الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
نقد مشروع تعميم التعليم الأولي
نشرنا في ج 7، 8 من م21 تقريرًا لمشيخة الأزهر في نقد تقرير لجنة
التعليم الأولي بوزارة المعارف لهذا المشروع، وقد طبع في هذه الأيام تقرير آخر
في شأن هذا التقرير لصديقنا عبد الله أفندي أمين ناظر مدرسة المعلمين للتعليم
الأولي في مديرية الجيزة، وهو ممن طلب مراقب التعليم العام منهم إبداء آرائهم فيه،
وقد رأينا أن نقتبس بعض فصول هذا التقرير المفيدة، ولما كان الفصل الأول منه
قد عقد لنقد تسع فقرات بينت فيها اللجنة سوء حال التعليم العام في القطر المصري،
ووجه الحاجة إلى تعميم التعليم الأولي - رأينا أن ننشر أولاً هذه الفقرات، وهي التي
انتقدها، ونقفي عليها بنشر رأيه فيها، وفي كل منهما فوائد ذات قيمة ثمينة لمن
يعنيهم أمر التربية والتعليم، قالت اللجنة مخاطبة وزير المعارف:
الفقرات 4-12 من تقرير اللجنة
4 -
ونعم ما قالت معاليكم فاتحة جلسات هذه اللجنة حين بينتم أن (فشو
الجهل بين جمهور الأمة يؤثر تأثيرًا سيئًا في حال البلاد، وأن ضرره لا يقتصر
على إضعاف الأفراد وتأخيرهم، بل يكون مانعًا كبيرًا وعائقًا عظيمًا في سبيل
الرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويقضي على أعظم ضروب الإصلاح
في مهدها، فلا تثمر ثمرتها ما دام معظم من يشملهم نفعها لا يفهم حقيقتها ولا يدري
كيف يستفيد منها.
5-
والأمثلة على ذلك كثيرة متوافرة في جميع فروع الأعمال الإدارية؛ لأن
الحكومة تضطر في جميع أعمالها إلى أن تسبق بمراحل واسعة حال التعليم التي عليها
جمهور الأمة، فمنها:
في الزراعة: الوسائل التي تتخذ لمنع قلة محصول القطن، مقاومة دودة
القطن ودودة اللوز، اتباع الطرق واستعمال الآلات الحديثة في الزراعة، إدخال
أصناف جديدة من المزروعات في البلاد، توسيع نطاق التعاون في الشؤون
الزراعية، زيادة العناية بالحيوانات، توخي الطرق الفنية في استعمال الأسمدة إلخ.
في الصحة العمومية: نشر القوانين الصحية الأولية بين الناس فيما يتعلق
بهم وبمنازلهم والبلدان التي يقطنون بها، تحسين حال المساكن، وضع تصميمات
للمدن والقرى، تقرير أنظمة لتنظيف المدن والقرى، إصلاح موارد مياه الشرب،
تقليل نسبة الوفيات في الأطفال، تحسين وسائل العناية بالنساء والأطفال من الوجهة
الطبية، التدابير التي تتخذ عند انتشار الأمراض المعدية وغيرها مما يستدعي
السرعة في تداركه، استئصال شأفة الأمراض المتأصلة في البلاد كالبول الدموي
(البلهارسيا) والرمد.
في الأشغال العمومية: المصارف، إصلاح البور من الأراضي، تعمير
الأراضي غير المسكونة، إنفاذ أوامر المناوبات وغيرها من أعمال الري.
في التعليم: ترقية أبسط أنواع التعليم الزراعي والفني.
في الأمن العام: ضبط الجرائم والتبليغ عنها، ويدخل في ذلك الرشوة، ومنع
جرائم الأحداث وصيانتهم من الفسق، منع سم المواشي، مقاومة الهرب من الخدمة
العسكرية، والعمل على إصلاح الجيش والشرطة (البوليس) ، إصلاح طرق الردع
بالعقوبة.
في القضاء: إنشاء محاكم الأخطاط وغير ذلك مما له أثر في إصلاح القضاء.
في الإدارة: توسيع سلطة مجالس المديريات والمجالس البلدية في إدارة
شؤون البلاد، توسيع نطاق الضرائب المحلية، الاستعانة في المسائل الفنية بمشورة
المصالح الأميرية المختصة، الاحتياط لمنع نشوب الحريق بالقرى، إقناع الجمهور
بفوائد التدابير التي تتخذها الحكومة كقانون خمسة الأفدنة ونحوه، إنشاء حلقات
القطن، تحديد مقدار الأراض التي تخصص بزراعة القطن، تسعير المواد الغذائية،
إنفاذ أوامر لجنة مراقبة التموين، قانون المستنقعات والبرك إلخ.
في الشؤون الاقتصادية: بث روح الاقتصاد والعمل على تقليل ديون
الفلاحين، مقاومة كنز الأموال بلا تثمير، توسيع نطاق صناديق الادخار (التوفير)
وأعمال المصارف (البنوك) التجارية، رفع شأن الزراع والتجار المصريين
حتى يستغنوا عن الوسطاء من الإفرنج، ترقية الصناعات، تأسيس صناعات جديدة
إلخ.
في الشئون الاجتماعية: ترقية شأن المرأة، الاهتمام بالطفل، مقاومة
الشحاذة والشرود (التشرد) ، تحسين أحوال المعيشة في بلاد الأرياف والترغيب
فيها.
هذه أمثلة عدة، لا نحتاج في سردها إلى خبرة خاصة، وهي قليل من كثير
من وجوه الإصلاح الإداري والاجتماعي التي تقوم بها الحكومة الآن، وجلي أن
أول عامل يتوقف عليه نجاحها إنما هو تحرير الشعب من ربق الجهل وانتشاله [1]
من هوة الأمية.
6-
وقد جاء في ملحق السير إلدن غورست بكتاب (إنجلترا في مصر)
تأليف اللورد ملنر بعد أن تكلم على عدم بلوغ الحكومة النجاح المنشود في بعض
فروع الإدارة ما ترجمته (على أن السبب الحقيقي يرجع إلى ما هو أبعد من ذلك،
وليس هناك علاج ناجع دائم الأثر إلا النهوض بالشعب عامة وتهذيبه، وإنما يكون
ذلك بانتهاج خطة سديدة في التعليم سداها بعد النظر ولحمتها الخبرة السياسية)
(صفحة 413) .
7-
وقال المسيو شارليتي مدير التعليم العام في تونس في خطبة ألقاها بمؤتمر
أفريقية الشمالية سنة 1908 ما يأتي: إن التقدم الاقتصادي مرتبط بجميع شؤون
الحياة على اختلاف أشكالها، بيد أن الناس لا يستطيعون الوصول إلى هذا التقدم
والانتفاع بمزاياه إلا إذا تربوا تربية تسهل لهم فهم كنهه وتقربه في أذهانهم؛ فإن
مسألة التعليم من أدق الأمور وأشقها، وخاصة في بلد يجب فيه قبل بلوغ أسباب
الحضارة الحديثة اجتياز جميع مراحل الطريق الطويلة التي خلفتها عصور الجهل
المطبق، فإذا لم يتيسر حل هذه المسألة حلاًّ تامًّا؛ فلا أقل من الاقتراب من ذلك الحل
باتخاذ جميع الوسائل التي يتناولها التعليم والتهذيب والقدوة الحسنة.
8-
وقال الدكتور لورنس بولز الذي كان يشغل وظيفة نباتي بوزارة الزراعة
في كتابه: مصر وطن المصريين، صفحة 214 ما ترجمته: إن ما لأرض مصر
من الخصب والقوة لا يزال كامنًا دفينًا؛ إذ هي لم تخط بعد خطوات تذكر نحو القيام
بعملها الطبيعي، وهو إنتاج المحصولات الزراعية، وإرسالها إلى العالم بأسره،
ومما لا يعتوره شك أن وادي النيل سيصير في يوم من الأيام من أعظم الممالك
الزراعية محصولاً؛ لأن به من مختلف الأجواء ما يناسب كل نوع من أنواع
المحصولات المختلفة باختلاف تربة الجهة التي تنمو فيها، ويربطها جميعًا نهر النيل
الذي هو منبع وجودها ومصدر حياتها، ومن هذه البقاع ما ستبقى الزراعة فيه
أزمانًا طويلة الأمد على الحال الفطرية التي تشاهد في الغابات، ومنها ما يرقى
حتى ينتج أنفس المحصولات، ونحن إلى الآن لم نألف افتقار الأعمال الزراعية إلى
المهارة الفنية، غير أن مشاهدة ورقة بديعة من تبغ هافانا، أو القطن الذي يكفي
الرطل منه لصنع خيط طوله 200 ميل أو النباتات التي تزرع خاصة لاستخراج
العقاقير الطبية تكفي لإقناع كل متردد في عظيم فائدة المهارة الفنية في الزراعة
وجليل أثرها، فالزراعة التي من هذا القبيل؛ أي: الزراعة التي تحتاج إلى مهارة
فنية، لها في مصر من الأحوال الملائمة ما ليس في مملكة أخرى، وقد يرى في
بديهة الأمر أن في هذا القول شيئًا من الغلو، ولكنا لم نقله جزافًا، ولكي تنتفع مصر
بهذه المزايا الطبيعية يجب أن يكون بها من العمال من يستطيعون أن يعملوا بعقولهم
وأيديهم معًا، لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن حاجات المستقبل ستكون كفيلة
بإيجاد طائفة جديدة راقية من المصريين؛ أي: بإيجاد شعب يجمع توقد القريحة إلى
ما كان لأجداده من قوة الأجسام) وليس هذا الانتقال المنتظر في المستقبل مقصورًا
على القطر المصري، فإن وزارة المعارف الإنجليزية تقول في رسالة عنوانها
(مسألة المدارس الريفية) : إن عصر القوى العضلية قد فات، ونحن الآن في عصر
انبثق فيه فجر العقول.
9-
وقد قدم للحكومة أخيرا تقريران من لجنتين ألفتا بأمرها: الأولى برئاسة
حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا للنظر في توسيع نطاق التجارة
والصناعة، والثانية برئاسة جناب اللفتننت كولونل بلفور للنظر في تعديل نظام
مصلحة الصحة العمومية بمصر، وجلي أن ضروب الإصلاح المقترحة في هذين
التقريرين ستلقى في الخطوة الأولى من إنفاذها عقبات كبيرة؛ لجهل الناس غاياتها
النبيلة.
10-
فقد جاء في تقرير لجنة توسيع نطاق التجارة والصناعة ما يأتي: إن ما
سبق لنا ذكره من البيان المختص بالصناعة الصغرى المصرية لهو حجة قائمة
وشاهد ناطق على ما بالبلاد من النقص الذي تئن منه أنين الثكلى، وترزح تحت
أثقاله، فإن خلو الأعمال من النظام والترتيب واستهانة العمال بإتقان عملهم من
الأمور الدالة على ضعف التعليم ونقص تهذيب الأخلاق.
فإذا سأل سائل: ما حال القطر من حيث التعليم العام والتربية الخلقية؟
كان الجواب أن أقل بحث في هذا الموضوع يكفي للحكم بأن ما يتبع الآن من الخطط
في التربية والتعليم في مصر يقصر عن الوصول بالبلاد إلى الغرض السامي المقصود
منهما، وعن النهوض بها من الوجهة الخلقية؛ إذ مما لا نزاع فيه مطلقًا أن التعليم لم
يعم حتى الآن جميع طبقات الأمة، وأن التربية المنزلية لا تقتصر مساوئها على
نقصها وتنكبها الغرض المنشود، بل إنها مبنية على أساس فاسد غير وطيد الأركان،
فهي بدلاً من تعويد النشء النظام وحسن التدبير تولد في نفوسهم الإسراف وسوء
الإدارة في الأعمال، وهي تبث فيهم روح الكسل والإهمال، وتصرفهم عن الجد
والنشاط، وهي تغرس فيهم التردد في الأمور أو قلة العناية بها وعدم النظافة، وما
أشبه ذلك من النقائص التي تقف حجر عثرة في سبيل تقدم البلاد من الوجهة
المعنوية، وبذا تعوق تقدمها من الوجهة الحسية أيضًا.
ولما كان من واجب هذه اللجنة اقتراح جميع الوسائل التي تؤدي إلى أقصى
درجات الرقي الاقتصادي، فهي تتشرف بلفت نظر الحكومة إلى ضرورة الإسراع
في إنفاذ مشروعها المختص بتعميم التعليم الأولي، وتوجيه مزيد العناية إليه،
وترى اللجنة أيضًا أن من الواجب عليها التنبيه إلى ضرورة بذل مزيد العناية بأمر
التربية وتقويم الأخلاق وإصلاح أحوال البيئة المنزلية خاصة، فإن تربية المرأة في
هذا المقام من عوامل رقي الأمة بأسرها) .
11-
وأوردت لجنة النظر في تعديل نظام الصحة العمومية قولاً موجزًا في
وصف الحال الحاضرة في مصر فقالت: من المعلوم أنه لا يتيسر رفع شعب من
الشعوب إلى المنزلة التي فيها يعرف لنفسه حقها، ما دام الجو الذي يعيش فيه ملوثًا
بالأقذار، فإننا إذا أجلنا النظر في أنحاء مصر وجدنا أن معظمها تعلوه الأوساخ،
وتحط فيه رحالها الأقذار، فهي كما كانت في قديم الزمان ملطخة بالأمراض على
اختلافها، ولا أمل في أن يقوم أهلها بما عليهم من رفع شأن بلادهم ما دامت
الأمراض تثقل عواتقهم وتخيم على رؤوسهم، إن نسبة الوفيات في الأطفال رائعة،
فثلت أبناء الأمة يموت وهو في سن الطفولة وغضارة الحياة، هذا إلى أن انتشار
الحشرات والهوام بين الفلاحين لم يقل على الرغم مما ثبت حديثًا من أن القمل
وسيلة لنقل التيفوس والحميات الراجعة التي تفتك بالأهلين فتكًا ذريعًا.
وقد أشارت اللجنة بوجوب شن غارة شعواء للقضاء على الجهل والقذارة،
واستئصال شأفة المرض والبؤس، ومما يلفت النظر أنها ذكرت الجهل أولاً، ولم
تعلق أملاً كبيرًا على إصلاح الحال الصحية إصلاحًا وافيًا بالغرض بتلقين أسباب
ذلك لمن بلغوا سن الحلم، فقد قالت:
فإن الحقائق التي وقفنا عليها تدل دلالة واضحة على أن رجال فرقة العمال
المصريين بعد أن يقضوا مع الجيش مدة يضطرون فيها إلى مراعاة أنظمة صحية
خاصة لا يكادون يرجعون إلى مواطنهم بالقرى إلا وهم عائدون إلى سيرتهم الأولى،
فتراهم لا يعمدون إلى بث شيء في نفوس قومهم مما تعلموه من أسباب النظافة،
وكفى بتاريخ الجيش المصري دليلاً على أن ذلك ليس من الغرابة في شيء، فإن
الجندي المصري بالرغم من تدربه على النظام والترتيب، ووقوفه تمام الوقوف على
الطرق الصحية المتبعة في المعسكرات والثكنات لا يكاد يرجع إلى قريته إلا وهو
مندمج في غمار عشيرته من الفلاحين، فلا يمكن تمييزه منهم.
وختمت اللجنة قولها في هذا المقام بأن أوضحت أن أنجع وسيلة يرجى منها
إصلاح الحال لا تكون إلا بالبدء بتعليم الطفل، فإن الطفل المتعلم قد يصبح أستاذًا
لوالديه غير المتعلمين، ويكون بمثابة النواة الأولى التي تنبت منها على مدى الأيام
عوامل رقي الفلاح.
12-
وقد نشرت جريدة (الأخبار) بعددها الصادر في 28 أبريل سنة 917
مقالة بقلم صحفي مصري (علمونا القراءة أولاً) ، وصف فيها الكاتب حال الفلاح
المصري وصفًا ممتعًا لا يخلو من المبالغة، وبين فيها أن مصر لا تحتاج إلى
جامعات جديدة، بل إلى نشر التعليم الأولي بين جمهور أهلها، قال ما نصه:
السواد الأعظم من الأمة المصرية من الفلاحين لابسي الجلاليب الزرقاء، وأكثر
هؤلاء - والحمد لله - لا يعرفون القراءة والكتابة، أما الأفراد القلائل المقيمون في
عواصم القطر، فلا يعتد بهم لقلة عددهم بالنسبة لمجموع الأمة، فإذا أراد واحد من
الفلاحين أن يكتب صكًّا أو جوابًا لا يجد من يكتبه له، فيضطر أن يسافر من قرية
إلى أخرى حتى يعثر بشخص يعرف كيف يفك الخط، وكتابة مثل ذلك الشخص لا
يفك رموزها إلا عالم من علماء الآثار القديمة؛ كالعلامة شامبليون الذي تمكن من
قراءة الخط الهيروغليفي:
نحن المصريين لا نعرف من أصول الصحة شيئًا، وكل من ذهب إلى إحدى
القرى أو العزب يشتم قبل أن يصل إليها ببضعة أميال الروائح الذكية (في أنوف
ساكنيها) ، المتصاعدة من أكوام السباخ القائمة كأهرام الجيزة صنع أجدادنا، وهي
تحيط بالقرية أو العزبة من كل جهاتها، ويرى مجاري جامع القرية ذات المنظر
الجميل تجري إلى الترعة التي يشرب منها أهل القرية بدون اشمئزاز، ويرى شكل
القرى الكئيب والمنازل المتلاصقة ذات الأبواب الضيقة والغرف التي ليس بها
منافذ، ويرى الفلاح نائمًا هو وأولاده بجانب جاموسته، لا فرق بين الجميع.
ومن المضحك المبكي أن اسم الدكتور عند الفلاحين كاسم عزرائيل عند
المتمدنين، فإذا أتى الدكتور إلى بلدة ترى المرضى اختفوا بأسرع من لمح البصر
إما أن يحملوا إلى جهة في الغيط بعيدة، أو يدفنوا في قش الأرز أو حطب القطن
المكوم على الأسطح، ولا يفهم الفلاح (طبعًا) شيئًا اسمه ميكروب أو عدوى.
ومع أنه لا شيء أكثر من الماء عند الفلاحين تجد أكثرهم قذرًا وسخًا، وكأنه يخشى
أن يخلع ملابسه فتحملها تلك المخلوقات الشريفة، وتهرب بها لكثرة ما يقلقها بهرشه
وكرشه، فهو دائمًا أبدًا في قلبها.
ليس في الدنيا فلاح يحافظ على تقاليد الفلاحة القديمة من عهد قدماء
المصريين، أو من عهد أبينا آدم إلا الفلاح المصري، فلو بعث فلاح من أيام
الفراعنة لرأى أخاه فلاح اليوم لم يخن الأمانة ولم يمد يده إلى آلة من آلات الزراعة
التي سلمها إليه بتغيير أو تعديل، فالمحراث والشادوف والطنبور والنطالة الخوص،
كلها بحالتها العتيقة كما تركها له، ووجده أيضًا لم يغير شيئًا من طرق الزراعة
القديمة، فلم يتفنن أو يجتهد، ولم يحسن نوعًا من أنواع المواشي أو المحاصيل،
ولا يزال طعمة التاجر والمرابي مهما سنت الحكومة من القوانين لحمايته.
فهل ينتظر من هذا الفلاح - وهو كل الأمة المصرية - أن يقبل على
الجامعات المصرية التي تدرس الفلسفة والتاريخ أو يقرأ الجرائد والمجلات العلمية،
أو يعلم ما تريد أن تعلمه إياه الحكومة بمنشوراتها ولوائحها؟ فإلى أي شيء تحتاج
الأمة المصرية إذن لترتقي وتعد في مصاف الأمم الحية؟ وما هو الدواء الذي
يشفيها من مرض الجهل، فتصبح أمة وكل فرد من أفرادها يعرف القراءة والكتابة
فتتفتح أذهانها وتعلم وترتقي؟
(أظن أن كل فاضل من القراء يفهم ذلك الدواء)
وهنالك جرائد مصرية أخرى ألحت على الحكومة مرارًا، وصاحت بوجوب
الشروع في تعميم التعليم الأولي والمسارعة إلى ذلك حتى تستطيع أن تخطو فيه
خطوات واسعة في القريب العاجل. انتهى نص الفقرات التسع مع تصحيح عبارات
قليلة صحفية من مقالة الأخبار، ويليها ما كتبه عبد الله أفندي أمين فيها وهو:
التعليم الأولي والإصلاح
نقد الفقرات 4 و5 و6 و7 و8 و9 و10 و11 و12
حاولت اللجنة في هذه الفقرات أن تقيم الأدلة على ما جاء في الفقرة الرابعة
منها من أن فشو الجهل بين جمهور الأمة يؤثر تأثيرًا سيئًا في حال البلاد، وأن
ضرره لا يقتصر على إضعاف الأفراد وتأخيرهم، بل يكون مانعًا كبيرًا وعائقًا
جسيمًا في سبيل الرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويقضي على أعظم
ضروب الإصلاح في مهدها، فلا تثمر ثمرتها ما دام معظم من يشملهم لا يفهم
حقيقتها، ولا يدري كيف يستفيد منها.
ومراد اللجنة من هذا الكلام إقناع أولي الأمر بوجوب الإسراع في تعميم
التعليم الأولي فحسب، وهو مراد شريف جليل، غير أنه شغلها عما سواه، ففاتها
أن تقصير الأهالي في قيامهم بنصيبهم من إصلاح الحكومة الاقتصادي والاجتماعي
والسياسي لقصور مداركهم، ليس أكبر من تقصير الحكومة نفسها وهي رشيدة
عليمة وبينها وبين الشعب (هوّةٌ لا تُعبر)(انظر 14 و15) في قيامها بنصيبها
وحدها من الإصلاح نفسه.
ولا شك أن قواعد الإصلاح وأصوله كلها ما كان منها من عمل الحكومة
وحدها، وما كان منها من عمل الشعب وحده، كسلسلة متصلة الحلقات يأخذ بعضها
بأطراف بعض ويقوي بعضها بعضًا، فلو أن الحكومة كانت مثالاً لشعبها فقامت
بنصيبها من الإصلاح لكان لهم فيها أسوة حسنة، ولغرس هذا النصيب في نفوسهم
سرورًا عظيمًا به، وشوقًا إلى القيام بنصيبهم من الإصلاح.
ولو أن الحكومة أكثرت من مستشفيات الأمراض ومستشفيات الأرماد المتنقلة
والثابتة، وأنشأت حمامات ومغاسل وأحواضًا لخزن المياه وترويقها في القرى؛
لأقبل عامة الشعب على هذه المنشآت إقبالهم الآن وقبل الآن على ما أنشئ من
مستشفيات الرمد، وهو عظيم جدًّا، ولآثروها على طب الشعوذة والتجارب الأهلية
الناقصة الفاسدة، وعلى الاستحمام وغسل الثياب في مياه الترع والمصارف الراكدة،
وعلى شرب ماء النيل العكر، وأصلح ذلك من أجسامهم ونفوسهم وعقولهم أكبر
إصلاح؛ لما فيه من وسائل حفظ الصحة، ومن الانصراف عن العادات السيئة
والتجارب السخيفة والاعتقاد الفاسد فيها.
ولو أن الحكومة قدرت مثلاً مكافأة لمن يبتدع مادة رخيصة جدًّا إذا مزجت
بالتراب جعلته صلبًا صقيلاً ترصف به الأرض وتيسر لها رصف الطرق الزراعية
الرئيسية، وغرست على جانبيها الأشجار الضخمة لدفعت عن الشعب عادية التراب
وما يحمل من جراثيم الأمراض المختلفة، وأظلته فدفعت عنه حرارة الشمس،
ولبعثت بذلك في نفوس الأهالي يقظة وانتباهًا لأمورهم في أشد الحاجة إليها،
انتباهًا لا يمكن أن يكون بالنصح والأوامر وحدها.
إن وسائل تربية الشعوب وتهذيبها كثيرة جدًّا، وكثير من هذه الوسائل من
عمل الحكومات، وهي أقدر على القيام بها من الأهالي وأولى بها منهم، غير أن
سكوت الحكومة وتراخيها وحاجة البلاد الظاهرة إلى العمل النافع فيها يدفع من لا
يقوى على الانتظار من أبناء الأمة العاملين المخلصين إلى القيام بما تحتاج إليه
البلاد غير ناظر ولا منتظر المسؤول عنها، وإن اعترضته في سبيلها العقبات من
قبل استعداد الأهالي وامتعاض الحكومات، وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به مجلس
مديرية الجيزة المحترم من إنشائه مستوصفين متنقلين في أنحاء المديرية سنة
1911م أيام رئيسه المفطور على الإخلاص والصراحة والغيرة والحزم والعزم
والثقة بالنفس وحب الإصلاح حضرة صاحب العزة عبد الرحمن فهمي بك.
أنشأ المجلس المحترم حينئذ هذين المستوصفين المتنقلين؛ لما كان يتوقعه من
الآثار الجليلة التي يتركانها في صحة الأهالي وأخلاقهم وعاداتهم وعقائدهم، وما
أعظم ما تركا من ذلك، فإن الذين عولجوا فيهما يعدون بالألوف، ولعل مصلحة
الصحة تذكر ذلك، وقد كانت أحق بهذا العمل منه غير أنها سكتت ولا تزال ساكتة
حتى مل الانتظار ونفذ الصبر.
إن اللجنة تعلم علمًا يقينيًّا أن التعليم وحده لا يصلح النفوس، فقد نقلت في
الفقرة (21) عن المستر لكي قوله: أجل إن التربية العقلية المحضة لا تحدث
تغييرًا أساسيًّا في خلق الرجال، وتعلم أن الأمة لا تغير ما بها حتى تغير ما بنفوسها،
فلا بد للحكومة الرشيدة التي توصف بأن بينها وبين عامة الشعب (هُوّةٌ لا تُعْبَر)
من أن تسعى جد السعي في البحث عن العلاج الناجح لتغيير شعبها ما بنفوسه،
شعبها المخلص الذي ضربت له اللجنة مثلاً الشعب الهندي؛ إذ نقلت في الفقرة
(19)
من التقرير: وأعني بهم الملايين من الفلاحين الفقراء المساكين الصابرين
الأذلاء الصامتين.
وما تلك الوسائل النافعة؟ تلك الوسائل هي الإصلاح الفعلي كإنشاء
المستشفيات وترويق المياه وغيرها، لا النصائح القولية والأوامر الكتابية التي لا
تغير من نفس ولا تحيي من عمل، لقد آن للحكومة الرشيدة أن تعدل عن الخطة
العتيقة البالية، وهي الإمساك عن وسائل الإصلاح الفعلية خوف زيادة الضرائب،
ولو زيادة طفيفة تقدر بالمليم، وتعمد إلى خطة المعلم الماهر والمربي الحاذق،
فتكون مثالاً حسنًا في الإصلاح لشعبها، فتأخذ بنصره أخذًا صحيحًا إلى منازل
النفع الحقيقية في الجسم والنفس والعقل من أقرب الطرق وأقومها، وألا تظن أن
نشر التعليم الأولي يكفي وحده لهداية الشعب وإرشاده إلى وجوه الإصلاح وحضه
عليها من غير أن تقوم هي بالأمثلة العملية منها فتوفى نصيبها من الإصلاح حقه؟
إنها إن ظنت ذلك وعولت عليه في كل ما تريد من وجوه الإصلاح على
التعليم الأولي وحده، وركنت إليه وألقت العبء كله عليه، خابت الآمال وضاع
الوقت سدًى.
***
التعليم الأولي والعالي
علم الحاكمين وجهل المحكومين
نقد الفقرات 2 و24 و125
استكثرت اللجنة في الفقرة (125)[2] من التقرير ما ينفق على التعليم العالي
بجانب ما ينفق على التعليم الأولي، وأنكرت الفقرة (24)[3] من الخطة التي
انتهجتها الحكومة المصرية - وهي متبعة في عهد المرحوم محمد علي باشا واضع
أساس النهضة الحديثة لمصر ورافع لوائها - بتعليمها الطبقة الراقية للأمة التعليم
العالي قبل تعليمها عامة الشعب (التعليم الأولي بلا شك) وعدت عملها هذا عملاً
مقلوبًا، وضربت لذلك مثلاً قول السير كلنتن دوكنز في الفقرة (2) [4] : إن التعليم
الأولي في مصر شبيه بهرم مقلوب رأسه إلى أسفل.
فكان هذا الاستكثار من اللجنة مع ذلك الإنكار المقرون بهذا المثال نصالاً حادة
تتناولها الحكومة إذا شاءت ومتى شاءت لتخز بها التعليم العالي، وأدلة واضحة جلية
على أن الأقاويل والآراء التي نقلتها اللجنة إلى تقريرها عن كبار المستعمرين قد
تركت فيها أثرًا جعلها ترى التعليم العالي بعين أجنبية لا تستطيع أن ترى بها محل
الحاجة وموضع النفع.
وإن من يحسن الظن باللجنة كل الإحسان - مثلي - لا يجد لها فيما يتلمس
من المعاذير إلا عذرًا واحدًا، وهو ما يخيل إلى المفكر في أول الأمر من أن البدء
بتعليم الولد الصغير التعليم الأولي، ثم التنقل به بعد ذلك في مراحل التعليم الأرقى
موافق سنة النشوء والارتقاء، أجل إن ذلك حق واضح، لكن لا بد معه للولد من
وصي رشيد يقلبه كيف يشاء، وينقله من حال إلى حال كما يريد، وإن ذلك الوصي
الرشيد يجب أن يكون منه؛ ليكون أخبر بحاجاته ومنافعه ومضارّه.
وإن الأمة لكذلك يجب أن يكون فيها ومنها ناس كبار العقول يقودونها إلى
السعادة ويرفعونها إلى أوج العظمة، لذلك كان تعليم طبقة راقية من الأمة علمًا راقيًا
قبل تعليم عامة الشعب العلم القليل موافقًا لسنة النشوء والارتقاء في الأمم، وقد
ضرب لنا التاريخ أمثلة كثيرة قديمة وحديثة دالة على أن أممًا كثيرة نهضت من
عثارها، ونشطت من عقالها بأفراد منها، فالعناية بتكوين أفراد أفذاذ في الأمة
تكوينًا فائقًا أحق وأولى بالتقديم من تعليم عامة الشعب تعليمًا أعظم ما يقال فيه: إنه
أولي.
هذا ما نراه ونشعر به، ولم يسعدنا الحظ قط بأن سمعنا أو قرأنا أن أمة
بأسرها أمسكت عن التعليم العالي جملة حتى تعلمت كلها التعليم الأولي، ثم أخذت
بعد في أسباب التعليم العالي، وإن أوتيت أوصياء حكماء رحماء بصراء أقوياء من
الأجانب.
على أن التعليم العالي لا يزال جنينًا في بلادنا، فأين بضع مدارس أميرية
عالية تدرس فيها بعض العلوم العالية من جامعات كبيرة تدرس فيها كل علوم البشر،
مع أن العلم الذي يدرس في مدارسنا العالية لم يكن له في البلاد من أثر ظاهر
نافع إلا ما كان من علم الطب.
لقد كان للجنة التي رأت حاجتها الشديدة إلى النظر في التعليم بوجه عام
(انظر آخر فقرة 1) أن تفتش عن حل آخر لإمكان تفرغ الحكومة للتعليم الأولي،
ذلك بأن ترى مثلاً أن في وسع الحكومة ضم مدارسها العالية إلى مدرسة جامعة،
وتأليف مجلس إدارة لها يؤلف من رجال الحكومة والأمة، وأن تشترك الحكومة
والأمة معًا في النفقة عليها على نحو الخطة التي خطتها للتعاون بين الحكومة
والهيئات النيابية في التعليم الأولي، فيكون دراجة لنقل التعليم العالي كله من يد
الحكومة إلى يد الأهالي، فتتفرغ الحكومة كل التفرغ للتعليم الأولي، ولا تشغل
نفسها بجامعة لها كما جاء في الفقرة (130) .
أما الهوة السحيقة التي لا تعبر بين المحكومين والحاكمين كما ترى اللجنة في
الفقرتين (14 و15) فالذي حفرها إنما هو التربية المدرسية لا العلم ذاته، فإن
الولد الذي يُنتزع من حضن أمه وأبيه، وينزع عنه زي بلاده، ويلبس الزي
الغربي، ويدفع إلى مدارس قد صبغت بالصبغة الغربية فقرة (2) وفقرة (88)
فيعمر فيها طويلاً لا تقع عينه فيها إلا على كتب سداها ولحمتها الروح الغربي
ومعلمين غربيين، أو ممن خلعوا عنهم رداء الوطنية الصحيحة من قبل، فيشب
على عادات وأخلاق تزهِّده في أمه وأبيه وسائر معاشريه كما تقول اللجنة في الفقرة
(17)
وتبعث فيه الغرور بنفسه، وأما أبعد الشقة وأعمق الهوة بينه وبين أهله لو
أتيح له أن يتم الدراسة في الغرب فيقيم فيه ردحًا من الزمن يفقد فيه لضعفه البقية
الباقية له من سجاياه الوطنية حتى المحمودة منها.
هذه الحال نشاهدها كل يوم في أكثر الشبان والشواب، وقد نسوا جميعًا
معارفهم وعلومهم، وبقي لهم من طرق التربية المدرسية أسوأ ما فيها وأردؤه،
فليست الهوة السحيقة البعيدة الغور بين الطبقة الراقية من المتعلمين وبين عامة
الشعب من تفاوت بينهم في العلم، بل من نقص في تربية الطبقة الراقية النفيسة
التي شوهت بتربية لا تلائم تقاليدنا وأمزجتنا وعاداتنا وحسبنا، دليلاً على ذلك ما
نجده فيمن يتخرجون في مدرسة المعلمين الناصرية ويرسلون إلى أوربا بعد أن
يكونوا صبغوا بصبغة وطنية محضة، فإنهم يعودون وهم إلى آلهم وعاداتهم
وتقاليدهم أقرب منهم إليها قبل أن يغادروا بلادهم؛ لأن العلم وسعة العقل والمدارك
من شأنها أن تنزع من نفس العاقل الوساوس والأوهام والخطأ الذي يدفع بكثير من
ناقصي العلم والمدارك إلى استصغارهم أوطانهم وآلهم، وإكبارهم الغرباء وكل ما
هم عليه لسبق أحرزوه في شيء من العلم والمدنية، حتى تعمّى عليهم الحقائق،
ويخلط عليهم الحابل بالنابل، ويلبس الحق بالباطل.
هذا هو السبب الحقيقي في الهوة بين الطائفتين، لا العلم العالي الذي تخشى
اللجنة انتشاره قبل التعليم الأولي، وإنا لنرجو بعد ذلك أن يكون هذا الخوف قد زال.
حضرت مرة مجلسًا جمعني بفتى ظريف، وبأبيه وعمه وطائفة من أقربائه،
وكان هذا الشاب في زي ظريف، ويحمل عصًا ونظارة ودبوسًا كلها من ذهب،
وأعجب من هذا وذاك أنه يلبس سوارًا من ذهب بساعة من ذهب، وقد جلسنا
طائفتين: إحداهما فيها أبوه وعمه وناس آخرون، والأخرى فيها هذا الفتى وكاتب
هذه السطور وابن عم له أكبر منه سنًّا ومقامًا، وكان هذا الفتى على أبواب السفر
إلى أوربا، وقد ضرب له أبوه على نفسه ثلاثمائة جنيه في كل سنة يتسلمها بيده
وينفقها كيف يشاء وفيما يريد، وهو مع ذلك يراه مقدارًا هينًا، وكنا إذا فتحنا عليه
باب النصيحة والإرشاد حاول إغلاقه واستخف بأبيه وهو على مسمع ومرأى منا، لا
لشيء آخر سوى الفرق بينه وبين زي أبيه والنزعات النفسية فيهما، أما المعارف
والعلوم فهو منها خالي الوفاض بادي الأنفاض قد نسي تلكم القشور التي قد حصلها
منها.
فمثل هذا سيعود من أوروبا وقد قطع آخر خيط يربطه ببلاده كلها لا سيما إذا
عاد وبيده شهادة، وأي خير يرجى من مثله لبلاده؟ وأين هذا الشاب المسكين
المغرور بنفسه من شاب تعلم في مدرسة صبغت بصبغة وطنية كمدرسة المعلمين
الناصرية مثلاً؟ وأتم الدراسة فيها، ثم سافر إلى أوربا.
_________
(1)
المنار: النشل والانتشال في العربية أخذ اللحم من القدر وله آلة عقفاء تسمى المنشال، ويطلق النشل على أخذ اللحم من العظام أيضًا يستعمله كتاب الجرائد في أمثاله من المعاصرين بمعنى الإنقاذ من هلكة حسية أو معنوية ولهذا المعنى في اللغة كلمة فصيحة وهي الانتياش، قال ابن دريد:
إن ابن ميكال الأمير انتاشني
…
من بعد ما قد كنت كالشيء اللقا.
(2)
[نص الفقرة 125] ليس الأمر مقصورًا على قلة مجموع الاعتمادات المخصصة بالتعليم بميزانية الحكومة بالنسبة لما في معظم البلاد الأجنبية، بل إن معظم تلك الاعتمادات ينفق على التعليم الراقي الذي لا ينتفع به سوى طائفة صغيرة ممتازة من الأمة لا تدفع سوى قسم ضئيل من النفقات التي يتطلبها تعليم أبنائها، أما سكان الأقاليم الذين تتوقف ثروة البلاد على كدهم ونصبهم فلا يكادون ينالون قسطًا من التعليم في مقابل الضرائب التي يقع معظمها على كاهلهم، وإذا استثنينا الإعانة التي تمنح المكاتب في المحافظات ومديرية أسوان وقدرها 7300 جنيه وما ينفق على مدارس المعلمين والمعلمات الأولية الأربع وهو 28802 من الجنيهات، وصافي ما ينفق على المدرسة الأولية الراقية للبنين والمدرسة الأولية الراقية للبنات وقدره 4000 جنيه، وصافي ما ينفق على ثلاثة المصانع (الورش) الأميرية وهو 18000 جنيه والإعانة المخصصة ببعض مدارس صناعية غير تابعة للحكومة وقدرها 10410 جنيهات- إذا استثنينا كل هذه المقادير ومجموعها 68000 جنيه أمكن القول بأنه لم يدرج شيء في ميزانية الحكومة لسنة 1918 - 1919 لتعليم طبقات الشعب، على أن معظم هذه المقادير يصرف في مدينتي القاهرة والإسكندرية ثم إن الثمانية والستين من آلاف الجنيهات التي تصرف في تعليم أبناء الشعب يقابلها 49000 جنيه تحصل من إيراد الأراضي والعقار الموقوف للإنفاق على المكاتب الأهلية أي: أن ما تنفقه الحكومة في الحقيقة من إيراداتها الخاصة في كل سنة على تعليم الشعب على نحو 19000 جنيه فقط.
(3)
[نص الفقرة 24] قال المستر أسكويث: (إن الحكم على مقدار رقي الأمة وفوزها في مضمار الحياة يجب أن يبنى على ما يتوافر لدى أدنا طبقاتها من الأمور الحسية والمعنوية) ويرى أنه لم يبن الحكم على ما وصل إليه القليلون من خيرة أفراد الأمة الذين ضربوا في التعليم الراقي بسهم، فإذا أردنا الوقوف على ما يتوافر لدى أدنى طبقات الأمة المصرية من الأمور الحسية والمعنوية وجب علينا أن نلقي نظرة إلى انتشار الأكواخ الحقيرة المبنية من الطين التي تضم بين جدرانها الإنسان وبهيمته وإلى شيوع القذارة والأوساخ وفشو العلل والأمراض وهلاك ثلث الأبناء في طفولتهم وانتشار الأمية بحال رائعة تعادل 96 في المائة من السكان وضيق المجال أمام الأفراد واقنصار كدهم على القوت اليومي، فهل إلى ترقية تلك الأحوال في الأمة المصرية من سبيل سوى تعميم التعليم؟ لا ومن العبث الاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى الرقي المنشود بالبدء بتعليم الطبقات الراقية قبل عامة الشعب أو بالاعتماد على ما يحدث من التأثر الذي ينشأ من اختلاط الطائفة القليلة المتعلمة بطبقات الشعب الجاهلة، بل إن الضرورة تقتضي بالنهوض بالتعليم العام وتتطلب نشر نور العرفان في الأمة
بأسرها:
كتبت على لوح الحقيقة حكمة أن الرقي شريعة الأحياء
ما لي أرى الإنسان يغمض عينه عن نور تلك الحكمة الزهراء
أفجد حتى صار أهلا لاسمه إن حق فخر الناس بالأسماء
أما نال ما تصبو إليه طباعه من درك أعلى ذروة العلياء
أم أعمل المكنون من قواته
…
كي يملأ الدنيا من النعماء
أنى يتوج بالكمال ولم يزل
…
في العلم معظمه من الفقراء
وكأن أهل العلم بين سواده بعض النجوم الزهر في الظلماء
أو بضعة من نسل عوج حولهم
…
جمع من الأقزام والضعفاء
(4)
نص الفقرة 2: لم يعزب عن أذهاننا من بادئ الأمر أن الموضوع يتضمن اعتبارات عدة عظيمة الشأن فقد قال اللورد مورلي العالم والسياسي الشهير: إن مسائل التعليم الأهالي كيفما تنوعت طرق حلها ذات اتصال بحياة الأمم وفنائها، وقال اللورد كرزن أيام كان حاكمًا على الهند:(إن طبيب الأمة الحقيقي هو ذلك الذي يصف لها أنجع وسيلة لتربية أبنائها) وتناول كل من اللورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) والسير أدون غورست في الملحق الذي ذيل به كتاب اللورد ملنر وهو (إنجلترا في مصر) البحث في وجوب اتباع خطة سديدة في التربية ترمي إلى تحسين حال الأمة عامة من الوجهتين العقلية والخلقية (انظر الفقرتين 6، 15) وقال السير كلنتن دوكنز في ملحقة لكتاب اللورد ملنر (صفحة 391) : (إن التعليم بمصر شبيه بهرم مقلوب رأسه إلى أسفل) والحقيقة أن حال مصر المالية كانت إلى عهد قريب تمنع من إعداد وسائل التعليم على اختلاف فروعه، ومن سد حاجة الأمة إليه سدًّا وافيًا وقد أوثر إنفاق ما يمكن بذله من المال في هذه السبيل على توسيع نطاق التعليم ذي الصبغة الأوربية الذي يتلقاه أبناء الأغنياء، فكانت النتيجة أن تعليم العامة لم يوجه إليه من عناية أولى الأمر إلا النزر اليسير لذلك رأينا أن واجبنا غير مقصور على درس موضوع التعليم الأولى من حيث كونه مسألة قائمة بذاتها منعزلة عن سواها، وأنه لا بد لنا من مراعاة ارتباطه بالخطة القويمة التي تتبع في التعليم بوجه عام.