الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاقتداء في الصلاة
بمتخذي الوسطاء والشفعاء عند الله
وما يتبع ذلك في حقِيقة الإسلام والارتداد عنه
س2 جاءنا هذا السؤال من جماعة الموحدين في دمياط ومعه عنوان واحد
منهم لنجيبه، فرأينا أنه يجب نشره والجواب عنه في المنار، وهو:
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب إدارة المنار العامرة.
تحية إخلاص تحدوها إليكم روح الإسلام، وبعد، فلما كانت ثقتنا لا تنحصر
بغير عالميتكم؛ لسعة اطلاعها بنور الإله الواحد الهادي إلى الصراط المستقيم سيما
في معضلات الأمور التي يتوقف صلاح الدين عليها، رجوناكم للسؤال الآتي وهو:
هل تصح الصلاة خلف متخذي الشفعاء والوسائط من مسلمي هذا الزمان أم لا
تصح؟
وفي الختام نلهج جميعًا بتكرار الرجاء ونردده باسم الدين الإسلامي الحنيف أن
لا يضن الأستاذ الإمام على طائفة تقلب وجهها في السماء لهفًا بالجواب على هذا
السؤال وافيًا.
هذا وإن أمكن الأستاذ الإمام نشر الجواب في المجلة الطائر ذكرها بين أقطار
المشارق والمغارب فبها وياحبذا، وإلا فنرجوه جميعًا ألا نحرم من الرد بالعنوان
طيه، ولكم من الله تعالى الشكر والأجر إن شاء الله، والسلام. الموحدون بدمياط.
(ج) الظاهر أن السائلين يعنون بمتخذي الشفعاء والوسطاء عند الله من يصدق
عليهم قوله تعالى في مشركي العرب: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا
يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) ، وإنهم مرتابون في
الاقتداء بهم في الصلاة مع هذا الشرك الصريح؛ لأنهم يأتونه عن جهل ويحسبون
أنه طاعة لله وعمل بدينه، وهم مؤمنون إجمالاً بالله، وبأن كل ما جاء به عنه خاتم
رسله محمد صلى الله عليه وسلم فهو حق، وإيمانهم بذلك إيمان إذعان؛ لأنهم
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون بيت الله من استطاع
منهم إليه سبيلاً، فموضع الإشكال على هذا ما يصدر عنهم من العبادة الشركية لغير
الله تعالى؛ كدعاء الموتى من الصالحين والتمسح بقبورهم، والطواف بها وببعض
النبات والجماد لشفاء الأمراض وتفريج الكروب وتوسيع الرزق، وغير ذلك من
الأعمال والاعتقادات المنافية للتوحيد الذي جاء به الرسل - عليهم الصلاة والسلام
- وهو أن لا يعبد إلا الله، وأن يخلص له الدين وحده، فلا يدعى معه أحد - هل
هي من أعمال الشرك المجمع عليها، المعلومة من الدين بالضرورة، فلا يعذر الجاهل
بها كما يقول المتكلمون والفقهاء، أم هي مما يخفى على غير العلماء الأعلام،
العارفين بحقيقة ما كان عليه الصدر الأول من قواعد الإسلام، فيعد الجاهل بها
والمتأول فيها معذورًا، وإسلامه وما يترتب عليه من الأعمال صحيحًا؟ ثم إذا كان
أس الدين مما يعذر جاهله، وهو توحيد العبادة وإخلاصها لله تعالى بالتوجه إليه فيها
وحده، ولا سيما الدعاء الذي هو مخها ولبابها، فأي قاعدة من قواعده، أو ركن من
أركانه المبنية على هذا الأس لا يعذر الجاهل بها أو المتأول لها؟ وأين إجماع الأمة
على أن التوحيد الخالص شرط لصحة الصلاة والصيام وسائر العبادات، لا يعتد
بشيء منها بدونه مع سائر أصول الإيمان القطعية المعلومة من الدين بالضرورة؟
إننا نعلم بالاختبار الدقيق أن كثيرًا ممن يدعون غير الله تعالى يجهلون كثيرًا
من هذه الأصول الاعتقادية والعملية، وأن منهم من التاركين لأركان الإسلام كلها أو
بعضها والمرتكبين لكبائر الإثم والفواحش المصرين عليها بدون مبالاة بأمر ولا نهي،
ولا انتفاع بذكرى ولا زجر، ومنهم من اعتاد بعض الأعمال الدينية المشروعة
والمبتدعة اعتيادًا، ولكنه لا يعرف الخشوع والخوف والرجاء إلا عند تلك القبور
وذكر أصحابها، أو نحوها مما يعظمون تعظيم عبادة وتدين، وإن لم يسموه كله أو
بعضه عبادة، ومن هؤلاء وأولئك الذين يدعون هؤلاء الموتى خاشعين معتقدين أنهم
يقضون حوائجهم بأنفسهم ولا يخطر في بالهم غير ذلك، ومنهم من يسمي دعاءه
توسلَا واستشفاعًا، ولا سيما إذا أنكر عليه، وهذا عين ما حكاه القرآن عن مشركي
العرب، ولم يعتدّ بإيمانهم حتى يتركوه، وقال فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ
وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) ، ومن هؤلاء الذين يعدون هذا تأولاً المذعنون
للأمر والنهي الملتزمون للفرائض المتأثمون من المعاصي، وفيهم وقع الإشكال فيما
يظهر؛ لأن تكفير المؤمن المتأول المعين فيه خطر عظيم، ولا سيما في هذا الزمان
الذي ترك أكثر أهله علم الدين على الوجه الذي كان معروفًا عند سلف الأمة أهل
الحق.
وإننا نمهد للجواب التفصيلي الشافي تمهيدًا نراه ضروريًّا فنقول:
1-
إن قواعد العقائد وأصول الإيمان وأحكام الإسلام والردة المجمع عليها
والمسائل الاعتقادية والفرعية المختلف فيها كلها مقررة في الكتب، وإن كل مسلم
مكلف أن يعرف الفرائض العينية منها، وأن يبذل جهده فيما في تطبيق الوقائع
والنوازل التي تعرض له على ما عرف، ومن ذلك الجهد سؤال العارفين واستفتاء
المفتين فيما يشكل عليه من ذلك إلى أن يهتدي إلى الحكم المنطبق على الواقعة،
فهذا اجتهاد عملي يطالب به العوام كالعلماء، كالاجتهاد في القِبلة في حالة البعد عن
الكعبة المشرفة، وعدم المحاريب المتواترة.
وإن لأحوال الزمان والمكان تأثيرًا عظيمًا في هذا الاجتهاد العملي؛ من مظاهره
أنك ترى الناس يستنكرون البدع عند ظهورها أشد الاستنكار، وربما بالغوا في ذلك
فجعلوا المباح محظورًا كالبدع في العادات والماعون والأزياء، وكم كتب بعض
المشتغلين بالعلم رسائل وكتبًا في تحريم بعض هذه المستحدثات في أول العهد
بظهورها، كالأحذية الشائعة التي تسمى في مصر بالجزم (جمع جزمة) ، وفي الشام
بالكنادر واللساتيك، ومنها ما يسميه الفريقان (البوتين) ، وإذا شاعت المنكرات
الدينية وعمت تصير عند الجمهور كالمباحات، بل يجعلون بعضها في عداد
المسنونات والشعائر الدينية، ولا سيما في هذا الزمان الذي تُرك فيه الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في أكثر البلاد التي يقطنها المسلمون، بل صار كثير من
المحظورات المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة من المباحات في حكم القانون
المتبع كالربا والزنا وشرب الخمر، فمن يعيش في أمثال هذه البلاد لا يكون نظره في
تطبيق الأعمال على القواعد والأحكام الشرعية كمن يعيش في بلاد نجد التي لا يكاد
يرى فيها شيئًا من أمثل هذه المنكرات فَاشِيًا مألوفًا، ولا يسمع فيها بحكم من حاكم غير
مستند إلى نص من كتب الفقه المعتبرة، لذلك ينقل عن بعض عوامهم تكفير مرتكب
بعض المعاصي ولو غير قطعية، وفي مصر لا يكفر التارك لجميع أركان الإسلام
والمستبيح لأكبر الفواحش بالإصرار على المجاهرة بها بلا مبالاة.
2-
قد اختلف مصنفو الكتب الكلامية والفقهية اختلافًا واسع النطاق في مسائل
الكفر والردة من حيث الأدلة ومن حيث تطبيقها على الأعمال والناس، وناهيك
بتشديد من ناطوا هذه المسائل باللوازم القريبة والبعيدة للأحكام القطعية أو الظنية
القوية كمن كفروا من حقر عالمًا، أو قال أو فعل ما ينافي احترام كتاب شرعي أو
فتوى شرعية بالإلقاء على الأرض، أو القول ببطلان الفتوى أو عدم قبولها؛ إذ عدوا
أن إهانة الفقيه أو فتواه أو الكتاب تستلزم إهانة الشرع، وأن عدم الإذعان والاحترام
للفتوى يستلزم رفض الشرع والدين، وقد يعدون من الإهانة وعدم الاحترام ما ليس
منه في الواقع، أو في عرف الفاعل وقصده، ويوجد في هذه الكتب - ولا سيما
تصانيف المتأخرين منها - من الأقوال ما لا يمكن إثباته شرعًا، وفي بعضها تأييد
للبدع المخلة بأصول الدين وفروعه.
3-
قد وقع من جراء ما ذكر ما نراه ونشكو منه في هذه البلاد من الفوضى في
العلوم الدينية وتطبيقها على الأعمال المجرئة لأحد المنتمين إلى طريق المتصوفة
الغارقين في البدع على كتابة رد على فتوى لشيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية
بالباطل حاول فيه جعل البدعة التي أنكرها الشيخ بالدليل دينًا متبعًا وعبادة مشروعة،
واستدل على ذلك بأحاديث لا تدل عليه ولا هي بصحيحة فيستدل بها على فرض
دلالتها على ما ذكر، ونشر رده الباطل في صحيفة يومية مشهورة قرأها ألوف من
الناس، وسكت علماء الأزهر على ذلك إلى أن أنكره على المتصوفي بعض أهل
الغيرة من الإسكندرية كما علم ذلك من جزء المنار الماضي.
ذلك بأن شيخ الأزهر - وإن كان رئيس علماء الدين في الأزهر وسائر معاهد
التعليم الديني في هذا القطر - ليس له رياسة دينية مطلقة عند المسلمين فيما يأمر
به وينهى عنه أو يفتي به، وإن وافق الحق لا شرعًا ولا قانونًا ولا مواضعة عرفية،
وليس من أعمال مشيخة الأزهر نشر الدين بتلقين عقائده وآدابه وأحكامه لعامة
المسلمين المكلفين بطريقة منتظمة، فيكون من أثر ذلك أن السواد الأعظم قد تلقى
دينه عن مصدر واحد موثوق به، بحيث نجزم بأن كل ما كان معلومًا من الدين
بالضرورة في صدر الإسلام وسائر القرون التي جزم فيها علماء الأصول والفروع
بأن من جحد شيئًا مجمعًا عليه من هذه المعلومات يكون كافرًا، بل نعلم بالاختبار
أن السواد الأعظم من المسلمين في هذه البلاد أميون، وأن المتعلمين في غير
المعاهد الدينية من الأهالي أكثر من المتعلمين فيها، فأما الأميون فأكثرهم لم يتلق
عقيدته من عالم ولا متعلم، بل يسمع بعضهم من بعض أقوالاً وأمثالاً وحكايات
بعضها من عقائد الإيمان، وبعضها من أضاليل أهل الكفر وخرافات أهل الشرك،
وأما المتعلمون في المدارس الدنيوية فكثير منهم تعلموا في مدارس دعاة النصرانية
التي أنشئت لتحويلهم عن دينهم، ومنهم من تعلموا في مدارس الحكومة وغيرها،
أو في أوربة، وجميع المدارس الدنيوية يبث فيها من التعاليم ما ينافي الدين أو يوقع
الريب في بعض عقائده، ولا يكاد يوجد فيها مدرسة يلقن المسلم فيها أصول دينه
على الوجه الحق المؤيد بالدلائل التي تدحض الشبهات الواردة عليه من العلوم
الأخرى، وأما المتعلمون في الأزهر وما يتبعه من المعاهد فأكثرهم يجيء من بلاد
الأرياف ومزارعها متشبعًا بما عليه العوام من الخرافات والأوهام، فتمر عليه
السنون وهو يعالج مبادئ النحو والفقه التي لا تنزع من نفسه شيئًا من الخرافات
والبدع التي عرفها وألفها، ثم يحضر دروس العقائد المعروفة في هذه المعاهد وهي
مختصرات أو ملخصات من كتب جدلية جافة فيما يجب اعتقاده في الإيمان بالله
ورسله واليوم الآخر تحرك الشبهات ولا تكاد تزيد مدارسيها إيمانًا ولا عملاً صالحًا،
ولا تمييزًا للبدع من السنن ولا ترغيبًا في طلب رضوان الله وترهيبًا من عقابه،
وقد يوجد في بعضها مدح لاتباع السنة وسيرة السلف وذم لِمَا ابتدع بعدهم كقول
الجوهرة:
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف
ولكن لم يذكروا في شروحهم وحواشيهم عليها خلاصة ما حوت دواوين السنة
من أحاديث الاعتصام وآثار الصحابة فيه، ولا ما ورد عن السلف من اجتناب البدع
والزجر عنها، بل لا تخلو أمثال هذه الشروح والحواشي مما يخالف السنة ويؤيد
البدعة وأهلها عن قرب أو بعد، كاحتياج الراد على فتوى شيخ الأزهر في هذه
الأيام بما في بعضها من قولهم: إن (أه) من أسماء الله تعالى، كما يوجد ذلك في
بعض كتب الفقه والفتاوى أيضًا، ومنه قول بعضهم باستحباب وضع الستور على
قبور الصالحين قياسًا على ستر الكعبة، والقائل بهذا ليس من أهل القياس الأصولي
الاجتهادي إلا أن يكون القياس الشيطاني الذي يهدم نصوص الكتاب والسنة، ويبني
بأنقاضها صروح البدعة، فقد صحت الأحاديث بحظر تشريف القبور وبناء المساجد
عليها، ووضع السرج والمصابيح عليها، ولعن الذين إذا مات الرجل الصالح فيهم
اتخذوا على قبره مسجدًا، ومقتضى هذا القياس أن هذا مشروع محبوب عند الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقتضي هذه الفتوى أيضًا أن الطواف بتلك
القبور وتقبيلها مشروع، وكل ذلك من عبادة غير الله تعالى، وهل كان الشرك الذي
بعث جميع الرسل لهدمه إلا عبادة غير الله تعالى من الملائكة والأنبياء والصالحين
بدعائهم، والغلو في تعظيمهم بما لم يأذن به الله، وتعظيم ما وضع للتذكير بهم من
صور وتماثيل وقبور؟
4-
لقد كان مثار كل هذه الفوضى والضلالات ما تبع التقليد والتمذهب من
جعل جماهير الناس كل ما دوّن في كتاب دينًا يتبع، ولا سيما بعد موت مؤلفه، وعند
أهل مذهبه أو أهل طريقته إذا كان منتميًا إلى بعض طرق المتصوفة، التقليد نفسه
مختلف فيه عند الأصوليين وأهل النظر والاستدلال والتشديد في منعه من الأمور
الاعتقادية عظيم جدًّا حتى قال من قال: إنه لا يعتد بإيمان المقلد وإن وافق الحق،
وقد ذكر ذلك صاحب الجوهرة في أول عقيدته بقوله:
إذ كل من قلد في التوحيد
…
إيمانه لم يخل من ترديد
ففيه بعض القوم يحكي الخلفا
…
وبعضهم حقق فيه الكشفا
فقال أن يجزم بقول الغير
…
كفى وإلا لم يزل في الضير
وناهيك بحال المختلف في إيمانه والعياذ بالله تعالى، والتقليد الذي أجازه من
أجازه منه00م وأوجبه صاحب الجوهرة هذا، قاصرًا إياه على الأئمة الأربعة
المشهورين في الفقه، وأبي القاسم الجنيد من الصوفية - افتياتًا منه على الشرع -
وهو التقليد في فروع الأعمال، إنما كانوا يعنون به تقليد العاجز عن معرفة الحكم
للمجتهد الموثوق به عنده بأخذه عنه الحكم بدون دليل، وليس منه في شيء أن يجعل
من الدين كل ما ذكر في كتاب ولو لجاهل ليس من أهل الاجتهاد المطلق، ولا ما دونه
كأكثر هؤلاء المتأخرين الذين لم يعنوا قط بالنظر في أدلة الأحكام، وإنما تآليفهم عبارة
عن نقل كل مؤلف منهم لكلام من قبله مع تصرف يفسد النقل في بعض الأحيان،
وأكثر نقل المتأخرين عن قريبي العهد بهم، ولا يكاد أحد منهم ينظر في كلام
المجتهدين، ولا كلام أهل التخريج والاجتهاد في مذاهبهم، بل جعلوا الفقهاء طبقات،
أوصلها بعضهم إلى ست، ويقول مثل ابن عابدين الشهير: إنه من السادسة وأهلها
أسرى النقل، يعني عمن قبلهم لا من الكتاب والسنة، ولا من نصوص الأئمة، وهذه
الطبقات حجب دون الكتاب والسنة، كل طبقة تحجب ما دونها عما فوقها، فالحجب
بين الطبقة السادسة وبين النور المنزل من عند الله ليستضيء به البشر خمسة هي
سادستها، وقد ضرب الإمام الغزالي مثلاً جميلاً ضوء الشمس يدخل من نافذة، فيقع
على مرآة وينعكس عنها على جدار مقابل له، ثم ينعكس عنه إلى جدار ثان مقابل
لها، ثم ينعكس عنه إلى جدار ثالث في حجرة أخرى مظلمة من بابها، ثم ينعكس ما
يقع على هذا الجدار المقابل للباب إلى جدار رابع في حجرته مقابل له، فالنور الذي
يقع على المرآة مثل نصوص الكتاب والسنة عند المهتدين بهما من الأئمة المجتهدين
وغيرهم من السلف؛ لأن الله تعالى شرع دينه وجعل كتابه تبيانًا عامًّا لا خاصًّا
بالأئمة، وإنما الأئمة أقوى فهمًا وأوسع علمًا وأهدى سبيلاً في الاهتداء به وتعليمه
للناس، والنور المنعكس عن المرآة على الجدار الأول مثل العلم الذي يتلقاه الناس عن
الأئمة الذين ينقلون لهم النصوص ويشرحون لهم معانيها وما يستنبط منها، فهو نور
قوي يتبين به الشيء كما هو ما دامت المرآة صافية، وأما ما ينعكس عن هذا النور
على الجدار الثاني وما بعده فبعضها أضعف من بعض ولا تتبين بها الأشياء بجلاء
تعرف به حقيقتها وصفاتها كما ينبغي، بل كثيرًا ما تخفى، وما يقع فيها الاشتباه،
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) .
5-
يشتبه على أكثر الناس الفرق بين تلقي عوام السلف العلم والدين عن أهله
وعن أخذ بعضهم بقول الإمام بدون معرفة دليله، وبين ما نخصه بالذم من التقليد
الأعمى الذي ترتب عليه ما أشرنا إليه من الفوضى الدينية، وقد قلب بعض
المقلدين الوضع وعكس القضية فجعلوا أقوى حججهم على وجوب التقليد وكونه
مصلحة راجحة زعمهم أنه يدفع مفسدة الفوضى في الدين بادعاء الكثيرين للاجتهاد
واتباع الناس لهم، وهم غير أهل لذلك فيكونون ضالين مضلين، فإقفال باب
الاجتهاد قد درأ هذه المفسدة وقيد من ليس أهلاً للاجتهاد باتباع أئمة معدودين قد ثبت
اجتهادهم، ونقلت مذاهبهم بالتواتر.
والحق أن هذه المفسدة التي ذكروها واقعة لا ريب فيها، وإنما كان سببها ما
سموه إقفال باب الاجتهاد؛ أي: إقفال باب الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - ورد كل اختلاف ونزاع إليهما كما أمر الله تعالى، وهذا الاهتداء
ليس معناه أن يكون كل مهتد بهما إمامًا أهلاً لاستنباط أي حكم شرعي احتيج إليه
منهما، فعوام السلف الصالح لم يكونوا أئمة، ولا كان الجماعات ولا الأفراد منهم
يلتزمون تقليد فرد معين من علمائهم، وإنما كانوا كلهم عالمين بالضروري من الدين،
ومتفاوتين في علم غيره، ومن احتاج منهم إلى علم ما لا يعلمه في نازلة وقعت له
سأل عنها من يثق بعلمه ودينه من أهل العلم؛ أي: سأله عن حكم الله تعالى في كتابه
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان أولئك العلماء الذين هم أهل العلم
بالقرآن والسنن يفتونهم بالنصوص إن وجدت، وإلا فبما يستنبطون منها.
وأما عوام الخلف الذين حيل بينهم وبين هداية كتاب ربهم، وما بينه من سنة
نبيهم عليه الصلاة والسلام بتسميتها اجتهادًا يعجز عنه البشر؛ فهم في فوضى
دينية من هذا التقليد الأعمى الذي هو عبارة عن الأخذ بقول كل من ينتمي إلى العلم
أو يدعيه، وإلى العمل بكل قول يوجد في كتاب مخطوط أو مطبوع، ولا سيما كتب
المنسوبين إلى مذاهبهم في الفقه أو الكلام أو التصوف، وناهيك بكتب المشهورين
منهم مهما يكن سبب شهرتهم، ومن اختبر المسلمين في الأقطار المختلفة اختبارًا
صحيحًا يجد أنه يقل في طلاب العلوم الدينية فيهم من يعرف سيرة الإمام الذي
ينتمي إليه في علمه ودينه وأصول مذهبه ونصوصه في الفروع، وإنما حظهم من
المذهب قراءة بعض الكتب التي ألفها بعض المقلدين المنتمين إليه على تفاوت عظيم
في فهمها، وعلى ما في الكثير منها من الخلط والخطأ والغلط كما أشرنا إليه آنفًا،
ويا ليتهم مع هذا يعرفون ما في الكتب المعتمدة في مذاهبهم، ويعملون بما صح نقله
عن المجتهدين، أو من على مقربة منهم.
كلا إن أكثر العوام يقلد بعضهم بعضًا في الدين وعباداته فعلاً وتركًا كما علمت،
ولا يوجد واحد في المائة، ولا في الألف منهم تلقى دينه عن أحد من المنتحلين للعلم
الديني على ما وصفنا من سوء حالهم، ومن جهل أكثرهم بنصوص الأئمة المجتهدين
- كجهلهم بالكتاب والسنة - ولو كانوا متبعين لأولئك الأئمة الكرام لجعلوا أكبر همهم
تذكير الناس وتعليمهم بالكتاب والسنة وإرجاع كل أمر إليهما، وبذلك وحده ترتفع
الفوضى الدينية أو تقل، وتموت البدع أو تضعف، وأقوال المؤلفين المنسوبين إلى
المذاهب ليس لها من السلطان على القلوب والإقناع في العقول مثل ما لكلام الله تعالى
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلامهم متعارض لكثرتهم، فإذا حاججت امرأً
بقول مؤلف منهم حاجك بقول آخر يخالفه كما حاجّ بعض المنسوبين إلى الطريقة
الشاذلية شيخ الجامع الأزهر بنقول كاذبة خاطئة وجدها في بعض كتبهم فيما ابتدعوه
من التعبد بما يسمونه اسم الصدر، وهو إخراجهم من صدورهم صوتًا مشتملاً على
الحرفين اللذين مخرجهم أقصى الحلق (أه) .
بل أقول: إن إقفال باب الاهتداء بالكتاب والسنة وتذكير الناس بهما قد فتح
أبواب الزندقة والمروق من الدين، لا باب الفوضى في الدين أو الفسوق فقط،
وأوسع هذه الأبواب اثنان: الشبهات المادية، واتباع بعض الدجالين المنتمين إلى
التصوف المدعين أنهم عرفوا الحقيقة، أو اتبعوا من عرفها بالكشف، وناهيك بطائفة
البكتاشية والملة البابية والبهائية من أهل هذا الزمان كسلفهم الباطنية من
الإسماعيلية وغيرهم، كل هذه الدواهي الطامة جاءت من ابتداع تلقي الدين عمن
ينسب إلى المذاهب المعروفة، والأخذ بما يقوله أو يكتبه كل منهم أو يوجد في كتبهم
من غير أن يكون تلقينًا للكتاب والسنة وتفسيرًا لما يحتاج إلى تفسير منهما، وجعل
هذا التلقين هو الأصل وما قد يحتاج إليه من فتوى اجتهادية في نازلة جزئية فرعًا
لا يدعى إليه، ولا يجعل سنة متبعة وشريعة ثابتة، ولا يجعل من خلفه إلى غيره
مبتدعًا ولا فاسقًا، ولو فعلوا هذا واستعانوا عليه بما قاله أهل العلم بالتفسير
والحديث لما قطعت الصلة بين الأمة وبين النور الذي أنزله الله إليها، ولأقفل بذلك
باب الفوضى التي هي الأخذ بكلام كل من يعد من المعممين والمؤلفين مهما تكن
أقوالهم ومصادرها، وليس هذا هو الاجتهاد المطلق الذي أقفلوا بابه.
7-
إن هذا الدين المصون كان أصله كتاب الله تعالى، وما بينه به رسوله في
أفعاله وأقواله وأحكامه، ويتوقف فهم الخلف إياه على معرفة سيرة السلف الصالح
من جمهور الصحابة والتابعين وحفظة السنة وعلماء الأمصار في القرون الثلاثة
التي هي خير القرون، ذلك بأن نصوص القرآن والأحاديث تحتمل المعاني المختلفة
بضروب المجازات والكنايات، فيعرض الناس فيها من التأويل ما ليس مرادًا
للشارع، وإنما كان الصحابة أعلم الناس بهذا الدين؛ لأنهم أعلم بلغة القرآن
والحديث التي هي سليقة لهم، ولمشاهدتهم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم
ووقوفهم على أحكامه في بيانه، ولذلك قال علي كرم الله وجهه لابن عباس رضي
الله عنه حين أرسله لمحاجة الخوارج: احملهم على السنة فإن القرآن ذو وجوه.
والمراد من السنة معناها اللغوي؛ أي: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
وطريقته المتبعة من عهده، فإنها عمل لا يحتمل التأويل كما لا يحتمله كلامه وكلام
الله تعالى وسائر الكلام، وقد نهى بعض الخوارج بعضًا عن محاجة ابن عباس
بالقرآن بحجة أنه من قريش الذين قال الله تعالى فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58) يريدون أن لا يغلب في المحاجة والمخاصمة؛ لأنه ألحن بالحجة
وأبرع في مجال الغلب والخصومة، لا أنه صاحب الحق بما يثبته به من البرهان،
على أن القوم كانوا مستدلين، وفيما أخطؤوا فيه متأولين، وما قالوه هو تكأة
المقلدين، الذين يعذرون أنفسهم في الإصرار على ما ظهر لهم من ضلالهم بجهلهم
وحذق خصمهم وخلابته في القول، فالجهل عذر الجاهل العارف والمعترف بجهله
وعجزه، لا المستدل الذي ينافح عن دعواه بسيفه ورمحه.
وعلماء المذاهب التي يدعى الناس اتباعها يقولون: إن الجهل عذر في
المسائل التي من شأنها أن تخفى على العامة، وإن كانت مجمعًا عليها كإرث بنت
الابن مع بنت الصُلب السدس تكملة للثلثين الذي جعل الله تعالى في الكلالة فرضًا
للأنثيين، ولا يجعلونه عذرًا لأحد في المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، قالوا:
إلا إذا كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ في شاهق جبل: وهذا مبني على أن
معاشرة المسلمين كافية لمعرفة الضروري من عقائد الإسلام وأحكامه في العبادات
والحلال والحرام، وذلك كاف في صحة إسلام من يعرفه معرفة إذعان، وإن جهل
جميع المسائل الاجتهادية والنصوص الخفية المجمع عليها، فكيف بالمسائل المختلف
فيها؟ على أنه لا بد أن يعرف الكثير منها.
ولما قال العلماء ذلك القول كانت معاشرة المسلمين كافية لمعرفة حقيقة الإسلام
كما قالوا، ثم تغير الزمان، حتى صار المسلمون أنفسهم حجة على الإسلام،
ويعترف بذلك خطباؤهم على منابر جوامعهم في خطب الجمعة، بقولهم: (لم يبق
من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه) ، وبقولهم: (صار المعروف
منكرًا والمنكر معروفًا) ، وهذا القول حق واقع، ولكن لا يعتبر به القائل ولا
السامع، وقد كان من أثره أن كثيرًا من الناس حتى بعض المعممين منهم لا يطعنون
بدين أحد إلا المعتصم بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، ولا سيما إذا دعا
الناس إلى ذلك وإلى ترك البدع الفاشية، حينئذ ينبذونه بلقب وهابي أو عدو الأئمة
المجتهدين، وأولياء الله المقربين، فالجهال قد اتخذوا من أسماء الأئمة والصالحين
الذين هم أعداؤهم سهامًا مسمومة يرمون بها أولياءهم والمتبعين لهم في الحقيقة؛ لأنهم
يهتدون بالكتاب والسنة مثلهم، فالكتاب والسنة ليسا حجة عندهم ولا هداية لهم، بل
هما يردان بقول كل من ألف كتابًا كتب في طرته أنه العلامة فلان الفلاني مذهبًا،
والعلاني طريقة ومشربًا، فاتباع الكتاب والسنة عندهم ضلال، بل ربما يرمون
صاحبه بالكفر أو الزندقة كما بينا ذلك في غير ما موضع من المنار، وهذا من الخزي
الذي يعد من أغرب جهل البشر، والخذلان الذي يمثل منتهى فساد العقول والفطر،
يتبرأ منه ومن أهله أئمة الأثر والفقه والتصوف والعلماء بدلائل مذاهبهم وطرقهم،
وهو ليس من التقليد الذي أجازه بعض هؤلاء العلماء في شيء، فقد كانوا في خير
القرون لا يعلمون عامة الأمة إلا ما نزله الله تعالى إليها وما بينه به رسولها، ولم يكن
ثم مذاهب تحمل عليها، وإنما كانت مباحث الاجتهاد محصورة في تعليم الخاصة
ومجلس القضاء ونوازل الفتوى في الوقائع، ومن قواعد الأصول عندهم: عدم جواز
الاجتهاد مع وجود نص الكتاب أو السنة في المسألة، وأنه لا حجة في كلام أحد غير
المعصوم، وهم مجمعون على أن الأئمة الأربعة في الفقه وأئمة الصوفية كالجنيد
والشبلي والبسطامي وأمثالهم غير معصومين، وإنما قال بعض الشيعة بعصمة نفر من
أئمة آل البيت.
وجميع هؤلاء العلماء يفضلون سلف الأمة على خلفها في العلم بحقيقة الدين
والعمل به كما تقدم، ويحثون على الاقتداء بهم، ويردون كل ما خالف هديهم
وسيرتهم، ويستدلون به على الابتداع في الدين كما يستدلون بالنصوص، فنحن إذًا
محتاجون في التمييز بين السنة والبدعة إلى معرفة ما كان عليه جمهور السلف
الصالح، ونستمسك به ونرد ما خالفه، ولا سيما ما اتفقوا عليه، وما كان الخلاف فيه
شاذًّا أو ضعيف الرواية أو الدلالة، ولكننا نعذر من أخذ بقول أي عالم من أولئك
الأئمة لاعتقاده صحة دليله، أو أنه هو حكم الله تعالى وإن لم يعرف دليله.
ثبت بالعقل والنقل والاختبار أن العمل بأحكام الدين ومنه القضاء بها والفتوى
في تطبيقها على النوازل الواقعة أقوى بيانًا للمراد بها من القول مهما يكن فصيحًا
جليًّا، فكلام الله أفصح الكلام وأبلغه، ومعنى هذا أنه أعلاه بيانًا وإقناعًا وتأثيرًا، ومع
هذا كان بعض الصحابة يخطئ في فهم بعض أحكامه وفي تطبيقها على العمل كما
أخطأ من تمعك منهم في التراب كما تتمعك الدابة؛ لأنه فهم أن التيمم عن الجنابة
يجب أن يمتاز عن تيمم الحدث، وكما أخطأ من ربط في رحله عقالاً أبيض وعقالاً
أسود ليتبين بالتمييز بينهما طلوع الفجر، ولهذا جعل الله تعالى رسوله - صلى الله
عليه وسلم - مبينًا لكتابه على وصفه إياه بأنه بيان للناس وتبيان لكل شيء ونور
مبين، وتبيين الرسول صلى الله عليه وسلم بأفعاله وأحكامه وفتاويه في
النوازل أقوى وأظهر من تبيينه بأقواله وإن أوتي من النبوة وجوامع الكلم، وصار
أفصح من نطق بالضاد؛ لأن أقواله ذات وجوه تحتمل التأويل كما قال الإمام علي
المرتضى في الكتاب العزيز، بل هي أولى، وتختلف فيها الأفهام كما اختلف
الصحابة رضي الله عنهم في أمره إياهم بأن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة،
ففهم بعضهم أن المراد عدم التأخر عن الوصول إلى بني قريظة في ذلك الوقت
فصلوا في الطريق ولم يتأخروا، وحمل الآخرون الأمر على ظاهره، ولأن العمل
أبعث على القدوة والامتثال، وذلك ثابت بالعقل والتجربة، وأظهر وقائعه في السنة
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتحلل من عمرتهم عقب صلح
الحديبية، كرر الأمر بالقول ثلاثًا ولم يمتثلوا، فاغتم عليه الصلاة والسلام
وكانت زوجه أم سلمة رضي الله عنها معه فذكر لها ذلك مستشيرًا لها فيه،
فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ولا يكلم أحدًا حتى يتحلل من عمرته بنحر هديه
وحلق رأسه ففعل، فاتبعه الناس مسرعين، ولم يقع لهذا نظير منهم.
فعلم من هذا أن أحكام الدين لم تبين تمام التبيين إلا بالسنة العملية، وأن
الصحابة أنفسهم كانوا محتاجين إليها، وكان يختلف اجتهادهم في الأقوال إذا لم تبين
بها، بل كان منهم من تأول النص الصريح في مقام الخصومة انتصارًا لنفسه
ودفاعًا عنها، كما تأول معاوية حديث عمار (تقتله الفئة الباغية)، فقال: إنما قتله
من أخرجه. فرد أمير المؤمنين علي هذا القول حين بلغه بأنه يقتضي أن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل عمه حمزة؛ أي: وجميع من قتل
معه في بدر وأحد وسائر الغزوات، فما تبين من أعمال الدين بالسنن المتبعة فعلاً
وتركًا، فهو الذي لا يسع أحدًا مخالفته، ولا يعذر فيه، وما سواه يعذر فيه الناس
باختلاف الأفهام والتأول مع الاعتقاد وحسن النية.
وقد حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأحداث والوقائع ما لم يكن
في عصره، واختلف الاجتهاد في أحكامها من حيث تحقيق المناط وتنقيح المناط،
أي: من حيث الاستدلال على الحكم ومن حيث تطبيقه على الوقائع بالعمل، والقاعدة
الأصولية في اجتهاد الأفراد من الصحابة وغيرهم أنه ليس حجة في الدين، وإنما
يجب على من اجتهد في مسألة أن يعمل بما ظهر له أنه الحق فيها، والقائلون
بالتقليد يجيزون للعاجز عن الاجتهاد فيما يعرض له مما لا نص فيه أن يأخذ باجتهاد
من يثق به من المجتهدين، وأما إجماع الصحابة فهو حجة عند جميع الأئمة،
والإمام أحمد لا يحتج بإجماع غيرهم، وكان الإمام مالك يحتج بإجماع أهل المدينة
في زمنه؛ أي: زمن التابعين وتابعي التابعين، وإنما يظهر هذا في الشعائر والسنن
العملية المتبعة، لا فيما سبيله الاجتهاد، وجملة القول أن الله تعالى أكمل الدين
بكتابه وبيان رسوله، وكان أهل الصدر الأول من السلف الصالح هم الذين حملوا
إلينا هذا الدين كما سمعوه ووعوه بالقول والعمل، فمعرفته متوقفة على معرفة
روايتهم له وسيرتهم في العمل به.
ولا شك أن العمل بالإسلام عبادة ومعاملة وسياسة وقضاء كان في عهد الخلفاء
الراشدين رضي الله عنهم على أكمل الوجوه، بل قال بعض علماء الأصول:
إن إجماع الخلفاء الأربعة حجة، واحتجوا لذلك بحديث العرباض بن سارية مرفوعًا:
(أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد [1] ، وإنه من يعش منكم
فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) وفي رواية:
(فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن
صحيح. وكذا غيرهما من وجوه وطرق، واختاره النووي في الأربعين، بل ذهب
بعضهم إلى الاحتجاج بسنة الشيخين أبي بكر وعمر، وبعضهم بالاحتجاج بما سنه
عمر؛ أي: سن في خلافته لما ورد في ذلك.
ولبيان وجه هذا مكان آخر يعلم منه أنه ليس على إطلاقه حتى عند القائلين به،
وذكر الحافظ ابن رجب في كتاب (جامع العلوم والحكم)، عن الإمام مالك أنه قال:
قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من
بعده سننًا؛ الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا
تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، فمن اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استبصر بها
فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه
جهنم وساءت مصيرًا. قال: وحكى عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه قال:
أعجبني عزم عمر ذلك. يعني هذا الكلام. وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الكلام
عن مالك، ولم يحكه عن عمر اهـ، ويجمع بين الروايتين بأن مالكًا كان يرويه
تارةً، ويقوله تارةً مقررًا له في نفسه على غير طريق الرواية، فعمل جمهور
الصحابة والتابعين وسياسة الخلفاء الأربعة الراشدين وقضاتهم وإدارتهم لأمور الأمة
في الحرب والسلم، ومعاملة المبتدعة وأرباب الأهواء والثوار الخارجين على أئمة
الحق والعدل، كل ذلك نبراس نهتدي به ونعرف حكم الله تعالى فيه، وحاجتنا إليه في
كل زمان ومكان كحاجة الصحابة - رضوان الله عليهم - في زمن الرسول إلى
مشاهدة أفعاله وسماع أحكامه والوقوف على قضائه وسيرته في الحرب والسلم.
وسنبين - إن شاء الله تعالى - مزية كل خليفة من الأربعة، وحكمة الله تعالى
في ترتيبهم على حسب أعمارهم، وما ترتب على ذلك من المصالح.
***
نتيجة هذه المقدمات
والمقصود من هذه التمهيدات
مكان مسلمي عصرنا من دينهم:
1-
علم مما تقدم أن ما عليه جماهير المسلمين اليوم في أمورهم الدينية
ممزوج بالبدع والضلالات والفسق وترك الفرائض وفشو الفواحش وكثرة الشبهات
إلا في بلاد قليلة، فمعاشرة المسلمين لا يمكن أن يعرف منها حقيقة دينهم في مثل
القطر المصري أو الحجازي، دع ما دونهما في العلم والعراقة في الإسلام، وأن نجوم
هذه البدع بدأ في خلافة عثمان، فما كان عليه المسلمون قبلها فهو الإسلام الخالص،
وما كان في خلافة علي من معاملة الخارجين عن الإسلام باسم الإسلام، والخارجين
من المسلمين على أئمة الحق بالشهوات أو الشبهات، والمبتدعين فيه ما ليس منه
بالتأويلات، فهو الحق الذي يهتدى في أمثال هذه المشكلات، والنور الذي يستضاء به
في دياجير الظلمات، وعليه جرى علماء السلف الصالح من حملة السنة وأئمة العترة
ورواة الآثار، وأهل الاجتهاد الصحيح من علماء الأمصار.
مصادر الإسلام وحملته وكتبه:
2-
إن دين الله الإسلام هو كتابه تعالى وما بينه من سنة رسوله بالقول
والعمل الذي كان عليه جمهور الصحابة والتابعين وأئمة عترة النبي - صلى الله
عليه وسلم - قبل حدوث الفتن وإحداث البدع وفي أثنائها، وحملته إلى الأمة هم
الذين حفظوا الكتاب والسنة، وصنفوا الكتب في الأخبار والآثار وسيرة أهل الصدر
الأول، وميزوا صادقها من كاذبها وصحيحها من سقيمها، وأئمة الأمصار في القرون
الثلاثة الذين بينوا للناس طرق فهم النصوص والاستنباط منها، فما أجمعوا عليه من
أمر الدين فهو الذي لا يسع مسلمًا تركه، وما اختلفوا فيه يرد إلى الكتاب والسنة كما
أمر الله تعالى بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي: مآلاً
وعاقبة، والرد في الأمور العامة منوط بأولي الأمر، وفي الوقائع الخاصة
بعمل كل فرد بما ظهر له الدليل على صحته، فإن لم يكن من أهل الدليل عمل بما
يفتيه به من يثق بعلمه بالكتاب والسنة ودينه في الاهتداء بهما.
عمل جمهور السلف حجة وهدى:
3-
عمل جمهور السلف الصالح حجة فيما يختلف أهل النظر والاستدلال فيه
باجتهادهم، أو اختلاف أفهامهم وتأويلهم للنصوص، ولكننا نعذر المخالف لجمهور
السلف بالاجتهاد والتأول إذا علمنا من حاله أنه مؤمن بأن كل ما جاء به الرسول من
أمر الدين حق، ومسلم مذعن لذلك على الوجه المبين في المقدمات، وحينئذ نعامله
معاملة المسلمين في الصلاة معه، وفي أحكام النكاح والإرث وغير ذلك مع الرد
عليه ومجادلته بالتي هي أحسن، والتحذير من بدعته إذا كانت مخالفته ابتداعًا، أو
فسقه إذا كانت فسقًا، مهتدين في ذلك بما كان أهل الصدر الأول يعاملون به
المنافقين والمؤلفة قلوبهم من ضعفاء المسلمين الذين قبلوا أحكام الإسلام، والخوارج،
والمبتدعة المتأولين، مثال ذلك أننا لا نعتد بإسلام أحد يكذب القرآن، أو يستحل
مخالفته، وإنما نعذر من يفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا لفهم السلف مع التسليم
والإذعان النفسي لكل ما فيه ولو بحسب فهمه، ولا نعتد بإسلام من يكذب الرسول
أو يستحل مخالفته فيما يعتقد هو أنه جاء به من دين الله، ولكننا نعذر من لم يصدق
رواية بعض الأحاديث لشبهة عنده في المتن أو السند، فكذب مضمونها أو خالفه
لذلك، وإن صح عندنا، ونرد عليه بالتي هي أحسن، فقد أمرنا بدرء الحدود
بالشبهات، وأولى الحدود أن يدرأ حد الردة والخروج من الملة.
بم يكون الارتداد عن الإسلام:
4-
إنما جعل العلماء المتقدمون مدار الارتداد عن الإسلام على جحد المجتمع
عليه المعلوم بالضرورة من أمر الدين؛ لأن الجهل عذر عندهم والمدار في صحة
الإسلام الإذعان النفسي والعملي لأحكامه، وهو فرع العلم بها، ولذلك صرحوا بأن
من نشأ في شاهق جبل أو كان حديث عهد بالإسلام يعذر حتى بجحده المعلوم من
الدين بالضرورة عند جمهور المسلمين؛ لأنه ليس معلومًا عنده ولم يصدقوا الناشئ
بين المسلمين، أو من طال عهد اختلاطه بهم بعد الإسلام إذا جحد شيئًا وادعى
الجهل ليتنصل من الحد مثلاً ، وقد بينا في المقدمات أن معاشرة المسلمين في أكثر
البلاد الإسلامية في هذه الأزمنة لا تقتضي معرفة حقيقة الإسلام في عقائده وعباداته
الخالية من البدع وسائر أحكام الحلال والحرام، وإنما يعلم إسلام المرء بإذعانه
وخضوعه لما علم أنه من الإسلام، ومن كان هكذا فعلاج ما يجهله تعليمه وإقامة
الحجة عليه، وقد جربنا هذا العلاج فشفي به كثيرون من أدواء الشرك والابتداع
والشكوك والأوهام، فالسليم الفطرة ذو الجهل البسيط يشفى بسرعة عجيبة، وإنما
يعسر شفاء أصحاب الجهل المركب الذين أخذوا شيئًا من قشور الكلام والفقه
وتأويلات أدعياء الفقه والتصوف، فهم يردون بها الآيات الصريحة والأحاديث
الصحيحة وسيرة السلف الصالح (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ، وهذا
هو البلاء المبين الذي أضاع الإسلام، ولا علاج له إلا بناء التعليم الإسلامي في
مدارسه وغيرها على التفسير والحديث وسيرة السلف الصالح وتلقين كل مسلم ما
تقدم تقريره في ذلك.
معاملة المبتدعة والمنافقين والفاسقين:
5-
إننا على كوننا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة فيما يأتيه جاهلاً أو متأولاً
نحتاط لديننا، فيمن نعلم بالاختبار الشخصي أنهم على شيء من الشرك الجلي أو
النفاق من غير أن نفرق الجماعة، أو نحدث الفتن بين المسلمين، فقد كان النبي -
صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة كحذيفة بن اليمان يعرفون بعض المنافقين
بأعيانهم، ولا يجابهونهم بذلك، ولا يخبرون الناس به رجاء أن يصلحوا ويوقنوا
بطول معاشرة المسلمين، وكان علماء الصحابة والتابعين يصلون مقتدين بأئمة
الجور من بني أمية وعمالهم، والأسوة الكبرى في هذا الباب سيرة علي - كرم الله
وجهه في الخوارج ومعاوية وأنصاره، وإنني على هذا لا أصلي مقتديًا بمن أعلم
باختباري الشخصي أنه مشرك أو كافر بغير الشرك، وإن كان يظهر الإسلام ولا
أعطيه شيئًا من الزكاة الواجبة إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم، فهذا ما عندي من
الجواب عن سؤال الموحدين في دمياط كثرهم الله تعالى وبارك فيهم.
وإنني أتبع هذا ببيان سيرة السلف الصالح فيما ذكر من أمر الابتداع
والاختلاف في الدين وأهله من أصحاب الأهواء وغيرهم، ثم أقفي عليها بما
أراه نافعًا في الاقتداء بهم، عسى أن يهتدي به الغلاة في الدين والمفرطون فيه،
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
_________
(1)
وفي رواية: (ولو عبدًا حبشيًّا) وهذا في الأمراء والحكام الذين يوليهم الإمام الأعظم، فلا ينافي أحاديث حصر الأئمة في قريش كما نقله الحافظ ابن رجب وغيره في شرح الحديث، وأيدوه بحديث علي عند الحاكم والدارقطني مرفوعًا وموقوفًا:(وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيًّا فاسمعوا له وأطيعوا) وذهب بعض العلماء أنه إنما ذكر العبد الحبشي على طريق ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه كما قال في حديث الترغيب في بناء المساجد: (من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة) رواه أحمد عن ابن عباس بسند صحيح، ويستحيل أن يكون المسجد كمفحص القطاة وهو المكان الذي تفحص برجلها وتبيض فيه، والأمة مُجمعة على أن العبد؛ أي: المملوك - كما هو المتبادر هنا - لا يجوز أن يكون الإمام الأعظم صاحب الولاية العامة على المسلمين، وأن يلي ما دون ذلك من ولاية الأمر، وقال بعضهم: إن في هذا الحديث وما معناه إشارة إلى ما كان في الأمة بعده من ولاية العبيد والمماليك.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شرح قاعدة
لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب
وبيان عدم كفر المبتدع في الدين جاهلاً أو متأولاً
(1)
هذه القاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة الذين يصدق عليهم هذا القول، لا
من يسمون أنفسهم بهذا الاسم ليتميزوا من المعروفين بأسماء أخرى، وهي تذكر في
بعض العقائد، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيقًا نفيسًا مطولاً فيها ذكره في
سياق تخطئة الرافضة في سب الصحابة رضي الله عنهم، وبيان أن الرد
عليهم وعلى كل مخطئ في الدين يجب أن يقصد به بيان الحق وهداية الخلق دون
التشفي والانتقام، وذكر أن الكلام في هذا مبني على مسألتين وبين ذلك بما نصه:
إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقول الخوارج، بل ولا تخليده
في النار، ومنع الشفاعة فيه كما تقوله المعتزلة.
الثانية: أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول لا يكفر ولا يفسق إذا اجتهد
فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من
الناس كفروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين
لهم بإحسان ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال
أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها؛ كالخوارج والمعتزلة
والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي
وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقًا، ثم
يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج
والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة
الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم
تناقض ذلك.
ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن
هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل
والتأويل [1] ، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في
حقه، وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه، وإذا لم يكونوا في نفس
الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيستغفر لهم ويترحم عليهم،
وإذا قال المسلم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ،
يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله،
فخالف السنة أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم،
وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا
كفارًا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة
المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من
أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار.
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السنة فيهم
بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - علي بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما
خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة، قال لهم علي بن
أبي طالب رضي الله عنه: إن لكم علينا أن لا نمنعكم من مساجدنا ولا حقكم
من الفيء. ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، فرجع نحو نصفهم، ثم قاتل الباقي
وغلبهم، ومع هذا لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالاً، ولا سار فيهم سيرة
الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي والصحابة في
الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على علي ذلك، فعلم
اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام.
قال الإمام محمد بن نصر المروزي: وقد ولي علي رضي الله عنه قتال
أهل البغي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى، وسماهم مؤمنين،
وحكم فيهم بأحكام المؤمنين، وكذلك عمار بن ياسر. وقال محمد بن نصر أيضًا:
حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا يحيى بن آدم، عن مفضل بن مهلهل، عن الشيباني
عن، قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي حين فرغ من قتال
أهل النهروان فقيل له: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. فقيل: فمنافقون؟
قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا
فقاتلناهم. وقال محمد بن نصير أيضًا: حدثنا إسحاق، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن
عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: قال رجل: من دعي إلي البغلة الشهباء يوم قتل
المشركون؟ فقال علي: من الشرك فروا. قال: المنافقون؟ قال: إن المنافقين لا
يذكرون الله إلا قليلاً، قال: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم.
قال إسحاق: حدثنا وكيع، عن أبي خالد، عن حكيم بن جابر قال: قالوا لعلي حين
قتل أهل النهروان: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قيل: فمنافقون؟ قال:
المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم حاربونا فحاربناهم
وقاتلونا فقاتلناهم.
قلت: الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليًّا قال هذا القول في
الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي -
صلى الله عليه وسلم في ذمهم والأمر بقتالهم، وهم يكفرون عثمان وعليًّا ومن
تولاهما، فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرًا ودارهم دار كفر، فإنما دار الإسلام
عندهم هي دارهم. قال الأشعري وغيره: أجمعت الخوارج على تكفير علي بن
أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا قاتلهم علي لمَّا بدأوه بالقتال فقتلوا عبد الله
بن خباب، وطلب علي منهم قاتله، فقالوا: كلنا قتله، وأغاروا على ماشية فقتلوا
الناس، ولهذا قال فيهم: قوم قاتلونا فقاتلناهم، وحاربونا فحاربناهم. وقال: قوم
بغوا علينا فقاتلناهم.
وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء، فإنهم بغاة على جميع
المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع
شرهم إلا بالقتال، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق، فإن أولئك إنما
مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء
يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة
إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن، ومع هذا فقد صرح
علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارًا، ولا منافقين، وهذا بخلاف ما
كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفرائيني ومن تبعه يقولون: لا نكفر من
يكفرنا، فإن الكفر ليس حقًّا لهم، بل هو حق لله، وليس للإنسان أن يكذب على من
يكذب عليه، ولا أن يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل ولو استكرهه
رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو
تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى
نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن
نكفر عليًّا، وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين، فالظاهر أنه كان يوم النهروان
أيضًا.
وقد روي عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا، قال إسحاق بن
راهويه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سمع
علي يوم الجمل ويوم صفين رجلاً يغلو في القول، فقال: لا تقولوا إلا خيرًا إنما هم
قوم زعموا أنَّا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم. فذكر لأبي جعفر أنه
أخذ منهم السلاح فقال: ما كان أغناه عن ذلك. وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن
يحيى، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن راشد، عن مكحول: أن أصحاب علي
سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية: ما هم؟ قال: هم المؤمنون. وبه قال أحمد بن
خالد، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الواحد بن أبي عون، قال: مر علي
- وهو متكئ على الأشتر - على قتلى صفين، فإذا حابس اليماني مقتول فقال
الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه
علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمنًا. قال علي: والآن هو مؤمن. قال: وكان
حابس رجلاً من أهل اليمن من أهل العبادة والاجتهاد. قال محمد بن يحيى: حدثنا
محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع، عن أبي مطر قال: قال علي: متى ينبعث
أشقاها؟ قيل: من أشقاها؟ قال: الذي يقتلني. فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس
علي رضي الله عنه وهَمَّ المسلمون بقتله، فقال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئت
فالجروح قصاص، وإن مت فاقتلوه. فقال: إنك ميت. قال: وما يدريك؟ قال:
كان سيفي مسمومًا. وبه قال محمد بن عبيد، حدثنا الحسن - وهو ابن الحكم النخعي
- عن رياح بن الحارث قال: إنا لبوادٍ، وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن
ياسر، إذ أقبل رجل فقال: كفر والله أهل الشام. فقال عمار: لا تقل ذلك فقبلتنا
واحدة ونبينا واحد، ولكنهم قوم مفتونون، فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق.
وبه قال ابن يحيى. حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الحسن بن الحكم، عن رياح
بن الحارث، عن عمار بن ياسر قال: ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة،
ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم. قال ابن يحيى: حدثنا يعلى، حدثنا مسعر، عن عبد
الله بن رياح بن الحارث قال: قال عمار بن ياسر: لا تقولوا: كفر أهل الشام،
قولوا: فسقوا، قولوا: ظلموا. قال محمد بن نصر: وهذا يدل على أن الخبر الذي
روي عن عمار بن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان: هو كافر. خبر باطل لا يصح؛
لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دم عثمان،
فهو لتكفير عثمان أشد إنكارًا، (قلت) : والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك
أنكر عليه علي رضي الله عنه وقال: أتكفر برب آمن به عثمان؟ وحدثه بما
يبين بطلان ذلك القول، فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولاً قد رجع عنه حين تبين
له أنه قول باطل.
ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم،
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة كانوا يصلون خلف
نجدة الحروري، وكانوا أيضًا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلمُ
المسلمَ، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن
مسائل، وحديثه في البخاري، وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة،
وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان، وما زالت سيرة
المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين، كالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه
هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة،
وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه؛ في الحديث الذي
رواه أبو أمامة. رواه الترمذي وغيره؛ أي: أنهم شر على المسلمين من
غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرًّا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم
كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل
أولادهم مكفرين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة، ومع
هذا فالصحابة والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين، ولا اعتدوا
عليهم بقول ولا فعل، بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة ، وهكذا سائر فرق
أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم، فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة
كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، مع أن حديث
الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه
غيره أو صححه، كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن، وروي من
طرق، وليس قوله:(ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة) أعظم من قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً} (النساء: 10)، وقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ
نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّّهِ يَسِيراً} (النساء: 30) ، وأمثال ذلك من النصوص
الصريحة بدخول من فعل ذلك النار، ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب،
أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم،
بل المؤمن بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا
أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب،
فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب، وأما ذلك فليس متعمدًا للذنب، بل هو
مخطئ، والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، والعقوبة في الدنيا تكون لدفع
ضرره عن المسلمين، وإن كان في الآخرة خيرًا ممن لم يعاقب، كما يعاقب المسلم
المتعدي للحدود، ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى، والمسلم في الآخرة
خير منهم.
وأيضًا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة، ويصد عن
الحق الذي يخالف هواه، فهذا يعاقبه الله على هواه، ومثل هذا يستحق العقوبة في
الدنيا والآخرة، ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي
وقاص أنه قال: نزل فيهم قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الفَاسِقِينَ * الَّذِينَ
يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (البقرة: 26-27) ، فقد يكون هذا قصده، لا
سيما إذا تفرق الناس، فكان منهم من يطلب الرياسة له ولأصحابه، وإذا كان المسلم
الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياءً، وذلك ليس في سبيل الله، فكيف
بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها، فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية،
وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله، لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا
فيه، ولهذا قال الشافعي: لأن أتكلم في علم يقال لي فيه: أخطأت، أحب لي من أن
أتكلم في علم يقال لي فيه: كفرت.
فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهم
يخطئون ولا يكفرون، وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرًا، وقد يكون
كفرًا؛ لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق، والآخر لم يتبين له ذلك، فلا
يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر [2] إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله.
والناس لهم فيما يجعلونه كفرًا طرق متعددة، فمنهم من يقول: الكفر تكذيب
ما علم بالاضطرار من دين الرسول. ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك،
ومنهم من يقول: الكفر هو الجهل بالله. ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل
بالموصوف، وقد لا يجعله، وهم مختلفون في الصفات نفيًا وإثباتًا، ومنهم من لا
يحده بحد، بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله
واليوم الآخر جعله كفرًا، إلى طرق أخر. ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة،
فتكذيب الرسول كفر وبغضه وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند
الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف، إلا الجهم ومن وافقه
كالصالحي والأشعري وغيرهم، فإنهم قالوا: هذا كفر في الظاهر، وأما في الباطن
فلا يكون كفرًا إلا إذا استلزم الجهل بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق
بالرب، وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل، ولا يكون في القلب
بعض الإيمان، وهو خلاف النصوص الصريحة وخلاف الواقع، ولبسط هذا
موضع آخر.
والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه، وإذا كان الذنب
متعلقًا بالله ورسوله، فهو حق محض لله، فيجب على الإنسان أن يكون في هذا
قاصدًا لوجه الله، متبعًا لرسوله؛ ليكون عمله خالصًا صوابًا، قال تعالى: {وَقَالُوا
لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 111-112)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125)، قال المفسرون وأهل اللغة: معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله،
وهو محسن في عمله. وقال الفرّاء في قوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} (آل
عمران: 20) أخلصت عملي. وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله، وهو كما
قالوا: كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر، وهذا المعنى يدور عليه القرآن، فإن الله
تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر، والأول هو
إخلاص الدين والعمل لله، والثاني هو الإحسان والعمل الصالح، ولهذا كان عمر
يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل
لأحد فيه شيئًا. وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود: 7) قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا
أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم
يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا،
والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هما أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من
أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغى به وجه الله، وأن يكون مطابقًا للأمر،
وفي الحديث: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فينبغي أن يكون عالمًا بما
يأمر به، عالمًا بما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا
فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه) [3] ، فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر،
والحلم مع الأمر، فإن لم يكن عالمًا لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان
عالمًا ولم يكن رفيقًا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا
يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى لموسى
وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) ، ثم إذا أمر أو
نهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17) ، وقد أمر الله نبيه بالصبرعلى أذى المشركين في غير موضع،
وهو إمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولاً أن
يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور وإقامة
الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك
خطيئة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم
إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار
لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر
على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات
المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار
لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم ورياستهم، وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون
كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان
مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً
سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله
ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء
أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم،
ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا. وبلغة المغل: هذا (بال) هذا (باغي) لا
ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله.
ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) ، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة،
وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة لله والمعاداة لله، والعبادة
لله والاستعانة بالله، والخوف من الله والرجاء لله، والمنع لله والإعطاء لله، وهذا
إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمرُه أمرُ الله، ونهيهُ نهيُ الله، ومعاداته معاداة الله،
وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه،
فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله،
ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب
إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له
ويغضب له هو السنة، وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق
المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله
هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو
فعل ذلك شجاعة أو طبعًا، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله، ولم يكن مما هو في سبيل
الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق أو السنة هو كنظيره، معه حق وباطل وسنة
وبدعة؟ وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وكفر بعضهم بعضًا،
وفسق بعضهم بعضًا، ولهذا قال تعالى فيهم: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 4-5)، وقال تعالى:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) ، فاختلفوا [4] كما في سورة يونس [5]
وكذلك في قراءة بعض الصحابة، وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين
أنهم كانوا على دين الإسلام، وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على
الكفر، وهذا ليس بشيء، وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن
عباس، بل قد ثبت عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على
الإسلام، وقد قال في سورة يونس:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (يونس: 19) ، فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد، فعلم أنه
كان حقًّا.
والاختلاف في كتاب الله على وجهين، أحدهما أن يكون كله مذمومًا كقوله:
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة: 176) ، والثاني أن
يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (البقرة: 253) ، لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع
مذموم كقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:
118-
119) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هلك من كان قبلكم
بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) ، ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع
بأنه كله مذموم، قال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما كفر بعضهم بكتاب
بعض، والثاني تبديل ما بدلوا، وهو كما قال، فإن المختلفين كل منهم يكون معه
حق وباطل، فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل
ما بدل، فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين، ولهذا ذكر كل من السلف أنواعًا من
هذا) ثم قال المؤلف بعد ذكر ستة أنواع من اختلاف أهل الكتاب حذفناها للاختصار
ما نصه:
واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط [6] فالخارجي يقول: ليس الشيعي على
شيء. والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء. والقدري النافي يقول: ليس
المثبت على شيء. والقدري الجبري المثبت يقول: ليس القدري النافي على شيء.
والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء. والمرجئة تقول: ليست الوعيدية
على شيء. بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية
المنتسبين إلى السنة، فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء. والكرامي يقول:
ليس الكلابي على شيء. والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء. والسالمي
يقول: ليس الأشعري على شيء. وصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتابًا في
مثالب الأشعري، وصنف الأشعري كابن عساكر كتابًا يناقض ذلك من كل وجه،
وذكر فيه مثالب السالمية، وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لا سيما وكثير
منهم تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي
يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئًا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك،
ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي
حنيفة شيئًا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة،
وهذا من جنس الرفض والتشيع، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء،
لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة.
والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن يكون
أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، يدور على ذلك
ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر
لشخص انتصارًا مطلقًا عامًّا إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الطائفة
انتصارًا مطلقًا عامًّا، إلا للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الهدى يدور مع
الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا اجتمعوا
لم يجتمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجتمعون على
خطأ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأئمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين
الذي بعث الله به رسوله ليس مسلمًا إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان
ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة
في الإمام المعصوم، ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي
بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول
والفروع، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة
والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلا بد أن يكون قوله إن
كان حقًّا مأخوذًا عما جاء به الرسول، موجودًا فيما قبله، وكل قول قيل في دين
الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم، بل قالوا
خلافه، فإنه قول باطل.
والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم،
وإنما اختلفوا بغيًا، ولهذا ذمهم الله وعاقبهم، فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين، بل
كانوا قاصدين البغي، عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به، ونظير
هذا قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19)، قال الزجاج: اختلفوا للبغي لا
لقصد البرهان. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ العِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ} (يونس: 93)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ
الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} (الجاثية:
16-
20) ، فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم
العلم والبينات، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم، وهذه
حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر
لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لعل الأصل: ولو مع الجهل والتأويل.
(2)
لعل الأصل: يكفره.
(3)
المنار: قوله: وفي الحديث إلخ، لم أر الحديث بهذا اللفظ في شيء في دواوين السنة ولا
فيما جمع منها ككنز العمال والمصنف بحر واسع، وفي معناه حديث:(من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف) رواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية عمرو بن شعب عن أبيه عن جده، وفي سنده
سالم بن ميمون الخواص ضعيف لا يحتج به ولا يكتب حديثه، روى عن المثنى بن الصباح الفارسي وهو ضعيف مختلف فيه، قال الإمام أحمد: لا يسوى حديثه شيئًا وقال ابن معين: رجل صالح يكتب حديثه ولا يترك، لكن رواه الديلمي من حديث أبان عن أنس مرفوعًا بلفظ:(لا ينبغي للرجل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى تكون فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عالم فيما يأمر، عالم بما ينهى، عدل فيما يأمر، عدل فيما ينهى)، وذكر في الإحياء للغزالي:(لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه)، قال الحافظ العراقي: لم أجده هكذا، وذكر حديث البيهقي.
(4)
يوشك أن يكون قد سقط من هنا شيء ولو بعض آية البقرة التي أورد جملة منها وهي: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً](البقرة: 213) وبعده: [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ](البقرة: 213)، أي: كان بعثهم بعد الاختلاف الذي صرَّح به آية يونس وسيذكرها، وفي قراءة أبي بن كعب الذي أشار إليه المصنف بقوله: بعض الصحابة، ولعله قصد بها التفسير.
(5)
لعل أصله: تفسير الجمهور، أي: للأمة الواحدة.
(6)
يريد النمط الأخير الذي حكاه الله تعالى في قوله عنهم: [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ](البقرة: 113) .