابة الحق المبين، وقلبه خلو من واعظ الإيمان وخشية الديان،
فالخير كل الخير في اتباع الكتاب والسنة واقتفاء هديهما، والاغتراف من بحرهما
الواسع، وجودهما السابغ، ولا شيء أهدى للنفوس وأجلب لسعادتها، وأرجى
لطهارتها، من تفهم هذين الصنوين والعكوف على درسهما، وتدبر معانيهما،
والنفوذ إلى مغزاهما، فهناك طهارة القلب، وصفاء العقل، وكمال النفس.
فكان خليقًا بالعلماء ورواد الدين أن يجعلوا مقصدهم الأسمى وغايتهم القصوى
معرفة هذين الأصلين، والاستظلال بظل هاتين الدوحتين، والاحتماء بحماهما
وابتغاء الهداية من سبيلهما، ولكن - واأسفاه - صرفوا عنهما العناية، وولوا
وجوههم نحو الفروع وما إليها، وتحكموا بها في كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، فآثروا الفروع على الأصول، وقدموا آراء الرجال على قول الله
وقول الرسول، وما ذلك إلا إغماص لمقام الكتاب والسنة، وتغال في وضع الآراء
مواضع النصوص، وإنه لخطأ - لو يعلمون - عظيم تنكره أصولهم، وتأباه
عليهم - لو أنصفوا - عقولهم.
ومن عجيب أمرهم أن يعدوا من كبار المفسرين مَنْ درس مثل تفسير الجلالين
أو النسفي دون أن تكون له ملكة فهم في القرآن وذوق يدرك به سر فصاحته وكمال
اقتدار على تطبيقه على سير الناس ومعاملاتهم، وأعجب من ذلك أن يعدوا بخاري
زمانه ومسلم أوانه مَن مر على صحيح البخاري مر السحاب دون أن يطلق لنفسه
العنان في تفهم الأحاديث واستنباط الأحكام، ومقارنة ذلك بأفهام المتقدمين وما
استنبطوه منها، وأين صحيح البخاري من كتب الصحاح والمسانيد والأجزاء التي
يكاد يخطئها العد ولا يضبطها الحساب؟ وإن من المضحكات المبكيات أن نسأل
كثيرًا من العلماء عن أسماء الكتب الستة فلا يحير جوابًا، كأن ذلك ليس لديه من
الدين في ورد ولا صدر، ولا قبيل أو دبير، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
تنكرت معالم الدين وطبق الجهل على المنتسبين إليه، وسادت الفروع وعبدت
لها الأصول، وأنكر على المؤثر لها، المقتفي هديها، فزال جلال الدين من النفوس،
وكاد يرحل من دول القضاء، ويهاجر من أرض المعاملات.
فكل ذلك دعاني لأن أجعل رسالتي التي أقدمها لمدرسة القضاء الشرعي في
السنة الختامية، في تاريخ فنون الحديث، والكشف عما طرأ عليها من جمع
وتصنيف، وترتيب وتهذيب، وشرح وتبيين حتى تتمثل لك - أيها القارئ الكريم -
صورة واضحة ترى فيها كتب السنة ماثلة، وتلمح في ثناياها تلك الخدمات الجليلة
التي أداها للسنة سلفنا الصالح، وتبصر في أساريرها رفيع مقام السنة، وناصع
بياضها وجليل أمرها، وإني وإن لم أسبق إلى هذا النوع من الكتابة، حسب ما أعلم،
ولم يمهد أحد قبلي صعابه، فإن أملي في الله عظيم، ورجائي في واسع فضله كبير
أن يسدد لي خطاي، ويوفقني لمسعاي، ويمدني بروح من عنده يهديني بها قصد
السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.
***
معنى تاريخ السنة
السنة في اللغة: الطريقة المسلوكة، من سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه
حتى يؤثر فيه سنًّا؛ أي: طريقًا، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى الطريقة المحمودة،
وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة
سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) رواه مسلم، وتطلق في
عرف الشرعيين على قول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، عدم
إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادًا للشرع فهي مرادفة للحديث، وأعني
بتاريخها الأداوار التي تقلبت فيها من لدن صدورها عن صاحب الرسالة صلى
الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا من حفظ في الصدور، وتدوين لها في
الصحف، وجمع لمنشورها وتهذيب لكتبها ونفي لما اندس فيها، واستنباط من
عيونها، وتأليف بين كتبها، وشرح لغامضها ونقد لرواتها، إلى غير ذلك مما
يعرفه القائمون على خدمتها والعاملون على نشر رايتها.
***
أدوار تاريخ السنة
حفظها في الصدور، تدوينها مختلطة بالفتاوى، إفرادها بالتدوين، تجريد
الصحيح، تهذيبها بالترتيب والجمع والشرح، فنون الحديث المهمة، وتاريخ كل
علم، وأحسن المصنفات فيه.
وسنعقب ذلك بخاتمة فيها مسائل قيمة.
***
مكانة السنة من الكتاب
قبل أن نشرع في موضوعنا نقدم لك بين يديه فصلاً نبين فيه مكانة السنة من
الكتاب ومنزلتها منه حتى تنجلي لك مكانة الموضوع الذي نحن بصدده، فنقول
وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا:
إن للسنة عملين:
1-
تبيين الكتاب.
2-
والاستقلال بتشريع الأحكام. أما الأول؛ فلقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، فلا سبيل إلى العمل بجل
الشرائع التي تضمنها الكتاب إلا ببيان من المعصوم يفصل مجملها، ويوضح مشكلها،
ويعين محتملها، ويقيد مطلقها، وكيف تراك مصليًا إذا وقفت إلى ما نطق به الكتاب
فحسب، ولم تعرض على السنة فتتعرف أوقاتها وعدد ركعاتها وسجداتها وما يقيمها
أو يبطلها إلى سائر أحكامها وكثير أنواعها؟ وما الذي تخرجه من مالك زكاة إذا لم
تسترشد بكتاب الصدقات من السنة؟ ثم كيف تؤدي مناسك الحج إذا لم تأتس
بالرسول في قاله وحاله يوم أن حج بالناس حجة الوداع، فلا جرم كان القرآن في
حاجة إلى السنة ورحم الله الأوزاعي إذ يقول: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى
الكتاب. ولا عجب في ذلك، فإن المجمل في حاجة إلى البيان، ولا كذلك المفصل.
وأما الثاني؛ فلقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7)، وقوله جل شأنه: {وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) إلى غير ما آية، وكيف ننكر استقلال
السنة بتشريع الأحكام وقد أخرج أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته
يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال
استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما
حرم الله) زاد أبو داود: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، وقد حرمت السنة
نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وحرمت الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من
السباع ومخلب من الطير، وأوجبت رجم المحصن، إلى كثير مما ملئت به مدونات
فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام، كبلوغ المرام لابن حجر، والمنتقى
للمجد ابن تيمية، وشرحه نيل الأوطار للشوكاني.
ولا تنس ما في السنة من آداب وآخلاق وقصص ومواعظ ورقائق وعقائد،
وإن كانت لا تعدو شرح الكتاب.
وجملة القول أن الكتاب والسنة ينبوع هذا الدين المتين، ومعتمد المسلمين
وناموس المشرعين.
***
الدور الأول حفظ السنة في الصدور
لم تكن السنة في القرن الأول - عصر الصحابة وأكابر التابعين - مدونة في
بطون الكتب، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب، فكانت صدور الرجال
مهد التشريع النبوي ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق.
ولم يقيدوا السنة بكتاب لما ورد من النهي عن كتابتها، روى مسلم في
صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله- صلى الله
عليه وسلم -: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا
عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قال كثير من
العلماء: نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن، وهذا لا ينافي جواز
كتابته إذا أمن اللبس، وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه
وسلم في مرضه الذي توفي فيه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده)
وقوله عام الفتح: (اكتبوا لأبي شاه) ، وإذنه لعبد الله بن عمرو بتقييد العلم،
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده
في موضع واحد وسموا ذلك (المصحف) واقتصروا عليه ولم يتجاوزوه إلى كتابة
الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن الكريم، وصرفوا همهم إلى نشره
بطريق الرواية، إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه صلى الله عليه وسلم إن
بقيت في أذهانهم، أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم، فإن المقصود بالحديث هو
المعنى، ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن، فإن للألفاظ مدخلا ًفي
الإعجاز، فلا يجوز إبدال لفظ منه بآخر، ولو كان مرادفًا له؛ خشية النسيان مع
طول الزمان، فوجب أن يقيد بالكتابة، وأما السنة فتقييدها مباح ما أمن الاختلاط.
فأنت تراهم سلكوا مسلك الجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة، لكن نظرت
لابن القيم في كتابه (زاد المعاد) أثناء الكلام على قصة الفتح ما يأتي: وفي القصة
أن رجلاً من الصحابة يقال له: أبو شاه قام فقال: اكتبوا لي. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه) يريد خطبته. ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ
النهي عن كتابة الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كتب عني
شيئًا غير القرآن فليمحه) ، وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي
يتلى بالوحي الذي لا يتلى، ثم أذن بالكتابة لحديثه.
وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه، وكان مما كتبه
صحيفة تسمى الصادقة، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب، عن أبيه، عنه،
وهي من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب،
عن نافع، عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها.
وإلى القول بالنسخ أميل: ذلك أن القرآن وإن كان بدعًا في أسلوبه، فريدًا في
نظمه يمتاز على غيره بالإعجاز، لكن المسلمين في أول الإسلام كانوا حديثي عهد
بنزوله، وكان النازل منه يسيرًا، فلم تكن ميزته المثلى قد توطنت النفوس جد
التوطن، ولا تمكنت فيها فضل التمكن، فكان من الممكن أن يشتبه على من دون
فرسان البلاغة الوحي المتلو بغير المتلو، فوجب التمييز بالكتابة، فلما مرنوا على
أسلوبه، وطال عهدهم بسماعه وتلاوته حتى أصبحوا إذا سمعوا الآية تتلى أو السورة
تقرأ أدركوا لأول كلمة تقرع أسماعهم أن ذلك وحي الله المتلو، ولم يحم الاشتباه
حول نفوسهم، لما مرنوا على ذلك أَذِن لهم بكتابة الحديث لأمن اللبس.
ولعل من دواعي النهي عن كتابة الحديث أولاً، ثم الإذن بكتابته ثانيًا أن
العارفين بالكتابة كانوا في غربة الإسلام قليلين فاقتضت الحكمة قصرهم على كتابة
القرآن، فلما توافر عددهم أَذِن صلوات الله وسلامه عليه بكتابة الحديث.
ولا يقعن في نفسك مما أسلفت أنه لم يدون شيء من الأحاديث في القرن
الأول، ولكن كان هذا هو الشأن الغالب، فقد كان عبد الله بن عمرو يقيد كل ما
سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو عمر يوسف بن عبد البر
في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) عن مطرف بن طريف قال: سمعت الشعبي
يقول: أخبرني أبو جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم من رسول
الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة، إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في
الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل كافر بمسلم) .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات والديات والفرائض
والسنن لعمرو بن حزم وغيره، وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: (وجد في
قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها: (ملعون من
أضل أعمى في سبيل، ملعون من سرق تخوم الأرض، ملعون من تولى غير
مواليه، أو قال: ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه) وعن معن قال: (أخرج
إليّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا، وحلف لي أنه خط أبيه بيده) ، وعن
سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة
الرحل، فإذا نزل نسخه، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: (كنا
نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت
أنه أعلم الناس) وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة في
خلافة يزيد، وكان يقول: لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي.
***
تثبت الصحابة في رواية الحديث
عساك تقول: إذا كانت الصدور وعاء السنة في القرن الأول فكيف يؤمن
عليها النسيان، وأن يندس بين المسلمين من يتقول على الرسول؟ فنقول إجابة
على ذلك: إن الصحابة وأكابر التابعين كانوا على علم بالكتاب، وكانوا أسبق
الناس إلى الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، وقد علموا ما أوعد الله به كاتم العلم من
لعن وطرد وإبعاد عن رحمة الرب، فكانوا إذا علموا شيئًا من سنن الرسول بادروا
إلى تعليمه وإبلاغه خروجًا من التهمة، وابتغاءً للرحمة، فسرعان ما ينتشر بين
الجماهير، فلئن نسي بعض منهم، فرب مبلغ أوعى من سامع، فمن البعد بمكان أن
يضيع شيء من السنة أو يخفى على جمهور المسلمين، ولم يكن الصحابة يقبلون
الحديث من كل محدث، بل علموا أن من الحديث محرمًا ومحللاً ومخطئًا ومصوبًا،
وأن سبيل ذلك اليقين أو الظن الآخذ بأهدابه، لذلك تثبتوا في رواية الحديث جد
التثبت، فكان لهم في الراوي نظرة، كما كانت لهم في المروي، وكان كثير منهم
يأبى إلا شاهدًا معضدًا أو يمينًا حاسمة تميط لثام الشك عن وجه اليقين، فهذا أبو
بكر الصديق كان أول من احتاط في رواية الحديث، روى ابن شهاب عن قبيصة
(أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله
شيئًا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطيها السدس فقال: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بذلك، فأنفذه لها أبو
بكر رضي الله عنه .
وعمر بن الخطاب سنَّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في
خبر الواحد إذا ارتاب، روى الجربزي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى
سلَّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في
أثره فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إذا سلم أخوكم ثلاثًا فلم يجب، فليرجع) قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن
بك. فجاء أبو موسى منتقعًا لونه، ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال:
فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه. فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر
فأخبره. وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته، فإن حلف لي
صدقته، وإن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر.
ولقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الرواية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يدخلوا في الحديث ما ليس منه سهوًا أو
خطأ، فينالهم من وصف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أولئك
الزبير وأبو عبيدة والعباس بن عبد المطلب، وكانوا ينكرون على من يكثر من
الرواية؛ إذ الإكثار مظنة الخطأ، والخطأ في الدين عظيم الخطر، فأنكروا على أبي
هريرة كثرة حديثه حتى اضطر لتبرئة ساحته أن يبين السبب الذي حمله على الإكثار
فقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت
حديثًا، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) إن إخواننا
من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم
العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبع
بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
***
مبدأ تدوين السنة
لما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وشاع الابتداع، وتفرقت الصحابة في
الأقطار، ومات كثير منهم، وقل الضبط - دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده
بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ، فلما أن أفضت
الخلافة إلى الإمام العادل عمر بن عبد العزيز كتب على رأس المائة إلى أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم عامله وقاضيه على المدينة: انظر ما كان من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وأوصاه
أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية [2] والقاسم [3] ، وكذلك كتب
إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه محمد بن
مسلم بن عبيد الله بن عبد الوهاب بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام،
وعالم أهل الحجاز والشام [4] ، ثم شاع التدوين في الطبقة [**] التي تلي طبقة
الزهري، فكان أول من جمعه بمكة ابن جريج [5] ، وابن إسحاق [6] ، أو مالك [7]
والربيع بن صبيح [8] ، أو سعيد بن أبي عروبة [9] ، أو حماد بن سلمة [10] ، وسفيان
الثوري [11] ، والأوزاعي [12] ، وهشيم [13] ، ومعمر [14] ، وجرير بن عبد
الحميد [15] ، وابن المبارك [16] ، وكل هؤلاء بالقرن الثاني، وكان جمعهم للحديث
مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
***
أشهر الكتب المؤلفة في القرن الثاني
من أشهر الكتب المؤلفة في المائة الثانية الموطأ للإمام مالك بن أنس المدني
إمام دار الهجرة [17] ، ومسند الإمام الشافعي [18] ومختلف الحديث له [***] ، والجامع
للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني [19] ، ومصنف شعبة بن الحجاج [20] ،
ومصنف سفيان بن عيينة [21] ، ومصنف الليث بن سعد [22] ، ومجموعات من
عناصرهم من حفاظ الحديث، وعقال أوابده كالأوزاعي والحميدي [23] .
ولما كان موطأ مالك أسير هذه الكتب ذكرًا، وأبعدها صيتًا، وأجلها قبولاً رأيت
أن أفرد له فصلاً يجلي شأنه، ويوضح ما لاقاه من عناية الأمة وأئمة الدين.
***
موطأ الإمام مالك
درجة حديثه: قال الحافظ ابن حجر: إن كتاب مالك صحيح عنده، وعند من
يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع [24] وغيرهما. قال
المحدث الدهلوي صاحب كتاب (حجة الله البالغة) : أما على رأي غيره، فليس فيه
مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى، فلا جرم كانت صحيحة
من هذا الوجه، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه،
ووصل منقطعه؛ مثل كتاب ابن أبي ذئب وابن عيينة والثوري وغيرهم ممن شارك
مالكًا في الشيوخ، قال السيوطي في تقريبه نقلاً عن ابن حزم: أحصيت ما في
موطأ مالك، وما في حديث سفيان بن عيينة، فوجدت في كل واحد منهما من
المسند [25] خمسمائة ونيفًا مسندة وثلاثمائة مرسلاً، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد
ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء.
عناية الناس به: قد روى الموطأ عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل،
وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد، مصداقًا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب
العلم فما يجدون بأعلم من عالم المدينة) قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس. رواه
الترمذي، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن [26] ، وابن
وهب والقاسم، ومنهم شيوخ المحدثين كيحيى بن سعيد القطان [27] ، وعبد الرحمن
ابن مهدي [28] وعبد الرزاق بن همام [29] ، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد [30]
وابنيه الأمين [31] والمأمون [32] ، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على جميع ديار
الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر به شهرة وأقوى به عناية، وعليه بنى فقهاء
الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل العلماء يخرجون
حديثه ويذكرون متابعاته وشواهده [****] ، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله،
ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية.
روى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي:
قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من
أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى
غيره. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل
وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس
وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس
قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على
ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا
في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله.
روايات الموطأ: قال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي: الموطآت
المعروفة عن مالك أحد عشر، معناها متقارب، والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى
ابن يحيى، وموطأ ابن بكير، وموطأ أبي مصعب، وموطأ ابن وهب، ثم ضعف
الاستعمال في الأخيرين، وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة
ونقص، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، فقد قال ابن حزم: إنها
تزيد على سائر الموطآت نحو مائة حديث.
***
شروح الموطأ ومختصراته
ممن شرح الموطأ أبو مروان بن عبد الملك بن حبيب المالكي [33] ، وصنف
الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر [34] كتابًا سماه: (التقصي لحديث الموطأ) وله
كتاب (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)، قال ابن حزم: هو
كتاب في الفقه والحديث، ولا أعلم نظيره. وكذلك شرح الموطأ أبو محمد عبد الله
ابن محمد النحوي البطليوسي [35] ، والقاضي الحافظ أبو بكر محمد بن العربي
المغربي [36] وسماه (القبس)، ومما جاء فيه في وصف الموطأ: هذا أول
كتاب ألف في شرائع الإسلام، وهو آخره؛ لأنه لم يؤلف مثله، إذ بناه مالك رحمه
الله على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع
إليه في مسائله وفروعه. وممن شرحه جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر
السيوطي [37] وسمى شرحه (كشف المغطا في شرح الموطأ) ، ومحمد بن
عبد الباقي الزرقاني المصري المالكي [38] شرحه شرحًا بسيطًا في ثلاثة مجلدات،
وللموطأ مختصرات كثيرة، فمنها مختصر الإمام الخطابي أحمد بن محمد
البستي [39] ، ومختصر أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي [40] ، وابن رشيق
القيرواني [41] .
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) رسالة صنفها الشيخ عبد العزيز الخولي الطالب في السنة النهائية لمدرسة القضاء الشرعي.
(1)
روى البيهقي في المدخل من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) .
(2)
توفيت سنة 98.
…
... (3) توفي سنة 120.
…
(4) توفي سنة 124.
(**) الطبقة في اصطلاح المحدثين عبارة عن جماعة اشتركوا في السن ولقاء المشايخ.
(5)
توفي سنة 150.
…
(6) توفي سنة 151.
…
(7) توفي سنة 179 بالمدينة.
(8)
توفي سنة 160.
…
(9) توفي سنة 156.
…
(10) توفي سنة 167 بالبصرة.
(11)
توفي سنة 161 بالكوفة. (12) توفي سنة 156 بالشام.
(13)
توفي سنة 188 بواسط. (14) توفي سنة 153 باليمن.
(15)
توفي سنة 188 بالري. (16) توفي سنة 181 بخراسان.
(17)
توفي سنة 179.
…
(18) توفي سنة 204.
(***) يطلق مختلف الحديث على الأحاديث المعارضة بمثلها في القوة، ويمكن الجمع بينها بغير تعسف.
(19)
توفي سنة 211.
…
(20) توفي سنة 160.
…
(21) توفي سنة 198.
(22)
توفي سنة 175.
…
(23) توفي في 219.
(24)
المرسل من الحديث: ما سقط من سنده الصحابي بأن يروي التابعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، والمنقطع: ما سقط من أثناء سنده راو أو أكثر مع عدم التوالي.
(25)
المسند: مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال.
(26)
توفي الأول سنة 204 والثاني 189.
(27)
سنة 198.
…
... (28) سنة 198.
…
... (29) سنة 211.
(30)
سنة 193.
…
... (31) سنة 198.
…
... (32) سنة 218.
(****) الحديث الذي ينفرد بروايته واحد يسمى غريبًا، فإن انفرد به في موضع واحد من الإسناد قيل للحديث: إنه فرد نسبي أيضًا، وإن كان في كل موضع منه سمي فردًا حقيقيًّا، فإذا وافق ذلك المفرد غيره في رواية ذلك الحديث عن نفس الصحابي الذي رواه عنه، قيل: إنه وجد للأول متابع، وإن وجد متن يشبه متنه وهو مروي عن صحابي آخر قيل للثاني: شاهد.
(33)
توفي سنة 239.
…
(34) سنة 463.
…
... (35) سنة 521.
(36)
سنة 546.
…
... (37) سنة 911.
…
... (38) سنة 122.
(39)
سنة 288.
…
... (40) سنة 474.
…
... (41)456.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدعوة إلى انتقاد المنار
إننا ندعو من يطلع على المنار من علماء الدين وغيرهم من أهل العلم والرأي
أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل الدينية وغيرها، أو ما ينافي
مصلحة أمتنا وأوطاننا التي نعيش فيها، ونعد المنتقدين بنشر كل ما يرسل إلينا من
نقد مع بيان رأينا فيه، بشرط أن يكون على الوجه الذي بيناه في خاتمة المجلد 21
وفيما قبله.
ونذكر عامة قراء المنار أن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا في المنار بكتابة
انتقاده وإرساله إلى صاحبه لينشره فيه، فيطلع قراؤه عليه وعلى ما يقرن به من قبول
أو رد، ويأخذوا بما يرونه الحق، ويعلموا أن كل منتقد أبى أن يكتب انتقاده ويرسله
إلينا فهو فاسق مغتاب، أو حاسد كذاب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاتحاد والاقتصاد
كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ميزان سياسة الأمم ونظام
الاجتماع، كثر في هذا العصر تشدق الخطباء بذكرهما، وشرح الكُتاب لفوائدهما،
ولما يفقه الدهماء حقيقة معناهما، بل لما يُحط أكثر العلماء والزعماء منا خبرًا بهما؛
لأن فقه الحقائق وإحاطة الخبر لا يحصلان إلا بطول التجارب في الحوادث،
والاصطلاء بنيران الكوارث، بعد تلقي الحكمة بالتعليم، والتربية على سلوك
الصراط المستقيم.
كنا منذ أنشأنا المنار في أواخرسنة 1315 للهجرة قد جعلنا أهم ما ندعو إليه
القراء في مصر وسائر البلاد أن يجعلوا جل عنايتهم في إصلاح شؤونهم بالتربية
الملية التي تكوّن أمة متحدة، والاقتصاد الذي تكون به الأمة غنية تتصرف بثروتها
في القيام بمصالحها كما تشاء، بثثنا هذه الدعوة في (المؤيد) في ذلك العهد؛ إذ كنا
نكتب فيه مقالات بإمضاء (م. ز) وبغير إمضاء، ثم أعدنا بثها في (الجريدة) في
أول العهد بظهورها في مقالة عنوانها: (إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج)
نشرناها أيضًا في الجزء الثاني للمجلد العاشر من المنار الذي صدر في صفر سنة
1325.
ونحمد الله تعالى أن رأينا في هذه السنين آيات الاتحاد في هذه البلاد العزيزة،
ورأينا من نتائجه قرب الحصول على الاستقلال الذي نعتقد أنه لا ينال إلا به، بل
نقول: إن الاتحاد بغير استقلال خير من الاستقلال بغير اتحاد؛ لأن الاتحاد يأتي
بالاستقلال المفقود، وفقده يذهب بالاستقلال الموجود، فالواجب الآن على كل
مصري أن يكون أحرص على تعزيز الاتحاد والتكافل الذي وقع منه على نيل
الاستقلال الذي يرجى به ويتوقع، فإن الاتحاد إذا ثلم وانفصمت عروته قبل بدو
صلاح ثمرته نفضت الشجرة، أو خرجت الثمرة شيصًا لا غناء فيها، وإذا انتكث
فتله بعده، زال أثره بزواله، فإذًا لا استقلال ابتداءً ولا بقاء إلا بالاتحاد.
ولما كان لكل كثرة دائرة منظمة جهة وحدة تضبطها وتعرف بها، وكان الوفد
المصري هو عنوان الاتحاد الذي ارتقت إليه البلاد وممثله، وجب على الشعب
المصري المتحد أن يظل متمسكًا بحبله معتصمًا بعروته، ولا سيما بعد الذي ظهر
من كفاءته وأمانته، وإلا كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وناهيك به
جهلاً وأفنًا وخسرانًا.
ثم ليعلم علم تدبر أنه لا قوام لاستقلال الأمم وحريتها إلا بالثروة، ولا ثروة
إلا بالاقتصاد، وأن الاقتصاد السياسي، متوقف على الاستقلال الاقتصادي، ونحن
مقصرون في سبيل هذا الاستقلال تقصيرًا إذا لم نبادر إلى تداركه كنا من الهالكين.
إن للكسب والإنفاق علومًا وفنونًا اتسع نطاقه في هذا العصر اتساعًا عظيمًا؛
لأنها قطب الرحى لمدنية الأمم والشعوب وعزتها ورفاهتها وسيادتها، وقد برّزت
بها الأمم الشمالية الغربية، فاستعمرت أو استعبدت به الأمم الشرقية والجنوبية،
حتى ظن كثير من القاصرين أن الشعوب والأجناس أو الأقاليم الغربية، أعظم
استعدادًا بطبيعة العرق وخاصية الجنس من الشعوب الشرقية، ويبطل هذا القول ما
هو معلوم من أن اليهود أرقى أهل الأرض في جميع هذه العلوم والفنون والأعمال
والمترتبة عليها، أينما وجدوا وحيثما حلوا من أقطار الأرض، وهم شعب شرقي
محافظ على نسبه ودمه، وكذلك الشعب الياباني في الشرق الأقصى قد جارى
الغربيين فيها من عهد قريب.
ولكن الأمر الغريب أن المسلمين في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا
يزالون مقصرين في هذا المضمار، وبهذا التقصير أضاعت أكثر دولهم ملكها،
وأمسى الباقي لها بين براثن الخطر، ويضيع أكثر أفرادهم ملكهم في البلاد التي
يزاحمهم فيها غيرهم، فإن كان جل ثروة مصر وسورية والعراق لا يزل بيدهم،
فما ذلك من كسبهم بعلومهم وفنونهم، وإنما ذلك إرث رقبة الأرض تسلسل فيهم؛
لأنهم أكثر السكان المالكين لها، فهذه مصر أقدر البلاد العربية على اقتباس العلوم
والفنون المالية وغيرها، وأكثرها نفقة عليها نراها مقصرة في هذا الاقتباس، فجميع
من يعيش فيها من الشعوب الأوربية واليونانيين والسوريين يفوقون المصريين في
العلوم والفنون المالية الاقتصادية، وفي إدارة المال بالتجارة وغيرها، وفي
الاقتصاد وحفظ الثروة من التبذير والضياع، بل القبط من المصريين يفوقون
المسلمين في ذلك عملاً، وثروتهم النسبية تفوق ثروة المسلمين، وأكثر أعمال
الحكومة المالية في أيديهم وأيدي الأوربيين والسوريين، بل أكثر المسلمين يعتمدون
على كتبهم في إدارة ثروتهم على أن المسلمين أشد إسرافًا في الإنفاق وتبذير الأموال
منهم ومن سائر الشعوب التي نعرف أحوالها.
من فطن لهذا من علماء الاقتصاد يعلله بادي الرأي بأن الدين الإسلامي هو
السبب في الأمرين، وهذا التعليل يضاهي في البطلان تعليل من عساه يقول: إن
الدين المسيحي هو سبب ثراء نصارى الغرب وسعة عيشهم وشدة سطوتهم
وجبروتهم، والحق أن كلاًّ من النصارى والمسلمين مخالف لهدي دينه ونصوص
كتابه في الأمرين، فالإنجيل يهدي إلى المبالغة في الزهد والقناعة والتواضع
والخضوع لكل سلطان، وينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السماوات،
والإسلام دين سيادة واقتصاد، وجمع بين مطالب الروح والجسد، كما بينا ذلك
وفصلناه مرارًا كثيرة، ومن نصوصه فيما نحن بصدده قوله تعالى في أوائل سورة
النساء: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) ؛
أي: جعل عليها مدار قيام مصالحكم ومرافقكم وحفظها وثباتها، وقوله في صفات
المؤمنين من أواخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، ونهى في وصايا سورة الإسراء عن المبالغة
في قبض اليد وبسطها في الإنفاق، وعن التبذير وسمى المبذرين إخوان الشياطين،
وهذه الوصايا هي أمهات أصول الدين وفضائله وآدابه، وهي تشمل الوصايا العشر
التي في التوراة ما عدا بطالة يوم السبت وتزيد عليها، وفي السنة وصايا وأحكام
كثيرة في ذلك.
فالمسلمون مخالفون لدينهم فيما اعتادوا من الإسراف في النفقات، وهذا إذا
كانت فيما أبيح لهم من الزينة والطيبات، فكيف إذا كانت في المحرمات؟ ولا سيما
الفواحش الثلاث المفسدات للفطرة المخربات للديار؛ السُكْر والزنا والقمار، وهم
على هدمهم بذلك لدينهم يهدمون كل ما يبنى من صرح استقلالهم، وإنني لم أر ولم
أسمع من أخبار البشر أن شعبًا منهم يعادي النقد الذي هو ميزان الأعمال والقوة في
الاجتماع البشري كالشعب المصري، فالمصري أسرع الناس بذلاً لما يصل إلى يده
من النقد، فالمتمتعون بالزينة واللذات ينفقون في سبيلهما ما تصل إليه أيديهم من
كسب وقرض، ولو بالربا الفاحش، وغير المتمتعين يشترون بما تصل إليه أيديهم
من كسب وقرض بالربا أرضًا أو عقارًا، ولا يبالي أكثر الفريقين أن يشتري
الشيء بأضعاف ثمنه، وإن استدان الثمن بالربا الفاحش؛ لأن النقد أحقر الأشياء
في نظره، ولذلك ترى أكثر المصريين على سعة ثروتهم الزراعية مرهقين بالدين،
فيجب على الزعماء والعلماء والخطباء وكتاب الصحف أن يتعاونوا على درء هذا
الخطر بوسيلتي العلم والعمل، وإلا ظل المنتجون منهم كالأجراء الأجانب؛ لأن
جل ما ينتجون يتسرب إلى صناديق المصارف المالية ومنائر المرابين وجيوب
أصحاب الحانات والمواخير وموائد القمار وتجار عروض الزينة والترف، وبعبارة
أخرى أن جل ثروة البلاد تخرج منها إلى البلاد الأجنبية.
ومن الضروري أن يبادروا إلى تأليف جمعية اقتصادية يكون من أعمالها
إرسال بعض الطلاب المستعدين إلى معاهد العلم في أوربة لأجل الأخصاء في علم
الاقتصاد السياسي وسائر الفنون المالية والصناعات الضرورية، ولا سيما الغزل
والنسيج، ثم جعلهم معلمين لهذه الفنون والصناعات وعاملين بها، والاستقلال
المنتظر يزيل إن شاء الله ما كان من الموانع دون مثل هذا، وإنني رأيت في الهند
معامل عظيمة للمنسوجات الأوربية - دع المنسوجات الوطنية الخاصة بأهل البلاد -
وجميع عمال هذه المعامل من الوطنيين، إلا أنني رأيت في معمل كبير في
بمباي رجلين من الإنكليز وظيفتهما اختيار نقوش النسيج، ويكون أهم أعمال هذه
الجمعية وشعبها تعميم النقابات الزراعية في البلاد وتأليف الشركات للمشروعات
الاقتصادية المختلفة، ويكون منها السعي لإرشاد جمهور الأمة إلى الاقتصاد،
وجعل ثروة البلاد قوة لها، وضمانًا لاستقلالها بنفسها وحريتها في التصرف
بثروتها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نصيحة اقتصادية
إن هذا الغلاء الشديد الذي تئط من حمله جميع الأمم - الذي كانت الحرب
سببًا طبيعيًّا [1] له، وابتدع له الطامعون من التجار وغيرهم أسبابًا صناعية وحيلاً
كثيرة - قد بلغ مده الغاية في حده، ولم يعد للعمران قِبل باحتماله، ومن المقطوع
به في علم الاقتصاد أن الأشياء التي قلت بقلة الأيدي العاملة لاشتغال ألوف الألوف
من البشر بالحرب عن الزراعة والصناعة ستكثر بعد عود تلك الأيدي إلى العمل،
فتجد المستهلكين للأقوات والمصنوعات قد قل عددهم؛ إذ أهلكت الحرب خمسة
وثلاثين مليونًا من البشر منها 12 مليونًا في ميادين القتال على أوسط تقدير،
والباقي فيما تولد عنها من الأدواء والأمراض والمجاعات كما قيل، ويوجد عشرات
الملايين أو مئات الملايين من البشر في الشرق لا يزال يتعذر إيصال البضائع
الأوربية إليهم، فلا بد إذًا أن تهبط أثمان البضائع والأقوات هبوطًا عظيمًا ربما كان
فوق تقدير المقدرين.
فالواجب على كل عاقل حريص على ماله أن يتبع القاعدة المعقولة التي جرينا
نحن عليها وكنا نوصي الناس بها، وهي أن لا يشتري أحد شيئًا ما قبل عودة
الأسواق إلى الأسعار المعتدلة إلا إذا كان لا غنى له عنه، وبعد البحث عن أسعاره في
عدة مواضع، ولا يغترن أحد بعد اليوم بحيل التجار بادعاء تنزيل الأثمان مؤقتًا،
ودعوتهم إلى ما يسمونه الفرصة العظيمة أو (الأوكازيون) ، فإن هذه الفرص
ليست بمؤقتة، وإنما هم مضطرون إلى الهبوط بها إلى ما دونها، فهم يغتنمون فرصة
حاجة الناس إلى الشيء وألفتهم للغلاء قبل الهبوط الشديد العام المنتظر، فالغنم لهم
والغرم على من يصدقهم.
بدأ أحذق التجار ينقص أسعار البضائع بالتدريج، ولا سيما المنسوجة، وظل
أغبياء الطامعين مصرين على نهب الناس بتلك الأسعار الفاحشة، بل علمنا علم
اليقين أن بعض الذين أعلنوا للناس وجوب اغتنام الفرصة بالنقص المؤقت من سعر
البضائع قد زادوا في سعرها بما كتبوا على بطائقها كما كانوا يفعلون في زمن
الحرب والهدنة، ولكن قلَّ مَن ينخدع بعد اليوم بهؤلاء القادة المستحقين للإفلاس
والفقر.
_________
(1)
القاعدة في النسبة إلى فعيلة فعلي وصرحوا باستثناء السليقة فقالوا: سليقي، استعمل وجرى علماء المعقول وغيرهم على ذلك في النسبة إلى الطبيعة؛ لأنها بمعنى السليقة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجود والإحسان
والمقابلة فيهما بين نساء الإنكليز اليوم ونساء الصحابة رضي الله عنهم
نشرت جريدة (المقطم) منذ بضعة أشهر ما يأتي:
قابل أحد أغنياء لندن محافظها من أيام، وأبلغه أنه مستعد للتبرع بمائة وخمسين
ألف جنيه لإنشاء حديقة في لندن تدعى حديقة النصر، وقد وعد هذا المحسن أن
يتبرع بكل ثروته، وتقدر بأكثر من مليون للأعمال الخيرية قبل وفاته.
واجتمع المؤتمر الإنكليزي الكاثوليكي في لندن؛ لاستنداء الأكف لمساعدة
الرسالات الدينية الخارجية وخطب الخطباء، قالت (الديلي مايل) : فأخذت النساء
ينزعن حليهن، ويلقينها في العلب والبرانيط التي أديرت على المجتمعين، وتبرع
كثيرون بحوالات كتبوها بأقلام استعارها بعضهم في الاجتماع، وبعض هذه
الحوالات بألف جنيه، وبعضها بثماني مائة، والبعض بخمس مائة، وقدر ما
اجتمع من الساعات ذات السوار والحلي الأخرى بمئات الجنيهات، ونزعت إحدى
الحاضرات الحلية التي على حذائها، وتبرعت أخرى بأزرار اللؤلؤة التي على
بلوزتها، وتبرعت أخرى بقرطين صغيرين من الذهب والألماس نزعتهما من
أذنيهما، وكان المجموع الأول 1745جنيه اهـ.
***
الاعتبار بهذا الخبر
ذكرنا تبرع نساء الإنكليز بحليهن لمساعدة نشر دينهم ما ورد في الصحيحين
من مثل ذلك عن نساء الصحابة رضي الله عنهن ففي (باب عظة النساء) من
كتاب العلم عند البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أشهد على
النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء
فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يأخذ في
طرف ثوبه) .
وهذا الوعظ للنساء كان في يوم عيد الفطر، خص النبي فيه النساء بالموعظة
بعد الخطبة العامة لظنه أنه لم يسمعهن؛ لأنهن كن يصلين ويجلسن وراء الرجال،
وأخرج البخاري الحديث في (باب موعظة الإمام النساء يوم العيد) ، من كتاب
(العيدين) عن جابر في تفسير سورة الممتحنة عن ابن عباس، ويؤخذ من
مجموع الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم شق صفوف الرجال بعد خطبة
العيد حتى أتى النساء، فقرأ عليهن آية المبايعة، ثم قال لهن: (هل أنتن على
ذلك؟) فأجابته واحدة عنهن: نعم. ولما أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة قال
لهن بلال: هلم لكن فدًا أبي وأمي، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال، وزاد
في رواية لمسلم الخلاخيل، فأما الأقراط، فهي حلي الآذان، وأما الفتخ وهي جمع
فتخة، فحلق تلبس في أصابع اليدين والرجلين.
والعبرة فيما تقدم من وجوه: أهمها أن الإفرنج اليوم أقرب منا إلى هداية ديننا
وسيرة سلفنا الصالح في أمور كثيرة، وأهمها حياة الدين والغيرة عليه، والبذل في
سبيله، ومشاركة النساء للرجال في حضور العبادة في المسجد مع الرجال، وسماع
المواعظ والتعاون على المصلحة الملية العامة، ولا يبعد أن يعود نساؤنا إلى شيء
هداية دينهن اقتداءً بالمحسنات من نساء الإفرنج كما يقلد الكثيرات منهن المسيئات
الآن في الأمور المنتقدة، ومتى دبت الحياة في الأمة يحيا فيها كل ما يتعلق بحياتها
الاجتماعية.
_________
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
تاريخ فنون الحديث
(2)
إفراد الحديث بالتأليف من مبتدأ القرن الثالث
في أول هذا القرن أخذ رواة الحديث في جمعه طريقة غير التي سلفت؛ فبعد
أن كانوا يجمعونه ممزوجًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، أخذوا يفردونه بالجمع
والتأليف، ثم من أئمة الحديث من جمع في مصنفه كل ما روي عن الرسول -
صلى الله عليه وسلم من غير تمييز بين صحيح وسقيم، ومنهم من أفرد الصحيح
بالجمع؛ ليخلص طالب الحديث من عناء السؤال والبحث، وكان أول الراسمين
لتلك الطريقة المثلى شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، فجمع في كتابه
المشهور ما تبين له صحته، وكانت الكتب قبله ممزوجًا فيها الصحيح بالعليل بحيث
لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته
والوقوف على سلامته من العلل، فإن لم يكن من أهل البحث، ولم يظفر بمن يتعرف
منه درجته بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده، واقتفى أثر البخاري في ذلك
الإمام مسلم بن الحجاج القشيري وكان من الآخذين عنه، ثم ارتسم خطتهما كثيرون.
وإن ذلك القرن الثالث لأجلّ عصور الحديث وأسعدها بخدمة السنة، ففيه
ظهر كبار المحدثين وجهابذة المؤلفين وحذاق الناقدين، وفيه أشرقت شموس الكتب
الستة التي كادت لا تفلت من صحيح الحديث إلا النزر اليسير، والتي عليها يعتمد
المشرعون، وبها يعتضد المناظرون، وعن محياها تنجاب الشبه وبضوئها يهتدي
الضال، وببرد يقينها تثلج الصدور.
وبانسلاخ هذا القرن يكاد يتم جمع الحديث وتدوينه، ويبتدئ عصر ترتيبه
وتهذيبه، وتسهيله على رواده وتقريبه.
وقبل أن نأتي على المشهور من كتب السنة في هذا القرن نعقد فصلاً نكشف
فيه عن طرق التصنيف في الحديث حتى نكون على بينة من تأليفه:
طرق التصنيف في الحديث
للعلماء في تصنيف الحديث وجمعه طريقتان (إحداهما) التصنيف على
الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه وغيره، وتنويعه أنواعًا، وجمع ما ورد في
كل حكم وكل نوع في باب بحيث يتميز ما يتعلق بالصلاة مثلاً عما يتعلق بالصيام،
وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط كالشيخين، ومنهم من لم
يقتصر على ذلك كأبي داود والترمذي والنسائي، (ثانيتهما) التصنيف على
المسانيد، وهو أنه يجمع في ترجمة كل صحابي [1] ما عنده من حديثه سواء كان
صحيحًا أو غير صحيح، ويجعله على حدة وإن اختلفت أنواعه، وأهل هذه
الطريقة منهم من رتب أسماء الصحابة على حروف المعجم كالطبراني في المعجم
الكبير، والضياء المقدسي في المختارة التي لم تكمل، وهذا أسهل تناولاً، ومنهم
من رتبها على القبائل فقدم بني هاشم، ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في النسب، ومنهم من رتبها على السبق في الإسلام، فقدم
العشرة ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم
من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنًّا، وختم بالنساء، وقد سلك ابن حبان في
صحيحه طريقة ثالثة مرتبة على خمسة أقسام وهي: الأوامر، والنواهي، والأخبار،
والإباحات، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ونوع كل واحد من هذه الخمسة
إلى أنواع، والكشف في كتابه عسر جدًّا، وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب،
وعمل له الحافظ أبو الفضل العراقي أطرافًا [2] ، وجرد الحافظ أبو الحسن
الهيتمي زوائده على الصحيحين في مجلد.
ولهم في جمع الحديث طرق أخرى (منها) جمعه على حروف المعجم،
فيجعل مثلاً حديث: (إنما الأعمال بالنيات) في حرف الألف، وقد جرى على
ذلك أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، وابن طاهر في أحاديث كتاب الكامل
لابن عدي، (ومنها) جمعه على الأطراف، وذلك بأن يذكر طرف الحديث، ثم
يجمع أسانيده إما مع عدم التقيد بكتب مخصوصة أو مع التقيد بها، وذلك مثل ما
فعل أبو العباس أحمد بن ثابت العراقي في أطراف الكتب الخمسة.
ومن أعلى المراتب في تصنيف الحديث تصنيفه معللاً؛ بأن يجمع في كل
حديث طرقه واختلاف الرواة فيه، فإن معرفة العلل أجلّ أنواع علم الحديث، وبها
يظهر إرسال بعض ما عد متصلاً، أو وقف ما ظن مرفوعًا، وغير ذلك من الأمور
المهمة، والذين صنفوا في العلل منهم من رتب كتابه على الأبواب كابن أبي حاتم
وهو أحسن لسهولة تداوله، ومنهم من رتب كتابه على المساند كالحافظ الكبير
يعقوب بن شيبة البصري [3] ، فإنه ألف مسندًا معللاً غير أنه لم يتم، ولو تم لكان
في نحو مائتي مجلد، والذي تم منه مسند العشرة والعباس وابن مسعود وعتبة
بن غزوان وبعض الموالي وعمار، ويقال: إن مسند علي منه في خمس مجلدات.
ويقال: إنه كان في منزله أربعون لحافًا أعدها لمن كان عنده من الوراقين الذين
يُبيضون المسند، ولزمه على ما خرج من المسند عشرة آلاف دينار (خمسة آلاف
جنيه مصري تقريبًا) قال بعض المشايخ: إنه لم يتم مسند معلل قط.
هذا، وقد جرت عادة أهل الحديث أن يفردوا بالجمع والتأليف بعض الأبواب
والشيوخ والتراجم والطرق.
أما الأبواب، فقد أفرد بعض الأئمة بعضها بالتصنيف كباب رفع اليدين في
الصلاة، أفرده البخاري بالتصنيف، وباب القضاء باليمين مع الشاهد أفرده
الدارقطني بالتصنيف، وأما الشيوخ فقد جمع بعض العلماء حديث شيوخ
مخصوصين كل واحد منهم على انفراده، فجمع الإسماعيلي حديث الأعمش، وجمع
النسائي حديث الفضيل بن عياض، وأما التراجم فقد جمعوا ما جاء بترجمة واحدة
من الحديث كمالك عن نافع عن ابن عمر، وكسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي
هريرة.
وأما الطرق فقد جمعوا بعض طرق الأحاديث، كحديث قبض العلم؛ جمع
طرقه الطوسي، وحديث (من كذب علي متعمدًا) جمع طرقه الطبراني وغير ذلك.
***
كتب السنة في القرن الثالث
أشهر الكتب في القرن الثالث: صحيح البخاري [4] ، وصحيح مسلم [5] ، وسنن
أبي داود [6] ، وسنن النسائي [7] ، وجامع الترمذي [8] ، وسنن ابن ماجه [9] ، ومسند
الإمام أحمد بن حنبل [10] ، والمنتقى في الأحكام لابن الجارود [11] ، ثم مصنف ابن
أبي شيبة [12] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [13] ، ومصنف سعيد بن منصور [14]
، وكتاب تهذيب الآثار لمحمد بن جرير الطبري [15] ، وهو من عجائب كتبه، ابتدأ
فيه بما رواه أبو بكر الصديق وتكلم على كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من
الفقه واختلاف العلماء وحججه واللغة، فتم مسند العشرة وأهل البيت والموالي،
وقطعة من مسند ابن عباس، والمسند الكبير لبقي بن مخلد القرطبي [16] رتبه على
أسماء الصحابة، روى فيه عن ألف وثلاثمائة صحابي ونيف، ثم رتب حديث كل
صاحب على أبواب الفقه، فجاء كتابًا حافلاً مع ثقة مؤلفه وضبطه وإتقانه، ومسند
عبيد الله بن موسى [17] ، ومسند إسحاق بن راهويه [18] ، ومسند ابن حميد [19] ،
ومسند الدارمي [20] ، ومسند أبي يعلى الموصلي [21] ، ومسند ابن أبي
أسامة الحارث بن محمد التميمي [22] ، ومسند ابن أبي عاصم أحمد بن عمرو
الشيباني [23] ، وفيه نحو خمسين ألف حديث، ومسند ابن أبي عمر، ومحمد بن يحيى
العدني [24] ، ومسند أبي هريرة لإبراهيم بن حرب العسكري [25] ، ومسند الإمام علي
لأحمد بن شعيب النسائي [26] ، ومسند العنبري إبراهيم بن إسماعيل الطوسي [27] ،
والمسند الكبير للبخاري، ومسند مسدد بن مسرهد، [28] ومسند محمد بن مهدي [29] ،
ومسند الحميدي [30] ، ومسند إبراهيم بن معقل النسفي [31] ، ومسند إبراهيم بن يوسف
الهنجاني [32] ، ومسند مالك لأحمد بن شعيب النسائي [33] ، والمسند الكبير للحسن بن
سفيان [34] ، والمسند المعلل لأبي بكر البزار [35] ، ومسند ابن سنجر [36] ، والمسند
الكبير ليعقوب بن شيبة [37] ، ولم يؤلف أحسن منه لكنه لم يتم ومسند علي بن المديني
[38]
، ومسند ابن أبي عزرة أحمد بن حازم [39] ، ومسند عثمان بن أبي شيبة [40] ،
وكتب المسانيد كثيرة جدًّا، وفيما ذكرنا كفاية إن أردت زيادة، فانظر
كشف الظنون تجد فيه بعض الحاجة.
تنبيه: كتب المسانيد دون كتب السنن في الرتبة، جرت عادة مصنفيها أن
يجمعوا في مسند كل صحابي ما يقع لهم من حديثه صحيحًا كان أو سقيمًا، ولذلك لا
يسوغ الاحتجاج بما يورد فيها مطلقًا، واستثنى بعض المحدثين منها مسند الإمام
أحمد بن حنبل.
***
كتب السنة في القرن الرابع
الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من رواة الحديث وحملته هو رأس
سنة ثلاثمائة، وقد رأينا فيما سلف أن القرن الثالث أسعد القرون بخدمة السنة
وتمحيصها ونقد رواتها، وكل من أتى بعد ذلك فَعالَةٌ على المتقدمين إلا قليلاً
يجمع ما جمعوا، ويعتمد في نقده على ما نقدوا، لذلك كانت كتب السنة في القرن
الثاني والثالث تمتاز في الأكثر بأولية الجمع فيها دون الأخذ عن غيرها، وهذا ما
دعاني إلى أن أفرد كتب السنة في القرن الرابع بالذكر دون أن أدمجها مع كتب
السنة في القرن الثالث.
أشهر الكتب في القرن الرابع المعاجم الثلاثة: الكبير، والصغير، والأوسط
للإمام سليمان بن أحمد الطبراني [41] رتب في الكبير الصحابة على الحروف،
وهو مشتمل على نحو خمسمائة وعشرين ألف حديث، ورتب في الأوسط والأصغر
على شيوخه على الحروف أيضًا، ولقد رتب الكبير الإمام علاء الدين علي بن بلسبان
الفارسي [42] ترتيبًا حسنًا، وسنن الدارقطني [43] ، وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان
البستي [44] ، وصحيح أبي عوانة يعقوب بن إسحاق [45] ، وصحيح ابن خزيمة محمد
بن إسحاق [46] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان البغدادي [47] ، والمنتقى
لقاسم بن أصبغ محدث الأندلس [48] ، ومصنف الطحاوي [49] ، ومسند ابن جميع
محمد بن أحمد [50] ، ومسند محمد بن إسحاق [51] ، ومسند الخوارزمي [52] ، ومسند
أبي إسحاق إبراهيم بن نصر الرازي [53] .
وسنعقد لكل كتاب من كتب السنة الشهيرة في القرنين الثالث والرابع فصلاً
يعرف به، ويبين درجة أحاديثه، وما لقيه من عناية، مبتدئين في ذلك بمسند الإمام
أحمد رضي الله عنه.
***
مسند الإمام أحمد بن حنبل
مسند الإمام أحمد كتاب جليل من جملة أصول السنة، يشتمل على أربعين ألف
حديث، تكرر منها عشرة آلاف، ومن أحاديثه ما ينوف على ثلاثمائة حديث ثلاثية
الإسناد (أي: بين راويها والرسول ثلاثة رواة) .
درجة حديثه: روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث
فقال: انظروه، فإن كان في المسند، وإلا فليس بحجة، كأن الإمام يرى صحة كل
ما ساقه في مسنده، لكن عبارته ليست صريحة في أن كل ما فيه حجة، إنما هي
صريحة في أن ما ليس فيه ليس بحجة، لكن ثم أحاديث مخرجة في الصحيحين
وليست فيه، والحق أن الكتاب فيه كثير من الأحاديث الضعيفة، بل ذكر ابن
الجوزي في موضوعاته خمسة عشر حديثًا من المسند لاحت له فيها سمة الوضع،
وذكر الحافظ العراقي تسعة، لكن أجاب عن هذه الأحاديث الحافظ ابن حجر في
كتابه (القول المسدد في الذب عن المسند) ، وقال في كتابه تعجيل المنفعة برجال
الأربعة: ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث، أو أربعة، منها حديث
عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفًا قال: ويعتذر عنه، لأنه مما أمر
بالضرب عليه، فترك سهوًا، أو ضرب عليه وكتب من تحت الضرب، ويعجبني ما
قاله العلامة ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) ، شرط أحمد في المسند أن لا يروي
عن المعروفين بالكذب عندهم، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، قال: ثم زاد ابن
أحمد زيادات على المسند ضمت إليه، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي، وفي تلك
الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة، فظن من لا علم عنده أن ذلك من رواية
أحمد في مسنده.
شرحه واختصاره: شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي [54]
نزيل المدينة المنورة، واختصره زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي، وسمى
مختصره در المنتقد من مسند الإمام أحمد، وكذلك اختصره سراج الدين عمر بن
علي المعروف بابن الملقن الشافعي [55] .
***
الجامع الصحيح المسند للإمام البخاري
وصف إجمالي له: هو أول كتاب ألف في الصحيح المجرد، وقد اتفق
جمهور العلماء على أنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، ويقاربه في ذلك صحيح
مسلم، وذلك أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما اتفق على ثقة ناقليه إلى الصحابي
المشهور، مع كون الإسناد إليه متصلاً غير مقطوع (وذلك ما يسمى بشرط
الشيخين) .
ولقد جمع البخاري صحيحه في ست عشرة سنة، وما كان يضع فيه حديثًا إلا
بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين ويستخير الله في وضعه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر
أن عدة ما فيه من الأحاديث بالمكرر 7397 سوى المعلقات والمتابعات
والموقوفات [*] ، وبغير المكرر من المتون الموصولة 2602، ومن المتون المعلقة
المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر منه 159 حديثًا، فمجموع غير المكرر
2761، وفيه من المعلقات 1341 حديثًا، وفيه من المتابعات والتنبيه على
اختلاف الروايات 344 حديثًا، ولم يذكر عدد الموقوفات على الصحابة،
والمقطوعات الواردة عن التابعين فمن بعدهم، فجملة ما فيه بالمكرر سوى الموقوف
والمقطوع 9082 حديثًا، وإنما جمع في صحيحه الأحاديث المعلقة والموقوفة
والمقطوعة، وليست من موضوع كتابه؛ لأنه قصد بها الاستئناس والاستشهاد
فحسب، ولذلك غاير في سياقها لتمتاز.
وقد انتقد عليه الحفاظ عشرة أحاديث ومائة، منها ما وافقه مسلم على تخريجه
وهو 32 حديثًا، ومنها ما انفرد بتخريجه وهو78 حديثًا، قال الحافظ ابن حجر في
مقدمة شرحه فتح الباري على صحيح البخاري: وليست عللها كلها قادحة، بل
أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل
واليسير منه في الجواب عنه تعسف، وقد أوضح ذلك الحافظ مفصلاً في المقدمة،
وقد ضعف الحافظ من رجال الجامع للبخاري نحو الثمانين، ولكن أكثرهم من
شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز صحيحها
من ضعيفها، فهو بهم أعرف ولهم أخبر، وقد روى عن البخاري جامعه الصحيح
نحو من مائة ألف، منهم كثير من أئمة الحديث كمسلم وأبي زرعة والترمذي وابن
خزيمة.
شروحه: لم يعتن علماء المسلمين بشيء بعد الكتاب العزيز عنايتهم بالجامع
الصحيح للإمام البخاري، فما أكثر شارحيه والكاتبين في رجاله والمؤلفين في
أغراضه والمختصرين لكتابه، وقد عد الفاضل ملا كاتب جلبي في كتابه (كشف
الظنون) ما ينيف على اثنين وثمانين شرحًا للبخاري، دبجها يراع الجهابذة من
السلف، والأذكياء من الخلف ما بين كامل وناقص، بيد أن منهم من مال إلى
الإجمال كالإمام الخطابي [56] ، فإنه عمل شرحًا سماه (أعلام السنن) في مجلد
واحد، ومنهم من آثر التطويل فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسنده أو متنه
إلا كتب كالإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزبادي الشيرازي [57] ، فإنه شرحه
شراحًا وافيًا سمَّاه (فتح الباري بالسيل الفسيح المجاري) كمل ربع العبادات منه في
عشرين مجلدًا أتى فيه بما لم يُسبق إليه، ومنهم من سلك سبيل التوسط، مقتصرًا
على ما لا بد منه في فهم الأحاديث مع تقييد أوابده وتذليل شوارده.
وهؤلاء على اختلاف مشاربهم وتباين مسالكهم قد فاقوا حد الكثرة إلى أن
المحسنين من الشراح إحسانًا أربعة نفر:
الإمام بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي [58] في (شرحه التنقيح) .
والعلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي [59] في شرحه (عمدة
القارئ) والحافظ جلال الدين السيوطي [60] في شرحه (التوشيح) .
وشيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني [61] في شرحه (فتح الباري)
ولعمري، إنه لأمير أولئك المحسنين، فإن شرحه لا يدانيه شرح ولا يحيط
بجماله وصف، ولو لم يكن له إلا مقدمته لكانت وافية في الإشادة بذكره والإبانة عن
جلالة قدره، ولما طلب من مجتهد اليمن العلامة الشوكاني أن يشرح الجامع
الصحيح للبخاري قال: لا هجرة بعد الفتح. وقد بدأ تأليف شرحه الفتح مفتتح سنة
817 بعد أن أكمل مقدمته في سنة 813، وانتهى منه في غرة رجب سنة 842، وقد
أوْلَم عند ختمه وليمة عظيمة لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا اليسير، أنفق
عليها نحو خمسمائة دينار (مائتين وخمسين جنيهًا مصريًّا) ، وقد لقي ما يستحق
من الحظوة في عصر مؤلفه حتى طلبه ملوك الأطراف بالاستكتاب، واشتري بنحو
ثلاثمائة دينار (مائة وخمسين جنيهًا مصريًّا) ، وانتشر في الآفاق حتى غطت
شهرته سائر الشروح، وهو يقع في ثلاثة عشر مجلدًا، ومقدمته في مجلد ضخم
(وقد طبع بكل من مصر والهند مرتين) .
مختصرات الجامع: له مختصرات كثيرة من أشهرها مختصر الإمام جمال
الدين أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي [62] ، ومختصر بدر الدين حسن بن عمر
الحلبي [63] المسمى (إرشاد الساري والقاري) ، ومختصر الحسين بن المبارك
الزبيدي [64] جرد فيه حديثه من أسانيده وسماه (التجريد الصريح لأحاديث الجامع
الصحيح) وقد شرحه شرحًا وافيًا حسن صديق خان ملك بهوبال بالهند، وكذلك
شرحه الشيخ عبد الله الشرقاوي.
كتب رجاله: منها (أسماء رجال البخاري) للشيخ الإمام أحمد بن محمد
الكلاباذي [65] وكتاب (التعديل والتجريح) لرجاله لأبي الوليد سليمان بن خلف
الباجي [66] ، و (الإفهام بما وقع في البخاري من الإبهام)[**] لجلال الدين بن عمر
البلقيني [67] .
***
الجامع الصحيح للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج
هو ثاني الكتب الستة وأحد الصحيحين المشهود لهما بعلو الرتبة، وقد ذكر
النووي في أول شرحه له أن الحسين بن علي النيسابوري قال: ما تحت أديم
السماء أصح من كتاب مسلم. ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب، ولكن الذي
لا ينبغي الإضرار فيه رجحان صحيح البخاري عليه؛ لأن الصفات التي تدور
عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم، أما من حيث الاتصال
فلاشتراط البخاري أن يكون الراوي ثبت له لقاء المروي عنه ولو مرة، واكتفى
مسلم بمطلق المعاصرة، وما ألزم به مسلم البخاري من أنه يحتاج إلى أن لا يقبل
العنعنة [68] أصلاً ليس بلازم؛ لأن الراوي إذا ثبت له لقاء من روى عنه مرة لا
يجري في رواياته احتمال أن لا يكون سمع منه؛ لأنه يلزم من جريانه أن يكون
مدلسًا، والمسألة مفروضة في غير المدلس، وأما من حيث العدالة والضبط؛ فلأن
من تكلم فيهم من رجال مسلم ستون ومائة، ومن تكلم فيهم من رجال البخاري
ثمانون، مع أن الثاني لم يكثر من إخراج حديثهم، وأغلبهم من شيوخه الذين أخذ
عنهم ومارس حديثهم، وأما من جهة عدم الشذوذ والإعلال [69] ؛ فلأن ما انتقد على
البخاري من الأحاديث مما لم يشاركه فيها مسلم ثمانية وسبعون حديثًا، وما انتقد
على مسلم كذلك ثلاثون ومائة، أضف إلى هذا ما في البخاري من الاستنباطات
الفقهية والدقائق الحكمية مما عري منه كتاب مسلم، هذا إلى اتفاق العلماء على أن
البخاري كان أجَلّ من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث منه، وأن مسلمًا
تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره حتى قال الدارقطني: لولا
البخاري لما راح مسلم ولا جاء. لكن الإنصاف يدفعنا إلى الاعتراف لمسلم بتلك
الميزة الجليلة والطريقة الحكيمة، ونعني بها سهولة التناول من كتابه؛ إذ جعل لكل
حديث موضعًا واحدًا يليق به، جمع فيه طرقه التي ارتضاها، وأورد فيه أسانيده
المتعددة وألفاظه المختلفة مما يسهل على الطالب النظر في وجوهه واقتطاف ثماره،
وتوليه الثقة بجميع الطرق التي للحديث، ولم يحم حول ذلك البخاري، بل فرق
طرق الحديث في الأبواب المختلفة.
وقد روي عن مسلم أن كتابه أربعة آلاف حديث دون المكرر، وبالمكرر
7275 حديثًا.
شروحه: شرح صحيح مسلم كثير من العلماء ذكر منها صاحب كشف
الظنون نحو خمسة عشر شرحًا، من أشهرها المنهاج للحافظ الإمام أبي زكريا
يحيى بن شرف النووي الشافعي [70] ، وشرح أبي الفرج عيسى بن مسعود
الزواوي [71] ، وهو شرح كبير في خمس مجلدات جمع عدة شروح سبقته، وإكمال
المعلم للإمام أبي عبد الله محمد بن خليفة الأبي المالكي [72] في أربع مجلدات، ضمنه
شرح المازري وعياض والقرطبي والنووي مع بعض الزيادات، والابتهاج للشيخ
أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني الشافعي [73] بلغ إلى نحو نصفه في ثمانية
أجزاء كبار، وشرح الشيخ علي القاري الهروي نزيل مكة المكرمة [74] في أربع
مجلدات.
مختصراته: من أشهر مختصراته تلخيص كتاب مسلم وشرحه لأحمد بن عمر
القرطبي [75] ، ومختصر الإمام زكي الدين عبد العظيم المنذري [76] ، ومختصر
زوائد مسلم على البخاري لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي [77] وهو
كبير في أربع مجلدات، ولأبي بكر أحمد بن علي الأصبهاني [78] كتاب في أسماه
رجال مسلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك.
(2)
سيأتي معنى الأطراف بعد أسطر.
(3)
توفي سنة 262.
…
(4) توفي سنة 251.
…
... (5) سنة 261.
(6)
سنة 275.
…
... (7) سنة 303.
…
...
…
(8) سنة 279.
(9)
سنة 273.
…
... (10) سنة 241.
…
...
…
(11) سنة 307.
(12)
سنة 235.
…
... (13) سنة 294.
…
...
…
(14) سنة 227.
(15)
سنة 310.
…
... (16) سنة 772.
…
...
…
(17) سنة 213.
(18)
سنة 237.
…
... (19) سنة 249.
…
...
…
(20) سنة 255.
(21)
سنة 307.
…
... (22) سنة 282.
…
...
…
(23) سنة 287.
(24)
سنة 243.
…
... (25) سنة 282.
…
...
…
(26) سنة 203.
(27)
سنة 280.
…
... (28) سنة 289.
…
...
…
(29) سنة 272.
(30)
سنة 229.
…
... (31) سنة 295.
…
...
…
(32) سنة 301.
(33)
توفي سنة 303.
…
(34) سنة 303.
…
...
…
(35) سنة 292.
(36)
سنة 258.
…
... (37) سنة 262.
…
...
…
(38)234.
(39)
سنة 276.
…
... (40) سنة 239.
…
...
…
(41)360.
(42)
سنة 721.
…
... (43) سنة 386.
…
...
…
(44) توفي سنة 354.
(45)
سنة 316.
…
... (46) سنة 311.
…
...
…
(47) سنة 353.
(48)
سنة 340.
…
... (49) سنة 321.
…
...
…
(50) سنة 402.
(51)
سنة 313.
…
... (52) سنة 425.
…
...
…
(53) سنة 385.
(54)
توفي سنة 1139. (55) توفي سنة 805.
(*) المعلق من الحديث: ما كان في سنده سقط من أوله كأن يقول البخاري: عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا، والموقوف ما انتهى سنده إلى الصحابي فلم يذكر فيه قولاً للنبي ولا فعلاً ولا وصفًا ولا تقريرًا والمقطوع ما انتهى سنده إلى من دون الصحابي كالتابعي، وقد يطلق على المقطوع موقوف على فلان؛ أي: الذي انتهى إليه السند.
(56)
توفي سنة 308.
…
(57) سنة 817.
…
... (58) سنة 794.
(59)
سنة 855.
…
... (60) سنة 911.
…
... (61) سنة 852.
(62)
توفي سنة 656.
…
(63) سنة 789.
…
... (64)893.
(65)
سنة 398.
…
... (66) سنة 474.
(**) إبهام الراوي أن لا يذكر اسمه، ولا يقبل حديث المبهم ولو الإبهام بلفظ التعديل على الأصح.
(67)
سنة 824.
(68)
العنعنة: أن يكون في السند لفظه عن؛ كعن فلان عن فلان.
(69)
الشذوذ: مخالفة الثقة من هو أرجح منه، والإعلال وجود علة خفية قادحة في السند أو
الحديث.
(70)
توفي سنة 676.
…
(71) سنة 744.
…
... (72) سنة 827.
(73)
سنة 923.
…
... (74) سنة 1016.
…
... (75) سنة 656.
(76)
سنة 656.
…
... (77) سنة 804.
…
... (78) سنة 279.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاقتداء في الصلاة
بمتخذي الوسطاء والشفعاء عند الله
وما يتبع ذلك في حقِيقة الإسلام والارتداد عنه
س2 جاءنا هذا السؤال من جماعة الموحدين في دمياط ومعه عنوان واحد
منهم لنجيبه، فرأينا أنه يجب نشره والجواب عنه في المنار، وهو:
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب إدارة المنار العامرة.
تحية إخلاص تحدوها إليكم روح الإسلام، وبعد، فلما كانت ثقتنا لا تنحصر
بغير عالميتكم؛ لسعة اطلاعها بنور الإله الواحد الهادي إلى الصراط المستقيم سيما
في معضلات الأمور التي يتوقف صلاح الدين عليها، رجوناكم للسؤال الآتي وهو:
هل تصح الصلاة خلف متخذي الشفعاء والوسائط من مسلمي هذا الزمان أم لا
تصح؟
وفي الختام نلهج جميعًا بتكرار الرجاء ونردده باسم الدين الإسلامي الحنيف أن
لا يضن الأستاذ الإمام على طائفة تقلب وجهها في السماء لهفًا بالجواب على هذا
السؤال وافيًا.
هذا وإن أمكن الأستاذ الإمام نشر الجواب في المجلة الطائر ذكرها بين أقطار
المشارق والمغارب فبها وياحبذا، وإلا فنرجوه جميعًا ألا نحرم من الرد بالعنوان
طيه، ولكم من الله تعالى الشكر والأجر إن شاء الله، والسلام. الموحدون بدمياط.
(ج) الظاهر أن السائلين يعنون بمتخذي الشفعاء والوسطاء عند الله من يصدق
عليهم قوله تعالى في مشركي العرب: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا
يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) ، وإنهم مرتابون في
الاقتداء بهم في الصلاة مع هذا الشرك الصريح؛ لأنهم يأتونه عن جهل ويحسبون
أنه طاعة لله وعمل بدينه، وهم مؤمنون إجمالاً بالله، وبأن كل ما جاء به عنه خاتم
رسله محمد صلى الله عليه وسلم فهو حق، وإيمانهم بذلك إيمان إذعان؛ لأنهم
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون بيت الله من استطاع
منهم إليه سبيلاً، فموضع الإشكال على هذا ما يصدر عنهم من العبادة الشركية لغير
الله تعالى؛ كدعاء الموتى من الصالحين والتمسح بقبورهم، والطواف بها وببعض
النبات والجماد لشفاء الأمراض وتفريج الكروب وتوسيع الرزق، وغير ذلك من
الأعمال والاعتقادات المنافية للتوحيد الذي جاء به الرسل - عليهم الصلاة والسلام
- وهو أن لا يعبد إلا الله، وأن يخلص له الدين وحده، فلا يدعى معه أحد - هل
هي من أعمال الشرك المجمع عليها، المعلومة من الدين بالضرورة، فلا يعذر الجاهل
بها كما يقول المتكلمون والفقهاء، أم هي مما يخفى على غير العلماء الأعلام،
العارفين بحقيقة ما كان عليه الصدر الأول من قواعد الإسلام، فيعد الجاهل بها
والمتأول فيها معذورًا، وإسلامه وما يترتب عليه من الأعمال صحيحًا؟ ثم إذا كان
أس الدين مما يعذر جاهله، وهو توحيد العبادة وإخلاصها لله تعالى بالتوجه إليه فيها
وحده، ولا سيما الدعاء الذي هو مخها ولبابها، فأي قاعدة من قواعده، أو ركن من
أركانه المبنية على هذا الأس لا يعذر الجاهل بها أو المتأول لها؟ وأين إجماع الأمة
على أن التوحيد الخالص شرط لصحة الصلاة والصيام وسائر العبادات، لا يعتد
بشيء منها بدونه مع سائر أصول الإيمان القطعية المعلومة من الدين بالضرورة؟
إننا نعلم بالاختبار الدقيق أن كثيرًا ممن يدعون غير الله تعالى يجهلون كثيرًا
من هذه الأصول الاعتقادية والعملية، وأن منهم من التاركين لأركان الإسلام كلها أو
بعضها والمرتكبين لكبائر الإثم والفواحش المصرين عليها بدون مبالاة بأمر ولا نهي،
ولا انتفاع بذكرى ولا زجر، ومنهم من اعتاد بعض الأعمال الدينية المشروعة
والمبتدعة اعتيادًا، ولكنه لا يعرف الخشوع والخوف والرجاء إلا عند تلك القبور
وذكر أصحابها، أو نحوها مما يعظمون تعظيم عبادة وتدين، وإن لم يسموه كله أو
بعضه عبادة، ومن هؤلاء وأولئك الذين يدعون هؤلاء الموتى خاشعين معتقدين أنهم
يقضون حوائجهم بأنفسهم ولا يخطر في بالهم غير ذلك، ومنهم من يسمي دعاءه
توسلَا واستشفاعًا، ولا سيما إذا أنكر عليه، وهذا عين ما حكاه القرآن عن مشركي
العرب، ولم يعتدّ بإيمانهم حتى يتركوه، وقال فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ
وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) ، ومن هؤلاء الذين يعدون هذا تأولاً المذعنون
للأمر والنهي الملتزمون للفرائض المتأثمون من المعاصي، وفيهم وقع الإشكال فيما
يظهر؛ لأن تكفير المؤمن المتأول المعين فيه خطر عظيم، ولا سيما في هذا الزمان
الذي ترك أكثر أهله علم الدين على الوجه الذي كان معروفًا عند سلف الأمة أهل
الحق.
وإننا نمهد للجواب التفصيلي الشافي تمهيدًا نراه ضروريًّا فنقول:
1-
إن قواعد العقائد وأصول الإيمان وأحكام الإسلام والردة المجمع عليها
والمسائل الاعتقادية والفرعية المختلف فيها كلها مقررة في الكتب، وإن كل مسلم
مكلف أن يعرف الفرائض العينية منها، وأن يبذل جهده فيما في تطبيق الوقائع
والنوازل التي تعرض له على ما عرف، ومن ذلك الجهد سؤال العارفين واستفتاء
المفتين فيما يشكل عليه من ذلك إلى أن يهتدي إلى الحكم المنطبق على الواقعة،
فهذا اجتهاد عملي يطالب به العوام كالعلماء، كالاجتهاد في القِبلة في حالة البعد عن
الكعبة المشرفة، وعدم المحاريب المتواترة.
وإن لأحوال الزمان والمكان تأثيرًا عظيمًا في هذا الاجتهاد العملي؛ من مظاهره
أنك ترى الناس يستنكرون البدع عند ظهورها أشد الاستنكار، وربما بالغوا في ذلك
فجعلوا المباح محظورًا كالبدع في العادات والماعون والأزياء، وكم كتب بعض
المشتغلين بالعلم رسائل وكتبًا في تحريم بعض هذه المستحدثات في أول العهد
بظهورها، كالأحذية الشائعة التي تسمى في مصر بالجزم (جمع جزمة) ، وفي الشام
بالكنادر واللساتيك، ومنها ما يسميه الفريقان (البوتين) ، وإذا شاعت المنكرات
الدينية وعمت تصير عند الجمهور كالمباحات، بل يجعلون بعضها في عداد
المسنونات والشعائر الدينية، ولا سيما في هذا الزمان الذي تُرك فيه الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في أكثر البلاد التي يقطنها المسلمون، بل صار كثير من
المحظورات المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة من المباحات في حكم القانون
المتبع كالربا والزنا وشرب الخمر، فمن يعيش في أمثال هذه البلاد لا يكون نظره في
تطبيق الأعمال على القواعد والأحكام الشرعية كمن يعيش في بلاد نجد التي لا يكاد
يرى فيها شيئًا من أمثل هذه المنكرات فَاشِيًا مألوفًا، ولا يسمع فيها بحكم من حاكم غير
مستند إلى نص من كتب الفقه المعتبرة، لذلك ينقل عن بعض عوامهم تكفير مرتكب
بعض المعاصي ولو غير قطعية، وفي مصر لا يكفر التارك لجميع أركان الإسلام
والمستبيح لأكبر الفواحش بالإصرار على المجاهرة بها بلا مبالاة.
2-
قد اختلف مصنفو الكتب الكلامية والفقهية اختلافًا واسع النطاق في مسائل
الكفر والردة من حيث الأدلة ومن حيث تطبيقها على الأعمال والناس، وناهيك
بتشديد من ناطوا هذه المسائل باللوازم القريبة والبعيدة للأحكام القطعية أو الظنية
القوية كمن كفروا من حقر عالمًا، أو قال أو فعل ما ينافي احترام كتاب شرعي أو
فتوى شرعية بالإلقاء على الأرض، أو القول ببطلان الفتوى أو عدم قبولها؛ إذ عدوا
أن إهانة الفقيه أو فتواه أو الكتاب تستلزم إهانة الشرع، وأن عدم الإذعان والاحترام
للفتوى يستلزم رفض الشرع والدين، وقد يعدون من الإهانة وعدم الاحترام ما ليس
منه في الواقع، أو في عرف الفاعل وقصده، ويوجد في هذه الكتب - ولا سيما
تصانيف المتأخرين منها - من الأقوال ما لا يمكن إثباته شرعًا، وفي بعضها تأييد
للبدع المخلة بأصول الدين وفروعه.
3-
قد وقع من جراء ما ذكر ما نراه ونشكو منه في هذه البلاد من الفوضى في
العلوم الدينية وتطبيقها على الأعمال المجرئة لأحد المنتمين إلى طريق المتصوفة
الغارقين في البدع على كتابة رد على فتوى لشيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية
بالباطل حاول فيه جعل البدعة التي أنكرها الشيخ بالدليل دينًا متبعًا وعبادة مشروعة،
واستدل على ذلك بأحاديث لا تدل عليه ولا هي بصحيحة فيستدل بها على فرض
دلالتها على ما ذكر، ونشر رده الباطل في صحيفة يومية مشهورة قرأها ألوف من
الناس، وسكت علماء الأزهر على ذلك إلى أن أنكره على المتصوفي بعض أهل
الغيرة من الإسكندرية كما علم ذلك من جزء المنار الماضي.
ذلك بأن شيخ الأزهر - وإن كان رئيس علماء الدين في الأزهر وسائر معاهد
التعليم الديني في هذا القطر - ليس له رياسة دينية مطلقة عند المسلمين فيما يأمر
به وينهى عنه أو يفتي به، وإن وافق الحق لا شرعًا ولا قانونًا ولا مواضعة عرفية،
وليس من أعمال مشيخة الأزهر نشر الدين بتلقين عقائده وآدابه وأحكامه لعامة
المسلمين المكلفين بطريقة منتظمة، فيكون من أثر ذلك أن السواد الأعظم قد تلقى
دينه عن مصدر واحد موثوق به، بحيث نجزم بأن كل ما كان معلومًا من الدين
بالضرورة في صدر الإسلام وسائر القرون التي جزم فيها علماء الأصول والفروع
بأن من جحد شيئًا مجمعًا عليه من هذه المعلومات يكون كافرًا، بل نعلم بالاختبار
أن السواد الأعظم من المسلمين في هذه البلاد أميون، وأن المتعلمين في غير
المعاهد الدينية من الأهالي أكثر من المتعلمين فيها، فأما الأميون فأكثرهم لم يتلق
عقيدته من عالم ولا متعلم، بل يسمع بعضهم من بعض أقوالاً وأمثالاً وحكايات
بعضها من عقائد الإيمان، وبعضها من أضاليل أهل الكفر وخرافات أهل الشرك،
وأما المتعلمون في المدارس الدنيوية فكثير منهم تعلموا في مدارس دعاة النصرانية
التي أنشئت لتحويلهم عن دينهم، ومنهم من تعلموا في مدارس الحكومة وغيرها،
أو في أوربة، وجميع المدارس الدنيوية يبث فيها من التعاليم ما ينافي الدين أو يوقع
الريب في بعض عقائده، ولا يكاد يوجد فيها مدرسة يلقن المسلم فيها أصول دينه
على الوجه الحق المؤيد بالدلائل التي تدحض الشبهات الواردة عليه من العلوم
الأخرى، وأما المتعلمون في الأزهر وما يتبعه من المعاهد فأكثرهم يجيء من بلاد
الأرياف ومزارعها متشبعًا بما عليه العوام من الخرافات والأوهام، فتمر عليه
السنون وهو يعالج مبادئ النحو والفقه التي لا تنزع من نفسه شيئًا من الخرافات
والبدع التي عرفها وألفها، ثم يحضر دروس العقائد المعروفة في هذه المعاهد وهي
مختصرات أو ملخصات من كتب جدلية جافة فيما يجب اعتقاده في الإيمان بالله
ورسله واليوم الآخر تحرك الشبهات ولا تكاد تزيد مدارسيها إيمانًا ولا عملاً صالحًا،
ولا تمييزًا للبدع من السنن ولا ترغيبًا في طلب رضوان الله وترهيبًا من عقابه،
وقد يوجد في بعضها مدح لاتباع السنة وسيرة السلف وذم لِمَا ابتدع بعدهم كقول
الجوهرة:
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف
ولكن لم يذكروا في شروحهم وحواشيهم عليها خلاصة ما حوت دواوين السنة
من أحاديث الاعتصام وآثار الصحابة فيه، ولا ما ورد عن السلف من اجتناب البدع
والزجر عنها، بل لا تخلو أمثال هذه الشروح والحواشي مما يخالف السنة ويؤيد
البدعة وأهلها عن قرب أو بعد، كاحتياج الراد على فتوى شيخ الأزهر في هذه
الأيام بما في بعضها من قولهم: إن (أه) من أسماء الله تعالى، كما يوجد ذلك في
بعض كتب الفقه والفتاوى أيضًا، ومنه قول بعضهم باستحباب وضع الستور على
قبور الصالحين قياسًا على ستر الكعبة، والقائل بهذا ليس من أهل القياس الأصولي
الاجتهادي إلا أن يكون القياس الشيطاني الذي يهدم نصوص الكتاب والسنة، ويبني
بأنقاضها صروح البدعة، فقد صحت الأحاديث بحظر تشريف القبور وبناء المساجد
عليها، ووضع السرج والمصابيح عليها، ولعن الذين إذا مات الرجل الصالح فيهم
اتخذوا على قبره مسجدًا، ومقتضى هذا القياس أن هذا مشروع محبوب عند الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقتضي هذه الفتوى أيضًا أن الطواف بتلك
القبور وتقبيلها مشروع، وكل ذلك من عبادة غير الله تعالى، وهل كان الشرك الذي
بعث جميع الرسل لهدمه إلا عبادة غير الله تعالى من الملائكة والأنبياء والصالحين
بدعائهم، والغلو في تعظيمهم بما لم يأذن به الله، وتعظيم ما وضع للتذكير بهم من
صور وتماثيل وقبور؟
4-
لقد كان مثار كل هذه الفوضى والضلالات ما تبع التقليد والتمذهب من
جعل جماهير الناس كل ما دوّن في كتاب دينًا يتبع، ولا سيما بعد موت مؤلفه، وعند
أهل مذهبه أو أهل طريقته إذا كان منتميًا إلى بعض طرق المتصوفة، التقليد نفسه
مختلف فيه عند الأصوليين وأهل النظر والاستدلال والتشديد في منعه من الأمور
الاعتقادية عظيم جدًّا حتى قال من قال: إنه لا يعتد بإيمان المقلد وإن وافق الحق،
وقد ذكر ذلك صاحب الجوهرة في أول عقيدته بقوله:
إذ كل من قلد في التوحيد
…
إيمانه لم يخل من ترديد
ففيه بعض القوم يحكي الخلفا
…
وبعضهم حقق فيه الكشفا
فقال أن يجزم بقول الغير
…
كفى وإلا لم يزل في الضير
وناهيك بحال المختلف في إيمانه والعياذ بالله تعالى، والتقليد الذي أجازه من
أجازه منه00م وأوجبه صاحب الجوهرة هذا، قاصرًا إياه على الأئمة الأربعة
المشهورين في الفقه، وأبي القاسم الجنيد من الصوفية - افتياتًا منه على الشرع -
وهو التقليد في فروع الأعمال، إنما كانوا يعنون به تقليد العاجز عن معرفة الحكم
للمجتهد الموثوق به عنده بأخذه عنه الحكم بدون دليل، وليس منه في شيء أن يجعل
من الدين كل ما ذكر في كتاب ولو لجاهل ليس من أهل الاجتهاد المطلق، ولا ما دونه
كأكثر هؤلاء المتأخرين الذين لم يعنوا قط بالنظر في أدلة الأحكام، وإنما تآليفهم عبارة
عن نقل كل مؤلف منهم لكلام من قبله مع تصرف يفسد النقل في بعض الأحيان،
وأكثر نقل المتأخرين عن قريبي العهد بهم، ولا يكاد أحد منهم ينظر في كلام
المجتهدين، ولا كلام أهل التخريج والاجتهاد في مذاهبهم، بل جعلوا الفقهاء طبقات،
أوصلها بعضهم إلى ست، ويقول مثل ابن عابدين الشهير: إنه من السادسة وأهلها
أسرى النقل، يعني عمن قبلهم لا من الكتاب والسنة، ولا من نصوص الأئمة، وهذه
الطبقات حجب دون الكتاب والسنة، كل طبقة تحجب ما دونها عما فوقها، فالحجب
بين الطبقة السادسة وبين النور المنزل من عند الله ليستضيء به البشر خمسة هي
سادستها، وقد ضرب الإمام الغزالي مثلاً جميلاً ضوء الشمس يدخل من نافذة، فيقع
على مرآة وينعكس عنها على جدار مقابل له، ثم ينعكس عنه إلى جدار ثان مقابل
لها، ثم ينعكس عنه إلى جدار ثالث في حجرة أخرى مظلمة من بابها، ثم ينعكس ما
يقع على هذا الجدار المقابل للباب إلى جدار رابع في حجرته مقابل له، فالنور الذي
يقع على المرآة مثل نصوص الكتاب والسنة عند المهتدين بهما من الأئمة المجتهدين
وغيرهم من السلف؛ لأن الله تعالى شرع دينه وجعل كتابه تبيانًا عامًّا لا خاصًّا
بالأئمة، وإنما الأئمة أقوى فهمًا وأوسع علمًا وأهدى سبيلاً في الاهتداء به وتعليمه
للناس، والنور المنعكس عن المرآة على الجدار الأول مثل العلم الذي يتلقاه الناس عن
الأئمة الذين ينقلون لهم النصوص ويشرحون لهم معانيها وما يستنبط منها، فهو نور
قوي يتبين به الشيء كما هو ما دامت المرآة صافية، وأما ما ينعكس عن هذا النور
على الجدار الثاني وما بعده فبعضها أضعف من بعض ولا تتبين بها الأشياء بجلاء
تعرف به حقيقتها وصفاتها كما ينبغي، بل كثيرًا ما تخفى، وما يقع فيها الاشتباه،
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) .
5-
يشتبه على أكثر الناس الفرق بين تلقي عوام السلف العلم والدين عن أهله
وعن أخذ بعضهم بقول الإمام بدون معرفة دليله، وبين ما نخصه بالذم من التقليد
الأعمى الذي ترتب عليه ما أشرنا إليه من الفوضى الدينية، وقد قلب بعض
المقلدين الوضع وعكس القضية فجعلوا أقوى حججهم على وجوب التقليد وكونه
مصلحة راجحة زعمهم أنه يدفع مفسدة الفوضى في الدين بادعاء الكثيرين للاجتهاد
واتباع الناس لهم، وهم غير أهل لذلك فيكونون ضالين مضلين، فإقفال باب
الاجتهاد قد درأ هذه المفسدة وقيد من ليس أهلاً للاجتهاد باتباع أئمة معدودين قد ثبت
اجتهادهم، ونقلت مذاهبهم بالتواتر.
والحق أن هذه المفسدة التي ذكروها واقعة لا ريب فيها، وإنما كان سببها ما
سموه إقفال باب الاجتهاد؛ أي: إقفال باب الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - ورد كل اختلاف ونزاع إليهما كما أمر الله تعالى، وهذا الاهتداء
ليس معناه أن يكون كل مهتد بهما إمامًا أهلاً لاستنباط أي حكم شرعي احتيج إليه
منهما، فعوام السلف الصالح لم يكونوا أئمة، ولا كان الجماعات ولا الأفراد منهم
يلتزمون تقليد فرد معين من علمائهم، وإنما كانوا كلهم عالمين بالضروري من الدين،
ومتفاوتين في علم غيره، ومن احتاج منهم إلى علم ما لا يعلمه في نازلة وقعت له
سأل عنها من يثق بعلمه ودينه من أهل العلم؛ أي: سأله عن حكم الله تعالى في كتابه
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان أولئك العلماء الذين هم أهل العلم
بالقرآن والسنن يفتونهم بالنصوص إن وجدت، وإلا فبما يستنبطون منها.
وأما عوام الخلف الذين حيل بينهم وبين هداية كتاب ربهم، وما بينه من سنة
نبيهم عليه الصلاة والسلام بتسميتها اجتهادًا يعجز عنه البشر؛ فهم في فوضى
دينية من هذا التقليد الأعمى الذي هو عبارة عن الأخذ بقول كل من ينتمي إلى العلم
أو يدعيه، وإلى العمل بكل قول يوجد في كتاب مخطوط أو مطبوع، ولا سيما كتب
المنسوبين إلى مذاهبهم في الفقه أو الكلام أو التصوف، وناهيك بكتب المشهورين
منهم مهما يكن سبب شهرتهم، ومن اختبر المسلمين في الأقطار المختلفة اختبارًا
صحيحًا يجد أنه يقل في طلاب العلوم الدينية فيهم من يعرف سيرة الإمام الذي
ينتمي إليه في علمه ودينه وأصول مذهبه ونصوصه في الفروع، وإنما حظهم من
المذهب قراءة بعض الكتب التي ألفها بعض المقلدين المنتمين إليه على تفاوت عظيم
في فهمها، وعلى ما في الكثير منها من الخلط والخطأ والغلط كما أشرنا إليه آنفًا،
ويا ليتهم مع هذا يعرفون ما في الكتب المعتمدة في مذاهبهم، ويعملون بما صح نقله
عن المجتهدين، أو من على مقربة منهم.
كلا إن أكثر العوام يقلد بعضهم بعضًا في الدين وعباداته فعلاً وتركًا كما علمت،
ولا يوجد واحد في المائة، ولا في الألف منهم تلقى دينه عن أحد من المنتحلين للعلم
الديني على ما وصفنا من سوء حالهم، ومن جهل أكثرهم بنصوص الأئمة المجتهدين
- كجهلهم بالكتاب والسنة - ولو كانوا متبعين لأولئك الأئمة الكرام لجعلوا أكبر همهم
تذكير الناس وتعليمهم بالكتاب والسنة وإرجاع كل أمر إليهما، وبذلك وحده ترتفع
الفوضى الدينية أو تقل، وتموت البدع أو تضعف، وأقوال المؤلفين المنسوبين إلى
المذاهب ليس لها من السلطان على القلوب والإقناع في العقول مثل ما لكلام الله تعالى
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلامهم متعارض لكثرتهم، فإذا حاججت امرأً
بقول مؤلف منهم حاجك بقول آخر يخالفه كما حاجّ بعض المنسوبين إلى الطريقة
الشاذلية شيخ الجامع الأزهر بنقول كاذبة خاطئة وجدها في بعض كتبهم فيما ابتدعوه
من التعبد بما يسمونه اسم الصدر، وهو إخراجهم من صدورهم صوتًا مشتملاً على
الحرفين اللذين مخرجهم أقصى الحلق (أه) .
بل أقول: إن إقفال باب الاهتداء بالكتاب والسنة وتذكير الناس بهما قد فتح
أبواب الزندقة والمروق من الدين، لا باب الفوضى في الدين أو الفسوق فقط،
وأوسع هذه الأبواب اثنان: الشبهات المادية، واتباع بعض الدجالين المنتمين إلى
التصوف المدعين أنهم عرفوا الحقيقة، أو اتبعوا من عرفها بالكشف، وناهيك بطائفة
البكتاشية والملة البابية والبهائية من أهل هذا الزمان كسلفهم الباطنية من
الإسماعيلية وغيرهم، كل هذه الدواهي الطامة جاءت من ابتداع تلقي الدين عمن
ينسب إلى المذاهب المعروفة، والأخذ بما يقوله أو يكتبه كل منهم أو يوجد في كتبهم
من غير أن يكون تلقينًا للكتاب والسنة وتفسيرًا لما يحتاج إلى تفسير منهما، وجعل
هذا التلقين هو الأصل وما قد يحتاج إليه من فتوى اجتهادية في نازلة جزئية فرعًا
لا يدعى إليه، ولا يجعل سنة متبعة وشريعة ثابتة، ولا يجعل من خلفه إلى غيره
مبتدعًا ولا فاسقًا، ولو فعلوا هذا واستعانوا عليه بما قاله أهل العلم بالتفسير
والحديث لما قطعت الصلة بين الأمة وبين النور الذي أنزله الله إليها، ولأقفل بذلك
باب الفوضى التي هي الأخذ بكلام كل من يعد من المعممين والمؤلفين مهما تكن
أقوالهم ومصادرها، وليس هذا هو الاجتهاد المطلق الذي أقفلوا بابه.
7-
إن هذا الدين المصون كان أصله كتاب الله تعالى، وما بينه به رسوله في
أفعاله وأقواله وأحكامه، ويتوقف فهم الخلف إياه على معرفة سيرة السلف الصالح
من جمهور الصحابة والتابعين وحفظة السنة وعلماء الأمصار في القرون الثلاثة
التي هي خير القرون، ذلك بأن نصوص القرآن والأحاديث تحتمل المعاني المختلفة
بضروب المجازات والكنايات، فيعرض الناس فيها من التأويل ما ليس مرادًا
للشارع، وإنما كان الصحابة أعلم الناس بهذا الدين؛ لأنهم أعلم بلغة القرآن
والحديث التي هي سليقة لهم، ولمشاهدتهم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم
ووقوفهم على أحكامه في بيانه، ولذلك قال علي كرم الله وجهه لابن عباس رضي
الله عنه حين أرسله لمحاجة الخوارج: احملهم على السنة فإن القرآن ذو وجوه.
والمراد من السنة معناها اللغوي؛ أي: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
وطريقته المتبعة من عهده، فإنها عمل لا يحتمل التأويل كما لا يحتمله كلامه وكلام
الله تعالى وسائر الكلام، وقد نهى بعض الخوارج بعضًا عن محاجة ابن عباس
بالقرآن بحجة أنه من قريش الذين قال الله تعالى فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58) يريدون أن لا يغلب في المحاجة والمخاصمة؛ لأنه ألحن بالحجة
وأبرع في مجال الغلب والخصومة، لا أنه صاحب الحق بما يثبته به من البرهان،
على أن القوم كانوا مستدلين، وفيما أخطؤوا فيه متأولين، وما قالوه هو تكأة
المقلدين، الذين يعذرون أنفسهم في الإصرار على ما ظهر لهم من ضلالهم بجهلهم
وحذق خصمهم وخلابته في القول، فالجهل عذر الجاهل العارف والمعترف بجهله
وعجزه، لا المستدل الذي ينافح عن دعواه بسيفه ورمحه.
وعلماء المذاهب التي يدعى الناس اتباعها يقولون: إن الجهل عذر في
المسائل التي من شأنها أن تخفى على العامة، وإن كانت مجمعًا عليها كإرث بنت
الابن مع بنت الصُلب السدس تكملة للثلثين الذي جعل الله تعالى في الكلالة فرضًا
للأنثيين، ولا يجعلونه عذرًا لأحد في المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، قالوا:
إلا إذا كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ في شاهق جبل: وهذا مبني على أن
معاشرة المسلمين كافية لمعرفة الضروري من عقائد الإسلام وأحكامه في العبادات
والحلال والحرام، وذلك كاف في صحة إسلام من يعرفه معرفة إذعان، وإن جهل
جميع المسائل الاجتهادية والنصوص الخفية المجمع عليها، فكيف بالمسائل المختلف
فيها؟ على أنه لا بد أن يعرف الكثير منها.
ولما قال العلماء ذلك القول كانت معاشرة المسلمين كافية لمعرفة حقيقة الإسلام
كما قالوا، ثم تغير الزمان، حتى صار المسلمون أنفسهم حجة على الإسلام،
ويعترف بذلك خطباؤهم على منابر جوامعهم في خطب الجمعة، بقولهم: (لم يبق
من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه) ، وبقولهم: (صار المعروف
منكرًا والمنكر معروفًا) ، وهذا القول حق واقع، ولكن لا يعتبر به القائل ولا
السامع، وقد كان من أثره أن كثيرًا من الناس حتى بعض المعممين منهم لا يطعنون
بدين أحد إلا المعتصم بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، ولا سيما إذا دعا
الناس إلى ذلك وإلى ترك البدع الفاشية، حينئذ ينبذونه بلقب وهابي أو عدو الأئمة
المجتهدين، وأولياء الله المقربين، فالجهال قد اتخذوا من أسماء الأئمة والصالحين
الذين هم أعداؤهم سهامًا مسمومة يرمون بها أولياءهم والمتبعين لهم في الحقيقة؛ لأنهم
يهتدون بالكتاب والسنة مثلهم، فالكتاب والسنة ليسا حجة عندهم ولا هداية لهم، بل
هما يردان بقول كل من ألف كتابًا كتب في طرته أنه العلامة فلان الفلاني مذهبًا،
والعلاني طريقة ومشربًا، فاتباع الكتاب والسنة عندهم ضلال، بل ربما يرمون
صاحبه بالكفر أو الزندقة كما بينا ذلك في غير ما موضع من المنار، وهذا من الخزي
الذي يعد من أغرب جهل البشر، والخذلان الذي يمثل منتهى فساد العقول والفطر،
يتبرأ منه ومن أهله أئمة الأثر والفقه والتصوف والعلماء بدلائل مذاهبهم وطرقهم،
وهو ليس من التقليد الذي أجازه بعض هؤلاء العلماء في شيء، فقد كانوا في خير
القرون لا يعلمون عامة الأمة إلا ما نزله الله تعالى إليها وما بينه به رسولها، ولم يكن
ثم مذاهب تحمل عليها، وإنما كانت مباحث الاجتهاد محصورة في تعليم الخاصة
ومجلس القضاء ونوازل الفتوى في الوقائع، ومن قواعد الأصول عندهم: عدم جواز
الاجتهاد مع وجود نص الكتاب أو السنة في المسألة، وأنه لا حجة في كلام أحد غير
المعصوم، وهم مجمعون على أن الأئمة الأربعة في الفقه وأئمة الصوفية كالجنيد
والشبلي والبسطامي وأمثالهم غير معصومين، وإنما قال بعض الشيعة بعصمة نفر من
أئمة آل البيت.
وجميع هؤلاء العلماء يفضلون سلف الأمة على خلفها في العلم بحقيقة الدين
والعمل به كما تقدم، ويحثون على الاقتداء بهم، ويردون كل ما خالف هديهم
وسيرتهم، ويستدلون به على الابتداع في الدين كما يستدلون بالنصوص، فنحن إذًا
محتاجون في التمييز بين السنة والبدعة إلى معرفة ما كان عليه جمهور السلف
الصالح، ونستمسك به ونرد ما خالفه، ولا سيما ما اتفقوا عليه، وما كان الخلاف فيه
شاذًّا أو ضعيف الرواية أو الدلالة، ولكننا نعذر من أخذ بقول أي عالم من أولئك
الأئمة لاعتقاده صحة دليله، أو أنه هو حكم الله تعالى وإن لم يعرف دليله.
ثبت بالعقل والنقل والاختبار أن العمل بأحكام الدين ومنه القضاء بها والفتوى
في تطبيقها على النوازل الواقعة أقوى بيانًا للمراد بها من القول مهما يكن فصيحًا
جليًّا، فكلام الله أفصح الكلام وأبلغه، ومعنى هذا أنه أعلاه بيانًا وإقناعًا وتأثيرًا، ومع
هذا كان بعض الصحابة يخطئ في فهم بعض أحكامه وفي تطبيقها على العمل كما
أخطأ من تمعك منهم في التراب كما تتمعك الدابة؛ لأنه فهم أن التيمم عن الجنابة
يجب أن يمتاز عن تيمم الحدث، وكما أخطأ من ربط في رحله عقالاً أبيض وعقالاً
أسود ليتبين بالتمييز بينهما طلوع الفجر، ولهذا جعل الله تعالى رسوله - صلى الله
عليه وسلم - مبينًا لكتابه على وصفه إياه بأنه بيان للناس وتبيان لكل شيء ونور
مبين، وتبيين الرسول صلى الله عليه وسلم بأفعاله وأحكامه وفتاويه في
النوازل أقوى وأظهر من تبيينه بأقواله وإن أوتي من النبوة وجوامع الكلم، وصار
أفصح من نطق بالضاد؛ لأن أقواله ذات وجوه تحتمل التأويل كما قال الإمام علي
المرتضى في الكتاب العزيز، بل هي أولى، وتختلف فيها الأفهام كما اختلف
الصحابة رضي الله عنهم في أمره إياهم بأن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة،
ففهم بعضهم أن المراد عدم التأخر عن الوصول إلى بني قريظة في ذلك الوقت
فصلوا في الطريق ولم يتأخروا، وحمل الآخرون الأمر على ظاهره، ولأن العمل
أبعث على القدوة والامتثال، وذلك ثابت بالعقل والتجربة، وأظهر وقائعه في السنة
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتحلل من عمرتهم عقب صلح
الحديبية، كرر الأمر بالقول ثلاثًا ولم يمتثلوا، فاغتم عليه الصلاة والسلام
وكانت زوجه أم سلمة رضي الله عنها معه فذكر لها ذلك مستشيرًا لها فيه،
فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ولا يكلم أحدًا حتى يتحلل من عمرته بنحر هديه
وحلق رأسه ففعل، فاتبعه الناس مسرعين، ولم يقع لهذا نظير منهم.
فعلم من هذا أن أحكام الدين لم تبين تمام التبيين إلا بالسنة العملية، وأن
الصحابة أنفسهم كانوا محتاجين إليها، وكان يختلف اجتهادهم في الأقوال إذا لم تبين
بها، بل كان منهم من تأول النص الصريح في مقام الخصومة انتصارًا لنفسه
ودفاعًا عنها، كما تأول معاوية حديث عمار (تقتله الفئة الباغية)، فقال: إنما قتله
من أخرجه. فرد أمير المؤمنين علي هذا القول حين بلغه بأنه يقتضي أن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل عمه حمزة؛ أي: وجميع من قتل
معه في بدر وأحد وسائر الغزوات، فما تبين من أعمال الدين بالسنن المتبعة فعلاً
وتركًا، فهو الذي لا يسع أحدًا مخالفته، ولا يعذر فيه، وما سواه يعذر فيه الناس
باختلاف الأفهام والتأول مع الاعتقاد وحسن النية.
وقد حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأحداث والوقائع ما لم يكن
في عصره، واختلف الاجتهاد في أحكامها من حيث تحقيق المناط وتنقيح المناط،
أي: من حيث الاستدلال على الحكم ومن حيث تطبيقه على الوقائع بالعمل، والقاعدة
الأصولية في اجتهاد الأفراد من الصحابة وغيرهم أنه ليس حجة في الدين، وإنما
يجب على من اجتهد في مسألة أن يعمل بما ظهر له أنه الحق فيها، والقائلون
بالتقليد يجيزون للعاجز عن الاجتهاد فيما يعرض له مما لا نص فيه أن يأخذ باجتهاد
من يثق به من المجتهدين، وأما إجماع الصحابة فهو حجة عند جميع الأئمة،
والإمام أحمد لا يحتج بإجماع غيرهم، وكان الإمام مالك يحتج بإجماع أهل المدينة
في زمنه؛ أي: زمن التابعين وتابعي التابعين، وإنما يظهر هذا في الشعائر والسنن
العملية المتبعة، لا فيما سبيله الاجتهاد، وجملة القول أن الله تعالى أكمل الدين
بكتابه وبيان رسوله، وكان أهل الصدر الأول من السلف الصالح هم الذين حملوا
إلينا هذا الدين كما سمعوه ووعوه بالقول والعمل، فمعرفته متوقفة على معرفة
روايتهم له وسيرتهم في العمل به.
ولا شك أن العمل بالإسلام عبادة ومعاملة وسياسة وقضاء كان في عهد الخلفاء
الراشدين رضي الله عنهم على أكمل الوجوه، بل قال بعض علماء الأصول:
إن إجماع الخلفاء الأربعة حجة، واحتجوا لذلك بحديث العرباض بن سارية مرفوعًا:
(أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد [1] ، وإنه من يعش منكم
فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) وفي رواية:
(فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن
صحيح. وكذا غيرهما من وجوه وطرق، واختاره النووي في الأربعين، بل ذهب
بعضهم إلى الاحتجاج بسنة الشيخين أبي بكر وعمر، وبعضهم بالاحتجاج بما سنه
عمر؛ أي: سن في خلافته لما ورد في ذلك.
ولبيان وجه هذا مكان آخر يعلم منه أنه ليس على إطلاقه حتى عند القائلين به،
وذكر الحافظ ابن رجب في كتاب (جامع العلوم والحكم)، عن الإمام مالك أنه قال:
قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من
بعده سننًا؛ الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا
تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، فمن اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استبصر بها
فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه
جهنم وساءت مصيرًا. قال: وحكى عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه قال:
أعجبني عزم عمر ذلك. يعني هذا الكلام. وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الكلام
عن مالك، ولم يحكه عن عمر اهـ، ويجمع بين الروايتين بأن مالكًا كان يرويه
تارةً، ويقوله تارةً مقررًا له في نفسه على غير طريق الرواية، فعمل جمهور
الصحابة والتابعين وسياسة الخلفاء الأربعة الراشدين وقضاتهم وإدارتهم لأمور الأمة
في الحرب والسلم، ومعاملة المبتدعة وأرباب الأهواء والثوار الخارجين على أئمة
الحق والعدل، كل ذلك نبراس نهتدي به ونعرف حكم الله تعالى فيه، وحاجتنا إليه في
كل زمان ومكان كحاجة الصحابة - رضوان الله عليهم - في زمن الرسول إلى
مشاهدة أفعاله وسماع أحكامه والوقوف على قضائه وسيرته في الحرب والسلم.
وسنبين - إن شاء الله تعالى - مزية كل خليفة من الأربعة، وحكمة الله تعالى
في ترتيبهم على حسب أعمارهم، وما ترتب على ذلك من المصالح.
***
نتيجة هذه المقدمات
والمقصود من هذه التمهيدات
مكان مسلمي عصرنا من دينهم:
1-
علم مما تقدم أن ما عليه جماهير المسلمين اليوم في أمورهم الدينية
ممزوج بالبدع والضلالات والفسق وترك الفرائض وفشو الفواحش وكثرة الشبهات
إلا في بلاد قليلة، فمعاشرة المسلمين لا يمكن أن يعرف منها حقيقة دينهم في مثل
القطر المصري أو الحجازي، دع ما دونهما في العلم والعراقة في الإسلام، وأن نجوم
هذه البدع بدأ في خلافة عثمان، فما كان عليه المسلمون قبلها فهو الإسلام الخالص،
وما كان في خلافة علي من معاملة الخارجين عن الإسلام باسم الإسلام، والخارجين
من المسلمين على أئمة الحق بالشهوات أو الشبهات، والمبتدعين فيه ما ليس منه
بالتأويلات، فهو الحق الذي يهتدى في أمثال هذه المشكلات، والنور الذي يستضاء به
في دياجير الظلمات، وعليه جرى علماء السلف الصالح من حملة السنة وأئمة العترة
ورواة الآثار، وأهل الاجتهاد الصحيح من علماء الأمصار.
مصادر الإسلام وحملته وكتبه:
2-
إن دين الله الإسلام هو كتابه تعالى وما بينه من سنة رسوله بالقول
والعمل الذي كان عليه جمهور الصحابة والتابعين وأئمة عترة النبي - صلى الله
عليه وسلم - قبل حدوث الفتن وإحداث البدع وفي أثنائها، وحملته إلى الأمة هم
الذين حفظوا الكتاب والسنة، وصنفوا الكتب في الأخبار والآثار وسيرة أهل الصدر
الأول، وميزوا صادقها من كاذبها وصحيحها من سقيمها، وأئمة الأمصار في القرون
الثلاثة الذين بينوا للناس طرق فهم النصوص والاستنباط منها، فما أجمعوا عليه من
أمر الدين فهو الذي لا يسع مسلمًا تركه، وما اختلفوا فيه يرد إلى الكتاب والسنة كما
أمر الله تعالى بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي: مآلاً
وعاقبة، والرد في الأمور العامة منوط بأولي الأمر، وفي الوقائع الخاصة
بعمل كل فرد بما ظهر له الدليل على صحته، فإن لم يكن من أهل الدليل عمل بما
يفتيه به من يثق بعلمه بالكتاب والسنة ودينه في الاهتداء بهما.
عمل جمهور السلف حجة وهدى:
3-
عمل جمهور السلف الصالح حجة فيما يختلف أهل النظر والاستدلال فيه
باجتهادهم، أو اختلاف أفهامهم وتأويلهم للنصوص، ولكننا نعذر المخالف لجمهور
السلف بالاجتهاد والتأول إذا علمنا من حاله أنه مؤمن بأن كل ما جاء به الرسول من
أمر الدين حق، ومسلم مذعن لذلك على الوجه المبين في المقدمات، وحينئذ نعامله
معاملة المسلمين في الصلاة معه، وفي أحكام النكاح والإرث وغير ذلك مع الرد
عليه ومجادلته بالتي هي أحسن، والتحذير من بدعته إذا كانت مخالفته ابتداعًا، أو
فسقه إذا كانت فسقًا، مهتدين في ذلك بما كان أهل الصدر الأول يعاملون به
المنافقين والمؤلفة قلوبهم من ضعفاء المسلمين الذين قبلوا أحكام الإسلام، والخوارج،
والمبتدعة المتأولين، مثال ذلك أننا لا نعتد بإسلام أحد يكذب القرآن، أو يستحل
مخالفته، وإنما نعذر من يفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا لفهم السلف مع التسليم
والإذعان النفسي لكل ما فيه ولو بحسب فهمه، ولا نعتد بإسلام من يكذب الرسول
أو يستحل مخالفته فيما يعتقد هو أنه جاء به من دين الله، ولكننا نعذر من لم يصدق
رواية بعض الأحاديث لشبهة عنده في المتن أو السند، فكذب مضمونها أو خالفه
لذلك، وإن صح عندنا، ونرد عليه بالتي هي أحسن، فقد أمرنا بدرء الحدود
بالشبهات، وأولى الحدود أن يدرأ حد الردة والخروج من الملة.
بم يكون الارتداد عن الإسلام:
4-
إنما جعل العلماء المتقدمون مدار الارتداد عن الإسلام على جحد المجتمع
عليه المعلوم بالضرورة من أمر الدين؛ لأن الجهل عذر عندهم والمدار في صحة
الإسلام الإذعان النفسي والعملي لأحكامه، وهو فرع العلم بها، ولذلك صرحوا بأن
من نشأ في شاهق جبل أو كان حديث عهد بالإسلام يعذر حتى بجحده المعلوم من
الدين بالضرورة عند جمهور المسلمين؛ لأنه ليس معلومًا عنده ولم يصدقوا الناشئ
بين المسلمين، أو من طال عهد اختلاطه بهم بعد الإسلام إذا جحد شيئًا وادعى
الجهل ليتنصل من الحد مثلاً ، وقد بينا في المقدمات أن معاشرة المسلمين في أكثر
البلاد الإسلامية في هذه الأزمنة لا تقتضي معرفة حقيقة الإسلام في عقائده وعباداته
الخالية من البدع وسائر أحكام الحلال والحرام، وإنما يعلم إسلام المرء بإذعانه
وخضوعه لما علم أنه من الإسلام، ومن كان هكذا فعلاج ما يجهله تعليمه وإقامة
الحجة عليه، وقد جربنا هذا العلاج فشفي به كثيرون من أدواء الشرك والابتداع
والشكوك والأوهام، فالسليم الفطرة ذو الجهل البسيط يشفى بسرعة عجيبة، وإنما
يعسر شفاء أصحاب الجهل المركب الذين أخذوا شيئًا من قشور الكلام والفقه
وتأويلات أدعياء الفقه والتصوف، فهم يردون بها الآيات الصريحة والأحاديث
الصحيحة وسيرة السلف الصالح (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ، وهذا
هو البلاء المبين الذي أضاع الإسلام، ولا علاج له إلا بناء التعليم الإسلامي في
مدارسه وغيرها على التفسير والحديث وسيرة السلف الصالح وتلقين كل مسلم ما
تقدم تقريره في ذلك.
معاملة المبتدعة والمنافقين والفاسقين:
5-
إننا على كوننا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة فيما يأتيه جاهلاً أو متأولاً
نحتاط لديننا، فيمن نعلم بالاختبار الشخصي أنهم على شيء من الشرك الجلي أو
النفاق من غير أن نفرق الجماعة، أو نحدث الفتن بين المسلمين، فقد كان النبي -
صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة كحذيفة بن اليمان يعرفون بعض المنافقين
بأعيانهم، ولا يجابهونهم بذلك، ولا يخبرون الناس به رجاء أن يصلحوا ويوقنوا
بطول معاشرة المسلمين، وكان علماء الصحابة والتابعين يصلون مقتدين بأئمة
الجور من بني أمية وعمالهم، والأسوة الكبرى في هذا الباب سيرة علي - كرم الله
وجهه في الخوارج ومعاوية وأنصاره، وإنني على هذا لا أصلي مقتديًا بمن أعلم
باختباري الشخصي أنه مشرك أو كافر بغير الشرك، وإن كان يظهر الإسلام ولا
أعطيه شيئًا من الزكاة الواجبة إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم، فهذا ما عندي من
الجواب عن سؤال الموحدين في دمياط كثرهم الله تعالى وبارك فيهم.
وإنني أتبع هذا ببيان سيرة السلف الصالح فيما ذكر من أمر الابتداع
والاختلاف في الدين وأهله من أصحاب الأهواء وغيرهم، ثم أقفي عليها بما
أراه نافعًا في الاقتداء بهم، عسى أن يهتدي به الغلاة في الدين والمفرطون فيه،
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
_________
(1)
وفي رواية: (ولو عبدًا حبشيًّا) وهذا في الأمراء والحكام الذين يوليهم الإمام الأعظم، فلا ينافي أحاديث حصر الأئمة في قريش كما نقله الحافظ ابن رجب وغيره في شرح الحديث، وأيدوه بحديث علي عند الحاكم والدارقطني مرفوعًا وموقوفًا:(وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيًّا فاسمعوا له وأطيعوا) وذهب بعض العلماء أنه إنما ذكر العبد الحبشي على طريق ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه كما قال في حديث الترغيب في بناء المساجد: (من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة) رواه أحمد عن ابن عباس بسند صحيح، ويستحيل أن يكون المسجد كمفحص القطاة وهو المكان الذي تفحص برجلها وتبيض فيه، والأمة مُجمعة على أن العبد؛ أي: المملوك - كما هو المتبادر هنا - لا يجوز أن يكون الإمام الأعظم صاحب الولاية العامة على المسلمين، وأن يلي ما دون ذلك من ولاية الأمر، وقال بعضهم: إن في هذا الحديث وما معناه إشارة إلى ما كان في الأمة بعده من ولاية العبيد والمماليك.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شرح قاعدة
لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب
وبيان عدم كفر المبتدع في الدين جاهلاً أو متأولاً
(1)
هذه القاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة الذين يصدق عليهم هذا القول، لا
من يسمون أنفسهم بهذا الاسم ليتميزوا من المعروفين بأسماء أخرى، وهي تذكر في
بعض العقائد، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيقًا نفيسًا مطولاً فيها ذكره في
سياق تخطئة الرافضة في سب الصحابة رضي الله عنهم، وبيان أن الرد
عليهم وعلى كل مخطئ في الدين يجب أن يقصد به بيان الحق وهداية الخلق دون
التشفي والانتقام، وذكر أن الكلام في هذا مبني على مسألتين وبين ذلك بما نصه:
إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقول الخوارج، بل ولا تخليده
في النار، ومنع الشفاعة فيه كما تقوله المعتزلة.
الثانية: أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول لا يكفر ولا يفسق إذا اجتهد
فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من
الناس كفروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين
لهم بإحسان ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال
أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها؛ كالخوارج والمعتزلة
والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي
وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقًا، ثم
يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج
والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة
الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم
تناقض ذلك.
ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن
هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل
والتأويل [1] ، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في
حقه، وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه، وإذا لم يكونوا في نفس
الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيستغفر لهم ويترحم عليهم،
وإذا قال المسلم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ،
يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله،
فخالف السنة أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم،
وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا
كفارًا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة
المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من
أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار.
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السنة فيهم
بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - علي بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما
خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة، قال لهم علي بن
أبي طالب رضي الله عنه: إن لكم علينا أن لا نمنعكم من مساجدنا ولا حقكم
من الفيء. ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، فرجع نحو نصفهم، ثم قاتل الباقي
وغلبهم، ومع هذا لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالاً، ولا سار فيهم سيرة
الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي والصحابة في
الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على علي ذلك، فعلم
اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام.
قال الإمام محمد بن نصر المروزي: وقد ولي علي رضي الله عنه قتال
أهل البغي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى، وسماهم مؤمنين،
وحكم فيهم بأحكام المؤمنين، وكذلك عمار بن ياسر. وقال محمد بن نصر أيضًا:
حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا يحيى بن آدم، عن مفضل بن مهلهل، عن الشيباني
عن، قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي حين فرغ من قتال
أهل النهروان فقيل له: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. فقيل: فمنافقون؟
قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا
فقاتلناهم. وقال محمد بن نصير أيضًا: حدثنا إسحاق، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن
عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: قال رجل: من دعي إلي البغلة الشهباء يوم قتل
المشركون؟ فقال علي: من الشرك فروا. قال: المنافقون؟ قال: إن المنافقين لا
يذكرون الله إلا قليلاً، قال: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم.
قال إسحاق: حدثنا وكيع، عن أبي خالد، عن حكيم بن جابر قال: قالوا لعلي حين
قتل أهل النهروان: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قيل: فمنافقون؟ قال:
المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم حاربونا فحاربناهم
وقاتلونا فقاتلناهم.
قلت: الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليًّا قال هذا القول في
الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي -
صلى الله عليه وسلم في ذمهم والأمر بقتالهم، وهم يكفرون عثمان وعليًّا ومن
تولاهما، فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرًا ودارهم دار كفر، فإنما دار الإسلام
عندهم هي دارهم. قال الأشعري وغيره: أجمعت الخوارج على تكفير علي بن
أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا قاتلهم علي لمَّا بدأوه بالقتال فقتلوا عبد الله
بن خباب، وطلب علي منهم قاتله، فقالوا: كلنا قتله، وأغاروا على ماشية فقتلوا
الناس، ولهذا قال فيهم: قوم قاتلونا فقاتلناهم، وحاربونا فحاربناهم. وقال: قوم
بغوا علينا فقاتلناهم.
وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء، فإنهم بغاة على جميع
المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع
شرهم إلا بالقتال، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق، فإن أولئك إنما
مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء
يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة
إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن، ومع هذا فقد صرح
علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارًا، ولا منافقين، وهذا بخلاف ما
كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفرائيني ومن تبعه يقولون: لا نكفر من
يكفرنا، فإن الكفر ليس حقًّا لهم، بل هو حق لله، وليس للإنسان أن يكذب على من
يكذب عليه، ولا أن يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل ولو استكرهه
رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو
تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى
نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن
نكفر عليًّا، وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين، فالظاهر أنه كان يوم النهروان
أيضًا.
وقد روي عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا، قال إسحاق بن
راهويه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سمع
علي يوم الجمل ويوم صفين رجلاً يغلو في القول، فقال: لا تقولوا إلا خيرًا إنما هم
قوم زعموا أنَّا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم. فذكر لأبي جعفر أنه
أخذ منهم السلاح فقال: ما كان أغناه عن ذلك. وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن
يحيى، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن راشد، عن مكحول: أن أصحاب علي
سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية: ما هم؟ قال: هم المؤمنون. وبه قال أحمد بن
خالد، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الواحد بن أبي عون، قال: مر علي
- وهو متكئ على الأشتر - على قتلى صفين، فإذا حابس اليماني مقتول فقال
الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه
علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمنًا. قال علي: والآن هو مؤمن. قال: وكان
حابس رجلاً من أهل اليمن من أهل العبادة والاجتهاد. قال محمد بن يحيى: حدثنا
محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع، عن أبي مطر قال: قال علي: متى ينبعث
أشقاها؟ قيل: من أشقاها؟ قال: الذي يقتلني. فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس
علي رضي الله عنه وهَمَّ المسلمون بقتله، فقال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئت
فالجروح قصاص، وإن مت فاقتلوه. فقال: إنك ميت. قال: وما يدريك؟ قال:
كان سيفي مسمومًا. وبه قال محمد بن عبيد، حدثنا الحسن - وهو ابن الحكم النخعي
- عن رياح بن الحارث قال: إنا لبوادٍ، وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن
ياسر، إذ أقبل رجل فقال: كفر والله أهل الشام. فقال عمار: لا تقل ذلك فقبلتنا
واحدة ونبينا واحد، ولكنهم قوم مفتونون، فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق.
وبه قال ابن يحيى. حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الحسن بن الحكم، عن رياح
بن الحارث، عن عمار بن ياسر قال: ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة،
ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم. قال ابن يحيى: حدثنا يعلى، حدثنا مسعر، عن عبد
الله بن رياح بن الحارث قال: قال عمار بن ياسر: لا تقولوا: كفر أهل الشام،
قولوا: فسقوا، قولوا: ظلموا. قال محمد بن نصر: وهذا يدل على أن الخبر الذي
روي عن عمار بن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان: هو كافر. خبر باطل لا يصح؛
لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دم عثمان،
فهو لتكفير عثمان أشد إنكارًا، (قلت) : والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك
أنكر عليه علي رضي الله عنه وقال: أتكفر برب آمن به عثمان؟ وحدثه بما
يبين بطلان ذلك القول، فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولاً قد رجع عنه حين تبين
له أنه قول باطل.
ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم،
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة كانوا يصلون خلف
نجدة الحروري، وكانوا أيضًا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلمُ
المسلمَ، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن
مسائل، وحديثه في البخاري، وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة،
وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان، وما زالت سيرة
المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين، كالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه
هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة،
وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه؛ في الحديث الذي
رواه أبو أمامة. رواه الترمذي وغيره؛ أي: أنهم شر على المسلمين من
غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرًّا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم
كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل
أولادهم مكفرين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة، ومع
هذا فالصحابة والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين، ولا اعتدوا
عليهم بقول ولا فعل، بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة ، وهكذا سائر فرق
أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم، فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة
كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، مع أن حديث
الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه
غيره أو صححه، كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن، وروي من
طرق، وليس قوله:(ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة) أعظم من قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً} (النساء: 10)، وقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ
نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّّهِ يَسِيراً} (النساء: 30) ، وأمثال ذلك من النصوص
الصريحة بدخول من فعل ذلك النار، ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب،
أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم،
بل المؤمن بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا
أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب،
فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب، وأما ذلك فليس متعمدًا للذنب، بل هو
مخطئ، والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، والعقوبة في الدنيا تكون لدفع
ضرره عن المسلمين، وإن كان في الآخرة خيرًا ممن لم يعاقب، كما يعاقب المسلم
المتعدي للحدود، ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى، والمسلم في الآخرة
خير منهم.
وأيضًا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة، ويصد عن
الحق الذي يخالف هواه، فهذا يعاقبه الله على هواه، ومثل هذا يستحق العقوبة في
الدنيا والآخرة، ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي
وقاص أنه قال: نزل فيهم قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الفَاسِقِينَ * الَّذِينَ
يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (البقرة: 26-27) ، فقد يكون هذا قصده، لا
سيما إذا تفرق الناس، فكان منهم من يطلب الرياسة له ولأصحابه، وإذا كان المسلم
الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياءً، وذلك ليس في سبيل الله، فكيف
بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها، فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية،
وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله، لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا
فيه، ولهذا قال الشافعي: لأن أتكلم في علم يقال لي فيه: أخطأت، أحب لي من أن
أتكلم في علم يقال لي فيه: كفرت.
فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهم
يخطئون ولا يكفرون، وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرًا، وقد يكون
كفرًا؛ لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق، والآخر لم يتبين له ذلك، فلا
يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر [2] إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله.
والناس لهم فيما يجعلونه كفرًا طرق متعددة، فمنهم من يقول: الكفر تكذيب
ما علم بالاضطرار من دين الرسول. ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك،
ومنهم من يقول: الكفر هو الجهل بالله. ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل
بالموصوف، وقد لا يجعله، وهم مختلفون في الصفات نفيًا وإثباتًا، ومنهم من لا
يحده بحد، بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله
واليوم الآخر جعله كفرًا، إلى طرق أخر. ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة،
فتكذيب الرسول كفر وبغضه وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند
الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف، إلا الجهم ومن وافقه
كالصالحي والأشعري وغيرهم، فإنهم قالوا: هذا كفر في الظاهر، وأما في الباطن
فلا يكون كفرًا إلا إذا استلزم الجهل بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق
بالرب، وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل، ولا يكون في القلب
بعض الإيمان، وهو خلاف النصوص الصريحة وخلاف الواقع، ولبسط هذا
موضع آخر.
والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه، وإذا كان الذنب
متعلقًا بالله ورسوله، فهو حق محض لله، فيجب على الإنسان أن يكون في هذا
قاصدًا لوجه الله، متبعًا لرسوله؛ ليكون عمله خالصًا صوابًا، قال تعالى: {وَقَالُوا
لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 111-112)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125)، قال المفسرون وأهل اللغة: معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله،
وهو محسن في عمله. وقال الفرّاء في قوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} (آل
عمران: 20) أخلصت عملي. وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله، وهو كما
قالوا: كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر، وهذا المعنى يدور عليه القرآن، فإن الله
تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر، والأول هو
إخلاص الدين والعمل لله، والثاني هو الإحسان والعمل الصالح، ولهذا كان عمر
يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل
لأحد فيه شيئًا. وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود: 7) قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا
أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم
يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا،
والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هما أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من
أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغى به وجه الله، وأن يكون مطابقًا للأمر،
وفي الحديث: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فينبغي أن يكون عالمًا بما
يأمر به، عالمًا بما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا
فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه) [3] ، فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر،
والحلم مع الأمر، فإن لم يكن عالمًا لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان
عالمًا ولم يكن رفيقًا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا
يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى لموسى
وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) ، ثم إذا أمر أو
نهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17) ، وقد أمر الله نبيه بالصبرعلى أذى المشركين في غير موضع،
وهو إمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولاً أن
يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور وإقامة
الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك
خطيئة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم
إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار
لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر
على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات
المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار
لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم ورياستهم، وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون
كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان
مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً
سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله
ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء
أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم،
ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا. وبلغة المغل: هذا (بال) هذا (باغي) لا
ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله.
ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) ، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة،
وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة لله والمعاداة لله، والعبادة
لله والاستعانة بالله، والخوف من الله والرجاء لله، والمنع لله والإعطاء لله، وهذا
إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمرُه أمرُ الله، ونهيهُ نهيُ الله، ومعاداته معاداة الله،
وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه،
فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله،
ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب
إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له
ويغضب له هو السنة، وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق
المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله
هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو
فعل ذلك شجاعة أو طبعًا، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله، ولم يكن مما هو في سبيل
الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق أو السنة هو كنظيره، معه حق وباطل وسنة
وبدعة؟ وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وكفر بعضهم بعضًا،
وفسق بعضهم بعضًا، ولهذا قال تعالى فيهم: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 4-5)، وقال تعالى:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) ، فاختلفوا [4] كما في سورة يونس [5]
وكذلك في قراءة بعض الصحابة، وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين
أنهم كانوا على دين الإسلام، وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على
الكفر، وهذا ليس بشيء، وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن
عباس، بل قد ثبت عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على
الإسلام، وقد قال في سورة يونس:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (يونس: 19) ، فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد، فعلم أنه
كان حقًّا.
والاختلاف في كتاب الله على وجهين، أحدهما أن يكون كله مذمومًا كقوله:
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة: 176) ، والثاني أن
يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (البقرة: 253) ، لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع
مذموم كقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:
118-
119) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هلك من كان قبلكم
بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) ، ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع
بأنه كله مذموم، قال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما كفر بعضهم بكتاب
بعض، والثاني تبديل ما بدلوا، وهو كما قال، فإن المختلفين كل منهم يكون معه
حق وباطل، فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل
ما بدل، فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين، ولهذا ذكر كل من السلف أنواعًا من
هذا) ثم قال المؤلف بعد ذكر ستة أنواع من اختلاف أهل الكتاب حذفناها للاختصار
ما نصه:
واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط [6] فالخارجي يقول: ليس الشيعي على
شيء. والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء. والقدري النافي يقول: ليس
المثبت على شيء. والقدري الجبري المثبت يقول: ليس القدري النافي على شيء.
والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء. والمرجئة تقول: ليست الوعيدية
على شيء. بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية
المنتسبين إلى السنة، فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء. والكرامي يقول:
ليس الكلابي على شيء. والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء. والسالمي
يقول: ليس الأشعري على شيء. وصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتابًا في
مثالب الأشعري، وصنف الأشعري كابن عساكر كتابًا يناقض ذلك من كل وجه،
وذكر فيه مثالب السالمية، وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لا سيما وكثير
منهم تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي
يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئًا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك،
ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي
حنيفة شيئًا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة،
وهذا من جنس الرفض والتشيع، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء،
لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة.
والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن يكون
أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، يدور على ذلك
ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر
لشخص انتصارًا مطلقًا عامًّا إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الطائفة
انتصارًا مطلقًا عامًّا، إلا للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الهدى يدور مع
الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا اجتمعوا
لم يجتمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجتمعون على
خطأ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأئمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين
الذي بعث الله به رسوله ليس مسلمًا إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان
ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة
في الإمام المعصوم، ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي
بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول
والفروع، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة
والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلا بد أن يكون قوله إن
كان حقًّا مأخوذًا عما جاء به الرسول، موجودًا فيما قبله، وكل قول قيل في دين
الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم، بل قالوا
خلافه، فإنه قول باطل.
والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم،
وإنما اختلفوا بغيًا، ولهذا ذمهم الله وعاقبهم، فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين، بل
كانوا قاصدين البغي، عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به، ونظير
هذا قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19)، قال الزجاج: اختلفوا للبغي لا
لقصد البرهان. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ العِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ} (يونس: 93)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ
الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} (الجاثية:
16-
20) ، فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم
العلم والبينات، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم، وهذه
حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر
لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لعل الأصل: ولو مع الجهل والتأويل.
(2)
لعل الأصل: يكفره.
(3)
المنار: قوله: وفي الحديث إلخ، لم أر الحديث بهذا اللفظ في شيء في دواوين السنة ولا
فيما جمع منها ككنز العمال والمصنف بحر واسع، وفي معناه حديث:(من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف) رواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية عمرو بن شعب عن أبيه عن جده، وفي سنده
سالم بن ميمون الخواص ضعيف لا يحتج به ولا يكتب حديثه، روى عن المثنى بن الصباح الفارسي وهو ضعيف مختلف فيه، قال الإمام أحمد: لا يسوى حديثه شيئًا وقال ابن معين: رجل صالح يكتب حديثه ولا يترك، لكن رواه الديلمي من حديث أبان عن أنس مرفوعًا بلفظ:(لا ينبغي للرجل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى تكون فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عالم فيما يأمر، عالم بما ينهى، عدل فيما يأمر، عدل فيما ينهى)، وذكر في الإحياء للغزالي:(لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه)، قال الحافظ العراقي: لم أجده هكذا، وذكر حديث البيهقي.
(4)
يوشك أن يكون قد سقط من هنا شيء ولو بعض آية البقرة التي أورد جملة منها وهي: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً](البقرة: 213) وبعده: [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ](البقرة: 213)، أي: كان بعثهم بعد الاختلاف الذي صرَّح به آية يونس وسيذكرها، وفي قراءة أبي بن كعب الذي أشار إليه المصنف بقوله: بعض الصحابة، ولعله قصد بها التفسير.
(5)
لعل أصله: تفسير الجمهور، أي: للأمة الواحدة.
(6)
يريد النمط الأخير الذي حكاه الله تعالى في قوله عنهم: [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ](البقرة: 113) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوة عرب الجزيرة العربية
إلى الوحدة والاتفاق
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:
103-
105) .
ثبت في القرآن المجيد في التواريخ التي دوّنها علماء العرب وغيرهم من
الأمم قديمًا وحديثًا، ومن العاديات (الآثار القديمة) التي اكتشفت في أقطار مختلفة
أن العرب من أقدم أمم الأرض حضارة وعمرانًا ورسلاً وشرائع، حتى إنهم
استعمروا أقدم البلاد مدنية كمصر وسورية والعراق، فلهم في حضارة الفراعنة
والفينيقيين والكلدانيين العرق الراسخ، والمجد الشامخ، فإن لم تكن تلك الأمم فروعًا
مهم، فلها وشائج أرحام مشتبكة بهم، من قبل أن مزجها الإسلام بهم في الدين واللغة
والنسب بألوف السنين.
فمن ذلك ما حكاه في القرآن المجيد عن قوم عاد: {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ} (الفجر: 7-8)، كقول نبيهم هود في مبانيهم وقوتهم:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 128-130)، وقوله في نسلهم وزرعهم وضرعهم:
{أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 133-134) ، وبيانه لهم
أن هذه النعمة يزيدها الرجوع إلى الله بالإيمان وترك المعاصي نماء وقوة {وَيَا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: 52) ، وما حكاه عن ثمود وقول رسولهم صالح لهم في تذكيره بنعم
الله عليهم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 61)، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء:
146-
149) ، وما قصه لنا عن سبأ في سورتها كجناتهم عن اليمين والشمال،
واتصالها بالقرى المباركة في أرض الشام، ونظام السير المقدر بالأوقات، وحفظ
الأمن فيها بالعدل والنظام، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: 18) ، وناهيكم بقصة ملكتهم مع نبي الله سليمان، وكونها أوتيت من كل
شيء يؤتاه الملوك في ذلك الزمان، مع القوة والحكم بالشورى دون الاستبداد.
ومن ذلك ما أثبته الذين اكتشفوا آثار الكلدانيين في العراق وشريعة مَلكهم
حمورابي من كون شريعتهم عربية ودولتهم عربية، وهذا الملك كان يسمى ملك البر
والسلام، وفي سفر التكوين من أسفار التوراة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام
أعطاه العشور؛ إذ كان من رعيته وأنه بارك إبراهيم، فدل هذا على أن إبراهيم -
صلى الله عليه وعلى آله - كان عربيًّا أيضًا.
ومن ذلك ما اكتشفه أحمد بك كمال العالم الأثري المصري من امتزاج اللغة
المصرية القديمة (الهيروغليفية) باللغة العربية الدال على أحد أمرين، إما أن
العرب وقدماء المصريين من عرق واحد، وإما أن العرب قد استعمروا مصر
وحكموا فيها قبل دولة الرعاة العربية المعروف خبرها في تاريخ مصر، فكان
للغتهم الأثر الخالد في لغتها.
هذا إلماع تاريخي وجيز لمدنية العرب وقوتهم وعمرانهم في التاريخ القديم منذ
ألوف السنين، وإن في لغتهم الغنية الراقية الواسعة دلائل أخرى على ذلك متعددة
المناهج واضحة المسالك.
قد ضعفت الأمة العربية بعد تلك القوة، وبدت بعد تلك الحضارة، وخرب
معظم بلادها بعد ذلك العمران، وغلبت عليها الأمية، وكادت تعمها الجاهلية الوثنية
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ
مَّشِيدٍ} (الحج: 45)، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ، ومر على هذا الضعف قرون وتعاقبت عليه أجيال، حتى ظن
الظانون أن هذه الأمة هرمت وقاربت الزوال، فلا تقوم لها قائمة ولا يتجدد لها
شباب.
ثم جاء الإسلام فجمع شملها بعد فرقة وشتات، وألف بين قلوب قبائلها
وأفرادها بعد عداوة تأرثت بها الأضغان وتحكمت فيها الثارات، وأخرجها من
ظلمات الجاهلية والأمية، إلى نور العلم والحكمة والنظام والمدنية، وجعل لها
المكانة الأولى بين أمم الأرض في السيادة والرياسة، والكلم العليا في الحكم
والسياسة، فورثت ملك القياصرة والأكاسرة في الشرق، وامتد سلطانها في القرن
الأول من حدود الهند إلى المحيط الغربي وهو آخر ما كان يعرف من اليابسة في
الغرب، وأحيت في هذه الممالك الواسعة العلوم والفنون، ورقت الصناعة والزراعة،
وسلكت السبل الجديدة للتجارة، فسادت شريعتها جميع الشرائع، وعلت لغتها
جميع اللغات، وفاقت آدابها جميع الآداب.
ولكن حظ جزيرتها من هذا العمران كان قليلاً، ثم دب إليها الخراب، وعاد
أكثر أهلها إلى البداوة والأمية والجاهلية، أو ما يقترب منها، بل صاروا دون
الجاهلية في بعض الصفات والمزايا حتى اللغة، فأنى لبدو الجزيرة وحضرها في
هذا العصر بما يقرب من تلك الملكة العليا في الفصاحة والبلاغة التي جعلت لكتاب
الله المعجز تلك المكانة في عقولهم وقلوبهم؟ حتى إن كان أحدهم ليسمع السورة أو
الآية منه فيخر ساجدًا، وتتحول عقائده وأخلاقه وعاداته بهدايته إلى ضدها.
عاد أهل الجزيرة إلى جاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض بعد ألف الإسلام
بينهم، فكانوا بنعمة الله إخوانًا، ويرتزق قويهم بسلب ضعيفهم بعد أن كانوا يؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفرقوا دينهم فصاروا شيعًا تكفر كل شيعة
منهم الأخرى أو تفسقها بعد تلك الوحدة العظيمة، جاهلين أو غافلين عن قول ربهم
لرسولهم صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ
فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، وما في معناه من الآيات والأحاديث.
إن هداية القرآن هي التي جمعت كلمة العرب على ما كان من تفرقهم وتعاديهم
في الجاهلية، وهي التي جعلتهم أئمة الأمم في العلم والحكم والآداب والعدل في إثر
إخراجهم من تلك الأمية، وما أصابهم ما أصابهم بعد ذلك من التفرق والتعادي
والجهل والفقر إلا بتركها، ولن تعود إليهم تلك النعم إلا بعودهم إليها {إِنَّ اللَّهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . ولكن وحي شياطين
التفريق، قد زين بزخرف القول لكل فريق، أن كل شيعة تجمعها راية مذهب،
فإنما الواجب عليها أن تعمل بقول علمائه وحكامه، ولا يجوز لها أن تهتدي بكتاب
الله وسنة رسوله، وإن اختلفوا في الرأي، وتنازعوا في الأمر، خلافًا لقوله عز
وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ،
وشبهتها على هذه المخالفة أن الاهتداء بكتاب الله المنزل، فتح لباب الاجتهاد المقفل،
فاختلفوا في أصل الاهتداء بالكتاب، الذي أنزله الله تعالى لإزالة الاختلاف:
من غص داوى بشرب الماء غصته
…
فكيف يفعل من قد غص بالماء
إن الله تعالى أرسل رسله لهداية خلقه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) ، فكيف يؤخذ بقول العلماء أو الأمراء الذين يبغي بعضهم
على بعض، فيما تنازعوا واختلفوا فيه من الأمر، إذا لم يرجعوا إلى الأصل
الجامع، ويحكموه في الخلاف الواقع، وهو يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ، ثم يعلل
ذلك تعليلاً بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ؛ أي: أحسن عاقبة
ومآلاً من كل ما عداه، فكيف لا يكون خيرًا من اتباع أهوائهم، في تحكيم آرائهم،
والرد إلى أقوال زعمائهم وعلمائهم، على أن هذا الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله،
وذلك الاهتداء بهما، لا يستلزمان الاجتهاد الأصولي المطلق الذي أقفلوا بابه، فقد
كان عوام السلف الصالح مهتدين بهما، ولم يكن كل واحد منهم إمامًا مجتهدًا في
استنباط جميع الأحكام، كأئمتهم المشهورين وعلمائه الأعلام.
نعم إن الشيخ محمد عبد الوهاب قد جدد دعوة الدين في بقاع نجد، فرجع
الألوف بها عما كانوا عليه من الجاهلية والشرك، وعادت تنتشر دعوته في جميع
جزيرة العرب التي يتعذر إصلاحها وجمع كلمتها بغير الدين، ولو تم ذلك لتجدد أمر
الإسلام في جميع أقطار المسلمين، ولكن حال دون ذلك فتنتان:(أولاهما) مقاومة
السياسة لها، و (الأخرى) غلو الكثير من القائمين بها، فالأولى إذاعة الساسة في
العالم كله أن هذه دعوة ابتداع في الدين، والغلاة أيدوا هذه الإذاعة بما اشتهر عنهم
من الغلو، ولا سيما تكفير من عداهم من المسلمين، ولهذه التهمة أصل، وقد بينا
الحقيقة في هذه المسألة من قبل، وغرضنا من الإلمام بذكرها الآن، بيان استعداد
العرب للصلاح والإصلاح بدعوة الإيمان، إذا قام بها من يدعو بها بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن، وتذكير الغلاة من
المتدينة بأن لا يغلو في دينهم ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يحرموا ما لم يحرم
الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص، وأن يعذروا كل مخالف لهداية الدين بالتأول
أو الجهل، ويعتمدوا في بث الدعوة على نشر العلم والعمل به على قاعدة {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) ، وأن لا يكفروا أحدًا من
أهل القبلة بذنب، وأن يفرقوا بين الجهل بشيء مما يجب الإيمان به عن جهل،
وإن عد بعضه الفقهاء كفرًا ردة، وكفر العناد وتكذيب الرسول الذي كان عليه
مشركو الجاهلية في زمن البعثة، فإذا علموا هذا وعملوا به لا تلبث الدعوة أن تعم
الجزيرة وغيرها، ويسقط كل من يعارضها حرصًا على الزعامة وحب الرياسة.
هذا وإن لما أصاب الجزيرة من الشقاق والشقاء سببًا أصيلاً وراء الخلاف
الديني للبغي، وهو حب الرياسة وعلو بعض الزعماء على بعض، وسببين
عارضين وهما الجهل والفقر، وإزالة السببين العارضين من الأمور الكسبية القريبة
المنال، وإنما الشقاء كل الشقاء في الشقاق الناشئ عن حب الرياسة والعلو وخطره
المنذر بالهلاك والزوال.
إن في بلاد العرب من ينابيع الثروة ما يكفي لجعل أهلها من أغنى شعوب
الأرض كمعادن الذهب والحديد والحجارة الكريمة والأملاح والزيوت المعدنية وغير
ذلك، وفي كثير من أرضها قابلية لخصب الزراعة يعز نظيره في غيرها، وناهيك
بقهوة اليمن ونخيل المدينة وفاكهة الطائف، وأهلها أزكى الشعوب وأقواها استعدادًا
للتجارة، حتى إن عوام الحضارمة قد زاحموا بها أرقى شعوب هذا العصر علمًا
وتجربة في بلاد الهند وجاوة ومصر، فبقليل من العلم والنظام تدخل جزيرة
العرب في حياة جديدة من الثروة والعمران، وتحفظ نفسها من الخطر المحدق بها
الآن، ولكن ذلك يتوقف على إزالة العداء الذي طرأ على أئمتها في هذا الزمان.
إذا زال الشقاق وأديل منه الاتفاق بين أئمة اليمن والحجاز ونجد، زال في
أثره ما منيت به البلاد من الجهل والفقر، وما يتهددها من فقد الاستقلال والذل،
وإذا حل بالجزيرة ما جعله الله تعالى بسنته في البشر، عقابًا لازمًا لأهل التنازع
والفشل، يذل الإسلام ويزول سلطانه عن رؤوس سائر الأمم، وتكون تبعة ذلك
على أمراء الجزيرة وأئمتها، وما يظن بأحد منهم أنه يحسب أن بلاده بمأمن من
سيطرة الأجانب بقوتها، أو بحرِّها ووعورتها؛ إذ لم يبق (فيما أظن) منهم من
يجهل أن الأجانب قد استولوا على ما هو مثلها أو أشد منها قوة، وألذع حرًّا
وأصعب وعورة، على أنه ليس مثلها في كونه جزيرة أو شبه جزيرة، فهذه البلاد
يمكن للدول البحرية حصرها من البحر، ومنع السلاح عنه وقطع موارد الرزق،
ولا سيما إذا ثبتت سيطرتها على بلاد سورية والعراق التي يسهل حصرها أيضًا إذا
هي نجت من تلك السيطرة وليتذكروا جميعًا ما أوصى به النبي - صلى الله عليه
وسلم - في مرض موته بشأن جزيرتهم، وحكمة ما أشار إليه من أن الإسلام سيأرز
إليها كما تأرز الحية إلى جحرها وتطبيق ذلك على ما صار إليه أمر المسلمين الآن.
إن بقاء عز الإسلام يتوقف على استقلال العرب وإصلاح شؤونهم كما ثبت
عندنا بالنظر الصحيح، المؤيد لحديث جابر عند أبي يعلى بسند صحيح، وهو قوله
عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) ، ولا عز بغير استقلال،
ولا استقلال إلا بالقوة والمال، ولا قوة ولا ثروة مع الشقاق والفرقة، وإنما القوة
كل القوة بالاعتصام والوحدة، فإذا اتحد أمراء الجزيرة وأئمتها حفظوا استقلالهم،
وأمكنهم نشر العلم وتفجير ينابيع الثروة في بلادهم بمساعدة أهل البصيرة والقادرين
على تنظيم الإدارة والقوة وتدبير الثروة من أمتهم، وتسابقت الشعوب الغنية القوية
إلى موادتهم أو مصانعتهم، للاستفادة من قوتهم وثروتهم، بل هي على وشك
الاحتياج إليهم مذ الآن، لما بين غربي أوربة وشرقيها من المقارعة والصدام، الذي
يتوقف على نتيجته ما يكون عليه الشرق من حكم ونظام، ولا سيما شعوب الإسلام
من العرب والترك والفرس والتتر والأفغان.
هذا ما أحكيه لهم عن رأي أهل البصيرة والدين، من عقلاء العرب وعلماء
المسلمين، الذين يتنفسون الصعداء حزنًا، ويحرقون الأرم غيظًا وأسفًا، كلما صخ
أسماعهم نبأ تقاتل أئمة الجزيرة، للتنازع على بعض الجبال والأودية [1] مع خراب
البلاد، وفقر العباد، اللذين يزيلهما الاتفاق والاتحاد، ويزيدهما الافتراق والجلاد،
وإنني بلسان صفوة المخلصين من عقلاء العرب وغيرهم من المسلمين، أدعوهم
إلى عقد الاتفاق والحلف بينهم على الأصول الآتية:
1-
إبطال الحرب والغزو بين عرب الجزيرة العربية بعضهم مع بعض، وحل
مشكلات الخلاف بالتحكيم ولو بصفة هدنة مؤقتة إلى أن يوضع للبلاد نظام حلفي
ثابت.
2-
حفظ الحالة الحاضرة باعتراف كل حكومة مستقلة في قسم الجزيرة
باستقلال سائر الحكومات الموجودة فيها اليوم وترك مسائل الحدود إلى مجلس
التحكيم بحيث لا يعد اعتراف بعضهم باستقلال بعض متضمنًا للرضا بالحدود
المختلف عليها.
3-
حرية المذاهب الدينية الموجودة في البلاد في التعليم والعمل والدعوة
بشرط عدم طعن أحد في مذهب غيره أو تكفير متبعيه، بل يتبع في ذلك قوله تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، فلكل أحد أن يبين بالدليل أو بنصوص المذهب المعتمدة أحكام
الدين والكفر والحلال والحرام، ولكن ليس له أن يطبقها على طائفة معينة من أهل
القبلة؛ لأن التطبيق له شروط، ولا سيما في شأن الطوائف والجماعات التي تقيم
الشعائر الإسلامية، بل ليس لغير الحاكم الشرعي في الدعوى الشرعية أن يحكم
بكفر شخص معين يدعي الإسلام ويقتله بذلك، كما ينقل عن بعض الغلاة في بعض
البوادي، فرب قائل قول أو فاعل فعل عده بعض العلماء كفرًا لدلالته عندهم على عدم
تصديق الرسول، وقائل القول أو فاعل الفعل من المؤمنين الموقنين، ولكنه جاهل أو
متأول، ولو ظهر له الحق في المسألة لقبله مذعنًا، ورجع عما كان عليه تائبًا
مستغفرًا.
4-
حرية التجارة وحفظ الأمن في البلاد، وتسهيل طرق المواصلات بينها
وتنظيم مصلحة البريد والبرق، والمبادرة إلى إنشاء تلغراف لاسلكي في البلاد،
ولا سيما عواصمها.
5-
إرسال كل حكومة معتمدًا إلى عاصمة الأخرى يكون وكيلاً لها عندها كما
هو المعهود بين جميع الحكومات التي بينها عهود ولها مصالح في بلاد الأخرى.
6-
بعد حصول هذه التمهيدات يتألف لهذه الحكومات مجلس حلفي يكون هو
المرجع في حل جميع مسائل الخلاف ووضع الحدود بين البلاد، وجميع ما يتعلق
بحفظها وترقية شؤونها، وإننا متى رأينا من أئمة اليمن والحجاز ونجد شروعًا في
تنفيذ هذا العمل الذي دعوا إليه جميعًا قبل أن تشتد الحاجة إليه بوقوع الحرب
العظمى وكثر الحديث فيه - فإن عقلاء الأمة العربية في سائر البلاد وأهل الغيرة
من مسلمي الأعاجم يمدونهم بآرائهم السديدة ومساعداتهم الرشيدة في تنفيذ الاتفاق
الحلفي ونظام مجلسه وسائر ما يحتاجون إليه في ذلك، وفيما ترتب عليه من إيجاد
وسائل الثروة في البلاد.
فيا أيها الأئمة المتبعون في بلادكم، إنكم تعلمون أنكم مسؤولون عند الله تعالى
عن كل ما يتعلق بأمر البلاد وأهلها، ولعلكم لا تعلمون حق العلم قدر اهتمام شعبكم
العربي في غير بلادكم، واهتمام جميع عقلاء الشعوب الإسلامية الأخرى بأمركم،
وما يقولون عنكم كلما بلغهم شيء من أنباء اختلافكم وتقاتلكم، وما يتمنون لكم من
السعادة وحسن الحال الذي يعدونه من أسباب سعادتهم، وما يكتبون اليوم في
تاريخكم، مما ينشر قريبًا في عصركم، مصححًا لما تنشره الجرائد عنكم، ألا
فاعلموا أن جميع العقلاء منهم ومن غيرهم يعلمون علم اليقين أن اتفاقكم خير لكل
منكم، وأن بقاء هذا الشقاق بينكم أكبر مصاب عليكم وعلى شعبكم وأمتكم وملتكم،
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال: 1) ، وسلام على من اتبع الهدى،
ورجَّح المصلحة العامة على الهوى.
_________
(1)
كجبل سعفان الذي يتقاتل عليه صاحبا اليمن وعسير، ووادي طربة الذي يتنازع فيه صاحبا الحجاز ونجد.
الكاتب: محمد الخضر بن الحسين
الخيال في الشعر العربي
(1)
يرتفع شأن الشعر ونقضي لصاحبه بالبراعة والتفوق على غيره بمقدار ما
يحرز من بناء محكم ومعنى بديع، وقد حدق فلاسفة الأدب أنظارهم إلى الوجوه
التي تملك بها المعاني شرف منزلتها وحسن طلعتها، أو تأخذ منها الألفاظ متانة
نسجها وصفاء ديباجتها.
ومن أجمل الفنون التي يرجع النظر فيها إلى جهة المعنى صناعة التخييل،
وهي الغرض الذي جردت القلم للبحث عنه في هذه الصحائف متحريًا أسلوبًا لا
يشتكي منه القارئ طولاً ولا قصرًا.
ولا أدعي أن هذا الفن مما ضل عن أولئك الفلاسفة فلم يعرجوا على مكانه،
أو صعب عليهم مراسه فلم يسوسوه بفكر ثاقب وبيان فاصل، فإن كثيرًا من علماء
البلاغة قد ولوا وجوههم شطره حتى توغلوا في طرائقه، وكشفوا النقاب عن حقائقه،
ومن أبعدهم نفوذًا في مسالكه الغامضة، وأسلمهم ذوقًا في نقد معانيه وتمييز جيدها
من رديئها الإمام عبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب أسرار البلاغة ودلائل
الإعجاز.
وما كان لي سوى أن أعود إلى مباحثه المبثوثة في فنون شتى، فأستخلص
بقدر ما تسمح به الحال لبابها، وأولف بين ما تقطع من أسبابها، ولا تجدني - إن
شاء الله - أحكي مقالهم دون أن أعقد بناصيته، أو أبث خلاله، أو أضع في ردفه
جملاً تلبسه ثوبًا قشيبًا، أو تنفخ فيه روحًا كانت هادئةً.
***
الشعر
يعرف العربي في جاهليته كما عرف بعد أن نسل إليه العلم من كل حدب أن
الكلام ينقسم إلى شعر ونثر، والميزة المحسوسة لكل أحد أن الشاعر لا يحثو عليك
الألفاظ جزافًا مثلما يفعل الناثر، وإنما يلقيها إليك في أوزان تزيد في رونقها،
وتوفر لذتك عند سماعها، ومن هذا ذهب بعضهم في حد الشعر إلى أنه كلام مقفى
موزون، وهذا مثل من يشرح لك الإنسان بأنه حيوان بادي البشرة منتصب القامة،
فكل منهما قصر تعريفه على ما يدرك بالحاسة الظاهرة، ولم يتجاوزه إلى المعنى
الذي يتقوم الحقيقة ويكون مبدأ لكمالها، وهو التخييل في الشعر، والنطق في
الإنسان.
فالروح التي يعد بها الكلام المنظوم من قبيل الشعر إنما هي التشابيه
والاستعارات والأمثال وغيرها من التصرفات التي يدخل لها الشاعر من باب
التخييل، وليس الوزن سوى خاصة من خواص اللفظ المنظور إليها في مفهوم
الشعر بحيث لا يسميه العرب شعرًا إلا عند تحققه، وإطلاق الشعر على الكلام
الموزون إذا خلا من معنى تستطرفه النفس لا يصح إلا كما يصح لك أن تسمي جثة
الميت إنسانًا، أو تمثال الحيون المفترس أسدًا.
والمنثور من الكلام يشارك الشعر في اشتماله على الصور الخيالية، ولكن
نصيب الشعر منها أوفر، وهو بها أعرف، كما يمتاز بأحد أنواع التخييل، وهو ما
لا يتوخى به صاحبه وجه الحقيقة، وإنما يقصد به اختلاب العقول ومخادعة النفوس
إلى التشبث بغير حق يدعوك كما قال ابن الرومي إلى أن تطوي جناحيك على
جذوة من الحقد:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى
…
وبعض المزايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدًا على ذي إساءة
…
فثم ترى شكرًا على واسعي القرض
وقال آخر يزين لك أن تدرج نفسك في كفن الذل وتواريها في حفرة من
الخمول:
لذ بالخمول وعذ بالذل معتصمًا
…
بالله تنجو كما أهل النهى سلموا
فالريح تحطم إن هبت عواصفها
…
دوح الثمار وينجو الشيح والرتم
ولاختصاص الشعر بهذا النوع من التخييل أطلق بعض المشركين من العرب
على الرسول صلى الله عليه وسلم اسم الشاعر؛ ليلقوا في أوهام السذج أن كلامه
من نوع ما يصدر عن الشعراء من الأقوال المموهة والتخيلات الباطلة.
فهم يعلمون أن القرآن بريء من النزعة التي عهد بها الشاعر، وهي عرض
الباطل في لباس الحق؛ لأنه إنما ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، ولا يخفى
عليهم أنه مخالف للشعر في طريقة نظمه، فإن للشعر عروضًا يقف عنده، ووزنًا
ينتهي إليه، والقرآن يصوغ الموعظة وينفق الحكمة بغير ميزان، ولكن ضافت
عليهم مسالك الجدال، وانسدت في وجوههم طرق المعارضة، فلم يبالوا أن يتشبثوا
بالدعاوي التي يظهر بطلانها لأول رأي، كما قالوا عنه: إنه مجنون. وهم يشهدون
في أنفسهم أنه أبلغهم قولاً، وأقواهم حجة، وأنطقهم بالحكمة.
وأما الآيات التي وافقت بعض الأوزان فهي على سلامتها من بهرج التخيلات
لا تجد الموافق منها للموزون قد استقل بنفسه، وأفاد المعنى دون أن تصله بكلمات
من الآيات السابقة أو اللاحقة، والكلام المؤلف من الموزون وغير الموزون لا
يصح لأحد أن يسميه شعرًا ليقدح به في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا
تُؤْمِنُونَ} (الحاقة: 41) .
***
التخييل عند علماء البلاغة
ينقسم التصرف في المعاني - على ما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني - إلى
تحقيق وتخييل، والفارق بينهما أن المعنى التحقيقي ما يشهد له العقل بالاستقامة،
وتتضافر العقلاء من كل أمة على تقريره والعمل بموجبه كقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
فمعنى هذا البيت مما تلقاه العقلاء بالقبول، ووضعوه بمقدمة ما يتنافسون فيه
من الحكم البالغة، وكذلك اتخذه الأمراء الراشدون قاعدة يشدون بها ظهر سياستهم،
ويستندون إليها في حماية شعوبهم، ومن الذي يجهل أن حياة الأمم إنما تنتظم
بالوقوف في وجه من يتهافت به السفه على هدم شرفها والاستئثار بحقوقها؟
والتخييلي هو الذي يرده العقل، ويقضي بعدم انطباقه على الواقع، إما على
البديهة كقول بعضهم:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته
…
لما رأيت عليها عقد منتطق
فكل أحد يدرك لأول ما يطرق سمعه هذا البيت أن الكواكب لا تنوي ولا
تنتطق ولا تخدم، وأن تلك النجوم المتناسقة في وسط الجوزاء مركبة فيها من قبل
أن يصير الممدوح شيئًا مذكورًا أو بعد نظر قليل كقول أبي تمام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى
…
فالسيل حرب للمكان العالي
نهى المخاطبة في صدر البيت عن إنكارها لفاقة الكريم وفراغ يده من المال،
وأخيرًا في العجز بأن السيل لا يستقر على الأماكن المرتفعة، وهذا المعنى في نفسه
صحيح، ولكن الفاء في قوله:(فالسيل حرب) أفصحت بأن السبب في عدم توفر
حطام الدنيا لدى الكريم هو كون الماء إذا وقع على الأماكن العالية لا يلبث أن ينحدر
إلى ما انخفض عنها من وهاد وأغوار، وهذا إنما وصل إلى الذهن بتخييل أن رفعة
القدر بمنزلة المكان الحسي، وأن المال بمنزلة الماء الدافق ينساق إلى الرجل
فيقضي منه وطره، ثم يرسله إن شاء إلى بني الحاجات. فيكون القول بأن مكانة
الكريم لارتفاعها جعلت المال يمر على يده، ثم ينطلق بالبذل والإنفاق - يستند إلى أن
الماء لا يتجمع على ما صعد على وجه الأرض من أكمات وهضاب، وهذا القياس
ضرب من التخييل لا يجول في العقل إلا ريثما ينظر إلى أن السبب في عدم استقرار
الماء على الأماكن العالية كونه جرمًا سيالاً لا تتماسك أجزاؤه وتثبت في محل إلا إذا
أحاط بجوانبه جسم كثيف، وليس للدراهم والدنانير هذه الطبيعة حتى يلزم أن تمر
على يد الكريم، ثم تنصب منها إلى من كانوا أدنى منه منزلة.
ويفهم من وجه التفرقة بين القسمين أن مجرد الاستعارة عندهم لا يدخل في
قسم التخييل، وقد صرح الجرجاني بهذا في كتاب أسرار البلاغة ناظرًا إلى أن
المستعير لا يقصد إلا إثبات معنى اللفظة المستعارة حتى يكون الكلام مما ينبو عنه
العقل، وإنما يعمد إلى إثبات شبه بين أمرين في صفة، والتشابه من المعاني التي
لا ينازع العقل في صحتها.
***
التخييل عند الفلاسفة
يقول الفلاسفة: إن من بين القوى النفسية قوة تتصرف في صورالمعلومات
بالتركيب تارة والتفصيل مرة أخرى، ويسميها فلاسفة العرب إذا لم تخرج عن
دائرة التعقل مفكرة، ويقال في عملها: تفكر. فإن تصرفت بوجه لا يطابق النظر
الصحيح سموها مخيلة، ويقال في عملها: تخيل أو تخييل. فمثال ما يأخذ من العقل
مأخذ القبول قول القاضي عياض:
انظر إلى الزرع وخاماته
…
تحكي وقد ولت أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة
…
شقائق النعمان وفيها جراح
فالشاعر التفت إلى ما في حافظته من الصور المناسبة لهيئة زرع أخضر
يتخلله شقائق النعمان، وقد أخذت الرياح تهب عليه من جانب، فيميل إلى آخر
ميلاً يتراءى للعين أنه حركة ينتقل بها من مكانه، فوقع خياله على الجيش
والملابس الخضراء والجراحات التي تنال الجيش المقاتل، فألف بينها، ثم جعل
سيره إدبارًا وانهزامًا ليوافق حالة جيش ظهرت فيه الجرحى بمقدار ما في المزارع
الخضراء من شقائق النعمان.
ومثال ما لا يثق به النظر، ولا يدخل في حساب الأقوال القائمة على التحقيق
قول الشاعر:
ترى الثياب من الكتان يلمحها
…
نور من البدر أحيانًا فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها
…
والبدر في كل وقت طالع فيها
أبصر معاجر من يتحدث عنها وقد أخلقت فحاول أن يلتمس وجهًا يجعل ذلك
الإخلاق من شواهد حسنها، أو يسد فم العاذل حتى لا يغض من شأنها، فتصور
طلعة القمر وانساق إليه ما يدور بين الناس من أن الثياب التي يمج عليها القمر
أشعته يسرع إليها البلى، ثم ادّعى مبالغًا في التشبيه أن وجهها قمر، وبنى على هذا
أن تعجب ممن ينكر تأثيره في معجرها بالإخلاق، ففي هذا التصرف ادّعاء أن
وجهها قمر، وهذا مما يألفه العقل؛ لأنه بمنزلة التشبيه، ولا مفر من قبوله متى
تحقق الوجه الجامع بين طرفيه، والمعنى الذي للعقل أن يلتفت عنه إنما هو دعوى
أن معجرها أخلق بعلة كونه مطلعًا لوجهها المسمى بالقمر على وجه المجاز.
***
ماذا نريد من التخييل
يفهم من صريح المقالة الفلسفية أن المفكرة والمخيلة اسمان لقوة واحدة، وهي
التي تتصرف في المعلومات بالتفصيل والتركيب، وإنما تغير اسمها بحسب اختلاف
الحال، فعندما يكون زمامها بيد العقل يسمونها مفكرة، وعندما تنفلت منه يسمونها
مخيلة.
وإذا عرفت أن التمثيل والاستعارة من عمل هذه القوة باتفاق علماء النفس،
فلو جرى طائفة من الناس على إطلاق التخيل أو الخيال عندما تتصرف هذه القوة
تصرفًا تصوغ به معنى مبتدعًا سواء أنس به العقل أو تجافى عنه لم يكونوا صنعوا
شيئًا سوى تغيير الاصطلاح وإدخال القسمين تحت اسم واحد.
وإطلاق لفظ التخيل أو الخيال في صدد الحديث على المعاني الصادقة
والتصورات المعقولة لا يحط من قيمتها أو يمس حرمتها بنقيصة، فإن علماء
البلاغة أنفسهم قد أطلقوه على ما يأتي به البليغ في الاستعارة المكنية من الأمور
الخاصة بالمشبه به ويثبته للمشبه، فقالوا: الأظفار أو إضافتها في قولك: (أنشبت
المنية أظفارها) ، تخييل أو استعارة تخييلية، وأطلقوه في الفصل والوصل حين
تكلموا على الجامع بين الجملتين، وقسموه إلى: عقلي، ووهمي، وخيالي، وأطلقوه
في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد، ولم يبالوا في جميع
ذلك أن يضربوا لها أمثلة من الكتاب العزيز وغيره من الأقوال الصادقة.
فيسوغ لنا حينئذ أن نساير أدباء العصر، ونتوسع في معنى الخيال والتخييل،
ولا نقف عند اصطلاح القدماء من الفلاسفة أو علماء البلاغة، حيث خصوا بها ما لا
يصادق عليه العقل والمخالفة في الاصطلاح، ما دامت الحقائق قائمة والمقاصد ثابتة
بحالها لا يبعد عن تبديل العبارة وتغيير الأسلوب.
يقول الناس عندما يسمعون بيتًا أو أبياتًا لأحد الشعراء: هذا خيال واسع. أو:
هذا تخيل بديع. فيفهم السامع لهذه الكلمات وما يماثلها أن لصاحب هذا الشعر قدرة
على سبك المعاني وصوغها في شكل بديع، ولو قالوا: (ما أضيق هذا الخيال أو
ما أسخف هذا التخيل) فيفهم السامع أن الشاعر لديه قدرة على إخراج المعاني في
صورة مبتكرة.
فيصح لنا أن نأخذ هذا المعنى الذي يحضر في الذهن عند سماع تلك الجمل
ونشرح به معنى المتخيلة، فنقول: هي قوة تتصرف في المعاني لتنتزع منها صورًا
بديعة، وهذه القوة إنما تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها من طريق
الحس أو الوجدان، وليس في إمكانها أن تبدع شيئًا من عناصر لم يتقدم للمتخيل
معرفتها. ومثال هذا من الصور المحسوسة أن قدماء اليونان رمزوا إلى صناعة
الشعر بصورة فرس له جناحان، وهي صورة إنما انتزعها الخيال بعد أن تصور
كلاًّ من الفرس والطير بانفراده.
وقد يجول في خاطرك عند ما تمر على قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
أن هذا الشاعر قد تخيل الأغوال وأنيابها، ولم تسبق له معرفة بها؛ إذ لا أثر
للغول وأنيابها، ولا لشيء من موادها في العيان، فيلوح لك أن هذا يقدح في قولنا:
إن المخيلة لا تؤلف الصور إلا من مواد عرفتها بوسيلة الحس أو الوجدان.
والذي يكشف الشبه أن كلاًّ من الغول وأنيابها صورة وهمية، ولكن لم يحدثها
الخيال من نفسه، بل أخذ من الحيوانات الفظيعة المنظر أعضاء متفرقة وأنيابًا حادة
وتصرف فيها بالتكبير، ثم ركبها في صورة رائعة وهي التي تخطر على الذهن
عندما يذكر اسم الغول، حتى إن الناس لا يتفقون فيما أحسب على تصور هذا الأمر
الموهوم، فكل ما يخطر له المعنى في أبشع صورة يتمكن خياله من جمعها وتلفيقها.
فغاية ما صنع الشاعر أن تخيل أمرًا محسوسًا، وهي النصال المحددة في
صورة أمر هو في نفسه خيالي أيضًا، ولكن صورته مأخوذة من مواد كان يعرفها
من قبل بطريق الرؤية أو السماع.
وتعتمد المخيلة على قوة التذكر، وهو تداعي المعاني وخطورها على الذهن
بسهولة، وبعد أن تتراءى لها الصورة بوسيلة التذكر تستخلص منها ما يلائم
الغرض فتفصل الخاطرات عن أزمنتها أو أمكنتها، أو ما يتصل بها مما لا يتعلق
به القصد من التخييل، ثم تتصرف في تلك العناصر بمثل التكبير أو التصغير،
وتأليف بعضها إلى بعض حتى تظهر في شكل جديد.
***
تداعي المعاني
ترجع الأسباب التي تجمع بين المعاني وتجعلها بحيث يكون حضور بعضها
في النفس يستدعي حضور بعض إلى ثلاثة أنواع:
أولها: اقتران المعنيين في الذهن بحيث يكون تعلقهما أو إحساسهما في وقت
واحد أو على التعاقب، ومن هذا تذكر الوقائع عندما يخطر بالبال مكانها، كما قال
ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم
…
مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
…
عهود الصبا فيها فحنوا لذلك
أو زمانها كما قالت الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا
…
وأذكره بكل مغيب شمس
وخصت هذين الوقتين بالتذكير؛ لأنهما مظهر لعملين عظيمين من أعمال
صخر؛ إذ كان يغدو للإغارة التي هي مظهر الشجاعة عند مطلع الشمس، ويبذل
الطعام إكرامًا للضيوف وقت الغروب.
ومن هذا الوجه نشأت الكنايات وبعض أنواع المجاز المرسل، أما الكنايات؛
فلأنها الدلالة على المعنى باسم ما يلازمه في الخارج، وصح هذا نظرًا إلى أن
حضور المعنى الموضوع له اللفظ يستدعي حضور لازمه في ذهن المخاطب،
كقول الحصين بن الحمام:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
…
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
…
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
أراد الشاعر أن يفيد ثباتهم في مواقف الحروب، وأنه لا يلتفت بهم الفزع من
الموت إلى سبة الهزيمة، فعبر عن هذا المعنى بأن دماءهم لا تقع على أعقابهم ألبتة،
وهذا يقتضي أنهم لا يولون العدو ظهورهم حتى ينالها بسيوفه، كما أن معنى قطر
الدماء على الأقدام يذهب بالسامع إلى معنى أنهم يستقبلون العدو بوجوههم إلى أن
ينالوا ظفرًا أو يلاقوا موتًا شريفًا.
وأما بعض أنواع المجاز المرسل فكإطلاق اسم الحال على المحل، والسبب
على المسبب، والكل على الجزء وعكسها، ومداره على أن ذهن المخاطب ينتقل
إلى المعنى المراد بسهولة حيث كان بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة تقتضي
تقارنهما في الذهن؛ لأن إدراكهما كان في وقت واحد كالحال والمحل، والكل
والجزء، أو على التعاقب كالسبب والمسبب.
النوع الثاني: من الأسباب التي تتلاحق بها المعاني في الذاكرة: التباين، فإن
الصور التي يكون بينها تضاد لا يكاد بعضها يتخلف عن بعض، فمن تصور
الشجاعة خطر له معنى الجبن، ومن مرت على باله الصداقة انساق إليه معنى
العداوة، ولهذا أدخل علماء البلاغة في وجوه الوصل بين الجملتين ما يقوم بينهما
من التضاد في المعنى، وساقوا في أمثلته قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) ، وإن شئت مثلاً من الشعر،
فقول المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
ومن هذا الوجه أيضًا صح لهم أن يعدوا في علاقات المجاز المرسل الضدية.
النوع الثالث: التشابه، وهو أن يكون بين المعنيين تماثل في بعض أمور
خاصة، كمن يرى الرجل المقدام فيتصور الأسد، ويسمع الألفاظ البليغة قد تبرجت
في أسلوب محكم فيذكر الدور المتناسقة وأسلاكها. وعلى هذا النوع يقوم فن
التشبيه والاستعارة اللذين هما أوسع مضمار تتسابق فيه قرائح الشعراء والكتاب.
***
لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني
تختلف الناس فيما يتداعى إليهم من المعاني إلى أن ترى صورًا تتوارد على
شخص متعاقبة، وهي في خيال آخر لا تتقارن ألبتة، قال أحد الفلاسفة: إني لا
أسأل عن السبب في أن معنى من المعاني يدعو آخر ويأخذ بناصيته، ولكنني
أبحث في شيء آخر وهو أن المعنى الواحد قد يختلف تواليه باختلاف الأشخاص.
ثم قال: ويمكن الجواب عن هذا بأن الناس يختلفون في ميولهم وشعب وجهتهم في
الحياة، فكل معنى يدعو لصاحبه ما هو ألصق بميله وأقرب إلى عمله.
وإيضاح هذا الجواب أن توالي المعاني يختلف باختلاف الأشخاص لأحد
سببين.
الأول: أن الدواعي والعواطف النفسية لها مدخل في تجاذب المعاني
واسترسالها على الخيال، فالطمع أو الحاجة أو الرهبة مثلاً تستدعي المعاني العائدة
إلى المديح أو الاستعطاف، والغرام يستدعي المعاني الغزلية، والكآبة والأسف
يستدعيان معاني الرثاء أو الشكوى، والسرور يستدعي المعاني اللائقة بالهناء،
والإعجاب بالنفس أو العشيرة يستدعي معاني الفخر والحماسة، فالزاهد في الدنيا لا
يسع خياله من معاني الإطراء والملق ما يسعه خيال الحريص عليها، والخالي من
عاطفة الغرام، لا يخطر على قلبه من معاني التشبيب ما يخطر على قلب الشجي
المستهام.
الثاني: ما يتفق للإنسان في طرز حياته وهو حال المحيط الذي يتقلب فيه،
فيتوالى على خاطر الناشئ في النعيم والترف ما لا يتوالى على خاطر الناشئ في
حال عسرة وبؤس، ويحضر في نفس من شب في الحاضرة ما لا يحضر في نفس
الناشئ في البادية، وينساق إلى خيال الناشئ في شمال المعمورة ما لا يدخل في
خيال الناشئ في جنوبها، فالمقيم في شمال أوربا مثلاً يذكر الشتاء، فتقارنه صورة
الثلج، وليس بينهما في ذهن المقيم بالجنوب اقتران واتصال لقلة مشاهدته للثلج، أو
عدم وقوع نظره عليه طول حياته، ولو نظر إلى الهلال رجلان: هذا نشأ في الحلية
والآخر اتخذ الحصاد حرفة فالشأن أن يتداعى إلى الأول صورة السوار وينتقل منه
إلى المعصم أو الصياغة، ويتداعى إلى الثاني صورة المنجل وينتقل منها إلى
الزرع أو الحدادة.
محمد الخضر التونسي
(يتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
محاربة البدع
تتمة الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر
قول الفخر الرازي في اسم الله الأعظم:
4-
ذكر المعترض أن الفخر الرازي قال في شرح البسملة من تفسيره ما
نصه: اختلف العلماء في الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو الاسم الأعظم
الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لاشتماله على سر الإشارة وتكوين
الكائنات وظهور التجليات.
ونقل الحافظ ابن حجر أنه نقل عن بعض الصوفية أن الضمير (هو) هو
الاسم الأعظم، ونحن ننقل هنا نص عبارته في تفسير الفاتحة في هذه المسألة؛
ليعلم الناس أن ما عزاه المعترض إليه هو خلاف ما ذهب إليه، وليعلم المعترض
نفسه أن ما اعتمد من كتب أهل الطريق في هذه المسألة لا يوثق بنقلها، ولا يعلم
أهلها، فنقول:
ذكر الرازي في المسألة الحادية عشرة من الباب الثالث من أبواب تفسير
البسملة أن الاسم الموضوع لذات الخالق واجب الوجود يجب أن يكون أعظم
الأسماء وأشرفها، قال: وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة، وهو اسم
الله الأعظم، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما
يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانية والروحانية. ثم
قال:
المسألة الثانية عشرة: القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على
وجوه، وذكر أن (الأول) ذو الجلال والإكرام، وضعفه. و (الثاني) هو الحي
القيوم، وضعفه. و (الثالث) قول من يقول: أسماء الله كلها عظيمة لا يجوز وصف
واحد منها بأنه أعظم. وضعفه. (ونقول: إن ذكره سهو؛ لأن التقسيم والأقوال
لمثبتي الاسم الأعظم والقائلين به) ثم قال:
القول الرابع: إن الاسم الأعظم هو قولنا (الله) وهذا هو الأقرب عندي؛ لأنا
سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم الْعَلَم في حقه سبحانه، وإذا كان
كذلك كان دالاًّ على ذاته المخصوصة (اهـ) بحروفه من الصفحة 62 من الجزء
الأول المطبوع بالمطبعة الخيرية سنة 1307، ومنه يعلم بعض الفرق بين الرازي
والحافظ ابن حجر في سعة الاطلاع.
ثم إن الرازي جعل الأسماء الإلهية بحسب دلالتها على ما وضعت له أقسامًا،
فصلها في أبواب وفصول، وجعل الفصل التاسع من الباب السابع (في الأسماء
الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة وهي أنا وأنت وهو، عندما تقع في
الكلام دالة على الله تعالى، وقد أطال في هذا الفصل الكلام في الضمير (هو)
بكلام جله من نظريات الصوفية والفلاسفة، وذكر له إحدى عشرة فائدة، واستنبط
بعد ذلك أن الذكر به أعظم الأذكار، ولكنه لم يقل: إنه هو الاسم الأعظم، ولعله
صرح به في كتاب آخر من كتبه. ولكنه لم يذكر أن (أه) من أسماء الله تعالى
ألبتة.
واستنباطه هذا مردود شرعًا فإنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة الذكر بأسماء
الله تعالى مفردة غير واقعة في كلام مركب له معنى، والضمير (هو) ليس من
أسماء الله تعالى ولا يدل بنفسه على ذات الله تعالى ولا على صفة من صفاته،
وإنما يدل على ذلك كما يدل على غيره إذا وقع في الكلام ضميرًا راجعًا إليه،
ويحسن أن نذكر نظريته ونبين بطلانها، وملخصها: أن نداء الله تعالى بكل اسم من
أسمائه يدل على وصف يتضمن الدعاء والسؤال المناسب لمعنى ذلك الاسم، فمن
قال: يا رحمن؛ كان معناه: ارحم، ومن قال: يا كريم؛ كان معناه أكرم، إلخ،
ثم قال: (وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليًا عن السؤال والطلب،
أما إذا قال: يا هو كان معناه خاليًا عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون
قولنا: (هو أعظم الأذكار) اهـ.
ونقول: إن هذا الكلام باطل مقدماته ونتيجته، فليس أشرف الأذكار ما كان
خاليًا عن دعاء الله تعالى وسؤاله، بل الدعاء أعظم العبادة كما صح في الحديث
(الدعاء هو العبادة) وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) ،
رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة
والحاكم من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا، وصححه الحاكم والترمذي وأبو
يعلى في مسنده من حديث البراء، وهو على حد حديث (الحج عرفة) رواه أحمد
وأصحاب السنن وصححوه، ومعناهما أن معظم الحج وركنه الأعظم عرفة، ومعظم
العبادة أو روحها ولبابها الدعاء، ويفسره حديث أنس (الدعاء مخ العبادة) رواه
الترمذي من طريق عبد الله بن لهيعة قاضي مصر ومحدثها وعالمها، وفيه مقال
معروف، ولذلك جعله الحافظ مؤيدًا لما ذكرناه في تفسيره بعد أن عزاه إلى الجمهور،
وروى الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث أبي هريرة
رفعه (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) .
ولما كان الدعاء ركن العبادة الأعظم ومعظمها ومخها صار يطلق ويراد به
العبادة مطلقًا كما قالوه في تفسير كثير من آيات القرآن حتى صار بعض الناس يظن
أن الصيام يسمى دعاء مثلاً، وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف:
180) ، أفرأيت من عمل بهذه الآية فذكر الله داعيًا له بأسمائه خير أم من ألحد فيها
فصار يقول: هو هو هو، أو يا هو يا هو، وهي عبادة لم تَرِد في كتاب الله
ولا في سنة رسوله، ولا رويت عن السلف الصالح؟ وهي مع ذلك فاسدة في لغة
الكتاب والسنة، فإن الضمير وحده لا يسمى كلامًا ولا يكون له معنى إلا إذا وقع في
كلام يكون له فيه مرجع، ومثله ما إذا كان جوابًا لسؤال يعرف فيه المرجع بالقرينة،
ولا يدخل عليه حرف النداء ولا على الضمير المخاطب الذي يوجه إليه النداء،
فلا يقال: يا أنت. وحرف النداء يتضمن معنى الدعاء أو النداء، ويؤول بالفعل،
ولذلك جعلوا المنادى من المنصوبات وكل من أنت وهو ضمير رفع منفصل.
ولو صح نداء الغائب من الخلق وعهد في كلامهم بالضمير المنفصل أو غيره
لما كان ذلك بالذي يصح في نداء الخالق الذي لا يغيب عنهم، وقد روى الشيخان
وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي -
صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي - صلى
الله عليه وسلم: (أيها الناس إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا
قريبًا وهو معكم) ، والصوفية الصادقون العارفون أجدر من غيرهم بملاحظة
الشهود والحضور، والرازي رحمه الله لم يكن صوفيًّا، وإنما ينقل كلامهم
ويتصرف فيه، ولو سلمنا له قوله: إن أشرف الذكر ما كان خاليًا عن معنى الدعاء؛
لما كان ذلك مستلزمًا التسليم له بجعل الذكر بضمير الغيبة - على فرض جوازه
وصحته - هو المتعين في تحصيل ذلك الذكر، بل نقول حينئذ: إن المتعين ذكره
تعالى باسمه الذي جزم هو تبعًا للجمهور بأنه اسم علم للذات الواجب الوجود وأن
جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا تجري عليه، ورجح هو أنه اسم الله الأعظم
كما سبق النقل عنه، وهو اسم الجلالة (الله) ونتبع فيه المأثور، فنجعله بكلمة
التوحيد لا مفردًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الذكر لا
إله إلا الله) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بسند صحيح من حديث
جابر بن عبد الله، ثم نقول: إن القرآن قد جعل اسم الرحمن مرادفًا لاسم الجلالة في
عدة مواضع، كقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ
الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) ?وذكر في عدة آيات في سياق الضر
والعذاب في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى حكاية عن الناصح لقومه باتباع المرسلين:
{إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} (يس: 23)، وقوله في حكاية إنذار إبراهيم لأبيه:
{إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ} (مريم: 45)، وقوله: {قُلْ مَن
كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ} (مريم: 75) ، وهذه أبعدها عن
التأويل.
فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى واسع الاطلاع، ولا سيما في العلوم
العقلية، ولكنه كثير الخطأ، ولا سيما فيما يختص بعلوم السنة وآثار السلف،
وكلامه في تفسيره المشهور كثير التعارض والتناقض، وكثيرًا مما نتعقبه في
تفسيرنا، وإننا ننقل هنا من كلامه ما هو حجة عليه فيما ذكره من تفضيل ذكر الله
وندائه بضمير الغيبة، وهو قوله في سياق رد قول جهم في مسألة إطلاق مثل كلمة
شيء على الله تعالى من تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) قال:
الحق في هذا الباب التفصيل، وهو أنا نقول: ما المراد من قولك أنه تعالى
شيء وذات وحقيقة؟ إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود
وشيء، فهو كذلك من غير شك ولا شبهة، وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى
بهذه الألفاظ أم لا؟ فنقول: لا يجوز لأنا رأينا السلف يقولون: يا الله يا رحمن
يا رحيم - إلى سائر الأسماء الشريفة - وما رأينا ولا سمعنا أن أحدًا يقول: يا ذات
يا حقيقة يا مفهوم يا معلوم، فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء
والدعاء واجبًا لله تعالى، والله أعلم اهـ.
ثم قال: المسألة الرابعة، قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة، وأنه يجب على
الإنسان أن يدعو الله بها، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية،
ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال يا سخي، ولا أن
يقال: يا عاقل يا طبيب يا فقيه، انتهى بنصه، ونقول: ومثله: يا هو يا هو،
فإنه لم يقله أحد من السلف الصالح ولا هو جائز في لغة الدين وأولى منه بالإنكار
(أه) فإنه ليس من هذه اللغة، وإنما هو من اللغة السريانية كما قيل.
يقول المعترض على سائر العلماء:
5-
قد تبين مما تقدم أن نقل المعترض على فتوى شيخ الأزهر عن صحيح
مسلم ومستدرك الحاكم وعن الفخر الرازي كذب، وبقي ما نقله عن حاشية الحفني
على الجامع الصغير، وشرح العزيزي له، وعن حاشية الشيخ الأمير على متن
غرامي صحيح وحاشية الباجوري للجوهرة، فنقول فيه أولاً: إن ما نقله عن
الأولين هو في شرح حديث الأنين في المرض، وقد علمت أنه لا يصح، وفي
شرح حديث: (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى) هكذا
ذكر المعترض ولم يذكر تتمة الحديث وهي (دعوة يونس بن متى) ، وهذه التتمة
تنفي ما يزعمه المعترض، وهذا الحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى
ابن جرير عن سعد وبجانبه علامة الضعف، وأورد قبله حديث (اسم الله الأعظم
الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن، في البقرة وآل عمران وطه) ،
وعزاه إلى ابن ماجه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة وعلم عليه السيوطي في
جامعه بالصحة، وذكر غيره أن في سنده هشام بن عمار، وهو مختلف فيه على أنه
نص في خلاف ما يريد المعترض إثباته.
أما ما ذكره العزيزي في شرحه للجامع الصغير، فقد نقل عن العلقمي عشرين
قولاً في الاسم الأعظم، أولها إنكاره، وثانيها أنه مما استأثر الله بعلمه، والعشرون
ألم، ويعلم باقيها مما أوردناه عن الحافظ وليس فيها أن (أه) منها وتبعه الحفني في
ذلك.
وأما كلامهم في حديث الأنين فقد قال المناوي في شرحه له عند قوله: (فإن
الأنين من أسماء الله تعالى) ما نصه: أي لفظ (آه) من أسماء الله تعالى، لكن
هذا تتداوله الصوفية ويذكرون له أسرارًا، ولم يرد به توقيف من حيث الظاهر.
وأما الحفني فقد شرح الحديث في الجزء الثاني من حاشيته على الجامع
الصغير (ص 27 من الطبعة الأميرية) فقال عند قوله: (دعوه يئن) أي يأتي
بقوله (آه) وقال عند قوله: (من أسماء الله) أي من أثر بعض أسماء الله كالضار
والقهار، فإذا تجلى تعالى على عبده بهذا الاسم حصل له الضر، وإلا فآه لم يرد أنه
من أسمائه تعالى اهـ.
وأما الشيخ الأمير فنستغني بما ذكره في حاشيته على عبد السلام شارح
الجوهرة، فقد قال عند قوله:(الأنين) : ينبغي أن يقال (آه) ؛ لأنه ورد اسمًا
لله دون آخ لما قيل من أنه من أسماء الشيطان، ونقل الباجوري قوله هذا، ولكنه لم
يذكر صيغة التمريض في كون آخ من أسماء الشيطان، وقول المناوي هو الصحيح؛
لأنه أعلمهم بالحديث والآثار وبالتصوف على أنهم كلهم ذكروا كلمة (آه) بالمد،
ولم يذكر أحد منهم قولاً في لفظة (أه) التي يدعيها المعترض، فسقط كل ما قاله
ولم يفده قول أحد منهم، بل كلهم حجة عليه لا له، فيا ليت شعري هل يرجع ذلك
الشاذلي المعترض وأمثاله إلى الحق بعدما تبين له أن كل ما استند إليه أهل طريقته
في ذلك باطل عملاً بعنوان اعتراضه (الرجوع إلى الحق فضيلة) ، إلا إذا وافق
الهوى التقليدي وإن كان كذبًا على الله ورسوله ومخالفًا لما كان عليه السلف الصالح
ومحققو الخلف في ذلك؟
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرحلة السورية الثانية
(4)
طرابلس والقلمون
ما حزنني من سوء حال بلاد سورية الاجتماعية والأدبية شيء كما حزنني
حال طرابلس والقلمون حيث نشأت وترعرت، فقد كانت طرابلس خير المدن
السورية في العلوم الشرعية والأدبية، والعيشة الراضية الهنية، كما كانت القلمون
خير البلاد الصغيرة في ذلك، أو (سيدة القرى والمزارع) كما وصفت في السجل
الأعظم (دركنار) لبلاد الدولة العثمانية في الباب العالي كما روي لنا، وذلك أن
جميع أهلها كانوا سادة شرفاء، وأتقياء نجباء، قد ولدت ولله الحمد فيها، ونشأت
في بيت الكرم والمجد الأثيل منها، فكنت من أول العهد بالتمييز أرى العلماء
والأدباء والحكماء والوجهاء تغشى دارنا، وتعشو إلى ضوء نارنا، بل كنت أرى
فيها الضيوف من بلاد المحلة مكرمين على اختلاف مللهم ومذاهبهم، وكان مسجدها
عامرًا دائمًا بإقامة شعائر العبادة وقراءة دروس العلم والوعظ، وقد عشت ما عشت
فيها ولم أر أحدًا ارتكب فاحشة أو شرب مسكرًا، أو أتى منكرًا إلا ما كان ينسب
إلى أفراد قلائل من ارتكاب سرقة الفاكهة أوالزيتون والليمون، وما كان يقع بين
بعض المتخاصمين والمتنازعين من التضارب بالعصي أحيانًا وبالمدى نادرًا، وقلما
رأيت شيئًا من ذلك بعيني.
وإني قد شببت فيها وأنا أعتقد أن الذين يقترفون كبائر الإثم والفوحش في الدنيا
أفذاذ قليل عددهم في كل مكان، وأكثرهم في المدن أو البوادي، ولذلك كنت أجتنب
معاشرة أكثر الناس في طرابلس عندما كنت أطلب العلم فيها، على ما ذكرت من
فضلها على غيرها، حتى إنني إلى اليوم لا أعرف جميع أسماء الذين قضيت معهم
السنين الطوال في المدرسة، وكانت مدارس العلم يومئذ عامرة وطلابه كثيري العدد،
وكانت دور أهل العلم والأدب أندية وسمارًا تكثر فيها المطارحات العلمية،
والمساجلات الأدبية، ولم تكن الخمر معروفة في شيء من ملاهيها العامة (القهاوي)
ولا الرقص، وكل ما كنت أعلمه في هذا أن في حارة النصارى ملهى في بستان اسمه
الزهرية يشربون فيه الخمر، ويختلف إليه بعض أهل الدعارة من المسلمين، ولكنني
لم أر في أثناء إقامتي فيها لطلب العلم من السكارى إلا عبدًا أسود وشابًّا وطنيًّا من
فقراء السوقة يبيع الحمص المملح والملبس بالسكر، وإنما نسمع أحيانًا بعض أخبار
الفساق من المنكرين عليهم والقادحين فيهم؛ إذ يغلب عليهم التستر ويندر فيهم التهتك،
كاجتماع بعض أهل الدعارة في مجالسهم الخاصة في بيوتهم، على مائدة الخمر، أو
شربها على مائدة الطعام، وإنما كان يفعل هذا من المسلمين أكثر الموظفين من الترك
حتى بعض قضاة الشرع، وكان هؤلاء الموظفون يحرصون على إغواء وجهاء
المسلمين الذين يعاشرونهم بإغرائهم بالشرب معهم كدأب أهل السكر في كل مكان،
وقل من كان يستجيب لهم من قرنائهم أو مرؤوسيهم ولو بقبول الكأس من أيديهم مرة
واحدة، ومن طرقهم في ذلك ما سمعته في دارنا من أحد المتصرفين، فقد سألنا:
أليس المسكر المحرم قطعًا هو خمر العنب وما عداه فإنما يحرم منه القدر المسكر؟
فأي حرج إذًا في شرب ما عدا هذا القدر من سائر الأشربة ولا سيما ما لا يسكر إلا
كثيره كالبيرة؟ فقلنا له: تلك شبهة لبعض الفقهاء في النقوع الذي كانوا يسمونه نبيذًا،
والحق أن كل مسكر خمر يحرم قليله وكثيره كما ثبت في النص المؤيد بالقياس
والخبر.
وإذ كنت أكتب في مثل هذا للاعتبار به، وليكون تاريخًا تعرف بمثله أسباب
التطور الاجتماعي في البلاد، فإنني أذكر واقعة في هذا الباب هي أكبر ما كان
يتحدث به الناس في مدينتنا (طرابلس الشام) ، ويفخرون به، وهي بين مدحت
باشا الوزير الشهير ودرويش أفندي الشنبور.
كان درويش أفندي هذا رجل طرابلس الكبير، بل رجل سورية الممتاز في
عصره بالعلم بالقوانين وحسن الإدارة والتصرف في حل المشكلات، حتى إن أمور
إدارة لواء طرابلس كانت بيده يتصرف فيها كما يشاء، وهو عضو في مجلس
الإدارة، رأيه فيه بحكم القانون كرأي غيره من الأعضاء، فكان أصحاب الحاجات
يولون وجوههم شطر داره دون أمثاله من الأعضاء، بل دون الرؤساء من
المتصرف التركي المولى من نظارة الداخلية إلى من دونه من رؤساء الإدارة، وكذا
رؤساء الجند فيما يقيدون فيه بالإدارة كأخذ العسكر بنظام القرعة المعروف، فلم
يكونوا يستطيعون أخذ أحد إلا برأيه، لذلك كان له حساد كثيرون، فلما جاء مدحت
باشا واليًا على سورية كثر السعاة بدرويش أفندي الشنبور لديه الذين يرمونه
بالاستبداد بأعمال الحكومة، وكونه لم يترك لأحد من رجال الدولة اسمًا ولا عملاً في
لواء طرابلس، وأنه هو نفسه لا يمكنه أن يكون له اسم سمي، ولا قدر على ذلك
اللواء إلا بإخراجه من مجلس الإدارة وجعله حلس بيته، وقد أثرت هذه السعاية في
نفسه، فلما جاء طرابس في دورة التفتيش المعتادة كان استقباله لدرويش أفندي
استقبال المرتاب المختبر فلما سمع كلامه أحب الخلوة به، فسمع منه من الأنباء
والآراء ما أكبره في عينه، وأحله في أعلى مقام من الثقة به، والكلام مظهر العلم
والعقل والرأي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: 54) ولم
يكن يستطيع مفارقته إلا وقت النوم، وكان الوزير مبتلى بشرب الخمر كأكثر رجال
الدولة، وكان درويش أفندي لا يشربها كسائر وجهاء طرابلس، ولا سيما أصحاب
الزي العلمي أمثاله، فاجتهد مدحت باشا في حمله على الشرب لتطيب له معاشرته
ولا يرى نفسه صغيرًا أو حقيرًا في عينه وعين نفسه بارتكابه لهذا المنكر مع من
ينكره في نفسه لتحريمه، وقد كان مدحت باشا مسلمًا محترمًا لدينه كما يقال، ولكن
السكر بلاء قلما يستطيع تركه من ابتلي به، عرّض لدرويش أفندي أولاً فنبا له
وأعرض، كأنه لم يفهم مراده، فكاد له مكيدة سلم منها بحسن بادرته، وقوة إرادته،
ذلك أنهما كانا في متنزه من متنزهات ضواحي المدينة اسمه (بركة البداوي)
فطلب الوزير الخمرة، فأخذ لنفسه كأسًا وناول درويش أفندي كأسًا أخرى وقال له:
نشرب على اسم مولانا السلطان الأعظم. فأخذ الكأس درويش أفندي وقال على
البداهة: كأس من يد أفندينا مدحت باشا باسم مولانا الأعظم أمير المؤمنين لا ينبغي
أن تصب في الجوف وتخالط القذر بل مكانها الرأس، وصب الكأس على عمامته
البيضاء، فأعجب مدحت باشا بهذه البداهة والكياسة، وزاده هذا الثبات كرامة عنده
ومكانة في نفسه.
هذه الحالة التي كانت عليها طرابلس إلى عهد طلبي للعلم فيها وهجرتي منها
هي التي ضاعفت آلامي لما رأيت هذه المرة ما رأيت من سوء حالها، وسريان
عدوى المجاهرة بالتهتك فيها، وقد بدأ ذلك فيها في أوائل العهد بالحكومة الدستورية
الاتحادية، ثم كان لمفاسد الحرب ثم للاحتلال الأجنبي تأثير بعد تأثير في استشراء
فساده كما بيناه في النبذة الثالثة من هذه الرحلة (ج9 م21) حتى إن طرابلس
صارت دون بيروت ودمشق في الحالة العلمية والأدبية الإسلامية، فقد خلت من
تلك الحلقات الواسعة من طلاب العلم ومن تلك المحافل والسمار التي كانت آهلة
بأهل الهيئة والوقار من العلماء والوجهاء من الطبقات المختلفة الذين كانت آراؤهم
تضطر الغرباء من حكامهم وغيرهم إلى احترامهم دع أهل البلد الذين هم كبراؤه،
وكذلك كان شأن شيوخ أهل بيتنا في القلمون، بل لم أر مجلس وقار في مكان ما
مثل المجالس التي كان يحضرها كبير أسرتنا السيد الشيخ أحمد عم والدي، فقد كان
أوجه الوجهاء من علماء طرابلس ورجال الحكومة وغيرهم يجلونه لما كان عليه من
الجد والوقار والتقوى حتى إنه لم يكن أحد يشذ في جلوسه ولا في ضحكه ومزاحه
في حضرته، بل يلزمون الاعتدال والأدب الشرعي، وقد اتهم رجل صالح من
طرابلس بفاحشة أو مقدماتها، وكان ممن يترددون على القلمون مع بعض العلماء
فلم يتجرأ بعدها أن يتراءى أمامه طول حياته، وماذا أقول عن صاحب تلك الشيبة
الرائعة الذي قال فيه نقاده المعاصرون الشيخ عبد الفتاح الزغبي نقيب أشراف
طرابلس وخطيب جامعها الكبير إلى اليوم: آخر من أدركنا من الصديقين عمي
الشيخ أحمد، وأنا لم أكن هنالك أستطيع تعمد النظر في وجه أحد متهم بالفسق ولا
السكوت على منكر منذ كنت غلامًا أمرد، وقد شذ في حديثه معي تاجر في طرابلس
بقول لا يعد منكرًا شرعًا إذا حسنت فيه النية، فتركت الشراء منه والنظر إلى دكانه،
بل المرور أمامها ما دام فيها.
نعم إنني كنت أول من انتقد من المسلمين ما كان عند الوجهاء من التكلف في
اللقاء والسلام والقعود والقيام، وأول من ترك عادة الجلوس على الركب في بدء
الجلوس معهم، وإن فعل ذلك بعض كبار السن والقدر لأجلي، ولكنني أقول الآن:
إن مجالسهم كانت خيرًا من مجالس أكثر أولادهم وأحفادهم الذين تركوا غير ذلك من
آدابهم العالية لا المتكلف منها فقط مفتونين بزخرف حرية الفسق الذي يخشى أن
يضيع عليهم دنياهم ودينهم، فيكونوا من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في
الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
أصيبت طرابلس بالعقم من العلماء والفضلاء والزعماء، فلا خلف فيها في
العلم والرشد للشيخ محمود نشابه والشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ عبد الرزاق
الرافعي، والشيخ عبد الله الصفدي ودرويش أفندي الشنبور والمفتي مصطفى أفندي
كرامي الذين أدركناهم في شيخوختهم، ولا للشيخ حسين الجسر والشيخ عبد الله
البركة والشيخ نجيب الحامدي والشيخ خليل صادق الذين أدركناهم في كهولتهم.
وإنما بقي أفراد من الطبقة التي قبل طبقتنا أوسعهم علمًا وفهمًا وإفادة الشيخ
محمد إبراهيم الحسيني وقد جهلت مدينته قيمته فلا ينتفع به إلا أفراد قليلون من بقايا
الطلاب، ومنهم الشيخ محيي الدين الحفار والشيخ عبد اللطيف نشابه، وأفراد
آخرون من طبقتنا ورفاقنا في الطلب، وأكثر هؤلاء وأولئك قد تركوا الدرس
والتدريس، واجتنبوا الكتابة والتصنيف، ومنهم من يشتغل بأمر الدنيا من تجارة
وزراعة لكساد بضاعة العلم، ولم أر في هذه الزورة لطرابلس أحدًا من رفاقي لا
يزال مغرمًا بالمطالعة والكتابة إلا الشيخ محمد رحيم والشيخ عبد المجيد أفندي
المغربي، وليس لأحد منهما ولي في عمله ولا ظهير.
وأما القلمون فلم يبق فيها أولو بقية يستفيد الناس منهم إلا عمي أبو عبد الرحمن
عاصم، فهو يقرأ دروسًا في مسجدنا في بعض الأحيان لمن عساه يوجد فيه، ولكنه
في عامة أوقاته معتزل للناس، لا يكاد أحد يراه إلا في صلاة الجماعة، وقد
انقرض ثلثا أهل القرية وحال الباقين شر مما كانت عليه، وقد كنت قبل الهجرة إلى
مصر أقرأ لهم التفسير ونهاية المحتاج في فقه الشافعية والزواجر، وغير ذلك من
كتب التوحيد والمواعظ والرقائق، وبلغني أنه وجد فيهم رجل يتجرأ على المجاهرة
بالفواحش وارتكاب منكرات السلب والنهب، ويستعين على ذلك برشوة الحكام،
وأما طرابلس، فقد صار الكثيرون فيها يجاهرون بذلك، ومنهم من يدعو الأجانب
إلى داره ويقدم لهم الخمور فيها، ولكن تيقظ بعضهم لتدارك الخطر كما بيناه في
النبذة الثالثة التي قبل هذا من الرحلة، فليحفظ الناس هذا، ولينتظروا عاقبة هذا
التغيير، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ونسأل الله تعالى أن
يتوب عليهم ويجعلهم خيرًا مما كان عليه سلفهم ويغير ما بهم إلى خير منه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________