المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (22)

- ‌ربيع الأول - 1339ه

- ‌فاتحة المجلد الثاني والعشرين

- ‌خطبة للشيخ محمد أبو زيد

- ‌محاربة البدع

- ‌تاريخ فنون الحديث [*](1)

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌الاتحاد والاقتصاد

- ‌نصيحة اقتصادية

- ‌الجود والإحسان

- ‌ربيع الآخر - 1339ه

- ‌تاريخ فنون الحديث(2)

- ‌الاقتداء في الصلاةبمتخذي الوسطاء والشفعاء عند اللهوما يتبع ذلك في حقِيقة الإسلام والارتداد عنه

- ‌دعوة عرب الجزيرة العربيةإلى الوحدة والاتفاق

- ‌الخيال في الشعر العربي(1)

- ‌محاربة البدع

- ‌الرحلة السورية الثانية(4)

- ‌جمادى الأولى - 1339ه

- ‌حقيقة التصوف ومكانه من الشرع

- ‌شرح قاعدةلا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب(2)

- ‌تاريخ فنون الحديث(3)

- ‌نقد مشروع تعميم التعليم الأولي

- ‌الخيال في الشعر العربي(2)

- ‌الأخبار والآراء

- ‌وثائق تاريخية في المسألة العربية

- ‌رجب - 1339ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ما وراء القبر

- ‌تاريخ فنون الحديث(4)

- ‌الخيال في الشعر العربي(3)

- ‌الأهل والعيال

- ‌مختارات من الجرائد الغربيةفي حل المسألة الشرقية

- ‌أماني المبشرينأو مخادعتهم للموسرين

- ‌شعبان - 1339ه

- ‌ ذكاة الحيوان والصيد

- ‌حقيقة الصيام وحكمة فوائده [*]

- ‌تاريخ فنون الحديث(5)

- ‌الخيال في الشعر العربي(5)

- ‌بحث أبدية النار

- ‌الرحلة السورية الثانية(5)

- ‌المسألة المصرية في طورها الأخير

- ‌رمضان - 1339ه

- ‌أسئلة مغربية من عاصمة البلاد الإسبانية

- ‌الحقائق الجلية في المسألة العربية

- ‌قرار لعصبة الأمم في الانتداب

- ‌مصابنا بولدنا الهمام

- ‌تاريخ هذا الجزء من المنار وما بعده

- ‌ذو القعدة - 1339ه

- ‌الخيال في الشعر العربي(6)

- ‌الطور الجديد للمسألة المصرية

- ‌السياسة ورجال الدين في مصر

- ‌المعتصم بالله آل الرضا

- ‌خواطر الأستاذ الشيخ محمد الخضر

- ‌الوثائق التاريخية في المسألة العربية [*]

- ‌فناء النار والرد على ابن القيم(2)

- ‌ذو الحجة - 1339ه

- ‌الرحلة السورية الثانية(6)

- ‌سورية عربيةأولاً وآخرًا [

- ‌ترجمة فقيد العلم والإصلاحأحمد فوزي عمران

- ‌تقريظ المطبوعات [

- ‌المحرم - 1340ه

- ‌الإسلام وسياسة الحلفاء

- ‌القضاء والقدر في نظر الغربيين

- ‌بحث لغويفي براءة القرآن الشريف من بعض الألفاظ الأعجمية [

- ‌الخيال في الشعر العربي(7)

- ‌القياس في الاشتقاق

- ‌انتباه الشرق [

- ‌الخمر

- ‌شذرات أدبية [*]

- ‌رد جريدة القبلةعلى الحقائق الجلية في القضية العربية

- ‌منع مجلة المنار من البلاد العربية الهاشمية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌صفر - 1340ه

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌بحث لغويفي براءة القرآن الشريف من بعض الألفاظ الأعجمية

- ‌القياس في اللغة العربية(2)

- ‌من الخرافات إلى الحقيقة [*](1)

- ‌الرحلة السورية الثانية(7)

- ‌انتشار علم السنةومدرسة الدعوة والإرشاد

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌خاتمة المجلد الثاني والعشرين

الفصل: ‌رمضان - 1339ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الثاني والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله

غيرك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فنحمدك بما حمدت به

نفسك في كتابك، ونصلي ونسلم على أنبيائك ورسلك {الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ

الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل: 59) وتحياته المباركات وصلواته الطيبات على خاتم

رسله محمد المصطفى، وآله المطهرين وأصحابه الحنفا، وعلى من اتبع هديهم

واقتفى {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ

تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) .

سبحانك اللهم وبحمدك، حكمت فعدلت، وقدرت فهديت، وانتقمت فقهرت،

فلك الحمد في السراء والضراء وحين البأس، لا قنوط من رحمتك ولا يأس،

فأسألك من رحمتك العامة للعالمين، ومن رحمتك الخاصة للمسلمين، ووفقني اللهم

للقيام في هذا المنار بالنصيحة الحق، النافعة لكل من بلغته من الخلق، ووفق اللهم

أئمة هذه الأمة وأمراءها، وقادتها وزعماءها إلى ما تخرجها به من ظلمات هذه

الفتن إلى النور الفائض من مطالع آياتك البينات، المنبسط شعاعه على الخلق

بسننك في سير البشر ونظام الكائنات، ليعلموا أن الغلو في الدين، مضيعة للدنيا

والدين، وأن الغرور بالدنيا مهلكة للمغرورين، وأن سنة الله تعالى في رد الفعل

إلى سواء الصراط، يتعاقب في سبيله التفريط والإفراط، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ

آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) .

سبحانك الله وبحمدك، أريتنا من آياتك في أنفسنا وفي الآفاق ما يتبين به

الحق، لمن زكت فطرته واستنارت بصيرته من الخلق، فوفقنا لمعرفة ما نراه منها

في هذا الزمان، معرفة اعتبار وحكمة وإيمان، كما وفقت لذلك آباءنا الأولين،

وسلفنا الصالحن؛ لنكون كما كانوا من الأئمة الوارثين، الجامعين بين سيادة الدنيا

وهداية الدين، إذا أوغلنا في الدين نوغل برفق فلا نغلو غلو المغرورين، وإذا

حكمنا بين الناس نحكم بالعدل فلا نعلو علو الجبارين، وإذا تصرفنا بما أحللت لنا

من الزينة والطيبات من الرزق نتصرف تصرف الشاكرين، فلا نستأثر بالنعمة

أثرة المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ

يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} (النحل: 83) .

سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا آياتك فإن جحدها أقوام فقد عرفناها وما نحن

لها بجاحدين، وعرفتنا نعمتك فإن يكفر بها الأكثرون فما نحن بها بكافرين، وقد

أنزلت عقابك الحق بالباغين الجبارين، وبالمترفين المسرفين، وبمن ذل لكبريائهم

ودان لطغيانهم من الجاهلين المفرطين، فاجعل اللهم ذلك عبرة وموعظة لنا، ولا

تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، فقد آن أن يستدير

الزمان، ويتجدد إعجاز القرآن، فيتوب الفاسقون، ويوقن المرتابون ويؤمن

الجاحدون {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *

فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ

يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ

النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 1-7) .

سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا من جهل أعلم الناس بشؤون خلقك، ما أقمت

به الحجة البالغة على صدق قولك وإحاطة علمك، فقد غلب الروس الذين كانوا

يعدون الخطر الأكبر على الإسلام، كما غلبت الروم في عهد ظهور النبي - عليه

الصلاة والسلام -، ثم غلبت الشعوب الجرمانية، وظهر جهلها بما كانت به أعلم

الشعوب من الفنون الحربية، ثم ظهر جهل أعلم الأقوام بجمع الثروة وحفظ المال

فكانوا من الخاسرين، وظهر جهل أعلم الأمم بشؤون الإدارة والاستعمار فكانوا من

الخائبين {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا

يَسْتَهْزِءُونَ} (الروم: 10) .

سبحانك اللهم وبحمدك أنت الواحد القهار، مكور النهار على الليل ومكور

الليل على النهار، الكبرياء رداؤك، والعظمة إزارك، من نازعك فيهما قصمته،

وقد صرفت عن آياتك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، مغترين بما

استدرجتهم به من شدة القوة وسعة الرزق، فلم يعتبروا بما حل من قبلهم ممن كانوا

أشد منهم قوة، ولم يتعظوا بما أنزلت من آيات الوحي وشرعت من هدي النبوة،

واجعل ذلك تربية للمستضعين المتفرقين، وقهرك إياهم سلامًا ورحمة لجميع

العالمين، يعلو بها الحق على الباطل، ويقضي بها العدل على الظلم، ويغلب

القصد والاعتدال والإيثار، على السرف والأثرة والاستكبار، فقد ضاق البشر ذرعًا

بطمع الأغنياء المسرفين، وطغيان الرؤساء الجبارين، الذين طغوا في البلاد

فأكثروا فيها الفساد، واستكبروا على العباد فاستعبدوا الجماعات والشعوب للأفراد،

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم

بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ *

أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ

عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأعراف: 97-100) .

لقد أَنْذَرْنا أكابر الساسة في مثل هذه الفاتحة منذ عامين، أن ترك تنفيذ قواعد

العدل العام وحرية الأمم لا بد لها من إحدى العاقبتين، بقولنا: إن لا تفعلوه تكن

فتنة في الأرض وفساد كبير، وانقلاب بلشفي شره مستطير، أو تعود الحرب

جذعة، بهذه السياسة الخُدَعة الخُبَاة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ

شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا

يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، وقد صدقت الآيات ولم تغن النذر، واتبع

المنذرون أهواءهم وكل أمر مستقر، فهذه الأرض تضطرم بنيران الفتن والفساد،

والانقلاب البلشفي كل يوم في ازدياد، وإنما هو شر على منهومي المال، ومستعبدي

الأقوام ومذلي الأقيال، وقد يشقى ناس فيسعد بشقائهم آخرون، وتثل عروش قرى

عاتية فيرثها قوم آخرون {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي

الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ

رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ

لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 32-33) .

إن الناس لن يكونوا أمة واحدة، ولن تخضع الأمم منهم لأمة واحدة، ويا أيها

المثرون المترفون والرأسماليون الطامعون، إن طلب الزيادة ينتهي بالوقوع في

النقصان، وإن السواد الأعظم من البشر لا يرضى أن يكون عبدًا خادمًا لأفراد من

الأعيان، وإن سنة رد الفعل سيكون لها القول الفصل، والحكم العدل، ولكن

المجرمين يرون العدل عقابًا والمساواة بين الناس عذابًا، فكيف إذا سبقه الجزاء

على الظلم السابق، والإفراط الماحق، وكان تنفيذه على المعاندين، بمثل القسوة

التي كانوا يسومونها الضعفاء المساكين؟ وإن تبتم قبل أن يحاط بكم فهو خير لكم

{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى

وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأحقاف: 27) .

وأنت يا أيتها الأمة الأمية التي عاودها الارتكاس في عصبية الجاهلية، إلام

هذا التفرق والانقسام، بعد تلك السعادة بالوحدة والاعتصام؟ وحتام تلدغين من

الجحر الواحد مرارًا عديدةً، وقد حذرت من المرتين، وسمعت النذر بالأذنين،

ورأيت العبر بالعينين، ولمست العواقب باليدين؟ وإلى متى تغترين بالمظاهر

والألقاب، وتدعين الفرص تمر بك مر السحاب؟ تداعت عليك الأمم كما أخبرك

النذير؛ إذ كان لهم منك أي ولي وظهير، ورأيت الذين في قلوبهم مرض يسارعون

فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة. وابتغوا عندهم العزة والثروة، فكانت كرتهم

الخاسرة؛ لأنهم خسروا بولايتهم الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإن

كانوا عنه لمن الغافلين {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ

فِي الخَيْرَاتِ بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 53-56) .

فيا قوم إني لكم ناصح أمين، على علم بالحق المبين من هداية القرآن، وأحوال

الزمان، أن لا تعبدوا إلا الله، ولا تيأسوا من روح الله {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ

تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا

فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود: 3) أخاف عليكم عذاب يوم القيامة

الأولى، قبل عذاب يوم القيامة الأخرى، يوم الخزي والنكال، بفقد بقية الاستقلال،

فقابلوا أولياء الشيطان، بما أمركم به الرحمن، من غير تحريف ولا تصحيف في

القرآن، ولا تغرنكم أيمان أئمة ليس لهم إيمان، ولا يصدنكم عن آيات الله سبب ولا

نسب، ولا رغب ولا رهب، ولا ورق ولا ذهب، فقد برح الخفاء وانكشفت الظلمة،

فلا يكن أمركم عليكم غمة {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ

تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 135) .

وما لي لا أخص بالتذكير قومي وعشيرتي، بعد التذكير العام لجميع شعوب

أمتي، بما يشد أسر الجماعة ويضع عنها إصرها، ويحكم أواصر الجامعة ويرفع

لها ذكرها، وهم لا يزالون أشد تلك الشعوب تخاذلاً وتواكلاً، وأضعفهم تعاونًا

وتكافلاً، وأكثرهم تباغيًا وتفاشلاً، وتماحكًا وتماحلاً، وأقلهم تحالفًا وتناصرًا،

وتظافرًا وتظاهرًا، اتحد مسلمو مصر مع القبط فيما يفيد في الدنيا ولا يضر بالدين،

وتعاون مسلمو الهند كذلك مع الوثنيين، وتناصر مسلمو الترك مع الروس أعدى

أعدائهم الأولين، ولكن تعذر الاتفاق في الجزيرة بين أبناء الدين الواحد، واللغة

الواحدة والوطن الواحد، كما تعذر الاتحاد في قطر آخر بين السهل والجبل، بل

بين بلد وبلد، ولولا أن هذه الأمة مرحومة لأبسلت بذنوبها، وهلكت بتفريطها في

أمرها، ومن رحمة الله بها أن باب التوبة لا يزال مفتوحًا في وجهها، وأن مسالك

النجاة ما فتئت مرجوة لها، فما عليها إلا أن تأتي البيوت من أبوابها، وتطلب

المسببات من أسبابها، بتغيير ما أوقعها في سابق غرورها، والتواكل في أمورها،

والاتكال على أيمان مبيرها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى

يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا

بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ

الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ

عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} (الأنفال: 53-56) فتدبروا سائر الآيات

وأنتم لا تظلمون {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 20) .

استدار الزمان، ووقع من التطور الاجتماعي ما لم يكن في الحسبان، وسيندك

ما بقي من صروح الاستبداد، وينطلق سائر المستعبدين من مقاطر الاستعباد،

بفضل التظافر والتظاهر والاتحاد، وإنما الذل والهوان، والخزي والخذلان،

والبغي والعدوان، على أهل النفاق والدهان، والمتفرقين في المذاهب والأديان،

والمتعادين في الزعامات والبلدان، والمغرورين بالعهود والأيمان، والقوانين

وحقوق الإنسان، والمخدوعين بكلم العدل والمدنية، والمساواة والحرية، والرحمة

الإنسانية، وإنما المعاهدات حجج الأقوياء على الضعفاء، ولا وجود للعدل

والمساواة، إلا حيث العجز عن الظلم والمحاباة، ولا حق في الحرية ولا في

الرحمة، إلا لذوي الأيد والحرمة، والعاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة [1] ؟ على أن

قاموس السياسة تكثر فيه أسماء الأضداد، فلا تنافي فيه بين التحرير والاستعباد،

ولا تضاد بين الحماية والاستقلال، ولا تناقض بين الإساءة والإحسان، ولا

تعارض بين الكفر والإيمان {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا

يَكْتُمُونَ} (آل عمران: 167) ، {كيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ

وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 8) .

تبًّا للمنافقين المتملقين، وسحقًا للتائبين المستسلمين، وبعدًا للفاسقين الخائنين،

وطوبى للراجين العاملين، فرب خوف أعقب الرجاء، ورب عداء انتهى بولاء

{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ

وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

هذه الكلمة لموقظ الشرق الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

مأتم عاشوراء واقتحام الشيعةالنار فيه

س1 من صاحب الإمضاء في زنجبار إلى حضرة جناب الأفخم العلامة

الأستاذ السيد محمد رشيد رضا المحترم دام إقباله.

بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي بِطَيِّ الأحرف ورقة قطعناها من

الجريدة الرسمية بزنجبار أحببنا أن نطلعكم عليها، مضمونها أن الشيعة الإمامية الاثنا

عشرية يوقدون في ليلة العاشرة من المحرم في حفرة طويلة عريضة نارًا قوية

ويمرون فوقها ولا تحرقهم، وكنا قبل نسمع بهذا العمل أنه في الهند، وهذه السنة

شاهدنا بأعيننا هذا العمل بطرفنا.

ويزعمون أنها معجزة من معجزات أهل البيت، وكذلك يزعمون أن شجرة

في الهند يخرج منها دم في كل شهر محرم، وقد كثر من إخواننا الشيعة بطرفنا مثل

هذه الأشياء، ولولا أن بين أيدينا كتب العلامة ابن تيمية قدس الله روحه لكان أكثر

الناس تشيعوا، وقد عرفناكم بذلك لأجل أن تبينوا لنا الحقيقة على صفحات المنار

حتى ينجلي ما التبس علينا، ولكم من الله الأجر، ومن خلقه الشكر، والسلام.

من صغيركم صلاح الدين بن ناجي بن علي الكسادي

من زنجبار في 23 المحرم سنة 1339.

ترجمة

ما نشر في جريدة زنجبار الرسمية الإنكليزية

أرسل إلينا الوصف الآتي للأعياد المحلية لعاشر المحرم ولعله يلذ القراء:

من المعلوم الذي لا شك فيه أن تذكار استشهاد الحسين هو من أهم الأعياد

الإسلامية؛ لأن أول صدع عظيم حدث في الإسلام كان بناءً على هذا الحادث، أعني

مسألة الحق بالخلافة.

تحتفل فرقة الشيعة في زنجبار كل سنة باستشهاد الحسين بشعور انفعالي

عظيم ذي تأثير شديد، ففي ليلة العاشر من المحرم يضرب المخلصون صدورهم

ورؤوسهم، ويخوضون في النار وهم ينادون باسم محمد والحسين بنغمة مؤثرة

تبكي الناظرين، بل تحزن صدر السنيين، وغيرهم من المتفرجين، ولا يصاب

أحد من المخلصين بضرر، ثم ذكرت الجريدة الرسمية أن عاشوراء هذه السنة

كانت أول فرصة حدث فيها الاحتفال باقتحام النار في جزيرة زنجبار اهـ.

(ج) إن اقتحام بعض أفراد الشيعة الإمامية النار في الاحتفال بذكرى

استشهاد الإمام الحسين السبط عليه السلام في عاشوراء له نظير عند بعض

المنتمين إلى الطريقة الرفاعية وغيرها من طرق المتصوفة، ومنهم من يحمي

حديدة في النار حتى تحمر ثم يلحسها بلسانه حتى تبرد ويزول احمرارها، وكثير

من الناس المنتمين إلى أديان ومذاهب ونحل مختلفة في أقطار كثيرة يأتون بأعمال

غريبة في نظر جماهير الناس.

وهذه الأعمال الغريبة التي تتناقل جميع الأمم أخبارها ثلاثة أنواع:

(أحدها) صناعة الشعوذة التي يحذقها بالتعلم والتمرن وخفة الحركة أناس

كثيرون، فيأتون من الأعمال ما يعجز عنه غيرهم، وقد تخيل إلى الناظر الشيء

على غير صورته أو حقيقته، كأن ترى لسان أحدهم يصيب النار وهو لا يمسها بل

يقرب منها ويلقي لعابه عليها، وأسهل من ذلك اقتحام نار موقدة بسرعة لا تكفي

لعلوق النار بالمقتحم، وقد رأينا بعض الصبيان في بعض قرى سورية يتبارون في

اقتحام نار يوقدونها، وقلما تعلق بثوب أحد منهم.

(النوع الثاني) غرائب حقيقية يستعان عليها بالعلم بخواص الأشياء كعلم

الكيمياء والكهرباء وغيرهما، وإنما تكون غرائب عند الجاهل بأسبابها، وكذلك

النوع الأول، إنما يراه غريبًا من يجهل تلك الصناعة وما فيها من الحيل والتخيل.

(النوع الثالث) غرائب مصدرها تأثير النفس الإنسانية بقوة إرادتها وغيرها

من الخواص الروحانية كاستعدادها للعلم ببعض الأمور الواقعة أو المستقبلة من غير

طريقي الحس والفكر، وهذا النوع يتفاوت أهله فيه تفاوتًا عظيمًا بالاستعداد الفطري

وبالرياضة الروحية.

والمتكلمون يطلقون على كل ما جاء على خلاف المعروف المعهود مما لا

يعرف له سبب كلمة (خوارق العادات) ، ويعدون منها الآيات التي يؤيد الله تعالى

بها رسله عليهم السلام ويسمونها المعجزات، والخوارق الحقيقية لا تتكرر

كثيرًا؛ لأن ما يتكرر هو عادي؛ لأنه يعود كما بدأ، وكل ما كان من علم أو

صناعة أو قوة نفسية تستخدمها الإرادة البشرية فهو من جنس المعتاد ويتكرر؛ لأن

صاحبه يفعله بإرادته واختياره، وانحصاره في أفراد وفئات من الناس هو

كانحصار سائر الصناعات والعلوم في متعلميها ومزاوليها وقوة الاستعداد الجسدي

في أهلها.

وأما آيات الرسل التي أيدهم الله تعالى بها للدلالة على صدقهم في دعوى

الرسالة عنه فليست مما تتعلق به قدرتهم وإرادتهم بحيث يأتونها متى شاؤوا كسائر

أفعالهم الاختيارية ولا مما يتلقى بالتعليم، ولذلك أمر الله تعالى خاتم رسله الذي

أكمل دينه به أن يجيب من اقترحوا عليه الآيات بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} (العنكبوت: 50) بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: 93) ولكنها من شؤونه تعالى يجريها على أيديهم متى شاء، إما بغير

كسب منهم ألبتة كإعجاز القرآن وعصا موسى، وإما مقارنة لكسب ما منهم يأتونه

بإذنه ليس له من التأثير في خرق العادة إلا الصورة؛ كرمي نبينا - صلى الله عليه

وسلم - المشركين بقبضة من الرمل على البعد منهم أصابت أعينهم على كثرتهم

وبعدهم عنه واختلاف أوضاعهم وحالاتهم عند الرمي، وذلك قوله تعالى له: {وَمَا

رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ومن هذا القبيل إبراء الأكمه

والأبرص وإحياة الموتى لعيسى عليه السلام وإن جاز أن تكون قوة روحانيته

الوهبية هي المؤثرة بإذن الله تعالى فيه، وكرامات الأولياء أكثر ما تكون من النوع

الثالث للغرائب.

وأما السحر فليس من خوارق العادات في شيء، وإنما هو صناعة تؤخذ بالتعلم

والتمرن وتدخل فيما ذكرنا من أنواع الغرائب المعتادة التي يقصد بها الكيد والمكر

والخداع، ولذلك اتهم فرعون السحرة بأن ما فعلوه مع موسى مكر مكروه في المدينة

متواطئين عليه، وقال تعالى لموسى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ

حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) وقال في تأثير كيدهم وشعوذتهم فيه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ

مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) وذكر أن هاروت وماروت كانا يعلمان

الناس السحر ببابل، وخوارق العادات لا تكون بالتعلم كما تقدم؛ وفاقًا لما قاله الشيخ

محيي الدين بن العربي.

إذا تدبر السائل ما تقدم علم أن ما ذكره من اقتحام بعض الشيعة للنار هو مما

ذكرنا من العادات المكررة، والشجرة التي زعموا أنها تقطر دمًا في شهر المحرم لا

وجود لها، فأنا لم أسمع بها قبل ورود هذا السؤال، لا في بلاد الهند أيام كنت فيها

ولا في غيرها، ولما جاء هذا السؤال سألت بعض أفاضل الشيعة الذين يعرفون

الهند وإيران والعراق، فقال: لم نسمع بذكر هذه الشجرة في الهند ولا في إيران

ولا في العراق. وهذه الأقطار الثلاثة هي مواطن الشيعة الإمامية ومأوى الملايين

منهم، وفيها معاهدهم الدينية الكبرى، فكيف يجهل فيها أمر هذه الشجرة ويعرف في

زنجبار وحدها؟ !

وهب أن ما ذكر من اقتحام النار لا دخل فيه لصنعة ولا خفة وأنه كرامة لأهل

بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي دخل في ذلك لمذهب الإمامية

ومقتض لترك غيره إليه؟ وهل هو إلا مذهب موافق لسائر مذاهب المسلمين

المعروفة في أكثر مسائل العبادات والمعاملات، ومخالف لها في مسائل قليلة كما

يخالف بعضها بعضًا، وجميع أصحاب المذاهب الإسلامية يجلون آل بيت رسول

الله عليه الصلاة والسلام ويحبونهم ويوالونهم ويرون أنهم أهل لكل كرامة من

الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا ما شذ فيه بعض الخوارج الذين يتبرؤون من أمير

المؤمنين علي المرتضى - كرم الله تعالى وجهه - ومن أفراد آخرين من الصحابة

وأئمة الدين. وأس الإسلام ما أجمع عليه المسلمون ولا سيما في الصدر الأول،

وكل ما وقع فيه الخلاف بين أئمة العلم والفقه فهو من المسائل غير القطعية في

الدين التي يختلف فيها الاجتهاد، ولا ينحصر الصواب فيها بفرد من الأفراد، وفي

كل من المنتمين إلى المذاهب المنتشرة صالحون وطالحون، وأبرار وفجار، فإن

أوتي أحد الصالحين من أهل مذهب منها كرامة فلا وجه لجعلها حجة في ترجيح

مذهبه على سائر المذاهب في جميع المسائل الخلافية ولا في بعضها، ولو كان

حجة لاستغنى به عن الاجتهاد والاستدلال.

***

استطراد في تفرق المسلمين

والعبرة بمأتم عاشوراء

سبق لنا البحث في أمثال هذه المسائل مرارًا، وإنه ليحزننا أننا لا نزال في

أشد الحاجة إلى تكرير تذكير عامة إخواننا المسلمين من جميع المذاهب في جميع

الأقطار بأنه قد آن لهم أن يتركوا هذا التغاير والتناظر في المذاهب الذي أضعف

الدين، وفرق كلمة المسلمين، فإن المصائب العامة المشتركة أفصح معلم، وأحكم

مؤدب، وقد توالت عليهم نذرها، ووضحت لهم عبرها، ولا سيما في هذه السنين،

{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) بلى قد رأى الأكثرون ما لم يكونوا يرون، ولكنهم لا يزالون

يعمهون، وقد أضاعوا معظم الفرص، ولا يزال لديهم مجال للعمل، فإن أضاعوا

بقية الفرصة فهم هالكون.

قد كانت ذكرى قتل الحسين وإقامة المآتم له مما يقصد به غلاة الساسيين من

الباطنية وأتباعهم زيادة التفريق بين المسلمين، وتأريث الضغائن والأحقاد بينهم،

استرسالاً مع تلك الدسائس المجوسية التي دست في الصدر الأول الكيد للمسلمين

الذين أزالوا ملك المجوس وسلطانهم الديني وملكهم الكسروي، وكان جميع

الصادقين في الإسلام من شيعة آل البيت النبوي وغيرهم غافلين عن ذلك جاهلين

به، وظل بعض المتعصبين يقصد بمثله في بعض الأوقات تقوية العصبية والتذكير

بأخذ الثأر من المعتدين الظالمين، ولكن من هم اليوم؟ وإعادة الحق إلى الأئمة

الوارثين، وأين هم اليوم؟ فعل العباسيون ببني أمية فعلتهم، وفعل العبيديون

بالعباسيين فعلتهم، وصار المسلمون دولاً كثيرة أحاط بها الخطر منذ قرنين أو أكثر،

فأي استعداد اتخذ لذلك في مجموع الأمة الإسلامية، أو في أي مملكة من ممالكها؟

أين هم من العمل بما صح مِن أن مَنْ مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة

جاهلية؟ لقد مزقوا نسيج الوحدة، ولم يبق من الجامعة الدينية في أي جماعة منهم

إلا أسباب الفرقة، ولقد صار هذا المأتم كسائر ما أحدث المسلمون المختلفو المذاهب

من الاحتفالات باسم الدين، عادات تقليدية تشبه الملاهي التي يجتمع الناس لسماع

القصص التاريخية والخيالية، بل هي أقل فائدة وأكبر ضررًا من تمثيل القصص

المذكورة في الأمم الحية.

لو كان المسلمون يعيشون عيشة الجد لجعلوا الاجتماع في عاشوراء لذكرى

مولد الإمام الحسين - عليه رضوان الله وسلامه - وسيلة سياسية لإحياء المقصد

العظيم الذي بذل هذا السبط الشهيد السعيد حياته العالية الغالية في سبيله، لا حدثًا

دينيًّا يزيد تفريق الكلمة، ولا لعبًا بالسلاح والنار وندبًا بالخطب والأشعار لا يبعث

على إقامة حق، ولا تجديد ملك، بل هو إما أن يضر وإما أن لا ينفع، ذلك المقصد

الذي لم ترتق أمة من الأمم الراقية في هذا العصر إلا على أيدي رجال من أهله

يصح أن يسموا حسينيين بما كان من استهانتهم بالحياة الدنيا في سبيل دك سلطان

الظلمة المستبدين بأمتهم، وإقامة سلطة عادلة مقيدة برأي الأمة مكانها، ذلك هو

الإمام الأعظم لمن تسميهم الأمم العزيزة اليوم بالفدائيين المنقذين لها، فهل يوجد أحد

من زعماء مأتم عاشوراء في قطر من الأقطار بث هذه الفكرة فيه، أو فكر فيها؟

***

شاهد تاريخي في مأتم عاشوراء

كان الباطنية من زنادقة المجوس وغيرهم ممن قبل دعوتهم قد اتخذوا شيعة

آل البيت ذريعة إلى مقصدهم السياسي الذي ذكرناه آنفًا، وسبق لنا بيانه من قبل،

وكان جل كيدهم موجهًا إلى جعل ملك الإسلام في قبضتهم ليمكنوا من قتله بسيفه،

وقد نجحوا بتأسيس الدولة العبيدية الفاطمية بمصر، ولكن هذه الدولة زالت قبل أن

يتمكنوا من إزالة الإسلام بها، وهذه الدولة هي التي أحدثت مأتم عاشوراء في مصر

للمقصد الذي قامت به، وإننا نورد من تاريخ المقريزي الشهير صفة مأتم عاشوراء

عندهم وهو:

***

ما كان يعمل في يوم عاشوراء

قال ابن ذولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله: في يوم عاشوراء من سنة ثلاث

وستين وثلثمائة انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين: قبر كلثوم

ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين -

عليه السلام وكسروا أواني السقائين في الأسواق، وشققوا الروايا، وسبوا من

ينفق في هذا اليوم، ونزلوا حتى بلغوا مسجد الربح، وثارت عليهم جماعة من

الرعية أسفل، فخرج أبو محمد الحسين بن عمار وكان يسكن هناك في دار محمد

بن أبي بكر، وأغلق الدرب ومنع الفريقين ورجع الجميع فحسن موقع ذلك عند

المعز، ولولا ذلك لعظمت الفتنة؛ لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور

وعطلوا الأسواق، وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز بمصر، وقد كانت مصر

لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر

نفيسة، وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان في

الطرقات بالناس ويقولون للرجل: من خالك؟ فإن قال: معاوية. أكرموه، وإن

سكت لقي المكروه، وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور قد وكّل بالصحراء ومنع

الناس من الخروج.

وقال المسبحي: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة ست وتسعين وثلثمائة

جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى

جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد، ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي

القضاة عبد العزيز بن النعمان سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال

لهم: لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم ولا تؤذوهم، ولا

تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة

منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا على الشارع

بجمعهم، وسبوا السلف، فقبضوا على رجل ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة

وزوجها صلى الله عليه وسلم وقدم الرجل بعد النداء وضرب عنقه.

وقال ابن المأمون: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة خمس عشرة

وخمسمائة - عبي السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر التي كان يسكنها

الأفضل ابن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يعبى في غير

المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم،

والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات،

وجميع الخبز من شعير، وخرج الأفضل من باب فرد الكم، وجلس على بساط

صوف من غير مشورة، واستفتح المقرئون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم،

وحمل السماط لهم، وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر

السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفى إلى آخر السماط، ثم رفع وقدمت صحون

جميعها عسل نحل، ولما كان يوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة جلس

الخليفة الآمر بأحكام الله على باب الباذهنج - يعني من القصر - بعد قتل الأفضل،

وعود الأسمطة إلى القصر على كرسي جريد بغير مخدة متلثمًا هو وجميع حاشيته،

فسلم عليه الوزير المأمون وجميع الأمراء الكبار والصغار بالقراميز، وأذن للقاضي

والداعي والأشراف والأمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثمون حفاة، وعبي

السماط في غير موضعه المعتاد، وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان

في الأيام الأفضلية، وتقدم إلى والي مصر والقاهرة، بأن لا يمكنا أحدًا من جمع ولا

قراءة مصرع الحسين، وخرج الرسم المطلق للمتصدرين والقراء الخاص والوعاظ

والشعراء وغيرهم على ما جرت به عادتهم، قال: وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع

عشرة وخمسمائة اعتمد الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية من المضي فيها

إلى التربة الجيوشية، وحضور جميع المتصدرين والوعاظ وقراء القرآن إلى آخر

الليل وعوده إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة

على الأرض متلثمًا يرى به الحزن، وحضر من شرف بالسلام عليه، والجلوس على

السماط بما جرت به العادة.

قال ابن الطوير: إذا كان اليوم العاشر من المحرم احتجب الخليفة عن الناس،

فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيروا زيهم فيكونون كما هم

اليوم، ثم صاروا إلى المشهد الحسيني، وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر،

فإذا جلسوا فيه ومن معهم من قراء الحضرة والمتصدرين في الجوامع جاء الوزير

فجلس صدرًا، والقاضي والداعي من جانبيه والقراء، يقرؤون نوبة بنوبة، وينشد

قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرًا يرثون به أهل البيت عليهم السلام فإن

كان الوزير رافضيًّا تغالوا، وإن كان سُنيًّا اقتصدوا، ولا يزالون كذلك إلى أن تمضي

ثلاث ساعات فيستدعون إلى القصر بنقباء الرسائل، فيركب الوزير وهو بمنديل

صغير إلى داره ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب،فيجدون

الدهاليز قد فرشت سماطها بالحصر بدل البسط، وينصب في الأماكن الخالية من

المصاطب دكك لتحلق بالمصاطب لتفرش، ويجدون صاحب الباب جالسًا هناك،

فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القراء

وينشد المنشدون أيضًا، ثم يفرش عليها سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس

والملوحات والمخللات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النحل، والفطير والخبز

المغير لونه بالقصد، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة وأدخل

الناس للأكل منه، فيدخل القاضي والداعي ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير،

والمذكوران إلى جانبه، وفي الناس من لا يدخل ولا يلزم أحد بذلك، فإذا فرغ القوم

انفصلوا إلى أماكنهم ركبانًا بذلك الزي الذي ظهروا فيه، وطاف النواح بالقاهرة ذلك

اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر فيفتح الناس بعد ذلك وينصرفون

اهـ ما جاء في تاريخ المقريزي عقب الكلام على المشهد الحسيني وذكر خلاصة مقتل

الإمام الحسين، ثم قال في باب بيان أعياد الفاطميين ومواسمهم ما نصه:

(يوم عاشوراء) كانوا يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ويعمل فيه

السماط العظيم المسمى سماط الحزن، وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسيني فانظره،

وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير، فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب

يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم

ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون، ويدخلون الحمام جريًا

على عادة أهل الشأم التي سنها لهم الحجاج في أيام عيد عبد الملك بن مروان

ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - الذين يتخذون يوم

عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي؛ لأنه قتل فيه، وقد أدركنا بقايا

مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط، وكل الفعلين غير

جيد، والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف فقط، وما أحسن قول أبي الحسين

الجزار الشاعر يخاطب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، وكتب بها إليه ليلة

عاشوراء عندما أخر عنه ما كان من جاريه في الأهراء:

قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي

والسيد بن السيد بن السيد

أقسم بالفرد العلي الصمد

إن لم يبادر لنجاز موعدي

لأحضرن للهناء في غد

مكحل العينين مخضوب اليد

يعرض للشريف بما يُرْمَى به الأشراف من التشيع، وأنه إذا جاءه بهيئة

السرور في يوم عاشوراء غاظه ذلك؛ لأنه من أفعال الغضب، وهو من أحسن ما

سمعته في التعريض، فلله دره.

_________

ص: 34

الكاتب: محمد أبو زيد

‌خطبة للشيخ محمد أبو زيد

خطبها في الاحتفال برأس السنة الهجرية سنة 1339

...

...

وفيها اتفاقية الصلح بين الرسول وخصومه

أحمد الله تعالى ثم أقول: في هذا الأسبوع توالت الأعياد الثلاثة: العيد

المصري (عيد النيروز) والعيد العبري، والعيد الهجري، وتوالي هذه الأعياد

يبشرنا بأن الخير سيتوالى على مصر وأبنائها.

***

الحوادث مرجع التاريخ

جرت عادة الأمم على أن تؤرخ بالحوادث، فإذا كانت لها حادثة مهمة جعلتها

مبدأ لتاريخها، انظر العرب قبل الإسلام كانوا يرجعون إلى الحوادث في التاريخ،

فيقولون: عام الفيل، ويوم الحرب الفلانية، وانظر المسيحيين جعلوا تاريخهم حادثة

الشهداء الذين اضطهدهم الرومان وأبوا إلا أن يموتوا ضحية دينهم ومبدئهم.

***

فوائد الاحتفال بالأعياد

وفي الاحتفال بالأعياد فوائد ينبغي لنا أن نراعيها، منها إحياء ذكرى العاملين

وتخليد آثارهم لنقتدي بهم في خلقهم وعملهم، ومنها ارتباط الحاضر بالماضي

ارتباطًا يجدد للأمة قوتها، ويحفظ لها شخصيتها، ومنها تربية الشعور والعواطف

على الاتحاد والتعاون؛ فيشعر كل فرد في الاجتماع بأنه قوي بقوة المجتمعين،

مؤيد بروحهم، وروح الاجتماع معروف تأثيرها في النفوس والأعمال.

ثم من الفوائد كذلك أن تحاسب الأمة نفسها على ما عملته في الماضي وما

تعده للمستقبل، فتنظر كما ينظر التاجر في آخر كل سنة مقدار الربح أو الخسارة،

فإن كان عندها ضعف في الداخلية أو الخارجية، ورأت نفسها قد قصرت فيما مضى

فإنها تتوب إلى الله تعالى وتعمل على تقوية هذا الضعف، وتحترس من أن تقع

في مثله في المستقبل، وإن رأت أنها لم تقصر وأنها قوية متقدمة، فإنها تشكر الله

الذي وفقها، ثم تستزيد من الأعمال الرابحة المقدمة.

***

هجرة النبي حادثة عظيمة

هذا وإن هجرة النبي حادثة عظيمة، إذ كانت سببًا في إحداث إصلاح عظيم

وفتحًا لباب استقلال جديد، وقبل أن أبين هجرته أذكر حكمة إرساله وإرسال من

سبقه من الرسل - صلوات الله عليهم - أجمعين.

***

حكمة إرسال الرسل

خلق الله الناس أحرارًا مستقلين، فاقتضت حكمته - وهو وليهم وإليه يرجع

أمرهم - أن يربيهم تربية عملية تثبت في نفوسهم ما فطرهم عليه من الحرية

والاستقلال، فاختار منهم رسلا ًمربين لا تذل نفوسهم لشهوة أو هوى، ولا تضعف

إرادتهم أمام سلطة أو استبداد، وأرسلهم بالتعاليم الهادية إلى سعادة الدنيا والآخرة.

ولو رجعنا إلى ما كان يدعو إليه كل رسول لوجدناهم متحدين في الدعوة،

وكلهم يدعو إلى التوحيد {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:

59) وفي هذا منتهى العزة للنفوس؛ إذ إنها لا تستعبد إلا لربها الذي يربيها على

نعمه، ويواليها بفضله وإحسانه، والله سبحانه لم يجعل جنسًا عبدًا لجنس، ولم

يفاضل بين عباده إلا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ

شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:

13) ، فالأكرم عند الله من يتخلق بأخلاق الله، فلا يستبد بالناس ولا ينقص من

حريتهم، والله تعالى قد أرسل الرسل تأييدًا لهذا المبدأ، مبدأ السير بالناس إلى

الحرية لإخراجهم من الاستبداد.

***

موسى الرسول في مصر وصاحب الهجرة

تعلمون حادثة موسى لما أرسله الله لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد فرعون،

قال الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 5) .

وما كانت الظلمات إلا السلطات الاستبدادية التي أماتت إرادة القوم، وقضت

على حريتهم وإيمانهم، وما النور إلا الاستقلال الذي فيه يحيا الشعور وينمو الإيمان

وتقوى الإرادة.

كذلك قال الله لرسوله محمد: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ

إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 1) .

***

إيذاء المشركين إياه

إذا علمنا أن الله بعث الرسل لهدم قواعد الاستبداد والظلم، ونشر مبادئ

المساواة والعدل، فإننا نعلم السبب في الإيذاء الذي كان يفعل بهم، والعقبات التي

كانت توضع في طريقهم، وذلك أن المستبدين بالشعب المتحكمين في رقبته يخشون

من كل مبدأ يزلزل استبدادهم، ويخافون من كل عمل يوجد المساواة بينهم وبين

المغلوبين لهم، المقهورين بسلطتهم، فلذا تراهم عندما يشعرون بمصلح يأخذون في

محاربته ويسعون في صده عن سبيله بكل ما يستطيعون.

***

الحيلولة بينه وبين الشعب

ولعلمهم بأن الشعب يتأثر بهذه المبادئ تجدهم يحرصون على أن يحولوا بين

هذا المصلح والشعب، فالشعب المحكوم بالاستبداد مهما جَبُن ومهما ضَعُفت إرادته

فإنه باستماعه مبادئ الحرية وتكريرها على نفسه تنبعث فيه روح العمل لها فيخشى

المستبدون ذلك، ولا يمكنون المصلح منه، وانظر قول الله في أعداء الرسول لما

كانوا يرونه متصلاً بالشعب يتلو آيات القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا

القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .

***

صبر النبي وقوة إرادته

وأخيرًا تضايقوا منه [1] فرجعوا إلى عمه أبي طالب، وكانت صلته به تحميه

من القتل، فقالوا: قل لابن أخيك يرجع عما هو فيه، وإلا نكون في حل مما نوقعه

به. فلما عرض عليه عمه ذلك تحمس وقال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في

يميني والقمر في يساري ما رجعت عن دعوة ربي حتى أبلغها أو أموت دونها.

فنعمت هذه الروح العالية، وبُعِثَت هذه المبادئ الغالية.

***

سبب هجرته

لما مات عمه تآمر الخصوم على قتله، فأوحى الله إليه بأن يهاجر إلى يثرب

حيث يجد الأنصار والمساعدين فيعمل على تقوية نفسه ونشر مبادئه طوعًا لربه.

في الله والأوطان سعي مهاجر

لله لم يجبن ولم يتأثم

لم يرض يثرب بعد مكة موطنًا

إلا خضوعًا للمليك الأعظم

ما زال فيها غاديًا أو رائحًا

أبدًا يحن إلى الحطيم وزمزم

علم النبوة والمفاخر كلها

وخلاصة الشرف الذي لم يثلم

علمتنا حب البلاد عقيدة

لا يعلم الإيمان ما لم تعلم

ولقد هديت من الضلالة أمة

لولاك لم تنهض ولم تتقدم

وألنت جانبها وصعب شكيمها

بروائع الآيات لا بالمخذم

وأخذت من ميسورها ما يتقى

بقليله غيظ الفقير المعدم

وعقدت في عنق القوي ضمانة

تغني الضعيف عن الظبى والأسهم

كانت هجرته سببًا في أنه قابل ناسًا تمكن من نشر دعوته فيهم وتقوَّى

بنصرتهم، وكان على الدوام يحن إلى دياره التي احتلها الخصوم وأخرجوه منها.

***

مفاوضة في الصلح بين الرسول وخصومه

ذهب الرسول في أربع مائة وألف من أصحابه إلى مكة في السنة السادسة من

الهجرة، كي يزورها ويعتمر فيها، فيشرح صدره بها ويخفف من حنينه إليها،

ولما قرب منها أرسل العيون والجواسيس لتستطلع له حال الخصوم، وتبلغه ما هم

فيه من الاستعداد، ولما شاور الرسول أصحابه قالوا: ما جئنا مقاتلين، فإن منعونا

قاتلناهم. وبايعوه على ألا يفر منهم أحد، فمنعهم الخصوم وحاصروهم، وبعد

مناوشات ومضاربات وقعت بينهم، رأى الرسول أن جيشه لا يقوى على الجيش الذي

أمامهم [2] ، وأن الصلح خير لهم، فدارت المفاوضات بين الطرفين على إبطال

الحرب عشر سنين، ويباح للرسول أن يأتي مكة في كل عام آمنًا حرًّا.

***

الخصم يملي الشروط ويضع القيود

وقد وضع الخصم شروطًا وقيودًا أملاها بنفسه في اتفاقية الصلح.

***

اتفاقية الصلح وشروطها

قالوا: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فإنا لا نعرف الرحمن من هو،

واكتب: باسمك اللهم. فكتب، قالوا: لا تكتب: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله،

فإنا لا نقر بأنك رسول الله، ولو أقررنا لما منعناك فاكتب محمد بن عبد الله. فكتب،

قالوا: من يأتي منا مسلمًا إليك ترده إلينا، وأما من يأتي منكم إلينا فلا نرده.

فرضي وكتب، قالوا: لا تدخل مكة هذا العام، ولا بد أن ترجع إلى عام آخر لئلا

يتحدث العرب بأن قد ضُغِطَ علينا. فكتب، قالوا: إذا دخلت بعد هذا العام، فتدخل

بسلاح الراكب وتكون السيوف في القرب. فقبل الرسول كل هذه الشروط بعد

تحققه من تشبث الخصوم وتمسكهم بها، وكان الصحابة ينتقدونها ويعترضون على

كل شرط منها، فيقنعهم الرسول بالقبول للحاجة.

وقد اشتد اعتراضهم لما وصلوا إلى أن من جاء إليهم مسلمًا يردونه ومن ذهب

منهم لا يرد إليهم، فقالوا: كيف نرد من يأتي مسلمًا ونحن ندعو إلى الإسلام؟

وكيف لا يرد إلينا من يذهب منا؟ حتى المساواة في ذلك لا نحصل عليها؟ فقال

الرسول: (من ذهب منا فقد أبعده الله، ومن جاءنا ورددناه فالله يجعل له فرجًا

ومخرجًا) يعني هذا تحكم القوي في الضعيف وللضرورة أحكام.

هكذا أملى المشركون شروط الاتفاقية حسب إرادتهم وقبلها الرسول كلها على

ما فيها من الإجحاف ليكون حرًّا في دخول مكة كل عام فيتمكن من الاختلاط

بالشعب، ويبث فيه ما يشاء من المبادئ والتعاليم، ويتمكن من إعداد القوة التي

يحفظ بها الحق، وكان قبل هذا لا يمكن أحدًا من المسلمين أن يجهر بعقيدته خوفًا من

المشركين وفتنتهم وعذابهم وشدتهم [3] .

***

حكم القرآن في الاتفاقية

وقد أنزل الله في هذه الاتفاقية الآيات المبينة أنها فتح ونصر ومغانم،

قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا

تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 1- 3) وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ

فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا

وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (الفتح: 18- 20) فتأمل قوله: فعجل لكم هذه، يعني سيكون لهم مغانم كثيرة

من وراء هذه المغانم التي كسبوها بالاتفاقية، وما الاتفاقية إلا باب لتلك المغانم

الكثيرة ووسيلة للوصول إليها، ولقد كان ما وعد الله تعالى، وتحقق نظر الرسول

وأصحابه في صلاحية الاتفاقية؛ إذ تم لهم فتح مكة والاستيلاء علي بلادهم من

جميع جوانبها والتحكم فيها بكل حرية واستقلال بعد سنتين اثنتين من إمضاء المعاهدة

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ

مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً

قَرِيباً} (الفتح: 27) ، وقد أفاض بعد ذلك على العالم من مبادئه العالية ما ترون

في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، وبالإجمال كانت هجرة النبي - صلى

الله عليه وسلم - جديرة بأن تكون مبدأ التاريخ الإسلامي، وإنها لحادثة اهتز

العالم لها ونتج عنها الانقلاب الكبير في عالم المدينة وسنة الحرية والاستقلال.

***

اقتداؤنا بالرسول

وإنا نحمد الله إذ قد اقتدينا بالرسول واقتفينا أثره في الهجرة التي هاجرها وفدنا

المصري فاستحق بها فخرًا، ونال من أجلها كرمًا وأجرًا، فالله تعالى يوفقه للأصلح

فيما يتفق عليه لتقدم المصريين وتحرير مصر.

يا مصر إن قلوبنا ونفوسنا

رهن لديك فلا تخافي واسلمي

مهما استطال عليك جد عاثر

فالله جارك من عثار مؤلم

فثقي بأن الله بالغ أمره

والله خير حافظًا من مغرم

انتهت الخطبة

(المنار)

إن هذه الخطبة قد روعيت فيها المناسبة بين معنى العام الهجري وبين حال

مصر السياسية في هذا الوقت، فكانت المناسبة قوية، والمراعاة حسنة وأكثر

الخطبة حقائق، وأقلها معاني خطابية وشعرية قصد بها التأثير الذي يقتضيه الوقت،

كالتفاؤل بتوالي أهل الملل المختلفة. وبعض ما ذكر من فوائد الاحتفال بالأعياد،

ومثل هذا مما يتسامح به في أمثال هذه المواقف، ولكن فيها من مبالغات شعرية لا

يتسامح في مثلها، كالذي ذكره في حكمة إرسال الرسل، ولا سيما تفسيره الظلمات

بالسلطات الاستبدادية، والنور بالاستقلال على سبيل الحصر، وإنما الاستبداد أحد

تلك الظلمات، والاستقلال بعض لوازم ذلك النور، وما كل الأمم التي بعث فيها

الرسل كانت خاضعة لسلطة استبدادية كقوم موسى عليه السلام نعم إن الخطيب

قد تلقى عنا في مدرسة الدعوة والإرشاد أن التوحيد يعلي الأنفس ويرفعها حتى لا تذل

ولا ترضى بمهانة، ولا تخضع لسلطة استبدادية، ولكنه بالغ في تصوير ذلك بما ذكر

في الخطبة، وغفل عما قررناه في الدرس في المنار، ولا سيما مقالات ذكرى المولد

النبوي من اتصاف الأمة العربية قبل البعثة المحمدية بالحرية الشخصية واستقلال

الفكر وقوة الإرادة 0

وجملة القول أن هذه الخطبة كانت فريدة في بابها بمناسبتها لمقتضى الحال،

ولكن من بعض الوجوه، فالمقارنة المقصودة بها غير تامة، ومما أنكرناه من الخطبة

خلوها من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -عند ذكره فيها على

كثرته، والموضوع جله ديني، وهذا من تأثير السياسة والأحوال الاجتماعية في

الدين.

_________

(1)

تعدي عامة بلادنا تضايق بمن، ولم يرد في معاجم اللغة التي في أيدينا.

(2)

المنار: الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجنح لذلك الصلح عن ضعف، بل لإيثاره

السلم على الحرب، ورغبته في التمكن من تبليغ الدعوة بالحجة والبرهان.

(3)

يعني أنه لم يمكن لأحد من المسلمين قبل صلح الحديبية أن يظهر إسلامه أي: فيها قبل المدينة وما يتبعها، وناهيك باضطهاد المسلمين في مكة وما يتبعها.

ص: 43

الكاتب: محمد أبو الفضل

‌محاربة البدع

مشيخة الجامع الأزهر

أرسل إلينا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر رسالة بهذا العنوان مع كتاب

خاص منه ذكر فيه أنه سئل عما يسميه بعض أهل الطرق (اسم الصدر) ، فأجاب

بكتابة هذه الرسالة أو الفتوى، وأرسلها إلينا لأجل نشرها تعميمًا للفائدة وإرشادًا

للأمة، وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، أما بعد، فإنكم تسألون عما يفعله الآن بعض أهل

الطرق من أبناء هذا العصر، من اجتماعهم صباح مساء، يرددون لفظ (أه، أه)

يعتقدونه اسمًا من أسماء الله، ويقولون: إنهم بذلك يذكرون الله سبحانه ويسمون

ذلك: (اسم الصدر) .

والجواب: أن هذا اللفظ المسئول عنه (أه) بفتح الهمزة وسكون الهاء ليس

من الكلمات العربية في شيء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقًا، وإن كان بالمد

فهو إنما يدل في اللغة العربية على معنى التوجع، وليس من أسماء الذوات، فضلاً

عن أن يكون اسمًا من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، كما قال تعالى:

{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا

كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ

أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) .

وقد أجمع العلماء على أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية [1] ، ولا يجوز لنا

إطلاق اسم عليه تعالى أو صفة لم يكن ورد بها الشرع، كما أنهم أجمعوا على أنه

لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع بجواز التعبد به.

ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله

لنا على يديه الدين، وأتم لنا النعمة، كما قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وفي الصحيحين

عن عائشة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا

ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي

صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في

خطبته: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور

محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) [2]، ومن تأمل قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ

فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وتدبر هذا الوعيد

الشديد اقشعر جسمه أن يذكر الله أو أن يدعوه بعد ذلك بغير أسمائه التي سمى بها

نفسه، وأذن لنا في تسميته بها على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، والإلحاد

في الأسماء هنا على ثلاثة معان: الخروج بها عما وضعت له من المعنى الشرعي،

تحريفها عن لفظها الوارد شرعًا، إدخال ما ليس منها فيها كموضوع السؤال،

وكما نقل المفسرون هنا من علماء اللغة أن الملحد العادل عن الحق، والمدخل فيه

ما ليس منه.

فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين انتشروا في المدن والقرى يجمعون

الناس، ويعقدون المجالس على ذلك ويتخذون ذلك وِردًا موقوتًا زاعمين أنهم

يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد

بما لم يتعبدنا الله به، وتسمية لله بغير أسمائه، نعوذ بالله من فعل ذلك أو الإعانة

عليه أو السكوت عنه.

ومهما قال زعماء تلك البدعة من قولهم: إنهم وجدوا مشايخهم كذلك. فليس في

ذلك برهان لهم في الدنيا، ولا مخلص لهم عند الله يوم القيامة من عذابه، كيف وقد

قال علماء الصوفية أنفسهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة فهو باطل؟ وقالوا:

إذا لم يستند كشف الولي إلى الكتاب والسنة فهو كشف شيطاني. لا: الولي غير

معصوم. وورد مثل هذا القول أيضًا عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه،

وأجمعوا على أنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام والمشاهدة إلا بعد عرضه على

الكتاب والسنة، وما يقولونه أيضًا من الاستدلال على بدعتهم هذه بقوله تعالى:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114) فليس من الاستدلال في شيء، بل هو

بقول الجاهلين أشبه؛ لأن الآية ليس معناها أنه كان يذكر الله بلفظ (أه) كما

يفعلون بل معناها - كما قال المفسرون - أنه كان مشفقًا رحيمًا، والله يقول الحق وهو

يهدي السبيل.

25 المحرم 1339م

...

...

شيخ الجامع الأزهر

...

...

...

...

محمد أبو الفضل

وقد نشرت هذه الفتوى في الجرائد اليومية فرد عليها بعض المنتسبين إلى

الطريقة الشاذلية برسالة نشرت في جريدة الأهرام هذا نصها:

الرجوع إلى الحق فضيلة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أما بعد، فأسأل الله

تعالى أن يهدي إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أزكى صلاة وأتم سلام،

وأن يعم بذلك سائر الأنبياء والمرسلين وآل كل والتابعين.

قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي

أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) .

قال المفسرون: أسماء الله تعالى كلها حسنى؛ لأنها تدل على معاني الكمال

الإلهي سواء وردت في القرآن فقط كاسم الله تعالى القريب والمحيط والبديع والأحد

وأحكم الحاكمين وخير الفاصلين وذي العرش وذي الطول، وغير ذلك مما ورد في

الذكر الحكيم خاصة، أو جاءت به السنة أيضًا، كقوله صلى الله عليه وسلم:

(إن لله تسعًا وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة. الله الرحمن الرحيم)

الحديث أو وردت به السنة، وإن لم يرد في القرآن، كقوله - صلى الله عليه

وسلم -: (الديان لا يموت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى

طيب لا يقبل إلا طيبًا) وقوله صلى الله عليه وسلم في بعض أدعيته: (يا

حنان يا منان) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى جميل يحب

أن يرى أثر نعمته على عباده) وقد ورد هذا الاسم في خريدة التوحيد للدردير فهو

الجليل والجميل والولي وغير ذلك مما تفردت به السنة خاصة، وليس في القرآن

صراحة، فليس المراد بالأسماء الحسنى خصوص التسع والتسعين، وإلا لزم

عليه معارضة الأحاديث بعضها لبعض كما لا يخفى، وذلك لا يعقل.

إذا علمت ذلك علمت أننا مأمورون أن ندعو الله تعالى بكل اسم ثبت وروده

عن الشارع صلى الله عليه وسلم مطلقًا.

ومما تأكد ثبوته ذلك الاسم العظيم الذي اتخذه السادة الشاذلية من ضمن

أذكارهم وهو اسم الله تعالى (أه) جل جلاله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة

رضي الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - وأصحابه فنهاه بعضهم عن الأنين وأمره بالصبر، فقال رسول الله - صلى

الله عليه وسلم -: (دعوه يئن فإنه يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) ونقل العلامة

الحفني في حاشيته على الجامع الصغير للجلال السيوطي عند الكلام على الاسم

الأعظم قال: إن اسم الله تعالى (أه) هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا

سئل به أعطى.

وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره في شرح البسملة: اختلف العلماء في

الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو اسم الله الأعظم لاشتماله على سر الإشارة

وتكوين الكائنات وظهور التجليات. وذكر العلامة العزيزي في شرحه على الجامع الصغير أيضا أن اسم الله تعالى (أه) هو اسم يلهمه الله تعالى للعبد عند

تجليات الجلال. وقال الشيخ الأمير في حاشيته على متن (غرامي صحيح) : إن

(أه) من أسمائه تعالى. وصحح ذلك، وروى الحاكم في مستدركه حديثًا يذكر فيه أن

(أه) اسم عظيم من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من عباده؛ لأنه سر من

الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين. وقال الأستاذ الباجوري في

حاشيته عل جوهرة التوحيد - عند قول الناظم: حتى الأنين في المرض كما نقل -:

ينبغي للمريض أن يقول (أه) فإنه اسم من أسمائه تعالى، ولا يقول: أخ، فإنه من

أسماء الشيطان. فقد ثبت بالدليل النقلي أن (أه) اسم عظيم من أسماء الله الحسنى

أمرنا سبحانه أن ندعوه بها، فحينئذ لا إلحاد ولا تحريف - نعوذ بالله من ذلك -،

وإذًا ليس اسم (أه) مهملاً لا معنى له مطلقًا، كما قيل، بل معناه منزه عن الإهمال،

جليل عند أهل الإنصاف، ولو تتبعنا الآثار والأخبار الواردة في الاستدلال على صحة

هذا الاسم لما وسعتنا الصحف، وفي هذا القدر كفاية، لمن سطعت عليه أنوار

الهداية، ونسأل الله تعالى العناية وحسن الختام، بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة

والسلام.

...

...

...

...

...

الفقير

...

...

...

أحمد وافي الشاذلي الأزهري

نشر هذا الرد في عدد الأهرام الصادر في 26 المحرم، ولم ينشر من قِبل

مشيخة الأزهر رد عليه، ولكن كتب إلى الأهرام الرد الآتي فنشر في العدد الذي

صدر في 2 صفر، وهذا نصه:

رد على رد

أصدرت هيئة مشيخة الأزهر الأعلى بيانًا أنكرت فيه على بعضهم بدعًا

مستهجنة لم تؤيدها الأحاديث الصحيحة المتن، القوية الحجة المتعارضة مع روح

الدين الناصع، المنتشرة في بلاد هي كعبة العلم وحجة العارفين في اللغة والدين،

وانبرى أحدهم وسطر في صحيفتكم الغرَّاء كلمة لا نرى مندوحة من الرد عليها

إحقاقًا للحق الذي لا ينكره إلا المكابرون، وإنا لا نطيل الشرح في هذا الباب،

وإنما نورد الوجوه الآتية كي لا نضل الطريق السوي، وحتى لا يتسلط بعضهم على

السذج من الأمة، فيدخلون في الدين ما هو براء منه.

أولاً: إن ما أورده حضرة الكاتب من عزو حديث أبي هريرة الذي فيه: قال

الرسول الكريم لمعارضي المريض على أنينه: (دعوه يئن..) هذا العزو إلى

صحيح مسلم كذب محض، وإلا فليأتنا حضرته بالنص الصريح في صحيح مسلم،

وهو كثير متداول بين الأيدي كُرِّرَ طبعه مرارًا وتعددت طبعاته، وكلها خلو من هذا

الحديث، فليتفضل حضرته بذكر الصحيفة التي تتضمن هذا الحديث.

ثانيًا: إن الحديث المذكور مدون في الجامع الصغير، وعزاه صاحب الجامع

إلى الرافعي، فهو حديث لا تقوم عنده حجة؛ لأنه لم يُخَرَّج في الكتب الصحيحة ولم

يصححه أحد من المحدثين.

ثالثًا: لو فرضنا أن هذا الحديث صحيح، فلا يدل على بدعتكم هذه، فإن

الرسول إنما أشفق على المريض وتركه يئن، فإن صح أن لفظة (أه) اسم من

أسماء الله تعالى؛ فأسماء الله الحسنى معروفة، ولا حاجة إلى عدها في هذا المقام،

وحسبنا أن يكون ما أوردتموه إشفاقًا على المرضى، فلا يجب أن يكون ساريًا على

الأصحاء وإقناع السذج منهم بأن لفظ (أه) اسم من أسماء الله، والله بريء مما

تنسبونه إليه جلت أسماؤه.

...

...

...

...

... محمد فهمي

...

...

...

...

... بالإسكندرية

***

تعليق المنار على الفتوى والرد عليها

الفتوى ودعامة الإصلاح

إن فتوى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مشتملة على بيان أساس الدين،

وأصل الإصلاح الأعظم فيه، وإن كانت في بيان بطلان بدعة خاصة، قد ابتلي أهل

الطرق بكثير من مثلها، ومما هو أبعد عن هدي الدين منها كما شرحناه في مواضع

من المنار، وهذه الأصول تقضي على جميع البدع، فقيمة الفتوى أكبر وأعظم من

إثباتها؛ لكون ما يسمونه (اسم الصدر) والتعبد به بدعة ليست من الدين في شيء.

ذلك الأساس الراسخ والأصل الثابت الذي هو جدير بتدبر المسلمين هو قول

الشيخ: إن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع

بجواز التعبد به. فهذا الأصل ثان للأصل الأول الذي جاء به جميع رسل الله -

صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لا يُعْبَدُ إلا الله وحده، وقد صرح شيخ الإسلام

ابن تيمية بأن الدين كله قائم على هذين الأصلين:

(1)

لا يُعْبَد إلا الله تعالى.

(2)

لا يُعْبَد الله تعالى إلا بما شرعه.

ولا نزاع في ذلك، وإنما نعيده ونكرره لزيادة الإيضاح والتقرير، وقد بيَّن

الشيخ - أدام الله النفع به - دليل هذا الإجماع بقوله: إن الرسول - صلى الله عليه

وسلم - لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله تعالى لنا على يديه الدين، وأتم لنا

النعمة، وذكر نص آية المائدة التي أنزلت عليه صلوات الله وسلامه في يوم عرفة

من حجة الوداع، ولعله إنما قال (على يديه) ولم يقل: على لسانه. مع أن الدين

تبليغ عن الله تعالى باللسان؛ ليفيد أنه صلى الله عليه وسلم بين ما نزله الله عليه

بالفعل والحكم والتنفيذ، كما بلغه بالقول، وعبارته تدل على حصر هذا الإكمال به -

صلى الله عليه وسلم دون غيره من الصحابة وعلماء التابعين ومن بعدهم، فليس

قول أحد منهم ولا فعله دينًا ولا حجة في الدين عند أهل السنة.

وقد بنى الشيخ - أيد الله به السنة - على هذا البطلان احتجاج أصحاب هذه

البدعة بأقوال شيوخهم وأفعالهم فقال: إنه ليس لهم في ذلك برهان في الدنيا ولا

منجاة من عذاب الله تعالى في الآخرة، ولما كان سبب افتتان الكثير من الناس ببدع

المتصوفة الاغترار بما كان عليه بعض شيوخهم من العرفان والصلاح، وما ينقل

عن بعض أفرادهم من معرفة الحقائق بالكشف، كَشف الشيخ هذه الشبهة بكلام

منقول عن بعض علماء الصوفية المشهورين مبني على ذلك الأساس الأعظم للدين،

وهو قولهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة من كشف وغيره فهو باطل.

وتسميتهم هذا الكشف شيطانيًّا، وقولهم: إنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام

والمشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة. وتصريحهم بأن الولي غير معصوم؛

أي: لا في كشفه ولا في غيره، وإنما نقل هذا القول عن علماء الصوفية؛ لأن غير

العلماء لا يعتد بقولهم ولا نقلهم، فمثل علماء الصوفية في ذلك غيرهم من

المتكلمين والفقهاء، فالدين قد أكمله الله تعالى، وهو محصور في الكتاب العزيز

والسنة النبوية الثابتة، ولا يوجد إجماع صحيح ولا قياس صحيح إلا وهو مستند

إليهما، وإنما كلام العلماء الذي يعتد به هو بيان الأصلين وما استنبط منهما واستند

إليهما من قياس وإجماع، على ما في القياس والإجماع من خلاف معروف في علم

أصول الفقه.

وقد استدل الشيخ - أيد الله حجته - على ما ذكر من أساس الدين بالسنة

الصحيحة، كما استدل بالكتاب العزيز واكتفى بأشهر الأحاديث وأصرحها في

الموضوع، حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وهو متفق عليه،

وحديث (أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله) إلخ، وهو متفق عليه أيضًا،

وإن لم يخرجه البخاري إلا موقوفًا على عبد الله بن مسعود، ورواهما غير الشيخين

كما تقدم.

بعد بيان هذه الأصول الأساسية في الدين، أشار الشيخ في سياق بيان بدعة ما

يسمونه (اسم الصدر) إلى قسمي البدعة اللذين أسهب الإمام الشاطبي في الكلام

عليهما بكتابه الاعتصام، وهما البدعة الحقيقية، كذكر الصدر الذي ليس له أصل في

الكتاب ولا في السنة، ولا كان موجودًا في صدر الإسلام، بل هو إحداث وابتداع

محض، والبدعة الإضافية، وهي ما كان له أصل، ولكن الابتداع فيه بالعوارض

والصفات كالعدد والتوقيت والاجتماع والصفة كصلاة الرغائب في رجب، وصلاة

شعبان، وقد قال فيهما الإمام النووي في المنهاج: وصلاة رجب وشعبان بدعتان

قبيحتان مذمومتان. ومن هذا القبيل جميع الأوراد التي جعلوها من شعائر الدين

بالتوقيت والاجتماع ورفع الصوت وغير ذلك.

قال الشيخ - نفع الله به -: (فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين

انتشروا في المدن والقرى يجمعون الناس ويعقدون المجالس على ذلك، ويتخذون

ذلك وردًا موقوتًا زاعمين أنهم يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة

ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد بما لم يتعبدنا الله به وتسمية لله بغير أسمائه،

نعوذ بالله من فعل ذلك، أو الإعانة عليه أو السكوت عنه) اهـ.

وقد عبر هنا عن البدعة بالسنة السيئة باعتبار أنها تتبع وتجعل كالمشروع،

ويقتدي بعض الناس فيها ببعض، وللإشارة إلى حديث جرير بن عبد الله البجلي في

صحيح مسلم مرفوعًا: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل

بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان

عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم

شيء) [3] وأخرجه الترمذي عنه بلفظ: (من سن سنة خير.. ومن سن سنة

شر..) فالمراد بالسنة هنا معناها اللغوي وهو الطريقة المسلوكة؛ إذ كان سبب

الحديث أن قومًا من مضر جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم حفاة عراة

فتمعر وجهه الشريف لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلَّى بالناس

ثم خطب، فحث على التصدق من النقد والثياب والطعام، فتلبث الناس حتى كان

رجل من الأنصار بدأ بأن جاء بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها لكبرها بل عجزت،

ثم تتابع الناس فكان ما جاؤوا به كومين من طعام وثياب، حتى تهلل وجه النبي -

صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام) إلخ، فالمراد بالسنة هنا

العمل الذي يكون به صاحبه قدوة فيه، سواء كان اتباعًا كفعل ذلك الأنصاري وهو

السنة الحسنة، أو ابتداعًا وهو السنة السيئة، وليس من السنة الحسنة أن يسن في

الدين عبادة جديدة ولو في الهيئة والصورة، نعم، قد يدخل في السنة الحسنة كل

اختراع دنيوي ينفع الناس في دينهم أو دنياهم، ويشترط في الثاني أن لا يكون

محظورًا شرعًا في نفسه ولا فيما يترتب عليه ويلازمه، وقد تضمن كلام الشيخ

إنكار جميع البدع وبيان حظرها، وحظر الإعانة عليها والسكوت عنها، كل

ذلك محرم شرعًا، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما من

عزائم الدين بل هما سياجه وحفاظه.

ونحمد الله أننا قد جرينا على هذه الأصول والقواعد في المنار، وما زال كثير

من المعممين الجاهلين أو الحاسدين ينكر علينا بناء الإصلاح الديني على اتباع

الكتاب والسنة وإنكار البدع كلها حقيقية كانت أو إضافية.

ونرجو من الشيخ، وهو رئيس للمعاهد الدينية في هذا القطر كله أن يجعل

العمل بهذه الفتوى مبدأ إصلاح جديد في الأزهر وسائر المعاهد الدينية قبل غيرها،

فإن البدع ومخالفة السنن كثيرة فيها حتى في عماد الدين، الصلاة، فقد صليت

الجمعة من عهد قريب في الجامع الأزهر، فوجدت قشر البصل وأوراقه الخضر

وقشر البيض منثورة في مواضع من المسجد، ووجدت المجاورين وغيرهم متحلقين

في صحنه يتكلمون وقت الخطبة، ووجدت الصفوف غير تامة ويبعد بعضها عن

بعض بعدًا واسعًا، وغير ذلك من المنكرات، كما نرجو منه أن يبطل من عقاب

مخالفي قانون المعاهد الحرمان من دروس العلم، فإنه يتضمن المنع من طاعة الله

تعالى وعبادته بتلقي علوم الدين: وسائلها، ومقاصدها، والله الموفق.

***

الرد على المعترض على الفتوى

انبرى أحد مشايخ الطريقة الشاذلية للرد على الفتوى وإثبات ما يسمونه

(اسم الصدر) وكون التعبد به مشروعًا، فاستدل على الاسم بحديث عزاه إلى

صحيح مسلم، وحديث عزاه إلى الحاكم، وبكلام بعض المصنفين.

أما الحديث الأول فنص عبارته فيه: ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي

الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

فنهاه بعضهم عن الأنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعوه يئن فإنه

يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) وقد كذبه من رد عليه من الإسكندرية بعزو هذا الحديث

إلى صحيح مسلم، وطالبه ببيان مكانه منه، وذكر أن السيوطي عزاه في الجامع

الصغير إلى الرافعي، وأنه لم يصححه أحد من المحدثين، وأنه على فرض صحته لا

يدل على مطلوبه، وهو مصيب في هذه الأقوال كلها، ولكنها غير كافية في الرد

عليه، فنزيد عليه ما يأتي من الدلائل والفوائد:

(1)

أن المعترض زعم أن هذا الحديث من مسند أبي هريرة المخرجة في

صحيح مسلم، وليس في صحيح مسلم ولا في غيره من كتب الحيدث. والحديث الذي

عزاه السيوطي في جامعه إلى الرافعي من مسند عائشة، وبين السيوطي سببه في

الجامع الكبير كما ذكر في الإكمال من كنز العمال وهو: أن عائشة قالت: دخل

علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا عليل يئن فقلنا له: اسكت. فقال:

(دعوه يئن، فإن الأنين اسم من أسماء الله تعالى يستريح إليه العليل) والمعترض

ذكر لحديث أبي هريرة سببًا مثل هذا، وهو ناقل له عن بعض كتب الطريقة،

وليس هو المخترع له، ومن المعروف عند العلماء أن الحديث كغيره من العلوم له

أئمة يؤخذ عنهم، فلا يعتد إلا بما رووه، ولا يحتج بشيء مما رووه إلا إذا

صححوا سنده، أو حسنوه، وإن كتب الصوفية وكتب التاريخ والأدب يكثر فيها

الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجوز العمل بها؛ لا في فضائل الأعمال، ولا

في غيرها، بل يوجد أمثال هذه الأحاديث في كتب التفسير والكلام (العقائد

وفلسفتها) ؛ لأن أكثر مصنفيها من غير المحدثين، وهذا كتاب إحياء العلوم من أشهر

الكتب، ومؤلفه من أكبر أئمة المتكلمين والفقهاء الصوفية، وهو يشتمل على كثير من

الأحاديث الموضوعة والواهية التي لا يجيز أحد من الأئمة العمل بها في الفضائل،

فضلاً عن الاحتجاج بها في إثبات أسماء الله تعالى وصفاته، وشرعية عبادة لا دليل

لها سواها.

(2)

قال الشيخ محمد الحوت الكبير في كتابه الذي بين فيه ما في الجامع

الصغير من الأحاديث الضعيفة؛ أي: والموضوعة عند ذكر حديث (دعوه يئن) :

لكن هذا لم يرد في حديث صحيح ولا حسن، وأسماؤه تعالى توقيفية اهـ.

(3)

مما يدل على أن هذا الحديث مصنوع ليس له أصل: عدم ذكر أحد له

من المحدثين، ولا فقهاء الحديث في الكتب التي لا يهملون فيها مثله؛ ككتب لغة

الحديث وشروحه وفقه الحديث، فهذا الحافظ ابن الأثير لم يذكر كلمة الأنين في كتابه

النهاية الذي وضعه لتفسير مفردات الأحاديث، ولم يذكرها صاحب مجمع البحار في

كتابه ولا في تكملته على عنايته باستقصاء ما تركه صاحب النهاية.

ولم يذكره حفاظ الحديث والفقهاء في بحث حكم الأنين شرعًا هل هو مكروه

أم لا، وقد اعتمد أعلم الفقهاء بالأحاديث كراهته ونظر بعضهم فيها، ولو ثبت

هذا الحديث عندهم لقالوا: إنه مستحب أو مسنون.

(4)

قال الحافظ ابن حجر في شرحه حديث تفجع عائشة من وجع رأسها

وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: (ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)

وهو في كتاب المرضى من صحيح البخاري ما نصه: قال القرطبي: اختلف الناس

في هذا الباب (المنار: يعني باب الشكوى في المرض ونحوه هل يقدح في الرضا من

الله والتسليم أم لا؟ والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على

وجدان ذلك، فلا يستطيع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في

حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه؛ كالمبالغة في التأوه، والجزع الزائد، كأن من

فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذمومًا حتى يحصل

التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه وشكواه، إنما هو ذكره

للناس على سبيل التضجر، والله أعلم.

(قال) : روى أحمد في الزهد عن طاوس أنه قال: أنين المريض

شكوى. وجزم أبو الطيب الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه

مكروه، وتعقبه النووي، فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي

مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم

أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى.

ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر

بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه

عن حاله، فلا بأس به اتفاقًا ، اهـ ما أورده الحافظ في شرح حديث عائشة من

البخاري، ولو كان لها حديث في شرعية الأنين لذكره النووي أو الحافظ الذي قال فيه

بعض العلماء: إن كل حديث قال الحافظ ابن حجر: لا أعرفه. فليس بحديث؛

لجودة حفظه لكتب السنة، وحسن استحضاره لها، ولا سيما في شرحه للبخاري

الذي كان يتلقاه عنه الحفاظ والفقهاء في الجامع الأزهر تلقي بحث واستدلال.

وكذلك فقهاء الحنابلة جزموا بكراهة الأنين في المرض في كتبهم، قال الفقيه ابن

مفلح في كتابه الفروع: (فصل) يكره الأنين في المرض إلخ، ثم قال في فصل

بعده: وكانوا يكرهون أنين المريض؛ لأنه يترجم عن الشكوى. ثم ذكر عن عبد

الله ابن الإمام أحمد أنه نقل في أنين المريض: أرجو أن لا يكون شكوى ولكنه

اشتكاء إلى الله اهـ. وذكر ذلك السفاريني في أواخر الجزء الأول من شرح

منظومة الآداب، ثم قال:

(قلت) : أنين المريض تارةً يكون عن تبرم وتضجر فيكره، وتارةً يكون

عن تسخط بالمقدور فيحرم فيما يظهر، وتارةً يكون لأجل ما يجد، ويجد به نوع

استراحة بقطع النظر عن التضجر والتبرم فيباح، وتارةً يكون عن ذل بين يدي

رب العالمين وانكسار، وخضوع وافتقار، ومسكنة واحتقار، مع حسم مادة العون

إلا من بابه، والشفاء إلا من عنده، والعافية إلا من كرمه، فهذا لا يكره فيما يظهر

بل يندب إليه، وإليه الإشارة في حديث، وإن لم يثبت (المريض أنينه تسبيح،

وصياحه تكبير، ونفسه صدقة، ونومه عبادة، ونقله من جنب إلى جنب جهاد في

سبيل الله) قال الحافظ ابن حجر: ليس بثابت والله أعلم اهـ.

فأنت ترى أن حديث عائشة الذي عزاه السيوطي إلى الرافعي أمثل ما يستدل به

على الحكم الصحيح في هذه المسألة؛ لأنه نص فيها، فلو كان له أصل لذكروه، ولو

مع التصريح بعدم ثبوته، كما قال الحافظ في حديث المريض المذكور آنفًا.

(5)

وأما الحديث الثاني فقد أورده المعترض بقوله: وروى الحاكم في

مستدركه حديثًا يذكر فيه أن (أه) من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من

عباده؛ لأنه سر من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين.

ونقول في هذا الحديث كما قلنا فيما قبله: الظاهر أنه نقله عن بعض كتب

أهل الطريق الذين لا يُعْتَدُّ بنقلهم، وهو لم يذكر لفظه، ولا اسم الراوي له من

الصحابة، ونحن لم نر كلمة (أه) في النهاية، ولا مجمع البحار، ولا تكملته، ولا

في غيرهما من معاجم اللغة العامة الشاملة في الكتاب والسنة ولغيره من كلام العرب،

ونزيد على ذلك أن هذه العبارة من الكلام المألوف عند الصوفية وليست من أساليب

كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام العرب في عصره، وكيف يصح أن يكون

سرًّا يعرف بالإلهام ويختص بالمقربين مع التصريح به؟ على أنه غير معروف إلا

عند غوغاء المنتسبين إلى الطريق، فلم يرد عن أحد من أكابر الصحابة والتابعين،

ولا الأئمة المجتهدين، ولا غيرهم من أكابر الفقهاء أو المتكلمين، وأئمة الصوفية

العارفين.

***

الأقوال في اسم الله الأعظم

(6)

ولما كانت الأقوال التي عزاها إلى العلماء في إثبات (اسم الصدر)

واردة في بيان كونه هو اسم الله الأعظم ننقل ما أحصاه الحافظ ابن حجر من

الأقوال في الاسم الأعظم عمن يقول به، فإن بعض العلماء أنكره كما قال الحافظ،

وهذا نص ما قاله في فتح الباري بعد أن أطال الكلام في أسماء الله الحسنى:

(تكميل) وإذ قد جرى ذكر الاسم الأعظم في هذه المباحث فليقع الإلمام بشيء من

الكلام عليه، وقد أنكره قوم كابن أبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري

وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز

تفضيل بعض الأسماء على بعض. ونسب ذلك بعضهم لمالك؛ لكراهيته أن تعاد

سورة أو تردد دون غيرها من السور؛ لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض،

فيؤذن ذلك باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل، وحملوا ما ورد من ذلك على أن

المراد بالأعظم العظيم، وأن أسماء الله كلها عظيمة، وعبارة أبي جعفر الطبري:

اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة؛ إذ لم

يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول: كل اسم من

أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم.

وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي

بذلك كما أطلق ذلك في القرآن، والمراد به مزيد ثواب القارئ.

وقيل: المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به

ربه مستغرقًا، بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتَّى له

ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما.

وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يُطلع عليه أحدًا من

خلقه، وأثبته آخرون معينًا واضطربوا في ذلك، وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة

عشر قولاً:

الأول: الاسم الأعظم (هو) نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف،

واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل له: أنت قلت

كذا وإنما يقول: هو يقول، تأدبًا معه.

الثاني: (الله) لأنه اسم لم يطلق على غيره؛ ولأنه الأصل في الأسماء

الحسنى، ومن ثم أضيفت إليه.

الثالث: (الله الرحمن الرحيم) ، ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة

أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلت

ودعت: اللهم إني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما

علمت منها وما لم أعلم) الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: إنه لفي

الأسماء التي دعوت بها. قلت: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال نظر لا يخفى.

الرابع: (الرحمن الرحيم الحي القيوم) لما أخرج الترمذي من حديث أسماء

بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في هاتين

الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) وفاتحة

سورة آل عمران: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} (آل عمران: 2) أخرجه

أصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي، وفي نسخة صححه، وفيه نظر؛

لأنه من رواية شهر بن حوشب.

الخامس: (الحي القيوم) ، أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة (الاسم

الأعظم في ثلاث سور: البقرة وآل عمران وطه) قال القاسم - الراوي عن أبي

أمامة -: التمسته منها فعرفت أنه (الحي القيوم) وقوَّاه الفخر الرازي، واحتج

بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتها.

السادس: (الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي

القيوم) ، ورد ذلك مجموعًا في حديث أنس عند أحمد والحاكم، وأصله عند أبي داود

والنسائي، وصححه ابن حبان.

السابع: (بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام) أخرجه أبو يعلى

من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي، وأثنى عليه قال: كنت أسأل الله

تعالى أن يريني الاسم الأعظم، فأريته مكتوبًا في الكواكب في السماء.

الثامن: (ذو الجلال والإكرام) أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل

قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام.

فقال: (قد استجيب لك فسل) واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في

الإلهية؛ لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع

الإضافات.

التاسع: (الله لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له

كفوًا أحد) ، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث

بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.

العاشر: (ربّ ربّ) ، أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عباس

بلفظ (اسم الله الأكبر: رب رب)، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة: (إذا قال

العبد: يا رب يا رب. قال الله: لبيك لبيك عبدي سل تعط) رواه مرفوعًا وموقوفًا.

الحادي عشر: (دعوة ذي النون) أخرج النسائي والحاكم عن فضالة بن

عبيد رفعه (دعوة ذي النون في بطن الحوت {لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ

مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له) .

الثاني عشر: نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه

الاسم الأعظم فرأى في النوم: (هو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم) .

الثالث عشر: هو مخفي في الأسماء الحسنى، ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما

دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى، فقال لها صلى الله عليه وسلم:

(إنه لفي الأسماء التي دعوت بها) .

الرابع عشر: (كلمة التوحيد) نقله عياض كما تقدم قبل هذا. اهـ ما أورده

الحافظ من إحصاء الأقوال التي وقف عليها، ومنها عدة أقوال نقلها عن الرازي

ليس فيها ذكر اسم (أه) المدعى، وسننقل ما قاله في تفسيره، ومنها أدلة رواها

الحاكم، وكان الحافظ ابن حجر يحفظ مستدرك الحاكم وغيره من كتب السنة ولم

يذكر عنه في الروايات التي رواها في الاسم الأعظم ولا في الأسماء الحسنى أن

منها (أه) ، وبلغنا أنها كلمة سريانية.

وسننشر في الجزء التالي بقية الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر

مبدوءًا بكلام الفخر الرازي في اسم الله الأعظم، إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

المنار: إطلاق الحكم بالإجماع هنا سهو، فجمهور الأشاعرة قالوا بالتوقيف، وجمهور المعتزلة بعدمه، ولذلك قال صاحب الجوهرة: واختير أن اسماه توقيفية/ كذا الصفات فاحفظ السمعية.

(2)

لفظ مسلم أوله: (أما بعد فإن أحسن الحديث) إلخ، ورواه أحمد وأصحاب السنن باختلاف في الألفاظ، وأخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود موقوفًا بلفظ (إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين) وذكر الحافظ في شرحه له من الفتح أن أصحاب السنن أخرجوه عنه مرفوعًا، وأن مسلمًا أخرجه من حديث جابر مرفوعًا مع زيادة، وليس شيء من ذلك على شرط البخاري.

(3)

وفي رواية (شيئًا) في الموضعين، و (نقص) يستعمل لازمًا ومتعديًا.

ص: 49

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

‌تاريخ فنون الحديث [*]

(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل من السنة تبيانًا للكتاب، ونورًا يهتدي به أولو الألباب،

وبعث إليها من الحفاظ المتقنين، والرواة الصادقين، والنقدة الباصرين، من قام

بصادق خدمتها، وحفظ عليها جلال حرمتها، ونفى عنها تحريف الغالين، وانتحال

المبطلين، وتأويل الجاهلين [1] ، وصانها من إفك المفترين، ودغل الدجالين،

فحفظت على مر العصور، من يد الدثور، وصينت - بعناية الله - من أرباب

الفجور، فلله مزيد الحمد والمنة على ما حفظ من معالم دينه وسبل رشاده، وعلى

صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلواته وسلامه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم

بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد، فإن من لا علم له بالكتاب والسنة لا حظّّ له من الملة الحنيفية،

والشرعة المحمدية، وليس له من نور الهداية ومصباح النبوة ما يهتدي به في

دياجير الشبهات، وظلمات الترهات، وإن صدره لغفل من برد اليقين، وعقله

بمعزل من إصابة الحق المبين، وقلبه خلو من واعظ الإيمان وخشية الديان،

فالخير كل الخير في اتباع الكتاب والسنة واقتفاء هديهما، والاغتراف من بحرهما

الواسع، وجودهما السابغ، ولا شيء أهدى للنفوس وأجلب لسعادتها، وأرجى

لطهارتها، من تفهم هذين الصنوين والعكوف على درسهما، وتدبر معانيهما،

والنفوذ إلى مغزاهما، فهناك طهارة القلب، وصفاء العقل، وكمال النفس.

فكان خليقًا بالعلماء ورواد الدين أن يجعلوا مقصدهم الأسمى وغايتهم القصوى

معرفة هذين الأصلين، والاستظلال بظل هاتين الدوحتين، والاحتماء بحماهما

وابتغاء الهداية من سبيلهما، ولكن - واأسفاه - صرفوا عنهما العناية، وولوا

وجوههم نحو الفروع وما إليها، وتحكموا بها في كتاب الله وسنة رسوله صلى

الله عليه وسلم، فآثروا الفروع على الأصول، وقدموا آراء الرجال على قول الله

وقول الرسول، وما ذلك إلا إغماص لمقام الكتاب والسنة، وتغال في وضع الآراء

مواضع النصوص، وإنه لخطأ - لو يعلمون - عظيم تنكره أصولهم، وتأباه

عليهم - لو أنصفوا - عقولهم.

ومن عجيب أمرهم أن يعدوا من كبار المفسرين مَنْ درس مثل تفسير الجلالين

أو النسفي دون أن تكون له ملكة فهم في القرآن وذوق يدرك به سر فصاحته وكمال

اقتدار على تطبيقه على سير الناس ومعاملاتهم، وأعجب من ذلك أن يعدوا بخاري

زمانه ومسلم أوانه مَن مر على صحيح البخاري مر السحاب دون أن يطلق لنفسه

العنان في تفهم الأحاديث واستنباط الأحكام، ومقارنة ذلك بأفهام المتقدمين وما

استنبطوه منها، وأين صحيح البخاري من كتب الصحاح والمسانيد والأجزاء التي

يكاد يخطئها العد ولا يضبطها الحساب؟ وإن من المضحكات المبكيات أن نسأل

كثيرًا من العلماء عن أسماء الكتب الستة فلا يحير جوابًا، كأن ذلك ليس لديه من

الدين في ورد ولا صدر، ولا قبيل أو دبير، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

تنكرت معالم الدين وطبق الجهل على المنتسبين إليه، وسادت الفروع وعبدت

لها الأصول، وأنكر على المؤثر لها، المقتفي هديها، فزال جلال الدين من النفوس،

وكاد يرحل من دول القضاء، ويهاجر من أرض المعاملات.

فكل ذلك دعاني لأن أجعل رسالتي التي أقدمها لمدرسة القضاء الشرعي في

السنة الختامية، في تاريخ فنون الحديث، والكشف عما طرأ عليها من جمع

وتصنيف، وترتيب وتهذيب، وشرح وتبيين حتى تتمثل لك - أيها القارئ الكريم -

صورة واضحة ترى فيها كتب السنة ماثلة، وتلمح في ثناياها تلك الخدمات الجليلة

التي أداها للسنة سلفنا الصالح، وتبصر في أساريرها رفيع مقام السنة، وناصع

بياضها وجليل أمرها، وإني وإن لم أسبق إلى هذا النوع من الكتابة، حسب ما أعلم،

ولم يمهد أحد قبلي صعابه، فإن أملي في الله عظيم، ورجائي في واسع فضله كبير

أن يسدد لي خطاي، ويوفقني لمسعاي، ويمدني بروح من عنده يهديني بها قصد

السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.

***

معنى تاريخ السنة

السنة في اللغة: الطريقة المسلوكة، من سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه

حتى يؤثر فيه سنًّا؛ أي: طريقًا، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى الطريقة المحمودة،

وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة

سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) رواه مسلم، وتطلق في

عرف الشرعيين على قول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، عدم

إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادًا للشرع فهي مرادفة للحديث، وأعني

بتاريخها الأداوار التي تقلبت فيها من لدن صدورها عن صاحب الرسالة صلى

الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا من حفظ في الصدور، وتدوين لها في

الصحف، وجمع لمنشورها وتهذيب لكتبها ونفي لما اندس فيها، واستنباط من

عيونها، وتأليف بين كتبها، وشرح لغامضها ونقد لرواتها، إلى غير ذلك مما

يعرفه القائمون على خدمتها والعاملون على نشر رايتها.

***

أدوار تاريخ السنة

حفظها في الصدور، تدوينها مختلطة بالفتاوى، إفرادها بالتدوين، تجريد

الصحيح، تهذيبها بالترتيب والجمع والشرح، فنون الحديث المهمة، وتاريخ كل

علم، وأحسن المصنفات فيه.

وسنعقب ذلك بخاتمة فيها مسائل قيمة.

***

مكانة السنة من الكتاب

قبل أن نشرع في موضوعنا نقدم لك بين يديه فصلاً نبين فيه مكانة السنة من

الكتاب ومنزلتها منه حتى تنجلي لك مكانة الموضوع الذي نحن بصدده، فنقول

وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا:

إن للسنة عملين:

1-

تبيين الكتاب.

2-

والاستقلال بتشريع الأحكام. أما الأول؛ فلقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ

الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، فلا سبيل إلى العمل بجل

الشرائع التي تضمنها الكتاب إلا ببيان من المعصوم يفصل مجملها، ويوضح مشكلها،

ويعين محتملها، ويقيد مطلقها، وكيف تراك مصليًا إذا وقفت إلى ما نطق به الكتاب

فحسب، ولم تعرض على السنة فتتعرف أوقاتها وعدد ركعاتها وسجداتها وما يقيمها

أو يبطلها إلى سائر أحكامها وكثير أنواعها؟ وما الذي تخرجه من مالك زكاة إذا لم

تسترشد بكتاب الصدقات من السنة؟ ثم كيف تؤدي مناسك الحج إذا لم تأتس

بالرسول في قاله وحاله يوم أن حج بالناس حجة الوداع، فلا جرم كان القرآن في

حاجة إلى السنة ورحم الله الأوزاعي إذ يقول: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى

الكتاب. ولا عجب في ذلك، فإن المجمل في حاجة إلى البيان، ولا كذلك المفصل.

وأما الثاني؛ فلقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا

وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7)، وقوله جل شأنه: {وَأَطِيعُوا

اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) إلى غير ما آية، وكيف ننكر استقلال

السنة بتشريع الأحكام وقد أخرج أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال:

قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته

يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال

استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما

حرم الله) زاد أبو داود: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، وقد حرمت السنة

نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وحرمت الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من

السباع ومخلب من الطير، وأوجبت رجم المحصن، إلى كثير مما ملئت به مدونات

فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام، كبلوغ المرام لابن حجر، والمنتقى

للمجد ابن تيمية، وشرحه نيل الأوطار للشوكاني.

ولا تنس ما في السنة من آداب وآخلاق وقصص ومواعظ ورقائق وعقائد،

وإن كانت لا تعدو شرح الكتاب.

وجملة القول أن الكتاب والسنة ينبوع هذا الدين المتين، ومعتمد المسلمين

وناموس المشرعين.

***

الدور الأول حفظ السنة في الصدور

لم تكن السنة في القرن الأول - عصر الصحابة وأكابر التابعين - مدونة في

بطون الكتب، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب، فكانت صدور الرجال

مهد التشريع النبوي ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق.

ولم يقيدوا السنة بكتاب لما ورد من النهي عن كتابتها، روى مسلم في

صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله- صلى الله

عليه وسلم -: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا

عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قال كثير من

العلماء: نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن، وهذا لا ينافي جواز

كتابته إذا أمن اللبس، وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه

وسلم في مرضه الذي توفي فيه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده)

وقوله عام الفتح: (اكتبوا لأبي شاه) ، وإذنه لعبد الله بن عمرو بتقييد العلم،

ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده

في موضع واحد وسموا ذلك (المصحف) واقتصروا عليه ولم يتجاوزوه إلى كتابة

الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن الكريم، وصرفوا همهم إلى نشره

بطريق الرواية، إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه صلى الله عليه وسلم إن

بقيت في أذهانهم، أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم، فإن المقصود بالحديث هو

المعنى، ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن، فإن للألفاظ مدخلا ًفي

الإعجاز، فلا يجوز إبدال لفظ منه بآخر، ولو كان مرادفًا له؛ خشية النسيان مع

طول الزمان، فوجب أن يقيد بالكتابة، وأما السنة فتقييدها مباح ما أمن الاختلاط.

فأنت تراهم سلكوا مسلك الجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة، لكن نظرت

لابن القيم في كتابه (زاد المعاد) أثناء الكلام على قصة الفتح ما يأتي: وفي القصة

أن رجلاً من الصحابة يقال له: أبو شاه قام فقال: اكتبوا لي. فقال النبي صلى الله

عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه) يريد خطبته. ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ

النهي عن كتابة الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كتب عني

شيئًا غير القرآن فليمحه) ، وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي

يتلى بالوحي الذي لا يتلى، ثم أذن بالكتابة لحديثه.

وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه، وكان مما كتبه

صحيفة تسمى الصادقة، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب، عن أبيه، عنه،

وهي من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب،

عن نافع، عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها.

وإلى القول بالنسخ أميل: ذلك أن القرآن وإن كان بدعًا في أسلوبه، فريدًا في

نظمه يمتاز على غيره بالإعجاز، لكن المسلمين في أول الإسلام كانوا حديثي عهد

بنزوله، وكان النازل منه يسيرًا، فلم تكن ميزته المثلى قد توطنت النفوس جد

التوطن، ولا تمكنت فيها فضل التمكن، فكان من الممكن أن يشتبه على من دون

فرسان البلاغة الوحي المتلو بغير المتلو، فوجب التمييز بالكتابة، فلما مرنوا على

أسلوبه، وطال عهدهم بسماعه وتلاوته حتى أصبحوا إذا سمعوا الآية تتلى أو السورة

تقرأ أدركوا لأول كلمة تقرع أسماعهم أن ذلك وحي الله المتلو، ولم يحم الاشتباه

حول نفوسهم، لما مرنوا على ذلك أَذِن لهم بكتابة الحديث لأمن اللبس.

ولعل من دواعي النهي عن كتابة الحديث أولاً، ثم الإذن بكتابته ثانيًا أن

العارفين بالكتابة كانوا في غربة الإسلام قليلين فاقتضت الحكمة قصرهم على كتابة

القرآن، فلما توافر عددهم أَذِن صلوات الله وسلامه عليه بكتابة الحديث.

ولا يقعن في نفسك مما أسلفت أنه لم يدون شيء من الأحاديث في القرن

الأول، ولكن كان هذا هو الشأن الغالب، فقد كان عبد الله بن عمرو يقيد كل ما

سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو عمر يوسف بن عبد البر

في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) عن مطرف بن طريف قال: سمعت الشعبي

يقول: أخبرني أبو جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم من رسول

الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ

النسمة، إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في

الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل كافر بمسلم) .

وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات والديات والفرائض

والسنن لعمرو بن حزم وغيره، وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: (وجد في

قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها: (ملعون من

أضل أعمى في سبيل، ملعون من سرق تخوم الأرض، ملعون من تولى غير

مواليه، أو قال: ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه) وعن معن قال: (أخرج

إليّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا، وحلف لي أنه خط أبيه بيده) ، وعن

سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة

الرحل، فإذا نزل نسخه، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: (كنا

نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت

أنه أعلم الناس) وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة في

خلافة يزيد، وكان يقول: لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي.

***

تثبت الصحابة في رواية الحديث

عساك تقول: إذا كانت الصدور وعاء السنة في القرن الأول فكيف يؤمن

عليها النسيان، وأن يندس بين المسلمين من يتقول على الرسول؟ فنقول إجابة

على ذلك: إن الصحابة وأكابر التابعين كانوا على علم بالكتاب، وكانوا أسبق

الناس إلى الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، وقد علموا ما أوعد الله به كاتم العلم من

لعن وطرد وإبعاد عن رحمة الرب، فكانوا إذا علموا شيئًا من سنن الرسول بادروا

إلى تعليمه وإبلاغه خروجًا من التهمة، وابتغاءً للرحمة، فسرعان ما ينتشر بين

الجماهير، فلئن نسي بعض منهم، فرب مبلغ أوعى من سامع، فمن البعد بمكان أن

يضيع شيء من السنة أو يخفى على جمهور المسلمين، ولم يكن الصحابة يقبلون

الحديث من كل محدث، بل علموا أن من الحديث محرمًا ومحللاً ومخطئًا ومصوبًا،

وأن سبيل ذلك اليقين أو الظن الآخذ بأهدابه، لذلك تثبتوا في رواية الحديث جد

التثبت، فكان لهم في الراوي نظرة، كما كانت لهم في المروي، وكان كثير منهم

يأبى إلا شاهدًا معضدًا أو يمينًا حاسمة تميط لثام الشك عن وجه اليقين، فهذا أبو

بكر الصديق كان أول من احتاط في رواية الحديث، روى ابن شهاب عن قبيصة

(أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله

شيئًا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

يعطيها السدس فقال: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بذلك، فأنفذه لها أبو

بكر رضي الله عنه .

وعمر بن الخطاب سنَّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في

خبر الواحد إذا ارتاب، روى الجربزي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى

سلَّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في

أثره فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(إذا سلم أخوكم ثلاثًا فلم يجب، فليرجع) قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن

بك. فجاء أبو موسى منتقعًا لونه، ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال:

فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه. فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر

فأخبره. وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته، فإن حلف لي

صدقته، وإن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر.

ولقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الرواية

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يدخلوا في الحديث ما ليس منه سهوًا أو

خطأ، فينالهم من وصف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أولئك

الزبير وأبو عبيدة والعباس بن عبد المطلب، وكانوا ينكرون على من يكثر من

الرواية؛ إذ الإكثار مظنة الخطأ، والخطأ في الدين عظيم الخطر، فأنكروا على أبي

هريرة كثرة حديثه حتى اضطر لتبرئة ساحته أن يبين السبب الذي حمله على الإكثار

فقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت

حديثًا، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ

لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا

فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) إن إخواننا

من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم

العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبع

بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.

***

مبدأ تدوين السنة

لما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وشاع الابتداع، وتفرقت الصحابة في

الأقطار، ومات كثير منهم، وقل الضبط - دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده

بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ، فلما أن أفضت

الخلافة إلى الإمام العادل عمر بن عبد العزيز كتب على رأس المائة إلى أبي بكر بن

محمد بن عمرو بن حزم عامله وقاضيه على المدينة: انظر ما كان من حديث رسول

الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وأوصاه

أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية [2] والقاسم [3] ، وكذلك كتب

إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه محمد بن

مسلم بن عبيد الله بن عبد الوهاب بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام،

وعالم أهل الحجاز والشام [4] ، ثم شاع التدوين في الطبقة [**] التي تلي طبقة

الزهري، فكان أول من جمعه بمكة ابن جريج [5] ، وابن إسحاق [6] ، أو مالك [7]

والربيع بن صبيح [8] ، أو سعيد بن أبي عروبة [9] ، أو حماد بن سلمة [10] ، وسفيان

الثوري [11] ، والأوزاعي [12] ، وهشيم [13] ، ومعمر [14] ، وجرير بن عبد

الحميد [15] ، وابن المبارك [16] ، وكل هؤلاء بالقرن الثاني، وكان جمعهم للحديث

مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.

***

أشهر الكتب المؤلفة في القرن الثاني

من أشهر الكتب المؤلفة في المائة الثانية الموطأ للإمام مالك بن أنس المدني

إمام دار الهجرة [17] ، ومسند الإمام الشافعي [18] ومختلف الحديث له [***] ، والجامع

للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني [19] ، ومصنف شعبة بن الحجاج [20] ،

ومصنف سفيان بن عيينة [21] ، ومصنف الليث بن سعد [22] ، ومجموعات من

عناصرهم من حفاظ الحديث، وعقال أوابده كالأوزاعي والحميدي [23] .

ولما كان موطأ مالك أسير هذه الكتب ذكرًا، وأبعدها صيتًا، وأجلها قبولاً رأيت

أن أفرد له فصلاً يجلي شأنه، ويوضح ما لاقاه من عناية الأمة وأئمة الدين.

***

موطأ الإمام مالك

درجة حديثه: قال الحافظ ابن حجر: إن كتاب مالك صحيح عنده، وعند من

يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع [24] وغيرهما. قال

المحدث الدهلوي صاحب كتاب (حجة الله البالغة) : أما على رأي غيره، فليس فيه

مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى، فلا جرم كانت صحيحة

من هذا الوجه، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه،

ووصل منقطعه؛ مثل كتاب ابن أبي ذئب وابن عيينة والثوري وغيرهم ممن شارك

مالكًا في الشيوخ، قال السيوطي في تقريبه نقلاً عن ابن حزم: أحصيت ما في

موطأ مالك، وما في حديث سفيان بن عيينة، فوجدت في كل واحد منهما من

المسند [25] خمسمائة ونيفًا مسندة وثلاثمائة مرسلاً، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد

ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء.

عناية الناس به: قد روى الموطأ عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل،

وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد، مصداقًا لقول

النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب

العلم فما يجدون بأعلم من عالم المدينة) قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس. رواه

الترمذي، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن [26] ، وابن

وهب والقاسم، ومنهم شيوخ المحدثين كيحيى بن سعيد القطان [27] ، وعبد الرحمن

ابن مهدي [28] وعبد الرزاق بن همام [29] ، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد [30]

وابنيه الأمين [31] والمأمون [32] ، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على جميع ديار

الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر به شهرة وأقوى به عناية، وعليه بنى فقهاء

الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل العلماء يخرجون

حديثه ويذكرون متابعاته وشواهده [****] ، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله،

ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية.

روى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي:

قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من

أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى

غيره. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل

وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس

وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس

قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على

ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا

في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله.

روايات الموطأ: قال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي: الموطآت

المعروفة عن مالك أحد عشر، معناها متقارب، والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى

ابن يحيى، وموطأ ابن بكير، وموطأ أبي مصعب، وموطأ ابن وهب، ثم ضعف

الاستعمال في الأخيرين، وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة

ونقص، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، فقد قال ابن حزم: إنها

تزيد على سائر الموطآت نحو مائة حديث.

***

شروح الموطأ ومختصراته

ممن شرح الموطأ أبو مروان بن عبد الملك بن حبيب المالكي [33] ، وصنف

الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر [34] كتابًا سماه: (التقصي لحديث الموطأ) وله

كتاب (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)، قال ابن حزم: هو

كتاب في الفقه والحديث، ولا أعلم نظيره. وكذلك شرح الموطأ أبو محمد عبد الله

ابن محمد النحوي البطليوسي [35] ، والقاضي الحافظ أبو بكر محمد بن العربي

المغربي [36] وسماه (القبس)، ومما جاء فيه في وصف الموطأ: هذا أول

كتاب ألف في شرائع الإسلام، وهو آخره؛ لأنه لم يؤلف مثله، إذ بناه مالك رحمه

الله على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع

إليه في مسائله وفروعه. وممن شرحه جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر

السيوطي [37] وسمى شرحه (كشف المغطا في شرح الموطأ) ، ومحمد بن

عبد الباقي الزرقاني المصري المالكي [38] شرحه شرحًا بسيطًا في ثلاثة مجلدات،

وللموطأ مختصرات كثيرة، فمنها مختصر الإمام الخطابي أحمد بن محمد

البستي [39] ، ومختصر أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي [40] ، وابن رشيق

القيرواني [41] .

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) رسالة صنفها الشيخ عبد العزيز الخولي الطالب في السنة النهائية لمدرسة القضاء الشرعي.

(1)

روى البيهقي في المدخل من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) .

(2)

توفيت سنة 98.

... (3) توفي سنة 120.

(4) توفي سنة 124.

(**) الطبقة في اصطلاح المحدثين عبارة عن جماعة اشتركوا في السن ولقاء المشايخ.

(5)

توفي سنة 150.

(6) توفي سنة 151.

(7) توفي سنة 179 بالمدينة.

(8)

توفي سنة 160.

(9) توفي سنة 156.

(10) توفي سنة 167 بالبصرة.

(11)

توفي سنة 161 بالكوفة. (12) توفي سنة 156 بالشام.

(13)

توفي سنة 188 بواسط. (14) توفي سنة 153 باليمن.

(15)

توفي سنة 188 بالري. (16) توفي سنة 181 بخراسان.

(17)

توفي سنة 179.

(18) توفي سنة 204.

(***) يطلق مختلف الحديث على الأحاديث المعارضة بمثلها في القوة، ويمكن الجمع بينها بغير تعسف.

(19)

توفي سنة 211.

(20) توفي سنة 160.

(21) توفي سنة 198.

(22)

توفي سنة 175.

(23) توفي في 219.

(24)

المرسل من الحديث: ما سقط من سنده الصحابي بأن يروي التابعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، والمنقطع: ما سقط من أثناء سنده راو أو أكثر مع عدم التوالي.

(25)

المسند: مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال.

(26)

توفي الأول سنة 204 والثاني 189.

(27)

سنة 198.

... (28) سنة 198.

... (29) سنة 211.

(30)

سنة 193.

... (31) سنة 198.

... (32) سنة 218.

(****) الحديث الذي ينفرد بروايته واحد يسمى غريبًا، فإن انفرد به في موضع واحد من الإسناد قيل للحديث: إنه فرد نسبي أيضًا، وإن كان في كل موضع منه سمي فردًا حقيقيًّا، فإذا وافق ذلك المفرد غيره في رواية ذلك الحديث عن نفس الصحابي الذي رواه عنه، قيل: إنه وجد للأول متابع، وإن وجد متن يشبه متنه وهو مروي عن صحابي آخر قيل للثاني: شاهد.

(33)

توفي سنة 239.

(34) سنة 463.

... (35) سنة 521.

(36)

سنة 546.

... (37) سنة 911.

... (38) سنة 122.

(39)

سنة 288.

... (40) سنة 474.

... (41)456.

ص: 64

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدعوة إلى انتقاد المنار

إننا ندعو من يطلع على المنار من علماء الدين وغيرهم من أهل العلم والرأي

أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل الدينية وغيرها، أو ما ينافي

مصلحة أمتنا وأوطاننا التي نعيش فيها، ونعد المنتقدين بنشر كل ما يرسل إلينا من

نقد مع بيان رأينا فيه، بشرط أن يكون على الوجه الذي بيناه في خاتمة المجلد 21

وفيما قبله.

ونذكر عامة قراء المنار أن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا في المنار بكتابة

انتقاده وإرساله إلى صاحبه لينشره فيه، فيطلع قراؤه عليه وعلى ما يقرن به من قبول

أو رد، ويأخذوا بما يرونه الحق، ويعلموا أن كل منتقد أبى أن يكتب انتقاده ويرسله

إلينا فهو فاسق مغتاب، أو حاسد كذاب.

_________

ص: 74

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاتحاد والاقتصاد

كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ميزان سياسة الأمم ونظام

الاجتماع، كثر في هذا العصر تشدق الخطباء بذكرهما، وشرح الكُتاب لفوائدهما،

ولما يفقه الدهماء حقيقة معناهما، بل لما يُحط أكثر العلماء والزعماء منا خبرًا بهما؛

لأن فقه الحقائق وإحاطة الخبر لا يحصلان إلا بطول التجارب في الحوادث،

والاصطلاء بنيران الكوارث، بعد تلقي الحكمة بالتعليم، والتربية على سلوك

الصراط المستقيم.

كنا منذ أنشأنا المنار في أواخرسنة 1315 للهجرة قد جعلنا أهم ما ندعو إليه

القراء في مصر وسائر البلاد أن يجعلوا جل عنايتهم في إصلاح شؤونهم بالتربية

الملية التي تكوّن أمة متحدة، والاقتصاد الذي تكون به الأمة غنية تتصرف بثروتها

في القيام بمصالحها كما تشاء، بثثنا هذه الدعوة في (المؤيد) في ذلك العهد؛ إذ كنا

نكتب فيه مقالات بإمضاء (م. ز) وبغير إمضاء، ثم أعدنا بثها في (الجريدة) في

أول العهد بظهورها في مقالة عنوانها: (إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج)

نشرناها أيضًا في الجزء الثاني للمجلد العاشر من المنار الذي صدر في صفر سنة

1325.

ونحمد الله تعالى أن رأينا في هذه السنين آيات الاتحاد في هذه البلاد العزيزة،

ورأينا من نتائجه قرب الحصول على الاستقلال الذي نعتقد أنه لا ينال إلا به، بل

نقول: إن الاتحاد بغير استقلال خير من الاستقلال بغير اتحاد؛ لأن الاتحاد يأتي

بالاستقلال المفقود، وفقده يذهب بالاستقلال الموجود، فالواجب الآن على كل

مصري أن يكون أحرص على تعزيز الاتحاد والتكافل الذي وقع منه على نيل

الاستقلال الذي يرجى به ويتوقع، فإن الاتحاد إذا ثلم وانفصمت عروته قبل بدو

صلاح ثمرته نفضت الشجرة، أو خرجت الثمرة شيصًا لا غناء فيها، وإذا انتكث

فتله بعده، زال أثره بزواله، فإذًا لا استقلال ابتداءً ولا بقاء إلا بالاتحاد.

ولما كان لكل كثرة دائرة منظمة جهة وحدة تضبطها وتعرف بها، وكان الوفد

المصري هو عنوان الاتحاد الذي ارتقت إليه البلاد وممثله، وجب على الشعب

المصري المتحد أن يظل متمسكًا بحبله معتصمًا بعروته، ولا سيما بعد الذي ظهر

من كفاءته وأمانته، وإلا كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وناهيك به

جهلاً وأفنًا وخسرانًا.

ثم ليعلم علم تدبر أنه لا قوام لاستقلال الأمم وحريتها إلا بالثروة، ولا ثروة

إلا بالاقتصاد، وأن الاقتصاد السياسي، متوقف على الاستقلال الاقتصادي، ونحن

مقصرون في سبيل هذا الاستقلال تقصيرًا إذا لم نبادر إلى تداركه كنا من الهالكين.

إن للكسب والإنفاق علومًا وفنونًا اتسع نطاقه في هذا العصر اتساعًا عظيمًا؛

لأنها قطب الرحى لمدنية الأمم والشعوب وعزتها ورفاهتها وسيادتها، وقد برّزت

بها الأمم الشمالية الغربية، فاستعمرت أو استعبدت به الأمم الشرقية والجنوبية،

حتى ظن كثير من القاصرين أن الشعوب والأجناس أو الأقاليم الغربية، أعظم

استعدادًا بطبيعة العرق وخاصية الجنس من الشعوب الشرقية، ويبطل هذا القول ما

هو معلوم من أن اليهود أرقى أهل الأرض في جميع هذه العلوم والفنون والأعمال

والمترتبة عليها، أينما وجدوا وحيثما حلوا من أقطار الأرض، وهم شعب شرقي

محافظ على نسبه ودمه، وكذلك الشعب الياباني في الشرق الأقصى قد جارى

الغربيين فيها من عهد قريب.

ولكن الأمر الغريب أن المسلمين في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا

يزالون مقصرين في هذا المضمار، وبهذا التقصير أضاعت أكثر دولهم ملكها،

وأمسى الباقي لها بين براثن الخطر، ويضيع أكثر أفرادهم ملكهم في البلاد التي

يزاحمهم فيها غيرهم، فإن كان جل ثروة مصر وسورية والعراق لا يزل بيدهم،

فما ذلك من كسبهم بعلومهم وفنونهم، وإنما ذلك إرث رقبة الأرض تسلسل فيهم؛

لأنهم أكثر السكان المالكين لها، فهذه مصر أقدر البلاد العربية على اقتباس العلوم

والفنون المالية وغيرها، وأكثرها نفقة عليها نراها مقصرة في هذا الاقتباس، فجميع

من يعيش فيها من الشعوب الأوربية واليونانيين والسوريين يفوقون المصريين في

العلوم والفنون المالية الاقتصادية، وفي إدارة المال بالتجارة وغيرها، وفي

الاقتصاد وحفظ الثروة من التبذير والضياع، بل القبط من المصريين يفوقون

المسلمين في ذلك عملاً، وثروتهم النسبية تفوق ثروة المسلمين، وأكثر أعمال

الحكومة المالية في أيديهم وأيدي الأوربيين والسوريين، بل أكثر المسلمين يعتمدون

على كتبهم في إدارة ثروتهم على أن المسلمين أشد إسرافًا في الإنفاق وتبذير الأموال

منهم ومن سائر الشعوب التي نعرف أحوالها.

من فطن لهذا من علماء الاقتصاد يعلله بادي الرأي بأن الدين الإسلامي هو

السبب في الأمرين، وهذا التعليل يضاهي في البطلان تعليل من عساه يقول: إن

الدين المسيحي هو سبب ثراء نصارى الغرب وسعة عيشهم وشدة سطوتهم

وجبروتهم، والحق أن كلاًّ من النصارى والمسلمين مخالف لهدي دينه ونصوص

كتابه في الأمرين، فالإنجيل يهدي إلى المبالغة في الزهد والقناعة والتواضع

والخضوع لكل سلطان، وينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السماوات،

والإسلام دين سيادة واقتصاد، وجمع بين مطالب الروح والجسد، كما بينا ذلك

وفصلناه مرارًا كثيرة، ومن نصوصه فيما نحن بصدده قوله تعالى في أوائل سورة

النساء: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) ؛

أي: جعل عليها مدار قيام مصالحكم ومرافقكم وحفظها وثباتها، وقوله في صفات

المؤمنين من أواخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ

بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، ونهى في وصايا سورة الإسراء عن المبالغة

في قبض اليد وبسطها في الإنفاق، وعن التبذير وسمى المبذرين إخوان الشياطين،

وهذه الوصايا هي أمهات أصول الدين وفضائله وآدابه، وهي تشمل الوصايا العشر

التي في التوراة ما عدا بطالة يوم السبت وتزيد عليها، وفي السنة وصايا وأحكام

كثيرة في ذلك.

فالمسلمون مخالفون لدينهم فيما اعتادوا من الإسراف في النفقات، وهذا إذا

كانت فيما أبيح لهم من الزينة والطيبات، فكيف إذا كانت في المحرمات؟ ولا سيما

الفواحش الثلاث المفسدات للفطرة المخربات للديار؛ السُكْر والزنا والقمار، وهم

على هدمهم بذلك لدينهم يهدمون كل ما يبنى من صرح استقلالهم، وإنني لم أر ولم

أسمع من أخبار البشر أن شعبًا منهم يعادي النقد الذي هو ميزان الأعمال والقوة في

الاجتماع البشري كالشعب المصري، فالمصري أسرع الناس بذلاً لما يصل إلى يده

من النقد، فالمتمتعون بالزينة واللذات ينفقون في سبيلهما ما تصل إليه أيديهم من

كسب وقرض، ولو بالربا الفاحش، وغير المتمتعين يشترون بما تصل إليه أيديهم

من كسب وقرض بالربا أرضًا أو عقارًا، ولا يبالي أكثر الفريقين أن يشتري

الشيء بأضعاف ثمنه، وإن استدان الثمن بالربا الفاحش؛ لأن النقد أحقر الأشياء

في نظره، ولذلك ترى أكثر المصريين على سعة ثروتهم الزراعية مرهقين بالدين،

فيجب على الزعماء والعلماء والخطباء وكتاب الصحف أن يتعاونوا على درء هذا

الخطر بوسيلتي العلم والعمل، وإلا ظل المنتجون منهم كالأجراء الأجانب؛ لأن

جل ما ينتجون يتسرب إلى صناديق المصارف المالية ومنائر المرابين وجيوب

أصحاب الحانات والمواخير وموائد القمار وتجار عروض الزينة والترف، وبعبارة

أخرى أن جل ثروة البلاد تخرج منها إلى البلاد الأجنبية.

ومن الضروري أن يبادروا إلى تأليف جمعية اقتصادية يكون من أعمالها

إرسال بعض الطلاب المستعدين إلى معاهد العلم في أوربة لأجل الأخصاء في علم

الاقتصاد السياسي وسائر الفنون المالية والصناعات الضرورية، ولا سيما الغزل

والنسيج، ثم جعلهم معلمين لهذه الفنون والصناعات وعاملين بها، والاستقلال

المنتظر يزيل إن شاء الله ما كان من الموانع دون مثل هذا، وإنني رأيت في الهند

معامل عظيمة للمنسوجات الأوربية - دع المنسوجات الوطنية الخاصة بأهل البلاد -

وجميع عمال هذه المعامل من الوطنيين، إلا أنني رأيت في معمل كبير في

بمباي رجلين من الإنكليز وظيفتهما اختيار نقوش النسيج، ويكون أهم أعمال هذه

الجمعية وشعبها تعميم النقابات الزراعية في البلاد وتأليف الشركات للمشروعات

الاقتصادية المختلفة، ويكون منها السعي لإرشاد جمهور الأمة إلى الاقتصاد،

وجعل ثروة البلاد قوة لها، وضمانًا لاستقلالها بنفسها وحريتها في التصرف

بثروتها.

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نصيحة اقتصادية

إن هذا الغلاء الشديد الذي تئط من حمله جميع الأمم - الذي كانت الحرب

سببًا طبيعيًّا [1] له، وابتدع له الطامعون من التجار وغيرهم أسبابًا صناعية وحيلاً

كثيرة - قد بلغ مده الغاية في حده، ولم يعد للعمران قِبل باحتماله، ومن المقطوع

به في علم الاقتصاد أن الأشياء التي قلت بقلة الأيدي العاملة لاشتغال ألوف الألوف

من البشر بالحرب عن الزراعة والصناعة ستكثر بعد عود تلك الأيدي إلى العمل،

فتجد المستهلكين للأقوات والمصنوعات قد قل عددهم؛ إذ أهلكت الحرب خمسة

وثلاثين مليونًا من البشر منها 12 مليونًا في ميادين القتال على أوسط تقدير،

والباقي فيما تولد عنها من الأدواء والأمراض والمجاعات كما قيل، ويوجد عشرات

الملايين أو مئات الملايين من البشر في الشرق لا يزال يتعذر إيصال البضائع

الأوربية إليهم، فلا بد إذًا أن تهبط أثمان البضائع والأقوات هبوطًا عظيمًا ربما كان

فوق تقدير المقدرين.

فالواجب على كل عاقل حريص على ماله أن يتبع القاعدة المعقولة التي جرينا

نحن عليها وكنا نوصي الناس بها، وهي أن لا يشتري أحد شيئًا ما قبل عودة

الأسواق إلى الأسعار المعتدلة إلا إذا كان لا غنى له عنه، وبعد البحث عن أسعاره في

عدة مواضع، ولا يغترن أحد بعد اليوم بحيل التجار بادعاء تنزيل الأثمان مؤقتًا،

ودعوتهم إلى ما يسمونه الفرصة العظيمة أو (الأوكازيون) ، فإن هذه الفرص

ليست بمؤقتة، وإنما هم مضطرون إلى الهبوط بها إلى ما دونها، فهم يغتنمون فرصة

حاجة الناس إلى الشيء وألفتهم للغلاء قبل الهبوط الشديد العام المنتظر، فالغنم لهم

والغرم على من يصدقهم.

بدأ أحذق التجار ينقص أسعار البضائع بالتدريج، ولا سيما المنسوجة، وظل

أغبياء الطامعين مصرين على نهب الناس بتلك الأسعار الفاحشة، بل علمنا علم

اليقين أن بعض الذين أعلنوا للناس وجوب اغتنام الفرصة بالنقص المؤقت من سعر

البضائع قد زادوا في سعرها بما كتبوا على بطائقها كما كانوا يفعلون في زمن

الحرب والهدنة، ولكن قلَّ مَن ينخدع بعد اليوم بهؤلاء القادة المستحقين للإفلاس

والفقر.

_________

(1)

القاعدة في النسبة إلى فعيلة فعلي وصرحوا باستثناء السليقة فقالوا: سليقي، استعمل وجرى علماء المعقول وغيرهم على ذلك في النسبة إلى الطبيعة؛ لأنها بمعنى السليقة.

ص: 78

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجود والإحسان

والمقابلة فيهما بين نساء الإنكليز اليوم ونساء الصحابة رضي الله عنهم

نشرت جريدة (المقطم) منذ بضعة أشهر ما يأتي:

قابل أحد أغنياء لندن محافظها من أيام، وأبلغه أنه مستعد للتبرع بمائة وخمسين

ألف جنيه لإنشاء حديقة في لندن تدعى حديقة النصر، وقد وعد هذا المحسن أن

يتبرع بكل ثروته، وتقدر بأكثر من مليون للأعمال الخيرية قبل وفاته.

واجتمع المؤتمر الإنكليزي الكاثوليكي في لندن؛ لاستنداء الأكف لمساعدة

الرسالات الدينية الخارجية وخطب الخطباء، قالت (الديلي مايل) : فأخذت النساء

ينزعن حليهن، ويلقينها في العلب والبرانيط التي أديرت على المجتمعين، وتبرع

كثيرون بحوالات كتبوها بأقلام استعارها بعضهم في الاجتماع، وبعض هذه

الحوالات بألف جنيه، وبعضها بثماني مائة، والبعض بخمس مائة، وقدر ما

اجتمع من الساعات ذات السوار والحلي الأخرى بمئات الجنيهات، ونزعت إحدى

الحاضرات الحلية التي على حذائها، وتبرعت أخرى بأزرار اللؤلؤة التي على

بلوزتها، وتبرعت أخرى بقرطين صغيرين من الذهب والألماس نزعتهما من

أذنيهما، وكان المجموع الأول 1745جنيه اهـ.

***

الاعتبار بهذا الخبر

ذكرنا تبرع نساء الإنكليز بحليهن لمساعدة نشر دينهم ما ورد في الصحيحين

من مثل ذلك عن نساء الصحابة رضي الله عنهن ففي (باب عظة النساء) من

كتاب العلم عند البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أشهد على

النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء

فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يأخذ في

طرف ثوبه) .

وهذا الوعظ للنساء كان في يوم عيد الفطر، خص النبي فيه النساء بالموعظة

بعد الخطبة العامة لظنه أنه لم يسمعهن؛ لأنهن كن يصلين ويجلسن وراء الرجال،

وأخرج البخاري الحديث في (باب موعظة الإمام النساء يوم العيد) ، من كتاب

(العيدين) عن جابر في تفسير سورة الممتحنة عن ابن عباس، ويؤخذ من

مجموع الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم شق صفوف الرجال بعد خطبة

العيد حتى أتى النساء، فقرأ عليهن آية المبايعة، ثم قال لهن: (هل أنتن على

ذلك؟) فأجابته واحدة عنهن: نعم. ولما أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة قال

لهن بلال: هلم لكن فدًا أبي وأمي، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال، وزاد

في رواية لمسلم الخلاخيل، فأما الأقراط، فهي حلي الآذان، وأما الفتخ وهي جمع

فتخة، فحلق تلبس في أصابع اليدين والرجلين.

والعبرة فيما تقدم من وجوه: أهمها أن الإفرنج اليوم أقرب منا إلى هداية ديننا

وسيرة سلفنا الصالح في أمور كثيرة، وأهمها حياة الدين والغيرة عليه، والبذل في

سبيله، ومشاركة النساء للرجال في حضور العبادة في المسجد مع الرجال، وسماع

المواعظ والتعاون على المصلحة الملية العامة، ولا يبعد أن يعود نساؤنا إلى شيء

هداية دينهن اقتداءً بالمحسنات من نساء الإفرنج كما يقلد الكثيرات منهن المسيئات

الآن في الأمور المنتقدة، ومتى دبت الحياة في الأمة يحيا فيها كل ما يتعلق بحياتها

الاجتماعية.

_________

ص: 79

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

‌تاريخ فنون الحديث

(2)

إفراد الحديث بالتأليف من مبتدأ القرن الثالث

في أول هذا القرن أخذ رواة الحديث في جمعه طريقة غير التي سلفت؛ فبعد

أن كانوا يجمعونه ممزوجًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، أخذوا يفردونه بالجمع

والتأليف، ثم من أئمة الحديث من جمع في مصنفه كل ما روي عن الرسول -

صلى الله عليه وسلم من غير تمييز بين صحيح وسقيم، ومنهم من أفرد الصحيح

بالجمع؛ ليخلص طالب الحديث من عناء السؤال والبحث، وكان أول الراسمين

لتلك الطريقة المثلى شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، فجمع في كتابه

المشهور ما تبين له صحته، وكانت الكتب قبله ممزوجًا فيها الصحيح بالعليل بحيث

لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته

والوقوف على سلامته من العلل، فإن لم يكن من أهل البحث، ولم يظفر بمن يتعرف

منه درجته بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده، واقتفى أثر البخاري في ذلك

الإمام مسلم بن الحجاج القشيري وكان من الآخذين عنه، ثم ارتسم خطتهما كثيرون.

وإن ذلك القرن الثالث لأجلّ عصور الحديث وأسعدها بخدمة السنة، ففيه

ظهر كبار المحدثين وجهابذة المؤلفين وحذاق الناقدين، وفيه أشرقت شموس الكتب

الستة التي كادت لا تفلت من صحيح الحديث إلا النزر اليسير، والتي عليها يعتمد

المشرعون، وبها يعتضد المناظرون، وعن محياها تنجاب الشبه وبضوئها يهتدي

الضال، وببرد يقينها تثلج الصدور.

وبانسلاخ هذا القرن يكاد يتم جمع الحديث وتدوينه، ويبتدئ عصر ترتيبه

وتهذيبه، وتسهيله على رواده وتقريبه.

وقبل أن نأتي على المشهور من كتب السنة في هذا القرن نعقد فصلاً نكشف

فيه عن طرق التصنيف في الحديث حتى نكون على بينة من تأليفه:

طرق التصنيف في الحديث

للعلماء في تصنيف الحديث وجمعه طريقتان (إحداهما) التصنيف على

الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه وغيره، وتنويعه أنواعًا، وجمع ما ورد في

كل حكم وكل نوع في باب بحيث يتميز ما يتعلق بالصلاة مثلاً عما يتعلق بالصيام،

وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط كالشيخين، ومنهم من لم

يقتصر على ذلك كأبي داود والترمذي والنسائي، (ثانيتهما) التصنيف على

المسانيد، وهو أنه يجمع في ترجمة كل صحابي [1] ما عنده من حديثه سواء كان

صحيحًا أو غير صحيح، ويجعله على حدة وإن اختلفت أنواعه، وأهل هذه

الطريقة منهم من رتب أسماء الصحابة على حروف المعجم كالطبراني في المعجم

الكبير، والضياء المقدسي في المختارة التي لم تكمل، وهذا أسهل تناولاً، ومنهم

من رتبها على القبائل فقدم بني هاشم، ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم في النسب، ومنهم من رتبها على السبق في الإسلام، فقدم

العشرة ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم

من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنًّا، وختم بالنساء، وقد سلك ابن حبان في

صحيحه طريقة ثالثة مرتبة على خمسة أقسام وهي: الأوامر، والنواهي، والأخبار،

والإباحات، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ونوع كل واحد من هذه الخمسة

إلى أنواع، والكشف في كتابه عسر جدًّا، وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب،

وعمل له الحافظ أبو الفضل العراقي أطرافًا [2] ، وجرد الحافظ أبو الحسن

الهيتمي زوائده على الصحيحين في مجلد.

ولهم في جمع الحديث طرق أخرى (منها) جمعه على حروف المعجم،

فيجعل مثلاً حديث: (إنما الأعمال بالنيات) في حرف الألف، وقد جرى على

ذلك أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، وابن طاهر في أحاديث كتاب الكامل

لابن عدي، (ومنها) جمعه على الأطراف، وذلك بأن يذكر طرف الحديث، ثم

يجمع أسانيده إما مع عدم التقيد بكتب مخصوصة أو مع التقيد بها، وذلك مثل ما

فعل أبو العباس أحمد بن ثابت العراقي في أطراف الكتب الخمسة.

ومن أعلى المراتب في تصنيف الحديث تصنيفه معللاً؛ بأن يجمع في كل

حديث طرقه واختلاف الرواة فيه، فإن معرفة العلل أجلّ أنواع علم الحديث، وبها

يظهر إرسال بعض ما عد متصلاً، أو وقف ما ظن مرفوعًا، وغير ذلك من الأمور

المهمة، والذين صنفوا في العلل منهم من رتب كتابه على الأبواب كابن أبي حاتم

وهو أحسن لسهولة تداوله، ومنهم من رتب كتابه على المساند كالحافظ الكبير

يعقوب بن شيبة البصري [3] ، فإنه ألف مسندًا معللاً غير أنه لم يتم، ولو تم لكان

في نحو مائتي مجلد، والذي تم منه مسند العشرة والعباس وابن مسعود وعتبة

بن غزوان وبعض الموالي وعمار، ويقال: إن مسند علي منه في خمس مجلدات.

ويقال: إنه كان في منزله أربعون لحافًا أعدها لمن كان عنده من الوراقين الذين

يُبيضون المسند، ولزمه على ما خرج من المسند عشرة آلاف دينار (خمسة آلاف

جنيه مصري تقريبًا) قال بعض المشايخ: إنه لم يتم مسند معلل قط.

هذا، وقد جرت عادة أهل الحديث أن يفردوا بالجمع والتأليف بعض الأبواب

والشيوخ والتراجم والطرق.

أما الأبواب، فقد أفرد بعض الأئمة بعضها بالتصنيف كباب رفع اليدين في

الصلاة، أفرده البخاري بالتصنيف، وباب القضاء باليمين مع الشاهد أفرده

الدارقطني بالتصنيف، وأما الشيوخ فقد جمع بعض العلماء حديث شيوخ

مخصوصين كل واحد منهم على انفراده، فجمع الإسماعيلي حديث الأعمش، وجمع

النسائي حديث الفضيل بن عياض، وأما التراجم فقد جمعوا ما جاء بترجمة واحدة

من الحديث كمالك عن نافع عن ابن عمر، وكسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي

هريرة.

وأما الطرق فقد جمعوا بعض طرق الأحاديث، كحديث قبض العلم؛ جمع

طرقه الطوسي، وحديث (من كذب علي متعمدًا) جمع طرقه الطبراني وغير ذلك.

***

كتب السنة في القرن الثالث

أشهر الكتب في القرن الثالث: صحيح البخاري [4] ، وصحيح مسلم [5] ، وسنن

أبي داود [6] ، وسنن النسائي [7] ، وجامع الترمذي [8] ، وسنن ابن ماجه [9] ، ومسند

الإمام أحمد بن حنبل [10] ، والمنتقى في الأحكام لابن الجارود [11] ، ثم مصنف ابن

أبي شيبة [12] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [13] ، ومصنف سعيد بن منصور [14]

، وكتاب تهذيب الآثار لمحمد بن جرير الطبري [15] ، وهو من عجائب كتبه، ابتدأ

فيه بما رواه أبو بكر الصديق وتكلم على كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من

الفقه واختلاف العلماء وحججه واللغة، فتم مسند العشرة وأهل البيت والموالي،

وقطعة من مسند ابن عباس، والمسند الكبير لبقي بن مخلد القرطبي [16] رتبه على

أسماء الصحابة، روى فيه عن ألف وثلاثمائة صحابي ونيف، ثم رتب حديث كل

صاحب على أبواب الفقه، فجاء كتابًا حافلاً مع ثقة مؤلفه وضبطه وإتقانه، ومسند

عبيد الله بن موسى [17] ، ومسند إسحاق بن راهويه [18] ، ومسند ابن حميد [19] ،

ومسند الدارمي [20] ، ومسند أبي يعلى الموصلي [21] ، ومسند ابن أبي

أسامة الحارث بن محمد التميمي [22] ، ومسند ابن أبي عاصم أحمد بن عمرو

الشيباني [23] ، وفيه نحو خمسين ألف حديث، ومسند ابن أبي عمر، ومحمد بن يحيى

العدني [24] ، ومسند أبي هريرة لإبراهيم بن حرب العسكري [25] ، ومسند الإمام علي

لأحمد بن شعيب النسائي [26] ، ومسند العنبري إبراهيم بن إسماعيل الطوسي [27] ،

والمسند الكبير للبخاري، ومسند مسدد بن مسرهد، [28] ومسند محمد بن مهدي [29] ،

ومسند الحميدي [30] ، ومسند إبراهيم بن معقل النسفي [31] ، ومسند إبراهيم بن يوسف

الهنجاني [32] ، ومسند مالك لأحمد بن شعيب النسائي [33] ، والمسند الكبير للحسن بن

سفيان [34] ، والمسند المعلل لأبي بكر البزار [35] ، ومسند ابن سنجر [36] ، والمسند

الكبير ليعقوب بن شيبة [37] ، ولم يؤلف أحسن منه لكنه لم يتم ومسند علي بن المديني

[38]

، ومسند ابن أبي عزرة أحمد بن حازم [39] ، ومسند عثمان بن أبي شيبة [40] ،

وكتب المسانيد كثيرة جدًّا، وفيما ذكرنا كفاية إن أردت زيادة، فانظر

كشف الظنون تجد فيه بعض الحاجة.

تنبيه: كتب المسانيد دون كتب السنن في الرتبة، جرت عادة مصنفيها أن

يجمعوا في مسند كل صحابي ما يقع لهم من حديثه صحيحًا كان أو سقيمًا، ولذلك لا

يسوغ الاحتجاج بما يورد فيها مطلقًا، واستثنى بعض المحدثين منها مسند الإمام

أحمد بن حنبل.

***

كتب السنة في القرن الرابع

الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من رواة الحديث وحملته هو رأس

سنة ثلاثمائة، وقد رأينا فيما سلف أن القرن الثالث أسعد القرون بخدمة السنة

وتمحيصها ونقد رواتها، وكل من أتى بعد ذلك فَعالَةٌ على المتقدمين إلا قليلاً

يجمع ما جمعوا، ويعتمد في نقده على ما نقدوا، لذلك كانت كتب السنة في القرن

الثاني والثالث تمتاز في الأكثر بأولية الجمع فيها دون الأخذ عن غيرها، وهذا ما

دعاني إلى أن أفرد كتب السنة في القرن الرابع بالذكر دون أن أدمجها مع كتب

السنة في القرن الثالث.

أشهر الكتب في القرن الرابع المعاجم الثلاثة: الكبير، والصغير، والأوسط

للإمام سليمان بن أحمد الطبراني [41] رتب في الكبير الصحابة على الحروف،

وهو مشتمل على نحو خمسمائة وعشرين ألف حديث، ورتب في الأوسط والأصغر

على شيوخه على الحروف أيضًا، ولقد رتب الكبير الإمام علاء الدين علي بن بلسبان

الفارسي [42] ترتيبًا حسنًا، وسنن الدارقطني [43] ، وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان

البستي [44] ، وصحيح أبي عوانة يعقوب بن إسحاق [45] ، وصحيح ابن خزيمة محمد

بن إسحاق [46] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان البغدادي [47] ، والمنتقى

لقاسم بن أصبغ محدث الأندلس [48] ، ومصنف الطحاوي [49] ، ومسند ابن جميع

محمد بن أحمد [50] ، ومسند محمد بن إسحاق [51] ، ومسند الخوارزمي [52] ، ومسند

أبي إسحاق إبراهيم بن نصر الرازي [53] .

وسنعقد لكل كتاب من كتب السنة الشهيرة في القرنين الثالث والرابع فصلاً

يعرف به، ويبين درجة أحاديثه، وما لقيه من عناية، مبتدئين في ذلك بمسند الإمام

أحمد رضي الله عنه.

***

مسند الإمام أحمد بن حنبل

مسند الإمام أحمد كتاب جليل من جملة أصول السنة، يشتمل على أربعين ألف

حديث، تكرر منها عشرة آلاف، ومن أحاديثه ما ينوف على ثلاثمائة حديث ثلاثية

الإسناد (أي: بين راويها والرسول ثلاثة رواة) .

درجة حديثه: روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث

فقال: انظروه، فإن كان في المسند، وإلا فليس بحجة، كأن الإمام يرى صحة كل

ما ساقه في مسنده، لكن عبارته ليست صريحة في أن كل ما فيه حجة، إنما هي

صريحة في أن ما ليس فيه ليس بحجة، لكن ثم أحاديث مخرجة في الصحيحين

وليست فيه، والحق أن الكتاب فيه كثير من الأحاديث الضعيفة، بل ذكر ابن

الجوزي في موضوعاته خمسة عشر حديثًا من المسند لاحت له فيها سمة الوضع،

وذكر الحافظ العراقي تسعة، لكن أجاب عن هذه الأحاديث الحافظ ابن حجر في

كتابه (القول المسدد في الذب عن المسند) ، وقال في كتابه تعجيل المنفعة برجال

الأربعة: ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث، أو أربعة، منها حديث

عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفًا قال: ويعتذر عنه، لأنه مما أمر

بالضرب عليه، فترك سهوًا، أو ضرب عليه وكتب من تحت الضرب، ويعجبني ما

قاله العلامة ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) ، شرط أحمد في المسند أن لا يروي

عن المعروفين بالكذب عندهم، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، قال: ثم زاد ابن

أحمد زيادات على المسند ضمت إليه، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي، وفي تلك

الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة، فظن من لا علم عنده أن ذلك من رواية

أحمد في مسنده.

شرحه واختصاره: شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي [54]

نزيل المدينة المنورة، واختصره زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي، وسمى

مختصره در المنتقد من مسند الإمام أحمد، وكذلك اختصره سراج الدين عمر بن

علي المعروف بابن الملقن الشافعي [55] .

***

الجامع الصحيح المسند للإمام البخاري

وصف إجمالي له: هو أول كتاب ألف في الصحيح المجرد، وقد اتفق

جمهور العلماء على أنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، ويقاربه في ذلك صحيح

مسلم، وذلك أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما اتفق على ثقة ناقليه إلى الصحابي

المشهور، مع كون الإسناد إليه متصلاً غير مقطوع (وذلك ما يسمى بشرط

الشيخين) .

ولقد جمع البخاري صحيحه في ست عشرة سنة، وما كان يضع فيه حديثًا إلا

بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين ويستخير الله في وضعه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر

أن عدة ما فيه من الأحاديث بالمكرر 7397 سوى المعلقات والمتابعات

والموقوفات [*] ، وبغير المكرر من المتون الموصولة 2602، ومن المتون المعلقة

المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر منه 159 حديثًا، فمجموع غير المكرر

2761، وفيه من المعلقات 1341 حديثًا، وفيه من المتابعات والتنبيه على

اختلاف الروايات 344 حديثًا، ولم يذكر عدد الموقوفات على الصحابة،

والمقطوعات الواردة عن التابعين فمن بعدهم، فجملة ما فيه بالمكرر سوى الموقوف

والمقطوع 9082 حديثًا، وإنما جمع في صحيحه الأحاديث المعلقة والموقوفة

والمقطوعة، وليست من موضوع كتابه؛ لأنه قصد بها الاستئناس والاستشهاد

فحسب، ولذلك غاير في سياقها لتمتاز.

وقد انتقد عليه الحفاظ عشرة أحاديث ومائة، منها ما وافقه مسلم على تخريجه

وهو 32 حديثًا، ومنها ما انفرد بتخريجه وهو78 حديثًا، قال الحافظ ابن حجر في

مقدمة شرحه فتح الباري على صحيح البخاري: وليست عللها كلها قادحة، بل

أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل

واليسير منه في الجواب عنه تعسف، وقد أوضح ذلك الحافظ مفصلاً في المقدمة،

وقد ضعف الحافظ من رجال الجامع للبخاري نحو الثمانين، ولكن أكثرهم من

شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز صحيحها

من ضعيفها، فهو بهم أعرف ولهم أخبر، وقد روى عن البخاري جامعه الصحيح

نحو من مائة ألف، منهم كثير من أئمة الحديث كمسلم وأبي زرعة والترمذي وابن

خزيمة.

شروحه: لم يعتن علماء المسلمين بشيء بعد الكتاب العزيز عنايتهم بالجامع

الصحيح للإمام البخاري، فما أكثر شارحيه والكاتبين في رجاله والمؤلفين في

أغراضه والمختصرين لكتابه، وقد عد الفاضل ملا كاتب جلبي في كتابه (كشف

الظنون) ما ينيف على اثنين وثمانين شرحًا للبخاري، دبجها يراع الجهابذة من

السلف، والأذكياء من الخلف ما بين كامل وناقص، بيد أن منهم من مال إلى

الإجمال كالإمام الخطابي [56] ، فإنه عمل شرحًا سماه (أعلام السنن) في مجلد

واحد، ومنهم من آثر التطويل فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسنده أو متنه

إلا كتب كالإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزبادي الشيرازي [57] ، فإنه شرحه

شراحًا وافيًا سمَّاه (فتح الباري بالسيل الفسيح المجاري) كمل ربع العبادات منه في

عشرين مجلدًا أتى فيه بما لم يُسبق إليه، ومنهم من سلك سبيل التوسط، مقتصرًا

على ما لا بد منه في فهم الأحاديث مع تقييد أوابده وتذليل شوارده.

وهؤلاء على اختلاف مشاربهم وتباين مسالكهم قد فاقوا حد الكثرة إلى أن

المحسنين من الشراح إحسانًا أربعة نفر:

الإمام بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي [58] في (شرحه التنقيح) .

والعلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي [59] في شرحه (عمدة

القارئ) والحافظ جلال الدين السيوطي [60] في شرحه (التوشيح) .

وشيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني [61] في شرحه (فتح الباري)

ولعمري، إنه لأمير أولئك المحسنين، فإن شرحه لا يدانيه شرح ولا يحيط

بجماله وصف، ولو لم يكن له إلا مقدمته لكانت وافية في الإشادة بذكره والإبانة عن

جلالة قدره، ولما طلب من مجتهد اليمن العلامة الشوكاني أن يشرح الجامع

الصحيح للبخاري قال: لا هجرة بعد الفتح. وقد بدأ تأليف شرحه الفتح مفتتح سنة

817 بعد أن أكمل مقدمته في سنة 813، وانتهى منه في غرة رجب سنة 842، وقد

أوْلَم عند ختمه وليمة عظيمة لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا اليسير، أنفق

عليها نحو خمسمائة دينار (مائتين وخمسين جنيهًا مصريًّا) ، وقد لقي ما يستحق

من الحظوة في عصر مؤلفه حتى طلبه ملوك الأطراف بالاستكتاب، واشتري بنحو

ثلاثمائة دينار (مائة وخمسين جنيهًا مصريًّا) ، وانتشر في الآفاق حتى غطت

شهرته سائر الشروح، وهو يقع في ثلاثة عشر مجلدًا، ومقدمته في مجلد ضخم

(وقد طبع بكل من مصر والهند مرتين) .

مختصرات الجامع: له مختصرات كثيرة من أشهرها مختصر الإمام جمال

الدين أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي [62] ، ومختصر بدر الدين حسن بن عمر

الحلبي [63] المسمى (إرشاد الساري والقاري) ، ومختصر الحسين بن المبارك

الزبيدي [64] جرد فيه حديثه من أسانيده وسماه (التجريد الصريح لأحاديث الجامع

الصحيح) وقد شرحه شرحًا وافيًا حسن صديق خان ملك بهوبال بالهند، وكذلك

شرحه الشيخ عبد الله الشرقاوي.

كتب رجاله: منها (أسماء رجال البخاري) للشيخ الإمام أحمد بن محمد

الكلاباذي [65] وكتاب (التعديل والتجريح) لرجاله لأبي الوليد سليمان بن خلف

الباجي [66] ، و (الإفهام بما وقع في البخاري من الإبهام)[**] لجلال الدين بن عمر

البلقيني [67] .

***

الجامع الصحيح للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج

هو ثاني الكتب الستة وأحد الصحيحين المشهود لهما بعلو الرتبة، وقد ذكر

النووي في أول شرحه له أن الحسين بن علي النيسابوري قال: ما تحت أديم

السماء أصح من كتاب مسلم. ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب، ولكن الذي

لا ينبغي الإضرار فيه رجحان صحيح البخاري عليه؛ لأن الصفات التي تدور

عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم، أما من حيث الاتصال

فلاشتراط البخاري أن يكون الراوي ثبت له لقاء المروي عنه ولو مرة، واكتفى

مسلم بمطلق المعاصرة، وما ألزم به مسلم البخاري من أنه يحتاج إلى أن لا يقبل

العنعنة [68] أصلاً ليس بلازم؛ لأن الراوي إذا ثبت له لقاء من روى عنه مرة لا

يجري في رواياته احتمال أن لا يكون سمع منه؛ لأنه يلزم من جريانه أن يكون

مدلسًا، والمسألة مفروضة في غير المدلس، وأما من حيث العدالة والضبط؛ فلأن

من تكلم فيهم من رجال مسلم ستون ومائة، ومن تكلم فيهم من رجال البخاري

ثمانون، مع أن الثاني لم يكثر من إخراج حديثهم، وأغلبهم من شيوخه الذين أخذ

عنهم ومارس حديثهم، وأما من جهة عدم الشذوذ والإعلال [69] ؛ فلأن ما انتقد على

البخاري من الأحاديث مما لم يشاركه فيها مسلم ثمانية وسبعون حديثًا، وما انتقد

على مسلم كذلك ثلاثون ومائة، أضف إلى هذا ما في البخاري من الاستنباطات

الفقهية والدقائق الحكمية مما عري منه كتاب مسلم، هذا إلى اتفاق العلماء على أن

البخاري كان أجَلّ من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث منه، وأن مسلمًا

تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره حتى قال الدارقطني: لولا

البخاري لما راح مسلم ولا جاء. لكن الإنصاف يدفعنا إلى الاعتراف لمسلم بتلك

الميزة الجليلة والطريقة الحكيمة، ونعني بها سهولة التناول من كتابه؛ إذ جعل لكل

حديث موضعًا واحدًا يليق به، جمع فيه طرقه التي ارتضاها، وأورد فيه أسانيده

المتعددة وألفاظه المختلفة مما يسهل على الطالب النظر في وجوهه واقتطاف ثماره،

وتوليه الثقة بجميع الطرق التي للحديث، ولم يحم حول ذلك البخاري، بل فرق

طرق الحديث في الأبواب المختلفة.

وقد روي عن مسلم أن كتابه أربعة آلاف حديث دون المكرر، وبالمكرر

7275 حديثًا.

شروحه: شرح صحيح مسلم كثير من العلماء ذكر منها صاحب كشف

الظنون نحو خمسة عشر شرحًا، من أشهرها المنهاج للحافظ الإمام أبي زكريا

يحيى بن شرف النووي الشافعي [70] ، وشرح أبي الفرج عيسى بن مسعود

الزواوي [71] ، وهو شرح كبير في خمس مجلدات جمع عدة شروح سبقته، وإكمال

المعلم للإمام أبي عبد الله محمد بن خليفة الأبي المالكي [72] في أربع مجلدات، ضمنه

شرح المازري وعياض والقرطبي والنووي مع بعض الزيادات، والابتهاج للشيخ

أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني الشافعي [73] بلغ إلى نحو نصفه في ثمانية

أجزاء كبار، وشرح الشيخ علي القاري الهروي نزيل مكة المكرمة [74] في أربع

مجلدات.

مختصراته: من أشهر مختصراته تلخيص كتاب مسلم وشرحه لأحمد بن عمر

القرطبي [75] ، ومختصر الإمام زكي الدين عبد العظيم المنذري [76] ، ومختصر

زوائد مسلم على البخاري لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي [77] وهو

كبير في أربع مجلدات، ولأبي بكر أحمد بن علي الأصبهاني [78] كتاب في أسماه

رجال مسلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك.

(2)

سيأتي معنى الأطراف بعد أسطر.

(3)

توفي سنة 262.

(4) توفي سنة 251.

... (5) سنة 261.

(6)

سنة 275.

... (7) سنة 303.

...

(8) سنة 279.

(9)

سنة 273.

... (10) سنة 241.

...

(11) سنة 307.

(12)

سنة 235.

... (13) سنة 294.

...

(14) سنة 227.

(15)

سنة 310.

... (16) سنة 772.

...

(17) سنة 213.

(18)

سنة 237.

... (19) سنة 249.

...

(20) سنة 255.

(21)

سنة 307.

... (22) سنة 282.

...

(23) سنة 287.

(24)

سنة 243.

... (25) سنة 282.

...

(26) سنة 203.

(27)

سنة 280.

... (28) سنة 289.

...

(29) سنة 272.

(30)

سنة 229.

... (31) سنة 295.

...

(32) سنة 301.

(33)

توفي سنة 303.

(34) سنة 303.

...

(35) سنة 292.

(36)

سنة 258.

... (37) سنة 262.

...

(38)234.

(39)

سنة 276.

... (40) سنة 239.

...

(41)360.

(42)

سنة 721.

... (43) سنة 386.

...

(44) توفي سنة 354.

(45)

سنة 316.

... (46) سنة 311.

...

(47) سنة 353.

(48)

سنة 340.

... (49) سنة 321.

...

(50) سنة 402.

(51)

سنة 313.

... (52) سنة 425.

...

(53) سنة 385.

(54)

توفي سنة 1139. (55) توفي سنة 805.

(*) المعلق من الحديث: ما كان في سنده سقط من أوله كأن يقول البخاري: عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا، والموقوف ما انتهى سنده إلى الصحابي فلم يذكر فيه قولاً للنبي ولا فعلاً ولا وصفًا ولا تقريرًا والمقطوع ما انتهى سنده إلى من دون الصحابي كالتابعي، وقد يطلق على المقطوع موقوف على فلان؛ أي: الذي انتهى إليه السند.

(56)

توفي سنة 308.

(57) سنة 817.

... (58) سنة 794.

(59)

سنة 855.

... (60) سنة 911.

... (61) سنة 852.

(62)

توفي سنة 656.

(63) سنة 789.

... (64)893.

(65)

سنة 398.

... (66) سنة 474.

(**) إبهام الراوي أن لا يذكر اسمه، ولا يقبل حديث المبهم ولو الإبهام بلفظ التعديل على الأصح.

(67)

سنة 824.

(68)

العنعنة: أن يكون في السند لفظه عن؛ كعن فلان عن فلان.

(69)

الشذوذ: مخالفة الثقة من هو أرجح منه، والإعلال وجود علة خفية قادحة في السند أو

الحديث.

(70)

توفي سنة 676.

(71) سنة 744.

... (72) سنة 827.

(73)

سنة 923.

... (74) سنة 1016.

... (75) سنة 656.

(76)

سنة 656.

... (77) سنة 804.

... (78) سنة 279.

ص: 93

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاقتداء في الصلاة

بمتخذي الوسطاء والشفعاء عند الله

وما يتبع ذلك في حقِيقة الإسلام والارتداد عنه

س2 جاءنا هذا السؤال من جماعة الموحدين في دمياط ومعه عنوان واحد

منهم لنجيبه، فرأينا أنه يجب نشره والجواب عنه في المنار، وهو:

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب إدارة المنار العامرة.

تحية إخلاص تحدوها إليكم روح الإسلام، وبعد، فلما كانت ثقتنا لا تنحصر

بغير عالميتكم؛ لسعة اطلاعها بنور الإله الواحد الهادي إلى الصراط المستقيم سيما

في معضلات الأمور التي يتوقف صلاح الدين عليها، رجوناكم للسؤال الآتي وهو:

هل تصح الصلاة خلف متخذي الشفعاء والوسائط من مسلمي هذا الزمان أم لا

تصح؟

وفي الختام نلهج جميعًا بتكرار الرجاء ونردده باسم الدين الإسلامي الحنيف أن

لا يضن الأستاذ الإمام على طائفة تقلب وجهها في السماء لهفًا بالجواب على هذا

السؤال وافيًا.

هذا وإن أمكن الأستاذ الإمام نشر الجواب في المجلة الطائر ذكرها بين أقطار

المشارق والمغارب فبها وياحبذا، وإلا فنرجوه جميعًا ألا نحرم من الرد بالعنوان

طيه، ولكم من الله تعالى الشكر والأجر إن شاء الله، والسلام. الموحدون بدمياط.

(ج) الظاهر أن السائلين يعنون بمتخذي الشفعاء والوسطاء عند الله من يصدق

عليهم قوله تعالى في مشركي العرب: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا

يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) ، وإنهم مرتابون في

الاقتداء بهم في الصلاة مع هذا الشرك الصريح؛ لأنهم يأتونه عن جهل ويحسبون

أنه طاعة لله وعمل بدينه، وهم مؤمنون إجمالاً بالله، وبأن كل ما جاء به عنه خاتم

رسله محمد صلى الله عليه وسلم فهو حق، وإيمانهم بذلك إيمان إذعان؛ لأنهم

يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون بيت الله من استطاع

منهم إليه سبيلاً، فموضع الإشكال على هذا ما يصدر عنهم من العبادة الشركية لغير

الله تعالى؛ كدعاء الموتى من الصالحين والتمسح بقبورهم، والطواف بها وببعض

النبات والجماد لشفاء الأمراض وتفريج الكروب وتوسيع الرزق، وغير ذلك من

الأعمال والاعتقادات المنافية للتوحيد الذي جاء به الرسل - عليهم الصلاة والسلام

- وهو أن لا يعبد إلا الله، وأن يخلص له الدين وحده، فلا يدعى معه أحد - هل

هي من أعمال الشرك المجمع عليها، المعلومة من الدين بالضرورة، فلا يعذر الجاهل

بها كما يقول المتكلمون والفقهاء، أم هي مما يخفى على غير العلماء الأعلام،

العارفين بحقيقة ما كان عليه الصدر الأول من قواعد الإسلام، فيعد الجاهل بها

والمتأول فيها معذورًا، وإسلامه وما يترتب عليه من الأعمال صحيحًا؟ ثم إذا كان

أس الدين مما يعذر جاهله، وهو توحيد العبادة وإخلاصها لله تعالى بالتوجه إليه فيها

وحده، ولا سيما الدعاء الذي هو مخها ولبابها، فأي قاعدة من قواعده، أو ركن من

أركانه المبنية على هذا الأس لا يعذر الجاهل بها أو المتأول لها؟ وأين إجماع الأمة

على أن التوحيد الخالص شرط لصحة الصلاة والصيام وسائر العبادات، لا يعتد

بشيء منها بدونه مع سائر أصول الإيمان القطعية المعلومة من الدين بالضرورة؟

إننا نعلم بالاختبار الدقيق أن كثيرًا ممن يدعون غير الله تعالى يجهلون كثيرًا

من هذه الأصول الاعتقادية والعملية، وأن منهم من التاركين لأركان الإسلام كلها أو

بعضها والمرتكبين لكبائر الإثم والفواحش المصرين عليها بدون مبالاة بأمر ولا نهي،

ولا انتفاع بذكرى ولا زجر، ومنهم من اعتاد بعض الأعمال الدينية المشروعة

والمبتدعة اعتيادًا، ولكنه لا يعرف الخشوع والخوف والرجاء إلا عند تلك القبور

وذكر أصحابها، أو نحوها مما يعظمون تعظيم عبادة وتدين، وإن لم يسموه كله أو

بعضه عبادة، ومن هؤلاء وأولئك الذين يدعون هؤلاء الموتى خاشعين معتقدين أنهم

يقضون حوائجهم بأنفسهم ولا يخطر في بالهم غير ذلك، ومنهم من يسمي دعاءه

توسلَا واستشفاعًا، ولا سيما إذا أنكر عليه، وهذا عين ما حكاه القرآن عن مشركي

العرب، ولم يعتدّ بإيمانهم حتى يتركوه، وقال فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَاّ

وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) ، ومن هؤلاء الذين يعدون هذا تأولاً المذعنون

للأمر والنهي الملتزمون للفرائض المتأثمون من المعاصي، وفيهم وقع الإشكال فيما

يظهر؛ لأن تكفير المؤمن المتأول المعين فيه خطر عظيم، ولا سيما في هذا الزمان

الذي ترك أكثر أهله علم الدين على الوجه الذي كان معروفًا عند سلف الأمة أهل

الحق.

وإننا نمهد للجواب التفصيلي الشافي تمهيدًا نراه ضروريًّا فنقول:

1-

إن قواعد العقائد وأصول الإيمان وأحكام الإسلام والردة المجمع عليها

والمسائل الاعتقادية والفرعية المختلف فيها كلها مقررة في الكتب، وإن كل مسلم

مكلف أن يعرف الفرائض العينية منها، وأن يبذل جهده فيما في تطبيق الوقائع

والنوازل التي تعرض له على ما عرف، ومن ذلك الجهد سؤال العارفين واستفتاء

المفتين فيما يشكل عليه من ذلك إلى أن يهتدي إلى الحكم المنطبق على الواقعة،

فهذا اجتهاد عملي يطالب به العوام كالعلماء، كالاجتهاد في القِبلة في حالة البعد عن

الكعبة المشرفة، وعدم المحاريب المتواترة.

وإن لأحوال الزمان والمكان تأثيرًا عظيمًا في هذا الاجتهاد العملي؛ من مظاهره

أنك ترى الناس يستنكرون البدع عند ظهورها أشد الاستنكار، وربما بالغوا في ذلك

فجعلوا المباح محظورًا كالبدع في العادات والماعون والأزياء، وكم كتب بعض

المشتغلين بالعلم رسائل وكتبًا في تحريم بعض هذه المستحدثات في أول العهد

بظهورها، كالأحذية الشائعة التي تسمى في مصر بالجزم (جمع جزمة) ، وفي الشام

بالكنادر واللساتيك، ومنها ما يسميه الفريقان (البوتين) ، وإذا شاعت المنكرات

الدينية وعمت تصير عند الجمهور كالمباحات، بل يجعلون بعضها في عداد

المسنونات والشعائر الدينية، ولا سيما في هذا الزمان الذي تُرك فيه الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر في أكثر البلاد التي يقطنها المسلمون، بل صار كثير من

المحظورات المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة من المباحات في حكم القانون

المتبع كالربا والزنا وشرب الخمر، فمن يعيش في أمثال هذه البلاد لا يكون نظره في

تطبيق الأعمال على القواعد والأحكام الشرعية كمن يعيش في بلاد نجد التي لا يكاد

يرى فيها شيئًا من أمثل هذه المنكرات فَاشِيًا مألوفًا، ولا يسمع فيها بحكم من حاكم غير

مستند إلى نص من كتب الفقه المعتبرة، لذلك ينقل عن بعض عوامهم تكفير مرتكب

بعض المعاصي ولو غير قطعية، وفي مصر لا يكفر التارك لجميع أركان الإسلام

والمستبيح لأكبر الفواحش بالإصرار على المجاهرة بها بلا مبالاة.

2-

قد اختلف مصنفو الكتب الكلامية والفقهية اختلافًا واسع النطاق في مسائل

الكفر والردة من حيث الأدلة ومن حيث تطبيقها على الأعمال والناس، وناهيك

بتشديد من ناطوا هذه المسائل باللوازم القريبة والبعيدة للأحكام القطعية أو الظنية

القوية كمن كفروا من حقر عالمًا، أو قال أو فعل ما ينافي احترام كتاب شرعي أو

فتوى شرعية بالإلقاء على الأرض، أو القول ببطلان الفتوى أو عدم قبولها؛ إذ عدوا

أن إهانة الفقيه أو فتواه أو الكتاب تستلزم إهانة الشرع، وأن عدم الإذعان والاحترام

للفتوى يستلزم رفض الشرع والدين، وقد يعدون من الإهانة وعدم الاحترام ما ليس

منه في الواقع، أو في عرف الفاعل وقصده، ويوجد في هذه الكتب - ولا سيما

تصانيف المتأخرين منها - من الأقوال ما لا يمكن إثباته شرعًا، وفي بعضها تأييد

للبدع المخلة بأصول الدين وفروعه.

3-

قد وقع من جراء ما ذكر ما نراه ونشكو منه في هذه البلاد من الفوضى في

العلوم الدينية وتطبيقها على الأعمال المجرئة لأحد المنتمين إلى طريق المتصوفة

الغارقين في البدع على كتابة رد على فتوى لشيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية

بالباطل حاول فيه جعل البدعة التي أنكرها الشيخ بالدليل دينًا متبعًا وعبادة مشروعة،

واستدل على ذلك بأحاديث لا تدل عليه ولا هي بصحيحة فيستدل بها على فرض

دلالتها على ما ذكر، ونشر رده الباطل في صحيفة يومية مشهورة قرأها ألوف من

الناس، وسكت علماء الأزهر على ذلك إلى أن أنكره على المتصوفي بعض أهل

الغيرة من الإسكندرية كما علم ذلك من جزء المنار الماضي.

ذلك بأن شيخ الأزهر - وإن كان رئيس علماء الدين في الأزهر وسائر معاهد

التعليم الديني في هذا القطر - ليس له رياسة دينية مطلقة عند المسلمين فيما يأمر

به وينهى عنه أو يفتي به، وإن وافق الحق لا شرعًا ولا قانونًا ولا مواضعة عرفية،

وليس من أعمال مشيخة الأزهر نشر الدين بتلقين عقائده وآدابه وأحكامه لعامة

المسلمين المكلفين بطريقة منتظمة، فيكون من أثر ذلك أن السواد الأعظم قد تلقى

دينه عن مصدر واحد موثوق به، بحيث نجزم بأن كل ما كان معلومًا من الدين

بالضرورة في صدر الإسلام وسائر القرون التي جزم فيها علماء الأصول والفروع

بأن من جحد شيئًا مجمعًا عليه من هذه المعلومات يكون كافرًا، بل نعلم بالاختبار

أن السواد الأعظم من المسلمين في هذه البلاد أميون، وأن المتعلمين في غير

المعاهد الدينية من الأهالي أكثر من المتعلمين فيها، فأما الأميون فأكثرهم لم يتلق

عقيدته من عالم ولا متعلم، بل يسمع بعضهم من بعض أقوالاً وأمثالاً وحكايات

بعضها من عقائد الإيمان، وبعضها من أضاليل أهل الكفر وخرافات أهل الشرك،

وأما المتعلمون في المدارس الدنيوية فكثير منهم تعلموا في مدارس دعاة النصرانية

التي أنشئت لتحويلهم عن دينهم، ومنهم من تعلموا في مدارس الحكومة وغيرها،

أو في أوربة، وجميع المدارس الدنيوية يبث فيها من التعاليم ما ينافي الدين أو يوقع

الريب في بعض عقائده، ولا يكاد يوجد فيها مدرسة يلقن المسلم فيها أصول دينه

على الوجه الحق المؤيد بالدلائل التي تدحض الشبهات الواردة عليه من العلوم

الأخرى، وأما المتعلمون في الأزهر وما يتبعه من المعاهد فأكثرهم يجيء من بلاد

الأرياف ومزارعها متشبعًا بما عليه العوام من الخرافات والأوهام، فتمر عليه

السنون وهو يعالج مبادئ النحو والفقه التي لا تنزع من نفسه شيئًا من الخرافات

والبدع التي عرفها وألفها، ثم يحضر دروس العقائد المعروفة في هذه المعاهد وهي

مختصرات أو ملخصات من كتب جدلية جافة فيما يجب اعتقاده في الإيمان بالله

ورسله واليوم الآخر تحرك الشبهات ولا تكاد تزيد مدارسيها إيمانًا ولا عملاً صالحًا،

ولا تمييزًا للبدع من السنن ولا ترغيبًا في طلب رضوان الله وترهيبًا من عقابه،

وقد يوجد في بعضها مدح لاتباع السنة وسيرة السلف وذم لِمَا ابتدع بعدهم كقول

الجوهرة:

وكل خير في اتباع من سلف

وكل شر في ابتداع من خلف

ولكن لم يذكروا في شروحهم وحواشيهم عليها خلاصة ما حوت دواوين السنة

من أحاديث الاعتصام وآثار الصحابة فيه، ولا ما ورد عن السلف من اجتناب البدع

والزجر عنها، بل لا تخلو أمثال هذه الشروح والحواشي مما يخالف السنة ويؤيد

البدعة وأهلها عن قرب أو بعد، كاحتياج الراد على فتوى شيخ الأزهر في هذه

الأيام بما في بعضها من قولهم: إن (أه) من أسماء الله تعالى، كما يوجد ذلك في

بعض كتب الفقه والفتاوى أيضًا، ومنه قول بعضهم باستحباب وضع الستور على

قبور الصالحين قياسًا على ستر الكعبة، والقائل بهذا ليس من أهل القياس الأصولي

الاجتهادي إلا أن يكون القياس الشيطاني الذي يهدم نصوص الكتاب والسنة، ويبني

بأنقاضها صروح البدعة، فقد صحت الأحاديث بحظر تشريف القبور وبناء المساجد

عليها، ووضع السرج والمصابيح عليها، ولعن الذين إذا مات الرجل الصالح فيهم

اتخذوا على قبره مسجدًا، ومقتضى هذا القياس أن هذا مشروع محبوب عند الله

ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقتضي هذه الفتوى أيضًا أن الطواف بتلك

القبور وتقبيلها مشروع، وكل ذلك من عبادة غير الله تعالى، وهل كان الشرك الذي

بعث جميع الرسل لهدمه إلا عبادة غير الله تعالى من الملائكة والأنبياء والصالحين

بدعائهم، والغلو في تعظيمهم بما لم يأذن به الله، وتعظيم ما وضع للتذكير بهم من

صور وتماثيل وقبور؟

4-

لقد كان مثار كل هذه الفوضى والضلالات ما تبع التقليد والتمذهب من

جعل جماهير الناس كل ما دوّن في كتاب دينًا يتبع، ولا سيما بعد موت مؤلفه، وعند

أهل مذهبه أو أهل طريقته إذا كان منتميًا إلى بعض طرق المتصوفة، التقليد نفسه

مختلف فيه عند الأصوليين وأهل النظر والاستدلال والتشديد في منعه من الأمور

الاعتقادية عظيم جدًّا حتى قال من قال: إنه لا يعتد بإيمان المقلد وإن وافق الحق،

وقد ذكر ذلك صاحب الجوهرة في أول عقيدته بقوله:

إذ كل من قلد في التوحيد

إيمانه لم يخل من ترديد

ففيه بعض القوم يحكي الخلفا

وبعضهم حقق فيه الكشفا

فقال أن يجزم بقول الغير

كفى وإلا لم يزل في الضير

وناهيك بحال المختلف في إيمانه والعياذ بالله تعالى، والتقليد الذي أجازه من

أجازه منه00م وأوجبه صاحب الجوهرة هذا، قاصرًا إياه على الأئمة الأربعة

المشهورين في الفقه، وأبي القاسم الجنيد من الصوفية - افتياتًا منه على الشرع -

وهو التقليد في فروع الأعمال، إنما كانوا يعنون به تقليد العاجز عن معرفة الحكم

للمجتهد الموثوق به عنده بأخذه عنه الحكم بدون دليل، وليس منه في شيء أن يجعل

من الدين كل ما ذكر في كتاب ولو لجاهل ليس من أهل الاجتهاد المطلق، ولا ما دونه

كأكثر هؤلاء المتأخرين الذين لم يعنوا قط بالنظر في أدلة الأحكام، وإنما تآليفهم عبارة

عن نقل كل مؤلف منهم لكلام من قبله مع تصرف يفسد النقل في بعض الأحيان،

وأكثر نقل المتأخرين عن قريبي العهد بهم، ولا يكاد أحد منهم ينظر في كلام

المجتهدين، ولا كلام أهل التخريج والاجتهاد في مذاهبهم، بل جعلوا الفقهاء طبقات،

أوصلها بعضهم إلى ست، ويقول مثل ابن عابدين الشهير: إنه من السادسة وأهلها

أسرى النقل، يعني عمن قبلهم لا من الكتاب والسنة، ولا من نصوص الأئمة، وهذه

الطبقات حجب دون الكتاب والسنة، كل طبقة تحجب ما دونها عما فوقها، فالحجب

بين الطبقة السادسة وبين النور المنزل من عند الله ليستضيء به البشر خمسة هي

سادستها، وقد ضرب الإمام الغزالي مثلاً جميلاً ضوء الشمس يدخل من نافذة، فيقع

على مرآة وينعكس عنها على جدار مقابل له، ثم ينعكس عنه إلى جدار ثان مقابل

لها، ثم ينعكس عنه إلى جدار ثالث في حجرة أخرى مظلمة من بابها، ثم ينعكس ما

يقع على هذا الجدار المقابل للباب إلى جدار رابع في حجرته مقابل له، فالنور الذي

يقع على المرآة مثل نصوص الكتاب والسنة عند المهتدين بهما من الأئمة المجتهدين

وغيرهم من السلف؛ لأن الله تعالى شرع دينه وجعل كتابه تبيانًا عامًّا لا خاصًّا

بالأئمة، وإنما الأئمة أقوى فهمًا وأوسع علمًا وأهدى سبيلاً في الاهتداء به وتعليمه

للناس، والنور المنعكس عن المرآة على الجدار الأول مثل العلم الذي يتلقاه الناس عن

الأئمة الذين ينقلون لهم النصوص ويشرحون لهم معانيها وما يستنبط منها، فهو نور

قوي يتبين به الشيء كما هو ما دامت المرآة صافية، وأما ما ينعكس عن هذا النور

على الجدار الثاني وما بعده فبعضها أضعف من بعض ولا تتبين بها الأشياء بجلاء

تعرف به حقيقتها وصفاتها كما ينبغي، بل كثيرًا ما تخفى، وما يقع فيها الاشتباه،

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) .

5-

يشتبه على أكثر الناس الفرق بين تلقي عوام السلف العلم والدين عن أهله

وعن أخذ بعضهم بقول الإمام بدون معرفة دليله، وبين ما نخصه بالذم من التقليد

الأعمى الذي ترتب عليه ما أشرنا إليه من الفوضى الدينية، وقد قلب بعض

المقلدين الوضع وعكس القضية فجعلوا أقوى حججهم على وجوب التقليد وكونه

مصلحة راجحة زعمهم أنه يدفع مفسدة الفوضى في الدين بادعاء الكثيرين للاجتهاد

واتباع الناس لهم، وهم غير أهل لذلك فيكونون ضالين مضلين، فإقفال باب

الاجتهاد قد درأ هذه المفسدة وقيد من ليس أهلاً للاجتهاد باتباع أئمة معدودين قد ثبت

اجتهادهم، ونقلت مذاهبهم بالتواتر.

والحق أن هذه المفسدة التي ذكروها واقعة لا ريب فيها، وإنما كان سببها ما

سموه إقفال باب الاجتهاد؛ أي: إقفال باب الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى

الله عليه وسلم - ورد كل اختلاف ونزاع إليهما كما أمر الله تعالى، وهذا الاهتداء

ليس معناه أن يكون كل مهتد بهما إمامًا أهلاً لاستنباط أي حكم شرعي احتيج إليه

منهما، فعوام السلف الصالح لم يكونوا أئمة، ولا كان الجماعات ولا الأفراد منهم

يلتزمون تقليد فرد معين من علمائهم، وإنما كانوا كلهم عالمين بالضروري من الدين،

ومتفاوتين في علم غيره، ومن احتاج منهم إلى علم ما لا يعلمه في نازلة وقعت له

سأل عنها من يثق بعلمه ودينه من أهل العلم؛ أي: سأله عن حكم الله تعالى في كتابه

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان أولئك العلماء الذين هم أهل العلم

بالقرآن والسنن يفتونهم بالنصوص إن وجدت، وإلا فبما يستنبطون منها.

وأما عوام الخلف الذين حيل بينهم وبين هداية كتاب ربهم، وما بينه من سنة

نبيهم عليه الصلاة والسلام بتسميتها اجتهادًا يعجز عنه البشر؛ فهم في فوضى

دينية من هذا التقليد الأعمى الذي هو عبارة عن الأخذ بقول كل من ينتمي إلى العلم

أو يدعيه، وإلى العمل بكل قول يوجد في كتاب مخطوط أو مطبوع، ولا سيما كتب

المنسوبين إلى مذاهبهم في الفقه أو الكلام أو التصوف، وناهيك بكتب المشهورين

منهم مهما يكن سبب شهرتهم، ومن اختبر المسلمين في الأقطار المختلفة اختبارًا

صحيحًا يجد أنه يقل في طلاب العلوم الدينية فيهم من يعرف سيرة الإمام الذي

ينتمي إليه في علمه ودينه وأصول مذهبه ونصوصه في الفروع، وإنما حظهم من

المذهب قراءة بعض الكتب التي ألفها بعض المقلدين المنتمين إليه على تفاوت عظيم

في فهمها، وعلى ما في الكثير منها من الخلط والخطأ والغلط كما أشرنا إليه آنفًا،

ويا ليتهم مع هذا يعرفون ما في الكتب المعتمدة في مذاهبهم، ويعملون بما صح نقله

عن المجتهدين، أو من على مقربة منهم.

كلا إن أكثر العوام يقلد بعضهم بعضًا في الدين وعباداته فعلاً وتركًا كما علمت،

ولا يوجد واحد في المائة، ولا في الألف منهم تلقى دينه عن أحد من المنتحلين للعلم

الديني على ما وصفنا من سوء حالهم، ومن جهل أكثرهم بنصوص الأئمة المجتهدين

- كجهلهم بالكتاب والسنة - ولو كانوا متبعين لأولئك الأئمة الكرام لجعلوا أكبر همهم

تذكير الناس وتعليمهم بالكتاب والسنة وإرجاع كل أمر إليهما، وبذلك وحده ترتفع

الفوضى الدينية أو تقل، وتموت البدع أو تضعف، وأقوال المؤلفين المنسوبين إلى

المذاهب ليس لها من السلطان على القلوب والإقناع في العقول مثل ما لكلام الله تعالى

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلامهم متعارض لكثرتهم، فإذا حاججت امرأً

بقول مؤلف منهم حاجك بقول آخر يخالفه كما حاجّ بعض المنسوبين إلى الطريقة

الشاذلية شيخ الجامع الأزهر بنقول كاذبة خاطئة وجدها في بعض كتبهم فيما ابتدعوه

من التعبد بما يسمونه اسم الصدر، وهو إخراجهم من صدورهم صوتًا مشتملاً على

الحرفين اللذين مخرجهم أقصى الحلق (أه) .

بل أقول: إن إقفال باب الاهتداء بالكتاب والسنة وتذكير الناس بهما قد فتح

أبواب الزندقة والمروق من الدين، لا باب الفوضى في الدين أو الفسوق فقط،

وأوسع هذه الأبواب اثنان: الشبهات المادية، واتباع بعض الدجالين المنتمين إلى

التصوف المدعين أنهم عرفوا الحقيقة، أو اتبعوا من عرفها بالكشف، وناهيك بطائفة

البكتاشية والملة البابية والبهائية من أهل هذا الزمان كسلفهم الباطنية من

الإسماعيلية وغيرهم، كل هذه الدواهي الطامة جاءت من ابتداع تلقي الدين عمن

ينسب إلى المذاهب المعروفة، والأخذ بما يقوله أو يكتبه كل منهم أو يوجد في كتبهم

من غير أن يكون تلقينًا للكتاب والسنة وتفسيرًا لما يحتاج إلى تفسير منهما، وجعل

هذا التلقين هو الأصل وما قد يحتاج إليه من فتوى اجتهادية في نازلة جزئية فرعًا

لا يدعى إليه، ولا يجعل سنة متبعة وشريعة ثابتة، ولا يجعل من خلفه إلى غيره

مبتدعًا ولا فاسقًا، ولو فعلوا هذا واستعانوا عليه بما قاله أهل العلم بالتفسير

والحديث لما قطعت الصلة بين الأمة وبين النور الذي أنزله الله إليها، ولأقفل بذلك

باب الفوضى التي هي الأخذ بكلام كل من يعد من المعممين والمؤلفين مهما تكن

أقوالهم ومصادرها، وليس هذا هو الاجتهاد المطلق الذي أقفلوا بابه.

7-

إن هذا الدين المصون كان أصله كتاب الله تعالى، وما بينه به رسوله في

أفعاله وأقواله وأحكامه، ويتوقف فهم الخلف إياه على معرفة سيرة السلف الصالح

من جمهور الصحابة والتابعين وحفظة السنة وعلماء الأمصار في القرون الثلاثة

التي هي خير القرون، ذلك بأن نصوص القرآن والأحاديث تحتمل المعاني المختلفة

بضروب المجازات والكنايات، فيعرض الناس فيها من التأويل ما ليس مرادًا

للشارع، وإنما كان الصحابة أعلم الناس بهذا الدين؛ لأنهم أعلم بلغة القرآن

والحديث التي هي سليقة لهم، ولمشاهدتهم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم

ووقوفهم على أحكامه في بيانه، ولذلك قال علي كرم الله وجهه لابن عباس رضي

الله عنه حين أرسله لمحاجة الخوارج: احملهم على السنة فإن القرآن ذو وجوه.

والمراد من السنة معناها اللغوي؛ أي: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

وطريقته المتبعة من عهده، فإنها عمل لا يحتمل التأويل كما لا يحتمله كلامه وكلام

الله تعالى وسائر الكلام، وقد نهى بعض الخوارج بعضًا عن محاجة ابن عباس

بالقرآن بحجة أنه من قريش الذين قال الله تعالى فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58) يريدون أن لا يغلب في المحاجة والمخاصمة؛ لأنه ألحن بالحجة

وأبرع في مجال الغلب والخصومة، لا أنه صاحب الحق بما يثبته به من البرهان،

على أن القوم كانوا مستدلين، وفيما أخطؤوا فيه متأولين، وما قالوه هو تكأة

المقلدين، الذين يعذرون أنفسهم في الإصرار على ما ظهر لهم من ضلالهم بجهلهم

وحذق خصمهم وخلابته في القول، فالجهل عذر الجاهل العارف والمعترف بجهله

وعجزه، لا المستدل الذي ينافح عن دعواه بسيفه ورمحه.

وعلماء المذاهب التي يدعى الناس اتباعها يقولون: إن الجهل عذر في

المسائل التي من شأنها أن تخفى على العامة، وإن كانت مجمعًا عليها كإرث بنت

الابن مع بنت الصُلب السدس تكملة للثلثين الذي جعل الله تعالى في الكلالة فرضًا

للأنثيين، ولا يجعلونه عذرًا لأحد في المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، قالوا:

إلا إذا كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ في شاهق جبل: وهذا مبني على أن

معاشرة المسلمين كافية لمعرفة الضروري من عقائد الإسلام وأحكامه في العبادات

والحلال والحرام، وذلك كاف في صحة إسلام من يعرفه معرفة إذعان، وإن جهل

جميع المسائل الاجتهادية والنصوص الخفية المجمع عليها، فكيف بالمسائل المختلف

فيها؟ على أنه لا بد أن يعرف الكثير منها.

ولما قال العلماء ذلك القول كانت معاشرة المسلمين كافية لمعرفة حقيقة الإسلام

كما قالوا، ثم تغير الزمان، حتى صار المسلمون أنفسهم حجة على الإسلام،

ويعترف بذلك خطباؤهم على منابر جوامعهم في خطب الجمعة، بقولهم: (لم يبق

من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه) ، وبقولهم: (صار المعروف

منكرًا والمنكر معروفًا) ، وهذا القول حق واقع، ولكن لا يعتبر به القائل ولا

السامع، وقد كان من أثره أن كثيرًا من الناس حتى بعض المعممين منهم لا يطعنون

بدين أحد إلا المعتصم بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، ولا سيما إذا دعا

الناس إلى ذلك وإلى ترك البدع الفاشية، حينئذ ينبذونه بلقب وهابي أو عدو الأئمة

المجتهدين، وأولياء الله المقربين، فالجهال قد اتخذوا من أسماء الأئمة والصالحين

الذين هم أعداؤهم سهامًا مسمومة يرمون بها أولياءهم والمتبعين لهم في الحقيقة؛ لأنهم

يهتدون بالكتاب والسنة مثلهم، فالكتاب والسنة ليسا حجة عندهم ولا هداية لهم، بل

هما يردان بقول كل من ألف كتابًا كتب في طرته أنه العلامة فلان الفلاني مذهبًا،

والعلاني طريقة ومشربًا، فاتباع الكتاب والسنة عندهم ضلال، بل ربما يرمون

صاحبه بالكفر أو الزندقة كما بينا ذلك في غير ما موضع من المنار، وهذا من الخزي

الذي يعد من أغرب جهل البشر، والخذلان الذي يمثل منتهى فساد العقول والفطر،

يتبرأ منه ومن أهله أئمة الأثر والفقه والتصوف والعلماء بدلائل مذاهبهم وطرقهم،

وهو ليس من التقليد الذي أجازه بعض هؤلاء العلماء في شيء، فقد كانوا في خير

القرون لا يعلمون عامة الأمة إلا ما نزله الله تعالى إليها وما بينه به رسولها، ولم يكن

ثم مذاهب تحمل عليها، وإنما كانت مباحث الاجتهاد محصورة في تعليم الخاصة

ومجلس القضاء ونوازل الفتوى في الوقائع، ومن قواعد الأصول عندهم: عدم جواز

الاجتهاد مع وجود نص الكتاب أو السنة في المسألة، وأنه لا حجة في كلام أحد غير

المعصوم، وهم مجمعون على أن الأئمة الأربعة في الفقه وأئمة الصوفية كالجنيد

والشبلي والبسطامي وأمثالهم غير معصومين، وإنما قال بعض الشيعة بعصمة نفر من

أئمة آل البيت.

وجميع هؤلاء العلماء يفضلون سلف الأمة على خلفها في العلم بحقيقة الدين

والعمل به كما تقدم، ويحثون على الاقتداء بهم، ويردون كل ما خالف هديهم

وسيرتهم، ويستدلون به على الابتداع في الدين كما يستدلون بالنصوص، فنحن إذًا

محتاجون في التمييز بين السنة والبدعة إلى معرفة ما كان عليه جمهور السلف

الصالح، ونستمسك به ونرد ما خالفه، ولا سيما ما اتفقوا عليه، وما كان الخلاف فيه

شاذًّا أو ضعيف الرواية أو الدلالة، ولكننا نعذر من أخذ بقول أي عالم من أولئك

الأئمة لاعتقاده صحة دليله، أو أنه هو حكم الله تعالى وإن لم يعرف دليله.

ثبت بالعقل والنقل والاختبار أن العمل بأحكام الدين ومنه القضاء بها والفتوى

في تطبيقها على النوازل الواقعة أقوى بيانًا للمراد بها من القول مهما يكن فصيحًا

جليًّا، فكلام الله أفصح الكلام وأبلغه، ومعنى هذا أنه أعلاه بيانًا وإقناعًا وتأثيرًا، ومع

هذا كان بعض الصحابة يخطئ في فهم بعض أحكامه وفي تطبيقها على العمل كما

أخطأ من تمعك منهم في التراب كما تتمعك الدابة؛ لأنه فهم أن التيمم عن الجنابة

يجب أن يمتاز عن تيمم الحدث، وكما أخطأ من ربط في رحله عقالاً أبيض وعقالاً

أسود ليتبين بالتمييز بينهما طلوع الفجر، ولهذا جعل الله تعالى رسوله - صلى الله

عليه وسلم - مبينًا لكتابه على وصفه إياه بأنه بيان للناس وتبيان لكل شيء ونور

مبين، وتبيين الرسول صلى الله عليه وسلم بأفعاله وأحكامه وفتاويه في

النوازل أقوى وأظهر من تبيينه بأقواله وإن أوتي من النبوة وجوامع الكلم، وصار

أفصح من نطق بالضاد؛ لأن أقواله ذات وجوه تحتمل التأويل كما قال الإمام علي

المرتضى في الكتاب العزيز، بل هي أولى، وتختلف فيها الأفهام كما اختلف

الصحابة رضي الله عنهم في أمره إياهم بأن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة،

ففهم بعضهم أن المراد عدم التأخر عن الوصول إلى بني قريظة في ذلك الوقت

فصلوا في الطريق ولم يتأخروا، وحمل الآخرون الأمر على ظاهره، ولأن العمل

أبعث على القدوة والامتثال، وذلك ثابت بالعقل والتجربة، وأظهر وقائعه في السنة

أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتحلل من عمرتهم عقب صلح

الحديبية، كرر الأمر بالقول ثلاثًا ولم يمتثلوا، فاغتم عليه الصلاة والسلام

وكانت زوجه أم سلمة رضي الله عنها معه فذكر لها ذلك مستشيرًا لها فيه،

فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ولا يكلم أحدًا حتى يتحلل من عمرته بنحر هديه

وحلق رأسه ففعل، فاتبعه الناس مسرعين، ولم يقع لهذا نظير منهم.

فعلم من هذا أن أحكام الدين لم تبين تمام التبيين إلا بالسنة العملية، وأن

الصحابة أنفسهم كانوا محتاجين إليها، وكان يختلف اجتهادهم في الأقوال إذا لم تبين

بها، بل كان منهم من تأول النص الصريح في مقام الخصومة انتصارًا لنفسه

ودفاعًا عنها، كما تأول معاوية حديث عمار (تقتله الفئة الباغية)، فقال: إنما قتله

من أخرجه. فرد أمير المؤمنين علي هذا القول حين بلغه بأنه يقتضي أن يكون

النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل عمه حمزة؛ أي: وجميع من قتل

معه في بدر وأحد وسائر الغزوات، فما تبين من أعمال الدين بالسنن المتبعة فعلاً

وتركًا، فهو الذي لا يسع أحدًا مخالفته، ولا يعذر فيه، وما سواه يعذر فيه الناس

باختلاف الأفهام والتأول مع الاعتقاد وحسن النية.

وقد حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأحداث والوقائع ما لم يكن

في عصره، واختلف الاجتهاد في أحكامها من حيث تحقيق المناط وتنقيح المناط،

أي: من حيث الاستدلال على الحكم ومن حيث تطبيقه على الوقائع بالعمل، والقاعدة

الأصولية في اجتهاد الأفراد من الصحابة وغيرهم أنه ليس حجة في الدين، وإنما

يجب على من اجتهد في مسألة أن يعمل بما ظهر له أنه الحق فيها، والقائلون

بالتقليد يجيزون للعاجز عن الاجتهاد فيما يعرض له مما لا نص فيه أن يأخذ باجتهاد

من يثق به من المجتهدين، وأما إجماع الصحابة فهو حجة عند جميع الأئمة،

والإمام أحمد لا يحتج بإجماع غيرهم، وكان الإمام مالك يحتج بإجماع أهل المدينة

في زمنه؛ أي: زمن التابعين وتابعي التابعين، وإنما يظهر هذا في الشعائر والسنن

العملية المتبعة، لا فيما سبيله الاجتهاد، وجملة القول أن الله تعالى أكمل الدين

بكتابه وبيان رسوله، وكان أهل الصدر الأول من السلف الصالح هم الذين حملوا

إلينا هذا الدين كما سمعوه ووعوه بالقول والعمل، فمعرفته متوقفة على معرفة

روايتهم له وسيرتهم في العمل به.

ولا شك أن العمل بالإسلام عبادة ومعاملة وسياسة وقضاء كان في عهد الخلفاء

الراشدين رضي الله عنهم على أكمل الوجوه، بل قال بعض علماء الأصول:

إن إجماع الخلفاء الأربعة حجة، واحتجوا لذلك بحديث العرباض بن سارية مرفوعًا:

(أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد [1] ، وإنه من يعش منكم

فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا

عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) وفي رواية:

(فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن

صحيح. وكذا غيرهما من وجوه وطرق، واختاره النووي في الأربعين، بل ذهب

بعضهم إلى الاحتجاج بسنة الشيخين أبي بكر وعمر، وبعضهم بالاحتجاج بما سنه

عمر؛ أي: سن في خلافته لما ورد في ذلك.

ولبيان وجه هذا مكان آخر يعلم منه أنه ليس على إطلاقه حتى عند القائلين به،

وذكر الحافظ ابن رجب في كتاب (جامع العلوم والحكم)، عن الإمام مالك أنه قال:

قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من

بعده سننًا؛ الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا

تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، فمن اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استبصر بها

فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه

جهنم وساءت مصيرًا. قال: وحكى عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه قال:

أعجبني عزم عمر ذلك. يعني هذا الكلام. وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الكلام

عن مالك، ولم يحكه عن عمر اهـ، ويجمع بين الروايتين بأن مالكًا كان يرويه

تارةً، ويقوله تارةً مقررًا له في نفسه على غير طريق الرواية، فعمل جمهور

الصحابة والتابعين وسياسة الخلفاء الأربعة الراشدين وقضاتهم وإدارتهم لأمور الأمة

في الحرب والسلم، ومعاملة المبتدعة وأرباب الأهواء والثوار الخارجين على أئمة

الحق والعدل، كل ذلك نبراس نهتدي به ونعرف حكم الله تعالى فيه، وحاجتنا إليه في

كل زمان ومكان كحاجة الصحابة - رضوان الله عليهم - في زمن الرسول إلى

مشاهدة أفعاله وسماع أحكامه والوقوف على قضائه وسيرته في الحرب والسلم.

وسنبين - إن شاء الله تعالى - مزية كل خليفة من الأربعة، وحكمة الله تعالى

في ترتيبهم على حسب أعمارهم، وما ترتب على ذلك من المصالح.

***

نتيجة هذه المقدمات

والمقصود من هذه التمهيدات

مكان مسلمي عصرنا من دينهم:

1-

علم مما تقدم أن ما عليه جماهير المسلمين اليوم في أمورهم الدينية

ممزوج بالبدع والضلالات والفسق وترك الفرائض وفشو الفواحش وكثرة الشبهات

إلا في بلاد قليلة، فمعاشرة المسلمين لا يمكن أن يعرف منها حقيقة دينهم في مثل

القطر المصري أو الحجازي، دع ما دونهما في العلم والعراقة في الإسلام، وأن نجوم

هذه البدع بدأ في خلافة عثمان، فما كان عليه المسلمون قبلها فهو الإسلام الخالص،

وما كان في خلافة علي من معاملة الخارجين عن الإسلام باسم الإسلام، والخارجين

من المسلمين على أئمة الحق بالشهوات أو الشبهات، والمبتدعين فيه ما ليس منه

بالتأويلات، فهو الحق الذي يهتدى في أمثال هذه المشكلات، والنور الذي يستضاء به

في دياجير الظلمات، وعليه جرى علماء السلف الصالح من حملة السنة وأئمة العترة

ورواة الآثار، وأهل الاجتهاد الصحيح من علماء الأمصار.

مصادر الإسلام وحملته وكتبه:

2-

إن دين الله الإسلام هو كتابه تعالى وما بينه من سنة رسوله بالقول

والعمل الذي كان عليه جمهور الصحابة والتابعين وأئمة عترة النبي - صلى الله

عليه وسلم - قبل حدوث الفتن وإحداث البدع وفي أثنائها، وحملته إلى الأمة هم

الذين حفظوا الكتاب والسنة، وصنفوا الكتب في الأخبار والآثار وسيرة أهل الصدر

الأول، وميزوا صادقها من كاذبها وصحيحها من سقيمها، وأئمة الأمصار في القرون

الثلاثة الذين بينوا للناس طرق فهم النصوص والاستنباط منها، فما أجمعوا عليه من

أمر الدين فهو الذي لا يسع مسلمًا تركه، وما اختلفوا فيه يرد إلى الكتاب والسنة كما

أمر الله تعالى بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي: مآلاً

وعاقبة، والرد في الأمور العامة منوط بأولي الأمر، وفي الوقائع الخاصة

بعمل كل فرد بما ظهر له الدليل على صحته، فإن لم يكن من أهل الدليل عمل بما

يفتيه به من يثق بعلمه بالكتاب والسنة ودينه في الاهتداء بهما.

عمل جمهور السلف حجة وهدى:

3-

عمل جمهور السلف الصالح حجة فيما يختلف أهل النظر والاستدلال فيه

باجتهادهم، أو اختلاف أفهامهم وتأويلهم للنصوص، ولكننا نعذر المخالف لجمهور

السلف بالاجتهاد والتأول إذا علمنا من حاله أنه مؤمن بأن كل ما جاء به الرسول من

أمر الدين حق، ومسلم مذعن لذلك على الوجه المبين في المقدمات، وحينئذ نعامله

معاملة المسلمين في الصلاة معه، وفي أحكام النكاح والإرث وغير ذلك مع الرد

عليه ومجادلته بالتي هي أحسن، والتحذير من بدعته إذا كانت مخالفته ابتداعًا، أو

فسقه إذا كانت فسقًا، مهتدين في ذلك بما كان أهل الصدر الأول يعاملون به

المنافقين والمؤلفة قلوبهم من ضعفاء المسلمين الذين قبلوا أحكام الإسلام، والخوارج،

والمبتدعة المتأولين، مثال ذلك أننا لا نعتد بإسلام أحد يكذب القرآن، أو يستحل

مخالفته، وإنما نعذر من يفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا لفهم السلف مع التسليم

والإذعان النفسي لكل ما فيه ولو بحسب فهمه، ولا نعتد بإسلام من يكذب الرسول

أو يستحل مخالفته فيما يعتقد هو أنه جاء به من دين الله، ولكننا نعذر من لم يصدق

رواية بعض الأحاديث لشبهة عنده في المتن أو السند، فكذب مضمونها أو خالفه

لذلك، وإن صح عندنا، ونرد عليه بالتي هي أحسن، فقد أمرنا بدرء الحدود

بالشبهات، وأولى الحدود أن يدرأ حد الردة والخروج من الملة.

بم يكون الارتداد عن الإسلام:

4-

إنما جعل العلماء المتقدمون مدار الارتداد عن الإسلام على جحد المجتمع

عليه المعلوم بالضرورة من أمر الدين؛ لأن الجهل عذر عندهم والمدار في صحة

الإسلام الإذعان النفسي والعملي لأحكامه، وهو فرع العلم بها، ولذلك صرحوا بأن

من نشأ في شاهق جبل أو كان حديث عهد بالإسلام يعذر حتى بجحده المعلوم من

الدين بالضرورة عند جمهور المسلمين؛ لأنه ليس معلومًا عنده ولم يصدقوا الناشئ

بين المسلمين، أو من طال عهد اختلاطه بهم بعد الإسلام إذا جحد شيئًا وادعى

الجهل ليتنصل من الحد مثلاً ، وقد بينا في المقدمات أن معاشرة المسلمين في أكثر

البلاد الإسلامية في هذه الأزمنة لا تقتضي معرفة حقيقة الإسلام في عقائده وعباداته

الخالية من البدع وسائر أحكام الحلال والحرام، وإنما يعلم إسلام المرء بإذعانه

وخضوعه لما علم أنه من الإسلام، ومن كان هكذا فعلاج ما يجهله تعليمه وإقامة

الحجة عليه، وقد جربنا هذا العلاج فشفي به كثيرون من أدواء الشرك والابتداع

والشكوك والأوهام، فالسليم الفطرة ذو الجهل البسيط يشفى بسرعة عجيبة، وإنما

يعسر شفاء أصحاب الجهل المركب الذين أخذوا شيئًا من قشور الكلام والفقه

وتأويلات أدعياء الفقه والتصوف، فهم يردون بها الآيات الصريحة والأحاديث

الصحيحة وسيرة السلف الصالح (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ، وهذا

هو البلاء المبين الذي أضاع الإسلام، ولا علاج له إلا بناء التعليم الإسلامي في

مدارسه وغيرها على التفسير والحديث وسيرة السلف الصالح وتلقين كل مسلم ما

تقدم تقريره في ذلك.

معاملة المبتدعة والمنافقين والفاسقين:

5-

إننا على كوننا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة فيما يأتيه جاهلاً أو متأولاً

نحتاط لديننا، فيمن نعلم بالاختبار الشخصي أنهم على شيء من الشرك الجلي أو

النفاق من غير أن نفرق الجماعة، أو نحدث الفتن بين المسلمين، فقد كان النبي -

صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة كحذيفة بن اليمان يعرفون بعض المنافقين

بأعيانهم، ولا يجابهونهم بذلك، ولا يخبرون الناس به رجاء أن يصلحوا ويوقنوا

بطول معاشرة المسلمين، وكان علماء الصحابة والتابعين يصلون مقتدين بأئمة

الجور من بني أمية وعمالهم، والأسوة الكبرى في هذا الباب سيرة علي - كرم الله

وجهه في الخوارج ومعاوية وأنصاره، وإنني على هذا لا أصلي مقتديًا بمن أعلم

باختباري الشخصي أنه مشرك أو كافر بغير الشرك، وإن كان يظهر الإسلام ولا

أعطيه شيئًا من الزكاة الواجبة إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم، فهذا ما عندي من

الجواب عن سؤال الموحدين في دمياط كثرهم الله تعالى وبارك فيهم.

وإنني أتبع هذا ببيان سيرة السلف الصالح فيما ذكر من أمر الابتداع

والاختلاف في الدين وأهله من أصحاب الأهواء وغيرهم، ثم أقفي عليها بما

أراه نافعًا في الاقتداء بهم، عسى أن يهتدي به الغلاة في الدين والمفرطون فيه،

والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

_________

(1)

وفي رواية: (ولو عبدًا حبشيًّا) وهذا في الأمراء والحكام الذين يوليهم الإمام الأعظم، فلا ينافي أحاديث حصر الأئمة في قريش كما نقله الحافظ ابن رجب وغيره في شرح الحديث، وأيدوه بحديث علي عند الحاكم والدارقطني مرفوعًا وموقوفًا:(وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيًّا فاسمعوا له وأطيعوا) وذهب بعض العلماء أنه إنما ذكر العبد الحبشي على طريق ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه كما قال في حديث الترغيب في بناء المساجد: (من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة) رواه أحمد عن ابن عباس بسند صحيح، ويستحيل أن يكون المسجد كمفحص القطاة وهو المكان الذي تفحص برجلها وتبيض فيه، والأمة مُجمعة على أن العبد؛ أي: المملوك - كما هو المتبادر هنا - لا يجوز أن يكون الإمام الأعظم صاحب الولاية العامة على المسلمين، وأن يلي ما دون ذلك من ولاية الأمر، وقال بعضهم: إن في هذا الحديث وما معناه إشارة إلى ما كان في الأمة بعده من ولاية العبيد والمماليك.

ص: 104

الكاتب: محمد رشيد رضا

شرح قاعدة

لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب

وبيان عدم كفر المبتدع في الدين جاهلاً أو متأولاً

(1)

هذه القاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة الذين يصدق عليهم هذا القول، لا

من يسمون أنفسهم بهذا الاسم ليتميزوا من المعروفين بأسماء أخرى، وهي تذكر في

بعض العقائد، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيقًا نفيسًا مطولاً فيها ذكره في

سياق تخطئة الرافضة في سب الصحابة رضي الله عنهم، وبيان أن الرد

عليهم وعلى كل مخطئ في الدين يجب أن يقصد به بيان الحق وهداية الخلق دون

التشفي والانتقام، وذكر أن الكلام في هذا مبني على مسألتين وبين ذلك بما نصه:

إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقول الخوارج، بل ولا تخليده

في النار، ومنع الشفاعة فيه كما تقوله المعتزلة.

الثانية: أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول لا يكفر ولا يفسق إذا اجتهد

فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من

الناس كفروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين

لهم بإحسان ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال

أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها؛ كالخوارج والمعتزلة

والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي

وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقًا، ثم

يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج

والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة

الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم

تناقض ذلك.

ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن

هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل

والتأويل [1] ، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في

حقه، وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه، وإذا لم يكونوا في نفس

الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيستغفر لهم ويترحم عليهم،

وإذا قال المسلم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ،

يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله،

فخالف السنة أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم،

وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا

كفارًا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة

المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من

أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار.

فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السنة فيهم

بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - علي بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما

خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة، قال لهم علي بن

أبي طالب رضي الله عنه: إن لكم علينا أن لا نمنعكم من مساجدنا ولا حقكم

من الفيء. ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، فرجع نحو نصفهم، ثم قاتل الباقي

وغلبهم، ومع هذا لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالاً، ولا سار فيهم سيرة

الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي والصحابة في

الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على علي ذلك، فعلم

اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام.

قال الإمام محمد بن نصر المروزي: وقد ولي علي رضي الله عنه قتال

أهل البغي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى، وسماهم مؤمنين،

وحكم فيهم بأحكام المؤمنين، وكذلك عمار بن ياسر. وقال محمد بن نصر أيضًا:

حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا يحيى بن آدم، عن مفضل بن مهلهل، عن الشيباني

عن، قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي حين فرغ من قتال

أهل النهروان فقيل له: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. فقيل: فمنافقون؟

قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا

فقاتلناهم. وقال محمد بن نصير أيضًا: حدثنا إسحاق، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن

عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: قال رجل: من دعي إلي البغلة الشهباء يوم قتل

المشركون؟ فقال علي: من الشرك فروا. قال: المنافقون؟ قال: إن المنافقين لا

يذكرون الله إلا قليلاً، قال: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم.

قال إسحاق: حدثنا وكيع، عن أبي خالد، عن حكيم بن جابر قال: قالوا لعلي حين

قتل أهل النهروان: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قيل: فمنافقون؟ قال:

المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم حاربونا فحاربناهم

وقاتلونا فقاتلناهم.

قلت: الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليًّا قال هذا القول في

الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي -

صلى الله عليه وسلم في ذمهم والأمر بقتالهم، وهم يكفرون عثمان وعليًّا ومن

تولاهما، فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرًا ودارهم دار كفر، فإنما دار الإسلام

عندهم هي دارهم. قال الأشعري وغيره: أجمعت الخوارج على تكفير علي بن

أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا قاتلهم علي لمَّا بدأوه بالقتال فقتلوا عبد الله

بن خباب، وطلب علي منهم قاتله، فقالوا: كلنا قتله، وأغاروا على ماشية فقتلوا

الناس، ولهذا قال فيهم: قوم قاتلونا فقاتلناهم، وحاربونا فحاربناهم. وقال: قوم

بغوا علينا فقاتلناهم.

وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء، فإنهم بغاة على جميع

المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع

شرهم إلا بالقتال، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق، فإن أولئك إنما

مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء

يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة

إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن، ومع هذا فقد صرح

علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارًا، ولا منافقين، وهذا بخلاف ما

كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفرائيني ومن تبعه يقولون: لا نكفر من

يكفرنا، فإن الكفر ليس حقًّا لهم، بل هو حق لله، وليس للإنسان أن يكذب على من

يكذب عليه، ولا أن يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل ولو استكرهه

رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو

تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى

نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن

نكفر عليًّا، وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين، فالظاهر أنه كان يوم النهروان

أيضًا.

وقد روي عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا، قال إسحاق بن

راهويه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سمع

علي يوم الجمل ويوم صفين رجلاً يغلو في القول، فقال: لا تقولوا إلا خيرًا إنما هم

قوم زعموا أنَّا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم. فذكر لأبي جعفر أنه

أخذ منهم السلاح فقال: ما كان أغناه عن ذلك. وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن

يحيى، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن راشد، عن مكحول: أن أصحاب علي

سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية: ما هم؟ قال: هم المؤمنون. وبه قال أحمد بن

خالد، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الواحد بن أبي عون، قال: مر علي

- وهو متكئ على الأشتر - على قتلى صفين، فإذا حابس اليماني مقتول فقال

الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه

علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمنًا. قال علي: والآن هو مؤمن. قال: وكان

حابس رجلاً من أهل اليمن من أهل العبادة والاجتهاد. قال محمد بن يحيى: حدثنا

محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع، عن أبي مطر قال: قال علي: متى ينبعث

أشقاها؟ قيل: من أشقاها؟ قال: الذي يقتلني. فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس

علي رضي الله عنه وهَمَّ المسلمون بقتله، فقال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئت

فالجروح قصاص، وإن مت فاقتلوه. فقال: إنك ميت. قال: وما يدريك؟ قال:

كان سيفي مسمومًا. وبه قال محمد بن عبيد، حدثنا الحسن - وهو ابن الحكم النخعي

- عن رياح بن الحارث قال: إنا لبوادٍ، وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن

ياسر، إذ أقبل رجل فقال: كفر والله أهل الشام. فقال عمار: لا تقل ذلك فقبلتنا

واحدة ونبينا واحد، ولكنهم قوم مفتونون، فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق.

وبه قال ابن يحيى. حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الحسن بن الحكم، عن رياح

بن الحارث، عن عمار بن ياسر قال: ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة،

ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم. قال ابن يحيى: حدثنا يعلى، حدثنا مسعر، عن عبد

الله بن رياح بن الحارث قال: قال عمار بن ياسر: لا تقولوا: كفر أهل الشام،

قولوا: فسقوا، قولوا: ظلموا. قال محمد بن نصر: وهذا يدل على أن الخبر الذي

روي عن عمار بن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان: هو كافر. خبر باطل لا يصح؛

لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دم عثمان،

فهو لتكفير عثمان أشد إنكارًا، (قلت) : والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك

أنكر عليه علي رضي الله عنه وقال: أتكفر برب آمن به عثمان؟ وحدثه بما

يبين بطلان ذلك القول، فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولاً قد رجع عنه حين تبين

له أنه قول باطل.

ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم،

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة كانوا يصلون خلف

نجدة الحروري، وكانوا أيضًا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلمُ

المسلمَ، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن

مسائل، وحديثه في البخاري، وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة،

وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان، وما زالت سيرة

المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين، كالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه

هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة،

وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه؛ في الحديث الذي

رواه أبو أمامة. رواه الترمذي وغيره؛ أي: أنهم شر على المسلمين من

غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرًّا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم

كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل

أولادهم مكفرين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة، ومع

هذا فالصحابة والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين، ولا اعتدوا

عليهم بقول ولا فعل، بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة ، وهكذا سائر فرق

أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم، فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة

كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، مع أن حديث

الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه

غيره أو صححه، كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن، وروي من

طرق، وليس قوله:(ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة) أعظم من قوله

تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ

سَعِيراً} (النساء: 10)، وقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ

نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّّهِ يَسِيراً} (النساء: 30) ، وأمثال ذلك من النصوص

الصريحة بدخول من فعل ذلك النار، ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب،

أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم،

بل المؤمن بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا

أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب،

فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب، وأما ذلك فليس متعمدًا للذنب، بل هو

مخطئ، والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، والعقوبة في الدنيا تكون لدفع

ضرره عن المسلمين، وإن كان في الآخرة خيرًا ممن لم يعاقب، كما يعاقب المسلم

المتعدي للحدود، ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى، والمسلم في الآخرة

خير منهم.

وأيضًا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة، ويصد عن

الحق الذي يخالف هواه، فهذا يعاقبه الله على هواه، ومثل هذا يستحق العقوبة في

الدنيا والآخرة، ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي

وقاص أنه قال: نزل فيهم قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الفَاسِقِينَ * الَّذِينَ

يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي

الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (البقرة: 26-27) ، فقد يكون هذا قصده، لا

سيما إذا تفرق الناس، فكان منهم من يطلب الرياسة له ولأصحابه، وإذا كان المسلم

الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياءً، وذلك ليس في سبيل الله، فكيف

بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها، فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية،

وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله، لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا

فيه، ولهذا قال الشافعي: لأن أتكلم في علم يقال لي فيه: أخطأت، أحب لي من أن

أتكلم في علم يقال لي فيه: كفرت.

فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهم

يخطئون ولا يكفرون، وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرًا، وقد يكون

كفرًا؛ لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق، والآخر لم يتبين له ذلك، فلا

يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر [2] إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله.

والناس لهم فيما يجعلونه كفرًا طرق متعددة، فمنهم من يقول: الكفر تكذيب

ما علم بالاضطرار من دين الرسول. ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك،

ومنهم من يقول: الكفر هو الجهل بالله. ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل

بالموصوف، وقد لا يجعله، وهم مختلفون في الصفات نفيًا وإثباتًا، ومنهم من لا

يحده بحد، بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله

واليوم الآخر جعله كفرًا، إلى طرق أخر. ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة،

فتكذيب الرسول كفر وبغضه وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند

الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف، إلا الجهم ومن وافقه

كالصالحي والأشعري وغيرهم، فإنهم قالوا: هذا كفر في الظاهر، وأما في الباطن

فلا يكون كفرًا إلا إذا استلزم الجهل بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق

بالرب، وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل، ولا يكون في القلب

بعض الإيمان، وهو خلاف النصوص الصريحة وخلاف الواقع، ولبسط هذا

موضع آخر.

والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه، وإذا كان الذنب

متعلقًا بالله ورسوله، فهو حق محض لله، فيجب على الإنسان أن يكون في هذا

قاصدًا لوجه الله، متبعًا لرسوله؛ ليكون عمله خالصًا صوابًا، قال تعالى: {وَقَالُوا

لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ

صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ

وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 111-112)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125)، قال المفسرون وأهل اللغة: معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله،

وهو محسن في عمله. وقال الفرّاء في قوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} (آل

عمران: 20) أخلصت عملي. وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله، وهو كما

قالوا: كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر، وهذا المعنى يدور عليه القرآن، فإن الله

تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر، والأول هو

إخلاص الدين والعمل لله، والثاني هو الإحسان والعمل الصالح، ولهذا كان عمر

يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل

لأحد فيه شيئًا. وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله:

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود: 7) قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا

أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم

يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا،

والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هما أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من

أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغى به وجه الله، وأن يكون مطابقًا للأمر،

وفي الحديث: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فينبغي أن يكون عالمًا بما

يأمر به، عالمًا بما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا

فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه) [3] ، فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر،

والحلم مع الأمر، فإن لم يكن عالمًا لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان

عالمًا ولم يكن رفيقًا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا

يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى لموسى

وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) ، ثم إذا أمر أو

نهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ

بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17) ، وقد أمر الله نبيه بالصبرعلى أذى المشركين في غير موضع،

وهو إمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولاً أن

يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور وإقامة

الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك

خطيئة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم

إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار

لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر

على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات

المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار

لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم ورياستهم، وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون

كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان

مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً

سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله

ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء

أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم،

ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا. وبلغة المغل: هذا (بال) هذا (باغي) لا

ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله.

ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ

فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) ، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة،

وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة لله والمعاداة لله، والعبادة

لله والاستعانة بالله، والخوف من الله والرجاء لله، والمنع لله والإعطاء لله، وهذا

إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمرُه أمرُ الله، ونهيهُ نهيُ الله، ومعاداته معاداة الله،

وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه،

فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله،

ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب

إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له

ويغضب له هو السنة، وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق

المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله

هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو

فعل ذلك شجاعة أو طبعًا، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله، ولم يكن مما هو في سبيل

الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق أو السنة هو كنظيره، معه حق وباطل وسنة

وبدعة؟ وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وكفر بعضهم بعضًا،

وفسق بعضهم بعضًا، ولهذا قال تعالى فيهم: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ

مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ

وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 4-5)، وقال تعالى:

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) ، فاختلفوا [4] كما في سورة يونس [5]

وكذلك في قراءة بعض الصحابة، وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين

أنهم كانوا على دين الإسلام، وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على

الكفر، وهذا ليس بشيء، وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن

عباس، بل قد ثبت عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على

الإسلام، وقد قال في سورة يونس:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (يونس: 19) ، فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد، فعلم أنه

كان حقًّا.

والاختلاف في كتاب الله على وجهين، أحدهما أن يكون كله مذمومًا كقوله:

{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة: 176) ، والثاني أن

يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، كقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا

بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا

جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا

وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (البقرة: 253) ، لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع

مذموم كقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:

118-

119) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هلك من كان قبلكم

بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) ، ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع

بأنه كله مذموم، قال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما كفر بعضهم بكتاب

بعض، والثاني تبديل ما بدلوا، وهو كما قال، فإن المختلفين كل منهم يكون معه

حق وباطل، فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه، وهو تبديل

ما بدل، فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين، ولهذا ذكر كل من السلف أنواعًا من

هذا) ثم قال المؤلف بعد ذكر ستة أنواع من اختلاف أهل الكتاب حذفناها للاختصار

ما نصه:

واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط [6] فالخارجي يقول: ليس الشيعي على

شيء. والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء. والقدري النافي يقول: ليس

المثبت على شيء. والقدري الجبري المثبت يقول: ليس القدري النافي على شيء.

والوعيدية تقول: ليست المرجئة على شيء. والمرجئة تقول: ليست الوعيدية

على شيء. بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية

المنتسبين إلى السنة، فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء. والكرامي يقول:

ليس الكلابي على شيء. والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء. والسالمي

يقول: ليس الأشعري على شيء. وصنف السالمي كأبي علي الأهوازي كتابًا في

مثالب الأشعري، وصنف الأشعري كابن عساكر كتابًا يناقض ذلك من كل وجه،

وذكر فيه مثالب السالمية، وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لا سيما وكثير

منهم تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي

يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئًا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك،

ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي

حنيفة شيئًا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة،

وهذا من جنس الرفض والتشيع، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء،

لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة.

والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن يكون

أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، يدور على ذلك

ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر

لشخص انتصارًا مطلقًا عامًّا إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الطائفة

انتصارًا مطلقًا عامًّا، إلا للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الهدى يدور مع

الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا اجتمعوا

لم يجتمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجتمعون على

خطأ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأئمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين

الذي بعث الله به رسوله ليس مسلمًا إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان

ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة

في الإمام المعصوم، ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي

بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول

والفروع، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة

والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلا بد أن يكون قوله إن

كان حقًّا مأخوذًا عما جاء به الرسول، موجودًا فيما قبله، وكل قول قيل في دين

الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم، بل قالوا

خلافه، فإنه قول باطل.

والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم،

وإنما اختلفوا بغيًا، ولهذا ذمهم الله وعاقبهم، فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين، بل

كانوا قاصدين البغي، عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به، ونظير

هذا قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا

جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19)، قال الزجاج: اختلفوا للبغي لا

لقصد البرهان. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ

الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ العِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ} (يونس: 93)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ

وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ

الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ

القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ

أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} (الجاثية:

16-

20) ، فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم

العلم والبينات، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم، وهذه

حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر

لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

لعل الأصل: ولو مع الجهل والتأويل.

(2)

لعل الأصل: يكفره.

(3)

المنار: قوله: وفي الحديث إلخ، لم أر الحديث بهذا اللفظ في شيء في دواوين السنة ولا

فيما جمع منها ككنز العمال والمصنف بحر واسع، وفي معناه حديث:(من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف) رواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية عمرو بن شعب عن أبيه عن جده، وفي سنده

سالم بن ميمون الخواص ضعيف لا يحتج به ولا يكتب حديثه، روى عن المثنى بن الصباح الفارسي وهو ضعيف مختلف فيه، قال الإمام أحمد: لا يسوى حديثه شيئًا وقال ابن معين: رجل صالح يكتب حديثه ولا يترك، لكن رواه الديلمي من حديث أبان عن أنس مرفوعًا بلفظ:(لا ينبغي للرجل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى تكون فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عالم فيما يأمر، عالم بما ينهى، عدل فيما يأمر، عدل فيما ينهى)، وذكر في الإحياء للغزالي:(لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه)، قال الحافظ العراقي: لم أجده هكذا، وذكر حديث البيهقي.

(4)

يوشك أن يكون قد سقط من هنا شيء ولو بعض آية البقرة التي أورد جملة منها وهي: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً](البقرة: 213) وبعده: [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ](البقرة: 213)، أي: كان بعثهم بعد الاختلاف الذي صرَّح به آية يونس وسيذكرها، وفي قراءة أبي بن كعب الذي أشار إليه المصنف بقوله: بعض الصحابة، ولعله قصد بها التفسير.

(5)

لعل أصله: تفسير الجمهور، أي: للأمة الواحدة.

(6)

يريد النمط الأخير الذي حكاه الله تعالى في قوله عنهم: [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ](البقرة: 113) .

ص: 121

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌دعوة عرب الجزيرة العربية

إلى الوحدة والاتفاق

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ

بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا

وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:

103-

105) .

ثبت في القرآن المجيد في التواريخ التي دوّنها علماء العرب وغيرهم من

الأمم قديمًا وحديثًا، ومن العاديات (الآثار القديمة) التي اكتشفت في أقطار مختلفة

أن العرب من أقدم أمم الأرض حضارة وعمرانًا ورسلاً وشرائع، حتى إنهم

استعمروا أقدم البلاد مدنية كمصر وسورية والعراق، فلهم في حضارة الفراعنة

والفينيقيين والكلدانيين العرق الراسخ، والمجد الشامخ، فإن لم تكن تلك الأمم فروعًا

مهم، فلها وشائج أرحام مشتبكة بهم، من قبل أن مزجها الإسلام بهم في الدين واللغة

والنسب بألوف السنين.

فمن ذلك ما حكاه في القرآن المجيد عن قوم عاد: {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي

لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ} (الفجر: 7-8)، كقول نبيهم هود في مبانيهم وقوتهم:

{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم

بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 128-130)، وقوله في نسلهم وزرعهم وضرعهم:

{أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 133-134) ، وبيانه لهم

أن هذه النعمة يزيدها الرجوع إلى الله بالإيمان وترك المعاصي نماء وقوة {وَيَا قَوْمِ

اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: 52) ، وما حكاه عن ثمود وقول رسولهم صالح لهم في تذكيره بنعم

الله عليهم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 61)، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *

وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء:

146-

149) ، وما قصه لنا عن سبأ في سورتها كجناتهم عن اليمين والشمال،

واتصالها بالقرى المباركة في أرض الشام، ونظام السير المقدر بالأوقات، وحفظ

الأمن فيها بالعدل والنظام، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي

بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: 18) ، وناهيكم بقصة ملكتهم مع نبي الله سليمان، وكونها أوتيت من كل

شيء يؤتاه الملوك في ذلك الزمان، مع القوة والحكم بالشورى دون الاستبداد.

ومن ذلك ما أثبته الذين اكتشفوا آثار الكلدانيين في العراق وشريعة مَلكهم

حمورابي من كون شريعتهم عربية ودولتهم عربية، وهذا الملك كان يسمى ملك البر

والسلام، وفي سفر التكوين من أسفار التوراة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام

أعطاه العشور؛ إذ كان من رعيته وأنه بارك إبراهيم، فدل هذا على أن إبراهيم -

صلى الله عليه وعلى آله - كان عربيًّا أيضًا.

ومن ذلك ما اكتشفه أحمد بك كمال العالم الأثري المصري من امتزاج اللغة

المصرية القديمة (الهيروغليفية) باللغة العربية الدال على أحد أمرين، إما أن

العرب وقدماء المصريين من عرق واحد، وإما أن العرب قد استعمروا مصر

وحكموا فيها قبل دولة الرعاة العربية المعروف خبرها في تاريخ مصر، فكان

للغتهم الأثر الخالد في لغتها.

هذا إلماع تاريخي وجيز لمدنية العرب وقوتهم وعمرانهم في التاريخ القديم منذ

ألوف السنين، وإن في لغتهم الغنية الراقية الواسعة دلائل أخرى على ذلك متعددة

المناهج واضحة المسالك.

قد ضعفت الأمة العربية بعد تلك القوة، وبدت بعد تلك الحضارة، وخرب

معظم بلادها بعد ذلك العمران، وغلبت عليها الأمية، وكادت تعمها الجاهلية الوثنية

{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ

مَّشِيدٍ} (الحج: 45)، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ، ومر على هذا الضعف قرون وتعاقبت عليه أجيال، حتى ظن

الظانون أن هذه الأمة هرمت وقاربت الزوال، فلا تقوم لها قائمة ولا يتجدد لها

شباب.

ثم جاء الإسلام فجمع شملها بعد فرقة وشتات، وألف بين قلوب قبائلها

وأفرادها بعد عداوة تأرثت بها الأضغان وتحكمت فيها الثارات، وأخرجها من

ظلمات الجاهلية والأمية، إلى نور العلم والحكمة والنظام والمدنية، وجعل لها

المكانة الأولى بين أمم الأرض في السيادة والرياسة، والكلم العليا في الحكم

والسياسة، فورثت ملك القياصرة والأكاسرة في الشرق، وامتد سلطانها في القرن

الأول من حدود الهند إلى المحيط الغربي وهو آخر ما كان يعرف من اليابسة في

الغرب، وأحيت في هذه الممالك الواسعة العلوم والفنون، ورقت الصناعة والزراعة،

وسلكت السبل الجديدة للتجارة، فسادت شريعتها جميع الشرائع، وعلت لغتها

جميع اللغات، وفاقت آدابها جميع الآداب.

ولكن حظ جزيرتها من هذا العمران كان قليلاً، ثم دب إليها الخراب، وعاد

أكثر أهلها إلى البداوة والأمية والجاهلية، أو ما يقترب منها، بل صاروا دون

الجاهلية في بعض الصفات والمزايا حتى اللغة، فأنى لبدو الجزيرة وحضرها في

هذا العصر بما يقرب من تلك الملكة العليا في الفصاحة والبلاغة التي جعلت لكتاب

الله المعجز تلك المكانة في عقولهم وقلوبهم؟ حتى إن كان أحدهم ليسمع السورة أو

الآية منه فيخر ساجدًا، وتتحول عقائده وأخلاقه وعاداته بهدايته إلى ضدها.

عاد أهل الجزيرة إلى جاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض بعد ألف الإسلام

بينهم، فكانوا بنعمة الله إخوانًا، ويرتزق قويهم بسلب ضعيفهم بعد أن كانوا يؤثرون

على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفرقوا دينهم فصاروا شيعًا تكفر كل شيعة

منهم الأخرى أو تفسقها بعد تلك الوحدة العظيمة، جاهلين أو غافلين عن قول ربهم

لرسولهم صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ

فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، وما في معناه من الآيات والأحاديث.

إن هداية القرآن هي التي جمعت كلمة العرب على ما كان من تفرقهم وتعاديهم

في الجاهلية، وهي التي جعلتهم أئمة الأمم في العلم والحكم والآداب والعدل في إثر

إخراجهم من تلك الأمية، وما أصابهم ما أصابهم بعد ذلك من التفرق والتعادي

والجهل والفقر إلا بتركها، ولن تعود إليهم تلك النعم إلا بعودهم إليها {إِنَّ اللَّهَ لَا

يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . ولكن وحي شياطين

التفريق، قد زين بزخرف القول لكل فريق، أن كل شيعة تجمعها راية مذهب،

فإنما الواجب عليها أن تعمل بقول علمائه وحكامه، ولا يجوز لها أن تهتدي بكتاب

الله وسنة رسوله، وإن اختلفوا في الرأي، وتنازعوا في الأمر، خلافًا لقوله عز

وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ،

وشبهتها على هذه المخالفة أن الاهتداء بكتاب الله المنزل، فتح لباب الاجتهاد المقفل،

فاختلفوا في أصل الاهتداء بالكتاب، الذي أنزله الله تعالى لإزالة الاختلاف:

من غص داوى بشرب الماء غصته

فكيف يفعل من قد غص بالماء

إن الله تعالى أرسل رسله لهداية خلقه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ

النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً

بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) ، فكيف يؤخذ بقول العلماء أو الأمراء الذين يبغي بعضهم

على بعض، فيما تنازعوا واختلفوا فيه من الأمر، إذا لم يرجعوا إلى الأصل

الجامع، ويحكموه في الخلاف الواقع، وهو يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ

إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ، ثم يعلل

ذلك تعليلاً بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ؛ أي: أحسن عاقبة

ومآلاً من كل ما عداه، فكيف لا يكون خيرًا من اتباع أهوائهم، في تحكيم آرائهم،

والرد إلى أقوال زعمائهم وعلمائهم، على أن هذا الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله،

وذلك الاهتداء بهما، لا يستلزمان الاجتهاد الأصولي المطلق الذي أقفلوا بابه، فقد

كان عوام السلف الصالح مهتدين بهما، ولم يكن كل واحد منهم إمامًا مجتهدًا في

استنباط جميع الأحكام، كأئمتهم المشهورين وعلمائه الأعلام.

نعم إن الشيخ محمد عبد الوهاب قد جدد دعوة الدين في بقاع نجد، فرجع

الألوف بها عما كانوا عليه من الجاهلية والشرك، وعادت تنتشر دعوته في جميع

جزيرة العرب التي يتعذر إصلاحها وجمع كلمتها بغير الدين، ولو تم ذلك لتجدد أمر

الإسلام في جميع أقطار المسلمين، ولكن حال دون ذلك فتنتان:(أولاهما) مقاومة

السياسة لها، و (الأخرى) غلو الكثير من القائمين بها، فالأولى إذاعة الساسة في

العالم كله أن هذه دعوة ابتداع في الدين، والغلاة أيدوا هذه الإذاعة بما اشتهر عنهم

من الغلو، ولا سيما تكفير من عداهم من المسلمين، ولهذه التهمة أصل، وقد بينا

الحقيقة في هذه المسألة من قبل، وغرضنا من الإلمام بذكرها الآن، بيان استعداد

العرب للصلاح والإصلاح بدعوة الإيمان، إذا قام بها من يدعو بها بالحكمة

والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن، وتذكير الغلاة من

المتدينة بأن لا يغلو في دينهم ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يحرموا ما لم يحرم

الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص، وأن يعذروا كل مخالف لهداية الدين بالتأول

أو الجهل، ويعتمدوا في بث الدعوة على نشر العلم والعمل به على قاعدة {يُرِيدُ

اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) ، وأن لا يكفروا أحدًا من

أهل القبلة بذنب، وأن يفرقوا بين الجهل بشيء مما يجب الإيمان به عن جهل،

وإن عد بعضه الفقهاء كفرًا ردة، وكفر العناد وتكذيب الرسول الذي كان عليه

مشركو الجاهلية في زمن البعثة، فإذا علموا هذا وعملوا به لا تلبث الدعوة أن تعم

الجزيرة وغيرها، ويسقط كل من يعارضها حرصًا على الزعامة وحب الرياسة.

هذا وإن لما أصاب الجزيرة من الشقاق والشقاء سببًا أصيلاً وراء الخلاف

الديني للبغي، وهو حب الرياسة وعلو بعض الزعماء على بعض، وسببين

عارضين وهما الجهل والفقر، وإزالة السببين العارضين من الأمور الكسبية القريبة

المنال، وإنما الشقاء كل الشقاء في الشقاق الناشئ عن حب الرياسة والعلو وخطره

المنذر بالهلاك والزوال.

إن في بلاد العرب من ينابيع الثروة ما يكفي لجعل أهلها من أغنى شعوب

الأرض كمعادن الذهب والحديد والحجارة الكريمة والأملاح والزيوت المعدنية وغير

ذلك، وفي كثير من أرضها قابلية لخصب الزراعة يعز نظيره في غيرها، وناهيك

بقهوة اليمن ونخيل المدينة وفاكهة الطائف، وأهلها أزكى الشعوب وأقواها استعدادًا

للتجارة، حتى إن عوام الحضارمة قد زاحموا بها أرقى شعوب هذا العصر علمًا

وتجربة في بلاد الهند وجاوة ومصر، فبقليل من العلم والنظام تدخل جزيرة

العرب في حياة جديدة من الثروة والعمران، وتحفظ نفسها من الخطر المحدق بها

الآن، ولكن ذلك يتوقف على إزالة العداء الذي طرأ على أئمتها في هذا الزمان.

إذا زال الشقاق وأديل منه الاتفاق بين أئمة اليمن والحجاز ونجد، زال في

أثره ما منيت به البلاد من الجهل والفقر، وما يتهددها من فقد الاستقلال والذل،

وإذا حل بالجزيرة ما جعله الله تعالى بسنته في البشر، عقابًا لازمًا لأهل التنازع

والفشل، يذل الإسلام ويزول سلطانه عن رؤوس سائر الأمم، وتكون تبعة ذلك

على أمراء الجزيرة وأئمتها، وما يظن بأحد منهم أنه يحسب أن بلاده بمأمن من

سيطرة الأجانب بقوتها، أو بحرِّها ووعورتها؛ إذ لم يبق (فيما أظن) منهم من

يجهل أن الأجانب قد استولوا على ما هو مثلها أو أشد منها قوة، وألذع حرًّا

وأصعب وعورة، على أنه ليس مثلها في كونه جزيرة أو شبه جزيرة، فهذه البلاد

يمكن للدول البحرية حصرها من البحر، ومنع السلاح عنه وقطع موارد الرزق،

ولا سيما إذا ثبتت سيطرتها على بلاد سورية والعراق التي يسهل حصرها أيضًا إذا

هي نجت من تلك السيطرة وليتذكروا جميعًا ما أوصى به النبي - صلى الله عليه

وسلم - في مرض موته بشأن جزيرتهم، وحكمة ما أشار إليه من أن الإسلام سيأرز

إليها كما تأرز الحية إلى جحرها وتطبيق ذلك على ما صار إليه أمر المسلمين الآن.

إن بقاء عز الإسلام يتوقف على استقلال العرب وإصلاح شؤونهم كما ثبت

عندنا بالنظر الصحيح، المؤيد لحديث جابر عند أبي يعلى بسند صحيح، وهو قوله

عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) ، ولا عز بغير استقلال،

ولا استقلال إلا بالقوة والمال، ولا قوة ولا ثروة مع الشقاق والفرقة، وإنما القوة

كل القوة بالاعتصام والوحدة، فإذا اتحد أمراء الجزيرة وأئمتها حفظوا استقلالهم،

وأمكنهم نشر العلم وتفجير ينابيع الثروة في بلادهم بمساعدة أهل البصيرة والقادرين

على تنظيم الإدارة والقوة وتدبير الثروة من أمتهم، وتسابقت الشعوب الغنية القوية

إلى موادتهم أو مصانعتهم، للاستفادة من قوتهم وثروتهم، بل هي على وشك

الاحتياج إليهم مذ الآن، لما بين غربي أوربة وشرقيها من المقارعة والصدام، الذي

يتوقف على نتيجته ما يكون عليه الشرق من حكم ونظام، ولا سيما شعوب الإسلام

من العرب والترك والفرس والتتر والأفغان.

هذا ما أحكيه لهم عن رأي أهل البصيرة والدين، من عقلاء العرب وعلماء

المسلمين، الذين يتنفسون الصعداء حزنًا، ويحرقون الأرم غيظًا وأسفًا، كلما صخ

أسماعهم نبأ تقاتل أئمة الجزيرة، للتنازع على بعض الجبال والأودية [1] مع خراب

البلاد، وفقر العباد، اللذين يزيلهما الاتفاق والاتحاد، ويزيدهما الافتراق والجلاد،

وإنني بلسان صفوة المخلصين من عقلاء العرب وغيرهم من المسلمين، أدعوهم

إلى عقد الاتفاق والحلف بينهم على الأصول الآتية:

1-

إبطال الحرب والغزو بين عرب الجزيرة العربية بعضهم مع بعض، وحل

مشكلات الخلاف بالتحكيم ولو بصفة هدنة مؤقتة إلى أن يوضع للبلاد نظام حلفي

ثابت.

2-

حفظ الحالة الحاضرة باعتراف كل حكومة مستقلة في قسم الجزيرة

باستقلال سائر الحكومات الموجودة فيها اليوم وترك مسائل الحدود إلى مجلس

التحكيم بحيث لا يعد اعتراف بعضهم باستقلال بعض متضمنًا للرضا بالحدود

المختلف عليها.

3-

حرية المذاهب الدينية الموجودة في البلاد في التعليم والعمل والدعوة

بشرط عدم طعن أحد في مذهب غيره أو تكفير متبعيه، بل يتبع في ذلك قوله تعالى:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، فلكل أحد أن يبين بالدليل أو بنصوص المذهب المعتمدة أحكام

الدين والكفر والحلال والحرام، ولكن ليس له أن يطبقها على طائفة معينة من أهل

القبلة؛ لأن التطبيق له شروط، ولا سيما في شأن الطوائف والجماعات التي تقيم

الشعائر الإسلامية، بل ليس لغير الحاكم الشرعي في الدعوى الشرعية أن يحكم

بكفر شخص معين يدعي الإسلام ويقتله بذلك، كما ينقل عن بعض الغلاة في بعض

البوادي، فرب قائل قول أو فاعل فعل عده بعض العلماء كفرًا لدلالته عندهم على عدم

تصديق الرسول، وقائل القول أو فاعل الفعل من المؤمنين الموقنين، ولكنه جاهل أو

متأول، ولو ظهر له الحق في المسألة لقبله مذعنًا، ورجع عما كان عليه تائبًا

مستغفرًا.

4-

حرية التجارة وحفظ الأمن في البلاد، وتسهيل طرق المواصلات بينها

وتنظيم مصلحة البريد والبرق، والمبادرة إلى إنشاء تلغراف لاسلكي في البلاد،

ولا سيما عواصمها.

5-

إرسال كل حكومة معتمدًا إلى عاصمة الأخرى يكون وكيلاً لها عندها كما

هو المعهود بين جميع الحكومات التي بينها عهود ولها مصالح في بلاد الأخرى.

6-

بعد حصول هذه التمهيدات يتألف لهذه الحكومات مجلس حلفي يكون هو

المرجع في حل جميع مسائل الخلاف ووضع الحدود بين البلاد، وجميع ما يتعلق

بحفظها وترقية شؤونها، وإننا متى رأينا من أئمة اليمن والحجاز ونجد شروعًا في

تنفيذ هذا العمل الذي دعوا إليه جميعًا قبل أن تشتد الحاجة إليه بوقوع الحرب

العظمى وكثر الحديث فيه - فإن عقلاء الأمة العربية في سائر البلاد وأهل الغيرة

من مسلمي الأعاجم يمدونهم بآرائهم السديدة ومساعداتهم الرشيدة في تنفيذ الاتفاق

الحلفي ونظام مجلسه وسائر ما يحتاجون إليه في ذلك، وفيما ترتب عليه من إيجاد

وسائل الثروة في البلاد.

فيا أيها الأئمة المتبعون في بلادكم، إنكم تعلمون أنكم مسؤولون عند الله تعالى

عن كل ما يتعلق بأمر البلاد وأهلها، ولعلكم لا تعلمون حق العلم قدر اهتمام شعبكم

العربي في غير بلادكم، واهتمام جميع عقلاء الشعوب الإسلامية الأخرى بأمركم،

وما يقولون عنكم كلما بلغهم شيء من أنباء اختلافكم وتقاتلكم، وما يتمنون لكم من

السعادة وحسن الحال الذي يعدونه من أسباب سعادتهم، وما يكتبون اليوم في

تاريخكم، مما ينشر قريبًا في عصركم، مصححًا لما تنشره الجرائد عنكم، ألا

فاعلموا أن جميع العقلاء منهم ومن غيرهم يعلمون علم اليقين أن اتفاقكم خير لكل

منكم، وأن بقاء هذا الشقاق بينكم أكبر مصاب عليكم وعلى شعبكم وأمتكم وملتكم،

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال: 1) ، وسلام على من اتبع الهدى،

ورجَّح المصلحة العامة على الهوى.

_________

(1)

كجبل سعفان الذي يتقاتل عليه صاحبا اليمن وعسير، ووادي طربة الذي يتنازع فيه صاحبا الحجاز ونجد.

ص: 133

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

‌الخيال في الشعر العربي

(1)

يرتفع شأن الشعر ونقضي لصاحبه بالبراعة والتفوق على غيره بمقدار ما

يحرز من بناء محكم ومعنى بديع، وقد حدق فلاسفة الأدب أنظارهم إلى الوجوه

التي تملك بها المعاني شرف منزلتها وحسن طلعتها، أو تأخذ منها الألفاظ متانة

نسجها وصفاء ديباجتها.

ومن أجمل الفنون التي يرجع النظر فيها إلى جهة المعنى صناعة التخييل،

وهي الغرض الذي جردت القلم للبحث عنه في هذه الصحائف متحريًا أسلوبًا لا

يشتكي منه القارئ طولاً ولا قصرًا.

ولا أدعي أن هذا الفن مما ضل عن أولئك الفلاسفة فلم يعرجوا على مكانه،

أو صعب عليهم مراسه فلم يسوسوه بفكر ثاقب وبيان فاصل، فإن كثيرًا من علماء

البلاغة قد ولوا وجوههم شطره حتى توغلوا في طرائقه، وكشفوا النقاب عن حقائقه،

ومن أبعدهم نفوذًا في مسالكه الغامضة، وأسلمهم ذوقًا في نقد معانيه وتمييز جيدها

من رديئها الإمام عبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب أسرار البلاغة ودلائل

الإعجاز.

وما كان لي سوى أن أعود إلى مباحثه المبثوثة في فنون شتى، فأستخلص

بقدر ما تسمح به الحال لبابها، وأولف بين ما تقطع من أسبابها، ولا تجدني - إن

شاء الله - أحكي مقالهم دون أن أعقد بناصيته، أو أبث خلاله، أو أضع في ردفه

جملاً تلبسه ثوبًا قشيبًا، أو تنفخ فيه روحًا كانت هادئةً.

***

الشعر

يعرف العربي في جاهليته كما عرف بعد أن نسل إليه العلم من كل حدب أن

الكلام ينقسم إلى شعر ونثر، والميزة المحسوسة لكل أحد أن الشاعر لا يحثو عليك

الألفاظ جزافًا مثلما يفعل الناثر، وإنما يلقيها إليك في أوزان تزيد في رونقها،

وتوفر لذتك عند سماعها، ومن هذا ذهب بعضهم في حد الشعر إلى أنه كلام مقفى

موزون، وهذا مثل من يشرح لك الإنسان بأنه حيوان بادي البشرة منتصب القامة،

فكل منهما قصر تعريفه على ما يدرك بالحاسة الظاهرة، ولم يتجاوزه إلى المعنى

الذي يتقوم الحقيقة ويكون مبدأ لكمالها، وهو التخييل في الشعر، والنطق في

الإنسان.

فالروح التي يعد بها الكلام المنظوم من قبيل الشعر إنما هي التشابيه

والاستعارات والأمثال وغيرها من التصرفات التي يدخل لها الشاعر من باب

التخييل، وليس الوزن سوى خاصة من خواص اللفظ المنظور إليها في مفهوم

الشعر بحيث لا يسميه العرب شعرًا إلا عند تحققه، وإطلاق الشعر على الكلام

الموزون إذا خلا من معنى تستطرفه النفس لا يصح إلا كما يصح لك أن تسمي جثة

الميت إنسانًا، أو تمثال الحيون المفترس أسدًا.

والمنثور من الكلام يشارك الشعر في اشتماله على الصور الخيالية، ولكن

نصيب الشعر منها أوفر، وهو بها أعرف، كما يمتاز بأحد أنواع التخييل، وهو ما

لا يتوخى به صاحبه وجه الحقيقة، وإنما يقصد به اختلاب العقول ومخادعة النفوس

إلى التشبث بغير حق يدعوك كما قال ابن الرومي إلى أن تطوي جناحيك على

جذوة من الحقد:

وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى

وبعض المزايا ينتسبن إلى بعض

فحيث ترى حقدًا على ذي إساءة

فثم ترى شكرًا على واسعي القرض

وقال آخر يزين لك أن تدرج نفسك في كفن الذل وتواريها في حفرة من

الخمول:

لذ بالخمول وعذ بالذل معتصمًا

بالله تنجو كما أهل النهى سلموا

فالريح تحطم إن هبت عواصفها

دوح الثمار وينجو الشيح والرتم

ولاختصاص الشعر بهذا النوع من التخييل أطلق بعض المشركين من العرب

على الرسول صلى الله عليه وسلم اسم الشاعر؛ ليلقوا في أوهام السذج أن كلامه

من نوع ما يصدر عن الشعراء من الأقوال المموهة والتخيلات الباطلة.

فهم يعلمون أن القرآن بريء من النزعة التي عهد بها الشاعر، وهي عرض

الباطل في لباس الحق؛ لأنه إنما ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، ولا يخفى

عليهم أنه مخالف للشعر في طريقة نظمه، فإن للشعر عروضًا يقف عنده، ووزنًا

ينتهي إليه، والقرآن يصوغ الموعظة وينفق الحكمة بغير ميزان، ولكن ضافت

عليهم مسالك الجدال، وانسدت في وجوههم طرق المعارضة، فلم يبالوا أن يتشبثوا

بالدعاوي التي يظهر بطلانها لأول رأي، كما قالوا عنه: إنه مجنون. وهم يشهدون

في أنفسهم أنه أبلغهم قولاً، وأقواهم حجة، وأنطقهم بالحكمة.

وأما الآيات التي وافقت بعض الأوزان فهي على سلامتها من بهرج التخيلات

لا تجد الموافق منها للموزون قد استقل بنفسه، وأفاد المعنى دون أن تصله بكلمات

من الآيات السابقة أو اللاحقة، والكلام المؤلف من الموزون وغير الموزون لا

يصح لأحد أن يسميه شعرًا ليقدح به في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا

تُؤْمِنُونَ} (الحاقة: 41) .

***

التخييل عند علماء البلاغة

ينقسم التصرف في المعاني - على ما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني - إلى

تحقيق وتخييل، والفارق بينهما أن المعنى التحقيقي ما يشهد له العقل بالاستقامة،

وتتضافر العقلاء من كل أمة على تقريره والعمل بموجبه كقول المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

فمعنى هذا البيت مما تلقاه العقلاء بالقبول، ووضعوه بمقدمة ما يتنافسون فيه

من الحكم البالغة، وكذلك اتخذه الأمراء الراشدون قاعدة يشدون بها ظهر سياستهم،

ويستندون إليها في حماية شعوبهم، ومن الذي يجهل أن حياة الأمم إنما تنتظم

بالوقوف في وجه من يتهافت به السفه على هدم شرفها والاستئثار بحقوقها؟

والتخييلي هو الذي يرده العقل، ويقضي بعدم انطباقه على الواقع، إما على

البديهة كقول بعضهم:

لو لم تكن نية الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق

فكل أحد يدرك لأول ما يطرق سمعه هذا البيت أن الكواكب لا تنوي ولا

تنتطق ولا تخدم، وأن تلك النجوم المتناسقة في وسط الجوزاء مركبة فيها من قبل

أن يصير الممدوح شيئًا مذكورًا أو بعد نظر قليل كقول أبي تمام:

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسيل حرب للمكان العالي

نهى المخاطبة في صدر البيت عن إنكارها لفاقة الكريم وفراغ يده من المال،

وأخيرًا في العجز بأن السيل لا يستقر على الأماكن المرتفعة، وهذا المعنى في نفسه

صحيح، ولكن الفاء في قوله:(فالسيل حرب) أفصحت بأن السبب في عدم توفر

حطام الدنيا لدى الكريم هو كون الماء إذا وقع على الأماكن العالية لا يلبث أن ينحدر

إلى ما انخفض عنها من وهاد وأغوار، وهذا إنما وصل إلى الذهن بتخييل أن رفعة

القدر بمنزلة المكان الحسي، وأن المال بمنزلة الماء الدافق ينساق إلى الرجل

فيقضي منه وطره، ثم يرسله إن شاء إلى بني الحاجات. فيكون القول بأن مكانة

الكريم لارتفاعها جعلت المال يمر على يده، ثم ينطلق بالبذل والإنفاق - يستند إلى أن

الماء لا يتجمع على ما صعد على وجه الأرض من أكمات وهضاب، وهذا القياس

ضرب من التخييل لا يجول في العقل إلا ريثما ينظر إلى أن السبب في عدم استقرار

الماء على الأماكن العالية كونه جرمًا سيالاً لا تتماسك أجزاؤه وتثبت في محل إلا إذا

أحاط بجوانبه جسم كثيف، وليس للدراهم والدنانير هذه الطبيعة حتى يلزم أن تمر

على يد الكريم، ثم تنصب منها إلى من كانوا أدنى منه منزلة.

ويفهم من وجه التفرقة بين القسمين أن مجرد الاستعارة عندهم لا يدخل في

قسم التخييل، وقد صرح الجرجاني بهذا في كتاب أسرار البلاغة ناظرًا إلى أن

المستعير لا يقصد إلا إثبات معنى اللفظة المستعارة حتى يكون الكلام مما ينبو عنه

العقل، وإنما يعمد إلى إثبات شبه بين أمرين في صفة، والتشابه من المعاني التي

لا ينازع العقل في صحتها.

***

التخييل عند الفلاسفة

يقول الفلاسفة: إن من بين القوى النفسية قوة تتصرف في صورالمعلومات

بالتركيب تارة والتفصيل مرة أخرى، ويسميها فلاسفة العرب إذا لم تخرج عن

دائرة التعقل مفكرة، ويقال في عملها: تفكر. فإن تصرفت بوجه لا يطابق النظر

الصحيح سموها مخيلة، ويقال في عملها: تخيل أو تخييل. فمثال ما يأخذ من العقل

مأخذ القبول قول القاضي عياض:

انظر إلى الزرع وخاماته

تحكي وقد ولت أمام الرياح

كتيبة خضراء مهزومة

شقائق النعمان وفيها جراح

فالشاعر التفت إلى ما في حافظته من الصور المناسبة لهيئة زرع أخضر

يتخلله شقائق النعمان، وقد أخذت الرياح تهب عليه من جانب، فيميل إلى آخر

ميلاً يتراءى للعين أنه حركة ينتقل بها من مكانه، فوقع خياله على الجيش

والملابس الخضراء والجراحات التي تنال الجيش المقاتل، فألف بينها، ثم جعل

سيره إدبارًا وانهزامًا ليوافق حالة جيش ظهرت فيه الجرحى بمقدار ما في المزارع

الخضراء من شقائق النعمان.

ومثال ما لا يثق به النظر، ولا يدخل في حساب الأقوال القائمة على التحقيق

قول الشاعر:

ترى الثياب من الكتان يلمحها

نور من البدر أحيانًا فيبليها

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها

والبدر في كل وقت طالع فيها

أبصر معاجر من يتحدث عنها وقد أخلقت فحاول أن يلتمس وجهًا يجعل ذلك

الإخلاق من شواهد حسنها، أو يسد فم العاذل حتى لا يغض من شأنها، فتصور

طلعة القمر وانساق إليه ما يدور بين الناس من أن الثياب التي يمج عليها القمر

أشعته يسرع إليها البلى، ثم ادّعى مبالغًا في التشبيه أن وجهها قمر، وبنى على هذا

أن تعجب ممن ينكر تأثيره في معجرها بالإخلاق، ففي هذا التصرف ادّعاء أن

وجهها قمر، وهذا مما يألفه العقل؛ لأنه بمنزلة التشبيه، ولا مفر من قبوله متى

تحقق الوجه الجامع بين طرفيه، والمعنى الذي للعقل أن يلتفت عنه إنما هو دعوى

أن معجرها أخلق بعلة كونه مطلعًا لوجهها المسمى بالقمر على وجه المجاز.

***

ماذا نريد من التخييل

يفهم من صريح المقالة الفلسفية أن المفكرة والمخيلة اسمان لقوة واحدة، وهي

التي تتصرف في المعلومات بالتفصيل والتركيب، وإنما تغير اسمها بحسب اختلاف

الحال، فعندما يكون زمامها بيد العقل يسمونها مفكرة، وعندما تنفلت منه يسمونها

مخيلة.

وإذا عرفت أن التمثيل والاستعارة من عمل هذه القوة باتفاق علماء النفس،

فلو جرى طائفة من الناس على إطلاق التخيل أو الخيال عندما تتصرف هذه القوة

تصرفًا تصوغ به معنى مبتدعًا سواء أنس به العقل أو تجافى عنه لم يكونوا صنعوا

شيئًا سوى تغيير الاصطلاح وإدخال القسمين تحت اسم واحد.

وإطلاق لفظ التخيل أو الخيال في صدد الحديث على المعاني الصادقة

والتصورات المعقولة لا يحط من قيمتها أو يمس حرمتها بنقيصة، فإن علماء

البلاغة أنفسهم قد أطلقوه على ما يأتي به البليغ في الاستعارة المكنية من الأمور

الخاصة بالمشبه به ويثبته للمشبه، فقالوا: الأظفار أو إضافتها في قولك: (أنشبت

المنية أظفارها) ، تخييل أو استعارة تخييلية، وأطلقوه في الفصل والوصل حين

تكلموا على الجامع بين الجملتين، وقسموه إلى: عقلي، ووهمي، وخيالي، وأطلقوه

في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد، ولم يبالوا في جميع

ذلك أن يضربوا لها أمثلة من الكتاب العزيز وغيره من الأقوال الصادقة.

فيسوغ لنا حينئذ أن نساير أدباء العصر، ونتوسع في معنى الخيال والتخييل،

ولا نقف عند اصطلاح القدماء من الفلاسفة أو علماء البلاغة، حيث خصوا بها ما لا

يصادق عليه العقل والمخالفة في الاصطلاح، ما دامت الحقائق قائمة والمقاصد ثابتة

بحالها لا يبعد عن تبديل العبارة وتغيير الأسلوب.

يقول الناس عندما يسمعون بيتًا أو أبياتًا لأحد الشعراء: هذا خيال واسع. أو:

هذا تخيل بديع. فيفهم السامع لهذه الكلمات وما يماثلها أن لصاحب هذا الشعر قدرة

على سبك المعاني وصوغها في شكل بديع، ولو قالوا: (ما أضيق هذا الخيال أو

ما أسخف هذا التخيل) فيفهم السامع أن الشاعر لديه قدرة على إخراج المعاني في

صورة مبتكرة.

فيصح لنا أن نأخذ هذا المعنى الذي يحضر في الذهن عند سماع تلك الجمل

ونشرح به معنى المتخيلة، فنقول: هي قوة تتصرف في المعاني لتنتزع منها صورًا

بديعة، وهذه القوة إنما تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها من طريق

الحس أو الوجدان، وليس في إمكانها أن تبدع شيئًا من عناصر لم يتقدم للمتخيل

معرفتها. ومثال هذا من الصور المحسوسة أن قدماء اليونان رمزوا إلى صناعة

الشعر بصورة فرس له جناحان، وهي صورة إنما انتزعها الخيال بعد أن تصور

كلاًّ من الفرس والطير بانفراده.

وقد يجول في خاطرك عند ما تمر على قول امرئ القيس:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

أن هذا الشاعر قد تخيل الأغوال وأنيابها، ولم تسبق له معرفة بها؛ إذ لا أثر

للغول وأنيابها، ولا لشيء من موادها في العيان، فيلوح لك أن هذا يقدح في قولنا:

إن المخيلة لا تؤلف الصور إلا من مواد عرفتها بوسيلة الحس أو الوجدان.

والذي يكشف الشبه أن كلاًّ من الغول وأنيابها صورة وهمية، ولكن لم يحدثها

الخيال من نفسه، بل أخذ من الحيوانات الفظيعة المنظر أعضاء متفرقة وأنيابًا حادة

وتصرف فيها بالتكبير، ثم ركبها في صورة رائعة وهي التي تخطر على الذهن

عندما يذكر اسم الغول، حتى إن الناس لا يتفقون فيما أحسب على تصور هذا الأمر

الموهوم، فكل ما يخطر له المعنى في أبشع صورة يتمكن خياله من جمعها وتلفيقها.

فغاية ما صنع الشاعر أن تخيل أمرًا محسوسًا، وهي النصال المحددة في

صورة أمر هو في نفسه خيالي أيضًا، ولكن صورته مأخوذة من مواد كان يعرفها

من قبل بطريق الرؤية أو السماع.

وتعتمد المخيلة على قوة التذكر، وهو تداعي المعاني وخطورها على الذهن

بسهولة، وبعد أن تتراءى لها الصورة بوسيلة التذكر تستخلص منها ما يلائم

الغرض فتفصل الخاطرات عن أزمنتها أو أمكنتها، أو ما يتصل بها مما لا يتعلق

به القصد من التخييل، ثم تتصرف في تلك العناصر بمثل التكبير أو التصغير،

وتأليف بعضها إلى بعض حتى تظهر في شكل جديد.

***

تداعي المعاني

ترجع الأسباب التي تجمع بين المعاني وتجعلها بحيث يكون حضور بعضها

في النفس يستدعي حضور بعض إلى ثلاثة أنواع:

أولها: اقتران المعنيين في الذهن بحيث يكون تعلقهما أو إحساسهما في وقت

واحد أو على التعاقب، ومن هذا تذكر الوقائع عندما يخطر بالبال مكانها، كما قال

ابن الرومي:

وحبب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالك

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلك

أو زمانها كما قالت الخنساء:

يذكرني طلوع الشمس صخرًا

وأذكره بكل مغيب شمس

وخصت هذين الوقتين بالتذكير؛ لأنهما مظهر لعملين عظيمين من أعمال

صخر؛ إذ كان يغدو للإغارة التي هي مظهر الشجاعة عند مطلع الشمس، ويبذل

الطعام إكرامًا للضيوف وقت الغروب.

ومن هذا الوجه نشأت الكنايات وبعض أنواع المجاز المرسل، أما الكنايات؛

فلأنها الدلالة على المعنى باسم ما يلازمه في الخارج، وصح هذا نظرًا إلى أن

حضور المعنى الموضوع له اللفظ يستدعي حضور لازمه في ذهن المخاطب،

كقول الحصين بن الحمام:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد

لنفسي حياة مثل أن أتقدما

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

ولكن على أقدامنا تقطر الدما

أراد الشاعر أن يفيد ثباتهم في مواقف الحروب، وأنه لا يلتفت بهم الفزع من

الموت إلى سبة الهزيمة، فعبر عن هذا المعنى بأن دماءهم لا تقع على أعقابهم ألبتة،

وهذا يقتضي أنهم لا يولون العدو ظهورهم حتى ينالها بسيوفه، كما أن معنى قطر

الدماء على الأقدام يذهب بالسامع إلى معنى أنهم يستقبلون العدو بوجوههم إلى أن

ينالوا ظفرًا أو يلاقوا موتًا شريفًا.

وأما بعض أنواع المجاز المرسل فكإطلاق اسم الحال على المحل، والسبب

على المسبب، والكل على الجزء وعكسها، ومداره على أن ذهن المخاطب ينتقل

إلى المعنى المراد بسهولة حيث كان بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة تقتضي

تقارنهما في الذهن؛ لأن إدراكهما كان في وقت واحد كالحال والمحل، والكل

والجزء، أو على التعاقب كالسبب والمسبب.

النوع الثاني: من الأسباب التي تتلاحق بها المعاني في الذاكرة: التباين، فإن

الصور التي يكون بينها تضاد لا يكاد بعضها يتخلف عن بعض، فمن تصور

الشجاعة خطر له معنى الجبن، ومن مرت على باله الصداقة انساق إليه معنى

العداوة، ولهذا أدخل علماء البلاغة في وجوه الوصل بين الجملتين ما يقوم بينهما

من التضاد في المعنى، وساقوا في أمثلته قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *

وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) ، وإن شئت مثلاً من الشعر،

فقول المتنبي:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

ومن هذا الوجه أيضًا صح لهم أن يعدوا في علاقات المجاز المرسل الضدية.

النوع الثالث: التشابه، وهو أن يكون بين المعنيين تماثل في بعض أمور

خاصة، كمن يرى الرجل المقدام فيتصور الأسد، ويسمع الألفاظ البليغة قد تبرجت

في أسلوب محكم فيذكر الدور المتناسقة وأسلاكها. وعلى هذا النوع يقوم فن

التشبيه والاستعارة اللذين هما أوسع مضمار تتسابق فيه قرائح الشعراء والكتاب.

***

لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني

تختلف الناس فيما يتداعى إليهم من المعاني إلى أن ترى صورًا تتوارد على

شخص متعاقبة، وهي في خيال آخر لا تتقارن ألبتة، قال أحد الفلاسفة: إني لا

أسأل عن السبب في أن معنى من المعاني يدعو آخر ويأخذ بناصيته، ولكنني

أبحث في شيء آخر وهو أن المعنى الواحد قد يختلف تواليه باختلاف الأشخاص.

ثم قال: ويمكن الجواب عن هذا بأن الناس يختلفون في ميولهم وشعب وجهتهم في

الحياة، فكل معنى يدعو لصاحبه ما هو ألصق بميله وأقرب إلى عمله.

وإيضاح هذا الجواب أن توالي المعاني يختلف باختلاف الأشخاص لأحد

سببين.

الأول: أن الدواعي والعواطف النفسية لها مدخل في تجاذب المعاني

واسترسالها على الخيال، فالطمع أو الحاجة أو الرهبة مثلاً تستدعي المعاني العائدة

إلى المديح أو الاستعطاف، والغرام يستدعي المعاني الغزلية، والكآبة والأسف

يستدعيان معاني الرثاء أو الشكوى، والسرور يستدعي المعاني اللائقة بالهناء،

والإعجاب بالنفس أو العشيرة يستدعي معاني الفخر والحماسة، فالزاهد في الدنيا لا

يسع خياله من معاني الإطراء والملق ما يسعه خيال الحريص عليها، والخالي من

عاطفة الغرام، لا يخطر على قلبه من معاني التشبيب ما يخطر على قلب الشجي

المستهام.

الثاني: ما يتفق للإنسان في طرز حياته وهو حال المحيط الذي يتقلب فيه،

فيتوالى على خاطر الناشئ في النعيم والترف ما لا يتوالى على خاطر الناشئ في

حال عسرة وبؤس، ويحضر في نفس من شب في الحاضرة ما لا يحضر في نفس

الناشئ في البادية، وينساق إلى خيال الناشئ في شمال المعمورة ما لا يدخل في

خيال الناشئ في جنوبها، فالمقيم في شمال أوربا مثلاً يذكر الشتاء، فتقارنه صورة

الثلج، وليس بينهما في ذهن المقيم بالجنوب اقتران واتصال لقلة مشاهدته للثلج، أو

عدم وقوع نظره عليه طول حياته، ولو نظر إلى الهلال رجلان: هذا نشأ في الحلية

والآخر اتخذ الحصاد حرفة فالشأن أن يتداعى إلى الأول صورة السوار وينتقل منه

إلى المعصم أو الصياغة، ويتداعى إلى الثاني صورة المنجل وينتقل منها إلى

الزرع أو الحدادة.

محمد الخضر التونسي

(يتبع)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌محاربة البدع

تتمة الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر

قول الفخر الرازي في اسم الله الأعظم:

4-

ذكر المعترض أن الفخر الرازي قال في شرح البسملة من تفسيره ما

نصه: اختلف العلماء في الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو الاسم الأعظم

الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لاشتماله على سر الإشارة وتكوين

الكائنات وظهور التجليات.

ونقل الحافظ ابن حجر أنه نقل عن بعض الصوفية أن الضمير (هو) هو

الاسم الأعظم، ونحن ننقل هنا نص عبارته في تفسير الفاتحة في هذه المسألة؛

ليعلم الناس أن ما عزاه المعترض إليه هو خلاف ما ذهب إليه، وليعلم المعترض

نفسه أن ما اعتمد من كتب أهل الطريق في هذه المسألة لا يوثق بنقلها، ولا يعلم

أهلها، فنقول:

ذكر الرازي في المسألة الحادية عشرة من الباب الثالث من أبواب تفسير

البسملة أن الاسم الموضوع لذات الخالق واجب الوجود يجب أن يكون أعظم

الأسماء وأشرفها، قال: وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة، وهو اسم

الله الأعظم، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما

يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانية والروحانية. ثم

قال:

المسألة الثانية عشرة: القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على

وجوه، وذكر أن (الأول) ذو الجلال والإكرام، وضعفه. و (الثاني) هو الحي

القيوم، وضعفه. و (الثالث) قول من يقول: أسماء الله كلها عظيمة لا يجوز وصف

واحد منها بأنه أعظم. وضعفه. (ونقول: إن ذكره سهو؛ لأن التقسيم والأقوال

لمثبتي الاسم الأعظم والقائلين به) ثم قال:

القول الرابع: إن الاسم الأعظم هو قولنا (الله) وهذا هو الأقرب عندي؛ لأنا

سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم الْعَلَم في حقه سبحانه، وإذا كان

كذلك كان دالاًّ على ذاته المخصوصة (اهـ) بحروفه من الصفحة 62 من الجزء

الأول المطبوع بالمطبعة الخيرية سنة 1307، ومنه يعلم بعض الفرق بين الرازي

والحافظ ابن حجر في سعة الاطلاع.

ثم إن الرازي جعل الأسماء الإلهية بحسب دلالتها على ما وضعت له أقسامًا،

فصلها في أبواب وفصول، وجعل الفصل التاسع من الباب السابع (في الأسماء

الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة وهي أنا وأنت وهو، عندما تقع في

الكلام دالة على الله تعالى، وقد أطال في هذا الفصل الكلام في الضمير (هو)

بكلام جله من نظريات الصوفية والفلاسفة، وذكر له إحدى عشرة فائدة، واستنبط

بعد ذلك أن الذكر به أعظم الأذكار، ولكنه لم يقل: إنه هو الاسم الأعظم، ولعله

صرح به في كتاب آخر من كتبه. ولكنه لم يذكر أن (أه) من أسماء الله تعالى

ألبتة.

واستنباطه هذا مردود شرعًا فإنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة الذكر بأسماء

الله تعالى مفردة غير واقعة في كلام مركب له معنى، والضمير (هو) ليس من

أسماء الله تعالى ولا يدل بنفسه على ذات الله تعالى ولا على صفة من صفاته،

وإنما يدل على ذلك كما يدل على غيره إذا وقع في الكلام ضميرًا راجعًا إليه،

ويحسن أن نذكر نظريته ونبين بطلانها، وملخصها: أن نداء الله تعالى بكل اسم من

أسمائه يدل على وصف يتضمن الدعاء والسؤال المناسب لمعنى ذلك الاسم، فمن

قال: يا رحمن؛ كان معناه: ارحم، ومن قال: يا كريم؛ كان معناه أكرم، إلخ،

ثم قال: (وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليًا عن السؤال والطلب،

أما إذا قال: يا هو كان معناه خاليًا عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون

قولنا: (هو أعظم الأذكار) اهـ.

ونقول: إن هذا الكلام باطل مقدماته ونتيجته، فليس أشرف الأذكار ما كان

خاليًا عن دعاء الله تعالى وسؤاله، بل الدعاء أعظم العبادة كما صح في الحديث

(الدعاء هو العبادة) وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) ،

رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة

والحاكم من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا، وصححه الحاكم والترمذي وأبو

يعلى في مسنده من حديث البراء، وهو على حد حديث (الحج عرفة) رواه أحمد

وأصحاب السنن وصححوه، ومعناهما أن معظم الحج وركنه الأعظم عرفة، ومعظم

العبادة أو روحها ولبابها الدعاء، ويفسره حديث أنس (الدعاء مخ العبادة) رواه

الترمذي من طريق عبد الله بن لهيعة قاضي مصر ومحدثها وعالمها، وفيه مقال

معروف، ولذلك جعله الحافظ مؤيدًا لما ذكرناه في تفسيره بعد أن عزاه إلى الجمهور،

وروى الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث أبي هريرة

رفعه (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) .

ولما كان الدعاء ركن العبادة الأعظم ومعظمها ومخها صار يطلق ويراد به

العبادة مطلقًا كما قالوه في تفسير كثير من آيات القرآن حتى صار بعض الناس يظن

أن الصيام يسمى دعاء مثلاً، وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ

بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف:

180) ، أفرأيت من عمل بهذه الآية فذكر الله داعيًا له بأسمائه خير أم من ألحد فيها

فصار يقول: هو هو هو، أو يا هو يا هو، وهي عبادة لم تَرِد في كتاب الله

ولا في سنة رسوله، ولا رويت عن السلف الصالح؟ وهي مع ذلك فاسدة في لغة

الكتاب والسنة، فإن الضمير وحده لا يسمى كلامًا ولا يكون له معنى إلا إذا وقع في

كلام يكون له فيه مرجع، ومثله ما إذا كان جوابًا لسؤال يعرف فيه المرجع بالقرينة،

ولا يدخل عليه حرف النداء ولا على الضمير المخاطب الذي يوجه إليه النداء،

فلا يقال: يا أنت. وحرف النداء يتضمن معنى الدعاء أو النداء، ويؤول بالفعل،

ولذلك جعلوا المنادى من المنصوبات وكل من أنت وهو ضمير رفع منفصل.

ولو صح نداء الغائب من الخلق وعهد في كلامهم بالضمير المنفصل أو غيره

لما كان ذلك بالذي يصح في نداء الخالق الذي لا يغيب عنهم، وقد روى الشيخان

وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي -

صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي - صلى

الله عليه وسلم: (أيها الناس إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا

قريبًا وهو معكم) ، والصوفية الصادقون العارفون أجدر من غيرهم بملاحظة

الشهود والحضور، والرازي رحمه الله لم يكن صوفيًّا، وإنما ينقل كلامهم

ويتصرف فيه، ولو سلمنا له قوله: إن أشرف الذكر ما كان خاليًا عن معنى الدعاء؛

لما كان ذلك مستلزمًا التسليم له بجعل الذكر بضمير الغيبة - على فرض جوازه

وصحته - هو المتعين في تحصيل ذلك الذكر، بل نقول حينئذ: إن المتعين ذكره

تعالى باسمه الذي جزم هو تبعًا للجمهور بأنه اسم علم للذات الواجب الوجود وأن

جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا تجري عليه، ورجح هو أنه اسم الله الأعظم

كما سبق النقل عنه، وهو اسم الجلالة (الله) ونتبع فيه المأثور، فنجعله بكلمة

التوحيد لا مفردًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الذكر لا

إله إلا الله) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بسند صحيح من حديث

جابر بن عبد الله، ثم نقول: إن القرآن قد جعل اسم الرحمن مرادفًا لاسم الجلالة في

عدة مواضع، كقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ

الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) ?وذكر في عدة آيات في سياق الضر

والعذاب في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى حكاية عن الناصح لقومه باتباع المرسلين:

{إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} (يس: 23)، وقوله في حكاية إنذار إبراهيم لأبيه:

{إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ} (مريم: 45)، وقوله: {قُلْ مَن

كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ} (مريم: 75) ، وهذه أبعدها عن

التأويل.

فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى واسع الاطلاع، ولا سيما في العلوم

العقلية، ولكنه كثير الخطأ، ولا سيما فيما يختص بعلوم السنة وآثار السلف،

وكلامه في تفسيره المشهور كثير التعارض والتناقض، وكثيرًا مما نتعقبه في

تفسيرنا، وإننا ننقل هنا من كلامه ما هو حجة عليه فيما ذكره من تفضيل ذكر الله

وندائه بضمير الغيبة، وهو قوله في سياق رد قول جهم في مسألة إطلاق مثل كلمة

شيء على الله تعالى من تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) قال:

الحق في هذا الباب التفصيل، وهو أنا نقول: ما المراد من قولك أنه تعالى

شيء وذات وحقيقة؟ إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود

وشيء، فهو كذلك من غير شك ولا شبهة، وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى

بهذه الألفاظ أم لا؟ فنقول: لا يجوز لأنا رأينا السلف يقولون: يا الله يا رحمن

يا رحيم - إلى سائر الأسماء الشريفة - وما رأينا ولا سمعنا أن أحدًا يقول: يا ذات

يا حقيقة يا مفهوم يا معلوم، فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء

والدعاء واجبًا لله تعالى، والله أعلم اهـ.

ثم قال: المسألة الرابعة، قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة، وأنه يجب على

الإنسان أن يدعو الله بها، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية،

ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال يا سخي، ولا أن

يقال: يا عاقل يا طبيب يا فقيه، انتهى بنصه، ونقول: ومثله: يا هو يا هو،

فإنه لم يقله أحد من السلف الصالح ولا هو جائز في لغة الدين وأولى منه بالإنكار

(أه) فإنه ليس من هذه اللغة، وإنما هو من اللغة السريانية كما قيل.

يقول المعترض على سائر العلماء:

5-

قد تبين مما تقدم أن نقل المعترض على فتوى شيخ الأزهر عن صحيح

مسلم ومستدرك الحاكم وعن الفخر الرازي كذب، وبقي ما نقله عن حاشية الحفني

على الجامع الصغير، وشرح العزيزي له، وعن حاشية الشيخ الأمير على متن

غرامي صحيح وحاشية الباجوري للجوهرة، فنقول فيه أولاً: إن ما نقله عن

الأولين هو في شرح حديث الأنين في المرض، وقد علمت أنه لا يصح، وفي

شرح حديث: (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى) هكذا

ذكر المعترض ولم يذكر تتمة الحديث وهي (دعوة يونس بن متى) ، وهذه التتمة

تنفي ما يزعمه المعترض، وهذا الحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى

ابن جرير عن سعد وبجانبه علامة الضعف، وأورد قبله حديث (اسم الله الأعظم

الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن، في البقرة وآل عمران وطه) ،

وعزاه إلى ابن ماجه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة وعلم عليه السيوطي في

جامعه بالصحة، وذكر غيره أن في سنده هشام بن عمار، وهو مختلف فيه على أنه

نص في خلاف ما يريد المعترض إثباته.

أما ما ذكره العزيزي في شرحه للجامع الصغير، فقد نقل عن العلقمي عشرين

قولاً في الاسم الأعظم، أولها إنكاره، وثانيها أنه مما استأثر الله بعلمه، والعشرون

ألم، ويعلم باقيها مما أوردناه عن الحافظ وليس فيها أن (أه) منها وتبعه الحفني في

ذلك.

وأما كلامهم في حديث الأنين فقد قال المناوي في شرحه له عند قوله: (فإن

الأنين من أسماء الله تعالى) ما نصه: أي لفظ (آه) من أسماء الله تعالى، لكن

هذا تتداوله الصوفية ويذكرون له أسرارًا، ولم يرد به توقيف من حيث الظاهر.

وأما الحفني فقد شرح الحديث في الجزء الثاني من حاشيته على الجامع

الصغير (ص 27 من الطبعة الأميرية) فقال عند قوله: (دعوه يئن) أي يأتي

بقوله (آه) وقال عند قوله: (من أسماء الله) أي من أثر بعض أسماء الله كالضار

والقهار، فإذا تجلى تعالى على عبده بهذا الاسم حصل له الضر، وإلا فآه لم يرد أنه

من أسمائه تعالى اهـ.

وأما الشيخ الأمير فنستغني بما ذكره في حاشيته على عبد السلام شارح

الجوهرة، فقد قال عند قوله:(الأنين) : ينبغي أن يقال (آه) ؛ لأنه ورد اسمًا

لله دون آخ لما قيل من أنه من أسماء الشيطان، ونقل الباجوري قوله هذا، ولكنه لم

يذكر صيغة التمريض في كون آخ من أسماء الشيطان، وقول المناوي هو الصحيح؛

لأنه أعلمهم بالحديث والآثار وبالتصوف على أنهم كلهم ذكروا كلمة (آه) بالمد،

ولم يذكر أحد منهم قولاً في لفظة (أه) التي يدعيها المعترض، فسقط كل ما قاله

ولم يفده قول أحد منهم، بل كلهم حجة عليه لا له، فيا ليت شعري هل يرجع ذلك

الشاذلي المعترض وأمثاله إلى الحق بعدما تبين له أن كل ما استند إليه أهل طريقته

في ذلك باطل عملاً بعنوان اعتراضه (الرجوع إلى الحق فضيلة) ، إلا إذا وافق

الهوى التقليدي وإن كان كذبًا على الله ورسوله ومخالفًا لما كان عليه السلف الصالح

ومحققو الخلف في ذلك؟

_________

ص: 150

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة السورية الثانية

(4)

طرابلس والقلمون

ما حزنني من سوء حال بلاد سورية الاجتماعية والأدبية شيء كما حزنني

حال طرابلس والقلمون حيث نشأت وترعرت، فقد كانت طرابلس خير المدن

السورية في العلوم الشرعية والأدبية، والعيشة الراضية الهنية، كما كانت القلمون

خير البلاد الصغيرة في ذلك، أو (سيدة القرى والمزارع) كما وصفت في السجل

الأعظم (دركنار) لبلاد الدولة العثمانية في الباب العالي كما روي لنا، وذلك أن

جميع أهلها كانوا سادة شرفاء، وأتقياء نجباء، قد ولدت ولله الحمد فيها، ونشأت

في بيت الكرم والمجد الأثيل منها، فكنت من أول العهد بالتمييز أرى العلماء

والأدباء والحكماء والوجهاء تغشى دارنا، وتعشو إلى ضوء نارنا، بل كنت أرى

فيها الضيوف من بلاد المحلة مكرمين على اختلاف مللهم ومذاهبهم، وكان مسجدها

عامرًا دائمًا بإقامة شعائر العبادة وقراءة دروس العلم والوعظ، وقد عشت ما عشت

فيها ولم أر أحدًا ارتكب فاحشة أو شرب مسكرًا، أو أتى منكرًا إلا ما كان ينسب

إلى أفراد قلائل من ارتكاب سرقة الفاكهة أوالزيتون والليمون، وما كان يقع بين

بعض المتخاصمين والمتنازعين من التضارب بالعصي أحيانًا وبالمدى نادرًا، وقلما

رأيت شيئًا من ذلك بعيني.

وإني قد شببت فيها وأنا أعتقد أن الذين يقترفون كبائر الإثم والفوحش في الدنيا

أفذاذ قليل عددهم في كل مكان، وأكثرهم في المدن أو البوادي، ولذلك كنت أجتنب

معاشرة أكثر الناس في طرابلس عندما كنت أطلب العلم فيها، على ما ذكرت من

فضلها على غيرها، حتى إنني إلى اليوم لا أعرف جميع أسماء الذين قضيت معهم

السنين الطوال في المدرسة، وكانت مدارس العلم يومئذ عامرة وطلابه كثيري العدد،

وكانت دور أهل العلم والأدب أندية وسمارًا تكثر فيها المطارحات العلمية،

والمساجلات الأدبية، ولم تكن الخمر معروفة في شيء من ملاهيها العامة (القهاوي)

ولا الرقص، وكل ما كنت أعلمه في هذا أن في حارة النصارى ملهى في بستان اسمه

الزهرية يشربون فيه الخمر، ويختلف إليه بعض أهل الدعارة من المسلمين، ولكنني

لم أر في أثناء إقامتي فيها لطلب العلم من السكارى إلا عبدًا أسود وشابًّا وطنيًّا من

فقراء السوقة يبيع الحمص المملح والملبس بالسكر، وإنما نسمع أحيانًا بعض أخبار

الفساق من المنكرين عليهم والقادحين فيهم؛ إذ يغلب عليهم التستر ويندر فيهم التهتك،

كاجتماع بعض أهل الدعارة في مجالسهم الخاصة في بيوتهم، على مائدة الخمر، أو

شربها على مائدة الطعام، وإنما كان يفعل هذا من المسلمين أكثر الموظفين من الترك

حتى بعض قضاة الشرع، وكان هؤلاء الموظفون يحرصون على إغواء وجهاء

المسلمين الذين يعاشرونهم بإغرائهم بالشرب معهم كدأب أهل السكر في كل مكان،

وقل من كان يستجيب لهم من قرنائهم أو مرؤوسيهم ولو بقبول الكأس من أيديهم مرة

واحدة، ومن طرقهم في ذلك ما سمعته في دارنا من أحد المتصرفين، فقد سألنا:

أليس المسكر المحرم قطعًا هو خمر العنب وما عداه فإنما يحرم منه القدر المسكر؟

فأي حرج إذًا في شرب ما عدا هذا القدر من سائر الأشربة ولا سيما ما لا يسكر إلا

كثيره كالبيرة؟ فقلنا له: تلك شبهة لبعض الفقهاء في النقوع الذي كانوا يسمونه نبيذًا،

والحق أن كل مسكر خمر يحرم قليله وكثيره كما ثبت في النص المؤيد بالقياس

والخبر.

وإذ كنت أكتب في مثل هذا للاعتبار به، وليكون تاريخًا تعرف بمثله أسباب

التطور الاجتماعي في البلاد، فإنني أذكر واقعة في هذا الباب هي أكبر ما كان

يتحدث به الناس في مدينتنا (طرابلس الشام) ، ويفخرون به، وهي بين مدحت

باشا الوزير الشهير ودرويش أفندي الشنبور.

كان درويش أفندي هذا رجل طرابلس الكبير، بل رجل سورية الممتاز في

عصره بالعلم بالقوانين وحسن الإدارة والتصرف في حل المشكلات، حتى إن أمور

إدارة لواء طرابلس كانت بيده يتصرف فيها كما يشاء، وهو عضو في مجلس

الإدارة، رأيه فيه بحكم القانون كرأي غيره من الأعضاء، فكان أصحاب الحاجات

يولون وجوههم شطر داره دون أمثاله من الأعضاء، بل دون الرؤساء من

المتصرف التركي المولى من نظارة الداخلية إلى من دونه من رؤساء الإدارة، وكذا

رؤساء الجند فيما يقيدون فيه بالإدارة كأخذ العسكر بنظام القرعة المعروف، فلم

يكونوا يستطيعون أخذ أحد إلا برأيه، لذلك كان له حساد كثيرون، فلما جاء مدحت

باشا واليًا على سورية كثر السعاة بدرويش أفندي الشنبور لديه الذين يرمونه

بالاستبداد بأعمال الحكومة، وكونه لم يترك لأحد من رجال الدولة اسمًا ولا عملاً في

لواء طرابلس، وأنه هو نفسه لا يمكنه أن يكون له اسم سمي، ولا قدر على ذلك

اللواء إلا بإخراجه من مجلس الإدارة وجعله حلس بيته، وقد أثرت هذه السعاية في

نفسه، فلما جاء طرابس في دورة التفتيش المعتادة كان استقباله لدرويش أفندي

استقبال المرتاب المختبر فلما سمع كلامه أحب الخلوة به، فسمع منه من الأنباء

والآراء ما أكبره في عينه، وأحله في أعلى مقام من الثقة به، والكلام مظهر العلم

والعقل والرأي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: 54) ولم

يكن يستطيع مفارقته إلا وقت النوم، وكان الوزير مبتلى بشرب الخمر كأكثر رجال

الدولة، وكان درويش أفندي لا يشربها كسائر وجهاء طرابلس، ولا سيما أصحاب

الزي العلمي أمثاله، فاجتهد مدحت باشا في حمله على الشرب لتطيب له معاشرته

ولا يرى نفسه صغيرًا أو حقيرًا في عينه وعين نفسه بارتكابه لهذا المنكر مع من

ينكره في نفسه لتحريمه، وقد كان مدحت باشا مسلمًا محترمًا لدينه كما يقال، ولكن

السكر بلاء قلما يستطيع تركه من ابتلي به، عرّض لدرويش أفندي أولاً فنبا له

وأعرض، كأنه لم يفهم مراده، فكاد له مكيدة سلم منها بحسن بادرته، وقوة إرادته،

ذلك أنهما كانا في متنزه من متنزهات ضواحي المدينة اسمه (بركة البداوي)

فطلب الوزير الخمرة، فأخذ لنفسه كأسًا وناول درويش أفندي كأسًا أخرى وقال له:

نشرب على اسم مولانا السلطان الأعظم. فأخذ الكأس درويش أفندي وقال على

البداهة: كأس من يد أفندينا مدحت باشا باسم مولانا الأعظم أمير المؤمنين لا ينبغي

أن تصب في الجوف وتخالط القذر بل مكانها الرأس، وصب الكأس على عمامته

البيضاء، فأعجب مدحت باشا بهذه البداهة والكياسة، وزاده هذا الثبات كرامة عنده

ومكانة في نفسه.

هذه الحالة التي كانت عليها طرابلس إلى عهد طلبي للعلم فيها وهجرتي منها

هي التي ضاعفت آلامي لما رأيت هذه المرة ما رأيت من سوء حالها، وسريان

عدوى المجاهرة بالتهتك فيها، وقد بدأ ذلك فيها في أوائل العهد بالحكومة الدستورية

الاتحادية، ثم كان لمفاسد الحرب ثم للاحتلال الأجنبي تأثير بعد تأثير في استشراء

فساده كما بيناه في النبذة الثالثة من هذه الرحلة (ج9 م21) حتى إن طرابلس

صارت دون بيروت ودمشق في الحالة العلمية والأدبية الإسلامية، فقد خلت من

تلك الحلقات الواسعة من طلاب العلم ومن تلك المحافل والسمار التي كانت آهلة

بأهل الهيئة والوقار من العلماء والوجهاء من الطبقات المختلفة الذين كانت آراؤهم

تضطر الغرباء من حكامهم وغيرهم إلى احترامهم دع أهل البلد الذين هم كبراؤه،

وكذلك كان شأن شيوخ أهل بيتنا في القلمون، بل لم أر مجلس وقار في مكان ما

مثل المجالس التي كان يحضرها كبير أسرتنا السيد الشيخ أحمد عم والدي، فقد كان

أوجه الوجهاء من علماء طرابلس ورجال الحكومة وغيرهم يجلونه لما كان عليه من

الجد والوقار والتقوى حتى إنه لم يكن أحد يشذ في جلوسه ولا في ضحكه ومزاحه

في حضرته، بل يلزمون الاعتدال والأدب الشرعي، وقد اتهم رجل صالح من

طرابلس بفاحشة أو مقدماتها، وكان ممن يترددون على القلمون مع بعض العلماء

فلم يتجرأ بعدها أن يتراءى أمامه طول حياته، وماذا أقول عن صاحب تلك الشيبة

الرائعة الذي قال فيه نقاده المعاصرون الشيخ عبد الفتاح الزغبي نقيب أشراف

طرابلس وخطيب جامعها الكبير إلى اليوم: آخر من أدركنا من الصديقين عمي

الشيخ أحمد، وأنا لم أكن هنالك أستطيع تعمد النظر في وجه أحد متهم بالفسق ولا

السكوت على منكر منذ كنت غلامًا أمرد، وقد شذ في حديثه معي تاجر في طرابلس

بقول لا يعد منكرًا شرعًا إذا حسنت فيه النية، فتركت الشراء منه والنظر إلى دكانه،

بل المرور أمامها ما دام فيها.

نعم إنني كنت أول من انتقد من المسلمين ما كان عند الوجهاء من التكلف في

اللقاء والسلام والقعود والقيام، وأول من ترك عادة الجلوس على الركب في بدء

الجلوس معهم، وإن فعل ذلك بعض كبار السن والقدر لأجلي، ولكنني أقول الآن:

إن مجالسهم كانت خيرًا من مجالس أكثر أولادهم وأحفادهم الذين تركوا غير ذلك من

آدابهم العالية لا المتكلف منها فقط مفتونين بزخرف حرية الفسق الذي يخشى أن

يضيع عليهم دنياهم ودينهم، فيكونوا من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في

الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

أصيبت طرابلس بالعقم من العلماء والفضلاء والزعماء، فلا خلف فيها في

العلم والرشد للشيخ محمود نشابه والشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ عبد الرزاق

الرافعي، والشيخ عبد الله الصفدي ودرويش أفندي الشنبور والمفتي مصطفى أفندي

كرامي الذين أدركناهم في شيخوختهم، ولا للشيخ حسين الجسر والشيخ عبد الله

البركة والشيخ نجيب الحامدي والشيخ خليل صادق الذين أدركناهم في كهولتهم.

وإنما بقي أفراد من الطبقة التي قبل طبقتنا أوسعهم علمًا وفهمًا وإفادة الشيخ

محمد إبراهيم الحسيني وقد جهلت مدينته قيمته فلا ينتفع به إلا أفراد قليلون من بقايا

الطلاب، ومنهم الشيخ محيي الدين الحفار والشيخ عبد اللطيف نشابه، وأفراد

آخرون من طبقتنا ورفاقنا في الطلب، وأكثر هؤلاء وأولئك قد تركوا الدرس

والتدريس، واجتنبوا الكتابة والتصنيف، ومنهم من يشتغل بأمر الدنيا من تجارة

وزراعة لكساد بضاعة العلم، ولم أر في هذه الزورة لطرابلس أحدًا من رفاقي لا

يزال مغرمًا بالمطالعة والكتابة إلا الشيخ محمد رحيم والشيخ عبد المجيد أفندي

المغربي، وليس لأحد منهما ولي في عمله ولا ظهير.

وأما القلمون فلم يبق فيها أولو بقية يستفيد الناس منهم إلا عمي أبو عبد الرحمن

عاصم، فهو يقرأ دروسًا في مسجدنا في بعض الأحيان لمن عساه يوجد فيه، ولكنه

في عامة أوقاته معتزل للناس، لا يكاد أحد يراه إلا في صلاة الجماعة، وقد

انقرض ثلثا أهل القرية وحال الباقين شر مما كانت عليه، وقد كنت قبل الهجرة إلى

مصر أقرأ لهم التفسير ونهاية المحتاج في فقه الشافعية والزواجر، وغير ذلك من

كتب التوحيد والمواعظ والرقائق، وبلغني أنه وجد فيهم رجل يتجرأ على المجاهرة

بالفواحش وارتكاب منكرات السلب والنهب، ويستعين على ذلك برشوة الحكام،

وأما طرابلس، فقد صار الكثيرون فيها يجاهرون بذلك، ومنهم من يدعو الأجانب

إلى داره ويقدم لهم الخمور فيها، ولكن تيقظ بعضهم لتدارك الخطر كما بيناه في

النبذة الثالثة التي قبل هذا من الرحلة، فليحفظ الناس هذا، ولينتظروا عاقبة هذا

التغيير، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ونسأل الله تعالى أن

يتوب عليهم ويجعلهم خيرًا مما كان عليه سلفهم ويغير ما بهم إلى خير منه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حقيقة التصوف ومكانه من الشرع

(س3) من صاحب الإمضاء

السلام عليكم ورحمة الله

إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا

وقع نظري على بعض الأعمال الدينية في بلدي المسمى بالسنبلاوين مما من

أجله أرجو أن تعرفونا حقيقة التصوف، وهل له قوانين وقواميس غير ما بينته

الشريعة المحمدية؟ وإذا كان هو ما جاءت به الحنيفة، فما الحاجة إليه والقرآن

والسنة بين يديه؟ وإن كان مخالفًا فمن أقر المبتدئ فيه عليه، ومن أين استنبط ذلك

المخترع تلك الطرق التي توصل إلى الله كما يعبرون؟ ولعمري إن صح هذا كان لله

طريقان: طريق بينه على لسان رسوله الكريم في كتابه المبين، وآخر قد هدى إليه

بعض عباده المهتدين.

وإنما دعاني إلى سؤالكم، والاستنارة بمناركم، ما أخشاه من كسوف شمس

شريعتنا في ذلك الأفق (أفق الصوفية) فإني أرى من ينسبون إليه ويدعونه قد

ولعوا بمقتضياته وشغفوا به حتى أنستهم الأذكار والأوراد التي يتغنون بها في

الساحات والأنحاء ومبالغاتهم في الشيوخ والأولياء - أنساهم ذلك أساس الدين وكبد

الشريعة (التوحيد) وهذا طبق ما أراه غريزة في بعض النفوس من الشغف

بالكماليات، وربما سحبت ذيول النسيان على الواجبات غشًّا منها لأصحابها، وأنهم

قاموا بما فرض عليهم، وارتقوا إلى أن وجب عليهم ما ندب إليه الدين، وزجًّا منها

بهم إلى زمرة المقربين الذين امتثلوا وأمضوا أوامر الدين.

وإن سبق لكم هذا، فأرجو من فضيلتكم إعادته باختصار، وذلك كما تعلمون

لقرب عهدنا بالمنار، لا زلتم مصدر الرشد وأهل الفضل والوقار.

...

...

...

... حسين محمد حسين النجار

بمدرسة القضاء الشرعي

(المنار)

التصوف مصدر تصوف الرجل - أي صار صوفيًّا أي: أحد أفراد الطائفة

المعروفة بالصوفية، وأشهر الأقوال في المنسوب إليه أنه الصوف؛ لأنهم كانوا

يلتزمون لبسه وقيل: إنه كلمة سوفا أو سوفي باليونانية، ومعناها الحكمة، وذهب

الحافظ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) أنه نسبة إلى صوفة وهو لقب

الغوث بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر؛ لأنه قد اشتهر عند العرب أنه

أول من انقطع إلى الله تعالى لعبادته عند بيته الحرام، وتسلسل ذلك في ولده،

فصار لقب (صوفة) يطلق على كل منهم، وناطت العرب به وبهم من بعده إجازة

الناس بالحج من عرفة ومنى، وهي الإفاضة منهما، فكانت لا تفيض منهما حتى

يفيض صوفة، فإذا حانت الإجازة تقول:(أجيزي صوفة) ، وكان سبب هذه

التسمية أن أم الغوث كان لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة

ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له ثم لولده من بعده صوفة. نقله عن السائب

الكلبي.

قال الحافظ المذكور: كانت النسبة في زمن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - إلى الإسلام والإيمان فيقال: مسلم ومؤمن، ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم

نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا في

ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقًا تخلقوا بها، ثم ذكر نسبتهم التي لخصناها عنه

آنفًا. ثم قال في تاريخه ومبدئه: هذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين، ولما أظهره

أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصله أن التصوف عندهم

رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق

الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخلال

الحسنة، ثم ذكر أن أوائلهم كانوا على ذلك حتى لبس عليهم الشيطان، فكان أول

تلبيسه أن صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما انطفأ مصباح العلم

تخبطوا في الظلمات، فمنهم من غلا في ترك الدنيا وهي قوام مصالح الخلق،

ومنهم من أغري بتعذيب النفس بالجوع والعري والفقر الاختياري، ومنهم من

غلبت عليهم الخيالات، حتى قالوا بالحلول والاتحاد، وكانوا يعنون بالنظافة

والتنطع في الطهارة، وراجت عليهم لقلة العلم الأحاديث الموضوعة، وذكر بعد

هذا تصانيفهم وما فيها من الغلو في الدين والأحاديث الباطلة، ثم انتقل إلى بيان

ضروب التلبيس عليهم وما خالفوا فيه الشرع عن جهل أو تأول وأطال في ذلك،

وكتابه هذا جدير بأن يطبع.

ولشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية فتوى في الصوفية والفقراء نشرناها

في ج10 م12 من المنار، ثم طبعناها في رسالة على حدتها لتعميم نفعها، وقد

ضعف فيها القول بنسبتهم إلى صوفة؛ لأنها قبيلة كانت في الجاهلية ولا وجود لها

في الإسلام ورجح نسبتهم إلى الصوف، وقال: إن لفظ الصوفية لم يكن مشهورًا في

القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقال: إن أول ظهورهم كان في

البصرة؛ لأنه كان فيها من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف، ونحو ذلك مما لم

يكن في سائر الأمصار، ولهذا كان يقال: فقه كوفي وعبادة بصرية. وذكر بعض

أحوال الصوفية ووزنها بميزان الشرع وسيرة السلف الصالح كعادته، فبين الراجح

من الشائل فيها، وإن الناس فيهم بين ذام يرميهم بالابتداع والخروج عن السنة، وبين

غال يدعي أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وأن الصواب هو الوسط، وهو أنهم

كغيرهم من الطوائف مجتهدون، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق

بالخيرات بإذن الله، ولكن انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ثم بين أن

كلامه في صوفية الحقائق الأولين، وأنه حدث بعدهم صنفان وهم صوفية الأرزاق

الذين يقيمون في الخوانك ويأكلون فيها ما وقف على الصوفية، وصوفية الرسم

الذين همهم تقليدهم في اللباس والآداب الوضعية، ويسهل على السائل أن يراجع

هذه الفتوى ويقرأها، ويقرأ ما كتبه ابن خلدون في مقدمته إن لم يكن قرأه، فإن

أكثره صواب.

وإننا قد ذكرنا في تاريخ الأستاذ الإمام عيون ما ذكره هؤلاء المحققون في بيان

حقيقة الصوفية، وزدنا عليهم مسائل مهمة استنبطناها من كتبهم، ومن كتب التاريخ

أجملناها في ورقتين مثل أوراق المنار ملخصها أن الصوفية طائفة انقطعت إلى

الزهد في الدنيا والعمل للآخرة برياضة النفس وتربية الإرادة، والأخذ بالعزائم

ومحاسبة النفس وحسن النية والمبالغة في العبادة، وغايتهم الوصول إلى تجريد

التوحيد وكمال المعرفة بالله تعالى، ثم ادعى حالهم من ليس منهم غشًّا وتلبيسًا،

ولبس لباسهم من تناقض حاله حالهم دعوى وتقليدًا، وإن رياضة النفس وتزكيتها

تثمر للصادق فيها علمًا وعرفانًا بسنن الله في الأرواح وأسرار قواها، وأحوالاً

وأذواقًا غريبة غير مألوفة ولا معروفة لغير أهلها (منها) التأثير بقوة الإرادة في

بعض أمور الكون كشفاء مريض، وتنفير من الشر وجذب إلى الخير، ويسمونه

التأثير بالإرادة أو الهمة، (ومنها) معرفة بعض الأمور من غير طريق الحس أو

الفكر، وهو مايسمونه الكشف، (ومنها) الغوص على دقائق أسرار الشريعة

وحكمها، وصفات النفوس البشرية وقواها وعللها إلخ، ومنها غير ذلك مما لا حاجة

إلى ذكره هنا.

وإن هذا التصوف برياضة النفس قد سبق المسلمين إليه قدماء الهنود والصينين

واليونان، وقد سرى إلى المسلمين كثير من بدع أولئك الأقوام وضلالاتهم وشعائرهم

وشاراتهم كالسبح والأعلام، حتى إنهم أخذوا عنهم فلسفة وحدة الوجود فصارت غاية

الطريق عندهم، وبث الباطنية في التصوف ضلالات أخرى شر أصولها التأويل

البعيد للآيات والأحاديث وطامة الإذعان لكل ما يأمر به السالكين شيوخهم، وإن كان

منكرًا، وعدم الإنكار عليهم في شيء، وكانت الباطنية تقصد بهذا التعاليم إفساد دين

الإسلام وإبطاله، وإزالة ملكه بالدسائس التي وضعها عبد الله بن سبأ اليهودي

وجمعيات المجوس السرية التي بثت في المسلمين دعوة الغلو في التشيع لآل البيت،

والطعن في أعاظم الصحابة؛ لإفساد دين العرب وتقويض دعائم ملكهم بالشقاق

الداخلي؛ لتتمكن تلك الجمعيات بذلك من إعادة ملك المجوس وسلطان دينهم اللذين

أزالهما العرب بالإسلام، ولولا هذان الأصلان - التأويل والطاعة المطلقة - لما

راجت الضلالات والبدع في هذه الطائفة؛ لأن أصل طريقتها تزكية النفس بالعلم

والعمل الشرعيين مع الصدق والإخلاص والأخذ بالعزائم ومحاسبة النفس حتى على

الخواطر، ومن المأثور المشهور عن أئمة الصوفية قولهم: التصوف أخلاق، فمن

زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوف. ومن قواعد الإسلام المنصوصة

المعلومة منه بالضرورة أنه (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف) وهذا

اللفظ من حديث مرفوع في الصحيحين وغيرهما عن علي - كرم الله وجهه -، وفوقه

قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في آية المبايعة: {وَلَا يَعْصِينَكَ

فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12) .

ثم بينا هنالك أنه لا سبيل إلى تصفية التصوف من البدع إلا بتحكيم الكتاب

والسنة وسيرة السلف الصالح فيه قبولاً وردًّا بعد بيان أن الضلالات والبدع المتغلغلة

في كتب الصوفية قسمان - ما أخذه الباطنية من صوفية البراهمة واليونان ودسوه

في التصوف الإسلامي، وليس له أصل في الكتاب ولا في السنة إلا ما زعموه من

التأويلات المخالفة للغة والشرع - وما أحدثه بعض شيوخ الطريقة من الأوراد

والشعائر الدينية المخالفة للسنة في ذاتها وأصلها، أو في صفتها وطريقة أدائها،

حتى إن بعض كبار الفقهاء والمتكلمين روجوا بعض هذه البدع والآراء بالتأويلات،

والتوسع فيما جوزه بعضهم من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ولم

يراعوا ما اشترطه المحققون في هذا من الشروط - فترى مثل الغزالي من أكبر

أئمة علماء الكلام والفقه يرغب في بعض العبادات المبتدعة مستدلاًّ عليها بهذه

الأحاديث الواهية أو الموضوعة دع ما يتعلق منها بالاعتقاد.

مثال ذلك صلاة الرغائب في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان ذكرهما

الغزالي في الإحياء مستدلاًّ عليهما بما ورد فيهما وهو موضوع، وقد قال فيهما

النووي في منهاجه: وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. ولم يكن

النووي أعلم بفقه الشافعي من الغزالي، بل قال بعض العلماء: إن كتب الشيخين

الرافعي والنووي مأخوذة من كتبه التي حرر بها المذهب كما قال فيه وفيها بعضهم:

حرر المذهب حبر

أحسن الله خلاصه

ببسيط ووسيط

ووجيز وخلاصه

ولكن النووي كان أعلم منه بالسنة، فإن الغزالي لم يتوسع في علم السنة إلا

في آخر عمره (ونعمت الخاتمة التي وفقه الله لها بحسن نيته وإخلاصه له الدين)

ولعله لم يؤلف بعد ذلك شيئًا.

فهذا مثال ما أخذوا فيه بالموضوع، ومما أخذوا فيه بالضعيف الواهي - وهو

أكثر - دعاء الوضوء، قال في المنهاج: وحذفت دعاء الوضوء؛ إذ لا أصل له.

وهو يعني الدعاء الذي ذكره الرافعي تبعًا للغزالي، واعتذر الشمس الرملي شارح

المنهاج عنه بأنه يعني أنه ليس له أصل صحيح، أو لم يكن مستحضرًا لما ورد فيه

من حديث ضعيف ورد من طرق، والضعيف يعمل به في الفضائل ما لم يشتد

ضعفه فيما له أصل صحيح كلي، ولكن لا يستدل به على السنية، هذا ما أذكره

عنه بالمعنى، وذكر أن والده الشهاب الرملي اعتمد دعاء الوضوء، وأقول: إن

النووي نفى ورود شيء من السنة في دعاء الوضوء في مواضع من كتبه، ومنها

الأذكار، وتعقبه صاحب المهمات فقال: ليس كذلك، بل روي من طرق منها عن

أنس رواه ابن حبان في ترجمة عباد بن صهيب، وقد قال أبو داود: إنه صدوق

قدري. وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: لو لم

يرد فيه إلا هذا لمشى الحال، ولكن بقية ترجمته عند ابن حبان: كان يروي

المناكير عن المشاهير حتى يشهد المبتدئ في هذه الصناعة (أي رواية الحديث)

أنها موضوعة وساق منها هذا الحديث اهـ. وقال الذهبي في ترجمته في الميزان:

وروى عن حميد عن أنس بخبر طويل في الذكر على الوضوء باطل إلخ.

أقتصر على هذين الشاهدين من الأخذ بالأحاديث الموضوعة والواهية

لنصوص الفقهاء فيهما، وهم الذين يعول الجمهور على كلامهم، ويرجحونه على

كلام سائر العلماء فيما اختلفوا فيه؛ لأنهم هم الذين انتدبوا لتحرير فقه الأئمة الذين

يدعي الناس تقليدهم، وكانت الحكام تحكم بما دونوه في كتبهم، ولا تقبل الفتوى إلا

منها حتى صار جماهير المنتسبين إلى طرق الصوفية يتبعون هؤلاء الفقهاء وإن

كان الصوفي الحقيقي - وهو العارف بربه العالم بدينه العالم به - لا يقلد أحدًا، وقد

احتكر الفقهاء لأنفسهم حق ترجيح أقوالهم على أقوال المفسرين والمحدثين، بله

الصوفية والمتكلمين، كما صرح به ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثة، وكان

الصواب أن يحكم علماء الآثار من التفسير والحديث، وسيرة سلف الأمة في كل

خلاف وتنازع يقع بين المسلمين ليبينوا لهم حكم الله ورسوله فيه؛ عملاً بقوله عز

وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ، ولا خلاف بين أحد من

العلماء في معنى هذا الرد، بل هم متفقون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه،

والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، وعلماء الآثار هم المختصون بعلم

ما صح في التفسير، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف،

وكثيرًا ما يأخذ الفقهاء بما لا يصح من الأحاديث، وقد يحكمون بالقياس مع وجود

النص، بل يأخذون بأقوال المصنفين المنتمين إلى مذاهبهم، وإن لم يعرفوا لها

دليلاً ولا نصًّا من كلام أئمتهم المجتهدين، ولا سيما المتأخرين منهم، وقد أعطوا

للمشتغلين بكتبهم سلاحًا يحاربون به نصوص الكتاب والسنة اعتذارًا بالتقليد، فكل

كتاب ينتمي مصنفه إلى مذاهبهم يحتج به عندهم ويعمل بما فيه، ولكن لا يجوز

الاهتداء عندهم بالكتاب ولا بالسنة إلا من هداه الله ووفقه، ولم تضل أمة من أمم

الرسل عن دينها أبعد من ضلال هؤلاء، ولولا حفظ الله لكتابه وتوفيقه الحفاظ

لتدوين السنة لتعذر الإصلاح ومعرفة حقيقة الإسلام، وقد سبق لنا بيان هذا مرارًا

كثيرة، آخرها ما بسطناه في الكلام على فتوى شيخ الأزهر في إنكار بعض البدع،

وما فصلناه في الفتوى الأولى والثانية من جزئي المنار اللذين قبل هذا.

وجملة القول في صوفية المسلمين أن علماءهم كسائر أصناف علماء

المسلمين الذين استعملوا عقولهم في الدين من المتكلمين والفقهاء كل صنف قد انفرد

بالتوسع في علم، فجاء فيه بما لم يجئ به غيره، وكل منهم أخطأ وأصاب،

فالصوفية أتقنوا علم الأخلاق والآداب الدينية وحكم الشريعة وأسرارها، وطرق

تزكية النفس وإصلاحها، وهذا غرض الدين ومقصده، فإن كانوا قد غلوا وأتوا

ببعض ما يخالف النصوص، ودخل في كتبهم وأعمالهم من تصوف الأمم السالفة،

ومن البدع ما ينكره الإسلام، فالمتكلمون أيضًا قد دخل في كتبهم مثل ذلك من

الفلسفة اليونانية وغيرها من البدع المخالفة للنصوص ولما كان عليه السلف،

وكذلك الفقهاء قد دخل في كتبهم مثل ذلك بالرأي والقياس والأخذ بالأحاديث الضعيفة

والموضوعة، وكل من في هذا العصر من المنتحلين لطرق الصوفية، فهو منتم

إلى أحد مذاهب الفقهاء والمتكلمين، فلو صلح حال المشتغلين بعلم الفقه لأمكنهم

إصلاح أهل الطريق، وأنى يصلح غيره من لم يصلح نفسه؟ وأنى يصلح نفسه

أو غيره من اتخذ علم الدين حرفة للارتزاق به، فهو يخدم ويطيع من يعتقد أو يظن

أو يتوهم أن أمر رزقه بيده، ولو فيما يضر ملته وأمته؟

من هذا البيان الوجيز المفيد يعلم السائل حقيقة التصوف، وأن له كتبًا تشبه

القوانين أكثر ما فيها منصوص أو مستنبط من الشرع، أو غير مخالف له،

وبعضها بدع تلصق به إلصاقًا بشبهات وتأويلات باطلة. وأحسن الكتب في تصوف

الحقائق، وأسلمها من مخالفة الكتاب والسنة فيما نعلم كتاب (مدارج السالكين) ،

وأما سؤال السائل عن وجه الحاجة إليه مع وجود الكتاب والسنة، فجوابه: إن

علمي الكلام والفقه يشاركان التصوف في هذا السؤال وجوابه، فكما شعر المسلمون

بالحاجة إلى تصنيف الكتب في بيان أصول العقائد التي تستند إلى الكتاب والسنة

للتمييز بينها وبين البدع، وإثباتها بالأدلة النظرية الفنية التي كانت مألوفة بانتشار

كتب الفلسفة، ورد شبهات المخالفين على هذه العقائد، وكما شعروا بالحاجة إلى

تدوين علم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات لإيضاح ما جاء في الكتاب

والسنة من النصوص، وما يمكن أن يستنبط منها، ولو بطريق القياس الذي احتج

على إثباته ببعضها، كذلك شعروا بالحاجة إلى تدوين الكتب لبيان طريقة التربية

والتأدب بالآداب المنصوصة فيهما، أو المستنبطة منهما، والمفصلة لما فيهما من

الإجمال، وقد قلنا آنفًا: إن ما وقع في كتب الصوفية من المخالفة لبعض

نصوصهما وسيرة السلف الصالح الذين أجمعت كل الفرق على تفضيلهم وخيريتهم

وقع مثله في كتب المتكلمين والفقهاء، يعلم ذلك من كتب السنة، ومن الكتب التي

يرد فيها كل منهم على الآخر، والفقهاء المقلدون يوجبون طاعة شيوخهم الذين

التزموا تقليد مذاهبهم، ويجعلون كلامهم أصلاً في الدين يردون به نصوص الكتاب

والسنة بتأويل أو غير تأويل، كما يوجب المتصوفة طاعة شيوخهم المسلكين،

ويؤولون ما خالفوا فيه الشرع، ولكن لا يقولون: إنه أصل في الدين يجب على الناس

اتباعه شرعًا، بل شبهة هذه الطاعة عندهم أن التربية المرادة من سلوك الطريقة

تتوقف على هذه الطاعة مؤقتًا لا دائمًا، وأن كلامهم في الحقائق رموز لا يفهمها

غيرهم.

وقد ذكر المحقق ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أمثلة كثيرة لما خالف

فيه المقلدون للمذاهب المشهورة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة اتباعًا

لأقوال شيوخهم، واحتجوا لهذه الأقوال بالأقيسة، أو بجعل المتشابه أصلاً للمحكم،

أو بأحاديث لا تصح، ولا يحتج بها بحسب القواعد الأصولية، ومنها ما احتجوا له

بعبارة من حديث صحيح يردون باقيه المخالف للمذاهب، وهذا من عجيب أمرهم

كما قال، وقد أورد له ستة وستين شاهدًا في الوجه التاسع عشر من وجوه الرد على

المقلدين التي بلغت 81 وجهًا، فليراجعها السائل ومن شاء في الفصل المعقود للكلام

في القياس والتقليد من الجزء الأول من هذا الكتاب الجليل.

ثم إنه عقد بعد هذا الفصل فصلاً آخر في (تحريم الإفتاء والحكم في دين الله

بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر إجماع

الفقهاء على ذلك) وقد أورد في هذا الفصل 77 مثالاً لرد أهل المذاهب السنة

الصحيحة الصريحة المحكمة بالقياس، أو بغير الصحيح أو بالمتشابه، وذكر في

الوجه الثامن منها بعض شبهاتهم، ورد عليها باثنتين وخمسين وجهًا كلها شواهد

تؤيد ما ذكرناه.

فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخشى السائل كسوف شمس الشريعة في أفق

الصوفية دون غيرهم، وهو يعلم أن المنتحلين لطرق التصوف والمنتحلين لمذاهب

الفقه لا تزييل بينهم ولا تمييز، فلا هؤلاء على هدي أئمة الفقه من علماء السلف

كمالك والشافعي، ولا أولئك على هدي أئمة التصوف كالجنيد والشبلي وأمثالهم من

عباد السلف، فالحق أن جميع الفرق لها حسنات وسيئات {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ

مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14) ، وأكثر مسلمي هذا العصر ضعفاء في الدين

علمًا وعملاً، ولا سيما في البلاد التي ليس فيها حكومة إسلامية تقيم الحدود وتلتزم

الشرع، والبلاد ذات الحكومة الإسلامية على قلتها بعضها شديد التعصب لمذهب

معين، كالبلاد الأفغانية المتعصبة لمذهب الحنفية، وحكومة اليمن المتعصبة لمذهب

الزيدية، فهذان لا يرجى أن يكون فيهما إصلاح إسلامي عام؛ لاستحالة اتباع جميع

المسلمين لهذا المذهب أو ذاك، وبعضها شديد الغلو في العمل مع ضعف في العلم

كبلاد نجد، ولكن لهذه مزية لا نعرفها لبلاد أخرى من بلاد المسلمين في هذا العصر،

وهي أنهم وإن كانوا منتمين إلى مذهب الإمام أحمد، فلا نعرف جماعة من

جماعات الإسلام غيرهم تقبل اتباع كل ما يثبت في الكتاب والسنة وسيرة السلف

الصالح وتدعو إليه، وترد ما خالفه وإن قاله أو كتبه حنبلي مثلهم، ومع هذا يرميهم

كثير من المسلمين بالابتداع والضلال، ومنهم من يكفرهم، كما يرمون بذلك من

يدعو إلى الكتاب والسنة من الأفراد، وأي بلاء أشد على الإسلام من هذا؟ وإذا

قيض الله لهذه البلاد أن يتسع فيها العلم، فإنها تحيي الإسلام في جزيرة العرب،

ومن ثم يتجدد في سائر العالم فيعود الأمر كما بدأ.

قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ

فطوبى للغرباء) رواه مسلم عن أبي هريرة والنسائي عن ابن مسعود وابن ماجه

عنهما وعن أنس. وروى مسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا: (إن الإسلام بدأ

غريبًا وسيعود كما بدأ ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) ، وفَسَّر

الغرباء في حديث آخر مرفوع بقوله: (الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من

سنتي) رواه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني، صدق رسول الله -

صلى الله عليه وسلم فقد عاد الإسلام غريبًا كما بدأ حتى صار المسلم الحق

المحيي للسنة غريبًا مطعونًا في دينه، فإذا قوي هؤلاء الغرباء الذين يحيون ما

أمات الناس من سنته صلى الله عليه وسلم واعتزوا بعد ضعفهم الذي هو عليه

اليوم كما كان سلفهم في بدئه، فإن غربته تستتبع المجد والعزة لله ولرسوله

وللمؤمنين آخرًا كما استتبعه أولاً لاتحاد السبب.

إن العالم الإسلامي ليئن من ضعف دينه وامتهان شعوبه بامتهانه، وإنه ليتبرم

من سوء حال سادته وكبرائه، والمنتحلين لعلم الدين، ومن جهل أكثرهم بما يجب

من الخدمة في هذا العصر، وقعودهم عنها حتى امتهنوا وسقطوا من مكانتهم

الاجتماعية، ولم يبق بأيديهم من مصالح الأمة شيء يعتد به، بل وطنوا أنفسهم في

بعض البلاد على الحرمان منها، ورضوا بعدم مشاركة غيرهم حتى للبحث فيها،

وأنه سيضطر علماء الأزهر وأمثالهم من معممي سائر الأقطار إلى الإصلاح الذي

كانوا يقاومونه، وإنما يضطرهم إلى ذلك باحتقاره لما هم عليه اليوم؛ إذ قرب أن

يزول ما كانوا يعتزون به من اتباع السواد الأعظم من العوام لهم، وتقبيلهم لأيديهم

ومواساتهم بالهدايا والصدقات والوصايا، فبهذا كانوا إذا قام فيهم مصلح كالسيد

الأفغاني الحكيم، والأستاذ الإمام همسوا في آذان هؤلاء العوام: هذا معتزلي، هذا

فيلسوف، هذا كافر يريد أن يفسد عليكم دينكم، فحافظوا على تقاليدكم وموالدكم

واستغاثتكم بأهل القبور الذين يتوسطون لكم عند الله بدفع النقم وحفظ النعم، التي

جعلتكم وراء جميع الأمم.

نعم أوشك أن يزول ذلك، بل زال إلا قليلاً ، وقد رأينا ما كان من تأثير موت

الأستاذ الإمام وموت غيره من أكابر الشيوخ الذين تولوا منصب الإفتاء مثله وتولوا

ما لم يتول من مشيخة الأزهر، اضطرب القطر المصري واهتز العالم الإسلامي

كله لموت الأستاذ الإمام بأشد مما اضطربت بيوت أولئك الشيوخ لموتهم الذي لا

يكاد يشعر به، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يعيشون لأنفسهم وبيوتهم، وكان يعيش

لأمته وملته.

سبقت الهند مصر وسورية والحجاز في إحياء السنة علمًا وعملاً، وقد

تمهدت العقبات أمام مصر، وبدت طلائع الإصلاح في نابتة الأزهر، ولكن الحركة

فيه لا تزال بطيئة، ولا تسرع بها إلا صدمات المعارضة والمقاومة لها، وحينئذ

تجد من طلاب الإصلاح الديني والدنيوي أعوانًًا وأنصارًا تجرئها، ويتعاون رجال

الدين ورجال المدنية على الإصلاح الإسلامي الديني المدني، ويظهر صدق قولنا

في المقصورة بعد التنويه بما قام به الأستاذ الإمام من الاجتهاد في إصلاح الأزهر:

فإن يك الأزهر لم يصلح بها

فقد نأى عن سبل من كان مأى [1]

ونبتت من غرسه نابتة

ستلأم الصدع وترأب الثأى

وترفع الحجب عن المعهد أو

يعود جحر الضب حيًّا كامنا [2]

إذًا ينال وهو قد أشفى الشفا

من معضل بات به على شفا

ثمت ولى المصلحون شطره

ألا يفيضون علومًا وهدى

فأحيوا الإسلام في أنفس من

داناهم بهجره صرف الردى

فعاد آهلاً إلى موطنه

من غربة طال بها عهد النوى

واستتبعت غربته المجد كما

كان فعاد الأمر مثلما بدا

فتبين بهذا أن خوف السائل على الإسلام من بدع خلف المتصوفة هو من قبيل

توقع الواقع، وإنما يتلافى هذا الواقع فيهم وفي غيرهم بتجديد يكون سريعًا إذا أيدته

حكومة إسلامية، وبطيئًا إذا لم يتح له ذلك في بدء التجديد، وإنما يكون التجديد

بالتعارف والتعاون بين الطائفة التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته

لا تخلو من وجودها، فإنها الآن متفرقة في البلاد، ما من قطر إلا وفيه أفراد منها،

ففي حديث ثوبان في الصحيحين وكتب السنن: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين

على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) ، وفي معناه أحاديث

أخرى.

وأهم القواعد التي يجب بناء الإصلاح عليها هي:

1-

الاعتراف بإسلام كل مذعن لما أجمع عليه المسلمون من أمر الدين.

2-

بث دعوة العمل بهداية الكتاب والسنة الصحيحة وسيرة السلف الصالح

فيهما كما أثبته علماء الحديث بالأسانيد المعتمدة، وترك ما خالفه من أنظار

المتكلمين وآراء الفقهاء، ولا نزيد في أمور العبادات والحلال والحرام على ذلك،

ولا ننقص منه، وقد بينا حجج هذه المسألة مرارًا، وليس معنى هذا أن يكون

المهتدي بذلك إمامًا مجتهدًا، بل أن يكون على بصيرة من دينه على طريقة السلف

عوامهم وخواصهم مع الاستعانة على فهم النصوص بما فسرها به العلماء.

3-

عدم التعصب لبعض المذاهب على بعض، وذلك بأن نعذر كل متبع لإمام

من أئمة السلف المجتهدين في حكم من الأحكام من أئمة آل البيت كزيد بن علي

والصادق والباقر وأئمة فقهاء الأمصار كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأئمة

الصوفية كالجنيد، وعلماء الصحابة والتابعين بالأولى، ولا نكفر مسلمًا مذعنًا بذنب

ولا بدعة ارتكبها بجهل، أو بشبهة اتباع إمام أو بتأول، ومتى زال التعصب تكون

المناظرة بين المختلفين في ذلك بالدليل الشرعي مع الأدب والاحترام واتقاء الشقاق

والتفرق بين المسلمين، ويتبع دعاة الإصلاح في ذلك قاعدة الإمام مالك: كل أحد

يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني النبي - صلى الله عليه

وسلم - فلا يتعصبون لشخص معين غير الرسول - صلوات الله وسلامه عليه -

ولا لجماعة غير الصحابة رضوان الله عليهم، فما أجمعوا عليه فلا مندوحة عن

اتباعه، وما اختلفوا فيه يرجح فيه ما كان دليله أقوى، والآخذون به من التابعين

وسائر علماء السلف أكثر، فإنه قلما يسلم عالم مجتهد من شذوذ كبار العلماء الذين

خالفوا الجمهور، وليكون شرحًا لقاعدة الإمام مالك رحمه الله تعالى.

4-

الاستعانة بإرشاد الكتاب والسنة على الإصلاح الدنيوي مع تحصيل العلوم

والفنون التي ترتقي بها الزراعة والصناعة والتجارة والقوى الحربية، فإن هذا

مفوض إلينا بتلك الهداية التي نصت على أن الله خلق لنا ما في الأرض جميعًا،

وأمرتنا بأن نعد لحفظ دعوة الحق ما نستطيع من قوة، وقال رسولنا - صلى الله

عليه وسلم -: (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا

أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواهما

مسلم في صحيحه.

ولهذه المسائل تفصيل شرحناه في المنار مرارًا، بل كان المنار في جملته

وتفصيله دعوة إلى الإصلاح الإسلامي المبني على أساس اتباع جمهور السلف

الصالح في أمور الدين رواية ودراية، وعملاً بلا زيادة ولا نقص، ويا ليتنا نبلغ

مُدّ أحدهم أو نصيفه، واتباع ما تقتضيه المصلحة ويثبته العلم والاختبار في أمور

الدنيا مطلقين لاجتهادنا العنان فيه، وهذا اتباع للسلف فيما فهموه من هدي الكتاب

والسنة أيضًا، كما يعرف من سيرتهم في فتح البلاد وإنشاء الداواوين وتمصير

الأمصار وتدوين العلوم والفنون والعمل بها، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن

أنس كما بينه الشاطبي في الاعتصام وغيره {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى

صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) .

_________

(1)

مأى بالغ وتعمق أي: بعد عن طرق المتأخرين المتنطعين المتعمقين في مباحث عبارات الكتب.

(2)

أي إلى أن يعود جحر الضب الذي دخلوا فيه باتباع سنن من قبلهم واسعًا بسهولة الحنيفية السمحة، إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم (حتى لو دخلوا في جحر ضب لتبعتموهم) .

ص: 161

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شرح قاعدة

لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب

(2)

تتمة كلام شيخ الإسلام وهو في الاختلاف في الدين

ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر، فيكفر بما معه من الحق

مع علمه أنه حق، ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع علمه بأنه باطل، وهؤلاء

كلهم مذمومون، ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة،

فإنه ما منهم إلا من خالف حقًّا واتبع باطلاً، ولهذا أمر الله الرسل أن تدعو إلى

دين واحد وهو دين الإسلام، ولا يتفرقوا فيه، وهو دين الأولين والآخرين من الرسل

وأتباعهم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ

وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى

المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13)، وقال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا

الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً

وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 51-53) ؛ أي: كتبًا اتبع كل قوم كتابًا مبتدعًا غير كتاب الله،

فصاروا متفرقين مختلفين؛ لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية

المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في

قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا

الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 5)، وقال في الآية الأخرى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ

لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ

المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) ، فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا،

وأعاد حرف (من) ليبين أن الثاني بدل من الأول، والبدل هو المقصود بالكلام،

وما قبله توطئة له، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ

سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (هود: 110) إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ

لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) ، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وقد ذكر في غير

موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام، كما قال تعالى عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ

مِنَ المُسْلِمِينَ} (يونس: 72)، وقال عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ

أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى

لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 131-132)، وقال يوسف:

{فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي

بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) ، {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ

تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس: 84)، وقال عن السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا

صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126)، وقال عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ

نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (النمل: 44)، وقال: {يَحْكُمُ بِهَا

النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44)، وقال:

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَننَا

مُسْلِمُونَ} (المائدة: 111) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد) وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين

واحدًا وهو الإسلام، كالدين الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه

هو دين الإسلام أولاً وآخرًا، وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس، ثم صارت

القبلة الكعبة، وفي كلا الحالين الدين واحد وهو دين الإسلام، فهكذا سائر ما شرع

للأنبياء قبلنا، ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدًا وجعل الباطل

متعددًا كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن

سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153)، وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ

أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7)، وقوله:

{اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النحل: 121)، وقوله: {وَيَهْدِيَكَ

صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (الفتح: 2)، وقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ

الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى

الظُّلُمَاتِ} (البقرة: 257) ، وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الاختلاف

المطلق كله مذموم، بخلاف المقيد الذي قيل فيه: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ

وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} (البقرة: 253) ، فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق

والباطل كما قال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج: 19) ، وقد

ثبت في الصحيح أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر في حمزة عم رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - وعلي وعبيدة بن الحرث ابني عميه والمشركين الذي

بارزوهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة.

وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس عملاً مجردًا مثل

كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي

عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على

اختلاف طبقاتهم، فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم، وأما

الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة، فلا يوجد

فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول

الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه،

بل لا يعرفونه، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق

منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك [1] إذا لم

يجد في الاختلافات التي نظر فيها، وناظر ما هو حق محض، وكثير منهم يترك

الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب، كما قال أبو المعالي

وقت السياق: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في

الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها

أنا ذا أموت على عقيدة أمي.

وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما

كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تيسر له من طرق العبادة

والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم، وكذلك

الشهرستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف

فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال: قد أشار علي مَن إشارته غُنم،

وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول، ما أشكل على ذوي العقول، ولعله

استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم.

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كف حائر

على ذقن أو قارعًا سن نادم

فأخبر أنه لم يجد إلا سائرًا شاكًّا مرتابًا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه،

فالأول في الجهل البسيط {كظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ

يَرَاهَا} (النور: 40) ، وهذا دخل في الجهل المركب ثم تبين له أنه جهل فندم،

ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججها، ولا يكاد يرجح شيئًا للحيرة،

وكذلك الآمدي الغالب عليه الوقف في الحيرة، وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد،

بل في الموضع منه ينصر قولاً، وفي موضع آخر منه، أو من كتاب آخر ينصر

نقيضه، ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك، ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم

بالله وبصفاته وأفعاله ذكر على أن كلاًّ منها إشكال [2] وقد ذكرت كلامه وبينت ما

أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع، فإن الله قد أرسل رسله بالحق، وخلق عباده

على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله وجد الهدى واليقين الذي لا

ريب فيه ولم يتناقض، ولكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية بما

حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق، كما قد ذكر

تفصيل ذلك في موضع غير هذا.

والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، ومن

الذي ذاق من هذا الشراب:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذىً ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً

ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات

{ِإلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10){الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)، وأقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) ، ومن جرب مثل

تجربتي عرف مثل معرفتي، وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في

الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي

عليلاً أو يروي غليلاً، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من

مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في

المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره، وهكذا غيره من أهل الكلام

والفلسفة ليس هذا من خصائصه، فإن الحق واحد ولا يخرج عما جاءت به

الرسل، وهو الموافق لصحيح العقل وفطرة الله التي فطر عليها عباده، وهؤلاء

لا يعرفون ذلك بل هم {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا} (الروم: 32) ،

وهم مختلفون في الكتاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة: 176) .

وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه في الرد على

الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله قال:

(الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من

ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون

بنور الله أهل الضلالة والعمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال

قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن

كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية

البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون

على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون

بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم) . وهو كما وصفهم

رحمه الله، فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام، إما نقلاً مجردًا

للأقوال، وإما نقلاً وبحثًا وذكرًا للجدال مختلفون في الكتاب، كل منهم يوافق بعضًا

ويرد بعضًا، ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه، وما يخالفه هو

المتشابه الذي يجب تأويله، أو تفويضه، وهذا مجرد في كل مصنف في الكلام.

اهـ.

هذا ما أحببنا نقله من كلام شيخ الإسلام في هذا المقام، وقد أطال بعده في

وصف المتكلمين وخلافهم، وفضل الأشعري على غيره في معرفة الفرق ومذاهبها،

وذكر خلاف الفلاسفة أيضًا، ونصر مذهب السلف بالعقل والنقل على مذاهب

جميع المتكلمين والفلاسفة، ولا يهولنك تخطئة هذا الرجل لجميع أولئك الأساطين

من الفلاسفة والنظار غرورًا بشبهة الشيطان؛ لأنه لا يعقل أن يكون هو أعلم منهم

أو أذكى، حتى يكون أحق بالصواب وأولى، فالرجل ليس صاحب مذهب مخترع

تعارضت أدلته مع أدلة هذه الفرق، واشتبه علينا الأمر حتى نرجح قوله على كل

منها، أو نرجح غيره عليه، بل هو ناصر مذهب جمهور السلف الصالح بالأدلة

العقلية التي انخدع بنظرياتها كل من شذ عنه قليلاً أو كثيرًا، وأساس مذهبهم

الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله وصح عن رسوله على الوجه الذي كان عليه خير

الأمة قبل افتتانها بالنظريات التي فرقتها شيعًا، ونحمد الله أن سخر لها من هدم كل

ما خالف السلف من تلك النظريات بأدلة من جنسها هي أقوى منها، وأثبت

بالبرهان أن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، ويتضمن هذا إثبات أن

هذا الدين من عند الله؛ إذ لو كان من عند الرسول أو غيره لترقى بأبحاث المتكلمين

والفلاسفة، وكان المتأخر أصح رأيًا فيه من المتقدم.

وقد استوفى الرد على أولئك المخالفين للسلف من المنتسبين إلى مذاهب السنة

والمبتدعة والفلاسفة في كتابه (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ، وإنني

أنقل منه هنا ما ختم به الوجه السابع من الوجوه التي تكلم فيها على تقديمهم العقل

على النقل عند التعارض وهو:

***

تفنيد ابن تيمية لقول المتكلمين بتقديم النظريات

العقلية على النصوص السمعية

والمقصود هنا التنبيه على أنه لو سوغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله

تعالى ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم

ولا هدى، فإن الذين سلكوا هذه السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته

وشكه، والمسلمون يشهدون عليه بذلك، فثبت بشهادته وإقراره على نفسه وشهادة

المسلمين الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب

وعارضه بما يناقضه بيقين يطمئن إليه ولا معرفة يسكن بها قلبه، والذين ادعوا في

بعض المسائل أن لهم معقولاً صريحًا يناقض الكتاب قابلهم آخرون من ذوي

المعقولات، فقالوا: إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول، فصار ما يدعى

معارضة للكتاب من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صحيح إما بشهادة

أصحابه عليه وشهادة الأمة، وإما بظهور تناقضهم ظهورًا لا ارتياب فيه، وإما

لمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات لهم، بل من تدبر ما يعارضون به الشرع

من العقليات وجد ذلك مما يعلم بالعقل الصريح بطلانه، والناس إذا تنازعوا في

المعقول لم يكن قول طائفة لها مذهب حجة على أخرى، بل يرجع في ذلك إلى

الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوى، فامتنع حينئذ أن يعتمد

على ما يعارض الكتاب من الأقوال التي يسمونها معقولات، وإن كان ذلك قد قالته

طائفة كبيرة لمخالفة طائفة كبيرة لها، ولم يبق إلا أن يقال: إن كل إنسان له عقل

فيعتمد على عقل نفسه، وما وجده معارضًا لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم

من رأيه خالفه، وقدم رأيه على نصوص الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -

ومعلوم أن هذا أكثر ضلالاً واضطرابًا، فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة

الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية، وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة

هذه العقليات، ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب، بل إما إلى

حيرة وارتياب، وإما إلى اختلاف بين الأحزاب، فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ

مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات.

فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم

يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب، فالأول: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ

الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ

الحِسَابِ} (النور: 39)، والثاني: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن

فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا

وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: 40) ، وأصحاب القرآن

والإيمان في نور على نور قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا

كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا

وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي

الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 52-53)، وقال تعالى: {اللَّهُ

نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: 35) ، إلى آخر الآية، وقال تعالى:

{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ

المُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) ، فأهل الجهل البسيط منهم أهل الشك والحيرة من

هؤلاء المعارضين للكتاب المعرضين عنه، وأهل الجهل المركب أرباب الاعتقادات

الباطلة التي يزعمون أنها عقليات، وآخرون ممن يعارضهم بقول مناقض لتلك

الأقوال هو العقليات، ومعلوم أنه حينئذ يجب فساد أحد الاعتقادين أو كليهما،

والغالب فساد كلا الاعتقادين لما فيهما من الإجمال والاشتباه، وأن الحق يكون فيه

تفصيل يبين أن مع هؤلاء حقًّا وباطلاً، ومع هؤلاء حقًّا وباطلاً، والحق الذي مع

كل منهما هو الذي جاء به الكتاب الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، والله أعلم

اهـ.

(المنار)

كل مؤمن سليم الفطرة صحيح العقل إذا قرأ هذا يجزم بأنه الحق، وأنه يجب

على المسلمين أن لا يغتروا بشهرة أحد من المتكلمين ولا الصوفية ولا الفقهاء الذين

خالفوا السلف فيما نقله ثقات المحدثين كلهم من أمر الدين، وإنما نعذر كل عالم في

اجتهاده إذا ثبت من سيرته إذعانه للأمر والنهي، وأن قصده تأييد الشرع، ولكن لا

يتبع أحدًا فيما خالف هدي السلف الصالح في الدين معتمدين على نقل ثقات

المحدثين دون آراء المختلفين، وهذا منتهى الإصلاح في الدين.

_________

(1)

المنار: أي الشك في الترجيح بين المسألة الكلامية والفلسفية لا في أصل الكلام.

(2)

المنار: كتب مصحح الكتاب في المطبعة الأميرية: هكذا في الأصل ولعل في الكلام نقصًا أو تحريفًا اهـ ونقول: لعل الأصل: ذكر أن كلاًّ منها عليه إشكال، أو ذكر أن على كل منها إشكالاً.

ص: 186

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

‌تاريخ فنون الحديث

(3)

المستدرك على الصحيحين للحاكم

قد أودع الحافظ محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري [1] في كتابه المستدرك ما

ليس في الصحيحين مما رأى أنه على شرطهما، أو شرط أحدهما [2] ، أو ما أدى

اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما، مشيرًا إلى القسم الأول

بقوله: هذا حديث على شرط الشيخين أو على شرط البخاري، أو على شرط

مسلم. وإلى القسم الثاني بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد. وربما أورد فيه

ما لم يصح عنده منبهًا على ذلك، وهو متساهل في التصحيح، وقد لخص

الحافظ الذهبي [3] مستدركه، وأبان ما فيه من ضعيف أو منكر - وهو كثير - وجمع

جزءًا في الأحاديث الموضوعة التي وجدت فيه، فبلغت حوالي مائة، قال الذهبي:

في المستدرك جملة وافرة على شرطيهما أو شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك

نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء، وما بقي

وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات.

وهذا الأمر مما يتعجب منه، فإن الحاكم كان من الحفاظ البارعين في هذا الفن،

ويقال: إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره، وقد اعترته غفلة. وقال

الحافظ ابن حجر: إنما وقع للحاكم التساهل؛ لأنه سود الكتاب لينقحه فعاجلته المنية،

ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه.

وقال كثير من المحدثين: إن ما انفرد الحاكم عن أئمة الحديث بتصحيحه يبحث

عنه ويحكم عليه بما يقضي به حاله من الصحة أو الحسن أو الضعف اهـ.

***

المستخرجات على الصحيحين

قبل أن نذكر المستخرجات على الصحيحين نذكر معنى الاستخراج، فنقول:

الاستخراج أن يعمد حافظ إلى صحيح البخاري مثلاً، فيورد أحاديثه واحدًا واحدًا

بأسانيد لنفسه غير ملتزم فيه ثقة الرواة من غير طريق البخاري إلى أن يلتقي معه

في شيخه، أو فيمن فوقه إذا لم يكن الاجتماع معه في الأقرب، وربما ترك

المستخرِج أحاديث لم يجد له بها إسنادًا مرضيًّا، وربما علقها عن بعض رواتها،

وربما ذكرها من طريق صاحب الأصل، وقد اعتنى كثير من الحفاظ بالتخريج،

وقصروا ذلك في الأكثر على الصحيحين، لكونهما العمدة في هذا الفن،

وللمستخرجات فوائد، منها ما قد يقع فيها من زوائد في الحديث؛ لأنهم لا يلتزمون

ألفاظ المستخرج عليها، ومنها علو الإسناد؛ إذ رواية الحديث عن صاحب المستخرج

عليه أبعد من روايته عن طبقته أو شيوخه، وقد يقع فيها التصريح بالسماع مع

كون الأصل معنعنًا، أو بتسمية مبهم في الأصل، ولا يحكم للزيادات الواقعة في

المستخرجات بالصحة إلا إذا كان سند المستخرج إلى الشيخ الذي التقى فيه مع

مصنف الأصل صحيحًا متصلاً، وقد يطلق التخريج على عزو الحديث إلى من

أخرجه من الأئمة كقولنا: أخرجه البخاري. للحديث الذي يوجد في صحيحه.

ومن الكتب المستخرجة على جامع البخاري المستخرج لأبي نعيم أحمد بن

عبد الله الأصبهاني [4] ، والمستخرج لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي [5] ،

والمستخرج لأبي بكر أحمد بن محمد البرقاني شيخ الفقهاء والمحدثين [6] .

ومن المستخرجات على صحيح مسلم تخريج أحمد بن حمدان النيسابوري [7] ،

وتخريج أبي عوانة الإسفراييني [8] ، وتخريج أبي نصر الطوخي [9] ، والمسند

المستخرج على مسلم للحافظ أبي نعيم الأصبهاني.

***

المجتبى لأبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي [10]

لما صنف النسائي سننه الكبرى أهداها إلى أمير الرملة، فقال له: أكل ما فيها

صحيح؟ فقال: فيها الصحيح والحسن، وما يقاربهما. فقال: ميز لي الصحيح من

غيره. فصنف له السنن الصغرى وسماه المجتبى من السنن.

ودرجته في الحديث بعد الصحيحين؛ لأنه أقل السنن بعدهما ضعيفًا، وأما

سننه الكبيرة فكان من طريقته أن يخرج فيها عن كل شخص لم يجمع على تركه،

وإذا نسب إلى النسائي رواية حديث، فإنما يعنون روايته في مجتباه، وقد شرح

المجتبى شرحًا وجيزًا الحافظ جلال الدين السيوطي [11] ، وكذلك شرحه أبو الحسن

محمد بن عبد الهادي السندي الحنفي [12] اقتصر فيه على حل ما يحتاج إليه القارئ

والمدرس من ضبط اللفظ وإيضاح الغريب والإعراب، شأنه في شرح الكتب الستة،

على أن شرحه أوسع من شرح السيوطي [*] ، وقد شرح سراج الدين عمر بن علي

بن الملقن الشافعي زوائده على الصحيحين وأبي داود والترمذي في مجلد.

***

سنن أبي داود سليمان بن أشعث السجستاني [13]

قال أبو سليمان الخطابي في كتابه معالم السنن: اعلموا - رحمكم الله - أن

كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق

القبول من كافة الناس فصار حكمًا بين فرق العلماء وطبقات العلماء على اختلاف

مذاهبهم، فلكل منه ورد ومنه شرب [**] ، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر

وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض. قال أبو داود رحمه الله: كتبت عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث فانتخبت منها أربعة آلاف

حديث وثمانمائة ضمنتها هذا الكتاب، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه،

ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها قوله صلى الله عليه وسلم:

(الأعمال بالنيات)، والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام

المرء تركه ما لا يعنيه) ، والثالث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكون المؤمن

مؤمنًا حقًّا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه) ، والرابع: (الحلال بيّن والحرام

بيّن) الحديث، وقال: ما ذكرت في كتابي حديثًا أجمع الناس على تركه، وما كان به

من حديث فيه وهن شديد قد بينته، ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو

صالح، وبعضها أصح من بعض، وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي - صلى

الله عليه وسلم - إلا وهي فيه، ولا أعلم شيئًا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من

هذا الكتاب، ولا يضر رجلاً أن لا يكتب من العلم شيئًا بعدما يكتب هذا الكتاب. إلى

آخر كلامه في رسالته إلى أهل مكة، وقد اشتهر هذا الكتاب بجمعه لأحاديث الأحكام،

وفيه كثير من المراسيل، وكان يحتج بها من تقدم الشافعي؛كسفيان الثوري ومالك

والأوزاعي.

***

شروحها

شرح هذه السنن كثيرون من أفاضل العلماء؛ شرحها الإمام الخطابي [14] في

كتابه معالم السنن، وقطب الدين أبو بكر اليمني الشافعي [15] في أربع مجلدات

كبار، وأبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي [16] ، كتب من شرحه سبع

مجلدات إلى أثناء سجود السهو، وشرح زوائده على الصحيحين ابن الملقن في

مجلدين، وشرح السنن شهاب الدين الرملي [17] .

***

مختصراتها

قد اختصرها زكي الدين المنذري [18] ، وأسمى مختصره المجتبى، وقد

شرحها السيوطي بكتابه زهر الربا على المجتبى، وهذب المختصر ابن قيم

الجوزية الحنبلي [19]، وشرح مهذبه شرحًا جميلاً ذكر فيه: إن الحافظ المنذري قد

أحسن في اختصاره، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام

على علل سكت عنها، إذ لم يكملها، وتصحيح أحاديثه والكلام على متون مشكلة

لم يفتح معضلها، وقد بسطت الكلام على مواضع لعل الناظر لا يجدها في كتاب

سواه.

قال ابن كثير في مختصر علوم الحديث: إن الروايات لسنن أبي داود كثيرة

يوجد في بعضها ما ليس في الأخرى.

***

الجامع الصحيح لمحمد أبي عيسى الترمذي [20]

قال أبو عيسى الترمذي - رحمه الله تعالى -: عرضت هذا الكتاب على

علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به واستحسنوه. وقال: ما أخرجت

بكتابي هذا إلا حديثًا قد عمل به بعض الفقهاء. فعلى هذا كل حديث احتج به محتج،

أو عمل بموجبه عامل أخرجه، سواء صح طريقه أو لم يصح، لكنه تكلم على

درجة الحديث، وبين الصحيح منه والمعلول، كما ميز المعمول به من المتروك،

وساق اختلاف العلماء، فكتابه لذلك جليل القدر جم الفائدة كما أنه قليل التكرار.

***

شروحه

قد شرحه محمد بن عبد الله الإشبيلي المعروف بابن العربي المالكي [21] ،

وأسمى شرحه (عارضة الأحوذي في شرح الترمذي) ، وشرحه الحافظ محمد بن

محمد الشافعي [22] ، شرح نحو ثلثيه في عشر مجلدات ولم يتمه، وقد كمله زين

الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي [23] ، وشرحه عبد الرحمن بن أحمد

الحنبلي في عشرين مجلدًا، وقد احترق شرحه في الفتنة، وكذلك شرحه

السيوطي والسندي، وشرح زوائده على الصحيحين، وأبي داود عمر بن علي بن

الملقن [24] .

***

مختصراته

منها الجامع لنجم الدين محمد بن عقيل [25] ، ومختصر الجامع لنجم الدين

سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي [26] .

***

سنن محمد بن يزيد بن ماجه القزويني [27]

عد بعض الحفاظ أصول السنة خمسة يعني كتب البخاري ومسلم والترمذي

والنسائي وأبي داود، وعدها بعض آخر ستة بضم سنن ابن ماجه إلى الخمسة

السالفة، وأول من فعل ذلك ابن طاهر المقدسي [28] ، ثم الحافظ عبد الغني [29] في

كتاب الإكمال في أسماء الرجال، وإنما قدموا سنن ابن ماجه على الموطأ؛ لكثرة

زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ، قال بعض المحدثين: ينبغي أن يجعل السادس

كتاب الدارمي فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة [30] ، وإن

كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة. وقد جعل بعض العلماء كرزين السرقسطي [31]

سادس الكتب الموطأ، وتبعه على ذلك المجد بن الأثير في كتاب جامع الأصول،

وكذا غيره.

قال الحافظ المزي: إن كل ما انفرد به ابن ماجه عن الخمسة فهو ضعيف.

ولكن قال الحافظ ابن حجر: إنه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة، فالأولى حمل

الضعف على الرجال.

***

شروح سنن ابن ماجه

شرحها كمال الدين محمد بن موسى الدميري الشافعي [32] في خمس

مجلدات، وأسمى شرح الديباجة ولكنه مات قبل تحريره، وشرحها إبراهيم بن

محمد الحلبي [33] ، وجلال الدين السيوطي في شرحه مصباح الزجاجة، وكذلك

السندي، وقد شرح سراج الدين عمر بن علي بن الملقن زوائده على الخمسة في

ثمان مجلدات، وسمى شرحه ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه.

***

باقي كتب السنة الصحيحة

غير الكتب الستة

مما أسلفت يتبين لك أن الصحيحين لم يستوعبا كل الصحيح، وكذلك الأصول

الخمسة أو الستة، وإن كان الزائد عليها قليلاً، قال الإمام النووي: الصواب قول من

قال: إنه لم يفت الأصول الخمسة إلا النزر اليسير. وها نحن أولاء ندلي إليك بباقي

الكتب الشهيرة الجامعة للصحيح في القرنين الثالث والرابع:

فمنها صحيح محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري [34] ، وصحيحه أعلى

مرتبة من صحيح بن حبان تلميذه؛ لشدة تحريه، حتى إنه يتوقف في التصحيح لأدنى

كلام في الإسناد، ومنها صحيح أبي حاتم محمد بن حبان البستي [35] ، واسم

مصنفه التقاسيم والأنواع، والكشف على الحديث منه عسر؛ لأنه غير مرتب على

الأبواب ولا المسانيد، وقد رتبه ابن الملقن، وجرد أبو الحسن الهيتمي زوائده على

الصحيحين في مجلد، وقد نسبوا لابن حبان التساهل في التصحيح إلا أن تساهله

أقل من تساهل الحاكم في مستدركه، ومنها صحيح أبي عوانة يعقوب بن

إسحاق [36] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان [37] ، وسنن الإمام

الحافظ علي بن عمر البغدادي الشهير بالدارقطني [38] ، والمنتقى في الأحكام لابن

الجارود عبد الله بن علي [39] ، والمنتقى في الآثار لقاسم بن أصبغ محدث

الأندلس [40] .

***

كتب الأطراف

كتب الأطراف هي ما تذكر طرفًا من الحديث يدل على بقيته، وتجمع أسانيده

إما مستوعبة أو مقيدة بكتب مخصوصة، فمن ذلك:

أطراف الصحيحين للحافظ إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي [41] ، ولأبي

محمد خلف بن محمد الواسطي [42]، قال الحافظ بن عساكر: وكتاب خلف أحسنهما

ترتيبًا ورسمًا، وأقلهما خطًا ووهمًا. وهو في دار الكتب السلطانية أربع مجلدات،

ولأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني [43] ، وللحافظ أبي الفضل أحمد بن علي

ابن حجر العسقلاني وأطراف السنن الأربعة لابن عساكر الدمشقي [44] في ثلاثة

مجلدات مرتبًا على حروف المعجم، واسمه الإشراف على معرفة الأطراف.

وأطراف الكتب الستة لمحمد بن طاهر المقدسي [45] جمع فيه أطراف

الصحيحين والسنن الأربعة، قال ابن عساكر في مقدمة كتابه الإشراف: سبرته

واختبرته، فظهرت فيه أمارات النقص، وألفيته مشتملاً على أوهام كثيرة وترتيبه

مختل. لهذا عمل كتابه الإشراف، ولهذا السبب أيضًا لخصه الحافظ محمد بن علي

الحسيني الدمشقي [46] ، ورتبه أحسن ترتيب، واسم كتاب المقدسي أطراف

الغرائب والأفراد، وللحافظ يوسف بن عبد الرحمن المزي [47] أطراف الكتب الستة

أيضًا، وفيه أيضًا أوهام جمعها أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم [48] ، وقد اختصر

أطراف المزي الذهبي [49] ، كما اختصره أيضًا محمد بن علي الدمشقي الآنف ذكره،

ولابن الملقن الإشراف على أطراف السنة.

ولابن حجر إتحاف المهرة بأطراف العشرة، يعني الكتب الستة والمسانيد

الأربعة في ثماني مجلدات، وقد أفرد منه تأليفه المسمى بأطراف المسند المعتلي، يقع

في مجلدين.

***

دور التهذيب بعد القرن الرابع

إن لجمع السنن من أفواه الرواة، والنظر في رجال الأسانيد وإنزالهم منازلهم،

وبيان عليل الحديث من صحيحه كاد ينتهي بانتهاء القرن الرابع، كما انطفأت إذ

ذاك جذوة الاجتهاد، وركن الناس إلى التقليد في الدين، فأكثر الكتب التي تجدها بعد

ذلك العصر سلكت مسلك التهذيب أو جمع الشتيت وبيان الغريب، أو نحت منحى

الإبداع والترتيب، أو طرقت سبيل الاختصار والتقريب، وجل من تكلم في الأسانيد

بعد المائة الرابعة كان عالة على ما دونه أئمة الحديث في القرون السالفة.

ولا يسبقن إلى ذهنك - وأنت الفطن اللبيب - أنه لم يسبق القرن الخامس

جمع وتهذيب، فإن ذلك قد وجد، ولكن لم يشع شيوعه بعد القرن الرابع، ونحن

من سنتنا في هذه الرسالة مراعاة الأمور الذائعة، ولا نلتفت لليسير النادر.

***

أهم الكتب الجامعة لمتون الحديث

في دور التهذيب

الجمع بين الصحيحين قد جمع كثير من الأفاضل بين صحيحي البخاري

ومسلم، ومن هؤلاء محمد بن عبد الله الجوزقي [50] ، وإسماعيل بن أحمد المعروف

بابن الفرات [51] ، ومحمد بن أبي نصر الحميدي الأندلسي [52] ، وربما زاد زيادات

ليست فيهما، وحسين بن مسعود البغوي [53] ، ومحمد بن عبد الحق الإشبيلي،

وأحمد بن محمد القرطبي المعروف بابن أبي حجة [54] .

الجمع بين الكتب الستة: قد جمع بينها عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي

المعروف بابن الخراط [55] ، وقطب الدين محمد بن علاء الدين المكي [56] ، وكتابه

مرتب مهذب.

وأبو الحسن رزين بن معاوية العبدري السرقسطي [57] ، في كتابه تجريد

الصحاح، ولكنه لم يحسن في ترتيبه وتهذيبه، وترك بعضًا من أحاديث الستة، فلما

جاء أبو السعادات مبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري الشافعي [58] ،

هذب كتابه ورتب أبوابه، وأضاف إليه ما أسقطه من الأصول، وشرح غريبه وبين

مشكل الإعراب وخفي المعنى، وحذف أسانيده، ولم يذكر إلا راوي الحديث من

صحابي أو تابعي، كما ذكر المخرج له من الستة، ولم يذكر من أقوال التابعين

والأئمة إلا النادر، ورتب أبوابه على حروف المعجم، وسماه جامع الأصول لأحاديث

الرسول، فجاء كتابًا فذًّا في بابه لم ينسج أحد على منواله، فقرب إلينا البعيد وسهل

علينا العسير، وهو بدار الكتب السلطانية المصرية في عشرة أجزاء صغيرة،

ولعل الله يسوق إليه من يبرزه إلى عالم المطبوعات، فيسدي بذلك إلى طلاب الحديث

معروفًا جميلاًَ. وقد اختصر هذا الجامع كثيرون، منهم محمد المروزي [59] ،

وهبة الله بن عبد الرحيم الحموي [60] ، وعبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع

الشيباني الزبيدي [61] ، وهو أحسن المختصرات، وقد طبع حديثًا بمصر، ويقع في

ثلاثة أجزاء، ولأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزبادي [62] زوائد عليه سماها:

تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، وأن في هذا وما قبله لغنية

عن كتب الحديث الأخرى وكفاية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

توفي سنة 405.

(2)

قال النووي: المراد بقول المحدثين: على شرطهما أو على شرط أحدهما أن يكون رجال الإسناد في كتابيهما أو في كتاب أحدهما؛ لأنهما ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما.

(3)

سنة 748.

... (4) توفي سنة 430.

... (5) سنة 371.

(6)

سنة 425.

... (7) سنة 311.

...

(8) سنة 316.

(9)

سنة 344.

... (10) سنة 303.

(*) طبع المجتبى على شرحيه هذين في الهند.

(**) الشرب بالكسر كالورد وهو بمعنى المفعول؛ أي: ما يورد وما يشرب.

(11)

توفي سنة 911.

(12) سنة 1138.

... (13) سنة 275.

(14)

توفي في سنة 328. (15) سنة 652.

... (16) سنة 826.

(17)

سنة 848.

... (18) سنة 656.

... (19) سنة 751.

(20)

سنة 279.

... (21) سنة 546.

... (22) سنة 734.

(23)

توفي سنة 804.

(24) سنة 804.

... (25) سنة 729.

(26)

سنة 710.

... (27) سنة 273.

... (28) سنة 600.

(29)

الحديث المنكر: ما كان في سنده كثير الغلط أو غافل عن الاتفاق، أو فاسق، والشاذ: ما خالف فيه الثقة من هو أرجح منه.

(30)

توفي سنة 535.

(31) سنة 808.

... (32) سنة 841.

(33)

توفي سنة 311.

(34) سنة 354.

... (35) سنة 316.

(36)

سنة 353.

... (37) سنة 385.

... (38) سنة 307.

(39)

سنة 340.

... (40) سنة 400.

... (41) سنة 400.

(42)

سنة 517.

... (43) توفي سنة 571.

(44) سنة 507.

(45)

سنة 765.

... (46) سنة 842.

... (47) سنة 820.

(48)

748.

...

(49) توفي سنة 388.

(50) سنة 414.

(51)

سنة 488.

... (52) سنة 516.

... (53) سنة 582.

(54)

سنة 642.

... (55) سنة 582.

... (56) سنة 990.

(57)

سنة 535.

... (58) سنة 606.

... (59) سنة 682.

(60)

سنة 718.

... (61) سنة 944.

... (62)817.

ص: 193

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نقد مشروع تعميم التعليم الأولي

نشرنا في ج 7، 8 من م21 تقريرًا لمشيخة الأزهر في نقد تقرير لجنة

التعليم الأولي بوزارة المعارف لهذا المشروع، وقد طبع في هذه الأيام تقرير آخر

في شأن هذا التقرير لصديقنا عبد الله أفندي أمين ناظر مدرسة المعلمين للتعليم

الأولي في مديرية الجيزة، وهو ممن طلب مراقب التعليم العام منهم إبداء آرائهم فيه،

وقد رأينا أن نقتبس بعض فصول هذا التقرير المفيدة، ولما كان الفصل الأول منه

قد عقد لنقد تسع فقرات بينت فيها اللجنة سوء حال التعليم العام في القطر المصري،

ووجه الحاجة إلى تعميم التعليم الأولي - رأينا أن ننشر أولاً هذه الفقرات، وهي التي

انتقدها، ونقفي عليها بنشر رأيه فيها، وفي كل منهما فوائد ذات قيمة ثمينة لمن

يعنيهم أمر التربية والتعليم، قالت اللجنة مخاطبة وزير المعارف:

الفقرات 4-12 من تقرير اللجنة

4 -

ونعم ما قالت معاليكم فاتحة جلسات هذه اللجنة حين بينتم أن (فشو

الجهل بين جمهور الأمة يؤثر تأثيرًا سيئًا في حال البلاد، وأن ضرره لا يقتصر

على إضعاف الأفراد وتأخيرهم، بل يكون مانعًا كبيرًا وعائقًا عظيمًا في سبيل

الرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويقضي على أعظم ضروب الإصلاح

في مهدها، فلا تثمر ثمرتها ما دام معظم من يشملهم نفعها لا يفهم حقيقتها ولا يدري

كيف يستفيد منها.

5-

والأمثلة على ذلك كثيرة متوافرة في جميع فروع الأعمال الإدارية؛ لأن

الحكومة تضطر في جميع أعمالها إلى أن تسبق بمراحل واسعة حال التعليم التي عليها

جمهور الأمة، فمنها:

في الزراعة: الوسائل التي تتخذ لمنع قلة محصول القطن، مقاومة دودة

القطن ودودة اللوز، اتباع الطرق واستعمال الآلات الحديثة في الزراعة، إدخال

أصناف جديدة من المزروعات في البلاد، توسيع نطاق التعاون في الشؤون

الزراعية، زيادة العناية بالحيوانات، توخي الطرق الفنية في استعمال الأسمدة إلخ.

في الصحة العمومية: نشر القوانين الصحية الأولية بين الناس فيما يتعلق

بهم وبمنازلهم والبلدان التي يقطنون بها، تحسين حال المساكن، وضع تصميمات

للمدن والقرى، تقرير أنظمة لتنظيف المدن والقرى، إصلاح موارد مياه الشرب،

تقليل نسبة الوفيات في الأطفال، تحسين وسائل العناية بالنساء والأطفال من الوجهة

الطبية، التدابير التي تتخذ عند انتشار الأمراض المعدية وغيرها مما يستدعي

السرعة في تداركه، استئصال شأفة الأمراض المتأصلة في البلاد كالبول الدموي

(البلهارسيا) والرمد.

في الأشغال العمومية: المصارف، إصلاح البور من الأراضي، تعمير

الأراضي غير المسكونة، إنفاذ أوامر المناوبات وغيرها من أعمال الري.

في التعليم: ترقية أبسط أنواع التعليم الزراعي والفني.

في الأمن العام: ضبط الجرائم والتبليغ عنها، ويدخل في ذلك الرشوة، ومنع

جرائم الأحداث وصيانتهم من الفسق، منع سم المواشي، مقاومة الهرب من الخدمة

العسكرية، والعمل على إصلاح الجيش والشرطة (البوليس) ، إصلاح طرق الردع

بالعقوبة.

في القضاء: إنشاء محاكم الأخطاط وغير ذلك مما له أثر في إصلاح القضاء.

في الإدارة: توسيع سلطة مجالس المديريات والمجالس البلدية في إدارة

شؤون البلاد، توسيع نطاق الضرائب المحلية، الاستعانة في المسائل الفنية بمشورة

المصالح الأميرية المختصة، الاحتياط لمنع نشوب الحريق بالقرى، إقناع الجمهور

بفوائد التدابير التي تتخذها الحكومة كقانون خمسة الأفدنة ونحوه، إنشاء حلقات

القطن، تحديد مقدار الأراض التي تخصص بزراعة القطن، تسعير المواد الغذائية،

إنفاذ أوامر لجنة مراقبة التموين، قانون المستنقعات والبرك إلخ.

في الشؤون الاقتصادية: بث روح الاقتصاد والعمل على تقليل ديون

الفلاحين، مقاومة كنز الأموال بلا تثمير، توسيع نطاق صناديق الادخار (التوفير)

وأعمال المصارف (البنوك) التجارية، رفع شأن الزراع والتجار المصريين

حتى يستغنوا عن الوسطاء من الإفرنج، ترقية الصناعات، تأسيس صناعات جديدة

إلخ.

في الشئون الاجتماعية: ترقية شأن المرأة، الاهتمام بالطفل، مقاومة

الشحاذة والشرود (التشرد) ، تحسين أحوال المعيشة في بلاد الأرياف والترغيب

فيها.

هذه أمثلة عدة، لا نحتاج في سردها إلى خبرة خاصة، وهي قليل من كثير

من وجوه الإصلاح الإداري والاجتماعي التي تقوم بها الحكومة الآن، وجلي أن

أول عامل يتوقف عليه نجاحها إنما هو تحرير الشعب من ربق الجهل وانتشاله [1]

من هوة الأمية.

6-

وقد جاء في ملحق السير إلدن غورست بكتاب (إنجلترا في مصر)

تأليف اللورد ملنر بعد أن تكلم على عدم بلوغ الحكومة النجاح المنشود في بعض

فروع الإدارة ما ترجمته (على أن السبب الحقيقي يرجع إلى ما هو أبعد من ذلك،

وليس هناك علاج ناجع دائم الأثر إلا النهوض بالشعب عامة وتهذيبه، وإنما يكون

ذلك بانتهاج خطة سديدة في التعليم سداها بعد النظر ولحمتها الخبرة السياسية)

(صفحة 413) .

7-

وقال المسيو شارليتي مدير التعليم العام في تونس في خطبة ألقاها بمؤتمر

أفريقية الشمالية سنة 1908 ما يأتي: إن التقدم الاقتصادي مرتبط بجميع شؤون

الحياة على اختلاف أشكالها، بيد أن الناس لا يستطيعون الوصول إلى هذا التقدم

والانتفاع بمزاياه إلا إذا تربوا تربية تسهل لهم فهم كنهه وتقربه في أذهانهم؛ فإن

مسألة التعليم من أدق الأمور وأشقها، وخاصة في بلد يجب فيه قبل بلوغ أسباب

الحضارة الحديثة اجتياز جميع مراحل الطريق الطويلة التي خلفتها عصور الجهل

المطبق، فإذا لم يتيسر حل هذه المسألة حلاًّ تامًّا؛ فلا أقل من الاقتراب من ذلك الحل

باتخاذ جميع الوسائل التي يتناولها التعليم والتهذيب والقدوة الحسنة.

8-

وقال الدكتور لورنس بولز الذي كان يشغل وظيفة نباتي بوزارة الزراعة

في كتابه: مصر وطن المصريين، صفحة 214 ما ترجمته: إن ما لأرض مصر

من الخصب والقوة لا يزال كامنًا دفينًا؛ إذ هي لم تخط بعد خطوات تذكر نحو القيام

بعملها الطبيعي، وهو إنتاج المحصولات الزراعية، وإرسالها إلى العالم بأسره،

ومما لا يعتوره شك أن وادي النيل سيصير في يوم من الأيام من أعظم الممالك

الزراعية محصولاً؛ لأن به من مختلف الأجواء ما يناسب كل نوع من أنواع

المحصولات المختلفة باختلاف تربة الجهة التي تنمو فيها، ويربطها جميعًا نهر النيل

الذي هو منبع وجودها ومصدر حياتها، ومن هذه البقاع ما ستبقى الزراعة فيه

أزمانًا طويلة الأمد على الحال الفطرية التي تشاهد في الغابات، ومنها ما يرقى

حتى ينتج أنفس المحصولات، ونحن إلى الآن لم نألف افتقار الأعمال الزراعية إلى

المهارة الفنية، غير أن مشاهدة ورقة بديعة من تبغ هافانا، أو القطن الذي يكفي

الرطل منه لصنع خيط طوله 200 ميل أو النباتات التي تزرع خاصة لاستخراج

العقاقير الطبية تكفي لإقناع كل متردد في عظيم فائدة المهارة الفنية في الزراعة

وجليل أثرها، فالزراعة التي من هذا القبيل؛ أي: الزراعة التي تحتاج إلى مهارة

فنية، لها في مصر من الأحوال الملائمة ما ليس في مملكة أخرى، وقد يرى في

بديهة الأمر أن في هذا القول شيئًا من الغلو، ولكنا لم نقله جزافًا، ولكي تنتفع مصر

بهذه المزايا الطبيعية يجب أن يكون بها من العمال من يستطيعون أن يعملوا بعقولهم

وأيديهم معًا، لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن حاجات المستقبل ستكون كفيلة

بإيجاد طائفة جديدة راقية من المصريين؛ أي: بإيجاد شعب يجمع توقد القريحة إلى

ما كان لأجداده من قوة الأجسام) وليس هذا الانتقال المنتظر في المستقبل مقصورًا

على القطر المصري، فإن وزارة المعارف الإنجليزية تقول في رسالة عنوانها

(مسألة المدارس الريفية) : إن عصر القوى العضلية قد فات، ونحن الآن في عصر

انبثق فيه فجر العقول.

9-

وقد قدم للحكومة أخيرا تقريران من لجنتين ألفتا بأمرها: الأولى برئاسة

حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا للنظر في توسيع نطاق التجارة

والصناعة، والثانية برئاسة جناب اللفتننت كولونل بلفور للنظر في تعديل نظام

مصلحة الصحة العمومية بمصر، وجلي أن ضروب الإصلاح المقترحة في هذين

التقريرين ستلقى في الخطوة الأولى من إنفاذها عقبات كبيرة؛ لجهل الناس غاياتها

النبيلة.

10-

فقد جاء في تقرير لجنة توسيع نطاق التجارة والصناعة ما يأتي: إن ما

سبق لنا ذكره من البيان المختص بالصناعة الصغرى المصرية لهو حجة قائمة

وشاهد ناطق على ما بالبلاد من النقص الذي تئن منه أنين الثكلى، وترزح تحت

أثقاله، فإن خلو الأعمال من النظام والترتيب واستهانة العمال بإتقان عملهم من

الأمور الدالة على ضعف التعليم ونقص تهذيب الأخلاق.

فإذا سأل سائل: ما حال القطر من حيث التعليم العام والتربية الخلقية؟

كان الجواب أن أقل بحث في هذا الموضوع يكفي للحكم بأن ما يتبع الآن من الخطط

في التربية والتعليم في مصر يقصر عن الوصول بالبلاد إلى الغرض السامي المقصود

منهما، وعن النهوض بها من الوجهة الخلقية؛ إذ مما لا نزاع فيه مطلقًا أن التعليم لم

يعم حتى الآن جميع طبقات الأمة، وأن التربية المنزلية لا تقتصر مساوئها على

نقصها وتنكبها الغرض المنشود، بل إنها مبنية على أساس فاسد غير وطيد الأركان،

فهي بدلاً من تعويد النشء النظام وحسن التدبير تولد في نفوسهم الإسراف وسوء

الإدارة في الأعمال، وهي تبث فيهم روح الكسل والإهمال، وتصرفهم عن الجد

والنشاط، وهي تغرس فيهم التردد في الأمور أو قلة العناية بها وعدم النظافة، وما

أشبه ذلك من النقائص التي تقف حجر عثرة في سبيل تقدم البلاد من الوجهة

المعنوية، وبذا تعوق تقدمها من الوجهة الحسية أيضًا.

ولما كان من واجب هذه اللجنة اقتراح جميع الوسائل التي تؤدي إلى أقصى

درجات الرقي الاقتصادي، فهي تتشرف بلفت نظر الحكومة إلى ضرورة الإسراع

في إنفاذ مشروعها المختص بتعميم التعليم الأولي، وتوجيه مزيد العناية إليه،

وترى اللجنة أيضًا أن من الواجب عليها التنبيه إلى ضرورة بذل مزيد العناية بأمر

التربية وتقويم الأخلاق وإصلاح أحوال البيئة المنزلية خاصة، فإن تربية المرأة في

هذا المقام من عوامل رقي الأمة بأسرها) .

11-

وأوردت لجنة النظر في تعديل نظام الصحة العمومية قولاً موجزًا في

وصف الحال الحاضرة في مصر فقالت: من المعلوم أنه لا يتيسر رفع شعب من

الشعوب إلى المنزلة التي فيها يعرف لنفسه حقها، ما دام الجو الذي يعيش فيه ملوثًا

بالأقذار، فإننا إذا أجلنا النظر في أنحاء مصر وجدنا أن معظمها تعلوه الأوساخ،

وتحط فيه رحالها الأقذار، فهي كما كانت في قديم الزمان ملطخة بالأمراض على

اختلافها، ولا أمل في أن يقوم أهلها بما عليهم من رفع شأن بلادهم ما دامت

الأمراض تثقل عواتقهم وتخيم على رؤوسهم، إن نسبة الوفيات في الأطفال رائعة،

فثلت أبناء الأمة يموت وهو في سن الطفولة وغضارة الحياة، هذا إلى أن انتشار

الحشرات والهوام بين الفلاحين لم يقل على الرغم مما ثبت حديثًا من أن القمل

وسيلة لنقل التيفوس والحميات الراجعة التي تفتك بالأهلين فتكًا ذريعًا.

وقد أشارت اللجنة بوجوب شن غارة شعواء للقضاء على الجهل والقذارة،

واستئصال شأفة المرض والبؤس، ومما يلفت النظر أنها ذكرت الجهل أولاً، ولم

تعلق أملاً كبيرًا على إصلاح الحال الصحية إصلاحًا وافيًا بالغرض بتلقين أسباب

ذلك لمن بلغوا سن الحلم، فقد قالت:

فإن الحقائق التي وقفنا عليها تدل دلالة واضحة على أن رجال فرقة العمال

المصريين بعد أن يقضوا مع الجيش مدة يضطرون فيها إلى مراعاة أنظمة صحية

خاصة لا يكادون يرجعون إلى مواطنهم بالقرى إلا وهم عائدون إلى سيرتهم الأولى،

فتراهم لا يعمدون إلى بث شيء في نفوس قومهم مما تعلموه من أسباب النظافة،

وكفى بتاريخ الجيش المصري دليلاً على أن ذلك ليس من الغرابة في شيء، فإن

الجندي المصري بالرغم من تدربه على النظام والترتيب، ووقوفه تمام الوقوف على

الطرق الصحية المتبعة في المعسكرات والثكنات لا يكاد يرجع إلى قريته إلا وهو

مندمج في غمار عشيرته من الفلاحين، فلا يمكن تمييزه منهم.

وختمت اللجنة قولها في هذا المقام بأن أوضحت أن أنجع وسيلة يرجى منها

إصلاح الحال لا تكون إلا بالبدء بتعليم الطفل، فإن الطفل المتعلم قد يصبح أستاذًا

لوالديه غير المتعلمين، ويكون بمثابة النواة الأولى التي تنبت منها على مدى الأيام

عوامل رقي الفلاح.

12-

وقد نشرت جريدة (الأخبار) بعددها الصادر في 28 أبريل سنة 917

مقالة بقلم صحفي مصري (علمونا القراءة أولاً) ، وصف فيها الكاتب حال الفلاح

المصري وصفًا ممتعًا لا يخلو من المبالغة، وبين فيها أن مصر لا تحتاج إلى

جامعات جديدة، بل إلى نشر التعليم الأولي بين جمهور أهلها، قال ما نصه:

السواد الأعظم من الأمة المصرية من الفلاحين لابسي الجلاليب الزرقاء، وأكثر

هؤلاء - والحمد لله - لا يعرفون القراءة والكتابة، أما الأفراد القلائل المقيمون في

عواصم القطر، فلا يعتد بهم لقلة عددهم بالنسبة لمجموع الأمة، فإذا أراد واحد من

الفلاحين أن يكتب صكًّا أو جوابًا لا يجد من يكتبه له، فيضطر أن يسافر من قرية

إلى أخرى حتى يعثر بشخص يعرف كيف يفك الخط، وكتابة مثل ذلك الشخص لا

يفك رموزها إلا عالم من علماء الآثار القديمة؛ كالعلامة شامبليون الذي تمكن من

قراءة الخط الهيروغليفي:

نحن المصريين لا نعرف من أصول الصحة شيئًا، وكل من ذهب إلى إحدى

القرى أو العزب يشتم قبل أن يصل إليها ببضعة أميال الروائح الذكية (في أنوف

ساكنيها) ، المتصاعدة من أكوام السباخ القائمة كأهرام الجيزة صنع أجدادنا، وهي

تحيط بالقرية أو العزبة من كل جهاتها، ويرى مجاري جامع القرية ذات المنظر

الجميل تجري إلى الترعة التي يشرب منها أهل القرية بدون اشمئزاز، ويرى شكل

القرى الكئيب والمنازل المتلاصقة ذات الأبواب الضيقة والغرف التي ليس بها

منافذ، ويرى الفلاح نائمًا هو وأولاده بجانب جاموسته، لا فرق بين الجميع.

ومن المضحك المبكي أن اسم الدكتور عند الفلاحين كاسم عزرائيل عند

المتمدنين، فإذا أتى الدكتور إلى بلدة ترى المرضى اختفوا بأسرع من لمح البصر

إما أن يحملوا إلى جهة في الغيط بعيدة، أو يدفنوا في قش الأرز أو حطب القطن

المكوم على الأسطح، ولا يفهم الفلاح (طبعًا) شيئًا اسمه ميكروب أو عدوى.

ومع أنه لا شيء أكثر من الماء عند الفلاحين تجد أكثرهم قذرًا وسخًا، وكأنه يخشى

أن يخلع ملابسه فتحملها تلك المخلوقات الشريفة، وتهرب بها لكثرة ما يقلقها بهرشه

وكرشه، فهو دائمًا أبدًا في قلبها.

ليس في الدنيا فلاح يحافظ على تقاليد الفلاحة القديمة من عهد قدماء

المصريين، أو من عهد أبينا آدم إلا الفلاح المصري، فلو بعث فلاح من أيام

الفراعنة لرأى أخاه فلاح اليوم لم يخن الأمانة ولم يمد يده إلى آلة من آلات الزراعة

التي سلمها إليه بتغيير أو تعديل، فالمحراث والشادوف والطنبور والنطالة الخوص،

كلها بحالتها العتيقة كما تركها له، ووجده أيضًا لم يغير شيئًا من طرق الزراعة

القديمة، فلم يتفنن أو يجتهد، ولم يحسن نوعًا من أنواع المواشي أو المحاصيل،

ولا يزال طعمة التاجر والمرابي مهما سنت الحكومة من القوانين لحمايته.

فهل ينتظر من هذا الفلاح - وهو كل الأمة المصرية - أن يقبل على

الجامعات المصرية التي تدرس الفلسفة والتاريخ أو يقرأ الجرائد والمجلات العلمية،

أو يعلم ما تريد أن تعلمه إياه الحكومة بمنشوراتها ولوائحها؟ فإلى أي شيء تحتاج

الأمة المصرية إذن لترتقي وتعد في مصاف الأمم الحية؟ وما هو الدواء الذي

يشفيها من مرض الجهل، فتصبح أمة وكل فرد من أفرادها يعرف القراءة والكتابة

فتتفتح أذهانها وتعلم وترتقي؟

(أظن أن كل فاضل من القراء يفهم ذلك الدواء)

وهنالك جرائد مصرية أخرى ألحت على الحكومة مرارًا، وصاحت بوجوب

الشروع في تعميم التعليم الأولي والمسارعة إلى ذلك حتى تستطيع أن تخطو فيه

خطوات واسعة في القريب العاجل. انتهى نص الفقرات التسع مع تصحيح عبارات

قليلة صحفية من مقالة الأخبار، ويليها ما كتبه عبد الله أفندي أمين فيها وهو:

التعليم الأولي والإصلاح

نقد الفقرات 4 و5 و6 و7 و8 و9 و10 و11 و12

حاولت اللجنة في هذه الفقرات أن تقيم الأدلة على ما جاء في الفقرة الرابعة

منها من أن فشو الجهل بين جمهور الأمة يؤثر تأثيرًا سيئًا في حال البلاد، وأن

ضرره لا يقتصر على إضعاف الأفراد وتأخيرهم، بل يكون مانعًا كبيرًا وعائقًا

جسيمًا في سبيل الرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويقضي على أعظم

ضروب الإصلاح في مهدها، فلا تثمر ثمرتها ما دام معظم من يشملهم لا يفهم

حقيقتها، ولا يدري كيف يستفيد منها.

ومراد اللجنة من هذا الكلام إقناع أولي الأمر بوجوب الإسراع في تعميم

التعليم الأولي فحسب، وهو مراد شريف جليل، غير أنه شغلها عما سواه، ففاتها

أن تقصير الأهالي في قيامهم بنصيبهم من إصلاح الحكومة الاقتصادي والاجتماعي

والسياسي لقصور مداركهم، ليس أكبر من تقصير الحكومة نفسها وهي رشيدة

عليمة وبينها وبين الشعب (هوّةٌ لا تُعبر)(انظر 14 و15) في قيامها بنصيبها

وحدها من الإصلاح نفسه.

ولا شك أن قواعد الإصلاح وأصوله كلها ما كان منها من عمل الحكومة

وحدها، وما كان منها من عمل الشعب وحده، كسلسلة متصلة الحلقات يأخذ بعضها

بأطراف بعض ويقوي بعضها بعضًا، فلو أن الحكومة كانت مثالاً لشعبها فقامت

بنصيبها من الإصلاح لكان لهم فيها أسوة حسنة، ولغرس هذا النصيب في نفوسهم

سرورًا عظيمًا به، وشوقًا إلى القيام بنصيبهم من الإصلاح.

ولو أن الحكومة أكثرت من مستشفيات الأمراض ومستشفيات الأرماد المتنقلة

والثابتة، وأنشأت حمامات ومغاسل وأحواضًا لخزن المياه وترويقها في القرى؛

لأقبل عامة الشعب على هذه المنشآت إقبالهم الآن وقبل الآن على ما أنشئ من

مستشفيات الرمد، وهو عظيم جدًّا، ولآثروها على طب الشعوذة والتجارب الأهلية

الناقصة الفاسدة، وعلى الاستحمام وغسل الثياب في مياه الترع والمصارف الراكدة،

وعلى شرب ماء النيل العكر، وأصلح ذلك من أجسامهم ونفوسهم وعقولهم أكبر

إصلاح؛ لما فيه من وسائل حفظ الصحة، ومن الانصراف عن العادات السيئة

والتجارب السخيفة والاعتقاد الفاسد فيها.

ولو أن الحكومة قدرت مثلاً مكافأة لمن يبتدع مادة رخيصة جدًّا إذا مزجت

بالتراب جعلته صلبًا صقيلاً ترصف به الأرض وتيسر لها رصف الطرق الزراعية

الرئيسية، وغرست على جانبيها الأشجار الضخمة لدفعت عن الشعب عادية التراب

وما يحمل من جراثيم الأمراض المختلفة، وأظلته فدفعت عنه حرارة الشمس،

ولبعثت بذلك في نفوس الأهالي يقظة وانتباهًا لأمورهم في أشد الحاجة إليها،

انتباهًا لا يمكن أن يكون بالنصح والأوامر وحدها.

إن وسائل تربية الشعوب وتهذيبها كثيرة جدًّا، وكثير من هذه الوسائل من

عمل الحكومات، وهي أقدر على القيام بها من الأهالي وأولى بها منهم، غير أن

سكوت الحكومة وتراخيها وحاجة البلاد الظاهرة إلى العمل النافع فيها يدفع من لا

يقوى على الانتظار من أبناء الأمة العاملين المخلصين إلى القيام بما تحتاج إليه

البلاد غير ناظر ولا منتظر المسؤول عنها، وإن اعترضته في سبيلها العقبات من

قبل استعداد الأهالي وامتعاض الحكومات، وحسبنا دليلاً على ذلك ما قام به مجلس

مديرية الجيزة المحترم من إنشائه مستوصفين متنقلين في أنحاء المديرية سنة

1911م أيام رئيسه المفطور على الإخلاص والصراحة والغيرة والحزم والعزم

والثقة بالنفس وحب الإصلاح حضرة صاحب العزة عبد الرحمن فهمي بك.

أنشأ المجلس المحترم حينئذ هذين المستوصفين المتنقلين؛ لما كان يتوقعه من

الآثار الجليلة التي يتركانها في صحة الأهالي وأخلاقهم وعاداتهم وعقائدهم، وما

أعظم ما تركا من ذلك، فإن الذين عولجوا فيهما يعدون بالألوف، ولعل مصلحة

الصحة تذكر ذلك، وقد كانت أحق بهذا العمل منه غير أنها سكتت ولا تزال ساكتة

حتى مل الانتظار ونفذ الصبر.

إن اللجنة تعلم علمًا يقينيًّا أن التعليم وحده لا يصلح النفوس، فقد نقلت في

الفقرة (21) عن المستر لكي قوله: أجل إن التربية العقلية المحضة لا تحدث

تغييرًا أساسيًّا في خلق الرجال، وتعلم أن الأمة لا تغير ما بها حتى تغير ما بنفوسها،

فلا بد للحكومة الرشيدة التي توصف بأن بينها وبين عامة الشعب (هُوّةٌ لا تُعْبَر)

من أن تسعى جد السعي في البحث عن العلاج الناجح لتغيير شعبها ما بنفوسه،

شعبها المخلص الذي ضربت له اللجنة مثلاً الشعب الهندي؛ إذ نقلت في الفقرة

(19)

من التقرير: وأعني بهم الملايين من الفلاحين الفقراء المساكين الصابرين

الأذلاء الصامتين.

وما تلك الوسائل النافعة؟ تلك الوسائل هي الإصلاح الفعلي كإنشاء

المستشفيات وترويق المياه وغيرها، لا النصائح القولية والأوامر الكتابية التي لا

تغير من نفس ولا تحيي من عمل، لقد آن للحكومة الرشيدة أن تعدل عن الخطة

العتيقة البالية، وهي الإمساك عن وسائل الإصلاح الفعلية خوف زيادة الضرائب،

ولو زيادة طفيفة تقدر بالمليم، وتعمد إلى خطة المعلم الماهر والمربي الحاذق،

فتكون مثالاً حسنًا في الإصلاح لشعبها، فتأخذ بنصره أخذًا صحيحًا إلى منازل

النفع الحقيقية في الجسم والنفس والعقل من أقرب الطرق وأقومها، وألا تظن أن

نشر التعليم الأولي يكفي وحده لهداية الشعب وإرشاده إلى وجوه الإصلاح وحضه

عليها من غير أن تقوم هي بالأمثلة العملية منها فتوفى نصيبها من الإصلاح حقه؟

إنها إن ظنت ذلك وعولت عليه في كل ما تريد من وجوه الإصلاح على

التعليم الأولي وحده، وركنت إليه وألقت العبء كله عليه، خابت الآمال وضاع

الوقت سدًى.

***

التعليم الأولي والعالي

علم الحاكمين وجهل المحكومين

نقد الفقرات 2 و24 و125

استكثرت اللجنة في الفقرة (125)[2] من التقرير ما ينفق على التعليم العالي

بجانب ما ينفق على التعليم الأولي، وأنكرت الفقرة (24)[3] من الخطة التي

انتهجتها الحكومة المصرية - وهي متبعة في عهد المرحوم محمد علي باشا واضع

أساس النهضة الحديثة لمصر ورافع لوائها - بتعليمها الطبقة الراقية للأمة التعليم

العالي قبل تعليمها عامة الشعب (التعليم الأولي بلا شك) وعدت عملها هذا عملاً

مقلوبًا، وضربت لذلك مثلاً قول السير كلنتن دوكنز في الفقرة (2) [4] : إن التعليم

الأولي في مصر شبيه بهرم مقلوب رأسه إلى أسفل.

فكان هذا الاستكثار من اللجنة مع ذلك الإنكار المقرون بهذا المثال نصالاً حادة

تتناولها الحكومة إذا شاءت ومتى شاءت لتخز بها التعليم العالي، وأدلة واضحة جلية

على أن الأقاويل والآراء التي نقلتها اللجنة إلى تقريرها عن كبار المستعمرين قد

تركت فيها أثرًا جعلها ترى التعليم العالي بعين أجنبية لا تستطيع أن ترى بها محل

الحاجة وموضع النفع.

وإن من يحسن الظن باللجنة كل الإحسان - مثلي - لا يجد لها فيما يتلمس

من المعاذير إلا عذرًا واحدًا، وهو ما يخيل إلى المفكر في أول الأمر من أن البدء

بتعليم الولد الصغير التعليم الأولي، ثم التنقل به بعد ذلك في مراحل التعليم الأرقى

موافق سنة النشوء والارتقاء، أجل إن ذلك حق واضح، لكن لا بد معه للولد من

وصي رشيد يقلبه كيف يشاء، وينقله من حال إلى حال كما يريد، وإن ذلك الوصي

الرشيد يجب أن يكون منه؛ ليكون أخبر بحاجاته ومنافعه ومضارّه.

وإن الأمة لكذلك يجب أن يكون فيها ومنها ناس كبار العقول يقودونها إلى

السعادة ويرفعونها إلى أوج العظمة، لذلك كان تعليم طبقة راقية من الأمة علمًا راقيًا

قبل تعليم عامة الشعب العلم القليل موافقًا لسنة النشوء والارتقاء في الأمم، وقد

ضرب لنا التاريخ أمثلة كثيرة قديمة وحديثة دالة على أن أممًا كثيرة نهضت من

عثارها، ونشطت من عقالها بأفراد منها، فالعناية بتكوين أفراد أفذاذ في الأمة

تكوينًا فائقًا أحق وأولى بالتقديم من تعليم عامة الشعب تعليمًا أعظم ما يقال فيه: إنه

أولي.

هذا ما نراه ونشعر به، ولم يسعدنا الحظ قط بأن سمعنا أو قرأنا أن أمة

بأسرها أمسكت عن التعليم العالي جملة حتى تعلمت كلها التعليم الأولي، ثم أخذت

بعد في أسباب التعليم العالي، وإن أوتيت أوصياء حكماء رحماء بصراء أقوياء من

الأجانب.

على أن التعليم العالي لا يزال جنينًا في بلادنا، فأين بضع مدارس أميرية

عالية تدرس فيها بعض العلوم العالية من جامعات كبيرة تدرس فيها كل علوم البشر،

مع أن العلم الذي يدرس في مدارسنا العالية لم يكن له في البلاد من أثر ظاهر

نافع إلا ما كان من علم الطب.

لقد كان للجنة التي رأت حاجتها الشديدة إلى النظر في التعليم بوجه عام

(انظر آخر فقرة 1) أن تفتش عن حل آخر لإمكان تفرغ الحكومة للتعليم الأولي،

ذلك بأن ترى مثلاً أن في وسع الحكومة ضم مدارسها العالية إلى مدرسة جامعة،

وتأليف مجلس إدارة لها يؤلف من رجال الحكومة والأمة، وأن تشترك الحكومة

والأمة معًا في النفقة عليها على نحو الخطة التي خطتها للتعاون بين الحكومة

والهيئات النيابية في التعليم الأولي، فيكون دراجة لنقل التعليم العالي كله من يد

الحكومة إلى يد الأهالي، فتتفرغ الحكومة كل التفرغ للتعليم الأولي، ولا تشغل

نفسها بجامعة لها كما جاء في الفقرة (130) .

أما الهوة السحيقة التي لا تعبر بين المحكومين والحاكمين كما ترى اللجنة في

الفقرتين (14 و15) فالذي حفرها إنما هو التربية المدرسية لا العلم ذاته، فإن

الولد الذي يُنتزع من حضن أمه وأبيه، وينزع عنه زي بلاده، ويلبس الزي

الغربي، ويدفع إلى مدارس قد صبغت بالصبغة الغربية فقرة (2) وفقرة (88)

فيعمر فيها طويلاً لا تقع عينه فيها إلا على كتب سداها ولحمتها الروح الغربي

ومعلمين غربيين، أو ممن خلعوا عنهم رداء الوطنية الصحيحة من قبل، فيشب

على عادات وأخلاق تزهِّده في أمه وأبيه وسائر معاشريه كما تقول اللجنة في الفقرة

(17)

وتبعث فيه الغرور بنفسه، وأما أبعد الشقة وأعمق الهوة بينه وبين أهله لو

أتيح له أن يتم الدراسة في الغرب فيقيم فيه ردحًا من الزمن يفقد فيه لضعفه البقية

الباقية له من سجاياه الوطنية حتى المحمودة منها.

هذه الحال نشاهدها كل يوم في أكثر الشبان والشواب، وقد نسوا جميعًا

معارفهم وعلومهم، وبقي لهم من طرق التربية المدرسية أسوأ ما فيها وأردؤه،

فليست الهوة السحيقة البعيدة الغور بين الطبقة الراقية من المتعلمين وبين عامة

الشعب من تفاوت بينهم في العلم، بل من نقص في تربية الطبقة الراقية النفيسة

التي شوهت بتربية لا تلائم تقاليدنا وأمزجتنا وعاداتنا وحسبنا، دليلاً على ذلك ما

نجده فيمن يتخرجون في مدرسة المعلمين الناصرية ويرسلون إلى أوربا بعد أن

يكونوا صبغوا بصبغة وطنية محضة، فإنهم يعودون وهم إلى آلهم وعاداتهم

وتقاليدهم أقرب منهم إليها قبل أن يغادروا بلادهم؛ لأن العلم وسعة العقل والمدارك

من شأنها أن تنزع من نفس العاقل الوساوس والأوهام والخطأ الذي يدفع بكثير من

ناقصي العلم والمدارك إلى استصغارهم أوطانهم وآلهم، وإكبارهم الغرباء وكل ما

هم عليه لسبق أحرزوه في شيء من العلم والمدنية، حتى تعمّى عليهم الحقائق،

ويخلط عليهم الحابل بالنابل، ويلبس الحق بالباطل.

هذا هو السبب الحقيقي في الهوة بين الطائفتين، لا العلم العالي الذي تخشى

اللجنة انتشاره قبل التعليم الأولي، وإنا لنرجو بعد ذلك أن يكون هذا الخوف قد زال.

حضرت مرة مجلسًا جمعني بفتى ظريف، وبأبيه وعمه وطائفة من أقربائه،

وكان هذا الشاب في زي ظريف، ويحمل عصًا ونظارة ودبوسًا كلها من ذهب،

وأعجب من هذا وذاك أنه يلبس سوارًا من ذهب بساعة من ذهب، وقد جلسنا

طائفتين: إحداهما فيها أبوه وعمه وناس آخرون، والأخرى فيها هذا الفتى وكاتب

هذه السطور وابن عم له أكبر منه سنًّا ومقامًا، وكان هذا الفتى على أبواب السفر

إلى أوربا، وقد ضرب له أبوه على نفسه ثلاثمائة جنيه في كل سنة يتسلمها بيده

وينفقها كيف يشاء وفيما يريد، وهو مع ذلك يراه مقدارًا هينًا، وكنا إذا فتحنا عليه

باب النصيحة والإرشاد حاول إغلاقه واستخف بأبيه وهو على مسمع ومرأى منا، لا

لشيء آخر سوى الفرق بينه وبين زي أبيه والنزعات النفسية فيهما، أما المعارف

والعلوم فهو منها خالي الوفاض بادي الأنفاض قد نسي تلكم القشور التي قد حصلها

منها.

فمثل هذا سيعود من أوروبا وقد قطع آخر خيط يربطه ببلاده كلها لا سيما إذا

عاد وبيده شهادة، وأي خير يرجى من مثله لبلاده؟ وأين هذا الشاب المسكين

المغرور بنفسه من شاب تعلم في مدرسة صبغت بصبغة وطنية كمدرسة المعلمين

الناصرية مثلاً؟ وأتم الدراسة فيها، ثم سافر إلى أوربا.

_________

(1)

المنار: النشل والانتشال في العربية أخذ اللحم من القدر وله آلة عقفاء تسمى المنشال، ويطلق النشل على أخذ اللحم من العظام أيضًا يستعمله كتاب الجرائد في أمثاله من المعاصرين بمعنى الإنقاذ من هلكة حسية أو معنوية ولهذا المعنى في اللغة كلمة فصيحة وهي الانتياش، قال ابن دريد:

إن ابن ميكال الأمير انتاشني

من بعد ما قد كنت كالشيء اللقا.

(2)

[نص الفقرة 125] ليس الأمر مقصورًا على قلة مجموع الاعتمادات المخصصة بالتعليم بميزانية الحكومة بالنسبة لما في معظم البلاد الأجنبية، بل إن معظم تلك الاعتمادات ينفق على التعليم الراقي الذي لا ينتفع به سوى طائفة صغيرة ممتازة من الأمة لا تدفع سوى قسم ضئيل من النفقات التي يتطلبها تعليم أبنائها، أما سكان الأقاليم الذين تتوقف ثروة البلاد على كدهم ونصبهم فلا يكادون ينالون قسطًا من التعليم في مقابل الضرائب التي يقع معظمها على كاهلهم، وإذا استثنينا الإعانة التي تمنح المكاتب في المحافظات ومديرية أسوان وقدرها 7300 جنيه وما ينفق على مدارس المعلمين والمعلمات الأولية الأربع وهو 28802 من الجنيهات، وصافي ما ينفق على المدرسة الأولية الراقية للبنين والمدرسة الأولية الراقية للبنات وقدره 4000 جنيه، وصافي ما ينفق على ثلاثة المصانع (الورش) الأميرية وهو 18000 جنيه والإعانة المخصصة ببعض مدارس صناعية غير تابعة للحكومة وقدرها 10410 جنيهات- إذا استثنينا كل هذه المقادير ومجموعها 68000 جنيه أمكن القول بأنه لم يدرج شيء في ميزانية الحكومة لسنة 1918 - 1919 لتعليم طبقات الشعب، على أن معظم هذه المقادير يصرف في مدينتي القاهرة والإسكندرية ثم إن الثمانية والستين من آلاف الجنيهات التي تصرف في تعليم أبناء الشعب يقابلها 49000 جنيه تحصل من إيراد الأراضي والعقار الموقوف للإنفاق على المكاتب الأهلية أي: أن ما تنفقه الحكومة في الحقيقة من إيراداتها الخاصة في كل سنة على تعليم الشعب على نحو 19000 جنيه فقط.

(3)

[نص الفقرة 24] قال المستر أسكويث: (إن الحكم على مقدار رقي الأمة وفوزها في مضمار الحياة يجب أن يبنى على ما يتوافر لدى أدنا طبقاتها من الأمور الحسية والمعنوية) ويرى أنه لم يبن الحكم على ما وصل إليه القليلون من خيرة أفراد الأمة الذين ضربوا في التعليم الراقي بسهم، فإذا أردنا الوقوف على ما يتوافر لدى أدنى طبقات الأمة المصرية من الأمور الحسية والمعنوية وجب علينا أن نلقي نظرة إلى انتشار الأكواخ الحقيرة المبنية من الطين التي تضم بين جدرانها الإنسان وبهيمته وإلى شيوع القذارة والأوساخ وفشو العلل والأمراض وهلاك ثلث الأبناء في طفولتهم وانتشار الأمية بحال رائعة تعادل 96 في المائة من السكان وضيق المجال أمام الأفراد واقنصار كدهم على القوت اليومي، فهل إلى ترقية تلك الأحوال في الأمة المصرية من سبيل سوى تعميم التعليم؟ لا ومن العبث الاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى الرقي المنشود بالبدء بتعليم الطبقات الراقية قبل عامة الشعب أو بالاعتماد على ما يحدث من التأثر الذي ينشأ من اختلاط الطائفة القليلة المتعلمة بطبقات الشعب الجاهلة، بل إن الضرورة تقتضي بالنهوض بالتعليم العام وتتطلب نشر نور العرفان في الأمة

بأسرها:

كتبت على لوح الحقيقة حكمة أن الرقي شريعة الأحياء

ما لي أرى الإنسان يغمض عينه عن نور تلك الحكمة الزهراء

أفجد حتى صار أهلا لاسمه إن حق فخر الناس بالأسماء

أما نال ما تصبو إليه طباعه من درك أعلى ذروة العلياء

أم أعمل المكنون من قواته

كي يملأ الدنيا من النعماء

أنى يتوج بالكمال ولم يزل

في العلم معظمه من الفقراء

وكأن أهل العلم بين سواده بعض النجوم الزهر في الظلماء

أو بضعة من نسل عوج حولهم

جمع من الأقزام والضعفاء

(4)

نص الفقرة 2: لم يعزب عن أذهاننا من بادئ الأمر أن الموضوع يتضمن اعتبارات عدة عظيمة الشأن فقد قال اللورد مورلي العالم والسياسي الشهير: إن مسائل التعليم الأهالي كيفما تنوعت طرق حلها ذات اتصال بحياة الأمم وفنائها، وقال اللورد كرزن أيام كان حاكمًا على الهند:(إن طبيب الأمة الحقيقي هو ذلك الذي يصف لها أنجع وسيلة لتربية أبنائها) وتناول كل من اللورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) والسير أدون غورست في الملحق الذي ذيل به كتاب اللورد ملنر وهو (إنجلترا في مصر) البحث في وجوب اتباع خطة سديدة في التربية ترمي إلى تحسين حال الأمة عامة من الوجهتين العقلية والخلقية (انظر الفقرتين 6، 15) وقال السير كلنتن دوكنز في ملحقة لكتاب اللورد ملنر (صفحة 391) : (إن التعليم بمصر شبيه بهرم مقلوب رأسه إلى أسفل) والحقيقة أن حال مصر المالية كانت إلى عهد قريب تمنع من إعداد وسائل التعليم على اختلاف فروعه، ومن سد حاجة الأمة إليه سدًّا وافيًا وقد أوثر إنفاق ما يمكن بذله من المال في هذه السبيل على توسيع نطاق التعليم ذي الصبغة الأوربية الذي يتلقاه أبناء الأغنياء، فكانت النتيجة أن تعليم العامة لم يوجه إليه من عناية أولى الأمر إلا النزر اليسير لذلك رأينا أن واجبنا غير مقصور على درس موضوع التعليم الأولى من حيث كونه مسألة قائمة بذاتها منعزلة عن سواها، وأنه لا بد لنا من مراعاة ارتباطه بالخطة القويمة التي تتبع في التعليم بوجه عام.

ص: 201

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

‌الخيال في الشعر العربي

(2)

التخييل التحضيري

تتداعى المعاني بوسيلة التذكر للأسباب التي كنا بصدد البحث عنها، ثم

المخيلة تنتخب منها ما يناسب الغرض، وهذا العمل - أعني الانتخاب - يسميه

علماء النفس تخييلاً تحضيريًّا؛ لأنه العمل الذي تتمكن به المخيلة من استحضار

العناصر المناسبة للمرام.

تقتصر المخيلة عند الانتخاب على ما يدعو إليه الغرض، حتى إنها تأخذ الجسم

مقطوعًا من بعض الأعضاء التي لا مدخل لها في المعنى، فتتصور الجواد بغير

قوائم كما قال المتنبي:

أتوك يجرون الحديد كأنما

أتوا بجياد ما لهن قوائم

والعقرب بغير ذنب كما قال أبو هلال:

تبدو الثريا وأمر الليل مجتمع

كأنها عقرب مقطوعة الذنب

وربما انتزعت العضو من بين سائر الجسم كما أخذ ابن هانئ اليد، فقال:

ولاحت نجوم للثريا كأنها

خواتيم تبدو في بنان يد تخفى

وأخذ ابن المعتز القدم فقال:

وارى الثريا في السماء كأنها

قدم تبدت من ثياب حداد

وأخذ آخر القلب فقال:

نقل الجبال الرواسي من مواطنها

أخف من رد قلب حين ينصرف

***

التخييل الإبداعي

بعد أن تنتخب المخيلة ما يليق بالغرض من العناصر تتصرف فيها بالتأليف إلى

أن ينتظم منها صورة مستطرفة، ويسمى هذا التصرف تخييلاً إبداعيًّا، أو

اختراعيًّا.

ويجري هذا التخييل في التشبيه والاستعارة وغيرها.

فالتشبيه قد تحذف أداته كما في قول النابغة:

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

وعمل الخيال فيه هو إحضار صورة المشبه به - أعني الشمس والكواكب - وإلغاء

وجوه التباين بينها وبين المشبه - أعني الممدوح - وبقية الملوك، حتى يدعي

اتحادهما، ويصح الإخبار بأحدهما عن الآخر، وبنى على هذا الادّعاء أن ليس

للملوك مظهر، ولا تقوم لهم أمام هذا الملك سمعة، فإن الكواكب يتقلص ضوءها

ويغرب عن العيون مشهدها عندما تتجلى الشمس في طلعتها الباهرة.

وأما ما تذكر فيه أداة التشبيه، فلا أستطيع أن أعده في قبيل الخيال جملة،

كما أني لا أعزله عنه في كل حال، فإن كان فيه إخراج المعقول في صورة

المحسوس، أو المحسوس في صورة المعقول، أو إخراج الخفي إلى ما يعرف

بالبداهة، أو إخراج الضعيف في الوصف إلى ما هو أقوى فيه، فتصح إضافته إلى

الخيال؛ إذ له الأثر القوي في تقريره.

وأما عقد المشابهة بين أمرين متفقين في وجه الشبه من غير تفاوت، كالتشبيه

الذي يساق لبيان الاتحاد في الجنس أو اللون أو المقدار أو الخاصية، فلا يصح

نسبته إلى الخيال الشعري، وإن وقع في كلام مقفى، وإنما هو مما ينظر فيه

الباحث عن الحقائق كالفيلسوف أو الطبيب.

فلو اتفق أن وقف فتى بجانب ظبي وانطلقا في فسيح من الأرض، ولم يفت

أحدهما صاحبه قيد شبر، فبدا لك أن تتحدث عنهما فقلت: ولو في نظم

(كان فلان في سرعة عدوه كالغزال) لم يكن في هذا التشبيه شيء من الخيال؛

لأن عقد المشابهة بينهما في هذا الحال يشاركك فيه كل من شاهد الواقعة، وإنما

يمتاز التخيل بمثل قول الشاعر:

وفي الهيجاء ما جربت نفسي

ولكن في الهزيمة كالغزال

حيث إن الخيال بحث عن صورة المشبه به وهو الغزال، وانتقاها من بين سائر

الصور المتراكمة في الحافظة، ثم تصور انطلاق المنهزم وهو الشاعر نفسه،

وبالغ في مقدار سرعته إلى أن وقع التشابه بينه وبين الغزال.

وإن أردت أن تفرق بين التشبيه الذي يدخل في التخيل، والتشبيه الذي هو

حائد عن طريقته، فانظر إلى قول المجنون:

كأن القلب ليلة قيل يفدى

بليلى العامرية أو يراح

قطاة غرها شرك فباتت

تعالجه وقد علق الجناح

فترى الخيال هنا قد تجول حتى تصيد معنى القطاة، ووقع على الشرك، ثم

انتزع منهما هذه المعاني وهي وقوع القطاة في الشرك، وعلوق جناحها به، ومعالجتها

له كي تتخلص منه، وضم بعضها إلى بعض، فانتظم ذلك المعنى المركب، وانعقدت

المشابهة يبنه وبين حال القلب الذي وقع في حب العامرية، فأخذ يرتجف وجلاً من

لوعة الفراق.

ولو نظر شاعر إلى أزهار مفتحة بمكان منخفض من الأرض، وقال مثلاً:

هذه الأزهار في منظرها

وشذاها مثل أزهار الربا

لاستبردت شعره لأول وهلة، وأخذت تهزأ به كما هزأت بقول الآخر:

كأننا والماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

بيد أن ذلك التشبيه نفسه لو يصدر من العالم بالنبات في الرد على من يدعي

أن هذه الأزهار ليس لها لون ولا نفحات عاطرة، كالأزهار التي تنبت على الربا

لأصغيت إليه سمعك، وتلقيته منه بكل وقار، وما ذاك إلا لأن الأول قاله بوصف

كونه شاعرًا، ولم يأت فيه على عادة الشعراء بشيء من التخييل، وأما الثاني فإنما

ألقاه إليك في صدد البحث عن الحقيقة، فلا تنتظر منه أن يصله بشيء من عمل

الخيال.

والاستعارة يصنع فيها الخيال ما يصنع في التشبيه المجرد من الأداة، إلا أنها

تعرض عليك المشبه في صورة المشبه به على وجه أبلغ، ولا سيما إذا أضيف

إليها بعض معان عهد اختصاصها بنوع المشبه به، أعني ما يسميه البيانيون

ترشيحًا، ومن أبدع ما نسج على منوالها قول البارودي:

من النفر الغر الذين سيوفهم

لها في حواشي كل داجية فجر

إذا استل منهم سيد غرب سيفه

تفزعت الأفلاك والتفت الدهر

أراد الشاعر وصف قومه بأنهم أولو الصرامة التي تفرج الكرب المدلهمة،

والسطوة التي يرهبها كل خطير، فساق إليك هذا الغرض في صورة تنظر منها إلى

سيوفهم كيف تجرد حول الليلة الفاحمة، فيسطع نور الفجر الواضح في جوانبها،

وترى فيها الحسام الواحد كيف يسل من جفنه فترتعد الأفلاك ذعرًا، ويلتفت له

الدهر حذرًا خيل إليك أن الداهية ليلة ظلماء، وأن الفرج الذي ينبعث من مطلع

سيوفهم صبيحة غراء، وعبر عن الأولى باسم الداجية، وعن الثانية باسم الفجر،

وهذا التعبير الملوح إلى ذلك التخييل هو الذي يعنيه البيانيون بقولهم: استعارة

مصرحة.

ثم خيل الفلك إلى صورة من له قلب يفزّع، والدهر في صورة من له وجه

يلتفت، والتصريح باسمهما بعد هذا التخييل يدخل به الكلام فيما يطلقون عليه لقب

الاستعارة بالكناية، ويمكنك أن تفهم الفجر في البيت لمعان السيوف، وتألقها

المشاهد بالأبصار على نمط قول بشر:

سللت له الحسام فخلت أني

شققت به لدى الظلماء فجرًا

ولكنك تضيع من يدك ما أفاده الوجه الأول من أن النجدة في جانبها، والظفر

مقرون بطالعها؛ إذ لا يلزم من لمعانها في حواشي الداجية أن تطعن في لبتها،

وتقلبها بالفوز عليها إلى صبيحة مسفرة [1] .

ومن التخييل الذي لا يدخل له الشاعر من طريق تشبيه أو مجاز ما تشهد

لصاحبه بالحذق في الصناعة، وأنت تشعر بأنه عرض عليك الموهوم في حلية

المعقول كقول الطائي:

ولا يروعك إيماض القتير به

فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب

أخبر عن الشيب بأنه ابتسام الرأي والأدب الذين هما محبوبان

ومحترمان لكل أحد ابتغاء أن تأنس العين لرأيته، ولا تنظر إليه نظر الازدراء به،

وليس هذا من قبيل التشبيه؛ إذ لم يكن للرأي والأدب ابتسام يعهده السامع حتى

يقصد الشاعر إلى تشبيه الشيب به، بل أراد أن يخيل لك أن الشيب ابتسام في

الواقع، ولهذا تجد في نفسك ما يناجيك بأن صورة هذا المعنى غير مطابقة للحق،

وإن استحكم تأليفها ودق مأخذها.

ومنه ما يستملحه الذوق ويسعه نظر المحقق، وتجد هذا في قول زهير:

لو نال حي من الدنيا بمكرمة

أفق السماء لنالت كفه الأفقا

فهذا البيت لم ينسج على منوال تشبيه أو مجاز، وليس لك أن تطرحه من

حساب التخيلات المقبولة، وبلوغ كف الممدوح الأفق لا يتفق مع النظر الصحيح،

غير أن تعليقه على حصوله لإنسان من قبل، وإيراده عقب حرف الشرط الدال

على امتناعه قد خلصه من زلة الكذب وجعله في منعة من أن ينبذه العقل إلى

القضايا الوهمية.

***

فنون الخيال

يتصرف الخيال في المواد التي يستخلصها من الحافظة على وجوه شتى، ولا

يسع المقام استيعابها وتقصي آثارها، فنلم لك بمهماتها وما يصلح أن يكون بمنزلة

أصل تتفرع عليه تفاصيلها:

أحدها تكثير القليل؛ كقول عمرو بن كلثوم:

ملأنا البر حتى ضاق عنا

وظهر البحر نملؤه سفينا

فإنه اطرد في حلية الفخر حتى وصل إلى التعبير عن منعة الجانب،

والسطوة التي لا يفوتها هارب، فخطر له أن يثبت له ولقومه من القوة ووسائل

الفوز ما يرهبون به عدوهم، فذكر أنهم ملؤوا البر جندًا حتى لم يبق فيه متسع،

ويملؤون ظهر البحر بالمنشآت من السفن؛ ليدل بهذا على أنهم لا يبالون بالعدو من

أي ناحية هجم، ولا يتعاصى عليهم إدراكه في أي موطن ضرب بخيامه.

والذي صنع خيال الشاعر في هذا البيت أنه تجاوز في الإخبار بكثرة قبيلته

وسفنه حد الحقيقة، وتطوحت به نشوة الفخر إلى أن تخيل أن البر قد غص كما

تغص الثكنة بجنودهم، وأن البحر يتموج بسفنهم كموج السماء المصحية بكواكبها

الزاهرة.

ومنها: تكبير الصغير كقول بشر يصف (وقعة الأسد) حين قسمه بالضربة

القاضية على شطرين:

فخر مضرجًا بدم كأني

هدمت به بناءً مشمخرا

فقد تخيل عندما سقط الأسد إلى الأرض دفعة أنه أتى إلى بناء شامخ ونقضه من

أساسه، فانقضت أعاليه على أسافله، فالخيال هو الذي بلغ بجثة الأسد إلى أن

جعلها في العظم بمقدار بناء ارتفعت شرفاته حتى اتخذت من السحب أطواقًا.

ومنها: تصغير الكبير كقول المتنبي:

كفى بجسمي نحولاً أنني رجل

لولا مخاطبتي إياك لم ترني

وقوله:

ولو قلم ألقيت في شق رأسه

وخط به ما غير الخط كاتب

فالصب وإن تقلب على فراش الهجر أمدًا طويلاً، وأكل الوجد من لحمه حتى

شبع، وشرب من دمه حتى ارتوى، لا يصل في نحافة جسمه إلى أن يسعه شق

رأس القلم أو يخفى عن عين الناظر إليه، وإن كانت عشواء، وإنما هو الخيال أخذ

يستصغر ذلك الجسم حتى ادعى في البيت الأول أن مخاطبته للناس هي التي تهديهم

إلى مكانه فيبصرونه، ولولاها لبقي محجوبًا عن أبصارهم وإن وقف قبالتهم،

وادعى في البيت الثاني أنه لو وقع في شق اليراعة، وانطلقت به اليد في الكتابة

لاستمر الخط بحاله.

ومنها: جعل الموجود بمنزلة المعدوم كقول المتنبي:

ومطالب فيها الهلاك أتيتها

ثبت الجنان كأنني لم آتها

وصف نفسه بالإقدام على مواقع الردى واقتحام الأخطار بجنان ثابت وعزم لا

يتزلزل، حتى تخيل لقلة المبالاة بها وعدم الفزع لملتقاها أنه لم يكن قد خاض

غمارها، ورآها كيف تنشب أظفارها، وإنما نشأ هذا الخيال من جهة أن الخطوب

المدلهمة لا يسلم من روعتها والدهشة لوقعتها في مجرى العادة إلا من حاد عن

ساحتها، وجذب عنانه عن السير في ناحيتها.

ومنها: تصوير الأمر بصورة حقيقة أخرى، ولها في هذا المقام أربعة أحوال:

أحدها: تخيل المحسوس في صورة المحسوس كما في قول زهير:

يجرون البرود وقد تمشت

حميا الكأس فيهم والغناء

تمشي بين قتلى قد أصيبت

مقاتلهم ولم تهرق دماء

فهذا الشعر يصور لك من دارت نشوة السكر والغناء برؤوسهم، فأجهزت على

البقية من شعورهم، في صورة قتلى لم تهرق دماؤهم، بل زهقت نفوسهم

بمثل خنق، أو سقاء سم دب دبيب الخمر في مفاصلهم.

ثانيها: تخيل المعقول في صورة المحسوس كما في قول الشاعر:

مررت على المروءة وهي تبكي

فقلت علام تنتحب الفتاة

فقالت كيف لا أبكي وأهلي

جميعًا دون خلق الله ماتوا

تصور المروءة في زي فتاة، فتسنى له أن يسند إليها البكاء ويعقد بينه

وبينها هذه المحاورة.

ثالثها: تخيل المعقول في معنى المعقول، وهذا كمن تخيل المذلة في معنى

الكفر فقال:

أمطري لؤلؤًا جبال سرنديب

وفيضي أجبال تكرور تبرا

منزلي منزل الكرام ونفسي

نفس حر ترى المذلة كفرا

رابعها: تخيل المحسوس في صورة المعقول، وهذا لم نعثر له على مثال في

كلام العرب، ولكن التشبيه الذي هو أساس هذا الفن قد جرى في كلام المولدين

بإيراد المحسوس في معرض المعقول، كقول التنوخي:

فانهض بنار إلى فحم كأنهما

في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا

وقول الفاروقي:

تمر مع الأتراب بالخيف من منى

مرور المعاني في مفاوز أفكاري

وقد يعمد الشاعر إلى بعض المعاني وينفيه عن أفراده المعهودة ويثبته

لأفراد مفهوم آخر، وتجد هذا في قول بعضهم:

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبًا

كاسفًا باله قليل الرجاء

فقد نفى أن يكون من قضى نحبه ميتًا، وأطلق اسم الميت على من فاضت

نفسه كآبة، وضاق صدره يأسًا على طريقة القصر بدعوى أن المعنى الذي علق

عليه الواضع اسم الميت إنما يتحقق فيمن عاش في نكد وبلاء لا يرجو خلاصًا منه،

والذي أخذ به إلى هذه الدعوى ما تخيله من أن خواص الراحل إلى قبره وهي

مفارقة ما كان يتمتع به من طيبات الحياة وانقطاع أمله منها، ونكث يده من العمل

فيها توجد بأجمعها في الكئيب اليائس من صفاء العيش بأشد مما توجد فيمن ركبوا

على مطية المنون؛ لأنه يزيد عليهم في الشقاء بأنه يصلى نار الحسرة والأسف

بكرةً وعشيًّا.

وقد يكون الأمر مربوطًا بعلة محققة ظاهرة، فيضرب عنها ويخترع له

علة من عنده، ونجد هذا في قول أبي العباس الضبي:

لا تركنن إلى الفراق

فإنه مر المذاق

فالشمس عند غروبها

تصفر من فَرَقِ الفراق

ادعى أن العلة في الاصفرار الذي يبدو على وجه الشمس حين تتدلى إلى

الغروب وتنطفئ بهرتها، إنما هو الوجل والهلع من مفارقة الناس الذين طلعت

عليهم ذلك اليوم حيث اتصلت بينهم وبينها فيما يزعم عاطفة ألفة وإيناس.

ومما صنعت على هذا النمط، وقد أخذ البرد يتساقط في حديقة:

هز النسيم غصون الروض في سحر

كما يهز بنان الغادة الوترا

لذ الحفيف على أذن السحاب أما

تراه يحثو على أدواحها دررا

وقلت وقد أخذت الريح تنسف في روض:

قام هذا الروض يشدو مادحًا

بلسان البلبل الزاهي سحابا

وتمادى غاليًا في مدحه

فحثت في وجهه الريح ترابا

وقلت في حال أشجار تراكم عليها الثلج، ثم ضربت فيها الشمس فأخذ

يتقاطر على جوانبها:

نسج الغمام لهذه الأشجار من

غزل الثلوج براقعًا وجلاببا

والشمس تبعث في الضحى بأشعة

تسطو على تلك الثياب نواهبا

فبكت لكشف حجابها أو ما ترى

عبراتها بين الغصون سواكبا

وقلت في حمرة الشفق:

قتل الدجى هذا النهار ودسه

تحت التراب مضرجًا بدمائه

فخذوا من الشفق الشهادة إنه

لطخ من الدم نال ذيل ردائه

وربما يصاغ التعليل في قالب التشبيه كقول أبي تمام:

كأن السحاب الغر غيبن تحتها

حبيبًا فلا ترقا لهن مدامع

فلو حذفت أداة التشبيه هنا لكان الباقي بمنزلة العلة الخيالية لنزول الغيث

المنسجم من ينابيع السحاب، واقترانه بأداة التشبيه يجعله بحيث يسكت عنه العقل

ولا يمانعه من أن يدخل في سبيل المعاني الصادقة.

ومما نظمت على هذا المثال وكان الجو يقذف وقت السحر بنثار من الثلج:

تطاول هذا الليل والجو مزبد

فضاقت بأمواج الثلوج مسالكه

كأني أذيب الصبح بالحدق التي

يقلبها وجدي وتلك سبائكه

وقد يقرر الشاعر معنى، ثم يقابله بأمر أوضح منه عند المخاطب دون أن

يصرح فيه بأداة تشبيه، بل تكون مصدرة بأداة استفهام، كقول مسكين الدارمي:

وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه

وهل ينهض البازي بغير جناح

أو بأداة التوكيد بالفاء كقول بشار:

فلا تجعل الشورى عليك غضاضة

فإن الخوافي قوة للقوادم

أو بالفاء وحدها كقول بعضهم:

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب

فالطير يرقص مذبوحًا من الألم

ولنوجه البحث إلى معنى البيت الأول، ثم لا يشتبه عليك بعد تحرير

الغرض منه أن بقية الأبيات جارية بمعنى التمثيل، أو ذاهبة مذهب الاستدلال

والتعليل.

صدر الدارمي البيت بجعل ابن عم المرء بمكان الجناح له، والشطر الثاني

ينفي عن البازي أن ينهض بغير جناح، ومعنى الشطرين لا يلتئم إلا بملاحظة

جملة مطوية ما بين الصدر والعجز لم يفصح عنها الشاعر لسهولة مأخذها، وبعد

ملاحظة تلك الجملة يكون مفاد البيت أن ابن عم المرء بمنزلة جناحه، فلا يقدر أن

يقوم بأعباء الحياة أو يدرك فيها غاية شريفة إلا بمعاضدته، كما أن البازي لا

ينهض إلى الطيران إلا إذا ساعده جناحه، فالقصد تمثيل حاجة الإنسان إلى ابن

عمه بحاجة البازي إلى جناحه، وليس القصد الاستدلال حتى يلتحق ببيت أبي تمام

المسوق فيما سلف للاستشهاد على التخييل الذي يراد منه المخادعة، وقول الدماميني:

فلا تعجبوا يومًا لكسر جفونها

فإن إناء الخمر في الشرع يكسر

فالأسلوب في نفسه وارد في الغرضين، غير أن فحوى الكلام ومجرى

الخطاب وطبيعة المعنى تصرفك إلى التمثيل، أو تأخذ بك إلى الاستدلال والتعليل.

وقد يعمد إلى أمرين يعدهما الناس بشدة التباين وغاية الاختلاف، فيعقد بينهما

تشابهًا، وتجد هذا في قول المعري:

وشبيه صوت النعي إذا قيس

بصوت البشير في كل ناد

أبكت تلكم الحمامة أم غنت

على غصن دوحها المياد

فالمعهود أن النفس ترتاع لصوت النعي وتتفطر حزنًا، وترتاح لصوت

البشير وتأنس له طربًا، ولكن الحكيم يغوص في أعماق الحوادث، وينظر إلى ما

تصير إليه من العواقب، فيتراءى له أن ليس في الحياة ما يدعو إلى لذة أو يستثير

النفس إلى جزع، فتكون نغمة البشير وصيحة الناعي في أذنه سواء، ولا يرى

فارقًا ما بين النواح والحداء.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: هذان البيتان من قصيدة للبارودي يعارض بها رائية أبي فراس المشهورة: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر، وقد أشرنا إليها في ترجمته من مجلد المنار السابع وذكرت البيتين وعلقت عليهما بعبارة لا بأس بذكرها هنا؛ لأنها في الإشارة إلى ما فيهما من الخيال هي: ويا لله ما أرق حاشية قوله: لها في حواشي كل داجية فجر، وما أدق غزل خياله فيه، وأما البيت الثاني فإنه ليكاد يروع ببلاغته السامع حتى يخيل إليه أن الأفلاك تصدعت مما تفزعت فيلمس رأسه مخافة أن يصيبه كف منها ويتمثل له الدهر رجلاً فجئه العجب، فالتفت إلى السبب، وليكاد يلفته ما يتخيل من التفات الدهر، ويلم به الدهش والذعر، أو يذهب به الوهم إلى أن التفات الدهر هو التفات أهله فيحسب كل فرد من الناس قد ألوى عنقه وشخص ببصره منتبهًا ينظر ما يكون من فعل ذلك السيف المستل، في يد ذلك البهمة الأمثل، وجملة ما يقال في البيتين: إن هذا لهو السحر الذي يأخذ المرء عن نفسه، ويحكم سلطان الخيال في عقله وحسه.

ص: 218

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(تفرق العرب واختلافهم في جزيرتهم)

كان لما كتبناه في الجزأين الأخيرين بشأن العرب وجزيرتهم استحسان عظيم

عند أولي الرأي والغيرة من قراء المنار، ومثله ما كتبناه في المجلد الحادي

والعشرين في مسألة الخلاف بين الحجاز ونجد، تبين لنا ذلك من حديث من كلمنا

في هذه المسألة في سورية؛ إذ كنا فيها عند نشر ذلك، ثم من كلمنا في مصر في هذا

وذاك.

وأكبر مصائب العرب بأئمتهم وأمرائهم أنهم قد ازدادوا تفرقًا وتعاديًا وعدوانًا

وتقاتلاً بقدر اشتداد الحاجة إلى الاتفاق والتواد والتعاون فيما بينهم، وقد رأينا في

جريدة القبلة المكية التي هي لسان حال حكومة الحجاز ورأيها مقالاً في التعادي

والتقاتل بين العرب السعوديين ومن يتصل بهم من عرب نجد والكويت واليمن،

وبين عرب عسير الإدريسيين وعرب اليمن العليا التابعين للإمام يحيى، وهذه

الجريدة تلقي تبعة ذلك على الإمام ابن سعود وعلى السيد الإدريسي اللذين كان

بينهما وبين الشريف والملك حسين من التعادي والتقاتل ما كان.

نحن عرب نغار على جميع العرب، ومسلمون نفضل بلاد الحجاز على سائر

بلاد العرب والعجم، ونهتم بأمر حفظها وصيانتها فوق اهتمامنا بسائر بلادنا

وأوطاننا، وقد حرم الله تعالى مكة على لسان نبيه وخليله إبراهيم، والمدينة على

لسان خاتم رسله وسيد ولد آدم محمد -عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام - فلا

يجوز أن يقع في هذين الحرمين قتل ولا قتال، ولا أن يكونا موضعًا للمنازعات

الحربية ولا السياسية؛ لأنه قد تفضي إلى الحرب.

لما وقع التقاتل بين الحجازيين والنجديين اقترحنا على إمامي أقوى الحكومات

الإسلامية العربية المجاورة للحرمين التصدي لإصلاح ذات البين، ولو بقتال الفئة

الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، ولكن مثل هذا الاقتراح لا ترجى فائدته بالإخلاص

الذي يطلبه المسلمون الذين ليس لهم هوًى ولا منفعة بنصر إحدى الطائفتين على

الأخرى، وإننا نخشى أن نرى الحرمين في يوم قريب ميدان قتال يتعذر إقامة ركن

الحج في أثنائه، وتنتهك فيه حرمة بيت الله تعالى وحرمه، أو حرم رسوله -

صلى الله عليه وسلم، فلعلنا في ذلك نعرض على أهل الرأي والحصافة والمكانة

من المسلمين الاقتراح الآتي:

* * *

(اقتراح لصيانة الحرمين الشريفين من الحرب وعمرانها وأمنهما)

للقطر الحجازي صفة لا يشاركه فيها قطر آخر من أقطار الدنيا، فكل قطر

سواه لأهله الامتياز فيه على غيره بالحكم والتصرف في حكومته وأرضه ومرافقه،

ولحكومته أن توالي وتعادي وتحارب وتعاهد من تشاء، وتمنع من دخوله عند

الحاجة من تشاء، وتأذن فيه لمن تشاء بحسب قوانينها والقانون الدولي العام.

وأما الحجاز ففيه حرم الله وحرم رسوله اللذين حرم الله فيهما ما لم يحرم في

غيرهما، كأكل الصيد وترويعه وقطع الشجر وغيره من النبات، وشرع فيه من

العبادة ما لم يشرعه في غيره، فأوجب على مسلمي جميع الأقطار الحج والعمرة فيه،

وندب الرسول صلى الله عليه وسلم شد الرحال إلى مسجديه وجعله؛ أي:

القطر - خاصًّا بالمسلمين كمعابدهم، لا يباح لغيرهم الإقامة فيه كما أوصى

صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وامتن الله على عباده بجعل جوار بيته

حرمًا آمنًا، وجعله مثابة للناس وأمنًا وقال فيه:{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل

عمران: 97) ، وقال: {وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ

وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) ، وقد ورد في

التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أن خلق

الله فيه سواء، لا فرق بين المقيم بمكة وغيره ممن يحجه من سائر الأقطار، وأنه

يجب على أهل مكة أن لا يمنعوا أحدًا من الحاج مشاركتهم في سكنى بيوتهم،

وحرم بعض السلف أخذ الأجرة منهم، وكرهها بعض آخر، بل رووا في ذلك

أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن رسول الله صلى الله

عليه وسلم توفي، وتوفي من بعده أبو بكر وعمر، وما كانت رباع مكة تدعى إلا

السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وكانوا ينهون أن يكون لبيوتها

أبواب؛ لئلا يكون منعًا من دخولها، وليس هذا الاقتراح بالذي يتسع لنقل الروايات

ومذاهب الأئمة فيها، وربما خصصنا له مقالاً بعد.

وقد روي عنهم في تفسير الإلحاد والظلم في الحرم تشديد عظيم، فلم يخصوه

بارتكاب ما حرمه الله هنالك مما حرمه في غيره وما لم يحرمه إلا فيه، بل جعلوا

من معناه مضاعفة السيئات، وكون الصغيرة في غيره كبيرة فيه، حتى شتم الخادم،

وكذلك الهم بالسيئة والعزم عليها ولو قبل الوصول إلى مكة، وفي الحديث:

(احتكار الطعام بمكة إلحاد)، وفي رواية: في الحرم، بدل مكة، وقال ابن عباس:

(تجارة الأمير بمكة إلحاد) .

قصر المسلمون فيما يجب عليهم للحجاز، فلم يقوموا به حق القيام، ولم

ينفذوا وصية الرسول الأخيرة فيه، وهو المقصود الأهم من وصيته في جزيرة

العرب، حتى زعم بعض العلماء أنه هو المراد بها، خلافًا للمتبادر من لفظ الحديث،

ولا مراء في أن الحاجة إلى العناية به في هذا الزمان أشد من كل الأزمنة الماضية

من وجوه كثيرة - ليس هذا محل شرحها - فأكثر مسلمي هذا العصر تابعون

لحكومات غير إسلامية تهتم بحمايتهم وشؤونهم في سفرهم إلى الحجاز، فإذا وقع فيه

قتال، فإنها تمنعهم من أداء فريضة الحج في أثنائه، وإذا كان لحكومة الحجاز ما

لسائر الحكومات من حق قطع العلاقات الودية وإعلان الحرب على أي دولة يقع

بينها وبينها ما يقتضي ذلك، فإن هذا يبيح للدولة المحاربة لها الهجوم على الحرمين

والاستيلاء عليهما، أو حصرهما ومنع الأقوات وغيرها عنهما، كما أنه قد يدعو

الدول الأجنبية إلى منع رعاياها المسلمين من السفر إليه للحج، ولا سيما إذا كانت

معادية، وكل هذا ينافي مصلحة المسلمين العامة، وليس فيه منفعة دينية ولا دنيوية

ترجح على المفاسد الكثيرة التي اكتفينا بالإشارة إليها عن شرحها وتفصيل القول

فيها.

وإنما المصلحة الإسلامية العامة أن يكون الحرمان الشريفان وسياجهما

من البلاد قطرًا حرًّا مسالمًا لجميع الأمم والدول؛ ليكون مصونًا من الاعتداء عليه

وانتهاك حرمته، ويكون ركن الحج من أركان الإسلام قائمًا أبدًا، بل ليتحقق وإنما

جعل الله تعالى إياه حرمًا آمنًا، وكونه لجميع المسلمين سواء العاكف فيه والبادي، لا

تعدي فيه ولا إلحاد.

فنقترح على أهل الغيرة الإسلامية من مسلمي الحجاز وسائر الأقطار أن

يسعوا إلى هذه المصلحة سعيها، وهي تتوقف فيما نرى على وضع نظام لحكومة

الحجاز يبنى أساسه على جعل الحجاز قطرًا سلميًّا على الحياد، لا تكون حكومته

خصمًا ولا عدوًّا لدولة من الدول، ولا حكومة من الحكومات، فلا تعتدي ولا يعتدى

عليها، ولا تخاف ولا يخاف منها، وأن تسعى هذه الحكومة بمساعدة أهل النفوذ من

مسلمي جميع الأقطار إلى حمل جميع الحكومات المجاورة لها وسائر الحكومات التي

لها رعايا مسلمون يركبون متون البحار ويشدون الرحال إلى الحرمين الشريفين

للنسك والعبادة فيهما، ونظن أن جميع الدول تجيب إلى هذا ولا تعارض فيه.

نعرض هذا الاقتراح مجملاً على العالم الإسلامي، وفي مقدمته حكومة الحجاز

وأشراف الحرمين وعلمائه؛ لبيان الآراء التفصيلية فيه بنشرها في الصحف

الدورية، والمنار مستعد لنشر ما يأتيه فيه، وإن كان لا بد من التذكير ببعض

التفصيل فيه فليكن اقتراح إنشاء محكمة إسلامية بمكة، يكون لكل قطر إسلامي حق

تمثيله فيها بعضو من علماء الشرع المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية التي يستقبل

المتبعون لها هذا البث في صلاتهم، ويحجونه لأجل محاكمة من يعتدي في تلك

البلاد على مال غيره أو بدنه، أو عرضه أو شرفه، ومنه الطعن في المذاهب،

فإن ضمان حرية كل منتم إلى مذهب من مذاهب المسلمين في تلك البلاد التي لهم

حق أداء النسك فيها يستلزم أن لا يطعن أحد منهم في مذهب الآخر، وهو من أكبر

الإلحاد في الحرم.

بل إذا قيل: إنه ينبغي أن يكون لجميع الشعوب الإسلامية حق المشاركة في

تأمين هذا القطر المقدس وحمايته، ومراقبة إقامة الشعائر فيه مع منع الظلم، كما

أن عليهم أن يتعاونوا على كفاية أهله الحاجة، وإغناء أعرابه عن التعدي، وعلى

نشر الدين والعلم فيهم، وجعل المسجدين الأشرفين مثابة للناس في العلم وفي العبادة

جميعًا - إذا قيل هذا كله رجونا أن يتقبله جميع المؤمنين الصادقين بقبول حسن

ويتكاتفوا على القيام به حق القيام.

لعل الملك حسينًا يقبل هذا الاقتراح ويبادر إلى تنفيذه برأي كبار الشرفاء

والعلماء في مكة المكرمة بأن يضموا له مشروع النظام وينشر في جريدة القبلة،

وترسل منه نسخ إلى المدن الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب والجنوب والشمال

لأخذ رأي أهل العلم والخبرة فيه، ويضرب موسم الحج القابل موعدًا لتنفيذه بعد

جمع الآراء وتمحيصها فيه بعرضها على لجنة تؤلف من خيار حجاج هذه الأقطار

علمًا ورأيًا، وحينئذ يكون سعي هؤلاء المسلمين لموافقة الحكومات على حياده وأمنه

مرجو النجاح في أقرب وقت.

وإننا نرى أن هذا المشروع إذا تم يسهل ما اقترحناه في الجزء الذي قبل هذا

من إنشاء مجلس تحكيم لما يقع من الخلاف بين أمراء العرب إذا وفقوا لعقد الاتفاق

الذي يتمناه لهم كل عربي، بل كل مسلم يفقه الإسلام ويغار على مصالح أهله، بأن

يكون هذا المجلس في مكة المكرمة، بل يترتب عليه تعاون جميع المسلمين على

عمران الحجاز وتسهيل طرقه وتكثير موارده وتموين أهله ونشر العلم فيه، وغير

ذلك من المصالح والمنافع، والله الموفق.

* * *

(كلمة للصحف الإسلامية)

نرجو من حرفائنا الكرام أصحاب الصحف الإسلامية في جميع الأقطار أن

يبينوا رأيهم في هذا الاقتراح، ويحثوا قراءهم على القيام بما يرونه فيه.

_________

ص: 227

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وثائق تاريخية في المسألة العربية

نشرنا في مجلدات المنار (19، 21) عدة وثائق وحوادث يصح أن يرجع

إليها في تاريخ ما يسمى المسألة العربية، وسننشر في هذا المجلد وثائق أخرى من

رسمية حقيقة أو حكمًا، وغير رسمية ما يعتمد في ذلك، ونذكرها بالعدد.

(1)

(كتاب من ملك الحجاز إلى نائب ملك الإنكليز في مصر)

هذا الكتاب نشر في العدد 291 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في

23 رمضان سنة 1338 الموافق 10 يونيو سنة 1920 بعد مقدمة وجيزة، ويليه

تعليق عليه في الافتخار به من قبل الجريدة، ونحن ننقله عن هذا العدد، وإن نشر

بعده مرة أخرى، وهذا نص ما جاء فيه تحت عنوان:(الأسى والحزن) :

إذا تأملنا ما هو واقع في ساحل البلاد على البحر المتوسط وشماليه مما تنقله

الصحف وترويه البرقيات من الحوادث والبواعث تجد أن قولنا: (الأسى والحزن)

لا يفي عن تعبير تلك الحالة، وليس لنا ما نقوله عنها إلا: ينتقم الله من أنور

وطلعت وإخوانهم ومن نحا نحوهم وآلهم وشيعتهم، لنا ولكل سكان الدولة التركية من

سلطانها إلى راعي غنمها بما جروه على تركيا؛ بإلقائها في هاويتهم الحاضرة التي لا

يعلم شأن نتيجتها والتي تنقل لنا تفاصيلها صحف العالم بأسره مما يجعلنا في دعة

وسكون، أن لا نتكلم أو نبحث عما كانت ترمينا به سهام الأغراض على اختلاف

نزعاتها مما يجعلنا أن نقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 105) .

ولحسن الحظ متعنا بالوقوف على صورة تحرير من مولانا المنقذ [1] بتاريخ

20 ذي القعدة سنة 1336 نفس علينا مآله شيئًا مما نجده عن حالة البلاد العربية،

وما يقال عن قيامها وخروجها عن المهالك (الأنورية) والجنايات (الطلعتية)

وهذه صورة الكتاب:

(صورة تحريرنا لفخامة نائب الملك بمصر بتاريخ 20 ذي القعدة سنة 1336)

ما رأيته خصوصًا بهذا الأثناء من اعتناء فخامتكم وتأكيداتها في إزالة أسباب

دواعي سوء التفاهم الذي لا أرتاب بأن المقصود بذلك الاعتناء هو صيانة تأثر

حسيات مخلصكم خاصة، لذا ولما تكونه المواد البسيطة أيضًا من ذلك المعنى

رأيت أن أتبين من حكومة جلالة الملك في الأساس المقرر مع عظمتها في النهضة،

وما بنيت عليه من مواد الاتفاق المقدم بطيه بيانها بأني ما طلبت للبلاد أمام حكومة

جلالة الملك ما طلبته من المواد التي تعهدت عظمتها بها رغبة مني في تأسيس

حكومة، أو تشكيل دولة لأستأثر بحاكميتها أو حرصًا على جاهها أو رياستها لكن

عندما دعتني بريطانيا إلى ما دعتني إليه، وعلمت أن مقاصدها بهذا أيضًا تأمين

مصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة، لم يسعني إلا الإجابة وطلبي أقله تلك

المواد المؤدية في اعتقادي لما يأتي:

أولاً: لحفاظة الكيان للعالم الإسلامي بالنظر لما حل وما سيحل بتركيا.

ثانيًا: صيانة العظمة البريطانية من الاستهداف مما سترمى به عكس

مقاصدها.

ثالثًا: سلامتي من الاتهام بالتواطؤ معها ضد الأساس المقصود بالنهضة.

نعم، إني لم أجد من جناب الفاضل الأديب المستر أستورس عند اجتماعي

بحضرته في السنة الأولى بجدة، ثم بعده بحضرة الشهم الهمام السير مارك سايكس،

ثم في السنة الماضية بالقومندان الهمام هوغورت الموقر ما يشير إلى ما يخالف أو

يخل بتلك المقررات، غير أن ما في طبيعة مشروعنا وتتماته الحياتية من الرقة وما

يتصادف من بعض حالات يستدعي سياقها زيادة تعين الأمر وتأكد الحقيقة عن

الحدود فقط، وإلا باقي المواد فإنا لنعجز عن أداء شكر الوفاء بها شكرًا يملأ

الخافقين، خصوصًا أمر الإعانات عما لو فهمت الغلط في مقرراتنا المذكورة أساسًا

أو حدث ما يوجب تعديلها الأمر الذي لا أقول: إنه يمس كيان العالم الإسلامي.

ولكني أظن، وبعض الظن إثم أنه لا يخلو من شيء من ذلك. هذا على فكري

الخصوصي، فمتى أضفنا عليه تظاهر عجزي بعدم حصول ما كان يؤمل من

النتائج؛ يتحتم علي الانسحاب من الأمر والتنازل عنه؛ لاعتقادي الشخصي أن تعديل

مقرراتنا المذكورة بصرف النظر عما في إخلاله بالغايات المقصودة الأساسية،

وعرضتنا لحذر موادنا الثلاثة آنفة البيان وطمس صحيفة تاريخي، فهو يزيل

ويسقطني من ثقة واعتماد بلادي وأقوامي الأقربين حينما يظهر لهم عكس تلك

المقررات التي أعلنتها لهم، وصرحت بها شفاهًا وتحريرًا في ظرف هذه المدة،

وأسست عليه الأعمال، وأكون خدعت نفسي وغششتكم يا أصدقائي بما وراء هذا

من اضطراب البلاد بالفتن والثورات ونحوها مما لا يمكن لي معه حتى الاستفادة

لذاتي، وما يزيل حسن كل ظن حكومة جلالة الملك بي، وأكيد إخلاصي يجبرني

أن أقول من الآن: إن مبادي هذه الخطرية على وشك التحسس بها بالنسبة للطلبات

المتكررة المختلفة عن أمرهم بإعلان استقلال بلادهم، ولم أجد ما أدفعهم به إلا

قولي: إن استقلالي هو استقلال عموم أنحاء البلاد. ولكنهم يقيموا الحجة على دفعي

هذا بأوجه أخر، وعليه فإن كان ولا بد من التعديل، فلا لي سوى الاعتزال

والانسحاب، ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا، إلا أنه أمر يتعلق

بالحياة لا لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وإنها لا ترتاب في أني وأولادي

أصدقاؤها الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء. ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا

فيها بالسفر إليها في أول فرصة، وإن رأت ذلك، ولكن مشاكل الحرب الحاضرة

تقتضي بتأجيله إلى ختامها، فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما

سيتضاعف علينا من التهمات ونحوه من العموم مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حسن

النية، فالأمر إليها، أما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح، فالجواب عليه من الآن

بأن لا علاقة لنا به، ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر

المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا، وكان ذلك عن غير وساطتكم وقبلناها، فنكون

من المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا، الذي أتوسل

إليه بكل آلائه أن يتولانا جميعًا بعنايات رأفته الأحدية، وقبول ما أقدمه لفخامتك في

الختام من جزيل احتشامي هو من سجايا شيمكم ، انتهى.

* * *

(القبلة)

بالطبع إنا لا ندري ما كان من الرد على هذا التحرير السامي، ولا عن مواد

الاتفاق، ولكنا ندري أنه بأدنى تأمل بسيط يتضح أن هذا التحرير لم يدع نقطة

مادية أو معنوية تتعلق أساسًا بأساس (النهضة) وسائر محتوياتها، وما بنيت عليه

في ذاتها وما يتعلق بالعالم سواء في الماضي أو الحال أو الاستقبال، لا، بل

بالاختصار نقول: إنه أحصى ذرات كل ما يتعلق بها بسائر الأوجه.

فماذا عسى أن يقول القائلون في هذا التنبؤ السياسي ونزاهة الضمير عن

الذاتيات والشخصيات في كل ما يتعلق بنفس (النهضة) أو بالعالم؟

وكيف لا نقول بهذا التنبؤ في التحرير العالي، وهو صادر منذ سنتين تقريبًا؟

فليتأمل المتأملون، وفي هذا فليتنافس المتنافسون، ولمثله فليعمل العاملون.

نعم، كيف لا نقول ذلك ونحن نرى الأمم الأخرى تتباهى بالجزئية مما احتواه

تحرير مولاه المنقذ؟

فلا عجب على (القبلة) أن تقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) .

ومتى كانت الأعمال على مثل هذا الأساس فلا علينا من الوسواس والخناس

من الجنة والناس اهـ تعليق جريدة القبلة) اهـ.

(المنار)

نشرنا كل ما تقدم بحروفه، ومتى عادت حرية النشر إلى ما كانت

عليه نقول في هذه الوثيقة التاريخية وأمثالها كلمتنا التي نظن أنها لا تخطر لأحد من

محزري جريدة القبلة على بال.

2 -

3 - 4

(حديث الأمير فيصل، رواية حكومة مكة عن معاهدتها مع إنكلترة، رواية

الوزارة البريطانية فيها)

جرى حديث للأمير فيصل مع صاحب جريدة المفيد الدمشقية في الشام

يتضمن ذكر بعض الوثائق الرسمية بين والده ملك الحجاز وبريطانية العظمى،

نشرته هذه الجريدة في عددها الذي صدر بدمشق في 26 جمادى الأولى سنة 1338

(الموافق 15 شباط (فبراير) سنة 1920) بعنوان: (حديث سياسي مع سمو

الأمير فيصل، وثائق رسمية لم تنشر حتى الآن) ، وهذا نصه:

(مقدمة جريدة المفيد)

لا ريب في أن كل عربي تهمه مصلحة البلاد العامة يتطاول إلى الوقوف على

سير السياسة العربية، ويود معرفة ما قام به سمو الأمير فيصل، وما هو موقف

سموه تجاه السياسة الأوربية وجلالة والده الملك المعظم والأمة العربية جمعاء،

والسوريين خاصة؟

وقد تشرف أحد صاحبي هذه الجريدة يوسف بك حيدر بمقابلة سموه، فجرى

بينهما حديث تضمن من الوثائق السياسية ما لا مندوحة من نشره، وإحاطة القراء

بدقيقه وجليله، وإلى القراء ما دار بينهما:

ابتدأ أحد صاحبي الجريدة فقال للأمير: رأينا يا صاحب السمو في العدد

المؤرخ بثامن جمادى الأولى 1338 من جريدة القبلة الصادرة في مكة المكرمة

إعلانًا رسميًّا يقول به والدكم صاحب الجلالة الهاشمية أن لديه معاهدات من الحلفاء

الكرام تقضي باستقلال البلاد العربية جميعها، وأن جلالته ينشرها للملأ عند الحاجة،

فهل لسموكم أن توضحوا لنا ما هي هذه المعاهدات وما تحوي؟

سمو الأمير: إن المعاهدات التي يذكرها صاحب الجلالة ما رأيتها، وقد

طلبت منه مرارًا أن يجعلها سلاحًا لي إذا كانت موجودة، ولا أعلم ما سبب تأخيره

إرسالها إليّ، واكتفاء جلالته بإرسال صورة اتفاقية يقول: إنها نسخة من تلك

المعاهدة، وها أنا أعطيك تلك الصورة ويمكنك نشرها، وهذا نصها بحروفها:

(صورة ما تقرر مع بريطانيا العظمى بشأن النهضة)[*]

1-

تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني

الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، وتكون حدودها شرقًا من بحر فارس، ومن

الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً ولاية حلب

والموصل الشمالية إلى نهر الفرات، ومجتمعه مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس

ما عدا مستعمرة عدن، فإنها خارجة عن هذه الحدود، وتتعهد هذه الحكومة

برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من

العرب في داخل هذه الحدود بأنها تحل محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق

وتلك الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد.

2-

تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي

مداخلة كانت بأي صورة كانت في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي

تعد بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد

بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين

اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي:

لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية.

3-

تكون البصرة تحت أشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة الجديدة

المذكورة تشكيلاتها المادية، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود يراعى فيه

حالة احتياج الحكومة العربية التي هي حكمها قاصرة في حضن بريطانيا، وتلك

المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال.

4-

تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية من

الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب.

5 -

تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من النقاط

في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد لعدم استعدادها اهـ.

قال سمو الأمير: ولكني مع الأسف حينما كنت في لوندرة قدمت هذه الصورة

إلى رئاسة الوزارة، فأنكرت وجودها كل الإنكار، وقالت بأنه لا يوجد عهد ولا

كتاب كعهد ينطق بمثل هذا التصريح، ولكن لدينا رسائل أهمها شأنًا رسالة من

السير هنري مكماهون وهذا نصها بحروفها:

(كتاب السير هنري مكماهون إلى جلالة الملك المعظم بمكة في 24 أكتوبر

سنة 1915)

لما كانت مقاطعة مرسين والإسكندرونة وبعض أجزاء سورية الواقعة إلى

الغرب من مقاطعات دمشق وحمص وحماه وحلب لا يمكن تسميتها عربية محضة،

فإنه يقتضي إخراجها من الحدود التي بينتموها، وإنه بمقتضى هذا التعديل، ومن

غير إخلال بمعاهداتنا السابقة مع بعض زعماء العرب نقبل الحدود على ما ذكرتموه.

ثم بخصوص الأراضي التي لبريطانيا العظمى حرية العمل فيها من غير

إضرار بمصالح حليفتها فرنسا، فإن لي السلطة باسم بريطانيا العظمى أن أعطي

التأكيدات الآتية وأجيب عن كتابكم بما يأتي:

إن بريطانيا العظمى مستعدة بعد التعديلات المذكورة آنفًا أن تعترف باستقلال

العرب والأخذ بناصرهم، وذلك ضمن الحدود التي قدمها شريف مكة.

أما ولاية بغداد وولاية البصرة، فعلى العرب أن يسلموا أن مركز بريطانيا

العظمى ومصالحها تقتضي اتخاذ تدابير خاصة لإدارتهما وحمايتهما من كل اعتداء

أجنبي، ولارتقاء أهاليهما والمحافظة على مصالحنا المشتركة فيهما. انتهى.

قال سمو الأمير: عندئذ كررت طلب تلك المعاهدة من مكة المكرمة، ولكنها

ويا للأسف لم ترد عليّ حتى الآن، فلهذا لا يمكنني أن أقول بأن وزارة الخارجية

البريطانية مخالفة للحقيقة بأقوالها، ولا أقول: إن حكومة مكة تقول غير الواقع، فإذا

كان لدى حكومة مكة المكرمة عهد كهذا فتأخير إبرازه في هذا الوقت الذي وضعت

به مسألة العرب على بساط البحث، وقد أوشك المؤتمر أن يبت بشأنها مضر جدًّا؛

لأن هذه المعاهدة لم تعقد إلا لتبرز في مثل هذا اليوم العصيب ويعمل بموجبها، وقد

ألححت في المدة الأخيرة على جلالة والدي بإرسالها، وأظنها ستصلني عما قريب،

فإذا وصلت سيكون لي موقف في النوادي السياسية غير موقفي الحاضر.

سؤال: هل دفاعكم في مؤتمر السلم سيكون خاصًّا في شؤون سورية، أم

يتناول المسألة العربية كلها؟ [1]

جواب: إن صفتي في مؤتمر السلام هو تمثيل والدي وحكومته الذي قام

مدافعًا عن حقوق العرب بأجمعها، فإذا تخليت عن جانب من بلاد العرب المحررة

من الأتراك أكون قد قصرت بواجبي السياسي وأخللت بما أودع إلي من الوظائف،

فلذا يتحتم عليّ أن أضع المسألة العربية برمتها موضع البحث، وأدافع عنها باسم

جلالة الملك.

سؤال: في كتاب السير مكماهون الذي تقدم الكلام عنه ما يتعلق بفلسطين

وبغداد والبصرة، فما رأي سموكم فيما ينطوي عليه؟ وهل صرحت لكم الحكومة

البريطانية بشيء بعده؟

جواب: إذا وجد ذلك العهد الذي أعلن جلالة الملك والدي وجوده، فأظن

الحكومة البريطانية ستكون مضطرة إلى تشكيل الوحدة العربية والاعتراف

بالاستقلال العربي، وأما إذا لم يوجد، فحكومة إنكلترا ملزمة بمقتضى عهدها الوارد

في كتاب السير مكماهون أن تؤلف حكومة في العراق تكفل مصالح العرب

والبريطانيين معًا، وأن تعترف بأن فلسطين والموصل عربيتان داخلتان في ضمن

الحكومة السورية، والصداقة التي بيننا وبين الحكومة البريطانية تجعلني أواصل

البحث فيما هو واجب على إنكلترا إجراؤه في الممالك والبلدان التي هي الآن تحت

أشغالها العسكرية، وأملي عظيم بأنه ستقوم بعهودها.

سؤال: هل تفكرون برفض ما تدعيه الحكومتان الفرنسوية والإنكليزية من

الحقوق في أقسام البلاد العربية سواء كان في سورية أو العراق أو غيرهما، وما

هي خطة سموكم في هذا الأمر؟

جواب: إنني لا أتصور أن أقابل جميل هاتين الحكومتين بمعاملة غير لائقة،

وأنا أعلم بأن لهما منافع أدبية واقتصادية يجب احترامها، ولكني في الوقت نفسه

أؤمل أن تنظر إلينا هاتان الحكومتان بنظر الاحترام، وإلى حقوقنا بنظر الإنصاف

والعدل، وأن لا تطالبنا بما يخل باستقلالنا ورقينا المادي والمعنوي، وأن لا تجبرانا

على اتباع تقاليدهما على العمياء، بل نأخذ منهما ما طاب من مدنيتهما الحديثة،

ونترك ما هو مخالف لمدنيتنا وعنعناتنا التاريخية.

سؤال: نشرنا في المفيد برقية منقولة عن جريدة الأهرام المصرية واردة من

جلالة الملك يحدد بها دائرة توكيل سموكم، فما ترون فيها؟

جواب: إن الوكيل يدافع في قضيته على قدر قوة ما بيده من الحجج، فإن

كانت مستنداته قوية وكان الحاكم عادلاً، فلا شك بأن الوكيل إذا خسر القضية يكون

مسؤولاً، وأنا في هذه الحالة لا فرق بيني وبين وكلاء الدعاوى أمام المحاكم،

فمدافعتي تكون على قدر قوتي المادية والمعنوية، وعلى كل فإنني أؤمل من رجال

الحكومات والأمم المتمدنة أن تنظر إلينا بعين الحب ولا تهضم لنا حقًّا كيما نتمكن

من خدمة المدنية الحاضرة كما خدم أجدادنا المدنية الغابرة.

سؤال: كنا قرأنا في جريدة الشرق التي كانت تصدر في دمشق إبان الحرب

نص معاهدة تسمى (معاهدة سايكس بيكو) نشرها جمال باشا زاعمًا أن البلشفيك

ظفروا بها بين الأوراق الرسمية في بتروغراد عندما استولوا عليها، ثم انقطعت

أخبار هذه المعاهدة حتى عادت صحف أوربا منذ بضعة أشهر تردد صداها، وقيل:

إن جلاء الجنود الإنكليزية عن سورية منذ مدة كان تنفيذًا لنص تلك المعاهدة، فهل

ذلك حقيقي؟ وهل سمعتم سموكم بها في الأماكن الرسمية أو اطلعتم عليها في أثناء

الحرب أو بعدها؟

جواب: حينما نشر جمال بك تلك المعاهدة أثناء الحرب اطلع عليها والدي في

العدد 101 من جريدة المستقبل، فسأل جلالته الحكومة البريطانية بواسطة معتمده

بمصر عن تلك المعاهدة، فأجابته الحكومة الانكليزية بكتاب هذا نصه:

إن البلشفيك لم يجدوا في وزارة الخارجية في بتروغراد معاهدة معقودة، بل

محاورات ومحادثات مؤقتة بين إنكلترا وفرنسا وروسيا في أوائل الحرب لمنع

المصاعب بين الدول أثناء مواصلة القتال ضد الترك، وذلك قبل النهضة العربية،

وأن جمال باشا إما من الجهل أو الخبث غيّر في مقصدها الأساسي، وأهمل شروطها

القاضية بضرورة رضى الأهالي وحماية مصالحهم، وقد تجاهل ما وقع بعد ذلك من

أن قيام الحركة ونجاحها الباهر وانسحاب روسيا قد أوجد حالة أخرى تختلف عما

كانت عليه بالكلية منذ أمد مضى.

قال سمو الأمير: فيظهر لكم من هذا الجواب أن تلك المعاهدة لم تكن معترفًا

بها اعترافًا رسميًّا لدى والدي والعرب، وإذا فرض وجودها فإنهم قد أنكروها بتاتًا

بحيث أصبح كأنها لم تكن وتصريحات الحكومات بإلغاء جميع المعاهدات السرية

تجعلنا لا نعترف بتلك المعاهدة اهـ.

(المنار)

هذا ما صرح به الأمير فيصل في دمشق قبل نصبه ملكًا على سورية فيها

بزهاء ثلاثة أسابيع، فهو إلى ذلك الوقت لم يكن مطلعًا على شيء غير ما ذكر فيه

مما دار بين والده وبريطانية العظمى من الاتفاق الذي حمله على الخروج على

الدولة العثمانية ومحاربتها مع الحلفاء، وكان هو القائد لجيش والده في هذه الحرب،

بل كان صرح لي قبل التصريح لصاحب جريدة المفيد بأنه لم يطلع على شيء قط،

وأنه حارب بأمر والده اعتمادًا على أن بيده شيئًا وظاهر أن كلاًّ من الروايتين

مباين لمصلحة العرب ومناف لحريتهم واستقلالهم، فإن تشكيل بريطانيا العظمى

لحكومة عربية تدخل فيها الحجاز بالشروط المذكورة التي منها حفظها وصيانتها في

داخليتها وخارجيتها يجعلها حكومة تابعة للإمبراطورية الإنكليزية، ويخول لجيوش

هذه الإمبراطورية أن تقيم حيث شاءت منها بحجة منع الثورات والفتن الداخلية، دع

إحاطتها بها بحرًا وبرًّا كما هو معروف.

وإننا كنا قد اطلعنا على النص العربي للمعاهدة المشار إليها في هذه الوثائق،

وهي بين السير هنري مكماهون بالنيابة عن حكومته وبين شريف مكة وأميرها سنة

1915، وقد رأينا أن كلاًّ من الروايتين الحجازية والإنجليزية اللتين صرح بهما

الأمير فيصل قد ذكرت بعض ما جاء في تلك المعاهدة بالمعنى على ما نتذكر كله، وقد

نشر ملخصها أًيضًا في مقال للكولونيل الإنكليزي لورانس مستشار فيصل في أثناء

الحرب وبعدها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا لقب ملك الحجاز في جريدة القبلة.

(*) تعبر حكومة الحجاز عن ثورته وما ترتب عليها بالنهضة.

(2)

سبب هذا السؤال، أن الأمير كان عازمًا على العودة إلى أوربة لحضور مؤتمر سان ريمو الذي قرر الحلفاء فيه ما يسمون الانتداب على سورية والعراق؛ أي: انتداب أنفسهم للاستيلاء عليها.

ص: 232

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

النيل والفرات

وتعدية التعزية وأهل الفترة

(س4-6) من صاحب الإمضاء في بلدة - العلاقمة - مصر

حضرة الأستاذ العلامة صاحب الفضيلة منشئ مجلة المنار الغرّاء.

سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد، فهذه رسالة نذكركم فيها بما أرسلناه إلى

فضيلتكم سابقًا راجين أن تجيبونا عما تتضمنه من الأسئلة بما نعهده فيكم من شافي

الجواب وفصل الخطاب.

الأول: روى الصحيحان من حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال فيما يحدث عن الجنة: إن بها نهرين ظاهرين هما النيل والفرات، وإن

منبعهما في أعلى سدرة المنتهى، ونهرين باطنين ينبعان من أصل السدرة، وقد

أصبح مما لا ريب فيه أن كلاًّ من النيل والفرات له منابع خاصة، فلا نستطيع

التوفيق بين الحديث وبين ما أثبته العلم الحديث، حتى لقد قال بعض الناقدين في

الحديث من العلماء: إنه موضوع؛ إذ ليس بعد العيان من دليل، وقوى ذلك

اضطراب روايات الحديث خصوصًا ما روي عن أم هانئ أنها صلت مع النبي صلى

الله عليه وسلم العشاء، ثم بات عندها، ومعلوم أنه لم يكن قبل الإسراء عشاء، مع

اتفاق أهل السير على أنها لم تسلم إلا يوم الفتح أو بعده.

الثاني: نقلتم في أحد المجلدين (الرابع أو الخامس) عن إمام اللغة الشيخ

الشنقيطي رحمه الله أن عزى من التعزية بالميت لا تستعمل إلا متعدية بـ (عن)

خلافًا للمشهور من تعديتها بالباء، ولكن العرب قد استعملوها متعدية بالباء، قال

شاعرهم في رثاء محمد بن يحيى (بلسان الندى والجود) :

فقالا أقمنا كي نعزى بفقده

مسافة يوم ثم نتلوه في غد

الثالث: يكاد أهل السنة يتفقون على أن أهل الفترة ناجون، وإن غيروا

وبدلوا وعبدوا الأصنام، فكيف يتفق هذا مع ما ورد في صحيح مسلم من عدم الإذن

للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه، وما ورد في الصحيحين وغيرهما من

قوله صلى الله عليه وسلم لأعرابي: (إن أبي وأباك في النار) ، وهل ما يروونه في

تعذيب حاتم وامرئ القيس وغيرهما صحيح يعول عليه أم لا، مع ملاحظة عدم قرينة

تدل على تأويل الأب بالعم في الحديث السابق؟ ولماذا لم يكن أبواه صلى الله عليه

وسلم من أهل الفترة الناجين؟ هذا، ونرجو من فضيلتكم عدم إرجائها حتى لا

تحوجونا إلى تذكير آخر، واقبلوا منا في الختام التحية والمودة الخالصة.

...

...

...

...

... الأخ المخلص

...

...

...

...

أحمد عطية قورة

الجواب عن الأول:

خروج النيل والفرات من سدرة المنتهى وكونهما من الجنة:

في حديث أنس عن مالك بن صعصعة أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر

سدرة المنتهى قال: (وإذا بأربعة أنْهُر: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت:

ما هذا يا جبرئيل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل

والفرات) ، وفي رواية أخرى لحديث المعراج عند البخاري (فإذا في أصلها أربعة

أنهار) وفي رواية (يخرج من أصلها أربعة أنهار) ، وقد اختلفت الروايات في

سدرة المنتهى، ففي بعضها أنها في السماء السادسة، وفي بعضها أنها في

السابعة، وفي أخرى أنها في الجنة، وقال القاضي عياض: هي في الأرض. وفي

بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليها، وفي بعضها أنها هي

رفعت إليه حتى رآها، وفي رواية شريك لحديث المعراج في كتاب التوحيد من

صحيح البخاري: أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان، فقال له جبريل: هما

النيل والفرات. فروايات حديث المعراج مضطربة المتن في هذه المسألة

وغيرها، كثيرة التعارض والاختلاف كما بيناه منذ سنين.

والظاهر أن من أسباب الاضطراب والاختلاف في هذه الأحاديث روايتها

بالمعنى، ولم ير جمهور العلماء المتقدمين حاجة إلى ردها بالاضطراب، ولا تأويل

هذه المسألة فيما أولوا، قالوا: لأنها لا تنافي العقل. وفاتهم أنها تخالف ما هو

أقوى من دلالة العقل الذي يكثر غلطه في النظريات وهو الحس، فإن الألوف من

الناس رأوا منبع النيل والفرات بأعينهم، وفي مصر كتاب مطبوع فيه رسم

بحيرات النيل التي ينبع منها ومجراه من أوله إلى مصبه في البحر المتوسط.

قال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث

يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها.

زاد الحافظ في شرح البخاري: وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه

أن يكون أصل سدرة المنتهى في الأرض. ورد النووي قول القاضي بظاهر معنى

الحديث، وكونه لا يمنعه عقل ولا شرع، ثم ذكر النووي في شرح حديث أبي هريرة

عند مسلم في المسألة: (سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة) ،

إن سيحان وجيحان في بلاد الأرمن، الأول نهر أذنه (أطنه) والثاني نهر

المصيصة، ثم نقل عن القاضي عياض في تأويل الحديث أن الإيمان عم بلاد هذه

الأنهار، وأن الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة، ثم قال: والأصح أنها

على ظاهرها، وأن لها مادة من الجنة. واحتج بحديث المعراج اهـ، وقال

بعضهم: إن المراد بكون النيل والفرات من الجنة هو التشبيه لمائهما بماء الجنة في

عذوبته وحسنه وبركته؛ أي: فوائده على طريق المبالغة، وهذا لا تكلف فيه إذا فسر

به حديث أبي هريرة بأنها من الجنة، ولكن الاستعارة لا تظهر في روايات أحاديث

المعراج إلا بتكلف، ولعل سبب ذلك روايتها بالمعنى، ويسهل الخطب على القول بأن

حديث المعراج كان بيانًا لرؤيا منامية، أو مثالاً لمشاهدة روحية والله أعلم.

***

مسألة تعدي التعزية بالباء:

البيت الذي ذكر السائل في رثاء محمد بن يحيى البرمكي ليس من كلام

العرب، بل لا أصدق أنه من كلام أهل ذلك العصر إلا إذا وجدته مرويًّا في كتب

المتقدمين، على أن الباء فيه لا يتعين أن تكون للتعدية، بل الظاهر أنها للسببية،

أي: أقمنا لكي نعزى بسبب فقده، على أن معاجم اللغة ذكرت الفعل لازمًا لا متعديًا

بـ (عن) ولا بالباء، وللباء وجه قياسي كما علمت.

***

أهل الفترة وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم

في نجاة أهل الفترة خلاف مشهور، وقد استثنى المثبتون لها من ورود النص

بأنهم من أهل النار في الأحاديث التي ذكرها السائل وغيرها، وإلا كانت هذه

الأحاديث حجة عليهم، وقد شرحنا مسألة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي

إبراهيم عليه الصلاة والسلام في تفسير {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً

آلِهَةً} (الأنعام: 74) الآية، فيراجع في المجلد العشرين من المنار أو المجلد السابع

من التفسير.

***

كعب الأحبار

س7 من صاحب الإمضاء في (زنجبار)

حضرة العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم

بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سيدي سؤالنا عن العلامة كعب الأحبار الذي نسمع بأحاديثه الكثيرة، وكان

عالمًا عند اليهود، ثم أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم وعاش إلى زمن

معاوية، ومات وعمره 200 سنة، أهو شخص حقيقي أو وهمي؟

...

...

...

... صلاح ناجي الكسادي

(ج) كعب الأحبار شخص حقيقي معروف في كتب الحديث وتواريخها،

وقد اختلفوا في تاريخ إسلامه، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: والراجح أن

إسلامه كان في خلافة عمر. وروي عنه أن سبب تأخر إسلامه أن أباه كان كتب له

كتابًا من التوراة وأمره بالعمل به دون غيره، وختم على سائر كتبه، وعهد إليه

ألا يفض الخاتم، فلما رأى ظهور الإسلام وانتشاره فض الخاتم، فرأى في الكتب

صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فأسلم، ونقل عن ابن سعد أنه مات

سنة 32، وعن ابن حبان في الثقات أنه مات سنة 34، وأنه بلغ مائة وأربع

سنين، وقد عدلوا روايته، وذكروا أنه روى عنه بعض الصحابة ابن عمر وأبو

هريرة وابن عباس وابن الزبير ومعاوية، ولكن قال فيه معاوية: إن كان لمن

أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.

رواه البخاري عنه في صحيحه، وأوّله بعضهم أن المراد عدم وقوع ما يخبر

به لا اختلاقه الكذب.

***

أفضل النبيين والسؤال بحقه

(س8 و9) ومنه حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم

زيد في مجده، سيدي، السلام عليك ورحمة الله، وبعد، فالمرجو من فضيلتكم أن

تبين لنا الجواب عن السؤال الآتي وهو:

قد نص القرآن الكريم على أفضلية بعض النبيين على بعض في الدرجات، ولم

نر فيه آية تدلنا صريحًا على من هو أفضلهم، وما هو نوع التفضيل، فإذا كان

الأفضل محمدًا، فما الدليل؟ وبماذا كان أفضل؟

ثم إذا دعا أحد هكذا: (اللهم إني أسألك بحق أو بجاه محمد سيد المرسلين أن

تسهل لي رزقي أو تغفر لي ذنبي) ، مثلاً، فهل هذا الدعاء جائز شرعًا، أو يعد

ذلك شركًا؟ أفيدونا أثابكم الله.

(ج) : هنا سؤالان لا سؤال واحد، وإننا نجيب عنهما باختصار لما سبق

لنا في موضوعهما من التفصيل في عدة مواضع:

فضل نبينا على سائر النبيين عليه وعليهم الصلاة والسلام:

الفضل في اللغة: الزيادة، وأفضل الشيئين أو الشخصين مثلاً ذو الزيادة

في الصفات والمزايا والخصائص والأعمال الشريفة التي من شأنهما الاشتراك فيها،

فتكون موضوع التفاضل، فالأنبياء منهم المرسلون وغير المرسلين، والمرسلون

أفضل بما خصوا به من الرسالة، وقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة بشرع

مؤقت يليق بحالهم واستعدادهم للهداية، حتى استعد جميع البشر للهداية الكاملة العامة،

فبعث الله محمدًا خاتم النبيين للناس كافة، وأكمل به دينه الذي بعث به من سبق من

رسله، وأتم نعمته عليهم، فكان رحمة عامة للعالمين، وإنما تكمل الأشياء بخواتيمها،

فكان أفضلهم بعموم بعثته وشمول هدايته وكمال الدين على لسانه ويده وحفظ كتابه

وآيته، وهذه مزايا تتعلق بموضوع الرسالة، والقرآن ناطق بكل منها، ولهذا قال في

تفسير قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) أنه هو المراد

بالبعض، والتلميح قد يختار على التصريح إذا كانت قرائن الحال معينة له، وقال

شيخنا الأستاذ الإمام: إن نكتة ذكره بين موسى وعيسى عليهم الصلاة في قوله:

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا

عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 253) هي التنبيه لكونه

هو الوسط، كما قال: إنه جعل أمته وسطًا، وخير الأمور أوساطها. وقد كانت

شريعة موسى مشتملة على المبالغة والشدة في الأحكام الجسدية والأمور المادية،

وتعاليم عيسى مشتملة على المبالغة في أحكام الزهد والمواعظ الروحية، فجاءت

شريعة محمد وتعاليمه وسطًًا في كل منهما، كما بيناه بالتفصيل في مواضع من التفسير

وغير التفسير من أبواب المنار، ولما كانت أمم الرسل المعروفة في زمن بعثته

محصورة في أمة موسى وعيسى، كان ذلك من أقوى القرائن اللفظية على أن من

رفعه الله درجات هو النبي الذي بعث بعدهما؛ لأن حمله على نبي انقرضت أمته ولم

يبق أثر لشريعته بعيد وغير مفيد، وتتنزه بلاغة القرآن وهدايته عن ذلك.

سؤال الله بحق خاتم رسله وجاهه

سؤال الله تعالى ودعاؤه هو روح العبادة وركنها الأعظم، والقاعدة التي تلي

توحيد الله، وعدم إشراك أحد معه في العبادة هي أن عبادته تكون بما شرعه سبحانه

فقط؛ أي: اتباعًا لا ابتداع فيه، ولم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله المتبعة

التي صحت بالنقل والعمل عن السلف الصالح أن يسأل سبحانه شيئًا بحقوق أحد من

خلقه عليه، وإن كان من عباده المكرمين الذين جعل لهم حقًّا عليه جزاءً على

أعمالهم، ولا بجاهه عنده، وإن ثبت أنه جعل له وجاهة، فهذا السؤال إذًا بدعة

ولكنه ليس شركًا في هذه العبادة؛ لأن السائل قد توجه فيها إلى الله ودعاه وحده،

ولكنه ابتدع في دعائه بدعة أراد أن تكون سببًا لإجابة السؤال، وهي إدخال شيء

في العبادة لم يأذن به الله بنص ولا فحوى، بل يدل الشرع والعقل على بطلانه، ذلك

بأنه ليس لأحد على الله تعالى حق إلا ما جعله هو له بفضله، وإن كان جزاء على

عمله فإثابته لعبيده فضل منه عليهم كما ثبت، وقد ورد في الصحيح من أن حق الله

على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم

الجنة، فهذا الحق لزيد العابد المخلص لله تعالى لا يصح أن يكون سببًا لإجابة

سؤال عمر وشفاء مرضه، أو توسيع رزقه أو مغفرة ذنبه؛ لأن من أصول دين الله

المعقولة {أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم:

38-

39) ، وكذلك ما جعل الله من الوجاهة بفضله لموسى عليه السلام، إذ قال

فيه: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب: 69) لا يعقل أن يكون سببًا لمثل ذلك،

فالله تعالى قد جعل لكل شيء سببًا، وليست هذه الوجاهة ولا تلك الحقوق من

أسباب ما ذكر، على أنها لو كانت منها لما صح أن تدخل في العبادة إلا بإذن منه

تعالى كما أذن بغير زيادة ولا نقص، نعم إن من الجاه والوجاهة الشفاعة وهي من

أسباب المغفرة، ولك أن تسأل الله أن يجعلك أهلاً لشفاعة رسوله ويغفر لك بها،

ولكن لم يرد أنها سبب لمصالح الدنيا، ولم يكن الصحابة يطلبون من النبي - صلى

الله عليه وسلم - عند قبره ولا في حال البعد عنه في حياته أن يشفع لهم في شفاء

مرض ولا دفع ضرر ولا نزول مطر، ولا يسألون الله ذلك بجاهه - صلى الله عليه

وسلم - وقد طلبوا من عمه العباس أن يستسقي لهم بعده بدلاً من استسقائه.

ولو كان هذا من عبادتهم لتواتر عنهم أو اشتهر برواية الشيخين وأصحاب

السنن؛ لتوفر الدواعي على ذلك.

فإن قيل: إن شرع ما لم يأذن به الله قد عد من الشرك، وعد من يقبله

ويعمل به من متخذي الشركاء والأرباب من دون الله في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ

شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقوله عز

وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) الآية،

وقد فسر في الحديث المرفوع اتخاذهم أربابًا بطاعتهم فيما يحلون لهم ويحرمون

عليهم، وطالما كرر المنار هذه المسألة، وفي تفسير هذا الجزء قول مفصل فيها.

قلنا: إن السؤال وارد، ولكن يفرق في مثله بين تنقيح المناط وتحقيق المناط،

فإن الشيء قد يكون بمقتضى الدليل شركًا أو كفرًا، ولا يعد كل من فعله مشركًا أو

كافرًا، كما نقلناه عن شيخ الإسلام (ص121 ج2) ، ولا يسأل ذلك السؤال من

يقوله من المسلمين إلا وهو يظن أنه مشروع، بتقليد، أو شبهة دليل على صحته،

كبعض الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة التي لا تدل عليها النصوص من هذا

القبيل، ولم يكفر السلف مسلمًا بها، كما فصلناه في الأجزاء التي قبل هذا، ومنهم

من يدخل هذه المسألة في باب الإقسام على الخالق بالمخلوق، وقد صرح الحنفية

بكراهته، قال أبو يوسف: وأكره أن يقول: بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك

وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. والمراد كراهة التحريم، وقد فصل القول

في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (التوسل والوسيلة) وهو مطبوع

نقلنا بعض أقواله في المجلد الثاني عشر من المنار وغيره، فليراجع السائل ذلك في

موضعه.

_________

ص: 260

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ما وراء القبر

حديث مع أديصن عن الحياة والموت

قابل كاتب أمريكي المستر أديصن العالم الأمريكي المشهور واستطلعه رأيه

في نبأ نشرته الصحف الأمريكية، وفحواه أنه يبحث ويفتش لعله يفوز برفع الحجاب

عن حقيقة ما تصير إليه نفس الإنسان بعد الموت، ويؤيد ذلك بالدليل العلمي، وقد

نشرت خلاصة هذا الحديث في مجلة (السينتفك أميركان) المعروفة بتدقيقها

العلمي، وقدمته بمقدمة من عندها قالت فيها:

(إذا كان رجل في مقام لودج أو أديصن يهتم بموضوع ما، فإن الجمهور يبالغ

في الاهتمام بما يقول وبما يرجو أن يفعل، وعليه؛ فلما أذيع منذ أيام أن أديصن

يجرب تجارب لمناجاة الموتى فسحت الصحف مجالاً واسعًا لهذا النبأ يفوق ما يستحق

بالنسبة إلى الدرجة العليا التي بلغتها أعمال أديصن من التقدم العلمي، وقد أصابت فيما

فعلت؛ لأن القراء اهتموا مزيد الاهتمام بمجرد علمهم أن أديصن يشتغل بهذه المسألة)

إلى أن قالت: وأهم ما في الأمر أن أديصن رغم الأراجيف التي قد تذيعها الصحف

عن هذه المسألة وعلاقته بها يسعى ليعود بنا إلى الموقف الصحيح في أمر الحياة بعد

الموت وبقاء الأنفس وإمكان مخاطبة الموتى. وهذه صورة الحديث، قال الكاتب:

إن أديصن الذي استنبط المصباح الكهربائي والفونوغراف والصور المتحركة

وبطرية النكل والحديد والدينامو الكامل وغيرها من المكتشفات والمخترعات التي

تدخل أعمالنا اليومية سيوجه سعيه وجهده إلى أمر يفوق كل اكتشاف واختراع بما لا

يقاس، فإن في العالم نحو 1500 مليون نسمة سيدركهم الموت عاجلاً أو آجلاً،

ولكنهم يجهلون كل الجهل مصيرهم بعده، ومثل ذلك يقال عن مجيئنا إلى هذه الدنيا،

وعليه؛ فالحياة والموت لا يزالان سرًا من الأسرار ولغزًا من الألغاز التي لم تفتح بها

على مخلوق.

منذ بضعة أسابيع شاع أن هذا المخترع العظيم يعد طريقة أو آلة لمخاطبة الذين

انتقلوا من هذا الوجود إلى وجود آخر أو عالم آخر، فنشرت صحف أميركا وأوربا

أن توماس أديصن اندمج في صفوف الروحانيين الذين بينهم الآن كثيرون من كبار

العلماء والمؤلفين والمخترعين والطبيعيين والمهندسين ورجال الدين وغيرهم،

ووصف الكتاب الفرنسويون الواسعو الخيال آلة أديصن بأنها محطة تلفونية أو مكتب

تلغراف أو ما أشبه يقصدها الناس ليخاطبوا منها أرواح أحبائهم وأصدقائهم في العالم

الآخر بطريقة عاجلة أكيدة.

وليس في الناس أحد أشد أسفًا من المستر أديصن على إذاعة أخبار مثل هذه،

فقد قال لي في حديثي معه: إني لا أستطيع تصور شيء يسمونه الروح، تصور

شيئًا لا ثقل له ولا صورة مادية ولا حجمًا، وبعبارة أخرى تصور غير شيء، أنا لا

أستطيع أن أعتقد أن الأرواح يمكن أن ترى في أحوال معينة وتحرك الموائد أو تقرع

عليها أو تعمل أعمالاً سخيفة مثل هذه، وكل ما قيل من هذا القبيل حديث خرافة.

وأقول هنا إنه إنما قابلني لإزالة ما علق بالأذهان من الإشاعات التي شاعت عن

غرضه من البحث والتنقيب في هذا الموضوع، ولا تزال الآلة التي شاع أنه يصنعها

في دور التجربة والامتحان، وقد طلب مني أن أعلن ما يأتي، قال:

فكرت منذ مدة في اختراع آلة أو أداة يمكن أن يستخدمها أو يؤثر فيها الذين

غادروا هذا الوجود إلى وجود آخر أو عالم آخر، والآن اسمع وعِ ما أقول لك، أنا لا

أدّعي أن شخصياتنا تنتقل إلى وجود آخر أو منطقة أخرى، ولا أدّعي علم شيء في

هذا الموضوع؛ لأني لا أعلم شيئًا فيه، ولا أحد من الناس يعلم، ولكني أدَّعي أنه

يمكن صنع آلة بالغة من الدقة مبلغًا بحيث إنه إذا كان أناس في عالم آخر يريدون

مخاطبتنا في هذا العالم فإن هذه الآلة تكون أوفى بهذا الغرض من تحريك الموائد

والنقر عليها أو غير ذلك من الوسائل السخيفة المعروفة.

والحق يقال: إن سخافة هذه الوسائل هي التي تحملني على الشك في صحة

مناجاة الموتى التي يدعونها، فلست أدري لم يضيع الأشخاص الذين في العالم الآخر

وقتهم في تحريك مثلث من الخشب على مائدة عليها حروف الهجاء، وما غرضهم من

تحريك الموائد؟ هذا كله يظهر لي أنه من الأعمال الصبيانية حتى لا أستطيع أن

أبحث فيه بعين الجد والاهتمام، وعندي أنه إذا شئنا أن نتقدم تقدمًا حقيقيًّا في البحث

العقلي، وجب أن نقدم عليه بالآلات العلمية وبالطرق العلمية كما نفعل في الطب

والكهربائية والكيمياء وغيرها.

وأما ما أريد أن أعمله فهو أن أجهز الباحثين في المباحث العقلية النفسية بآلة

تلبس عملهم لباسًا علميًّا، وهذه الآلة ستكون مثل مصراع أو تشبه مفتاحًا صغيرًا

يستطيع به رجل واحد ضعيف القوة أن يفتح مصراعًا تدار به آلة قوتها 50 ألف

حصان، وستكون آلتي على هذا المثال حتى إن أصغر قوة تكبر بها كثيرًا فتساعدنا

على بحثنا، ولا أقول أكثر من ذلك عن ماهيتها، وقد مضت عليّ مدة وأنا أشتغل

بتفاصيلها، وكان يعاونني في عملي هذا صديق فتوفي منذ حين، ولما كان يعلم ما أنا

ساع إليه فالواجب أن يكون أول من يقدم على استعمال هذه الآلة إن استطاع ذلك.

واعلم أني لا أدعي أني أعلم شيئًا عن بقاء الشخصيات بعد الموت، ولا أعد

بمخاطبة الذين انتقلوا من هذا الوجود، وإنما أقول: إني ساع في تجهيز الباحثين

النفسيين بآلة قد تساعدهم في عملهم كما يساعد المكرسكوب رجال الطب في مباحثهم،

وإذا عجزت هذه الآلة عن أن تكشف لنا شيئًا خارق العادة فإني أفقد كل ثقة وإيمان

ببقاء الشخصيات بعد الموت كما نعرفه في هذا الوجود.

ومما يقال عن المستر أديصن أنه لا يصدق المذاهب المعروفة في الحياة

والموت؛ لأنه يعتقد أنها فاسدة الأساس. قال لي باسطًا مذهبه فيهما: عندي أن

الحياة كالمادة غير قابلة للفناء، فقد كان في هذا العالم مقدار معين من الحياة على

الدوام، وسيبقى هذا المقدار كما هو على الدوام، فإنك لا تستطيع خلق الحياة ولا

إبادتها ولا مضاعفتها. وفي اعتقادي أن أجسامنا مركبة من ملايين من الكائنات

المتناهية في صغرها، وكل منها حي مفرد ويرتبط بعضها ببعض لتكوين الإنسان.

ونحن نقول عن أنفسنا: إن كلاً منا شخص واحد قائم بنفسه، ونتكلم عن الهرة أو

الفيل أو الحصان أو السمكة كأن كلاً منها فرد قائم برأسه. ولكني أرى أن طريقة

التفكير هذه فاسدة الأساس، فإن هذه الأشياء كلها تظهر أنها بسيطة مفردة؛ لأن

الكائنات الحية التي تتألف منها أصغر من أن ترى حتى بأعظم المكبرات.

وقد يعترض على هذا الرأي بأنه إذا كانت هذه الكائنات الصغيرة إلى هذا

الحد فلا يمكن أن تكون مؤلفة من أعضاء مختلفة تستطيع القيام بالأعمال التي

سأذكرها. فأقول في الرد على ذلك: إنه لا حد لصغر الأشياء، كما أنه لا حد لكبرها

واكتشاف الألكترون خير جواب على مثل هذا الاعتراض، فقد ظهر لي بالحساب

أنه يمكن وجود حي متقن التركيب والتنظيم مؤلف من ملايين من الألكترونات

الصغيرة التي لا ترى بما نعرف من المكبرات.

وهناك دلائل كثيرة تدل على أننا نحن الخلائق البشرية يتصرف كل منا

تصرف جماعة من الأحياء لا تصرف حي واحد، وهذا ما يحملني على اعتقاد أن

كلاًّ منا يحتوي على ملايين من الأحياء، وأن أجسامنا وعقولنا تمثل أفعال الكائنات

التي تتألف منها.

ولننظر الآن في السبب الذي يحملني على القول بأنه لا بد أن تكون أجسامنا

مؤلفة من هذه الكائنات. خذ بصمة إبهامك كما يفعل البوليس في بصم أباهم

المشبوهين، ثم أزل خطوط إبهامك بحرقها بالنار، فمتى نما الجلد ثانية تجد أن

خطوطه لم تتغير ألبتة عما كانت عليه قبل احتراقه، وقد امتحنت ذلك بنفسي حتى

تحققته، هذا سر من الأسرار ما فتئ مغلقًا حتى الآن، تقول لي: إن هذا عمل

الطبيعة، وهو جواب يراد به التفصي لا غير؛ إذ لا معنى له، بل هو وسيلة

لإسكات السائل بذكر كلمة فارغة مكان الجواب. إن كلمة (طبيعة) ما أقنعتني قط،

أما جوابي أنا فهو أن الجلد لم ينبت ثانية، كما كان أولاً بمجرد الاتفاق، بل إن

هناك من وضع رسوم النمو الثاني وعني بمطابقته لرسوم النمو الأول من كل وجه

وأنت لا تعلم شيئًا من تلك الرسوم، فإن دماغك لم يشترك في هذا العمل، وهنا

تدخل الكائنات المشار إليها وتشترك في العمل، وأنا أعتقد جد الاعتقاد أنها تحوك

نسيج جلد الإبهام بمزيد العناية، مستعينة على رسم التفاصيل الدقيقة بذاكرتها

العجيبة.

ولزيادة الإيضاح أقول: لنفرض أن كائنًا من سكان المريخ هبط إلى هذه

الأرض، ولنفرض أن بصره ليس دقيقًا كبصرنا، وأن أصغر شيء يمكنه أن يراه

بعينيه هو جسر (كُبْري) مثل جسر بروكلن فهو إذًا لا يرى أجسامنا، وقد يحسب

الجسر المذكور شيئًا طبيعيًّا، كما نحسب نحن العشب أو الرمل أو المعادن وغيرها

من الأشياء الطبيعية، ولنفرض أنه هدم جسر بروكلن وذهب ثم عاد بعد سنين،

فمر من هناك فوجد جسرًا جديدًا مكان القديم وعلى مثاله، فهل يقوده الفكر الصحيح

إلى افتراض أن الجسر الجديد نما بنفسه مكان القديم، وعلى مثاله، أو إلى افتراض

أنه مد ثانية بفعل فاعل عاقل، لا ريب أن الفرض الثاني أقرب إلى العقل.

هذا هو الموقف الذي يجب أن نقفه نحن بإزاء الكائنات الحيوية، والمسألة

كلها مجرد افتراض وتخمين كما لا يخفى، فقد يكون 95 في المائة من تلك الكائنات

التي تتألف أجسامنا منها عمالاً، والخمسة الباقية مديرة للعمل وقد يكون غير ذلك،

ومهما يكن من الأمر فإن مجموعها هو الذي يكون شكل أجسامنا الطبيعي وصفاتنا

العقلية وشخصياتنا وما أشبه ذلك.

وهذه الكائنات هي الحياة بعينها، وهي لا تفتأ تعمل وترمم أنسجة أجسامنا

وتشرف على وظائف أعضائنا، فإذا أصيب الجسم بطارئ أفضى إلى موته كأن

يكون مرضًا عضالاً أو عارضًا أو هرمًا، فإن هذه الكائنات تفارقه ولا تترك

وراءها إلا بناءً خاويًا خاليًا، ولما كانت عمالاً لا تكل ولا تمل، فإما أن تدخل جسم

إنسان آخر أو تبدأ العمل في صورة أخرى من صور الحياة وأشكالها، وسواء كان

هذا أو ذاك فإن هذه الكائنات محدودة العدد، وهي نفسها عملت كل شيء في عالمنا

هذا، ولكن تعدد التراكيب التي تتألف منها هو الذي أوقعنا في الخطأ، فحسبنا أن

لكل مولود حياة جديدة.

وهذه الكائنات خالدة لا تموت، فإنك لا تستطيع إفناءها، كما لا تستطيع إفناء

المادة، وجهد ما هناك أنك تستطيع تغيير صورة المادة لا غير، فقد كان مقدار

الذهب والحديد والكبريت والأكسجين وغيرها في بدء العالم كما هو الآن بلا زيادة

ولا نقصان، نعم إننا نستطيع التغيير في تركيب مركبات هذه العناصر، ولكننا لم

نظفر بتغيير نسب بعضها إلى بعض.

وهذا هو حال الكائنات الحيوية، فإننا لا نستطيع إفناءها بل نغير صورها

وأشكالها، وقدرتها متعددة الضروب حتى يصعب علينا تمييز أعمالها في كل

الأحوال. وعليه لم يستطع العلماء حتى الآن أن يرسموا حدًّا بين الأشياء الحية

وغير الحية، وقد يكون أن هذه الكائنات تمتد إلى الجماد وتعمل فيه، وإلا فما

الشيء الذي يجعل البلورات تتكون على أشكال هندسية محددة؟

والآن نأتي إلى مسألة الشخصية، أنت لكربورا (اسم الكاتب) وأنا أو

أديصن؛ لأن في كل منا مجموعًا من الكائنات يختلف عن مجموع الآخر، فقد

أثبت الطب باثنتين وثمانين عملية جراحية شهيرة عملت حتى الآن أن مركز

شخصيتنا هو في تلفيف من تلافيف الدماغ اسمه تلفيف (بروكا) ، ومن العقل

والصواب أن نفرض أن مركز مقر الكائنات التي تدير حركاتنا وتشرف عليها

إنما هو في ذلك التلفيف، فهو الذي يشعرنا بالتأثيرات العقلية وبشخصيتنا.

ولقد قلت: إن ما نسميه الموت إنما هو مفارقة تلك الكائنات لأبداننا. والمسألة

كلها في زعمي هي مسألة ما يجري للكائنات المرشدة التي مقرها في تلفيف بروكا؛

إذ المعقول أن الكائنات الأخرى التي تعمل عملاً ميكانيكيًّا في أجسامنا تتشتت

وتذهب في جهات مختلفة طلبًا للعمل فيها، وأما الكائنات التي تتكون منها

شخصياتنا فتكون أنت بها لكربورا وأكون أنا أديصن، ويكون زيد زيدًا، فماذا

يجري بها؟ هل تبقى مجموعة واحدة أو تتفرق في الكون طالبة العمل منفردة لا

مجتمعة؟ فإن كانت تتفرق فإن شخصياتنا لا تبقى بعد الموت، فقد تقدم القول أن

هذه الكائنات تعيش إلى الأبد وتمنحنا الخلود الذي يرجوه كثير منا، ولكن إن كانت

تتفرق ثم تتحد بكائنات أخرى لتؤلف أجسامًا جديدة منا فإن ذلك يضيع علينا

شخصياتنا والخلود الذي نرجوه؛ أي خلود تلك الشخصيات بعينها.

ولي الرجاء أن شخصياتنا تبقى، فإن كانت تبقى فإن الآلة التي أنا ساع في

اختراعها لا بد أن تفيدنا، وهذا ما يحدوني على الانهماك بعملها وإخراجها على

غاية من الدقة، وإني أنتظر النتيجة بذاهب الصبر.

(المنار)

يؤخذ من حديث هذا المخترع الشهير أنه يعتقد بنظره العقلي واختباره

العلمي جواز ما يجزم به جميع المليين إيمانًا بالغيب، وكثير من الفلاسفة والعلماء

الروحيين بالدلائل أو الاختبار الذي يعرف باستحضار الأرواح، ويرجو أن يكون

ما يجوزه ويقول بإمكانه من الحياة بعد الموت والبقاء بعد فناء هذه الهياكل الجسدية

حقًّا واقعًا وإن كان يرتاب فيه بما شرحه من نظريته الخيالية في سر الحياة وسببها،

وبناءً على هذا الرجاء يحاول وضع الآلة الكهربائية التي يرى أنها تكون خير

وسيلة وأقوى سبب لتأثير أرواح الموتى في الأحياء بمخاطبتها لهم بها إن كان ذلك

مما تتوجه إليه، وتعنى به كما يدعي أهل المذهب الروحاني الذي عرفه الإفرنج في

هذا العصر، وكان معروفًا عند الصوفية في القرون الماضية والعصور الخالية.

فتأمل كيف قربت العلوم المادية عالم الغيب من عالم الشهادة، إن في ذلك للمتفكرين،

وقد أقر بجهله بحقيقة الروح ولا غرو {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ

العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .

_________

(1)

نشرت في بعض الصحف المصرية والسورية واعتمدنا ترجمة المقتطف منها مع تصحيح لغوي قليل.

ص: 267

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

‌تاريخ فنون الحديث

(4)

الجوامع العامة

(أ) منها جامع المسانيد والألقاب لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي

الجوزي [1] جمع فيه بين الصحيحين ومسند أحمد وجامع الترمذي، وقد رتبه أحمد

بن عبد الله المكي [2] .

(ب) ومنها جامع المسانيد والسنن لأقوم سنن، للحافظ إسماعيل بن عمر

الوشي الدمشقي المعروف بابن كثير [3] جمعه من الصحيحين وسنن النسائي وأبي

داود والترمذي وابن ماجه ومن مسانيد أحمد والبزار وأبي يعلى والمعجم

الكبير للطبراني.

(ج) ومنها مجمع الزوائد للحافظ أبي الحسن علي الهيتمي [4] جمع فيه

زوائد مساند أحمد وأبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة وموجود منه بدار

الكتب ثماني مجلدات، وقد شرع بطبعه من زهاء 20 سنة ولعله تم.

(د) ومنها مصابيح السنة للإمام حسين بن مسعود البغوي [5] جمع فيه

4484 حديثًا من الصحاح والحسان ويعني صاحبها بالصحاح ما أخرجه الشيخان،

وبالحسان ما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وما كان فيها من ضعيف أو

غريب بينه، ولا يذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا. وقد اعتنى العلماء بها عناية

عظيمة فشرحوها شروحًا كثيرة، وكملها محمد بن عبد الله الخطيب وذيل أبوابها،

فذكر الصحابي الذي روى الحديث، والكتاب الذي أخرجه وزاد على كل باب من

الصحاح والحسان فصلاً ثالثًا عدا بعض الأبواب، وكان ذلك سنة 737 فجاء كتابًا

حافلاً وأسماه مشكاة المصابيح، وقد شرح المشكاة كثيرون.

(هـ) ومنها جمع الجوامع في الحديث لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

جمع فيه بين الكتب الستة وغيرها، وقد قصد في كتابه جمع الأحاديث النبوية

بأسرها، قال المناوي: إنه مات قبل أن يتمه، ولقد اشتمل كتابه على كثير من

الأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة، وقد هذب ترتيبه علاء الدين علي بن حسام

الهندي المتوفى بمكة سنة 975 في كتابه كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال،

وقد اختصر السيوطي كتابه في الجامع الصغير وزوائده.

(و) ومنها إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة لأحمد بن أبي بكر

البوصيري [6] أفرد فيه زوائد مسانيد أبي داود الطيالسي والحميدي ومسدد وابن أبي

عمرو وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة وأحمد بن منيع وعبد بن حميد والحارث بن

محمد بن أبي أسامة وأبي يعلى الموصلي، أي ما زاد من أحاديثها على الكتب الستة

وهو مرتب على مائة كتاب.

***

الكتب الجامعة لأحاديث الأحكام

(أ) منها الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد [7] ، جمع فيه متون

الأحكام وشرحه، ولكن لم يكمل شرحه، ويقال: إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم

منه.

(ب) ودلائل الأحكام من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لابن شداد

الحلبي [8] تكلم فيه على الأحاديث المستنبطة منها الأحكام في الفروع، ويقع في

مجلدين.

(ج) ومنتقى الأخبار في الأحكام للحافظ مجد الدين أبي البركات عبد السلام

بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني المعروف بابن تيمية الحنبلي [9] انتقاه من

صحيحي البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد، وجامع أبي عيسى الترمذي،

والسنن للنسائي، وأبي داود، وابن ماجه، واستغنى بالعزو إلى هذه المسانيد عن

الإطالة بذكر الأسانيد، وإنه لكتاب قيم شرحه الإمام المجتهد الشوكاني محدث

اليمن [10] شرحًا مسهبًا بلغ ثمانية أجزاء جمع فيه من فقه الحديث ما لعله يعز عليك

في كتاب آخر، وقد أسمى شرحه نيل الأوطار، طبع بمصر ونفدت نسخه.

(د) وبلوغ المرام من أدلة الأحكام، للحافظ أحمد بن علي بن حجر

العسقلاني [11] وممن شرحه شرحًا وجيزًا صديق حسن خان [12] بلغ شرحه مجلدين،

طبع ونفدت نسخه. وقد اشتمل بلوغ المرام على ألف وأربعمائة حديث من

أحاديث الأحكام، وهو كتاب عظيم القدر طبع في مصر وفي الهند مع حواشي

للسيد أحمد حسن الدهلوي المعاصر، بيّن فيها علل الأحاديث المعلولة وخلاصة

المعنى.

***

كتب أخرى

من الكتب النفيسة في الحديث (المختارة) لمحمد بن عبد الواحد المقدسي [13]

التزم فيها الصحة، فصحح أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها، ولم يتم الكتاب، وقد

رجحه بعض الحفاظ على مستدرك الحاكم، ومنها (السنن) كتابا الكبير والصغير،

كتابان لأحمد بن حسين البيهقي [14] قيل: لم يصنف في الإسلام مثلهما، قال ابن

الصلاح: ما تم كتاب في السنة أجمع للأدلة من كتاب السنن الكبرى للبيهقي،

وكأنه لم يترك في سائر أقطار الأرض حديثًا إلا وقد وضعه في كتابه. ومنها بحر

الأسانيد للإمام الحافظ الحسن بن أحمد السمرقندي [15] جمع فيه مائة ألف

حديث، رتبه وهذبه ولم يقع في الإسلام مثله. ومنها الترغيب والترهيب للحافظ

المنذري [16] ، وهو من أحسن الكتب طريقة في جمع الحديث وبيان درجته،

وليت كتب الحديث كلها على نمطه، وهو مطبوع.

***

ترتيب كتب الحديث في الصحة

قد بينا فيما سلف درجة كل كتاب من كتب السنة الشهيرة في الصحة،

وها نحن أولاء ندلي إليك بفصلٍ جمّ الفائدة عظيم العائدة ينجلي لك فيه ترتيب كتب

السنة من حيث الصحة لتكون على بينة من أمرها، فنقول وبالله توفيقنا:

قد قسم الجمهور الحديث الصحيح بالنظر إلى تفاوت الأوصاف المقتضية

للصحة إلى سبعة أقسام كل قسم منها أعلى مما بعده، فالأول ما أخرجه البخاري

ومسلم ويسمى بالمتفق عليه، والثاني ما انفرد به البخاري، والثالث ما انفرد به

مسلم، والرابع ما كان على شرطهما مما لم يخرجه واحد منهما، والخامس ما كان

على شرط البخاري، والسادس ما كان على شرط مسلم، والسابع ما صححه أحد

الأئمة المعتمدين، وترجيح كل قسم من هذه الأقسام السبعة على ما بعده إنما هو

من قبيل ترجيح الجملة على الجملة، لا ترجيح كل واحد من أفراده على كل واحد

من أفراد الآخر، فيسوغ أن يرجح حديث في مسلم على آخر في البخاري إذا

وجد موجب الترجيح، ولقد كتب الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المُحدّث

الدهلوي [17] في كتابه (حجة الله البالغة) فصلاً في طبقات كتب الحديث نورد لك

خلاصته، قال:

طبقات كتب الحديث أربع: فالطبقة الأولى منحصرة بالاستقراء في ثلاثة

كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم.

والطبقة الثانية كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين، ولكنها تتلوها، كان

مصنفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحر في فنون الحديث، ولم

يتساهلوا فيها، وتلقاها من بعدهم بالقبول، واعتنى بها المحدثون والفقهاء، وذاعت

بين الناس كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي، وهذه الكتب مع

الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها رزين بن معاوية العبدري السرقسطي في تجريد

الصحاح، وابن الأثير في جامع الأصول، وكاد مسند أحمد يكون من هذه الطبقة.

والطبقة الثالثة مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم وفي

زمنهما وبعدهما، جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والمنكر

والغريب والشاذ والخطأ والصواب والثابت والمقلوب [18] ، ولم تشتهر في العلماء

ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة، ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء

كثير تداول ولم يفحص عن صحتها وضعفها المحدثون كبير فحص، ومنها ما لم

يخدمه لغوي لشرح غريب، ولا فقيه بتطبيقه على مذاهب السلف، ولا محدث

ببيان مشكله، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله، ولا أريد المتأخرين المتعمقين، وإنما

كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث فهي باقية على استتارها وخمولها،

كمسند أبي يعلى، ومصنف عبد الرازق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة، ومسند

عبد بن حميد، ومسند الطيالسي، وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني، وكان

قصدهم جمع ما وجدوه من الحديث لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل.

والطبقة الرابعة كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في

الطبقتين الأوليين، وكانت في المجاميع والمسانيد المختلفة فنوهوا بأمرها، وكانت

على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون، ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل

الأهواء والضعفاء، أو كانت من آثار الصحابة والتابعين، أو من كلام الحكماء

والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم سهوًا أو عمدًا، أو

كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح، فرواها بالمعنى قوم صالحون لا

يعرفون غوامض الرواية، فجعلوا المعاني أحاديث معروفة أو كانت مفهومة من

إشارات الكتاب، والسنة جعلوها أحاديث منفصلة برأسها عمدًا، وكانت جملاً شتى

في أحاديث مختلفة جعلوها حديثًا واحدًا بنسق واحد، ومظنة هذه الأحاديث كتاب

الضعفاء لابن حبان والكامل لابن عدي وكتب الخطيب وأبي نعيم والجوزقاني

وابن عساكر وابن النجار والديلمي، وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة،

وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفًا محتملاً، وأسوؤها ما كان موضوعًا أو مقلوبًا

شديد النكارة، وهذه الطبقة مادة كتب الموضوعات لابن الجوزي، أما الطبقة

الأولى والثانية فعليهما اعتماد المحدثين، وأما الثالثة فلا يباشرها للعمل عليها

والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث، نعم

ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، وأما الرابعة

فالاشتغال بجمعها أو الاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين، وإن شئت الحق

فطوائف المبتدعين من الرافضة، وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها

شواهد مذاهبهم، فالانتصار بها غير صحيح في معترك العلماء بالحديث اهـ.

ولأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري [19] مقالة في ترتيب كتب

الحديث، جرى فيها على ما ظهر له في ذلك، ذكرها في كتاب مراتب

الديانة، وقد أورد السيوطي خلاصتها في كتاب التقريب، فقال: وأما ابن حزم

فإنه قال: أولى الكتب الصحيحان، ثم صحيح سعيد بن السكن [20] والمنتقى لابن

الجارود [21] والمنتقى لقاسم بن أصبغ [22] ، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود [23]

وكتاب النسائي [24][*] ، ومصنف قاسم بن أصبغ، ومصنف الطحاوي [25] ، ومسند

أحمد [26] ، ومسند البزار [27] ، وأبي بكر [28] وعثمان [29] ابني أبي شيبة، ومسند ابن

راهويه [30] ، والطيالسي [31] ، والحسن بن سفيان [32] ، والمستدرك للحاكم [33] وكتاب

ابن سنجر [34] ، ويعقوب بن شيبة [35] ، وعلي بن المديني [36] ، وابن أبي

عزرة [37] ، وما جرى مجراها من الكتب التي أفردت لكلام رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - ثم بعدها الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره. ثم ما كان فيه الصحيح فهو

أجل مثل مصنف عبد الرزاق [38] ، ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف بقي بن مخلد

القرطبي [39] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [40] ، وكتاب ابن المنذر [41] ، ثم

مصنف حماد بن سلمة [42] ، ومصنف سعيد بن منصور [43] ، ومصنف وكيع بن

الجراح [44] ، ومصنف الرزبالي، وموطأ مالك،وموطأ ابن أبي ذئب [45] ، وموطأ

ابن وهب [46] ، ومسائل أحمد بن حنبل، وفقه أبي عبيد [47] ، وفقه أبي ثور [48] ،

وما كان من هذا النمط مشهورًا كحديث شعبة [49] ، وسفيان [50] ، والليث [51] ،

والأوزاعي [52] ، والحميدي [53] ، وابن مهدي [54] ، ومسدد [55] ، وما جرى مجراها،

فهذه طبقة موطأ مالك، بعضها أجمع للصحيح منه، وبعضها مثله، وبعضها دونه،

ولقد أحصيت ما في حديث شعبة من الصحيح فوجدته ثمانمائة حديث ونيفًا مسندة،

ومرسلاً يزيد على المائتين، وأحصيت ما في موطأ مالك وما في حديث سفيان بن

عيينة فوجدت في كل واحد منهما من المسند خمسمائة ونيفًا مسندة، وثلاثمائة مرسلاً

ونيفًا، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة

وهَّاها جمهور العلماء.

***

تاريخ علوم الحديث الأخرى

إلى هنا كانت العناية موجهة إلى تاريخ الحديث من حيث الكتب الجامعة

لألفاظه والشارحة لمتونه، وإن ذلك لغرض من أغراض، وناحية من نواح، فإن

خيرة المسلمين، وشيوخ المحدثين، كما عنوا بذلك عنوا بالتأليف في شرح غريبه،

وبيان ناسخه من منسوخه، وإظهار حال رجاله والكشف عن علومه ومصطلحاته،

من صحيح وعليل ومقبول، ومردود ومتواتر ومشهور إلى غير ذلك من جليل

الأغراض ومتنوع الأقسام.

وسنفرد فصلاً لكل نوع من أنواعه الشهيرة، نلم فيه بتوضيحه ونعرج على

تاريخه، مقرنين ذلك بذكر أحسن المؤلفات فيه حتى يتجلى لك تاريخ الحديث من

جملة نواحيه.

***

علم غريب الحديث

الغريب من الكلام يقال على وجهين: أحدهما أن يراد به بعيد المعنى غامضه

بحيث لا يتناوله الفهم إلا عن بُعد ومعاناة فكر، والوجه الآخر أن يراد به كلام من

بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب.

وها نحن أولاء نحكي لك خلاصة ما قاله ابن الأثير في مفتتح نهايته، فإنه

أحسن من وفّى هذا الموضوع قسطه من البيان، ضامين إليه ما عثرنا عليه في

بطون الكتب التي تعرضت لهذا الشأن.

كان صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لسانًا، وأوضحهم بيانًا،

وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طرق الصواب، وكان يخاطب العرب

على اختلاف شعوبهم وتباين لهجاتهم، كلاًّ منهم بما يفهم، ويحادثه بما يعلم، وكان

أصحابه والوفود عليه من العرب يعرفون أكثر ما يقول، وما جهلوه سألوه عنه

فيوضحه لهم، واستمر عصره صلى الله عليه وسلم إلى حين وفاته على هذا

السنن المستقيم، وعليه سلك الصحابة في عصرهم، وكان اللسان العربي عندهم

صحيحًا محروسًا من الدخيل إلى أن فتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم من

الروم والفرس والحبش والنبط، وغيرهم من أنواع الأمم الذين فتحت بلادهم

للمسلمين، ورفرف عليها علم الموحدين فاختلطت الفرق وامتزجت الألسن وتداخلت

اللغات، ونشأ بينهم الأولاد فتعلموا من اللسان العربي ما لا بد لهم في الخطاب

والمحاورة منه، وتركوا ما عداه؛ لغنيتهم عنه.

واستمر الأمر على هذا النهج إلى أن

انقرض عصر الصحابة - القرن الأول - وجاء التابعون لهم بإحسان فسلكوا سبيلهم،

وإن كانوا في الإتقان دونهم، ولم ينقض زمانهم - سنة 150 - إلا واللسان

العربي قد استحال أعجميًّا، أو كاد، فلا ترى المستقل به والمحافظ عليه إلا الآحاد،

فجهل الناس من هذا المهم ما كان يلزمهم معرفته، وأخروا منه ما كان يجب

عليهم تقدمته، فلما أعضل الداء، وعز الدواء، ألهم الله جماعة من أولي المعارف

والنهى أن يصرفوا إلى هذا الشأن طرفًا من عنايتهم، فشرعوا للناس موارده،

وقعدوا لهم قواعده، فقيل: إن أول من جمع في هذا الفن شيئًا أبو عبيدة معمر بن

المثنّى البصري [56] ، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتيبًا صغيرًا، ولم تكن

قلته لجهله بغيره من غريب الحديث، وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما: أن كل مبتدع

لأمر لم يسبق إليه فإنه يكون قليلاً ثم يكثر، والثاني: أن الناس يومئذ كان فيهم بقية

وعندهم معرفة، فلم يكن الجهل قد عم. ثم جمع أبو الحسن النضر بن شميل

المازني [57] كتابًا أكبر من كتاب أبي عبيدة بسط فيه القول على صغر حجمه، ثم

جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي - وكان في عصر أبي عبيدة، وتأخر عنه - كتابًا

أحسن فيه الصنع وأجاد، ونيف على كتابه وزاد، وكذلك محمد بن المستنير

المعروف بقطرب [58] ، وغيره من أئمة اللغة والفقه جمعوا أحاديث وتكلموا على

لغتها ومعناها في أوراق ذوات عدد، ولم يكد أحدهم ينفرد عن الآخر بكثير حديث

لم يذكره الآخر، واستمر الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام [59] ، وذلك بعد

المائتين، فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار أفنى فيه عمره؛ إذ جمعه

في أربعين سنة، وإنه لكتاب حافل بالأحاديث والآثار الكثيرة والمعاني اللطيفة

والفوائد الجمة، ولقد ظن رحمه الله على كثرة تعبه وطول نصه أنه قد أتى

على معظم الغريب، وما علم أن الشوط بطين، والمنهل معين، ولقد بقي كتابه

معتمد الناس إلى عصر أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري [60] ،

فصنف كتابه المشهور ولم يودعه شيئًا من كتاب أبي عبيد إلا ما دعت الحاجة إليه

من زيادة شرح وبيان، أو استدراك أو اعتراض، فجاء مثل كتاب أبي عبيد أو

أكثر منه، وقد قال في مقدمته: أرجو أن لا يكون بقي بعد هذين الكتابين من

غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال. وقد كان في عصره إبراهيم بن إسحاق

الحربي الحافظ [61] جمع كتابًا في الحديث بلغ خمس مجلدات، بسط فيه القول

وأطال بذكر المتون وأسانيدها، ولو لم يكن في المتن إلا كلمة واحدة من الغريب،

فهجر الناس لذلك كتابه، وإن كان جم الفائدة، ثم أكثر الناس من التصانيف في هذا

الفن كالمبرد [62] ، وثعلب [63] ، ومحمد بن قاسم الأنباري [64] ، وسلمة من عاصم

النحوي ، وعبد الملك بن حبيب المالكي، ومحمد بن حبيب البغدادي، وغيرهم من

أئمة اللغة والنحو والفقه والحديث، واستمرت الحال إلى عهد الإمام محمد بن أحمد

الخطابي البستي [65] فألّف كتابه المشهور في غريب الحديث سلك فيه نهج أبي عبيد

وابن قتيبة، وصرف عنايته فيه إلى جمع ما لم يوجد في كتابيهما، فاجتمع له من ذلك

ما يداني كتاب أبي عبيد أو كتاب صاحبه، فكانت هذه الكتب الثلاثة في غريب

الحديث والأثر أمهات الكتب، وهي الدائرة في أيدي الناس، وعليها يعول علماء

الأمصار، إلا أن هذه الكتب الثلاثة وغيرها لم يكن فيها كتاب صنف مرتبًا ومقفى

يرجع الإنسان عند طلب الحديث إليه إلا كتاب الحربي، وهو على طوله وعسر

ترتيبه لا يوجد الحديث فيه إلا بعد تعب وعناء، ثم هي مع ذلك متفرقة فيها

الأحاديث، فلا يعلم الناظر في أيها يوجد الغريب فيحتاج إلى البحث في كثير منها

حتى يجد غرضه.

فلما كان زمن أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي [66]- وهو من طبقة

الخطابي ومعاصريه - ألّف كتابه السائر، جمع فيه بين غريب القرآن والحديث

ورتبه ترتيبًا لم يسبق إليه، فاستخرج الكلمات اللغوية الغريبة من أماكنها وأثبتها في

حروفها مرتبًا لها على حروف المعجم ولم يفعمه بالأسانيد والمتون والرواة - شأن

ما سبقه من الكتب - فإن ذلك له علم مستقل به، وقد جمع فيه من غريب الحديث

ما في كتب من تقدمه وأربى عليه، فجاء كتابًا جامعًا في الحسن بين الإحاطة

والوضع، إلا أنه جاء الحديث مفرقًا في حروف كلماته، ولقد ذاع صيت هذا

الكتاب بين الناس واتخذوه عمدة في الغريب، واقتفى أثره كثيرون، واستدرك ما

فاته آخرون.

وما زالت الأيام تنقضي عن تصانيف وتبرز تآليف إلى عهد الإمام أبي القاسم

محمود بن عمر الزمخشري [67] فألف كتابه الفائق في غريب الحديث، وإنه لكتاب

قيم رتبه على وضع اختاره مقفى على حروف المعجم، ولكن في العثور على معرفة

الغريب منه مشقة وإن كانت دون غيره مما سبقه؛ لأنه جمع في التقفية بين إيراد

الحديث مسرودًا جميعه أو بعضه، ثم شرح ما فيه من غريب فيجيء شرح كلماته

الغريبة في حرف واحد فترد الكلمة في غير حروفها، فكان لذلك كتاب الهروي أقرب

منه متناولاً، وإن كانت كلمات الحديث متفرقة في حروفها.

ولقد ألف أبو بكر محمد بن أبي بكر المديني الأصفهاني [68] كتابًا جمع فيه

على طريقة الهروي ما فاته من غريب القرآن والحديث، وكذلك صنف أبو الفرج

عبد الرحمن بن علي الجوزي [69] كتابًا في غريب الحديث خاصة نهج فيه منهج

الهروي، بل كتابه مختصر من كتابه لا يزيد عليه إلا الكلمة الشاذة واللفظة الفاذة،

بخلاف كتاب أبي موسى المديني فإنه لا يذكر منه إلا ما دعت الحاجة إليه.

أقول: ثم جاء مجد الدين مبارك بن محمد بن محمد الشيباني المعروف بابن

الأثير [70] ، الذي لخصت ما تقدم من مقدمة نهايته، فجمع ما في كتاب الهروي وأبي

موسى من غريب الحديث والأثر، وأضاف إليه ما عثر عليه في كتب السنة من

صحاح وسنن وجوامع ومصنفات ومسانيد - وإنه لكثير - سالكًا في الترتيب منهج

أصله، فكان من ذلك كتابه، النهاية في غريب الحديث والأثر، وقد رمز لما في

كتاب الهروي بالهاء، ولما في كتاب أبي موسى المديني بالسين، وقد ذيل النهاية

محمود بن أبي بكر الأرموي [71] واختصرها عيسى بن محمد الصفوي [72] ، فيما

يقرب من نصف حجمها، وكذلك الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر

السيوطي [73] ، في كتابه الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير، وله التذييل

والتذنيب على نهاية الغريب، وقد طبعت النهاية وعلى هامشها الدر النثير مشكولة

وغير مشكولة.

***

علم رجال الحديث

هذا فن جليل القدر عظيم الأثر، الحاجة إليه داعية، والضرورة به قاضية،

وليس من عظيم في الحديث هو عنه بعيد أو باعه فيه قصير، وكيف لا يكون

كذلك وهو نصف علم الحديث؟ فإنه سند ومتن والسند عبارة عن الرواة، فمعرفة

أحوالهم نصف هذا العلم بلا ريب.

والكتب المصنفة فيه كثيرة الأنواع، متشعبة الأغراض، فمن مؤلف في

أسماء الصحابة خاصة، أو في رواة الحديث عامة، ومن خاص بالثقات أو

الضعفاء أو الحفاظ أو المدلسين أو الوضّاعين، ومن مبين للجرح والتعديل

وألفاظهما ومراتب كل منها، ومن كاشف عن المؤتلف والمختلف أو المتفق

والمفترق من الأسماء والأنساب، ومن قاصر على ذكر الوفيات أو موضح لرجال

كتاب معين أو عدة كتب مخصوصة، وكل كتب فيه العلماء فأحسنوا الكتابة وبلغوا

فيها الغاية كما ترى بعد:

***

(أ) أسماء الصحابة

الصحابي: كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على

ذلك، ولو تخللت ردة في الأصح. وأول من يعرف عنه التصنيف في هذا النوع أبو

عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري [74] ، أفرد أسماء الصحابة في مؤلف، وجمعها

مضمومة إلى من بعدهم جماعة من طبقة مشايخه كخليفة بن الخياط المحدث

النسابة [75] ، ومحمد بن سعد [76] الذي بلغ مؤلفه خمسة عشر مجلدًا ، ومن قرنائه

كيعقوب بن سفيان [77] وأبي بكر بن أبي خيثمة [78] ، وصنف في الصحابة

خاصة جَمْعٌ بعدهم كالحافظ البغوي عبد الله بن محمد بن عبد العزيز [79] وأبي

بكر الحافظ الكبير عبد الله بن أبي داود [80] ، ثم علي بن السكن [81] وأبو بكر

عمر بن أحمد المعروف بابن شاهين [82] ، وأبو منصور البارودي وأبو حاتم

الرازي ابن حبان [83] ، وسليمان بن أحمد الطبراني [84] ضمن معجمه الكبير، ثم

عبد الله بن منده [85] ، والحافظ أبو نعيم [86] ، ثم عمر بن عبد البر [87] ، ألف

كتابه الاستيعاب، وسماه بذلك؛ لظنه أنه استوعب كتب من قبله في كتابه، ومع ذلك

ففاته شيء كثير فذيل عليه أبو بكر بن فتحون ذيلاً حافلاً، وذيل عليه جماعة في

تصانيف لطيفة، وذيل أبو موسى المديني [88] على ابن منده ذيلاً كبيرًا، وما زال

الناس يؤلفون في ذلك إلى أن كانت تباشير القرن السابع فجمع عز الدين ابن

الأثير [89] كتابًا حافلاً سماه أسد الغابة جمع فيه كثيرًا من التصانيف المتقدمة، إلا

أنه تبع من قبله فخلط من ليس صحابيًّا بهم، وأغفل كثيرًا من الأوهام الواقعة في

كتبهم، ثم جرد الأسماء التي في كتابه مع زيادات عليها الحافظ أبو عبد الله

الذهبي [90] في كتابه التجريد، وأعلم لمن ذكر غلطًا ولمن لا تصح صحبته، ولم

يستوعب ذلك ولا قارب، ثم جاء الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني [91] ، فألف كتابه

الإصابة في تمييز الصحابة، في ثمانية أجزاء صغيرة، جمع فيه ما في الاستيعاب

وذيله وأسد الغابة، واستدرك عليهم كثيرًا، وقد اختصره تلميذه جلال الدين

السيوطي في كتاب سماه عين الإصابة.

وقد ألف كل من البخاري ومسلم كتابا في أسماء الوحدان؛ أي: الصحابة الذين

ليس لهم إلا حديث واحد، وكذلك ألف يحيى بن عبد الوهاب بن منده الأصبهاني [92]

كتابا فيمن عاش من الصحابة عشرين سنة ومائة.

***

(ب) علم الجرح والتعديل

هو علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب

تلك الألفاظ والكلام في الرجال جرحًا وتعديلاً ثابتًا عن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم - وجوز ذلك صونًا للشريعة

لا طعنًا في الناس، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة والتثبت في أمر

الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال، فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في

ذلك.

وقد تكلم في الرجال خلق لا يتهيأ حصرهم، وقد سرد ابن عدي [93]

في مقدمة كتابه الكامل جماعة إلى زمنه، فمن الصحابة ابن عباس [94] وعبادة

ابن الصامت [95] وأنس [96] ، ومن التابعين الشعبي [97] وابن سيرين [98] وسعيد بن

المسيب [99] ، وهم قليل بالنسبة لمن بعدهم، وذلك لقلة الضعف، فيمن يروون

عنهم، إذ أكثرهم صحابة وهم عدول، وغير الصحابة منهم أكثرهم ثقات؛ إذ لا يكاد

يوجد في القرن الأول من الضعفاء إلا القليل، وأما القرن الثاني فقد كان في أوائله

من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء وضعف أكثرهم نشأ غالبًا من قبل تحملهم

وضبطهم للحديث، فكانوا يرسلون كثيرًا ويرفعون الموقوف، وكانت لهم أغلاط

وذلك مثل أبي هارون العبدري [100] ، ولما كان آخر عصر التابعين وهو حدود

الخمسين ومائة، تكلم في التعديل والتجريح طائفة من الأئمة فضعف الأعمش [101]

جماعة ووثق آخرين، ونظر في الرجال شعبة [102] وكان متثبتًا لا يكاد يروي

إلا عن ثقة، ومثله مالك [103] وممن كان في هذا العصر إذا قال قبل قوله

معمر [104] وهشام الدستوائي [105] والأوزاعي [106] وسفيان الثوري [107] وابن

الماجشون [108] وحماد بن سلمة [109] والليث بن سعد [110] ، وبعد هؤلاء طبقة

منهم ابن المبارك [111] وهيثم بن بشير [112] وأبوإسحاق الفزاري [113]

والمعافى بن عمران الموصلي [114] وبشر بن المفضل [115] وابن عيينة [116] ،

وقد كان في زمنهم طبقة أخرى، منهم ابن علية [117] وابن وهب [118] ووكيع بن

الجراح [119] ، وقد انتدب في ذلك الزمان لنقد الرجال الحافظان الحجتان يحيى بن

سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي [120] ، وكان للناس وثوق بهما فصار من

وثّقاه مقبولاً، ومن جرّحاه مجروحًا، ومن اختلفا فيه - وذلك قليل - رجع

الناس فيه إلى ما ترجح عندهم، ثم ظهرت بعدهم طبقة أخرى يرجع إليهم في ذلك

منهم يزيد بن هارون [121] وأبو داود الطيالسي [122] وعبد الرزاق بن همام [123]

وأبو عاصم الضحاك النبيل بن مخلد [124] .

ثم صنفت الكتب في الجرح والتعديل والعلل، وبينت فيها أحوال الرواة،

وكان رؤساء الجرح والتعديل في ذلك الوقت جماعة منهم يحيى بن معين [125] ،

وقد اختلفت آراؤه وعبارته في بعض الرجال كما تختلف آراء الفقيه النحرير

وعبارته في بعض المسائل التي لا تكاد تخلص من إشكال، ومن طبقته أحمد بن

حنبل [126] ، وقد سأله جماعة من تلامذته عن كثير من الرجال، فتكلم فيهم بما بدا له،

ولم يخرج بهم عن دائرة الاعتدال، وقد تكلم في هذا الأمر محمد بن سعد [127]

كاتب الواقدي في طبقاته، وكلامه جيد معقول، وأبو خيثمة زهير بن حرب [128]

وله في ذلك كلام كثير، وأبو جعفر عبد الله بن محمد النبيل حافظ الجزيرة

الذي قال فيه أبو داود: لم أر أحفظ منه. وعلي بن المديني [129] وله التصانيف

الكثيرة في العلل والرجال، ومحمد بن عبد الله بن نمير [130]، الذي قال فيه أحمد:

هو درة العراق. وأبو بكر بن أبي شيبة [131] صاحب المسند، وكان آية في

الحفظ، وعبد الله بن عمرو القواريري [132] الذي قال فيه صاحب جرزة: هو أعلم

من رأيت بحديث أهل البصرة. وإسحاق بن راهويه [133] إمام خراسان، وأبو جعفر

محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ، وله كلام جيد في الجرح والتعديل،

وأحمد بن صالح [134] حافظ مصر، وكان قليل المثل [135] ، وهارون بن عبد الله

الحمال [136] ، وكل هؤلاء من أئمة الجرح والتعديل.

ثم خلفتهم طبقة أخرى متصلة بهم، منهم إسحاق الكوسج [137]

والدارمي [138] والبخاري [139] والعجلي الحافظ نزيل المغرب [140] ، ويتلوهم أبو

زرعة [141] وأبو حاتم [142] الرازيان، ومسلم [143] وأبو داود السجستاني [144] ،

وبقي بن مخلد [145] وأبو زرعة الدمشقي [146] ، ثم من بعدهم جماعة، منهم عبد

الرحمن بن يوسف البغدادي، وله مصنف في الجرح والتعديل، وكان كأبي حاتم

في قوة النفس، وإبراهيم بن إسحاق الحربي [147] ، ومحمد بن وضاح [148]

حافظ قرطبة، وأبو بكر بن أبي عاصم [149] وعبد الله بن أحمد [150] وصالح

جرزة [151] وأبو بكرالبزار [152] ومحمد بن نصر المروزي [153] ومحمد بن

عثمان بن أبي شيبة [154] ، وهو ضعيف لكنه من الأئمة في هذا الأمر، ثم من

بعدهم جماعة، منهم أبو بكر الفريابي والنسائي [155] وأبو يعلى [156] وأبو الحسن

سفيان وابن خزيمة [157] وابن جريرالطبري [158] ، والدولابي [159] وأبو عروبة

الحراني [160] وأبو الحسن أحمد بن عمير وأبو جعفر العقيلي [161] ، ويتلوهم جماعة،

منهم ابن أبي حاتم [162] ، وأحمد بن نصر البغدادي شيخ الدارقطني [163] ، وآخرون،

ثم من بعدهم جماعة، منهم أبو حاتم ابن حبان البستي [164] والطبراني [165] وابن عدي

الجرجاني [166] ، وكتابه في الرجال إليه المنتهى في الجرح والتعديل.

وقد جاء بعد ابن عدي وطبقته جماعة، منهم أبو علي الحسين بن محمد

النيسابوري [167] وله مسند معلل في ألف جزء وثلاثمائة، وأبو الشيخ ابن حبان [168]

وأبو بكر الإسماعيلي [169] وأبو أحمد الحاكم [170] والدارقطني [171] وبه ختمت معرفة

العلل، ثم من بعدهم جماعة منهم ابن منده [172] وأبو عبد الله الحاكم [173] وأبو نصر

الكلاباذي [174] وعبد الرحمن بن فطيس قاضي قرطبة [175] ، وله دلائل السنة،

وعبد الغني بن سعيد [176] وأبو بكر بن مردويه الأصفهاني [177] ، ثم من بعدهم

جماعة منهم محمد بن أبي الفوارس البغدادي [178] وأبو بكر البرقاني [179] وأبو حاتم

العبدري - وقد كتب عنه عشرة آلاف جزء - وخلف بن محمد الواسطي [180] ، وأبو

مسعود الدمشقي [181] ، وأبو الفضل الفلكي [182] ، وله كتاب الطبقات في ألف جزء،

ثم من بعدهم جماعة، منهم الحسن بن محمد الخلال البغدادي [183] وأبو يعلى الخليلي

[184]

، ثم من بعدهم جماعة منهم ابن عبد البر [185] وابن حزم [186] الأندلسيان،

والبيهقي [187] والخطيب [188] ، ثم من بعدهم جماعة، منهم ابن ماكولا [189] وأبو

الوليد الباجي [190] ، وقد صنف في الجرح والتعديل، وأبو عبد الله الحميدي [191] ، ثم

من بعدهم جماعة، منهم أبو الفضل ابن طاهر المقدسي [192] والمؤتمن بن أحمد [193]

وشهرويه الديلمي، ثم من بعدهم جماعة، منهم أبو موسى المديني [194] ، وأبو القاسم

ابن عساكر [195] وابن بشكوال [196] ، ثم من بعدهم جماعة، منهم أبو بكر الحازمي

[197]

وعبد الغني المقدسي [198] والرهاوي وابن مفضل المقدسي [199] ، ثم من بعدهم

جماعة، منهم أبو الحسن بن القطان [200] وابن الأنماطي [201] وابن نقطة [202] ، ثم

من بعدهم جماعة، منهم ابن الصلاح [203] والزكي المنذري [204] وأبو عبد الله

البرذالي [205] وابن الأبار وأبو شامة [206] ، ثم من بعدهم جماعة، منهم ابن دقيق

العيد [207] والشرف الميدومي وابن تيمية [208] ، ثم من بعدهم جماعة، منهم

المزي [209] وابن سيد الناس وأبو عبد الله بن أيبك والذهبي [210] والشهاب بن

فضل الله [211] ومغلطاي [212] والشريف الحسيني الدمشقي والزين العراقي [213] ، ثم

من بعدهم جماعة، منهم الولي العراقي والبرهان الحلبي وابن حجر العسقلاني [214]

وآخرون من كل عصر، إلا أن المتقدمين كانوا أقرب إلى الاستقامة وأبعد من موجبات

الملامة.

ولعلك سئمت الإكثار من ذكر الأسماء، وإن كان مقتضى الحال وعين ما

يتطلبه المقام، لكن لنا في ذلك غرض جليل ومغزى نبيل وهو أن نكمم أفواه أولئك

الذين تقولوا على السنة أنه دخل فيها الغريب عنها؛ إذ قد طال العهد عليها وتناولتها

عصور الجهالة وبعثرت منها إحن الزمان وطوارئ الحدثان، فنحن نقدم لهم دليلاً

بينًا وبرهانًا ساطعًا أن السنة خدمها المسلمون خدمة جليلة لم تعهد لدى أمة من الأمم

ولا في ملة من الملل، وإن ذلك كان ديدن المسلمين في كل عصر، فلم يغفلوها فترة

من الزمن حتى يعبث بها أولو الأغراض، وينال منها ذوو الإلحاد، بل لا زالت

محفوظة من يد العابثين، مخدومة من جهابذة المحدثين، فلهم الكلمة على المتقولين،

والثناء من عامة المسلمين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

توفي سنة 597.

... (2) سنة 694.

...

(3) سنة 774.

(4)

سنة 807.

...

(5) سنة 516.

...

(6) توفي سنة 840.

(7)

سنة 702.

...

(8) سنة 632.

...

(9) سنة 652.

(10)

سنة 1250.

... (11) سنة 852.

...

(12) سنة.

(13)

سنة 643.

... (14) سنة 458.

...

(15) توفي سنة 491.

(16)

سنة 656.

... (17) سنة 1176.

(18)

الصحيح من الحديث ما رواه عدل تام الضبط بسند متصل غير معلل ولا شاذ، وهذا هو الصحيح لذاته، فإن خف الضبط فالحسن لذاته وبكثرة الطرق يصحح فيسمى الصحيح لغيره، والضعيف ما دون الحسن، والمعروف ما كان في سنده ثقة خالف ضعيفًا في حديثه، ومروي ذلك الضعيف يسمى المنكر، ويطلق المنكر أيضًا على حديث في سنده كثير الغلط أو غافل عن الإتقان أو فاسق، والغريب ما كان في سنده منفرد بالرواية لم يشاركه فيها أحد أو لم يكن له إلا سند واحد، والشاذ ما كان في سنده ثقة خالف من هو أرجح منه، وعلى رأي يطلق على من لازمه سوء الحفظ، والمقلوب ما كان فيه تقديم وتأخير كمرة بن كعب وكعب بن مرة.

(19)

توفي سنة 456.

(20) سنة 353.

...

(21) سنة 307.

(22)

سنة 340.

... (23) سنة 275.

...

(24) سنة 303.

(*) إنما لم يذكر سنن ابن ماجه ولا جامع أبي عيسى الترمذي؛ لأنه ما رآهما ولا دخلا الأندلس إلا بعد وفاته.

(25)

سنة 321.

... (26) سنة 241.

...

(27) سنة 292.

(28)

سنة 235.

... (29) سنة 239.

...

(30) سنة 237.

(31)

سنة 204.

... (32) سنة 303.

...

(33) سنة 405.

(34)

سنة 258.

... (35) سنة 262.

...

(36) توفي سنة 234.

(37)

سنة 276.

... (38) سنة 211.

...

(39) سنة 276.

(40)

سنة 294.

(41)

لا أدري هل هو إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 236 أو علي بن المنذر المتوفى سنة 256.

(42)

سنة 167.

... (43) سنة 227.

...

(44) سنة 197.

(45)

سنة 159.

... (46) سنة 197.

...

(47) سنة 234.

(48)

سنة 240.

... (49) سنة 160.

...

(50) سنة 198.

(51)

سنة 175.

... (52) سنة 156.

...

(53) سنة 219.

(54)

سنة 198.

... (55) سنة 228.

...

(56) توفي سنة 210.

(57)

سنة 204.

... (58) سنة 206.

...

(59) سنة 224.

(60)

سنة 276.

... (61) سنة 285.

...

(62) سنة 285.

(63)

سنة 291.

... (64) سنة 328.

...

(65) توفي سنة 388.

(66)

سنة 401.

... (67) سنة 538.

...

(68) سنة 581.

(69)

توفي سنة 514.

(70) سنة 606.

...

(71) سنة 723.

(72)

سنة 953.

... (73) سنة 911.

...

(74) توفي سنة 256.

(75)

سنة 240.

... (76) سنة 230.

...

(77) سنة 277.

(78)

سنة 279.

... (79) سنة 330.

...

(80) سنة 316.

(81)

سنة 353.

... (82) سنة 385.

...

(83) سنة 354.

(84)

سنة 360.

... (85) سنة 355.

...

(86) سنة 463.

(87)

سنة 191.

... (88) سنة 181.

...

(89) سنة 630.

(90)

سنة 748.

... (91) سنة 852.

...

(92) توفي سنة 511.

(93)

365.

...

(94)68.

...

... (95)34.

(96)

92.

...

... (97) بعد المائة.

...

(98)110.

(99)

بعد التسعين.

... (100)134.

...

(101)148.

(102)

160.

...

(103)179.

...

(104)153.

(105)

154.

...

(106)156.

...

(107)161.

(108)

213.

...

(109)167.

...

(110)175.

(111)

181.

...

(112) سنة 188.

...

(113) سنة 185.

(114)

سنة 185.

... (115) سنة 186.

...

(116) سنة 197.

(117)

سنة 193.

... (118) سنة 197.

...

(119) سنة 197.

(120)

سنة 198.

... (121) سنة 206.

...

(122)204.

(123)

سنة 211.

... (124) سنة 212.

...

(125)233.

(126)

سنة 241.

... (127) سنة 230.

...

(128) سنة 234.

(129)

سنة 234.

... (130) سنة 234.

...

(131) سنة 235.

(132)

سنة 235.

... (133) __.

...

(134) توفي سنة 242.

(135)

248.

...

(136)243.

...

(137)251.

(138)

255.

...

(139)251.

...

(140)221.

(141)

264.

...

(142)277.

...

(143)261.

(144)

275.

...

(145)276.

...

(146)281.

(147)

285.

...

(148)289.

...

(149)287.

(150)

290.

...

(151)293.

...

(152)292.

(153)

294.

...

(154)297.

...

(155)303.

(156)

307.

...

(157)311.

...

(158)310.

(159)

311.

...

(160)318.

...

(161)322.

(162)

327.

...

(163)323.

...

(164)345.

(165)

360.

...

(166)365.

...

(167)265.

(168)

369.

...

(169)371.

...

(170)378.

(171)

385.

...

(172)395.

...

(173) توفي سنة 405.

(174)

398.

...

(175)402.

...

(176)409.

(177)

416.

...

(178)412.

...

(179)425.

(180)

401.

...

(181)400.

...

(182)438.

(183)

439.

...

(184)446.

...

(185)463.

(186)

456.

...

(187)458.

...

(188) 463

(189)

475.

...

(190)474.

...

(191)488.

(192)

507.

...

(193)507.

...

(194)581.

(195)

323.

...

(196)578.

...

(197)584.

(198)

600.

...

(199)611.

...

(200)638.

(201)

619.

...

(202)529.

...

(203)643.

(204)

ــ.

...

(205)636.

...

(206)625.

(207)

702.

...

(208)835.

...

(209)742.

(210)

748.

...

(211)749.

...

(212)763.

(213)

806.

...

(214)852.

ص: 273

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

‌الخيال في الشعر العربي

(3)

حال المعنى والتخييل

قد يصوغ الشاعر المعنى لأول الخطاب في صورة خيالية، فلا يدركه إلا من

صفت قريحته ورقت حاشية ألمعيته ككثير من الأشعار الواردة على طريق

المعميات والألغاز، أو من سبق إليه ما يهديه إلى المراد، ويساعده على فهمه من

قرينة حال أو مقال كبعض المحاورات التي يقصد فيها المتخاطبان إلى إخفاء

الغرض وكتمه عمن يصغي إلى حديثهم أو يطلع على رسائلهم.

وقد يصرح بالمعنى ثم يدخل به في طريق التخييل، وهذا إما أن يخرج

الصريح بالتخييل فيفصل المعنى، ويضع بإزاء كل قطعة منه صورة خيالية كما

قال العتابي يصف السحاب:

والغيم كالثوب في الآفاق منتشر

من فوقه طبق من تحته طبق

تظنه مصمتًا لا فتق فيه فإن

سالت عزاليه قلت: الثوب منفتق

إن معمع الرعد فيه قلت منخرق

أو لألأ البرق فيه قلت محترق

مثل الغيم الضارب في الأفق بالثوب المنشور، ثم أخذ يقرن كل حال من

أحواله بما يقابلها من أحوال الثوب، فجعل إمساكه عن المطر مظنة الصحة

والمتانة، وانسكاب الغيث من خلاله منبثًّا بتفتقه، ومعمعة الرعد إعلانًا بانخراقه،

ووميض البرق شظايا من اللهب تؤذن باحتراقه، وإما أن يستوفي المعنى

بالصراحة، ثم يأتي بمثاله الخيالي متواصل الأجزاء، وهذا كقول بعضهم:

رأيتكم تبدون للحرب عدة

ولا يمنع الأسلاب منكم مقاتل

فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه

ولا يمنع الخراف ما هو حامل

استقصى المعنى الصريح وهو تظاهرهم بالأهبة للحرب وقعودهم عن قتال

عدوهم وافتكاك ما سلب من حقوقهم، ثم ضرب له المثل على نسق واحد بالنخل

يشرع نصالاً مسنونة من الشوك، كالمتأهب للذود بها عما يحمل من الثمار، فيعمد

الخراف لها ويجتنيها بأجمعها دون أن يناله ذلك الشوك بأذى.

ومن أبدع ما جاء على هذا النمط قول ابن رشيق القيرواني:

رجوتك للأمر المهم وفي يدي

بقايا أمني النفس فيها الأمانيا

وساوفت لي الأيام حتى إذا انقضت

أواخر ما عندي قطعت رجائيا

وكنت كأني نازف البئر طالبًا

لأجمامها أو برجع الماء صافيا

فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه

ولا هي أعطته الذي كان راجيا

وإما أن يصرح لك بالمحل الذي يجعله مناطًا للحديث عنه، ثم يسوق القول كله على طريق التخييل كقول بعضهم:

إني وإياك كالصادي رأى نهلاً

ودونه هوة يخشى بها التلفا

رأى بعينيه ماء عز مورده

وليس يملك دون الماء منصرفا

فقد أراك أول الشعر أنه يرد الحديث عن حاله مع المخاطب، ثم اطرد في

مجال التخييل الذي أفاد به؛ إذ الحاجة تحثه على القرب منه، والخطر المعترض

في سبيله ينصح له بالإحجام عنه، ومن أبدع الوصف المنسوج على هذا المثال

قول شرف الدين التيفاشي:

أما ترى الأرض من زلزالها عجبًا

تدعو إلى طاعة الرحمن كل تقي

أضحت كوالدة خرقاء مرضعة

أولادها در ثدي حافل غدق

قد مهدتهم مهادًا غير مضطرب

وأفرشتهم فراشًا غير ما قلق

حتى إذا أبصرت بعض الذي كرهت

مما يشق من الأولاد من خلق

هزت بهم مهدهم شيئًا تنبههم

ثم استشاطت وآل الطبع للخرق

فصحت المهد غضبى وهي لافظة

بعضًا على بعض من شدة النزق

أسباب جودة الخيال

لا مشاحة أن النفوس تختلف بفطرتها في صحة الذوق وقوة التذكر فيكون من

أسباب التفاوت في جودة الخيال ما هو عائد إلى الفطرة، والغرض في هذا المقام

إنما هو البحث عن الأمور التي تؤثر في جودة الخيال وتبسط في نطاقه من خارج،

ومدارها على أمرين:

أحدهما: تردد النظر في مظاهر المدنية، فإن امتلاء حافظة الشاعر من

المناظر المختلفة والصور التي لا تدخل تحت حصر تجعله أغزر مادة حتى إذا

عرض له معنى اقتضى الحال إيراده في طريقة الخيال لا يعوزه متى التفت إلى

حافظته أن يلاقيه منها ما يساعده على العمل بسهولة، ثم إنه لغزارة مادته وسعة

مجاله تكون مخيلته أكثر عملاً في إنشاء المعاني وإبداعها، وكثرة العمل مما تترشح

به هذه القوة النفسية، فيكون صاحبها أقدر على صناعة التخيل وأرسخ فيها ممن

كانت بضاعته مزجاة وحافظته في إملاق.

ومن جهة أن غزارة المادة تساعد على كثرة العمل الذي هو الإبداع، وكثرة

العمل تقوى بها النفس في صناعة التخييل أمكن للشاعر المدني أن يفوق الشاعر

البدوي أو القروي في تخييل معان اشتركوا في العلم بالعناصر التي تنتزع منها

الصور الخيالية.

يبلغ تأثير المدنية في تهذيب المخيلة إلى أن يكون الفرق بين عملها في حال البداوة وعملها بعد أن تحضن صاحبها الحضارة أوضح من نار على علم، فهذا

علي بن الجهم الذي قال للخليفة:

أنت كالكلب في حفاظك للعهد

وكالتيس في مراعي الخطوب

هو الذي يقول:

فقلن لنا نحن الأهلة إنما

نضيء لمن يأوي إلينا ولا نقري

بيد أنه قال البيت الأول أيام كان يسكن البادية، وقال البيت الثاني بعدما نزل

بغداد وتراصف في حافظته من الصور والمعاني ما رقت به حاشية طبعه وجعل

قريحته تنسج من المعاني البديعة برودًا ضافية.

ثانيهما: الحرية؛ إذ لا شبهة أن الاستبداد الأعمى يطبع الناس على الجبن

ويلقي في أفئدتهم رهبة تحملهم على أن يجعلوا بينهم وبين الأقوال التي تسخط لها

الحكومة القاسية حاجزًا لا يدنون منه، فيضيق بذلك مجال الشاعر، وربما تنكب

الخوض في الاجتماعيات، حذر الوقوع في السياسيات، ومن ذا ينكر أن الخيال

الذي يسخره صاحبه في كل غرض ويطلق له العنان في كل حلبة يكون أبعد مرمى

وأحكم صنعًا من خيال الشاعر الذي حصرته السياسة في دائرة ورسمت له خطة لا

يفوتها؟ ولقد كنت أعرف ناسًا شبوا تحت سلطة تكره للأديب أن يفتح لهاته في

الأحوال السياسية، فصرفوا معظم حياتهم في التردد على الغزل والمديح والرثاء،

وفاضت عليهم قرائحهم في هذه الأغراض بمعان رائقة، ولما سمح الوقت بالكلام

في مقاصد اجتماعية أو سياسية وقف بهم الخيال في عقبة كؤود، أو أتوا بها في

نسج واهٍ وهيئة متخاذلة.

فالخيال حر في عمله لا تملك السلطة المستبدة مرده، ولكنها تمنعه من أن

يتجول على مراكب الألسنة والأقلام، وهذا ما يثبط الشاعر عن إطلاق خياله للعمل،

ولا يرخي له العنان إلا في أغراض يسعه الحال لأن يخاطب بها الناس نطقًا أو

كتابة.

فذانك سببان لأن يكون الخيال بديع الصنع في كل غرض يتوجه إليه، وههنا

أمر آخر إذا اتفق للشاعر حال تصديه للنظم في غرض يكون له أثر جلي في سهولة

التخيل وبعد الرمية إلى المعاني الغامضة وهو الإحساس والتأثر.

فمن الشعراء من يتكلم عن مشاهدة وتأثر نفسي، كأن يرى البطل يلقي بنفسه

في مواقع الخطوب، أو العالم كيف يتدفق بالحكمة البالغة، أو الجواد كيف يبسط يده

بالنوال فيشعر بإعظامه ويأخذ في مديحه وتمجيده، ويرى الجبان كيف تصفر أنامله

من ذكر الحرب، أو الجاهل كيف يتمضمض باللغو أو الباطل، أو البخيل كيف

يشد على الدينار رباطًا فوق رباط فيشعر في نفسه بمهانته ويتصدى لهجائه،

ويموت من يعز عليه من قريب أو صديق أو أستاذ، فيشعر بالتفجع والأسف،

وتتفجر قريحته برثائه، وتحل بصديقه فاجعة فيحس بالإشفاق عليه، فيأخذ في

تسليته وتهوين وقعها عليه بالعزاء الجميل، ويدخل الروضة الفيحاء فيتمتع بمرأى

أزهارها وتلحين بلابلها، فيهب في صدره ابتهاج وأنس، ويسترسل في وصفها وذكر

ما راقه من مشاهدها، ومن الشعراء من يسوقه إلى الشعر باعث طمع أو خوف أو

حياء، ومن الجلي أن الإحساس والتأثر مما يفتح أمام الخيال طرقًا قلما يبصر بها

من يحمل نفسه على الشعر المجرد الطمع أو الخوف أو الحياء، فانظر إن شئت

مثلاً إلى قصيدة أبي الحسن الأنباري التي يقول في مطلعها:

علو في الحياة وفي الممات

لحق أنت إحدى المعجزات

فتجد فيها تخيلات فائقة، والذي ساعده على ذلك فيما أحسب أنه أنشأها عن

تفجع وإعظام بالغ؛ لأنه رثى فيها الوزير ابن بقية يوم قتله عضد الدولة مصلوبًا،

فنظمه لها، وهو لا يرتجي من ورائها فائدة، بل يوجس في نفسه الخيفة من أن

يناله عضد الدولة بالعقوبة عليها، يشعر بأن الباعث له على إنشائها التلهف

والإخلاص.

ولو نظرت إلى القصائد التي يخاطب بها الشعراء الملوك تهنئة بانتصار أو

فتح، وقستها بالقصائد التي يخاطبونهم بها تهنئة بعيد مثلاً، أو بمولود أو بناء قصر

لوجدت الأولى أجود خيالاً؛ لأن انتصار الدولة مما يبذر في نفوس الأمة فرحًا،

ويثير فيها عاطفة إجلال لمن جرى النصر على يده، وليست الثانية بهذه المكانة، إذ

طلوع العيد على الأمير وازدياد ولد له، أو تشييده لقصر لا تهتز له نفس الشاعر

حتى تطير به في جو الخيال، ويقتنص ما يلذه الذوق من بدائع الأفكار، وانظر إن

رمت الوثوق بهذا إلى قصيدة أبي تمام التي يهنئ فيها المعتصم بفتح عمورية:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

فإنه ذهب بمعانيها مذاهب خيالية لا تطلع له على ما يحاكيها في القصائد التي

لم يستفزه لها غير ما يرجوه من النوال.

وكذلك الشاعر الذي يريد أن يتبرأ من جناية تعزى إليه، أو يحاول أن يزيل ما

في نفس السلطان من ضغينة أو نية سيئة، فإنه يبتكر من المعاني ما لا يبتكره

في القصائد التي يمدحه بها وهو مقبل عليه.

ربما يخوض الشاعر في غرض إنما دعاه إليه مجاراة غيره ومباراته في

مضمار البيان، فيبلغ مبلغ من انساقوا إليه عن إحساس وعاطفة نفسية، ويقع على

تخيلات جيدة، ولكن أمثال هذه التخيلات تنهال على ذي التأثر النفسي بدون تعسف

حينما يحتاج الآخر إلى أن يحث إليها قريحته ويجاذبها وهي كالمتعاصية عنه.

***

بماذا يفضل التخييل

عرف مما سبق أن التخييل يدور على انتقاء مواد متفرقة في الحافظة، ثم

تأليفها وإبرازها في صورة جديدة، فيرجع فضله والبراعة فيه إلى ثلاث مزايا:

إحداها: أن يكون وجه المناسبة بين تلك الجواهر، أعني المواد المؤلفة منها

صورة المعنى، غامضًا، فمزية من يتخيل الكواكب أزهارًا باسمة في روضة

ناضرة دون مزية من يقول:

وضوء الشهب فوق الليل باد

كأطراف الأسنة في الدروع

فإن المشابهة بين الكواكب والأزهار لا تغيب عن كثير من الناس، أما التشابه

بين النجوم وبين أطراف الأسنة اللامعة عند نفوذها في الدروع لا يحوم عليه إلا

خيال بارع.

ولا فضل لمن يرى الشمعة فيحاكيها بالرمح إذا قسته بمن ينظر إليها فيقول:

كأنها عمر الفتى

النار فيها كالأجل

فإن محاكاتها بالرمح لا تكاد تخفى على ذي بصر، وإنما الخيال الفائق هو

الذي ينتقل منها إلى العمر والأجل حيث يشعر بالمناسبة الدقيقة بينهما، وهو أن

الأجل يدنو من الإنسان حيناً فحينًا، ويتقاضى عمره رويدًا رويدًا إلى أن تتقلص

عنه أشعة الحياة كلهيب الفتيلة يدب في جسم الشمعة وينتقصها قليلاً قليلاً إلى أن

يأتي على آخرها، وتذهب في الجو هباءً منثورًا.

ثانيتها: أن يكون التخييل مبنيًّا على ملاحظة أمور متعددة، فالصورة التي

يراعى في تأليفها ثلاثة معان مثلاً تكون أرجح وزنًا وأنفس قيمة من الصورة التي

تبنى على رعاية معنيين، فمن الشعراء من يصور لك الرمح شهابًا ثاقبًا، فهل

يحق لك أن تساويه بمن يخيله لك، ورؤوس الأعداء منصوبة على طرفه بالغصن

يوم يكون مكللاً بالثمار؟ كما قال ابن عمار يخاطب المعتصم صاحب المرية:

أثمرت رمحك من رؤوس كماتهم

لما رأيت الغصن يعشق مثمرًا

يقف الناس في تصوير الحرب بمعنى الرحى عند قولهم: دارت رحى الحرب،

وكان عمرو بن كلثوم أبسطهم في هذا التخييل باعًا حيث يقول في وصف

الحرب:

متى ننقل إلى قوم رحاها

يكونوا في اللقاء لها طحينا

يكون ثفالها شرقي نجد

ولهوتها قضاعة أجمعينا

فالثفال: ما يبسط تحت الرحى ليتساقط عليه الدقيق، واللهوة: القبضة من

الحب تلقى في فم الرحى لتطحنها، وقضاعة: هي القبيلة التي يهددها هذا الشاعر

بالحرب الطاحنة، وكأني به عندما حضر في نفسه معنى الحرب انساق إليه معنى

الرحى لما بينها من التشابه المعهود، ثم تنقل نظره من الرحى إلى ما هو من

خواصها، فوقع على الثفال واللهوة، ثم انقلب إلى معنى الحرب وألقى نظره إلى

ما حولها، فتراءى له ميدانها مبسوطًا كالثفال والرجال الذين يتهافتون عليها فتتناثر

رؤوسهم وتتساقط أشلاؤهم على ذلك الميدان في صورة اللهوة، فصاغ الأبيات على

هذا الوجه الذي يدل على حسن تصرف في ضم المعاني إلى أشكالها.

والأدباء الذين أروك الحصى في صورة الدر ليسوا بقليل، وإنما المزية لمن

اتسع في صورة هذا المعنى ونظر في تركيبها إلى أمور متعددة، فقال يصف واديًا:

وقانا لفحة الرمضاء واد

سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا

حنو المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالاً

ألذ من المدامة للنديم

يروع حصاه خالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

كأني بالشاعر عندما صح فتح جفنه على الحصى وهي في ملاستها وصفاء

منظرها انصرف خياله إلى ما يحاكيه من الجواهر النفيسة، ثم إلى حال تناسقها في

هيئة قلادة، وتذكر بهذا موقعها من الصور، فخطرت على قلبه الفتاة، وشرع

يتصور كيف تنظر إلى تلك الحصى فيهجم على ظنها بغتة أن قلادتها انفرطت،

وأن ما تراه من الحصى إنما هو اللؤلؤ الذي كان متناسقًا في نحرها قد تساقط إلى

مواطئ أقدامها، فلا تتمالك أن تضرب يدها على العقد حتى تحفظ البقية من السقوط،

أو لتتيقن صدق ظنها فتسعى إلى التقاطها.

ثالثتها: أن يجري الشاعر في استخلاص المعاني وتأليفها على ما يوافق

الذوق السليم، فهو الحافظ لنظام المعاني، كما أن القواعد العربية تحفظ نظام الألفاظ،

ومن الشعراء من تأخذه سنة عن هذا الشرط فيضع المعنى الخيالي على مثال تشمئز

منه النفس، كما أن ناسج الثياب من غزل اختلفت ألوانه إذا لم يكن صاحب ذوق لم

يحكم وضعها، وأخرجه في صورة تقذفها العيون، ومثال هذا أن أبا القاسم بن

فرناس أنشد الأمير محمدًا أبياتًا يقول فيها:

رأيت أمير المؤمنين محمدًا

وفي وجهه بذر المحبة يثمر

فقال له مؤمن بن سعيد: قبحًا لما ارتكبته جعلت وجه الخليفة محراثًا تثمر

فيه البذور؟ فغشيه الخجل وجعل جوابه عن هذا النقد الصائب سبابًا، ووقع في مثل

هذه الزلة كثير من كبار الشعراء، فهذا أبو تمام يقول في مدح أحد الأبطال:

ضاحي المحيا للهجير وللقنا

تحت العجاج تخاله محراثا

فجعل ممدوحه محراثًا كما جعله هاذيًا حين قال:

لا زال يهذي بالمكارم والعلا

حتى ظننا أنه محموم

وهذا بشار بن برد يقول:

وجذت رقاب الوصل أسياف هجرها

وقدت لرجل البين نعلين من خدي

فإثبات الرقاب للوصل والرجل للبين من التخيلات المستهجنة.

قد يخطر لسائل أن يقول: إن لهؤلاء الشعراء براعة مسلمة، وأذواقًا لا

ترتاب في صحتها وصفائها، وقد مرت هذه المعاني التي رميتموها بسبة السخافة

على أذواقهم فألقت إليها بالتسليم، أفلا يكون رضاهم عنها واستحسانهم لها شاهدًا

ببراءتها مما تدعون من سماجة الوضع ومنافرة الذوق؟

والجواب أن القبح في هذه المعاني وما كان على شاكلتها محقق بما يجده

الإنسان في نفسه من أثر الفكرة لها وعدم الأنس لسماعها، فضلاً عن شهادة فريق

عظيم لا تقصر بهم سلامة الذوق والمعرفة بحرفة الأدب عن طبقة أولئك الشعراء،

وهذا ابن رشيق يقول عقب إيراد البيت الأول من بيتي أبي تمام: (فلعنة الله على

المحراث ههنا ما أقبحه وأركه) ، ولم يبق سوى النظر في عدم تنبههم لذلك القبح،

وكيف خفي عنهم وجهه وهو كاشف لثامه حتى لا يمتاز بإدراكه في بعض الأبيات

الأدباء عن غيرهم؟

والوجه في هذا أن البصيرة مثل البصر، والمشاهد للصورة عن عيان قد

يفوته أن يحدق فيها من بعض الجهات، فلا يشعر بما فيها من عيب، فكذلك

الشاعر قد يصوغ المعنى ولا يأخذه بالنقد من جميع أطرافه فيصدر على عوج قد

يبصر به من هو أضعف بصيرة منه، والعلة في عدم تنبه الشاعر لذلك الخلل

قصر المدة فيما بين إنشاء القصيدة وإراءتها للملأ بحيث لا يتمكن من تجريد نظره

إلى كل بيت ونقد معناه من سائر وجوهه.

وربما أصيب الشاعر من اعتماده على براعته ومكانة سمعته؛ إذ كثيرًا ما

يستفيد الشاعر من المقام والشهرة التي يدركها بين قومه فيتلقون شعره باستحسان

فوق ما يتلقون به شعر غيره ممن لم يقم لهم صيت، وإن كان في نفسه أبعد أمدًا

وأحكم نسجًا، فكثرة الإجادة وسعة الذكر قد تؤثر في همة الشاعر في بعض الأحيان

فيلقي القصيدة على علاتها ولا يحمل نفسه على التدقيق في نقدها، ومن ثم ترى

أكثر الذين يقعون في هذه العثرات إن هم إلا كبار الشعراء، والمكثرون منهم كأبي

تمام والمتنبي ومن كان في طبقتهم.

ويؤكد لك أن سيئات الشعراء في هذا الصدد إنما لصقت بهم من جهة عدم

نقدهم المعنى بعد أن تقذفه القريحة نقدًا وافيًا، إما لضيق الوقت أو اغترارًا بما

ملكوا من البراعة وأحرزوا من الشهرة، أن أحدهم قد ترسل قريحته معنى فيقع منه

موقع الإعجاب حتى إذا أعاد عليه النظر مرة ثانية انكشف له من مساويه ما يجعله

في أسف على إذاعته، أو في ارتياح من عدم اطلاع الناس عليه.

ومن المحتمل أن يصوغ الشاعر المعنى فتأخذ جهة الحسن بقلبه مأخذًا بليغًا،

ثم يعثر في صورته على وجه من الخلل ولا يتمكن من تلافيه وإكمال نقصه إلا

برفض الصورة من أصلها، وحيث يرى أن جهة الحسن أرجح، ويرجو أن تسبل

على ذلك المغمز فضل ردائها، فلا يشعر به الناقدون يبقي صورة المعنى على

حالها، ويجيزها للرواة، وهو بصير بعلتها، ولا أخال أن النابغة حين قال:

نظرت إليك لحاجة لم تقضها

نظر السقيم إلى وجوه العود

لم يخدش عاطفته أن يضع المحبوبة بمنزلة السقيم، ولكنه عز عليه أن يضرب

عن هذا التشبيه الذي لا يلحق شأوه وإن وخزه لفظ السقيم في ضميره

وخزات بالغة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 288

الكاتب: المغربي

‌الأهل والعيال

وهو فصل من كتاب (الأخلاق والواجبات)

للمغربي

ذكرنا في الفصول السابقة واجبات الشخص منفردًا، ونريد أن نذكر في

الفصول التالية واجباته مجتمعًا مع غيره من أبناء جنسه، وأول اجتماع له من هذا

القبيل اجتماعه مع أهله وعياله. وأهله: زوجته، وعياله: أولاده، وإذا كانوا أغنياء

انضم إليهم خادم يكفيهم مؤونة العمل، ويقال للمجموع المؤلف من هؤلاء الأفراد في

اللغة العربية: (عيِّل الرجل) - بتشديد الياء - وفسروه بقولهم: هم أهل بيته

الذين يتكفل بهم ويمونهم من أزواج وأولاد وأتباع، وقد اصطلح كتاب هذا العصر

على تسميتهم بالعائلة، مع أن كلمة (عائلة) في أصل وضعها اللغوي بمعنى فقيرة

تأنيث (عائل) فقير، و (العيلة) الفقر، و (عال) افتقر.

وبحث الواجبات العائلية يتضمن بيان ما يجب على الشخص نحو أفراد عائلته

المذكورين، ويدخل فيهم أحيانًا من يعوله من غيرهم كأبيه وأمه أو يتيم يكفله أو

امرأة تأوي إلى كنفه، وتعيش على نفقته.

وقد وجدت العائلة على وجه البسيطة من يوم وجدت المرأة بجانب الرجل،

وولدت له أولادًا، والأعمال التي يراد لها كل من الرجل والمرأة في عائلتهما

تختلف باختلاف حال الأمة التي يعيشان فيها بداوة وحضارة، رقيًّا وانحطاطًا،

ويغلب في الأمم المتحضرة أن تكون وظيفة المرأة إدارة الأعمال البيتية، كما تكون

وظيفة الرجل العمل خارجه، فهو يشتغل ويتعب ويستثمر أتعابه ثم يلقي بهذه

الثمرات إلى زوجته، ويتكل في هنائه العائلي وراحته المنزلية عليها، فالزوجة

هي الرئيسة العاملة في المنزل، أما الزوج فهو بمثابة رئيس شرف له، وقد جاء

التصريح بذلك في الحديث الشريف مذ قال صلى الله عليه وسلم: (كل نفس

من بني آدم سيد: فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها) .

فانظر كيف جعل سيادة البيت للمرأة وخصها بها، وإن كان لرجلها سيادة

أخرى لا تنكر، وإذا كانت المرأة هي سيدة البيت ورئيسته كان من أول واجبات

الزوج أن يحسن انتخاب تلك الرئيسة، فيختارها من ذوات العقل والدين والتربية

الصالحة، فإنها إذا توفرت فيها هذه الشروط أصبح المنزل فردوس الرجل،

ومظهر كرامته في قومه، والمنبت الخصب لذريته وأولاده، ومن ثم كان للمنزل

والعائلة المقام الأول في نظر علماء الاجتماع، حتى جعلوا نظام الحياة المنزلية

أساسًا لنظام الحياة الاجتماعية في الأمة كلها، فإذا فسد النظام الأول فسد النظام

الثاني، وانحطت الأمة على أثره، والعكس بالعكس.

قالوا: وإذا دخلت إحدى المدن كان لك أن تحكم على ارتقاء العائلة فيها

بمجرد نظرك إلى حالة سكانها وما هم عليه من الأطوار والأخلاق في أسواقهم

وحوانيتهم ومحافلهم وقهاويهم وسائر مظاهرهم الاجتماعية، فإذا رأيتهم هنا على

نظام أدبي ثابت حكمت باستحكام النظام الأدبي في بيوتهم وعائلاتهم؛ لأن هذا

أصل ذاك، وإلا فلا.

قلنا آنفًا: إن (المنزل) هو المغرس الأول للذرية والأولاد، فهم ينقلون منه

إلى المغرس الثاني - أعني (المدرسة) - ومنها إلى ساحة التجارب والعمل والسعي

في خدمة أمتهم ووطنهم، فإذا طابت تربة المغرس الأول (العائلة) طابت إذ ذاك

ثمار أبناء الأمة، وغزرت محصولات عقولهم وأخلاقهم، وإن خبثت تلك التربة

خبثت الثمار، وقبحت الآثار، وساءت الأخبار.

وقال بعض علماء الاجتماع المعاصرين: إن أحقر المنازل إذا تولت رئاسته

امرأة مدبرة بشوش كان ملؤه الراحة والهناء والسعادة، وكان فيه أشرف العواطف

العائلية، كان عزيزًا لدى الرجل لما يستلزمه من دواعي السرور، كان ملاذًا للقلب

وملجأً من عواصف الحياة، كان خير مكان للراحة من عناء الأشغال ومتاعب

الحياة، كان في الشدة مسليًا وفي الرخاء فخرًا، وفي كل حال نعيمًا، فالمنزل

الصالح إذن خير معاهد التربية لا للشباب وحده بل للكهل أيضًا، وفيه يتعلم الشاب

والكهل البشاشة والصبر وضبط النفس وتدرك روح الحياة ومعنى الواجب.

فلتنظر الأمم كيف تضع نظام عائلاتها على أساس وطيد ثابت، ولينظر الآباء

واجبهم الشرعي والاجتماعي من هذا القبيل.

وأول واجب عليهم حسن اختيار سيدة المنزل، وقد ورد في الأحاديث النبوية

الحض على العناية باختيارها لينجب أولادها، ويطيب العيش معها، وقد امتن

حكيم من حكماء العرب على أولاده في قيامه بهذا الواجب نحوهم مذ قال:

وأول إحساني إليكم تخيري

لماجدة الأعراق باد عفافها

ومن الواجبات العائلية أيضًا العناية بتربية الأهل والعيال وتعليمهم ما به

صلاح أمرهم، وتثقيف عقولهم، وبهذا المعنى فسروا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) ؛ أي: حولوا بينهم وبين شقاء

العذاب بما تعلمونهم إياه من ضروب الحكمة والعلم النافع، وبهذا المعنى أيضًا ورد

قوله صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم) .

يخاطب قومًا يريدون ممارسة بعض الأعمال، فأمرهم بالانصراف عنها إلى

ما هو أهم منها وهو أن يرجعوا إلى نسائهم وأولادهم فيعلموهم.

وحض الشارع على التخلق بالأخلاق الفاضلة إن لم يكن لذاتها؛ فلأنها تكون

وسيلة إلى تخلق أفراد العائلة بها فقال صلى الله عليه وسلم: (عفوا تعف

نساؤكم، وبروا تبركم أبناؤكم) .

فمن عف عن فعل القبيح كان خليقًا أن تعف نساؤه، ومن بر أباه كان جديرًا

أن تبره أبناؤه.

أما أحاديث الحض على حسن معاملة الأهل والعيال والرفق بهم وترك الغلظة

عليهم، فكثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:

(خيركم [1] خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) .

(إن من أكمل [2] المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله) .

(خير الرجال من أمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحسنون إليهم، ولا

يظلمونهم) .

(إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل

الرجل عن أهل بيته) أي: يسأله كيف كان صنيعه بهم ومعاملته لهم حسنة أم قبيحة؟

فيجازى بحسب ذلك.

(كان صلى الله عليه وسلم في بيته ألين الناس وأكرم الناس، ضحاكًا

بسامًا) .

(كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان العيال) .

(من كان له صبي فليتصاب له) .

أي: ليتنزل أن يفعل في ملاعبته فعل الصبيان تطييبًا لنفسه، وإدخالاً للسرور

على قلبه، وروي: (أنه صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه ذات يوم

إلى طعام دعوا له، فإذا بابن بنته الحسين وهو صبي يلعب مع صبية في السكة،

فاستنتل رسول الله أمام القوم - أي انفرد عنهم وتقدمهم -وأقبل على الحسين،

فطفق يفر مرة ههنا ومرة ههنا، ورسول الله يضاحكه، ثم أمسكه فجعل إحدى يديه

تحت ذقنه والأخرى تحت فأس رأسه - أي قفا رأسه من تحت قذاله - وأقنعه - أي

رفعه - وجعل يقبله وقال: (أنا من حسين وحسين مني، أحب الله من أحب

حسينًا) .

أما حسن معاشرته لنسائه الطاهرات، فالسنة مستفيضة به، من ذلك ما روي

في الصحاح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد رأيت رسول الله -

صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في

المسجد، وهو يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم، وكان يقول لي: كفى؟ فأقول: لا،

حتى اكتفيت) ، ومن جملة الرفق والعناية بالأهل والعيال ما ورد في الحديث وهو:

(كان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يدع أحدًا من أهله في يوم عيد إلا

أخرجه) - يعني أنه كان في صبيحة أيام الأعياد يخرج كل واحد من أفراد عائلته

إلى خارج المدينة حيث يجتمع المسلمون لصلاة العيد في مصلاها الخاص،

فيصلون ويشاهدون الناس في هذا الاجتماع الحافل، فيدخل عليهم السرور والفرح

برؤية ذلك.

(مشيك إلى المسجد وانصرافك إلى أهلك في الأجر سواء) .

سوّى في الأجر والثواب بين المشيتين: مشي الرجل إلى عبادة ربه، ومشيه

راجعًا إلى مسامرة عائلته، وكأن الشارع صلى الله عليه وسلم في قوله هذا

يعرض بأولئك القساة الذين لا يجعلون من أوقاتهم نصيبًا مفروضًا لمعاشرة عائلاتهم،

بل ينفقونها جزافًا في أماكن اللهو والبطالة، وبذلك تسوء عيشة العائلات

وتتنغص حياتها، بل ربما أدى بها الأمر أحيانًا إلى المفاسد وقبيح الأعمال.

ومن الواجبات العائلية ترفيه العائلة، والتوسعة عليها بالنفقة، وإعداد ما يلزم

لها من وسائل الراحة والهناء، ومرافق الحياة والعيش، وقد حض الشارع - صلى

الله عليه وسلم - على ذلك في أحاديث كثيرة منها:

- (ليس منا من وسّع الله عليه ثم قتر على عياله) .

- (شر الناس المضيق على أهله) .

- (أول ما يوضع في ميزان المرء إنفاقه على أهله) .

أي: إن النفقة عليهم من أول الأعمال التي يثاب عليها.

(دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به

على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا ذلك الذي أنفقته على أهلك) .

- (أطعم زوجك إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه ولا

تضربه) [3] .

ينهى عن ضربها وكل ما يؤذيها، وعن تقبيح وجهها، فلا يواجهها بقبيح القول

وفظيع الشتم، أو المعنى: لا يقول لها: قبح الله وجهك. وهو شتم مألوف بينهم،

نهى الشارع عنه بخصوصه.

- (الويل كل الويل لمن ترك عياله بخير، وقدم على ربه بشر) .

في هذا الحديث تحذير لأرباب العائلات الذين يجمعون المال حلالاً وحرامًا

سدًّا لحاجات عائلاتهم، وإشباعًا لنهماتهم، فهو صلى الله عليه وسلم يقول:

يالتعاسة ذلك الأب الذي يترك عائلته بعد موته في سعة من الرزق وبحبوحة العيش

من مال جمعه حرامًا لهم ثم يقدم على ربه يوم القيامة وهو مثقل بتبعات ذلك المال

الذي جمعه وخان الناس فيه، فيعذبه الله عليه، ويكون قد أشبه الشمعة التي تضيء

للناس وتحرق نفسها، فإذا كانت التوسعة على العيال واجبًا عائليًّا على رب العائلة

فإن تحري الإنفاق عليها من المال الحلال هو أيضًا واجب عائلي عليه، تجدر به

مراعاته والانتباه إليه.

وأما الأولاد والصبيان فهم ثمرة الحياة، وريحانة البيت، وأمل العائلة،

والغاية المقصودة من الزواج، قال صلى الله عليه وسلم:

- (بيت لا صبيان فيه لا بركة فيه) .

- (ريح الولد من ريح الجنة) .

- (الولد ريحان الجنة) .

لكن ينبغي للآباء والأمهات أن يعلموا أن أولادهم ليسوا مِلكًا لهم كملكهم

أشياءهم، وأنه لم تمنحهم العناية الإلهية لهم؛ ليكونوا بمثابة متاع أو قطعة زينة في

البيت ينافس بها، ويحرص عليها، وتتلذذ النفس بالنظر إليها فحسب، وإنما خلقوا

ليقضوا زمن الصبوة في حجر العائلة ثم يخرجوا منها أحرارًا مستقلين، ويضافوا

مددًا إلى الرجال العاملين.

فالعائلة إذن مكلفة بتربية الطفل وتهيئته جسمًا ونفسًا وخلقًا للقيام بوظائفه

المختلفة في خدمة قومه ووطنه، وإن العناية بالأولاد وتربيتهم هذه التربية الصالحة

من أكبر واجبات الأبوين التي يفرضها الشرع ونظام الاجتماع عليهم، كما أن

إهمالهم والتفريط في تربيتهم من أكبر الجنايات التي يمقتها الشرع وتعاقب عليها

القوانين المدنية [4]، قال صلى الله عليه وسلم:

- (أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم، فإن أولادكم هدية الله إليكم) .

ولا يخفى أن الشكر على الهدية إنما يكون في تقبلها بفرح، ثم العناية بها

والمحافظة عليها، كما أن التفريط فيها كفران لحق من أهداها، وباعث على غضبه

ونقمته.

- (لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع)[5] .

حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية، وأن لا يرزقه إلا

حلالاً طيبًا) .

هذه أهم علوم الرجل [6] في ذلك العهد، ومنها الرماية بالسهام، أما اليوم فقد

اختلفت الأحوال وتبدلت الأوضاع، واستجدت علوم لم يكن يعتنى بها من قبل،

فالواجب على أولياء الأولاد اليوم أن يعلموهم منها ما هم في حاجة ماسة إليه، وإن

الإسلام ليقدر هذا الاختلاف الزماني قدره كما ورد في الأثر.

- (خلقوا أولادكم بغير أخلاقكم فقد خلقوا لزمان غير زمانكم)[7] .

فإذا كانت الأخلاق تختلف بين زمن الأب وابنه، فكيف يكون مبلغ اختلافها

بين زمن السلف وزماننا هذا؟

- (أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة) .

يرشد الشارع صلى الله عليه وسلم المرأة في هذا الحديث إلى واجبها في

تربية أولادها، وهي أجدر بهذا الخطاب الشرعي من الرجل، فهو يقول لها: إن

تركها الاشتغال بما لا ينفعها، والعكوف على تربية أولادها في بيتها خير وسيلة

إلى دخول الجنان.

- (ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن) .

كأن هذا تعريض بمن يخص بعض أولاده بالنِّحَل والعطايا ونفيس المتاع،

وقد ورد النهي عن ذلك صريحًا في الأحاديث الأخرى.

- (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يبروكم)

- (إن الله يحب أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القبل)

و (القبل) على وزان غُرف جمع قبلة وهي التقبيلة.

- (ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحدًا لفضلت النساء) .

لعل السبب في استحقاق النساء للتفضيل أنهن سريعات التأثر، رقيقات

الشعور، شديدات الغيرة، فهن لذلك أجدر بالعطايا وأنواع البر واللطف (الهدايا)

من إخوتهم الذكور، ومع هذا فإن الشارع نهى عنه خشية التنافس والتحاسد بين

الأولاد، وفي الحديث إشارة لطيفة إلى وجوب العناية بالنساء ومراعاة شعورهن

وعواطفهن، ومن هذا القبيل ما ورد في الحديث: وهو أنه - صلى الله عليه

وسلم -:

- (كان يكسو بناته خمر القز والإبريسم) .

يفعل ذلك موافاةً لرغبتهن، ومراعاةً لميلهن وتنافسهن في لبس الحرير

والنفيس من الثياب، والإسلام لا يفرق بين الذكر والأنثى في الحب والعناية

والتربية كما رأيت، وسيأتي في بحث (النساء والأيتام) زيادة بيان لذلك، وإن

أهم الأغراض التي جاء الإسلام من أجلها هدم ما كان عليه أهل الجاهلية من هضم

المرأة وإذلالها والتفريط أحيانًا بحياتها، حتى عابهم القرآن في ذلك وعيرهم به،

قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَداًّ وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ

القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ} (النحل: 58-59) .

هذا هو حال أهل الجاهلية قبل الإسلام: كانوا إذا ولد لأحدهم أنثى اكفهر

وجهه، واستخفى عن أعين الناس حياءً وخجلاً، ثم فكر في كيف يتخلص من هذا

الضيف الثقيل؟ أيصبر عليه؟ أو يئده تحت التراب؟ فجاء الإسلام ناعيًا عليهم

حالتهم هذه، وبشر بالمرأة ووجوب العناية بها، وإعطائها حقها من الوجود

ونصيبها من الحقوق، ومما قاله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى: (لا

تكرهوا البنات فإنهن المؤنسات الغاليات) .

وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فتتشبث به (أمامة) ابنة ابنته زينب،

فكان يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.

وإنما نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن تفضيل بعض الأولاد

بالعطية تفاديًا من التحاقد والتحاسد بينهم كما مر آنفًا، بل قد يحقدون أحيانًا على

أبيهم نفسه، والأب مأمور بأن لا يتعاطى من الأسباب ما يثير شيطان العقوق في

نفس ولده، ومن قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك:

- (رحم الله والدًا أعان ولده على بره) .

- (أعينوا أولادكم على بركم، من شاء استخرج العقوق من ولده) .

أي: إنه في مكنة الأب أن يحمل ابنه على العقوق وترك الطاعة، وذلك يكون

بتفضيل أخيه عليه بوصية أو عطية أو تقريظ، أو ابتسامة أحيانًا، فليكن الأب

حكيمًا فطنًا ضابطًا لعواطفه وتوزيعها بالعدل بين أولاده، وإلا جر على نفسه

وعائلته من بعده تعبًا وبلاءً.

وكما يطالب الولد ببر والده يطالب الوالد نفسه ببر ولده، وبر كل منهما

بحسبه، وقد وصف صلى الله عليه وسلم قومًا من الأبرار فقال:

(إنما سماهم الله الأبرار؛ لأنهم بروا الآباء والأمهات والأبناء، كما أن

لوالديك عليك حقًّا كذلك لولدك) .

ومن جملة بر الوالد لولده ما ذكر صلى الله عليه وسلم في قوله:

(لا يعد الرجل صبيه ثم لا يفي له) .

فإن هذا فضلاً عن كونه يحمل الولد على احتقار والده واعتقاد الكذب فيه

يسهل أمر الكذب عليه، ومن شابه أباه فما ظلم، فينشأ كذابًا لا يصدق بقول، ولا

يفي بعهد.

ومما نبه إليه الشارع من أمر تربية الأولاد أن لا يتشاءم الوالد بأحد أولاده،

ولا ييأس منه إذا رآه عنيدًا شرسًا ذا شرة وأذى، فقد يتحول كل هذا فيه إذا أحسنت

تربيته إلى أخلاق فاضلة كالشجاعة، وقوة الإرادة وكبر العقل والشمم وطلب

المعالي، قال صلى الله عليه وسلم:

- (عرام [8] الصبي في صغره زيادة في عقله في كبره) .

والعرام: الشراسة والأذى والأشر والبطر ومفارقة القصد والخروج عن الحد،

وقيل: هو الفساد.

ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم أيضًا لآباء الأولاد ما جاء في قوله:

(الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة) .

ومعنى ذلك أن الآباء لفرط حبهم أولادهم وحرصهم على خيرهم قد تتغلب

عليهم صفات الجبن، فتراهم يجبنون عن التعرض للأخطار خشية أن يموتوا

فتضيع صغارهم من بعدهم، و (البخل) فهم يبخلون ويشحون بالمال فلا ينفقونه

في وجوهه الواجبة أحيانًا لئلا يموتوا بلا إرث يتركونه لصغارهم يتمتعون به في

كبرهم، و (الحزن) : فهم إذا اعتل الولد وساءت حاله وجموا وحزنوا واستولى

عليهم اليأس والقنوط، وهذا معنى (مجبنة)(مبخلة)(محزنة) وهي من صيغ

المبالغة في الوصف، وما ذكر من هذه الأوصاف وإن كان أمرًا فطريًّا أو طبيعيًّا

في الآباء، والشارع يعترف به، فهو ينبه إلى خطره، ويوصي الآباء بالرفق

والاعتدال خشية أن تستحكم فيهم هذه الملكات، فتقودهم إلى الشرور والآفات.

ومما ورد في فضل الولد قوله صلى الله عليه وسلم:

- (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع

به، أو ولد صالح يدعو له بخير) .

- (إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال له: باستغفار

ولدك لك) .

والحنو على الولد والرأفة به والصبر على ما يبدو منه أحيانًا من العناد

والطيش ودواعي الصبوة أمر طبيعي في الآباء يحتملونه بصبر ورضا، إلا من

ندر منهم، فقد رأى الأقرع بن حابس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل

ولده الحسن، فقال له: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم. فقال - صلى الله

عليه وسلم -: (إن من لا يرحم لا يرحم) .

وقال معاوية رضي الله عنه للأحنف بن قيس: ما تقول في الولد؟ قال:

يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعمار ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء

ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم

يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم فضلاً ثقيلاً، فيملوا حياتك، ويودوا

وفاتك، ويكرهوا قربك. فقال له معاوية: لله أنت يا أحنف، لقد أرضيتني عمن

سخطت عليه من ولدي. ثم وصله بعطية عظمى.

***

(كلمة المنار في هذا الفصل)

هذا الفصل من كتاب الأخلاق والواجبات للشيخ عبد القادر المغربي صديقنا

ورفيقنا في طلب العلم بطرابلس الشام ألّفه حديثًا لحكومة دمشق الشام؛ ليقرأ في

مدارسها، وهو كما يرى القارئ في حسن أسلوبه وكثرة فوائده الجامعة بين حاجة

العصر وهداية الدين، ولما أرسل إلينا هذا الفصل منه لننشره في المنار كتبنا إليه

منتقدين إغفاله تخريج أحاديثه وكثرة الضعاف فيها، مع إمكان الاستغناء عنها

بالصحاح، فكتب إلينا أنه قدّر ما كتبناه إليه قدره، وإن عذره الاضطرار إلى

الاختصار مع كون الكتاب كتاب آداب لا كتاب حديث، وإن أحاديثه منقولة من

الجامع الصغير وهي مخرجة فيه (سوى أحاديث قليلة مسندة غالبًا إلى راويها) ،

وإن التصريح بضعف بعض الأحاديث يسقط تأثيرها من النفوس، ويظن الطالب

أن الضعيف بمعنى الباطل مع أنه ليس إلا اصطلاحًا للمحدثين، وإن العلماء

تساهلوا في أحاديث الفضائل ولا سيما إذا كانت موافقة لأصول الإسلام إلخ.

لأجل هذا رجعنا عما كنا عزمنا عليه من تخريج أحاديث هذا الفصل، وبيان

مراتبها من القوة والضعف في أسانيدها كعادتنا، وما قاله في ضعف الأحاديث

يصدق على الكثير منها، ويختلف اصطلاحهم فيها، حتى إن الضعيف في مسند

الإمام أحمد أقوى من الضعيف في زوائده، دع الكتب التي يتساهل أصحابها في

التعديل كابن حبان والحاكم، ولذلك وافق الفقهاء على العمل بها في أحاديث الإرشاد

والفضائل بشروط بيناها في المنار من قبل، أهمها موافقتها للثابت المقرر في الدين،

وعدم اشتداد ضعفها، فإن منها ما سبب ضعفه مخالفة الراوي له لبعض الثقات أو

ضعف ضبطه ولو في آخر عمره، بل عد بعضهم كثيرًا من رجال الصحيحين في

الضعفاء، مثال ذلك حديث:(إن الله سائل كل راع عما استرعاه) في ص299

أخرجه النسائي وابن حبان عن أنس من طريق معاذ بن هشام، وقد عد بعضهم

معاذًا في الضعفاء، وقال ابن معين فيه: صدوق ليس بحجة. على أنه قد روى

عنه الستة.

ومنها ما ضعفه شديد يقرب من الموضوع أو يدخل في بابه، وقد ذكرنا مثالاً

له في الجزء الذي قبل هذا في سياق الكلام على التصوف. وتساهل بعض الفقهاء في

الأحاديث الواهية والموضوعة كحديث دعاء الوضوء، ومنه في هذا الفصل حديث

(عِفْوا تَعَفُ نساؤكم) إلخ نقله في الجامع الصغير عن الطبراني في الأوسط من

حديث عائشة بهذا اللفظ مع تتمة، وعلم عليه بالضعف، وعن الحاكم عن أبي هريرة

بلفظ: (عفوا عن نساء الناس) إلخ، فالأول الذي اختاره المؤلف في إسناده يزيد

بن خالد الغمي كذاب، قاله الشيخ محمد الحوت وعمدته شرح المناوي على الجامع

الصغير، وأسند هذا القول إلى الهيثمي، وليس لهذا الرجل ذكر في ميزان الاعتدال،

وقال في الحديث الآخر: صححه الحاكم. ورد عليه الذهبي فيه سويد عن قتادة

ضعيف، وقال المنذري: هو ابن عبد العزيز واه. انتهى ولعل الصواب أنه سويد

ابن إبراهيم الجحدري أبو حاتم الحناط، فإنه هو الذي قالوا: إنه يروي عن قتادة

فيخلط، ويأتي عنه بأحاديث لم يأت بها أحد غيره، وهو ضعيف. وبالغ ابن حبان

في جرحه فقال: إنه يروي الموضوعات على الثقات. وذكر المنذري أن الطبراني

رواه من حديث ابن عمر أيضًا بإسناد حسن، فلهذه الروايات كان عنده مما يتأدب

به، ولذلك أورده في الترغيب والترهيب؛ لأن معناه صحيح موافق لأصول

الشريعة في التربية بالعمل، فلا تضره مثل هذه العلل.

ومثل ذلك ما كان في سنده انقطاع كحديث: (إن من أكمل المؤمنين إيمانًا

أحسنهم خلقًا، وألطفهم بأهله) وكذا ما كان في سنده مجهول كمحمد بن عاصم في

حديث: (من كان له صبي فليتصاب له) ، ولكن لا يحتج بمثلها في تشريع

جديد في الأحكام والحلال والحرام، ولا في أصول العقائد والإيمان وعالم الغيب،

ولا يعتد بشيء منها إذا خالف النصوص الصحيحة أو القواعد الثابتة في الشرع،

والأمور الثابتة في الوقائع أو بمقتضى البرهان العقلي أو الدليل العلمي القطعي،

فإن مخالفتها من علامات الوضع، وأكثر اعتماد المبتدعين على أمثال هذه

الروايات الشاذة أو المنكرة التي لا يثبت لها إسناد.

وفي هذه الأحاديث ما ليس في الجامع الصغير، ولم يعز إلى كتاب آخر

كحديث: (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم) وحديث: (كان صلى الله عليه وسلم

- في بيته ألين الناس وأكرم الناس ضحاكًا بسامًا) ، ولا أذكر أني رأيت هذا

الحديث في الشمائل ولا غيرها، وفيه وصفه صلى الله عليه وسلم بالضحاك،

ولم يكن ضحاكًا وإنما كان ضحكه تبسمًا، وحديث: (أيما امرأة قعدت على بيت

أولادها) إلخ، وحديث:(لا يعد الرجل صبيه) إلخ، وهو جزء من حديث رواه

ابن أبي الدنيا في الصمت، ولعله في الجامع، ولا أذكر أوله؛ لأراجعه فيه، وفيها

ما أورده بغير ألفاظه التي في الجامع الصغير كحديث: (إذا مات ابن آدم) إلخ،

عزاه في الجامع الصغير إلى البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن

الثلاثة عن أبي هريرة بلفظ: (إذا الإنسان) وليس في آخره كلمة بخير، وحديث:

(أنا من حسين) إلخ، فإنه فيه بلفظه المشهور: (حسين مني وأنا منه، أحب

الله من أحب حسينًا، الحسن والحسين سبطان من الأسباط) ، عزاه إلى البخاري

في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن يعلى بن مرة، وحديث:

(أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم) فإنه ذكره بهذا اللفظ وعزاه إلى ابن ماجه عن

أنس، وقد زاد المؤلف فيه ما ليس في سنن ابن ماجه ولا الجامع الصغير وهو:

(فإن أولادكم هدية الله إليكم) ولم يذكر من أي كتاب نقله.

ومما اقتصر فيه على الضعاف مع وجود الأحاديث الصحاح ما أورده في

المساواة بين الأولاد من حديث النعمان بن بشير: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم

كما تحبون أن يبروكم) ، وقد عزاه في الجامع الصغير إلى الطبراني، وأشار إلى

ضعفه، ثم ذكر بعده بحديث حديث:(ساووا بين أولادكم) إلخ، وعزاه في

الجامع الصغير إلى الطبراني والبيهقي وأشار إلى ضعفه، وذلك أن في إسناده

سعيد بن يوسف وهو ضعيف، وذكر ابن عدي في الكامل أنه لم يرو له أنكر منه،

وقد ترك حديث النعمان بن بشير المروي في الصحيحين: (اتقوا الله واعدلوا في

أولادكم) وفي رواية: (.... بين أولادكم) ، وله قصة في إنكار النبي - صلى الله

عليه وسلم - على من ميز أحد الإخوة على الآخرين؛ وإنما فعل المؤلف هذا لأن

في الأحاديث التي اختارها زيادة فائدة في المعنى مقصودة في بابها، وقد ذكرت في

الحواشي تنبيهات أخرى ما أحببت أن تؤخر إلى هذه التعلقات العامة.

وإنني أحب لصديقي أن يراجع جميع أحاديث الكتاب ويقابلها بالكتب التي

نقلها منها، ويذكر في حواشي الصحائف مأخذ كل حديث ليس في الجامع الصغير

بنصه، ويصرح بأن كل حديث لم يعزه إلى كتاب فهو في الجامع الصغير، فإن

هذا أدعى إلى ثقة الناس بهذه الأحاديث في كل قطر، وهذا العمل لا يقتضي زيادة

كثيرة في أوراق الكتاب؛ لقلة الأحاديث التي ليست من الجامع الصغير، وأن يدقق

النظر في تحرير الألفاظ، ولا يتساهل في ذلك اعتمادًا على ما ذكره بعض

المحدثين من جواز رواية الحديث بالمعنى، فإن هذا ليس لمن ينقل من الكتب مثلنا،

وإنما هو خاص بمثل الصحابي أو التابعي يسمع الحديث فيتحرى بيان المعنى

الذي فهمه منه، فلا يضره اختلاف بعض الألفاظ كقوله:(اعدلوا في أولادكم) أو

(بين أولادكم) .

_________

(1)

هذا لفظ الحديث رواه الترمذي عن عائشة وابن ماجه عن ابن عباس والطبراني في الكبير عن معاوية بسند صحيح، ورواه ابن عساكر عن علي بزيادة (ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم) وهو صحيح أيضًا وذكره المؤلف بلفظ خياركم إلخ، وهو حديث آخر ليس فيه: وأنا خيركم لأهلي - فلذلك صححناه.

(2)

أورده المؤلف بلفظ أحسن، والرواية أكمل، وظاهر أن كل ما أوله هذه العلامة (*) فهو حديث.

(3)

المنار: الحديث لا يوجد بهذا اللفظ في الجامع الصغير الذي استمد منه الكاتب معظم ما أورده في كتابه من الأحاديث ويوجد باللفظ الآتي معزو إلى الطبراني والحاكم مصححًا، ورواه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وصححه، وعلقه البخاري في الصحيح عن معاوية بن حيدة مرفوعًا وهو:(حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت) قالوا: أي المبيت بأن يبيت وحده مؤاخذة لها على النشوز وهو عصيان الترفع، ولكن لا يحل له أن يترك مكالمتها.

(4)

المنار: لعله أراد السنن الاجتماعية لا المعنى الاصطلاحي عند الحكومات.

(5)

في الأصل بصدقة وهو سهو ولذلك صححناه والصاع مكيال معروف، والحديث في الترمذي من طريق ناصح بن عبد الله المحملي وهو كما قال الذهبي: هالك. فلذلك أنكر الحفاظ على الترمذي روايته عنه.

(6)

هذه ليست علومًا بل الكتابة فن عملي والسباحة والرماية رياضتان، ولا يزال هذا من أهم ما يربى عليه الأولاد، ولكن رماية هذا العصر بالرصاص لا بالسهام.

(7)

هذا ليس بحديث بل هو من كلام بعض المولدين فلا لفظ التخليق فيه بهذا المعنى عربي فصيح ولا معناه شرعي صحيح.

(8)

المنار: الرواية كما في الجامع الصغير عرامة وهي بالفتح كالعرام بالضم.

ص: 296

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مختارات من الجرائد الغربية

في حل المسألة الشرقية

جاء في جريدة الباتري (الوطن) في 17 مايو سنة 1919

نهاية الدولة التركية - عدم عقد شروط صلح معها - تقسيم الولايات العثمانية.

تقسيم الدولة

قالت النيويورك هرالد في عددها الصادر هذا الصباح: إن من المرجح عدم

عقد شروط صلح مع تركية وإن كان ذلك غير مطابق للقواعد المرعية، لا أن

المؤتمر يفكر بكل اهتمام في هذا الأمر مرتكنًا على أن تركية لم يعد لها حكومة

دولية حقيقة، وإنه لم يبق للعالم المدني إلا الانتفاع بتركية الدولة العثمانية.

ستنال اليونان أكبر جزء من تركية أوربة، وأما الآستانة مع مضايق البحر

فتتبع لعصبة الأمم تحت وصاية أمريكة التي تعطى في هذا الإبان نفسه الوكالة على

أرمينية إلى أن تصير هذه البلاد صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها.

ثم إن اليونان سيصيبها جزء ليس بالقليل من آسية الصغرى، وأما باقي ولايات

هذه الجهة فتكون تحت وكالة فرنسة وإيطالية بالنيابة عن عصبة الأمم، وإنكلترة

تأخذ بلاد العراق وفرنسة تأخذ سورية، أما العرب فقد قرر الحلفاء منحهم الاستقلال.

***

وراثة الخلافة

إن انحلال تركية أوجد مسألة أيلولة الخلافة، كما أنه وضع حدًّا لنهاية نفوذ

فرنسة في الشرق، لقد كان لنا عدة قرون أكبر نفوذ بسياستنا الودية مع تركية، وقد

حلت ألمانية محلنا عندما أهملنا المحافظة على هذا النفوذ، وكان في إمكاننا

استرجاع مكانتنا الأولى على أثر صولة النصر، إلا أننا لم نغتنم هذه الفرصة، بل

قبلنا تسوية مجحفة بمصالحنا، فما يكون نصيب فرنسة بالنسبة إلى البلاد المتسعة

التي وضعت تحت وصاية إنكلترة وأمريكة؟ إن ما خصص لنا إنما هي سورية بعد

استثناء تليسيا وفلسطين منها وحرمانها من البوغازين المهمين - أعني بهما ثغري

إسكندرونة وحيفا.

***

وجاء في جريدة لافنير (المستقبل) في 18 مايو سنة 1919

تعديل الخريطة

إعادة نظام النمسة وانحلال تركية

عزم المؤتمر على فحص المسألة التركية، وقد بدأ هذا الفحص بإرسال

مدرعات وجيوش دولية لاحتلال أزمير التي تقرر ضمها إلى اليونان، وتم ذلك فعلاً.

تقرر أيضًا ضم سورية إلى فرنسة، ولكن لم ينفذ هذا القرار وجعل العراق

وفلسطين تابعتين لإنجلترة، وقد تم ذلك، ثم ينتظر إلحاق إضالية وقونية بإيطالية

والآستانة وأرمينية بأمريكة.

أما التركي فإنه يحسب تخويل الشعب حق تقرير مصيرها قد صار إزالته من

الخريطة، والمأمول أن هذه المخالفة لمشروع عصبة الأمم لا تتم؛ لأنه ليس من

حسن السياسة تحريك عواطف الوحدة الإسلامية في أنحاء العالم وإضمارها في

الآستانة.

كان لدى الدول فرصة وحيدة لوضع تركية تحت سيطرة دولية، ثم رُئي

اتباع طريقة أخرى، وهي تقسيم البلاد وتجنيسها بجنسية الحكومات التي لها عليها

حق الوكالة أو الوصاية، لا حق التملك الحقيقي.

إننا بتضحية تركية وبتشريح هذه المملكة أوجدنا أوجهًا للنزاع وللشقاق بين

دول أوربة في المستقبل؛ إذ إن الرجل المريض سينقل عدوى مرضه إلى أوربة،

ولأجل تعميم العدوى دخلت أيضًا أمريكة في المرسح، ولنا أن نتساءل: ما شأن

أمريكة في تركية؟ ولماذا لم تكلف الدول صاحبة الشأن حماية مضايق البحر؟ هل

تدخلنا نحن في مراقبة ترعة بنما؟

إن الحل الوحيد هو عدم تخصيص الآستانة لدولة معينة من الدول، وإذا كان

لا بد من وضع مراقبة على تركية، فليس ثمت أحسن طريقة من جعل هذه المراقبة

دولية مشتركة، وكل طريقة أخرى تكون مخالفة للعدالة وللروح العصري

والصوالح الأوربية في الشرق.

***

وجاء في جريدة الفيجارو في 18 مايو سنة 1919

الإرث العثماني

بعد انكسار ألمانية العسكري وانهزام دولتي تركية والنمسة والمجر أصبحت

هاتان الدولتان الأخيرتان مزعزعتي الأركان، وتولد عن ذلك مسألة من أصعب

المسائل وأعقدها، ألا وهي تسوية الإرث العثماني.

إن سقوط الدولتين المذكورتين أنقذ الشعوب التي ليس لها رغبة، ولم يعد لها

صبر على احتمال نير الحكم الاستبدادي الذي رزحت تحته أجيالاً طويلةً.

فالذين تؤول إليهم تركة تركية هم أولاً اليونان الذين بعد أن تخلصوا من ذاك

الملك الخائن انضموا إلى قضية الحلفاء، ثم الأرمن الذين بسبب السياسة الخرقاء

الموعز بها من عمال الألمان قاسوا أشد أنواع العذاب، وأوشكوا أن ينقرضوا،

ويَليهم السوريون إلخ.

فاليونان القاطنون في تركية أوربة سينضمون إلى دولتهم التي ستتسع كثيرًا

على أثر هذا الانضمام، كما أن ولاية أزمير، حيث يكون العنصر اليوناني، ستنضم

أيضًا إلى دولة اليونان بناء على التوكيل المعطى هذه الدولة، وبحسب الشروط

المعينة لذلك.

وأما مشروع إنشاء أرمينية الكبرى مع ضم أطنة ومرسين إليها ليكون لها

منفذ على البحر المتوسط، فالمنظور أن أمريكة تكون الوصية على هذه البلاد كي

تساعدها على ارتقائها ونموها، كما أنها ستكون على الراجح هي الوصية على

الآستانة وعلى المضايق التابعة لها أيضًا، فإذا قبل الرئيس ويلسون هذه الوكالة

باسم الشعب الأمريكي لا يكون قبوله نافذًا ونهائيًّا، إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ

الأمريكي عليه.

وفرنسة تكون الوصية على سورية بالنظر لعلاقتها القديمة بها، لكن لا بد أن

تكون هذه الوصاية شاملة للبلاد السورية بأكملها وليس على سورية مقسمة، ولا

ريب في أن المخابرات التي جرت في ذلك كان فيها بعض التراخي من قبل فرنسة،

لكن من الضروري أن تؤيد حقوقنا بكل حزم وعزم.

بلاد الأناضول ستعطى لإيطاليا مع ميناء أضاليا ثم إن فلسطين والعراق

يكونان تحت مراقبة إنجلترة.

هذا هو التقسييم الذي تم الاتفاق عليه بادئ بدء، وبقي في آسية الصغرى

جزء مأهول بسكان أتراك يحتوي على بروسة وأنقرة، وقد طلب من فرنسة حماية

هذا الجزء؛ لأن بروسة حيث يقيم السلطان تكون عاصمة المملكة العثمانية الجديدة،

ونتمنى أن لا يتبع الحلفاء سياسة التجزئة في آسية الصغرى، والذي نراه هو أن

تكون دولة تركية المقبلة تحت إشراف مستشارين أورباويين، وبمعاونتهم.

(المنار)

هذا نموذج مما كان ينشر في جرائد الحلفاء منذ عامين، بيانًا للرأي العام في

بلادهم عقب الحرب التي كانوا فيها هم المنتصرين، وكان أكثر الناس من جميع

الأمم يظنون أن ما تقوله هذه الجرائد هو القول الفصل الذي لا مرد له؛ لأنه صدى

سياسة دولهم المنتصرة التي لها الدهر عبدٌ والزمان غلام، وقد وضعوا المعاهدات

لجعل تلك الأماني حقوقًا ثابتة، ولكن الزمان جاء بما لم يكن في حسبان أحد من

الخطوب والمشكلات، التي عجز جميع دهاة السياسة عن حل عقدة واحدة من عقدها

الكثيرة، وقد جف ريقهم من كثرة ما نفثوا فيها، ودميت أظافرهم من تكرار

محاولتهم لها، فكان ذلك حجة بالغة على جهل المغرورين بالقوة والعظمة الباطلة،

الذين يرتكسون في البأس عند سماع كل صيحة هائلة {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي

الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

_________

ص: 309

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أماني المبشرين

أو مخادعتهم للموسرين

كتبت إحدى الجرائد التبشيرية الأمريكية مقالاً للدكتور صموئيل م زويمر

المعروف في مصر تحت هذا العنوان:

الإسلام يرحب بالنصرانية

إن الجاحدين من أهل الإسلام أصحبوا الآن مبشرين في الشرق الأدنى، وإن

دور الأولياء والكهنة قد انقضى، فأصبح المسلمون يرحبون بالإنجيل المسيحي.

هذا ما كتبه الدكتور صموئيل زويمر من القاهرة إلى (الإنتليجنسر) مبينًا أن

الاضطراب السياسي في الشرق الأدنى لم يكن ناجمًا عن عوامل اقتصادية، أو

رغبة في الحكم الذاتي بقدر ما كان ناجمًا عن عدم القناعة الدينية، وقد أقام برهانًا

على أقواله أن اللورد رادستوك الموظف في جمعة الشبان المسيحيين YMCA قد

ألقى عدة مواعظ دينية في المدن والقرى المصرية إبان الاضطرابات الأخيرة،

قوبلت بكل ترحيب وحفاوة، بالرغم من تلك الاضطرابات السياسية، ومن ظهور

بزته الإفرنجية، فيدل هذا على أن الفرص سانحة جدًّا للتبشير بين الطبقات كافة،

والمسلمين الذين يمثلون المجموع الأعظم خاصة، وإن الأبواب التي كانت مستعدة

بأن تفتح أصبحت الآن مفتوحة على مصراعيها لقبول الدعوة؛ لأن الأبحاث اللاهوتية

ابتدأت تأخذ طورًا جديدًا في الوقت الحاضر، وأصبحت صفات السيد المسيح تمحص

في الجرائد اليومية، ومما يشجع على ذلك أننا نرى إقبالاً لم يسبق له مثيل على تعاليم

المسيح من تلاميذ المدارس الابتدائية، حتى معلمي الجامع الأزهر وكافة طبقات

الشعب، فقد جاء في مؤلف لأحد علماء الإسلام في القاهرة فصل عن السيد المسيح،

بين فيه الكاتب جلال المسيح وتأثيره العظيم على التاريخ.

إن الإسلام لا يعترف رسميًّا بصلب المسيح وآلامه، فأصبحت خشبة الصليب

هي العثرة في سبيل أبحاثهم، ولكن هذه التعاليم لم يعد يستغربها عقل المسلم.

قد نكون عرضةً لنسيان أن الشرق الأدنى نال قسطه من (جثسيماني)

(مكان في القدس حيث دفن المسيح) ، فإن الحرب قد حفرت حفرًا عميقة في حياة

البشر وقلوبهم، حيث نرى الملايين من الأيتام والأرامل ولا نرى بيتًا في تركيا إلا

ونشاهد فيه فراغًا.

غلب الإسلام في ساحة الحرب فأصبح مخدوعًا في مظاهره، مضطربًا في

برنامجه، وعليه فإنه أصبح ناضجًا مستعدًّا لقبول التعاليم المسيحية؛ إذ بات يفهم

أن الله لم يعد يحارب لأجل الإسلام كما كان يحارب قبلاً، وإن تلك الخطط

الثوروية والمطالب التي كانوا يلبسونها ستارًا من الوطنية لإذلال غير المسلمين من

الشعب لم تجدهم نفعًا، فإن اليهودي رجع إلى فلسطين، وأصبح المسيحي في مصر

وسوريا يرفع رأسه بعد أن كان ذليلاً مهينًا.

إن المسلمين أنفسهم يدرسون حياة محمد وتعاليمه درس الناقد، وإن ما جاء

في تفسير القرآن الذي كان ينشر تباعًا في مجلة المنار التي هي من أمهات المجلات

في القاهرة دليل على ما ذكرناه.

إن الطلاء الأبيض ابتدأ يزول، فالمتعلمون من المسلمين يقرؤون الكتب

الإفرنسية والإنكليزية، وعلى الأخص كتابات (لامنس) و (كايتاني) و (موير)

و (ماكوليوت) وغيرهم، ثم إن (س خدا باخش) من (كلكتا) ترجم مؤخرًا

كتاب الدكتور (ويل) في تاريخ الإسلام، ونشره باللغة الإنكليزية منتقدًا التربية

الإسلامية أكثر مما كان ينتقدها في خطاباته ومحاضراته الشائقة، غير هياب ولا

وجل، وعليه فإن الفرصة سانحة للتبشير وبث التعاليم المسيحية، كيما ننتاش

النابتة، ونخلص المرأة المستعبدة، ثم نبث معنى الحياة الزوجية.

قد يرى المبشرون في هذا الجهاد أنصارًا لهم من الفئة المتعلمة من المسلمين

الذين أصبحت ميولهم وأفكارهم غير متجانسة مع ديانة آبائهم.

الرق قضي عليه، والحجاب في حالة القضاء عليه، وأما تعدد الزوجات

وشريعة الطلاق فإن الظروف الحاضرة كفيلة بزوالها. انتهى.

(المنار)

يغلب على ظننا أن الغرض الأول من هذه الكتابة استنداء أكف الموسرين من

الغيورين على تنصير المسلمين ليجودوا بالمال، ولا يبعد أن يكون الكاتب مغرورًا

متمنيًا يرى أن أمانيه حقائق ثابتة كالسياسيين الذين يظنون أنهم قضوا على الإسلام

بكسر الدولة العثمانية، واقتسام البلاد العربية، والحق أن المسلمين كانوا قبل الأحداث

التي ذكرها أشد تعظيمًا للمسيح عليه السلام منهم الآن، وأن أوربة قد جنت بهذه

الحرب الوحشية، وبمعاهدات الصلح على المسيحية وعلى المدنية الغربية أقبح

جناية، فأصبحت جميع الأمم الشرقية نافرة منها أشد النفور، فإن لم يكن الكاتب شعر

بهذا إلى اليوم، وهو ما لا نظنه، فلينتظر، فإنا منتظرون.

_________

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

مسألة فناء النار أو انتهاء عذاب أهلها

راجعَنا أفراد من قرّاء المنار فيما نقلناه عن كتاب (حادي الأرواح) في

مسألة الخلاف في فناء النار وبقائها، وما رجوناه من إقناعه لبعض المنكرين لعدم

نهاية عذابها مع عدم تضرر المؤمنين بقول الجمهور به، ورأينا بعضهم فهم من

كلام ابن القيم أنه يرجح القول بفناء النار ويختاره، وإننا وافقناه على ذلك بما قفينا

عليه، ولم نر أحدًا منهم فهم قولنا حق الفهم، ولا قوله، وقد تيسر لنا إفهام من كلمنا

في ذلك مشافهة حتى اتفقنا فيه رأيًا.

وكتب إلينا بعض إخواننا في ذلك مستعظمًا للأمر، ظانًّا أنه كلام يهدم الدين،

ويؤيد شبه المرتدين، ويجرئ العصاة والفساق على ارتكاب الفواحش والمنكرات،

وقد كتبنا إليه بعض التوضيح لقولنا، والتذكير بما لعله ذهل عنه، وفتحنا له باب

الرد على ما أنكره وإزالة شبهات من يظن أنه يفتتن به، فشرع في ذلك، ثم رأينا

أن نبين له ولغيره من القُرَّاء المسائل الآتية، ونذكرهم ببعض ما سبق لنا من القول

في أمثال هذه المسائل:

1-

إن المسألة خلافية بين المسلمين لا إجماعية، وقد نقل الإمام الطحاوي

فيها ثمانية مذاهب في عقيدته، عزا اثنين منهما إلى أهل السنة: أحدهما أن الله تعالى

يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، والآخر قول الجمهور المشهور، وابن القيم لم ينقل إلا

سبعة أقوال، وقد ذكر الخلاف في كثير من كتب العقائد والتفسير والحديث،

ومقتضى كلام الطحاوي أن مذهب بعض الصوفية فيها كمذهب الجهمية ليس من

مذاهب السنة.

2-

إن الطحاوي لما ذكر القولين اللذين عزاهما إلى أهل السنة قال: ولينظر

في دليلهما. فجاء بعده ابن القيم وبسط دلائلهما، ولم يجزم بهذا ولا ذاك، بل

فوّض الأمر فيه إلى إرادة الله ومشيئته، وهو قول 8 أو 9 لأهل السنة.

3-

إن المنار لم ينشر مطويًّا، فالكتب التي ذكر فيها الخلاف متداولة بين

الناس، ولا سيما الدر المنثور في التفسير بالمأثور للحافظ السيوطي، وشرح عقيدة

السفاريني، وما زاد حادي الأرواح على غيره إلا تلك المسائل الدقيقة في حكم

الثواب والعقاب، ورحمة الله تعالى وحكمته في الجزاء، والتفرقة بين صفات الذات

كالحكمة والرحمة، وصفات الأفعال كالرزاق والمحيي والمميت والمنتقم، وهي

التي نوهنا بفضله وأثنينا على سعة علمه ومعرفته لأجلها دون أصل المسألة

المشهورة قبله.

4-

إننا قد بينا غير مرة في المنار أن المعتمد عندنا في التفسير وأصول الدين

وفروعه ظواهر النصوص مجتمعة، وفي اختلاف العلماء ما كان عليه جمهور

السلف إن علم بالنقل الصحيح، وإننا إذا أوردنا في المنار أقوالاً أخرى فإنما نقصد

بذلك دفع بعض الشبهات عن الدين أو تقريب بعض مسائله إلى بعض من لا يقنعهم

غيره بحسب اختبارنا، وعلى هذه القاعدة جرينا في تفسير آية الأنعام، فإن فيها

بعد ذكر الخلود الاستثناء بمشيئة الله تعالى، وتعليل هذا الاستثناء بقوله تعالى: {إِنَّ

رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 83) وقد فوضنا إليه سبحانه الأمر في ذلك، وبينا

أن مشيئته في ذلك مجهولة لنا، ولا يعلمها حق العلم غيره سبحانه، وإنما تتعلق بما

يقتضيه علمه وحكمته، ووعدنا بتحرير الدلائل في المسألة عند تفسير آيتي سورة

هود فيها.

وقد سبق لنا تحقيق مثل هذا التفويض في تفسير قوله تعالى حكاية عن عيسى

عليه السلام في قومه: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ

الحَكِيمُ} (المائدة: 118) ، وبينا فيه ضعف من اضطرب فيه من المفسرين؛

لصراحة العبارة في جواز المغفرة لمن اتخذه وأمه إلهين من دون الله، ومنه أقوال

بعض مفسري الأشعرية باستحسان غفران الشرك، كما صرح به أبو السعود

والآلوسي، وأطنب الرازي في ذلك وأتى بعدة وجوه في تأييد مذهبهم رددناها عليه

أقوى رد بفضل الله علينا، وبينا وجه تذييل الآية بصفتي العزة والحكمة دون

المغفرة والرحمة بما لم نطلع على مثله لأحد.

5 -

إن قيل: إنه تعالى بيّن في سورة النساء أنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما

دون ذلك لمن يشاء، فهذا تقييد للمشيئة ينقض قول الأشعرية. قلنا: إنما يدل هذا

على أن العقاب على الشرك حتم مقضي، ولكنه لا يدل على أنه سرمدي لا نهاية له،

بل هذه مسألة أخرى، وجمهور العلماء يقيدون المشيئة بغير هذا النص أيضًا؛ إذ

صرحوا بأنه لا يغفر لمن يوحد الله ولا يشرك به إذا لم يؤمن بملائكة الله ورسله

واليوم الآخر، ولا لمن جحد أي أمر مجمع عليه معلوم من دين الإسلام بالضرورة،

ويؤولون النص في جواز غفران ما دون الشرك كالنص في خلود متعمد القتل في

جهنم بناءً على مذاهبهم، فأكثر التأويل لتصحيح المذاهب المتبعة، لا للجمع بين

النصوص وتقديمها على جميع المذاهب، والآيات تثبت إطلاق المشيئة إلا أنها لا

تعارض غيرها من صفات الله ومدلول كلامه.

6-

إن مرادنا بقولنا: إن هذا البحث لا يضر المؤمنين بقول الجمهور مقلدين

كانوا أو مستدلين - ظاهر جلي، وهو أنهم يردون القول المخالف لمن قلدوهم أو

لدلائلهم، فلا يترتب عليه أثر في أعمالهم، ونزيد على ذلك أنه لا يضر أحدًا من

المؤمنين مطلقًا، وإن سامه؛ لأن جواز تعلق مشيئة الله تعالى بانتهاء عذاب الكفار

بعد لبثهم في النار أحقابًا لا يصح أن يكون سببًا لترك المؤمن الصادق لشيء من

الواجبات، ولا لارتكابه لشيء من المحرمات، ولكن في كتب الفقه والكلام

والمواعظ والأدب وخطب المنابر كثيرًا من الأقوال التي أزالت حرمة الأوامر

والنواهي من قلوب الجم الغفير من الناس، وكان من أثرها ما نراه من ترك الصلاة،

ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وفشو السكر والزنا والقمار، كالكلام

في تخلف الوعيد والعفو والمغفرة والكفارات والشفاعات والكرامات، وقد شرحنا ذلك

مرارًا، ورددنا شبهات الضالين فيها، وبينا ما له أصل منها وما هو موضوع باطل

كحديث إعتاق ستمائة ألف عتيق من النار في كل ليلة من رمضان، ولم يكتف خطباء

الفتنة وعلماء التقاليد بتلقين الدهماء هذه الموضوعات، بل تصدى بعضهم لرد ما يرد

عليها كأنها من أصول الدين، كقول بعضهم: إذا كان عدد عتقى رمضان يزيد على

عدد مسلمي الأرض كلهم، ولا سيما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله

تعالى يكمله من الجن.

وإنني بما اتفق لي من الاختبار الواسع للناس، وبقدر ما أوتيت من العقل

والفهم أجزم بأنه يندر أن يكون الخوف من العذاب الأبدي سببًا لاستجابة كافر لدعوة

الدين، بل هذا قلب للمعقول؛ لأنه يتوقف على التصديق بالعذاب المذكور قبل

الإيمان بالرسول وبما جاء به، وهذا قلما يقع إلا لأفراد من المعاندين كبعض كبراء

مشيخة قريش في زمن البعثة.

7-

لا أنكر أن بعض المارقين والملاحدة المشاغبين قد تزيدهم أمثال هذه

المباحث رجسًا إلى رجسهم من حيث تزيد المؤمنين إيمانًا بالله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ

كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) الذين فسقوا من

نور الفطرة والاستعداد للهداية، كما تفسق الرطبة من قشرتها، وإنما أرجو أن يهتدي

بهذا البحث بعض المرتابين من أهل النظر الذين يؤمنون بأن للعالم إلهًا عظيمًا

حكيمًا، وربًّا رؤوفًا رحيمًا، وإن من حكمته الجزاء على الأعمال النفسية والبدنية،

وإن جزاءه عدل وفضل، ويستحيل عليه الجور والظلم، وهم ينظرون ويتفكرون،

وإذا ظهر لهم الحق يقبلونه وله يذعنون، وأما أولئك المارقون المستهزئون من أهل

الرقاعة فلا يلتفت إليهم، ولا يبالي عاقل بأمرهم، إلا أن يشفق عليهم ويحزن لكونهم

من أمته أو أبناء جنسه.

8-

إن الشبهة التي أشرنا إليها ليست واردة على بقاء دار العقاب التي تسمى

النار والجحيم والهاوية وجهنم وغير ذلك من الأسماء، فقد تبقى وينقلب عذابها عذبًا

كما زعم الشيخ محيي الدين بن عربي وشيعته، أو لتعذيب خلق آخر من المكلفين

مثلاً، ولا على أصل العقاب فيها، فطالما أقنعنا المنكرين لهذا بأنه حق وعدل،

وإنما يقول أصحابها وهم من المنتسبين إلى أديان مختلفة: إن المختبر لأحوال

البشر يعلم علمًا يقينيًّا أن أكثرهم ينشأ متدينًا بالدين الذي نشأ عليه بين قومه وأهل

ملته تقليدًا لهم وتسليمًا، ثم يعرض لبعضهم الشك والريبة في دينه وفي سائر

الأديان بالتبع، ويتفق لبعض آخر الاطلاع على دين آخر والاقتناع بحقيته فيتبعه،

ولكن يقل جدًّا أن يظهر لأحد حقية دين ويجحد به كبرًا وعنادًا، كما وقع لبعض

كبراء أقوام الرسل عليهم السلام في عصرهم، ثم إن المتدينين يعملون بما

يعلمون من أديانهم على تفاوت عظيم بينهم في العمل، سببه تأثير التربية والقدوة،

وطريقة التعليم له، ويعلم أيضًا أن بعض المرتدين عن أديانهم بشبهات نظرية أو

علمية يؤمنون بالله ولا يشركون به شيئًا، وأن بعض المتدينين بالأديان الكتابية

كغيرها يشركون بعبادة الله تعالى أشياء كثيرة من الأحياء والأموات، كما أن بعض

المرتدين أحسن من بعض المتدينين أخلاقًا وأعمالاً، وأنفع منهم للناس وللأوطان،

ويقولون: إننا مع هذه الحال نرى أهل كل دين يقولون: إن الموافقين لهم في دينهم؛

لأنهم ولدوا فيهم وتربوا بينهم - هم وحدهم أصحاب النعيم المؤبد الذي لا نهاية له،

وأن جميع المخالفين لهم سيكونون في عذاب أليم مؤبد لا نهاية له، سواء عرفوا

حقيقة دينهم أو جهلوها، بل يعلم أكثر أهل البصيرة والاختبار أن أكثر المخالفين

لهم لا يعرفون حقيقة دينهم، وأن من يعرف شيئًا منه يقل من يعرفه على وجهه

عندهم، وأن ليس كل من يعلم شيئًا منه على حقيقته يقوم عنده الدليل على صحته،

ونتيجة ما تقدم أن أكثر أفراد البشر مقلدون في دينهم لمن تربوا معهم وتعلموا منهم،

وأن غير الأكثر أهل نظر واستدلال يرجحون ما ثبت عندهم بحسب درجات

نظرهم واستدلالهم على غيره في العقائد والأعمال، فالذي أصاب الحق من المقلدين

لا فضل له في إصابته؛ إذ لا عمل له فيه ولا اجتهاد، والمقلدون في هذه الأعصار

إنما يتبعون جمهورًا مقلدًا، فلا يكاد يتفق لأحد منهم أن يصيب الحق في جميع

المسائل، وإذا كان التقليد حجة لصاحبه فيما وافق الصواب، وعذرًا فيما خالفه كما

يقول أكثر أهل كل ملة في أنفسهم، فلماذا كان ذلك خاصًّا بهم، والله رب الجميع

وهو الحكم العدل.

ثم إنهم يقولون لأهل كل دين: أنتم قد تفرقتم في دينكم وكنتم شيعًا تحكم كل

شيعة على الأخرى بالكفر أو الابتداع والضلال، فإذا كان الواجب على جميع البشر

أن يتبعوكم، وكان كل من لا يدين بدينكم خالدًا في العذاب بالمعنى الذي تقولون،

فأي مذاهب الشيع يجب عليهم الأخذ به لينجوا من الهلاك الأبدي؟ إن قصارى قول

كل شيعة، بل كل فرد منكم أن من يدين الله بدينه ويموت على عقيدته هو الناجي

المثاب بالنعيم الأبدي، وإن عاش العمر الطويل قبله على غير ذلك، وإن كل من

مات على غير عقيدته يخلد في العذاب الأليم الأبدي، وإن عاش العمر الطويل قبله

على الإيمان بالله وحده وبالبعث والحساب وعمل البر والإحسان بتعاليم دين آخر أو

باجتهاده.

فمورد الشبهة بعد هذا البيان أن أكثر أفراد هذا الإنسان الذي خلقه الله في

أحسن تقويم، وكرمه وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً إنما خلقهم تعالى لأجل أن

يعذبهم عذابًا شديدًا أليمًا مهينًا أبديًّا تمر الألوف والملايين من الأحقاب والقرون وهو

لا يزداد إلا شدة واستمرارًا، وإن هذا العقاب جزاء عادل على مسائل اعتقادية قليلة،

كان أكثرهم جاهلاً بها وغافلاً عنها؛ لأنه لم يدعه أحد إليها ألبتة، وقد بلغت

بعضهم على وجوه مختلفة منكرة لا على وجه صحيح يحرك داعية النظر فلم ينظر

فيها، وبعضهم نظر وبحث فلم يتبين له أنها الحق، وبعضهم ليس أهلاً للنظر

برسوخه في تقليد أهل دينه واطمئنانه به، وإن هذا العقاب الأبدي الأليم لا ينافي ما

ثبت في العقل والنقل من عدل الله تعالى وحكمته وسعة رحمته وكونه أرحم

الراحمين، بل أرحم من الوالدة الرؤوم بطفلها الرضيع، هذا ما يقولون أنهم لا

يعقلونه فيؤمنوا به وليس في طاقتهم أن يعتقدوا صحة دين يحكم به ويحتمه.

9-

إنني أحمد الله تعالى أن وفقني لإقناع كثير من الناس مختلفي الدين

والجنس بحكمة الله وعدله في عقاب المجرمين، كما وفقني لإقناع من لا أحصي

لهم عددًا من المرتدين والمعطلين الماديين بوجود إله خالق واحد وبالرسالة، وبكثير

من أصول الدين وحكم فروعه، وموافقة الدين الإسلامي للعقل ولمصالح البشر في

دنياهم، وإنني ابتليت بمراجعة الناس لي في ذلك من أيام طلبي للعلم؛ لأنني كنت

كثير البحث فيه بالميل الفطري حتى إن بعض الشيوخ في طرابلس الشام كان

يراني في السوق فيسألني عن بعض مشكلات الشريعة ووجه مطابقتها للعقل أو

للمصلحة العامة، وحدثني دانش بك الذي كان أمين السر لمحمود باشا الداماد والد

الأمير صباح الدين بك التركي الشهير حين جاء من مصر في أوائل العهد بهجرتي

إليها أن الأستاذ الإمام قال له: إنني لا أعرف أحدًا أقدر من هذا الشاب صاحب

المنار على التوفيق بين الدين وبين العقل والمدنية. ثم أقول بعد هذا وحمد الله عليه

عودًا على بدء أنني لم أعجز عن إقناع منكر لشيء من أصول الدين أو حكمه،

كما عجزت عن إقناع المنكرين لأبدية العذاب الأليم الشديد إنكار اشتباه وارتياب لا

جحود وعناد، فإن الجاحد المعاند لهوى في نفسه لا يقتنع بالضروريات بله

المشكلات، ولكنني إذا قلت لبعضهم: إن لبعض السلف والخلف من المسلمين قولاً

بانتهاء العذاب وقولاً بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى قالوا: إننا نجزم بأن عظمة الله

تعالى وحكمته ورحمته تجل عن تعذيب هؤلاء العباد الضعفاء الجاهلين إلى غير

نهاية، أيّ الأمرين أجدر بهؤلاء؟ آلجزم بأن عدم نهاية العذاب الشديد لمن ذكر من

أصول الدين التي يعد غير المؤمن بها مرتدًّا لا يعتد بإسلامه، أم إقناعه بأن اعتقاده

لا ينافي الإسلام، وأن له أسوة بمن سلف من المؤمنين، ولو الجهمية الذين لا يكفرهم

أهل السنة بما خالفوهم فيه عن استدلال وتأول؟

10 -

بعد هذا كله أصرح هنا بأن مسألة فناء النار أو انتهاء عذابها الأليم

الشديد مع بقائها ليست عندي من المسائل التي أدعو إليها وأناضل عنها، ولا أبالي

أن أنشر لمن يرد عليها ما يكتبه على علاته من غير نقد لما أراه منتقدًا منه بشرط

ألا يطيل بما لا حاجة إليه في الوضع، أو بما سبق ذكره لابن القيم في حجج القائلين

بالقول الآخر، وأن يبين صفة من لا ينتهي عذابهم ومن لا ينتهي نعيمهم التي

استحق بها كل منهما ذلك، وأتمنى لو يوفق أحد لشيء يقنع من ذكرت، والله

الموفق للصواب.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 315

الكاتب: محمد رشيد رضا

القرآن المتواتر والقراءات السبع

وخاصةً قراءة حمزة

س10-11من الشيخ عبد القادر حمزة من كفر الشيخ عامر

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى سيدي الأستاذ الإمام السيد محمد رشيد رضا

السلام عليك وعلى سائر الأسرة والأحباب (وبعد) ، فأعرض على نور علمكم

مسائل أشكلت علي مآخذها وتعارضت أدلتها؛ لتنيروا لنا سبيل الحق فيها على

صفحات مناركم، أو في كتاب خاص إليّ - أطال الله حياتكم لهداية المسلمين

آمين -:

1-

تواتر القرآن مجمع عليه من جميع طوائف المسلمين، فهل هذا التواتر

هو لما اتفق عليه القراء - وهو جمهور القرآن - ويكون ما اختلفوا فيه صحيحًا غير

متواتر لاختلافهم فيه من جهة؛ ولأن كل قراءة جاءت عن واحد وعرفت به

وأضيفت إليه، كقولهم: قراءة حفص، قراءة حمزة، قراءة ابن كثير مثلاً؟ أو

أن كل قراءة من هذه القراءات متواترة قد شارك كل قارئ منهم في قراءته من

لا يحصى من أمثاله غير أن المصنفين اقتصروا على واحد من رواة القراءة،

وهذا عذب لولا ما يكدر صفوه من اتهام المسلمين بالإهمال في بيان تواتر كتابهم الذي

هو أصل دينهم، ويكدره أيضًا صنيع الطبري، وهو إمام في القراءة

والتفسير والحديث والفقه، من رده في تفسيره لكثير من القراءات التي يسمونها

سبعية: كقراءة حمزة: فأزالهما الشيطان عنها، من سورة البقرة، وقراءة ابن

عامر: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ شُرَكَائهُمْ) (الأنعام:

137) ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة في تفسيره، والرجل أجلّ من أن

يقول في قراءة متواترة: إنها مردودة لكذا، ولإجماع الحجة من القراء على خلافها.

2-

في ترجمة حمزة بن حبيب الزيات من كتاب ميزان الاعتدال للذهبي،

وتهذيب التهذيب للعسقلاني نقل كلام الحافظ في رد قراءة حمزة ككراهة يزيد بن

هارون وأحمد بن حنبل لها، وتمني عبد الرحمن بن مهدي سلطانًا يوجع به ظهر

من يقرأ بها، وحكم أبي بكر بن عياش بأنها بدعة، وبإعادة صلاة من يصلي خلف

القارئ بها إلخ مما لا يقوم في وجهه قول الثوري أن حمزة لم يقرأ حرفًا إلا بأثر،

فلا يدفع ذلك قدح النقاد فيها؛ لأن في الآثار الصحيح والمعلول، فيقال فيها: إنها

بدعة. ويوجع ظهر من قرأ بها وتبطل الصلاة خلفه إلخ؛ لأنها رويت بآثار معلولة

غير صحيحة، فكيف من هنا يكون حمزة شيخ القراء أو أحد السبعة وينعقد الإجماع

بآخره على تلقي قراءته بالقبول كما زعم الحافظ الذهبي اهـ.

الجواب: ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما نزل

عليه شيء من القرآن يقرؤه على أصحابه فيحفظه من يحفظه ممن حضر منهم،

ويأمر كتاب الوحي بكتابته وحفظه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ كل

ما أنزل عليه في الصلوات فيسمعه الصحابة رضي الله عنهم في الجهرية منها،

وكانوا هم يقرؤون في صلواتهم وغيرها ما حفظوه، وثبت أيضًا أن جبريل أمين

الوحي عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من

ليالي رمضان في كل سنة؛ أي: كان كل منهما يعرض على الآخر كل ما نزل من

القرآن، وأن جبريل أقرأه القرآن على حرف واحد، فاستزاده حتى أقرأه على سبعة

أحرف، وإن المعارضة في آخر رمضان من عمره صلى الله عليه وسلم كانت

مرتين؛ أي: بالسبعة الأحرف.

وثبت أيضًا أنه كان في الصحابة طائفة كبيرة يوصفون بالقراء؛ لعنايتهم بحفظ

القرآن وكثرة قراءته، وأنه قد جمعه كله في عصر النبي صلى الله عليه وسلم

أربعة من الخزرج بالتلقي قراءة وكتابة، وهو أقوى ما وجه به الحصر في الخبر

الوارد في ذلك، ومن المعلوم بالبداهة أن المهاجرين كانوا أشد عناية بحفظه، ولا

سيما السابقين الأولين.

وثبت أيضًا أنه لما استحر القتل (اشتد وحمي) بالقراء في قتال مسيلمة الكذاب

باليمامة خشي عمر أن يقتلوا في كل مكان فيقلوا، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن

كتابة، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمعه،

فجمعه مما كانوا يكتبونه فيه من الحجارة الرقاق، وعظم الكتف، وعسب النخل،

فجمعه في الصحف بالترتيب الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت

هذه الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر مدة حياتهما، ثم عند حفصة أم المؤمنين

إلى أن نسخت عنها المصاحف بأمر عثمان في عهد خلافته، وبعث بها إلى الآفاق؛

ليرجع إليه القراء والحفاظ حتى لا يختلفوا في القرآن فيضلوا كما ضل من قبلهم.

وقد أجمع المسلمون سلفًا وخلفًا على أن كل ما وافق رسم المصحف الإمام الذي

كتب في خلافة عثمان بإقرار علماء الصحابة واتفاقهم من القراءات المروية عن

النبي صلى الله عليه وسلم رواية صحيحة بعبارة عربية فصيحة - فهو قرآن،

وقد توفرت الداوعي على تواتر ذلك كله بما ذكر عن أهل الصدر الأول، ثم بما

كان يخص به الخلفاء وعمالهم حفاظ القرآن من العطايا، واختلاف الروايات عن

النبي صلى الله عليه وسلم سببه الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها، وقد

اختلف العلماء في معناها، والمختار أنها أوجه القراءات، وهي كما بينا في التفسير

قسمان: أحدهما لفظي، كقطع الهمزة ووصلها والإمالة ومقابلها، وتذكير بعض الكلم

وتأنيثها مما تختلف به لغات قبائل العرب ولهجاتها، وسببه تسهيل قراءة القرآن

عليهم، وثانيهما معنوي وهو ما أفاد معنى جديدًا بتغيير القراءة كـ (مَلِك يَوْمِ الدِّينِ)

(الفاتحة: 4)، و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ، فإن الملك في اللغة هو:

المتصرف بالتدبير والحكم، والمالك: المتصرف بالأعيان، ولا ملك ولا مالك يوم

الدين غير الله تعالى، ومما انفرد به تفسيرنا دون جميع ما اطلعنا عليه من التفاسير

توجيه القراءات وبيان فوائدها اللفظية والمعنوية.

وقد ذهب بعض العلماء أن القراءات السبعة المشهورة هي الأحرف السبعة

التي ثبت في الصحيح نزول القرآن بها. ورد ذلك المحققون، فالصحيح أنها منها لا

كلها، واختلفوا في المصاحف هل هي جامعة للأحرف السبعة أم كتبت بحرف واحد،

أم بعدة أحرف وهي الموافقة للرسم؟ وهذا الأخير أظهر هذه الأقوال، ولا يتضمن

إضاعة شيء من القرآن؛ لأن الأحرف السبعة لم تكن كلها حتمًا على كل مسلم، وإنما

كان الكثير منها رخصة حتى لا تشق قراءة القرآن على غير قريش من العرب، فإنه

نزل بلغة قريش ورخص لغيرهم قراءته لما يسلس على ألسنتهم، وهي رخصة

عارضة قد زال سببها منذ العصر الأول بغلبة لغة قريش، وتربية أولاد المسلمين من

جميع العرب والعجم على القراءة بها، وبقي المروي من غيرها أثرًا علميًّا، فما وافق

منه رسم المصحف مع صحة روايته وعربيته ثبت كونه قرآنًا دون غيره، وقد عني

العلماء بجمع كل ما ثبت من ذلك، ومنهم من يرجح ما صح عنده بالرواية من تلك

القراءات، ويرد غيره كابن جريرالطبري، وقد يكون صحيحًا عند غيره بشروطه

الثلاثة، ومثله من أنكر بعض قراءات حمزة في مثل إطالة المد والإمالة وتخفيف

الهمزة، كالأئمة الذين ذكروا في السؤال؛ لعدم ثبوت روايتها عندهم، فعدم ثبوت

بعض الأحرف السبعة عند بعض العلماء لا ينافي ثبوتها عند آخرين حتى بالتواتر،

وقد كان عصر هؤلاء العلماء عصر الرواية ومبدأ عصر التدوين والتصنيف الذي

صار يسهل فيه العلم بالمروي لغير الرواة بمراجعة الكتب التي ثبتت نسبتها إلى

مؤلفيها الثقات كدواوين السنة وغيرها.

وقد نقل الحافظ في شرح حديث الأسبعة الأحرف من الفتح أقوال المحققين فيها

وفي القراءات ومنه في سياق كلام لابن أبي شامة: والحق أن الذي جمع في

المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي - صلى الله عليه

وسلم - وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها. وذكر أمثلة من ذلك،

ثم ذكر عن ابن أبي هاشم أن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها أن الجهات

التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة،

وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل (قال) : فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا

تلقوه سماعًا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط امتثالاً لأمر

عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ

الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة (يعني لغة

قريش) . وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم، وصحت

رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. أي: لا كلها ولا

واحد منها فقط.

وجملة القول أن العلماء الذين صنفوا الكتب في القراءات والمصاحف

والحديث قد أحصوا كل ما روي عن الصحابة في القرآن والقراءات والتفسير

من متواتر ومشهور وشاذ، ولكن العمدة في ثبوت القرآنية ما تواتر ولو في

بعض الأمصار دون بعض، والقاعدة الكلية فيما جروا عليه في إقراء الناس في

الأمصار هي كما قال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية

ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة (أي: في الحديث) ،

فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط

من هذه الثلاثة فهو الشاذ، اهـ.

ثم إن المشهور عند علماء الأصول والفقهاء أن القراءات السبع المسندة إلى

القراء السبعة الذين اشتهروا في الأمصار بالإقراء: (أبي عمر، ونافع، وابن كثير،

وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي) متواترة، ولكن استثنى بعضهم منها ما ليس

من قبيل الأداء، كصفات المد والإمالة وتخفيف الهمزة التي خولف فيها الأصل،

كما ترى في جمع الجوامع. وصرح بعضهم بأن بعض رواياتهم في هذا غير

متواترة؛ لأنها مروية عن الآحاد، أو من طرق ضعيفة، وأن القاعدة العامة التي

ذكرنا عبارة الكواشي فيها آنفًا محكمة في هذه القراءات كغيرها، ونقل الحافظ هذا

المعنى عن شرح المنهاج للسبكي وعن أبي شامة، وقال في آخر هذه النقول: ونحن

وإن قلنا: إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت، وعنهم نقلت، فلا يلزم أن جميع ما

نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة، ولهذا ترى

كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه

اهـ.

فعلى هذا يكون مثل هؤلاء القرّاء السبعة كمثل أصحاب الكتب الستة في

السنن من حيث شهرتها وكثرة المتلقين لأحاديثها عنهم، وإن كانوا لم ينفردوا

بروايتها، ولا كانت تكون مجهولة لو لم يدونوها في كتبهم، ومن حيث إن ما

صححوه منها لم يقلدهم العلماء به تقليدًا، بل كان جميع ما دونه الشيخان في

صحيحهما معروفًا عند جماهير المحدثين من شيوخهما وغيرهم في عصرهما وبعد

عصرهما، ومرويًّا عن غيرهما، وقد ناقشهما بعضهم في توثيق بعض رجالهما،

وفي غير ذلك مما هو معروف، وطعن بعض المحدثين في بعض قراءات بعض

القرّاء كحمزة لا ينافي صحة قراءته مطلقًا، ولا صحة ما أنكروه منها، كطعن

بعضهم في صحة بعض أحاديث البخاري واتفاق سائرهم بعد هذا الطعن على

صحة ما طعن فيه كله أو أكثره، ذكر الحافظ الذهبي في الميزان الخلاف في جرح

حمزة وتعديله في قراءته، فعظم السائل أمر الجرح دون التعديل، ومنه قول أبي

حنيفة: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض، وقراءة الأعمش عند

رؤيته مقبلاً قوله تعالى:] وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ [وقول الإمام (الحج: 34)

سفيان الثوري: ما قرأ حمزة حرفًا إلا بأثر. وقد بين أبو بكر بن عياش مراد

من قال: إن قراءته بدعة؛ بقوله: لما فيها من المد المفرط والسكت والإمالة

واعتبار الهمزة في الوقف. وقال الحافظ الذهبي مع ذلك: وإليه المنتهى في الصدق

والورع والتقوى. وقال: وقد انعقد بالإجماع بآخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول.

ثم قال: وحسب حمزة شهادة مثل الإمام سفيان الثوري له. ونقل الحافظ ابن حجر

هذه الأقوال في تهذيب التهذيب وأقرها، والعبرة في الجرح والتعديل من حيث

الترجيح على ما يستقر عليه حكم أئمة الناقلين المحققين بعد العلم به، فما بالك بحكم

الإجماع، وصفوة الجواب أن عدالة حمزة لا غبار عليها، وأن قراءته غير مطعون

فيها على الإطلاق، بل طعن في مثل إطالة المد من لم يثبت عند غيره، فلم يكن

حمزة منفردًا بشيء منه، على أنه من النوع الذي اختلف في تواتر بعضه، ولا ضرر

فيه؛ لأنه لا يترتب عليه إثبات معنى ولا نفيه.

_________

ص: 337

الكاتب: محمد رشيد رضا

(ب)

‌ ذكاة الحيوان والصيد

(س12-13) منه 1- ورد في الصحيح التذكية بالحجر، فهل كان ذلك

حَزًّا أو صدمًا، وهل في معنى الحجر في ذلك المحدد الكليل كمعول الزراع

(الفأس) ومعول النحت إذا أنهر الدم بالصدم الشديد، والطرق عند فقد المدية

الحديدة، فيحل بذلك الحيوان، ويغتفر للضرورة عدم إحسان القتلة لعدم السكين؟

2-

جاء فيه أيضًا النهي عن حذف البندق لعلة أنه لا يصيد صيدًا ولا ينكي

عدوًّا، وجاء فيه التفصيل في صيد المعراض، فأحل ما أصاب بحده، وحرم ما قتل

بعرضه، فماذا ترون فيما حدث الآن من الصيد بمقذوف البارود، فهل يلحق

بمحذوف البندق مع أنه يصيد وينكي أو يفصل فيه نظير تفصيل المعراض، فيقال:

إن صِيدَ صغير الحيوان كالأرانب والطير بما يسمونه رشًّا، وهو ما كان في حجم

حبة القمح مثلاً - حل، إلحاقًا بحد المعراض وما كان بأكبر؛ لم يحل، إلحاقًا

بعرضه، وكذلك في كبار الحيوان فما صيد بمثل البندقة حل، وما صيد بمقذوفات

المدافع لم يحل.

أرشدني أرشدك الله إلى ما فيه رضاه.

الجواب: من فقه جملة ما ورد في الكتاب والسنة في تذكية الحيوان وصيده،

وأن أصل معنى التذكية في اللغة: إماتة الحيوان بقصد أكله، وحقيقته: إزالة

حرارته الغريزية؛ كما قال الراغب في مفردات القرآن - علم أن الشرع لم يجعل

للتذكية صفة معينة هي شرط لحل أكل الحيوان، ولكنه حرم التعذيب وأمر

بالإحسان في كل شيء حتى القتلة والذبحة، وقد فصلنا ذلك فيما كتبناه في تأييد

فتوى للأستاذ الإمام في المجلد السادس، ثم لخصناه في تفسير آية محرمات الطعام

من سورة المائدة، فليراجعه السائل يجد فيه غَنَاء - إن شاء الله تعالى - وأما ما

اشتبه فيه من الفرق بين الصيد بالبندق والرش والرصاص يعرف حكمه من حديث

صيد المعراض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم إذ سأله

عنه: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكُل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل) والرش

والرصاص كما في حديث الصحيحين يخزق دون بندق الطين، وأما المدافع الكبيرة

فلا يصطاد بها، ولكن قد تصطاد آجال الغزلان وبقر الوحش بالمدفع الرشاش

(المتراليوز) ، والمعراض عصا محذذة الرأس أو الطرفين، وقد يكون في طرفها

حديدة كانوا يرمون به الصيد فيقتله، وفي لفظ لحديث عدي عند البخاري: (ما

أصاب بحده فكله، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ) قال: وسألته عن صيد الكلب

فقال: (ما أمسك عليك فكل، فإن أخذ الكلب ذكاة) ، ونقل الحافظ في شرحه عن

الإمام الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام حل ما قتل بعرضه أيضًا، وقال البخاري:

وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن اهـ. فحديث أخذ

الكلب ذكاة، وقول ابن عباس: ما أعجزك من هذه البهائم بما في يديك، فهو

كالصيد وفي بعير تردّى في بئر فذكِّه من حيث قدرت عليه (وهو في البخاري)

دلائل على ما فسرنا به الذكاة.

هذا وإن كثيرًا من علماء الشرق والغرب قد أفتوا وألفوا الرسائل في حل صيد

بندق الرصاص بعد حدوثه، فمن علماء الحنفية الشيخ محمد بيرم من علماء تونس

الأعلام، ومن علماء الحديث الإمام الشوكاني الشهير من مجتهدي اليمن، والسيد

صديق حسن خان صاحب النهضة العلمية الدينية الاستقلالية الحديثة في الهند، فإنه

قال في باب الصيد من كتابه (الروضة الندية، شرح الدرة البهية) للشوكاني ما

نصه:

وقد نزل صلى الله عليه وآله وسلم المعراض إذا أصاب فخزق منزلة

الجارح، واعتبر مجرد الخزق كما في حديث عدي بن حاتم المذكور - وكان ذكر

رواية الصحيحين له - وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال: (قلت: يا رسول الله،

إنا قوم نرمي، فما يحل لنا؟ قال: يحل لكم ما ذكيتم، وما ذكرتم اسم الله عليه

فخزقتم فكلوا) ، فدل على أن المعتبر مجرد الخزق، وإن كان القتل بمثقل فيحل ما

صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص؛ لأن

الرصاص تخزق خزقًا زائدًا على خزق السلاح، فلها حكمة، وإن لم يدرك الصائد

بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك، وعبارة الماتن (الشوكاني) في حاشية

الشفاء: أقول: ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي

يرمى بها بالبارود والرصاص، فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق

السهم والرمح والسيف، ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة. وذكر مثالاً لذلك، وما

روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة، كما في رواية من حديث عدي بن حاتم

عند أحمد: (ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت) فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ

من طين فيرمى بها بعد أن تيبس، ثم ذكر بعده الخذف بالحصى وكونه مثل بندقة

الطين.

_________

ص: 342

الكاتب: عن جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

‌حقيقة الصيام وحكمة فوائده [*]

] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*]

الدين هداية روحية مدنية، ورابطة اجتماعية أدبية، والصيام ركن من

أركانه الدينية، وشعيرة من شعائره الملية، ورياضة من رياضاته النفسية

والبدنية، تتربّى به الإرادة، ليكون لها السلطان على الهوى والعادة، وبهذا

يكون سببًا لتحصيل ملكة التقوى، وهي اتقاء ما حرم الله في السر والنجوى، وفي

العلانية بطريق الأولى.

ذلك بأن الصيام حرمان للنفس من التمتع بشهوتي الطعام والشراب والشهوة

الموجِبة للغسل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية العبادة التي شرعها الله

تعالى لهداية عباده وتربيتهم بما يساعد هداية الفطرة السليمة والعقل على كبح جماح

الشهوات المفسدة لهما، فمن راض نفسه على ترك الشهوات الضرورية المباحة،

كالطعام الحلال عند الجوع، والماء الزلال على الظمأ، والملامسة الزوجية مع قوة

الداعية يكون أقدر على اجتناب الشهوات المحرمة الضارة، كأكل أموال الناس

بالباطل، والتعدي على أعراضهم وغير ذلك، ولا سيما إذا كان ذلك الترك

للضروريات تقصد به طاعة الله تعالى وتكتسب به ملكة مراقبته، فيكون الوازع

نفسيًّا في الفعل والترك، وكفى بذلك عزة للنفس وطاعة للرب، فهذه غاية الصيام

من حيث هو هداية روحية وعبادة دينية.

وأعظم فوائده من حيث هو رياضة بدنية إزالة مرض تمدد المعدة أو تخفيفه،

وهو مرض قلما يسلم منه أحد من المترفين وغيرهم من معتادي الامتلاء من الطعام

والشراب، وإفناء الفضلات والمواد الراسبة التي هي سبب أمراض كثيرة، ولا

سيما تصلب الشرايين الذي يوهن القوى ويعجل الهرم.

وأعظم فوائده الاجتماعية أنه يساوي بين الملوك والسوقة وبين الأغنياء

والفقراء، ويذكر الواجد الموسر بحاجة العادم المعسر، ويلزم أفراد الأمة النظام

الدقيق في مواعيد أكلهم؛ إذ يتناوله الملايين منهم في وقت واحد.

هذا تعريف الصيام وغايته الشريفة وفوائده العظيمة مجملة موجزة، وليس هو

عبارة عن تغيير مواقيت الأكل بجعلها بالليل بدلاً من النهار كما يزعم الجاهلون

بحقيقته، الغافلون عن سره وروحه، وقد قال أحد حكماء الغرب في كتاب ألَّفه في

تربية الإرادة: إن أقوى ذرائع تربية الإرادة الصيام، ولذلك شرع في جميع الأديان.

وهذا موافق لما ذكرنا من نص القرآن.

وقوة الإرادة أعلى ما يتفاضل فيه الناس من صفات النفس وجميع الرجال

العظام كانوا من أولي الإرادات القوية والعزائم الثابتة، فمن كان قوي الإرادة في

أصل الفطرة زادته تربيتها بالصيام وغيره كمالاً فيها، وحملته على توجيهها إلى إقامة

الحق والثبات على الفضائل، ومن خلق ضعيف الإرادة، بضعف المزاج وسوء

الوراثة، أصلحت هذه التربية من فساده حتى يفوق ويفضل من أفسد سوء تربيته، ما

كان صالحًا من سلامة فطرته.

ينال الصائم من فوائد الصيام بقدر ما يقصد مما يعقل منها، وفاقًا للقاعدة

الشرعية المعقولة: (الأمور بمقاصدها) فلا يقال: إننا نرى كثيرًا من الصائمين

ليس لهم حظ يذكر من تلك الفوائد، وفي الحديث الصحيح: (رب صائم ليس له

من صيامه إلا الجوع) [2] ومثل هذا كمثل الدواء الذي اتفق الأطباء على فائدته في

معالجة بعض الأمراض أو الوقاية منها بشروط يشترطونها إذا تناوله ما لم تتحقق

فيه تلك الشروط لجهله بها، أو حرم فائدتها بسبب آخر، أو استفاد منه ثم أفسد تلك

الفائدة، كمن فسدت أمعاؤه فعالجها بدواء مطهر أزال الفساد ثم أتبعه بطعام غليظ

قبل تمام الشفاء، وهكذا شأن من يصوم عن الحلال من طعام وشراب مجاراة للناس

لا احتسابًا لوجه الله وطلب مرضاته بتهذيب نفسه، ثم يأكل أموال الناس بالباطل أو

ينال من أعراضهم، أو يصيب غير ذلك من المحرمات، وفي الحديث الصحيح في

الكتب الستة: (الصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب،

فإذا شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم) (والجنة بضم الجيم: الوقاية) .

ولهذا المعنى كانت النية شرطًا في صحة الصيام وسائر العبادات، وقال -

صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه

البخاري في فاتحة صحيحه، وليست النية المفروضة في العمل إلا ملاحظة

الغرض المراد منه والباعث عليه، لا قصد نفس العمل بتصوره عند الشروع فيه

كما قال الكثيرون، فإن هذا أمر ضروري في كل عمل اختياريّ؛ إذ لا يمكن

الشروع فيه مع غفلة النفس عنه وعدم توجهها إليه، ولكن نص على طلبه في

الصيام بوجه خاص؛ لأنه أمر سلبي وهو ترك الشهوات المعلومة، والترك هو

الأصل، فلا يتوقف على قصد إلا إذا عارضت داعية الفعل داعية استمرار الترك،

وهذا إنما يكون بعمل نفسي وهو ترجيح الترك وقصد الاستمرار عليه، ولهذا

احتيج في جعل الترك المخصوص - وهو الصيام - في الزمن المعين - وهو

النهار - إلى توجه خاص قبل الشروع؛ ليكون عبادة مستغرقة لهذا الزمن، وهو

معنى حديث حفصة في السنن الأربع: (من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام

له) أي: من لم يعزم عليه في الليل لا يصح منه، فنية نفس الصيام هي العزم على

كف النفس عن المفطرات مدة النهار، وهي غير النية فيه التي تصاحب هذا العزم،

فهذه أخت الاحتساب، وهو الإخلاص لله وابتغاء مرضاته وثوابه بالإتيان بالعبادة

على الوجَهِ الذي شرعها الله تعالى لأجله، وهو في الصيام ما تقدم بيانه في فاتحة

هذا الكلام، وفي الحديث المتفق عليه في الكتب الستة: (من صام رمضان إيمانًا

واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وفي رواية:(إيمانًا واحتسابًا ونية) ، وقد

يصوم الإنسان رياءً أو تطببًا أو تعودًا لا تعبدًا، والتعبد بالصيام لا ينافي قصد

منافعه البدنية والاجتماعية، من حيث إن الله هدانا إليها؛ لأنه شرع لنا العبادة

لمنفعتنا لا لإعانتنا وإتعابنا.

فينبغي لكل مؤمن أن يلاحظ بصيامه باعث الإيمان بالله والإذعان لدينه الذي

شرعه لخير العباد؛ لأنه غني عنهم وعن صيامهم وسائر أعمالهم، وأن يلاحظ

طلب مرضاته وثوابه بطاعته، وشكره على جعل تربيته له وهدايته لمنافعه في

الدنيا سببًا لنيل نعيمه وكرامته في الآخرة، وأن يتذكر عند التألم من الجوع

والعطش أن الله تعالى يريد أن يهذبه ويقوي عزيمته باحتمال الآلام التي تطلق

اختيارًا، حتى يسهل عليه حمل مثلها، وما هو أشد منها إذا اضطر إليه اضطرارًا

، وحتى يكون إنسانًا كاملاً لا تعبث به الشهوات الجسدية ولا الأهواء النفسية، وإن

عبد الشهوة التي لا يستطيع مخالفتها يجني على بدنه فينهك صحته، ويجني على

ماله فيتلفه، ويجني على عرضه فيثلم شرفه، ويجني على وطنه فيضيع حقوقه،

ويجني على دينه فيخسر دنياه وآخرته.

وينبغي للصائم إذا كان ملكًا أو أميرًا أو غنيًّا كبيرًا أن يلاحظ في صومه فوق

ما ذكر أن الله تعالى يحب أن يهذب بهذا الصيام نفسه بإشعاره المساواة بينه وبين

الضعفاء والفقراء من العمال والصناع، لكي يتقي الكبرياء والبخل والقسوة، ويزداد

علمًا بقيمة ما أوتيه من الجاه والحرمة، وما امتاز به من النعمة، فيشكر الله تعالى

على ذلك باحترام من دونه، والإفاضة على الفقراء والمساكين من فضل ماله،

فيحبه الله ويحببه إلى خلقه، ويرضي كل ذي حق بحقه، وإن لم يفعل هو وأمثاله

هذا يحنق الفقراء عليهم، وربما يمدون أيدي الأذى إليهم، بل ذلك واقع ومنذر

بأعظم انقلاب اجتماعي في الأرض، ولا يدرؤه إلا الاهتداء بالإسلام، ولا سيما

إقامة ركني الزكاة والصيام، كما ينبغي للصائم الفقير والخامل الذي لا يؤبه له أن

يعلم أن الله قد ساوى في هذه العبادة وغيرها بينه وبين الملوك والأمراء وكبار

الأغنياء تكريمًا له بدينه، كما أوجب عليهم أن يشاركوه بفضل أموالهم، فيكرم

نفسه ولا يرضى لها بالذلة والمهانة.

ما أجمل الصائمين عندما يتحلقون حول موائد الطعام المرفوعة عند أناس،

وصِحَافه الموضوعة على الأرض عند آخرين، وهم ينتظرون في كل قطر وكل بلد

تلك الدقيقة أو الثانية التي يسمعون فيها صوت المدفع أو كلمة المؤذن، والأحشاء

خاوية، والشفاه ذابلة، واللهاة جافة، ولا أحد يمد يده إلى ما أمامه من كأس دهاق،

وأنواع ذواق [3] ، حتى إذا ما طرق المسامع ذلك الصوت المنتظر، امتدت الأيدي

إلى ما أعد لها مثل اللمح بالبصر، وانطلقت في أثرها الألسنة بالثناء والدعاء:

اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن

شاء الله تعالى [4] .

وفي الحديث المتفق عليه: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند

لقاء ربه) ، وليست الفرحة عند الفطر بإعطاء النفس الحيوانية حقها وشهوتها

المحللة لها فقط، وإن كان هذا حاصلاً ولا غضاضة فيه، بل الأصل في هذه

الفرحة ما يشعر به كل من أدَّى عملاً شريفًا عند إكماله له، ولا سيما إذا كان شاقًّا

وانتقل منه إلى ما يلذ وترتاح له النفس، وقد جعل الله تعالى لصيام كل يوم لذة،

وجعل عاقبة صيام الشهر كله عيدًا، كما جعل يوم إتمام أركان الحج عيدًا؛ لأن في

كل من الصيام والحج مشقة بدنية مقرونة بلذة روحية.

يا حسرةً على الخاسر المحروم من هذه النعمة الروحية والرياضة البدنية

والرابطة الإسلامية، تعس عبد الشهوة، تعس ضعيف الإرادة، الذي يفطر في

شهر رمضان، ويقطع هذه الصلة بينه وبين ربه، ويفصم عروة هذه الجامعة التي

تربطه بأخوة الملايين من أهل دينه، فإذا كان يفطر؛ لأنه يشق عليه ترك طعامه

وشرابه ودخانه مثلاً، فما أشبهه بالعجماوات من الأنعام والحشرات، وليتأمل ما

أجمع عليه علماء التربية في هذا العصر في نظام الكشافة من الولدان، وكيف

يروضون أبدانهم باحتمال التعب وركوب أنواع المشاق، وإذا كان ترك الصيام

إرضاء للملاحدة والمرتدين، ويرضى أن يكون من مقلدتهم العميان المنكوسين،

الذين قال فيهم الشاعر:

عُميُ القلوب عموا عن كل فائدة

لأنهم كفروا بالله تقليدًّا

فهو شر مكانًا وأضل سبيلاً، وإن غش نفسه أو غشه شياطينه بانتحال

الألقاب الخادعة الخاطئة الكاذبة كالحرية والمدنية واستقلال الفكر وتحكيم العقل،

ولو حاسب نفسه بفكر مستقل وعقل سليم من الغرور، وتلبيس الأهواء والشهوات،

لعلم أنه مغرور يغش نفسه ويخدعها بهذه الأسماء التي يستر بها نقصها وعبادتها

لشهواتها.

الإفطار في رمضان بغير عذر معصية من الكبائر، واستحلاله واستقباحه

والإنكار على شرعه للناس كفر بواح، والمجاهرة به معصية أخرى من أكبر

الكبائر؛ لأن ضرر الإفطار وحده قاصر لا يتعدى المفطر، وضرر المجاهر متعد،

فإن المجاهرة استهانة بالشرع، وهدم للشعيرة الدينية التي يشترك المسلمون فيها

ويمتازون من غيرهم، حتى كأن المفطر ليس منهم، وقدوة سيئة لضعفاء الإيمان

أقوياء الشهوات البهيمية تجرؤهم على الفطر وعدم المبالاة بالدين ولا باحترام

المسلمين، فالمجاهر بهذه الجريمة من الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل

ويسعون في الأرض فسادًا بإزالة المقوّمات المعنوية والمشخصات الاجتماعية التي

تمتاز بها أمتهم وتستقل دون غيرها، وبالفسوق من الآداب والفضائل الشخصية

التي ترتقي بها نفوس أفرادها، وتحفظ حقوق جماعاتها.

أي أمة تعيش عزيزة كريمة بغير آداب ولا فضائل؟ وكيف يمكن أن تبنى

الفضائل على غير قواعد الدين؟ وإذا كان الدين أقوى روابط الاجتماع بين أكثر

البشر، ولا سيما الشعوب الإسلامية منها، وكانت الأمم العزيزة القوية تنفق

الملايين من الجنيهات على دعاة دينها لأجل استمالة أهل الأديان الأخرى إليه، وإذا

كان بعض كبار ساستها قد صرح بأن أول خطوات الاستعمار مدارس المبشرين

التي تبطل ثقة نابتة الأمة الجديدة بدينها فتحدث الشقاق المعنوي بينها، فتضعف

وحدتها بانقسامها وتفرقها، وإذا كان كل خبير واقف على سير الاجتماع فينا يعلم

علم اليقين أن كل هذه المفاسد الدينية والأدبية لم تتسرب إلى أفكار المتفرنجين منا

إلا من الطامعين في تقطيع روابطنا الملية، وإضعاف مقوماتنا الاجتماعية، إذا كان

ما ذكر كما ذكر لا مرية فيه - فهل يبقى عند العالم به ريب بأن المجاهرين بهدم ركن

من أقوى أركان دينهم، والمحتقرين لشعيرة من أعظم شعائره هم من أكبر الجناة

على أمتهم والمفسدين المحققين لطمع الطامعين فيها؟ فكيف إذا كانوا مع ذلك

هادمين لسائر الأركان، ويتركون الصلاة والزكاة كما يتركون الصيام؟

تنبهوا أيها الغافلون وأفيقوا أيها النائمون، ولا تغشوا أنفسكم بأنكم تستغنون

عن الرابطة الملية، بالرابطة الوطنية، وتستبدلون الآداب الفلسفية بالآداب الدينية

على أن الدين لا يمنعكم من الاتحاد الوطني على المصالح والمنافع الوطنية، ولا

من اقتباس الحكمة والعلوم العقلية، ولا شيء من هذه المصالح والعلوم يمانع من

عبادة الله تعالى وإقامة شعائر دينه، وترك ما حرمه من الفواحش والمنكرات،

كالسكر والزنا والقمار، وهي الموبقات التي قلما يسلم من شرورها أحد من هؤلاء

المتفرنجين المدعين للفلسفة الوطنية، وهي الوباء القاتل للوطن، والمذهب للدين

والشرف.

أيها الغافل عن نفسه وعن أهله وقومه، حاسب نفسك حساب القاضي الذكي

العادل للمتهم المحتال المخادع، تظهر لك جناياتها عليك وعلى أهلك وقومك بترك

أركان الدين وفرائضه، ثم اجتهد في جعلها صالحة مصلحة، وقدوة حسنة في الدار

وفي مكان العمل وكل مكان، فإن غلبتك شهواتك فاجتهد في كتمانها قبل أن تظفر

بها؛ بأن لا تظهر الفطر في رمضان لأحد، ولا تخدعنك وسوسة شياطين الإنس أو

الجن بتسمية شدة الوقاحة قوة إرادة، فإن كنت مرتدًّا عن هذا الدين فقوة الإرادة

الحقيقية أن تصرح بهذه الردة وتلتزم ما بترتب عليها من أحكام الزواج والإرث

وغير ذلك.

إن الأمم الحية تعظم كل ما ينسب إليها، حتى إنها تبذل الأرواح في الحرب

تكريمًا لعلمها الممثل لها، وما هو إلا قطعة من نسيج لا قيمة لها تُذكر، فما بالك

أيها الغافل تحتقر أشرف ما تنتمي إليه وهو الدين بهتك حرمة رمضان في المطاعم،

أو التدخين في الشوارع؟ ولا شك أنه سبب ذلك الغفلة والذهول، فمتى تنبهت،

تبت وأنبت، والسلام على من اتبع الهدى، ورجَّح الحق على الهوى.

_________

(1)

طبع هذا المقال جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رسالة خاصة لتوزيعه على المسلمين في شهر رمضان.

(*)(البقرة: 183) .

(2)

رواه ابن ماجه في سننه بسند صحيح.

(3)

الدهاق (ككتاب) الملأى والذواق (كسحاب) ما يذاق من طعام وشراب، وهما مصدران في الأصل، والمراد بأنواع الذواق ما يضعه الموسرون على الموائد في رمضان لأجل الأفطار به من التمر والزبيب والمربى والجبن والزيتون، ويعتبر فيه القلة.

(4)

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا إذا أفطر، رواه أبو داود في سننه.

ص: 344

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

‌تاريخ فنون الحديث

(5)

كتب الجرح والتعديل

الكتب المؤلفة في الجرح والتعديل ذات مسالك مختلفة فمنها خاص بالثقات أو

الضعفاء أو المدلسين، ومنها جامع لكل أولئك، ثم منها ما لا يتقيد برجال كتاب

معين أو كتب مخصوصة، ومنها ما يتقيد بذلك، ونحن ذاكرون من كل نوع كتبه

المشهورة بتوفيق الله وإرشاده.

1-

الكتب الجامعة بين الثقات والضعفاء: من الكتب المشتملة على الثقات

والضعفاء جميعًا طبقات محمد بن سعد الزهري البصري [1] ، وهو من أعظم ما

صنف، يقع في خمسة عشر مجلدًا، جمع فيه الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وقد

اختصره السيوطي في كتابه إنجاز الوعد المنتقى من طبقات ابن سعد، وكذلك

طبقات خليفة بن خياط [2] ، ومسلم بن الحجاج [3] ، وتاريخ ابن أبي خيثمة [4] ،

وهو كثير الفوائد، وتواريخ البخاري [5]، وهي ثلاثة: كبير، وهو على حروف

المعجم، وابتدأه بمن اسمه محمد، وأوسط، وهو على السنين، وصغير.

ولمسلمة بن قاسم ذيل على الكبير، وهو في مجلد، ولابن أبي حاتم [6] جزء كبير

انتقد فيه على البخاري، وله الجرح والتعديل مشى فيه خلف البخاري، وللحسين

بن إدريس الأنصاري الهروي [7]- ويعرف بابن خرم - تاريخ على نحو التاريخ

الكبير للبخاري، ولعلي بن المديني [8] تاريخ في عشرة أجزاء حديثية، ولابن

حبان [9] كتاب في أوهام أصحاب التواريخ في عشرة أجزاء أيضًا.

ولأبي محمد بن عبد الله بن علي بن الجارود كتاب في الجرح والتعديل،

ولمسلم رواة الاعتبار، وللنسائي التمييز، ولأبي يعلى الخليلي [10] الإرشاد،

وللعماد بن كثير التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، جمع فيه بين

تهذيب المزي وميزان الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات، وهو أنفع شيء

للمحدث والفقيه التالي لأثره، ومنها تاريخ الذهبي، والتكملة في أسماء الثقات

والضعفاء لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي [11] وطبقات المحدثين

لعمر بن علي بن الملقن [12] ذكر فيها المحدثين إلى زمنه، والكمال في معرفة الرجال

له.

2-

كتب الثقات: منها كتاب الثقات للعجلي [13] ، وكتاب الثقات لخليل بن

شاهين، والثقات لأبي حاتم بن حبان البستي، وكتاب الثقات الذين لم تذكر

أسماؤهم في الكتب الستة لزين الدين قاسم بن قطلوبغا [14] ، وهو كبير في أربع

مجلدات.

ومن هذا النوع الكتب المبينة لطبقات الحفاظ، وقد ألف فيها جمع، فمنهم

الذهبي، وابن الدباغ [15] وابن المفضل وابن حجر العسقلاني، والسيوطي ذيل على

تأليف الذهبي، وتقي الدين بن فهد، وذيل مؤلفه محمد بن محمد الهاشمي [16] .

3-

كتب الضعفاء: منها كتاب الضعفاء للبخاري، والضعفاء والمتروكين

للنسائي، ولأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي [17] وكتابه كبير، وقد اختصره

الذهبي ثم ذيله كما ذيله علاء الدين مغلطاي [18] ، والضعفاء لمحمد بن عمرو

العقيلي [19] ، وكتابه مفيد، وللإمام حسن بن محمد الصنعاني ولمحمد بن حبان

البستي وكتابه كبير، ولأبي أحمد بن عدي كتاب الكامل وهو أكمل الكتب في ذلك

وأجلها، وعليه اعتماد الأئمة وله ذيل يقال له: الحافل لأبي العباس أحمد بن

محمد الإشبيلي المعروف بابن الرومية [20] ، والضعفاء للدارقطني وللحاكم، ولعلاء

الدين المارديني [21] ، وميزان الاعتدال للحافظ الذهبي، وهو أجمع ما جمع، طبع في

الهند ثم بمصر، وقد ذيل عليه الحافظ زين الدين العراقي في مجلدين، وقد التقط منه

الحافظ ابن حجر من ليس في تهذيب الكمال وضم إليه ما فاته في الرواة وتراجم

مستقلة في كتابه المسمى لسان الميزان وله كتابان آخران، وهما تقويم اللسان وتحرير

الميزان، ويوجد عدا ذلك كتب كثيرة.

4-

كتب المدلسين: أول من أفرد المدلسين [22] بالتصنيف الإمام حسين بن

علي الكرابيسي [23] صاحب الشافعي، ثم صنف فيه النسائي ثم الدارقطني، ونظم

الذهبي في ذلك أرجوزة، وتبعه تلميذه أحمد بن إبراهيم المقدسي، فزاد عليه من جامع

التحصيل للعلائي شيئًا كثيرًا مما فاته، ثم ذيل الحافظ زين الدين العراقي [24] في

هوامش كتاب العلائي أسماء وقعت له زائدة، ثم ضمها ولده ولي الدين إلى من

ذكره العلائي وجعله تصنيفًا مستقلاً، وزاد فيه من تتبعه شيئًا يسيرًا، وصنف

إبراهيم بن محمد الحلبي [25] كتابه التبيين في أسماء المدلسين زاد فيه عليهم قليلاً،

وجميع ما في كتاب العلائي ثمان وستون نفسًا، زاد عليهم ابن العراقي ثلاث عشرة

نفسًا، وزاد عليه الحلبي اثنتين وثلاثين نفسًا، وابن حجر العسقلاني تسعًا وثلاثين

نفسًا، فجملة ما فيه اثنتان وخمسون نفسًا ومائة وللسيوطي رسالة في أسماء

المدلسين.

5-

المصنفات في رجال كتب مخصوصة: منها رجال البخاري لأحمد بن

محمد الكلاباذي [26] ، ورجاله أيضًا لمحمد بن داود الكردي [27] ، ورجال مسلم

لأحمد بن علي المعروف بابن منجويه [28] ، ورجاله أيضًا لأحمد بن علي

الأصبهاني [29] ، وممن جمع بين رجالهما محمد بن طاهر المقدسي [30] جمع بين

كتابي ابن منجويه والكلاباذي، وأحسن في ترتيبه على الحروف، واستدرك عليهما،

وكذلك جمع بينهما هبة الله المعروف باللالكائي [31] وممن أفرد رجال السنن لأبي

داود حسين بن محمد الحباني [32] ، وجمع رجال الموطأ السيوطي، ورجال المشكاة

لصاحبها محمد بن عبد الله الخطيب، ورجال الأربعة: موطأ مالك، ومسند الشافعي،

ومسند أحمد، ومسند أبي حنيفة، لابن حجر العسقلاني، ورجال السنن الأربع، سنن

الترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، لأحمد بن أحمد الكردي [33] ، وممن جمع

رجال الكتب الستة أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي [34] في

كتابه الكمال في معرفة الرجال، وتهذيبه لجمال الدين يوسف بن الزكي المزي [35]

وهو كتاب كبير يقع في ثلاثة عشر مجلدًا لم يؤلف مثله، وإكمال التهذيب لعمر بن

علي بن الملقن [36] وزوائد الرجال على تهذيب الكمال للسيوطي، وللتهذيب مختصرات

كثيرة، منها الكاشف للحافظ الذهبي قال فيه: هذا مختصر في رجال الكتب الستة:

الصحيحين، والسنن الأربع مقتضب من تهذيب الكمال للمزي اقتصر فيه على ذكر

من له رواية في الكتب الستة دون من عداهم مما في كتاب المزي، ومنها تهذيب

التهذيب لابن حجر، وهو أكمل من كاشف الذهبي، وقد أضاف إليه ابن حجر بعض

التراجم التي عثر عليها، كما اختصره في كتابه تقريب التهذيب، وقد جمع الحافظ أبو

المحاسن الدمشقي [37] في كتابه التذكرة رجال العشرة.

***

(ج) وفيات المحدثين

كثير من الكتب الجامعة لرجال الحديث يتعرض في الأكثر لذكر الوفيات،

وقد أفرد الوفيات بالتأليف جمع من العلماء، فقد ابتدأ أبو سليمان محمد بن عبد الله

الحافظ بجمع وفيات النقلة من وقت الهجرة، فوصل إلى سنة 338، ثم ذيل على

كتابه أبو محمد بن عبد العزيز الكتاني الحافظ [38] ، ثم ذيل على الكتاني هبة الله بن

أحمد الأكفاني ذيلاً صغيرًا، ويشتمل على نحو عشرين سنة، وصل فيه إلى سنة

485، ثم ذيل على الأكفاني علي بن مفضل المقدسي [39] إلى سنة 581، ثم ذيل

على ابن المفضل عبد العظيم بن عبد القوي المنذري [40] ذيلاً كبيرًا في ثلاث مجلدات

سمّاه التكملة لوفيات النقلة، ثم ذيل على المنذري تلميذه عز الدين أحمد بن محمد إلى

سنة 674، وذيل على عز الدين أحمد بن أيبك الدمياطي إلى سنة 749، وذيل على

ابن أيبك الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي [41] ، والكل مرتب على حسب وفياتهم

في السنين والشهور لا على ترتيب حروف الهجاء.

ومن الكتب المفردة بوفيات النقلة تاريخ البرذالي القاسم بن محمد الدمشقي [42] ،

وقد ذيل عليه تقي الدين بن رافع من سنة 737 إلى سنة 774، وذيل ذيل تقي

الدين بن حجر، ومنها: وفيات الشيوخ لمبارك بن أحمد الأنصاري، ولإبراهيم بن

إسماعيل المعروف بالحبال [43] كتاب الوفيات.

***

(د) معرفة الأسماء والكنى والألقاب

من رواة الحديث من يكون مشهورًا باسمه دون كنيته، أو لقبه، أو مشهورًا

بكنيته أو لقبه دون اسمه، وقد ألف العلماء في بيان أسماء ذوي الكنى، وبيان كنى

المشهورين بالأسماء، وكذلك ألفوا في بيان ألقاب ذوي الأسماء، كما ألفوا في نحو

ذلك حتى لا يشتبه راوٍ بآخر، ولا يظن لقب شخص أو كنيته اسمًا لثان، فيعد الثقة

ضعيفًا، أو الصادق كاذبًا أو يعكس الأمر.

فممن ألّف في النوع الأول علي بن المديني والنسائي والحاكم وابن عبد البر

وكثيرون غيرهم، وللحافظ الذهبي كتاب المقتنى في سرد الكنى، وهو من أجلّ

الكتب المؤلفة في هذا النوع.

وممن كتب في بيان كنى المعروفين بالأسماء أبو حاتم بن حبان البستي،

وممن صنف في الألقاب أبو بكر الشيرازي [44] وأبو الفضل الفلكي في كتابه

منتهى الكمال، وابن الجوزي [45] ، وابن حجر العسقلاني.

***

المؤتلف والمختلف والمتفق والمفترق والمشتبه

من الأسماء والأنساب

من الأسماء والأنساب ما يأتلف في الخط صورته، ويختلف في اللفظ صيغته،

كسَلام بتخفيف اللام وسلام بتشديدها، ويسمى المؤتلف والمختلف، ومنها ما يتفق

خطه ولفظه، ولكن يفترق شخصه كالخليل بن أحمد اسم لعدة أشخاص، ويسمى

المتفق والمفترق، ومنها ما تتفق فيه الأسماء خطًّا ونطقًا وتختلف الآباء أو النسب

نطقًا مع ائتلافها خطًّا، أو بالعكس كمحمد بن عقيل بكسر القاف، ومحمد بن عقيل

بفتحها، وشريح بن النعمان، وسريج بن النعمان، الأول بالشين المعجمة والحاء

المهملة، والثاني بالسين المهملة والجيم، ويسمى هذا النوع بالمشتبه.

ومعرفة هذه الأنواع مهمة، قال علي بن المديني: أشد التصحيف ما يقع في

الأسماء، ووجهه بعضهم بأنه شيء لا يدخله القياس ولا قبله شيء يدل عليه ولا

بعده؛ ولأنه يخشى أن يظن الشخصان شخصًا واحدًا إذا اتفقت الأسماء، وفي ذلك

ما فيه من الخلط بين الرواة.

ولقد ألّف المحدثون في كل هذه الأنواع، فصنف في النوع الأول أبو أحمد

العسكري، لكنه أضافه إلى كتاب التصحيف له، ثم أفرده بالتأليف عبد الغني بن

سعيد [46] فجمع فيه كتابين: كتابًا في مشتبه الأسماء، وكتابًا في مشتبه النسبة، وجمع

شيخه الحافظ الدارقطني [47] كتابًا حافلاً، ثم جمع أحمد بن علي الخطيب [48] ذيلاً

سمّاه المؤتلف تكملة المختلف، ثم جمع الجميع أبو نصر علي بن هبة الله بن

ماكولا [49] وجعله كتابًا حافلاً سمّاه الإكمال، واستدرك عليهم ما فاتهم في كتاب آخر

جمع فيه أوهامهم وبينها، وكتابه من أجمع ما جمع في ذلك، وهو عمدة كل محدث

بعده، وقد استدرك عليه محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة الحنبلي [50] ما فاته

أو تجدد بعده في مجلد ضخم، ثم ذيل عليه منصور بن سليم [51] في مجلد لطيف،

وأبو محمد بن علي الدمشقي [52] ، وذيل على ذيلهما علاء الدين بن مغلطاي [53] ، لكن

أكثره في أسماء الشعراء وأنساب العرب، وقد جمع الذهبي في ذلك كتابًا مختصرًا

جدًّا اعتمد فيه على الضبط بالقلم، فكثر فيه الغلط والتصحيف المباين لموضوع

الكتاب، وقد وضحه الحافظ ابن حجر في كتابه تبصير المنتبه بتحرير المشتبه،

وهو مجلد واحد ضبطه بالحروف وزاد عليه شيئًا كثيرًا مما أهمله الذهبي، أو لم

يقف عليه، وقد ألف فيه أيضًا يحيى بن علي المصري المؤرخ [54] ومحمد بن

أحمد الأبيوردي [55] ،وعبد الرزاق المعروف بابن الغوطي [56] في كتابه تلقيح

الأفهام في المختلف والمؤتلف، وعلي بن عثمان المارديني [57] .

وممن ألف في النوع الثاني أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتابه

المتفق والمفترق، وكذلك ألف الخطيب في النوع الثالث في كتابه تلخيص المتشابه،

ثم ذيل عليه هو أيضًا بما فاته، وكتابه كثير الفائدة.

***

علم ناسخ الحديث ومنسوخه

إذا سلم الحديث المقبول من المعارضة سمي محكمًا، وإن عورض بمثله،

وأمكن الجمع بين المتعارضين بلا تعسف فذلك مختلف الحديث، وإن لم يمكن

الجمع وثبت تأخر أحدهما فالمتأخر يقال له: الناسخ، والمتقدم يطلق عليه:

المنسوخ.

وقد ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه جمع كثير منهم أحمد بن إسحاق

الديناري [58] ومحمد بن بحر الأصبهاني [59] وأحمد بن محمد النحاس [60] وأبو

محمد قاسم بن أصبغ [61] ومحمد بن عثمان المعروف بالجعد الشيباني، وهبة الله

بن سلامة [62] ، ومحمد بن موسى الجازمي [63] في كتابه الاعتبار في ناسخ الحديث

ومنسوخه، وأبو حفص عمر بن شاهين [64] ، وقد اختصر كتابه إبراهيم بن علي

المعروف بابن عبد الحق [65] في مجلد، وللإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري

كتاب في ذلك أيضًا.

***

علم تلفيق الحديث

هو علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتناقضة ظاهرًا، إما

بتخصيص العام تارة، أو بتقييد المطلق أخرى، أو بالحمل على تعدد الحادثة، إلى

غير ذلك من وجوه التأويل، ويطلق عليه مختلف الحديث.

وممن ألف فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي [66] ، ولكنه لم يقصد استيعابه،

وعبد الله بن مسلم المعروف بابن لميتبة [67] وأبو يحيى زكريا بن يحيى

الساجي [68] والطحاوي [69] ، ولأبي الفرج بن الجوزي [70] التحقيق في أحاديث

الخلاف، وقد اختصره إبراهيم بن علي بن عبد الحق.

***

علل الحديث

معرفة علل الحديث من أجلّ علوم الحديث وأدقها وأشرفها، ولا يقف عليها

إلا من رزقه الله فهمًا ثاقبًا وحفظًا واسعًا ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية

بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن، وعلل الحديث

عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه من وصل منقطع أو رفع موقوف أو

إدخال حديث في حديث أو نحو ذلك، وكل هذا مما يقدح في صحة الحديث.

وممن كتب في هذا النوع ابن المديني [71] وابن أبي حاتم [72] وكتابه قيم،

والخلال [73] ، والإمام مسلم [74] وعلي بن عمر الدارقطني [75] ، ومحمد بن عبد الله

الحاكم [76] وأبو علي حسن بن محمد الزجاجي، وألف فيه أيضًا ابن الجوزي.

***

علم مصطلح الحديث

أول من ألف في علوم الحديث أو مصطلحاته - في غالب - الظن القاضي

أبو محمد الرامهرمزي [77] في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والسامع، وقد

وجدت قبله مصنفات، لكن في بعض فنون الحديث فقط، وكتابه أجمع ما جمع في

زمانه وإن لم يستوعب، ثم توسع العلماء في هذا الفن، وأول من تصدى لذلك الحاكم

محمد بن عبد الله النيسابوري، وقد اشتمل كتابه على خمسين نوعًا، لكنه لم يرتب

ولم يهذب، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجًا، وأبقى أشياء

للمتعقب، ثم جاء أحمد بن علي المعروف بالخطيب [78] ، فصنف في قوانين الرواية

كتابًا سمّاه الكفاية، وفي آدابها كتابًا سمّاه الجامع لآداب الشيخ والسامع، وقل فن من

فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا، فكان كما قال ابن نقطة: كل من أنصف علم

أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه. ثم جاء بعد الخطيب من أخذ من هذا العلم

بنصيب، فجمع القاضي عياض [79] كتابًا لطيفًا سمّاه الإلماع، وأبو حفص الميانجي

جزءًا سمّاه ما لا يسع المحدث جهله، ثم ألف الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن

المعروف بابن الصلاح [80] كتابه الشهير المطبوع، ذكر فيه خمسة وستين نوعًا، وقد

اعتنى به العلماء عناية عظيمة بين معارض له أو منتصر، أو ناظم له أو مختصر،

أو شارح له أو مستدرك عليه، ومن المختصرين له: محيي الدين يحيى بن شرف

النووي [81] في كتابه الإرشاد، ثم اختصر مختصره في كتابه التقريب والتيسير، وقد

شرح السيوطي التقريب بكتابه تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، وهو من

أجلّ الشروح، وقد عمل الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي [82] ألفية

لخص فيها علوم ابن الصلاح، وزاد عليها أولها:

يقول راجي ربه المعتذر

عبد الرحيم بن الحسين الأثري

وقد أتمها سنة 768 وعمل عليها شرحًا سمّاه فتح المغيث أتمه سنة 771، وقد

عمل برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي [83] حاشية عليه سمّاها النكت الوفية بما

في شرح الألفية أورد فيها ما استفاده من شيخه ابن حجر، وقد بلغ إلى نصفه،

وشرح الألفية كثيرون، ولعل أحسن الشارحين محمد بن عبد الرحمن السخاوي [84]

وقد نظم السيوطي ألفية جمعت كثيرًا من الفوائد أولها:

لله حمدي وإليه أستند

وما ينوب فعليه أعتمد

ثم على نبيه محمد

خير صلاة وسلام سرمد

وهذه ألفية تحكي الدرر

منظومة ضمنتها علم الأثر

فائقة ألفية العراقي

في الجمع والإيجاز واتساق

ومن المتون الجامعة الممتعة نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لشهاب الدين

أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وقد شرحها بكتابه نزهة النظر في توضيح

نخبة الفكر، وهو شرح وجيز جليل، وقد شرحها كثيرون كما نظمها أحمد بن

صدقة [85] ، ومحمد بن إسحاق المقدسي [86] ، وقد ألف كثيرون في علوم الحديث

كمحمد بن المنفلوطي [87] ، وابن الملقن [88] ، وابن الحريري [89] ، ولكن ما ذكرنا

مستقى كل من كتب، وفيه الغنية عن غيره.

ولا يفوتنا قبل ختم هذا الفصل كتاب توجيه النظر في أصول الأثر لمعاصرنا

الشيخ طاهر الجزائري؛ فإنه كتاب جمع تحقيقات لطيفة ومسائل دقيقة ووفّى

المصطلح من الإبانة حقه، وإن كان جمعًا مما سبقه، وقد كان من أهم الكتب التي

عوّلنا على الرجوع إليها في كتابة هذه الرسالة.

***

تخريج أحاديث مؤلفات مخصوصة

لله در علماء الحديث: سعوا في توفير الراحة لطلاب العلم فسهلوا لهم عسيره

وكشفوا لهم عن غوامضه وكفوهم العناء ومؤنة البحث والتنقيب، علموا أنك ستتناول

كتابًا من كتب التفسير الشهيرة، أو من كتب الفقه السائرة، أو ما نحا نحو ذلك،

وأن سيمر بك أحاديث مختلفة لم يذكر لها سند، ولم تنسب لأصل من أصول السنة،

وأنك ستقف عند ذلك تتطلب درجة الحديث؛ لتعرف قيمة الاستدلال به وإيصاله إلى

الغرض الذي سيق له، وإنهم إن وكلوك إلى نفسك كلفوك شاقًا وأوردوك صعبًا،

وربما لم يكن لك في فنون الحديث باع فأمسكوا بالكتاب وجمعوا ما فيه من

الأحاديث وعزوها إلى رواتها وبينوا درجاتها، فما عليك سوى نظرة تحظى فيها

بالبغية، وإني ذاكر لك من ذلك ما وصل إلى علمي:

1-

تخريج أحاديث الكشاف، في التفسير، لجمال الدين محمد عبد الله

الحنفي [90] في مجلد.

2-

الفتح السماوي بتخريج أحاديث البيضاوي، في التفسير، للشيخ عبد

الرؤوف المناوي [91] .

3-

الطرق والوسائل إلى معرفة خلاصة الدلائل شرح مختصر القدوري -

في فقه الحنفية - لأحمد بن عثمان التركماني [92] .

4-

تخريج أحاديث الهداية، كتاب شهير في فقه الحنفية، لمحمد بن عبد

الله [93] ، وكذلك لعبد الله بن يوسف الزيلعي [94] ، وقد طبع بالهند.

5-

تخريج أحاديث الشرح الكبير للوجيز، في فقه الشافعية، لسراج الدين

عمر بن علي الأنصاري [95] ، ويقع في سبع مجلدات، وقد لخصه ابن حجر

العسقلاني في ثلث حجمه مع زيادات عليه.

6-

تخريج أحاديث المنهاج، في فقه الشافعية، لسراج الدين عمر بن علي

المعروف بابن الملقن.

7-

كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من

الأخبار؛ أي: كتاب إحياء علوم الدين، لعبد الرحيم بن الحسين العراقي [96] ، وقد

طبعه الحلبي في مصر بهامش الإحياء فأحسن صنعًا.

8-

إدراك الحقيقة في تخريج أحاديث الطريقة - في الموعظة - لعلي بن

حسن بن صدقة المصري، ثم اليماني فرغ من تأليفه سنة 1050.

***

الخاتمة

سنعقد في هذه الخاتمة فصولاً يجدر بعشاق الحديث معرفتها، ويهمهم الوقوف

عليها، فنقول وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا:

متى يحتج بالحديث؟

قد رأيتُ - أكرمك الله - أن آتي بكلمة موجزة تكون لديك بمثابة ميزان تعرف

به

إن كان الحديث مقبولاً فيسوغ لك الاحتجاج به، أو مردودًا فترفض الاعتقاد والعمل

به، فأقول: ينقسم الحديث إلى مقبول ومردود، فالمقبول ما رواه عدل ضابط لما

يرويه بسند متصل مع خلوه من الشذوذ والإعلال. والشذوذ: مخالفة الثقة من هو

أرجح منه. والإعلال: وجود أمر خفي يقدح في صحة الحديث كوصل منقطع أو

رفع موقوف. ثم المقبول إن سلم من المعارضة يسمى محكمًا، وإن عورض بمثله،

فإن أمكن الجمع بغير تعسف فهو مختلف الحديث، وإن لم يمكن الجمع وثبت

تأخر أحدهما عرف المتأخر بالناسخ والآخر بالمنسوخ، وإن لم يثبت، فإن أمكن

الترجيح بين الحديثين صير إليه وإلا توقفنا عن العمل بهما. والحديث المردود ما

وجد فيه أحد أمرين: الأول: عدم الاتصال في السند، والثاني: وجود أمر في

الراوي يوجب طعنًا فيه، ودرجات الطعن في الراوي عشرة: الكذب، والتهمة به،

وفحش الغلط، والغفلة عن الإتقان، والوهم - بأن يروي على سبيل التوهم -،

ومخالفة الثقات، والفسق، وجهالة الراوي، والبدعة، وسوء الحفظ. وللعلماء

تفصيل في هذه الدرجات، فالمحققون يقبلون رواية المبتدع في غير ما يؤيد بدعته،

وقال بعضهم: ما لم يكن داعية. ولهم في العمل بالحديث الضعيف الذي لم يشتد

ضعفه أقوال وشروط يجيزونه بها، أو يقدمونه على القياس كما يعلم من كتب أصول

الحديث وأصول الفقه.

***

كيف تأخذ السُنَّّة الآن؟

كانت السنة في القرون الأولى تؤخذ من أفواه الشيوخ، وقلما كان الرواة

يثقون بالمخطوط، وكان اتصال سند الراوي بالرسول صلى الله عليه وسلم

مع عدالة المروي عنهم وكمال ضبطهم أمرًا لا محيص عنه، حتى يحوز الحديث

درجة الصحة، فلما أن صنفت كتب الصحاح المشهورة وذاعت في الأقطار المختلفة

قامت شهرتها مقام تواترها، فلم تبق حاجة لاتصال السند منا إلى مصنفيها في كل

حديث دوِّن فيها، وأصبح الاعتماد على الكتاب فوق الاعتماد على الشيوخ، قال أبو

عمرو بن الصلاح [97] : اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في

عصرنا وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى؛ إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا

يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطًا يصلح لأن يعتمد عليه، وإنما

المقصود بها بقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة. أقول: وهذا هو

الغرض بعينه في عصرنا والعصور السالفة قبله في محافظة الشيوخ على سلسلة

السند إلى مصنفي الكتب الشهيرة كالبخاري ومسلم.

إنما الواجب على أمثالنا أن يتثبتوا من أمور ثلاثة: كون الكتاب الذي يروون

الحديث عنه صحت نسبته إلى مؤلفه أو تواترت، والبحث في سند الحديث الذي

روي به في ذلك الكتاب، وخلوه من الغلط والتحريف والدخيل، وسبيل معرفة الثالث

أن تقابل نسخة من الكتاب الذي يراد الأخذ عنه بنسخ أخرى منه مختلفة في الرواية؛

إن كان ثم اختلاف فيها، أو بنسخ متعددة منه، إن لم يكن اختلاف في الرواية،

فإذ ذاك يطمئن القلب إلى تلك النسخة، وتتبين له درجة صحتها وخلوها من العيوب،

فيقوم ذلك مقام تعدد الرواة.

وعلى ذلك ينبغي لمن رام طبع كتاب من كتب السنة أن يقابل الأصل الذي

لديه بأصول متعددة حتى تسكن لصحتها نفوس القارئين، ويكفيهم بذلك مؤونة

المقابلة إن كان من العدول الثقات.

وإن مما يؤسف له أن كثيرا من كتب الحديث التي طبعت لم تعط من العناية

في التصحيح ما ينبغي لفن جليل كالحديث، ولم تضبط بالشكل الذي هو أيسر

الأمور، وأقل ما يراعى في سُنة الرسول، فعسى أن يتنبه لذلك الطابعون بعد،

ويولوا هذا الفن من عنايتهم ما يلائم كبير مقامه وعظيم شأنه.

***

الاستنباط من السنة وأثره فيها

لم تكد المائة الثالثة تؤذن شمسها بالغروب حتى أخذ مصباح الاجتهاد ينكمش

ضوءه ويتضاءل فيه، بل كاد ينمحي أثره، فبعد أن كانت عقول النابهين مطلقة

السراح في رياض القرآن والسنة تستنبط منها الأحكام، وتفصل بها في الحوادث،

وتحكمها في الأمور الجلى أصبح الناس منصرفين عنها، لاهين بأقاويل الفقهاء

ينتصر كل لإمامه، ويسعى في تأييد مذهبه، وإن خالف صريح السنة فانقسم الناس

في الفروع شيعًا وأحزابًا، وقامت معركة الجدل والمناظرة بينهم، واستمرت عدة

قرون، وكانت عاقبتها أن اعتصم كل بما عنده، واطمأنت نفسه إليه، وعول في

العمل عليه، ورفض أن ينظر في أقوال خصمه إلا ليدحضها أو يضع من شأنها،

فتناسى الناس بذلك المحيط الشاسع والقاموس الواسع، الذي من مائه نبعت عيون

فقههم، ومن هباته كونت مذاهبهم، أعني بذلك الكتاب والسنة.

لقد كان الاستنباط من السنة أكبر عامل على إحيائها، وخير مشجع على خوض

غمارها، فانكب الناس عليها دارسين وآخذين وناقدين ومؤلفين، ولم يتركوا ناحية

منها إلا تبينوها، ولا شبهة إلا دحضوها، ولا فرية إلا قتلوها.

فلما ركنوا إلى التقليد وتركوا الاجتهاد جانبًا، شغلتهم كتب الفروع عن السنة،

وشغفوا بدراستهم لها عن ورودها، ورأوا - خطأ أو صوابًا - أن فيها بغيتهم، وأن

السنة فرغت منها حاجاتهم، وما لهم وللسنة وقد أوصدت في وجوههم أبواب الأخذ

منها، وحظر عليهم أن يقولوا سوى ما قاله الأصحاب؟ فما لهم ينصبون ولا يجنون

ويكدون ولا يستفيدون؟ .

نعم كان من الناس من يتطلبها لما فيها من أخلاق ومواعظ وآداب ورقائق،

أو تبركًا بحديث الرسول - صلوات الله وسلامه عليه -.

على أن ذلك لم يمنع من وجود أعلام نابهين في العصور المختلفة درسوا

السنة حق دراستها، وعرفوها حق معرفتها، وأطلقوا لأنفسهم حرية الأخذ عنها كأبي

عمر بن عبد البر وابن حزم الأندلسي وابن تيمية الحراني وتلميذه ابن القيم وابن

حجر العسقلاني وأبي بكر السيوطي والشوكاني وكثير غيرهم، فهؤلاء وأمثالهم

ممن تقدم ذكرهم تحت عنوان الجرح والتعديل قاموا للسنة بخدمات جليلة، وزادوا

الناس التفاتًا إليها، وشغفًا بها، فلهم منا جزيل الثناء ووافر الشكر.

***

حال السنة في عصرنا الحاضر

كان خليقًا بالأزهر وفروعه، وهو كعبة العلوم الدينية، أن تكون للسنة فيه

عناية كبيرة، ومقام عال بين علوم الدين، ولكن للأسف بخس الحديث في هذا

المعهد الكبير حقه، بعد أن انتهت إليه الرياسة فيه على عهد الحافظ ابن حجر

وتلاميذه، فلا يوليه الأزهريون اليوم من نشاطهم وطويل وقتهم ما أولوا الفقه

وأصوله وعلوم العربية، فلا نراهم يدرسون سوى صحيح البخاري وصحيح مسلم،

على قلة قراءتهم للثاني، واقتصار الكثيرين على مختصر الأول، مع حجرهم على

الأفكار أن تفهم إلا ما فهمه الشيوخ، وسلوكهم في تفسير الأحاديث مسلك تأييد

المذاهب وتنزيل المعاني عليها، كأنما الفروع أصل من أصول السنة أو المنبع الأول

للتشريع الإسلامي.

ثم إن دراستهم لهذين الصنوين لا تعدو المتن إلى السند، فلا يبحثون فيه، ولا

يتعرفون رجاله، ولا يتبينون إن كان متصلاً أم منقطعًا، مع أنهم يدرسون قبل ذلك

مصطلح الحديث، فما الفائدة فيه إذا لم يطبقوه في دراسة المتون والأسانيد؟ ربما

قالوا ذلك من باب: العلم بالشيء ولا الجهل به، وربما قيل لهم: أهذا هو علم السنة

المطلوب شرعًا؟

ولقد أخذ بعض الأساتذة الأجلاء يدرس الكتب الستة في العطلة الصيفية، وبدأ

منها بكتاب الموطأ، ونرجو أن يوفق لإتمامها، وأن ينفخ ذلك في روع الأزهريين

حب التفوق في الحديث والعناية بكتبه.

وقد وجد بين الأزهريين في هذه الأيام أفراد عنوا بدراسة السنة دراسة كاملة،

وأطلقوا لأنفسهم حرية البحث والفهم وراضوا أنفسهم في كتب السنة المختلفة،

وإنهم لبشير خير بتبدل الأحوال، وإحلال العناية بالحديث محل الإهمال.

ولما كانت مجلة المنار سلفية المنهج، وكانت عنايتها موجهة إلى محاربة

البدع والرجوع بالدين إلى ما درج عليه الرعيل الأول من السلف، وكان ذلك داعيًا

للعناية بالسنة والبحث فيها وفي فنونها، والاستدلال بها في الفتاوى وغيرها - كان

لها أثر صالح في نشر السنة وتكثير سواد الطالبين لها في الأقطار الإسلامية

المختلفة.

ولا يوجد في الشعوب الإسلامية على كثرتها واختلاف أجناسها، من وفّى

الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند، أولئك الذين وجد

بينهم حُفَّاظ للسنة، ودارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن الثالث حرية في

الفهم ونظر في الأسانيد، كما طبعوا كثيرًا من كتبها النفيسة التي كادت تذهب بها

يد الإهمال، وتقضي عليها غِيَرُ الزمان، وإن أساس تلك النهضة في البلاد الهندية

أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة، وانتهجوا في تحصيل العلوم نهج السلف،

فنبه شأنهم، وعلا أمرهم، وذاع صيتهم، وتكونت جمعيات سلكت سبيلهم وعملت

على نشر مبادئهم، فكان لها ذلك الأثر الصالح، والسبق الواضح، ومن أشهر هؤلاء

الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف في اللغتين العربية والفارسية، وأشهرها

كتاب حجة الله البالغة، والسيد حسن صديق خان ملك بهوبال صاحب التصانيف

الكثيرة أيضًا، وقد سبق ذكرهما في هذه الرسالة، ومن حسنات الثاني طبع فتح

الباري في شرح البخاري للحافظ ابن حجر، ونيل الأوطار للإمام الشوكاني، وتفسير

الحافظ ابن كثير مع تفسيره فتح البيان، طبعت هذه الكتب على نفقته في المطبعة

الأميرية بمصر، فكانت من أنجح وسائل إحياء السنة، وفي الهند الآن طائفة كبيرة

تهتدي بالسنة في كل أمور الدين، ولا تقلد أحدًا من الفقهاء ولا المتكلمين، وهي

طائفة المحدثين، وقد كان لعلم السنة سوق رائجة في اليمن بعد كساد سوقها بمصر بعد

القرن العاشر.

وإن من آكد الأمور على المسلمين وأحقها بالرعاية وأولاها بالعناية العمل

على إحياء السنة ونشرها بين المسلمين، فإنها داعية إلى التوحيد في العمل

والاعتقاد، ومزيلة ما بين الفرق المختلفة من الشحناء والعداء؛ لأنها رجوع إلى

أصل الدين، وكل يقر به وينتمي إليه، وفي ذلك تقوية شوكتنا وإنهاضنا من كبوتنا

التي طال أمدها واستفحل أمرها.

***

كيف نقرب إلى الناس تحصيل السنة؟

بَيَّنَّا تحت عنوان: الجمع بين الكتب الستة، أن أبا السعادات مبارك بن محمد

المعروف بابن الأثير الجزري جمع بين الأصول الستة التي بينا فيما سلف أمرها،

وأسمى كتابه جامع الأصول لأحاديث الرسول، وتكلمنا على هذا الجامع بما يغنينا

عن إعادته هنا، وذكرنا إذ ذاك أن لأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزبادي زوائد

عليه سماها تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، فلو أننا

جمعنا بين الجامع وزوائده على نحو ما جمع بين الكتب الستة، وعقبنا كل حديث

ببيان درجته وذكر من طعن فيهم من رجال سنده، وجعلنا للكتاب ذيلاً يذكر فيه

أولئك المطعون فيهم مرتبة أسماؤهم حسب الحروف الأبجدية، مشفوعًا كل شخص

بما قاله أئمة النقد فيه من جرح وتعديل على نحو ما فعل المنذري في كتابه

الترغيب والترهيب.

لو أننا فعلنا ذلك لكنا مقربين إلى الناس تحصيل السنة، وجاعليها على طرف

الثمام، يتناولونها من كتب، ويقتبسون منها بلا عناء ولا إجهاد فكر ولا كثرة بحث.

وإن هذا العمل الجليل وذلك القاموس الكبير يستطيع أن يقوم به فرد مارس

الحديث ممارسة طويلة، وكان له بفنونه خبرة مع حكمة وعزم وأناة وصبر.

وينبغي أن يقوم بطبعه شركة تبغي بعملها فضلاً من الله ورضوانًا حتى تنفق

عليه بسخاء، وتبرزه في خير حلة وأجمل جلباب.

ولو شفع ذلك بشرح واسع يلائم روح العصر الحاضر يقوم به جماعة؛ كل فيما

نبغ فيه وبذل حياته في إتقانه، لكان ذلك من خير الأمور وأجلّ الخدمات.

ولا أظن فردًا يقدر على ذلك كله مع الإحسان؛ لأن السنة فيها طب وأحكام

وآداب وأخلاق وأحاديث صفات، وكل هذي فروع واسعة لا يتضلع في واحد منها

إلا من بذل فيه جهده، وحبس على تعلمه نفسه، فعلى الطبيب أن يشرح ما ورد

في الطب، وحري بالفقيه الحاذق أن يبين أحاديث الأحكام، وجدير بالواعظ الأديب

أن يوكل إليه الكتابة على أحاديث الآداب والأخلاق والمواعظ والرقائق، وعلى

المتكلم أن يوضح أحاديث الصفات سالكًا طريقة أهل السنة من السلف الصالح.

هكذا يقوم كل خصيص بفن بشرح ما يناسب فنه من أحاديث الكتاب على شرط أن

يكون متشبعًا بروح الدين، عليمًا بشؤون العصر الحاضر، خبيرًا بالأمور المحدثة

والمعاملات المستجدة.

ويوجد كتابان جليلان يسد كل منهما حاجة طالما تاقت النفوس إلى سدها:

أحدهما: المنتقى لابن تيمية مع شرحه نيل الأوطار للشوكاني، وثانيهما: الترغيب

والترهيب للمنذري، فالأول يغني كل من رام الوقوف على أحاديث الأحكام

وشرحها شرحًا وافيًا مع ذكر أقوال العلماء فيها، والثاني يغني الوعاظ المرشدين،

ويهبهم مادة واسعة، ليس فيها من شبهة ولا يعتري صحتها قترة، وحري بالفقهاء

والمشتغلين بالقانون أن يدرسوا الأول دراسة وافية ويتعرفوه معرفة كاملة، وجميل

بالناصح الأمين أن يجعل الثاني أسوته في إرشاده، وأن يحفظ من أحاديثه ما يعينه

على القيام بعمله ويسهل عليه أداء مهمته.

***

ماذا نعمل لنشر السنة؟

كل عمل يقوم به جماعة متماسكة خليق أن يبقى، ويظهر له في الناس أثر

بيّن، وأما ما يقوم به الأفراد، فإنه يبقى ما بقي العزم فيهم ماضيًا، وعامل

الإخلاص في نفوسهم قائمًا، ثم هو بعد ذلك ضئيل الأثر قليل الجدوى، وماذا تبلغ

نفس واحدة من نفوس المسلمين، الذين تجاوز عددهم مئات الملايين؟ فإذا ما رمنا

للسنة نشرًا،ولسلطانها بسطًا، ولعبيرها إذاعة، فعلينا أن نكون جمعية دينية يكون

أفرادها من خلاصة المعتصمين بالسنة، والمتشبعين بروح هذا الدين، ويكون مركزها

في صرة البلاد الإسلامية وقطب الرحى منها - أعني بلادنا المصرية - ويكون لتلك

الجمعية فروع في الممالك الإسلامية، ويكون للفروع أغصان في الولايات

الصغيرة والمدن الكبيرة، ويكون شعارها قوله تعالى:] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ

جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا [، (آل عمران: 103) وقوله صلى الله عليه وسلم:

(شيئان لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله) .

وإن هذه الجمعية يقوم صرحها على أمور أربعة: إخلاص، وعزم، وحكمة،

وصبر. ومتى وجدت هذه الأمور سهل تكوين ثروة لها تكون مادتها وعضدها في نشر

مبادئها، وأرى أن تكون الثروة من اشتراكات يدفعها الأعضاء في الجمعية وفروعها

وأغصانها، ومما يجود به أهل البر والإحسان، وإذا سعى الأعضاء وضموا إلى

جانبهم بعض الملوك أو الأمراء - كان ذلك خير مشجع لهم ومتم لعملهم.

وعلى الجمعية أن تقوم بطبع كتب الحديث القيمة مقدمة الأهم على المهم،

وعلى كل عضو أن يقوم بتعليم العامة والخاصة وإرشادهم إلى ينبوع هذا الدين

كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يقصر إرشاده على الوعظ في

المساجد، بل يعممه في الأندية المختلفة والمجتمعات العامة ودور العلم ومدارسه،

فإن في هذه نفوسًا أحوج إلى الموعظة وأجدر بالإرشاد من الركع السجود.

وليكن للجمعية حرص بالغ على أن تضم إليها المدرسين والمعلمين والخطباء

والوعاظ، فإن أولئك إذا رشدوا هدوا كثيرين، فيذيع إيثار السنة بين الناس، ويكثر

أنصارها، حتى يكونوا أمة بيمينها القرآن وبيسارها السنة، وإنهما لسيفان ماضيان

يكتسحان الإلحاد، ويقضيان على الفساد، ويبصران طريق الرشاد، وينتاشان

المسلمين من الضعف والذلة، إلى حيث المنعة والعزة.

فاللهم بصِّرنا بديننا، واهدنا سبيل سلفنا، واجعل عملنا خالصًا لوجهك، لا

نبغي به إلا خدمة دينك، ورفعة سنة نبيك صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله

وصحبه الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلام على المرسلين

والحمد لله رب العالمين.

تم تأليف هذه الرسالة ليلة الجمعة 3 جمادى الآخرة سنة 1339 هـ 11 فبراير سنة 1921م

...

...

...

... محمد عبد العزيز الخولي

...

(المنار)

حمد الله عمل صديقنا مؤلف هذه هذه الرسالة، وأجزل ثوابه، وأحسن

مآبه، وحشرنا وإياه في زمرة أنصار السنة، وإن جميع الأعمال التي اقترح تأليف

الجمعية لها في خاتمة رسالته هي بعض ما كنا نبغي من جماعة الدعوة والإرشاد، إلا

طبع الكتب، فإنه عمل أصحاب المطابع والشركات، وقد كان عزيز مصر العباس -

أعز الله به العلم والدين - ملتزمًا إمدادها الدائم من أوقاف المسلمين، الأوقاف الخيرية

العامة، وأوقاف أسرته المالكة الخاصة، فكان من سيئات الحرب العامة ومفاسدها أن

قطعت الحكومة المصرية إعانة الأوقاف التي كان قد أمر بمضاعفتها، فوقف عمل

الجماعة، وأقفلت مدرستها، ولا نيأس من روح الله أن يمن بإعادتها، ويوفق أهل

البصيرة من أغنياء المؤمنين بمساعدتها، فهم - ولله الحمد - كثيرون، ولكن أكثرهم

غافلون.

_________

(1)

توفي سنة 230.

...

(2)240.

...

(3)261.

(4)

279.

...

...

(5)251.

...

(6)327.

(7)

301.

...

...

(8)234.

...

(9)354.

(10)

446.

...

... (11)774.

...

(12)804.

(13)

761.

...

... (14)879.

...

(15)546.

(16)

890.

...

... (17)597.

...

(18)762.

(19)

322.

...

... (20)637.

...

(21)750.

(22)

المدلس: من لا يذكر اسم شيخه ومن يروي عمن فوقه بلفظ يوهم السماع منه ولا يكون كذبًا قطعيًّا كقوله: عن فلان وقال فلان ، والحديث المدلَّس (بفتح اللام) من أقسام المنقطع.

(23)

245.

...

... (24) توفي سنة 806.

(25)841.

(26)

398.

...

... (27)925.

...

(28)428.

(29)

265.

...

... (30)507.

...

(31)418.

(32)

498.

...

... (33)763.

...

(34)600.

(35)

742.

...

... (36)804.

...

(37) توفي سنة 765.

(38)

466.

...

... (39)611.

...

(40)656.

(41)

806.

...

... (42)738.

...

(43)482.

(44)

407.

...

... (45)597.

...

(46)409.

(47)

385.

...

... (48)463.

...

(49)487.

(50)

توفي سنة 629.

... (51)673.

...

(52)680.

(53)

763.

...

... (54)416.

...

(55)507.

(56)

723.

...

... (57)750.

...

(58)318.

(59)

322.

...

... (60)338.

...

(61)340.

(62)

410.

...

... (63)584.

...

(64)385.

(65)

744.

...

... (66) توفي سنة 204.

(67)263.

(68)

307.

...

... (69)331.

...

(70)597.

(71)

234.

...

... (72)327.

...

(73)311.

(74)

261.

...

... (75)375.

...

(76)405.

(77)

360.

...

... (78) توفي سنة 463.

(79)544.

(80)

643.

...

... (81)676.

...

(82)805.

(83)

855.

...

... (84)902.

...

(85) توفي سنة 905.

(86)

900.

...

... (87)702.

...

(88)804.

(89)

833.

...

... (90)762.

...

(91) توفي بعد 900.

(92)

744.

...

... (93)775.

...

(94)762.

(95)

704.

...

... (96)806.

...

(97) توفي سنة 643.

ص: 353

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

‌الخيال في الشعر العربي

(5)

التفاضل في التخييل

أتينا في الفصل الذي كنا بصدد تحريره على الوجوه التي تفضل بها صور

المعاني التخييلية، أعني غرابة الجامع بين الأجزاء المؤلفة، ثم التوسع في الخيال

وبعده عن البساطة مع الالتئام بالذوق السليم، فينصح لمن انتصب للموازنة بين

الشعراء في التخييل أن يتخذ هذه الوجوه مدخلاً للحكم وأساسًا يبني عليه في

التفضيل.

تعقد الموازنة تارةً بالنظر إلى معنى خاص يتناوله كل من الشاعرين، وهذا

إما أن تتحد الواقعة فيه أو تختلف، وتارةً تجري في غرض خاص يصوره كل

منهما بغير ما يصوره به الآخر، فهذه ثلاث حالات تضاف إليها حالة رابعة، وهي

المفاضلة بين الشاعرين يختلفان معنًى وغرضًا، وحالة خامسة وهي أن تقام

الموازنة بين الشاعرين على أن يقضى لأحدهما بالأفضلية المطلقة.

الحالة الأولى: أعني ما تعقد فيه الموازنة بالنظر إلى معنًى خاص والواقعة واحدة؛ كقول أبي عبد الله بن الزين النحوي يصف بركة نثر عليها الياسمين:

نثر الغلام الياسمين ببركة

مملوءة من مائها المتدفق

فكأنه نثر النجوم بأسرها

في يوم صحو في سماء أزرق [1]

فإذا قِسته بقول علي بن ظافر في هذه البركة نفسها:

زهر الياسمين ينثر في الماء

أم الزهر في أديم السماء

ظل يحكي عقود در على صدر

فتاة في حلة زرقاء

رأيت كلاًّ من الشاعرين شبَّه الياسمين بالنجوم بادية في السماء، وتشبيه ابن

الزين في هذا الوجه أجود؛ لأنه ذهب به الخيال إلى تفاصيل لم يأت عليها ابن

ظافر، فإذا التفت إلى تشبيه ابن ظافر في البيت الثاني رأيت خطور هيئة النجوم

والسماء عند مشاهدة الياسمين يطفو فوق الماء، أقرب من خطور عقود الدر تتقلدها

الفتاة المتبرجة في حلة زرقاء، فيكون تشبيه علي بن ظافر أجود؛ لندرة المشبه به

وقلة ابتذاله بمشاهدة كل ذي عين باصرة، ولولا أن ابن الزين أسند نثر النجوم إلى

الغلام، ونبه على كثرة الياسمين بقوله: نثر النجوم بأسرها لانتفت عنه المزية،

وكان تشبيهه من التخيلات الموضوعة في طريق كل من خطر على باله أن يذهب

في تصوير المعنى من باب التشبيه، ومن هذا الضرب قول ابن المنجم يصف

مطلع الهلال عند غروب الشمس:

وعشاء كأنما الأفق فيه

لازرود مرصع بنضار

قلت لما دنت لمغربها الشمس

ولاح الهلال للنظار

أقرض الشرق صنوه الغرب دينارًا

فأعطاه الرهن نصف سوار

مع قول ابن قلاقس ولم يطلع على ما قاله ابن المنجم:

لا تظنوا الظلام قد أخذ الشمس

وأعطى النهار هذا الهلالا

إنما الشرق أقرض الغرب دينارًا

فأعطاه رهنه خلخالاً

فقد سار الشاعران في التخييل على طريق واحد، وزاد ابن المنجم على ابن

قلاقس نظرة في السوار فلم يأخذ منه إلا المقدار الذي يطابق حال الهلال

وهو الشطر، فكان تخيله أحكم وقعًا.

الحالة الثانية: وهي ما تكون الواقعة فيها مختلفة كقول بعضهم:

خلقنا لهم في كل عين وحاجب

بسمر القنا والبيض عينًا وحاجبا

مع قول ابن نباتة:

خرقنا بأطراف القنا في ظهورهم

عيونًا لها وقع السيوف حواجب

فقد اتفق الشاعران على تصوير المعنى وهو تأثير السيوف والرماح في

أجسام الأعداء، ولكن تصوير ابن نباتة أجود؛ لأنه يزيد على الأول بما فيه من

الإيماء إلى انهزامهم وتوليهم بظهورهم حتى تصنع فيها الرماح والسيوف عيونًا

وحواجب.

ولا يغيب عنك أن تفضيل بيت ابن نباتة إنما يتم إذا تماثلت الواقعتان، أو كان

كل من البيتين صادرًا عن تخييل محض، وأما إذا قصد كل من الشاعرين وصف

الواقع، وكان الأعداء المشار إليهم في البيت الأول لم ينهزموا، بل ثبتوا للطعن في

وجوههم إلى أن وقعوا على مضاجعهم، أو لم ينلهم السلاح بعد أن ولوا مدبرين - لم

يكن لك أن تفضل عليه بيت ابن نباتة من جهة التخييل، وإن أشار إلى معنى يعود

إلى مدح قومه بالشجاعة والمهارة في الطعن والضرب.

ومن قبيل هذا الضرب قول عبد الرحمن الفنداقي في وصف حال الندى

وتقاطره من زهر النرجس:

والندى يقطر من نرجسه

كدموع أسكبتهن الجفون

وقول ابن زيدون في مثله:

تلهو بما يستميل العين من زهر

جال الندى فيه حتى مال أعناقا

كأن أعينه إذ عاينت أرقي

بكت لما بي فجال الدمع رقراقا

ومما يفضل به هذان البيتان على بيت الفنداقي إيماؤهما إلى سبب إرسال

الأزهار للمدامع، وهو معاينتها لأرق الشاعر وإشفاقها عليه.

الحالة الثالثة: وهي ما يقصد الشاعر أن فيه إلى غرض واحد ويختلفان في

المعنى الذي يصورانه فيه، ومثال هذا أن يكون الغرض وصف شخص بالندى،

فيقع الاختلاف في الفريق الذي يقرر به هذا الوصف كما قال بعضهم:

سألت الندى هل أنت حر فقال لا

ولكنني عبد ليحيى بن خالد

فقلت شراء قال: لا بل

وراثة توارثني عن والد بعد والد

وقال الآخر:

ولما رأيت البحر في الجود آية

ومن جوده الدر الثمين المقلد

سألته من في الناس علمك الندى

فقال أمير المؤمنين محمد

ومثل هذا مما يرجع بالتفضيل فيه إلى القوانين السابقة، فما كان أقل خطورًا

على الذاكرة، أو أوسع نطاقًا في التخييل، أو ألذ وقعًا على الذوق، فهو المشهود له

بمزية الرجحان، ومن الجلي أن تشبيه الكريم بالبحر من المعاني التي وعاها كل

قلب وتناولها كل لسان، فصاحب البيتين الأخيرين بنى محاورته على أمر اشتهر

ذكره عند الحديث في هذا الغرض، وإنما زاد عليه شيئًا من التخييل، فتكون

المحاورة الأولى أبدع؛ لأنها قائمة من أول حالها على شعور غريب فضلاً عمَّا

امتازت به من الإيماء إلى دعوى قصر الندى على الممدوح، وهذا ما يجعلها أبلغ

في الدلالة على ما يرمي إليه الشاعر من غرض الوصف بالسخاء.

ويدخل في هذا القسم قول عنترة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

مع قول بعضهم:

ولقد ذكرتك في السفينة والردى

متوقع بتلاطم الأمواج

وعلى السواحل للأعادي جولة

والليل مسود الذوائب داجي

فعلت لأصحاب السفينة ضجة

وأنا وذكرك في ألذ تناجي

فغرض الشاعرين واحد؛ وهو أنهما ذكرا الحبيب في حال تقتضي لشدة هولها

عظم خطرها دهشة القلب وتفرغه لانتظار الفرج أو الاحتيال على وسيلة النجاة،

وإنما يصح لنا أن ندخل للمفاضلة بين الشعرين إذا كانا من التخييل المحض،

فنقول: إن شعر عنترة أبلغ؛ لأنه صور ذكره للحبيب في حال انتشاب الخطر به

حيث ترتوي الرماح وتقطر السيوف من دمه الذي هو مادة حياته، ثم تمنى زيادة

الاتصال بالسيوف التي هي مهبط العطب حين خيلت له ثغره الباسم ببريقها، أما

شاعر السفينة فأقصى غمراته توقع الهلاك بما أحاط به من أسبابه القريبة مزية من

تذكر الحبيب، وقد أنشب به الردى مخالبه أعظم من مزية من يتذكره وهو يبصر

الخطر ولم يبسط إليه يده، فإن كان كل من الشاعرين حكى واقعة عرضت له في

حياته فلا تفاضل بينهما إلا من جهة تأليف اللفظ وصفاء ديباجته.

الحالة الرابعة: وهي ما يختلف فيه الشعران معنًى وغرضًا، وعقد المفاضلة

في مثل هذا النوع قلما يخطر على بال الأديب، ولو قصد إلى ذلك لوجد المسلك

وعرًا؛ إذ من المحتمل أن يكون كل من الشعرين ورد على أبدع غاية ممكنة في

المقصد الذي سيق إليه، وإن كان أحدهما أوسع نطاقًا في الخيال، فلو نظرت إلى

قول بشار:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

سهل عليك الدخول إلى المفاضلة بينه وبين قول ابن المعتز:

وعم السماء النقع حتى كأنها

دخان وأطراف الرماح شرار

ولو عمدت إلى الموازنة بينه وبين قول أحمد بن دراج يصف حالة وداعه

لزوجته وابنه الرضيع:

تناشدني عهد المودة والهوى

وفي المهد مبغوم النداء صغير

عيي بمرجوع الخطاب ولحظه

بموقع أهواء النفوس خبير

أو قول بعضهم:

لئن بكيت دمًا والعز من شيمي

على الخليط فقد يبكي الحسام دما

لم تجد الطريق إلى التفضيل أمرًا ميسورًا، وليس لك أن تعول على ابتهاج

النفس واهتزازها وتجعل تفاوته ميزانًا للتفاضل؛ لأن شدة الابتهاج لسماع الشعر قد

تكون تابعة للعواطف والأهواء، فمن رقت عاطفته لولده الصغير حتى كاد قلبه

يذوب لنظراته المكحولة بالتبسم يهتز لقول أحمد بن دراج: ولحظه بموقع أهواء

النفوس خبير. بأشد مما يهتز لغيره، ومن لم يذق حلاوة العطف على البنين، وكان

كلفًا بمواقع الحروب، مغرمًا بالحديث عن آثارها يلتذ ببيت بشار أكثر من التذاذه

ببيت ابن دراج وما ذكر بعدهما.

فلا أنكر أن يكون بين التخيلات المختلفة في المعنى والغرض فرق جلي،

وتفاوت واسع من جهة التركيب أو الغرابة، فيبني عليه الأديب حكمه بالتفضيل،

وإنما أعني أن الأشعار المتفقة في معنى أو غرض تجد المدخل للمفاضلة بينها

سهلاً؛ إذ يتبين لك التفاوت بينها في التركيب أو الغرابة من غير إطالة نظر،

وعلى فرض اتحادهما في ذلك يمكنك الرجوع إلى وقعها على حاسة الذوق وأخذها

بالروح التي يتقوم بها المراد من الكلام.

وأما المختلفة في المعنى والغرض فيتيسر القضاء فيها متى كان التفاوت بينها

جليًّا، وأما إذا كانت في مراتب متقاربة في الغرابة والتركيب والتمكن من روح

المعنى أو الغرض الذي أفرغ فيها، فباب الحكم فيها لا يطرقه إلا الماهرون في هذه

الصناعة حيث وصلوا إلى أن هذا الشعر لم يتجاوز في الغرض الذي عبر عنه الدرجة

الوسطى مثلاً، وأن الآخر انتهى في وجهته إلى غاية ليس وراءها مرتقى.

وقد يكون مناط التخييل أمرًا واحدًا، ويختلف نظر الشاعرين بتوجه أحدهما

إلى حال أو صفة قد أخذ نظر الآخر بغيرها فيصير التخييل بهذا من قبيل التخييل

في أمرين مختلفين في خفاء التفاضل بينهما، وهذا كما قال الوزير أبو فارس

يصف النهر من جهة منظره:

فنضنض ما بين الغروس كأنه

وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا

وقال أبو القاسم الأبرش يصفه من جهة خريره:

وقال النهر يشكو من حصاه

جراحات كما أن الجريح

وقد يجيد أحد الشاعرين من جهة الغرابة، ويجيد الآخر من حيث التركيب

كقول الصنوبري يصف الشمعة:

كأنها عمر الفتى

والنار فيها كالأجل

مع قول الأرجاني يصفها أيضًا:

تنفست نفس المهجور إذ ذكرت

عهد الخليط فبات الوجد يذكيها

فإن تشبيه الشمعة حين تدب فيها النار وتتناقص شيئًا فشيئًا إلى أن تذهب

في الجو هباءً منثورًا بعمر الفتى حين ينقضي ساعة فساعة إلى أن يلتقي الأجل

بآخر نفس منه فيعود إلى الفناء، تشبيه أدق وأخفى من تشبيهها بصَبٍّ ذكر عهد

الخليط فقدحت الذكرى في مهجته وجدًا بات يحترق بلوعته الملتهبة، ولكن هذا

التشبيه أوسع نطاقًا وأحلى مساقًا.

وربما فاق أحدهما من جهة الغرابة، وفاقه الآخر من جهة المطابقة لحال

المعنى، كقول ابن الخطيب يصف ليلة:

وعشت كواكب جوها فكأنها

ورق تقلبها بنان شحيح

وقول عنترة:

أراعي نجوم الليل وهي كأنها

قوارير فيها زئبق يترجرج

فتشبيه ابن الخطيب أدق وأخفى، وتشبيه عنترة أشد مطابقة لحال النجوم.

الحالة الخامسة: وهي ما يجري فيه تفضيل أحد الشاعرين على آخر

بإطلاقه، وهذا لا يستقيم إلا ممن أتى على معظم شعرهما حتى عرف الذين يستوفي

في تخيلاته شرائط الجودة أكثر من غيره، ولا سيما إذا اهتدى للمقياسة بينهما في

كثير من المعاني أو الأغراض التي يتفقان فيها.

ومن الخطأ الحكم بتفوق شاعر على غيره لمجرد تخييل بديع يتفق له في بيت

أو أبيات، فربما ترجح شاعر في معنى مرة، وفاقه غيرُه في معان أخرى،

فلا يصح لك متى وقفت على قول ابن زمرك:

وجرد من غمد الغمامة صارمًا

من البرق مصقول الصفيحة صافيا

ورأيته متوغلاً في الخيال أكثر من قول ابن الخطيب:

لك الله من برق كأن وميضه

يد الساهر المقرور قد قدحت زندا

أن تقضي بتفضيل ابن زمرك على ابن الخطيب؛ إذ قد يكون لابن الخطيب

تخيلات أخرى أدرك فيها شأوًا لم يلحق ابن زمرك غباره، بل تجد له في هذا

المعنى نفسه تخييلاً سبق فيه إلى الغاية القصوى وهو قوله:

وميض رأى برد الغمامة مغفلاً

فمد يدًا بالتبر أعلمت البردا

ومما يصدق أن تكتفي في تفضيل الشاعر بإجادته في البيت أو الأبيات أنك

ترى حازمًا الأندلسي قد فاق ابن هانئ في وصف التقاء الصبح بآخر الليل

حيث يقول الأول:

كأن بياض الصبح معصم غادة

جنت يدها أزهار زهر الدجى لقطا

ويقول الثاني:

كأن عمود الصبح خاقان عسكر

من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى

وترى ابن هانئ يقول في وصف الثريا:

وولت نجوم للثريا كأنها

خواتيم تبدو في بنان يد تخفى

ففاق حازمًا حين قال:

كأن الثريا كاعب أزمعت نوى

وأمت بأقصى الغرب منزلة شحطا

وقد لوحنا فيما سلف إلى بعض الأسباب التي تقوم للشاعر فيفضل في بعض

المعاني أو الأغراض مَن هو كفؤًا له أو أرسخ منه قدمًا؛ كالتفاوت في قوة الباعث

على النظم، فمن يخاطب إنسانًا وقد ماجت مهجته بعواطف وده الخالص، وأضرمت

النوى في فؤاده شوقًا إليه يقع على دفائن من المعاني يقف دونها من يخاطبه تفصيًا

من ملامة أو تعرضًا لمسألة ليست بذات بال، ويضاف إلى هذا أن أحد الشعراء قد

يمتاز بمعرفة العناصر التي يؤلف منها المعنى كما امتاز البارودي عن بعض أدباء

عصره بمشاهدة الكهرباء وإشراقها في أجرام سماوية كروية، فقال يصف الثريا:

وكأنها أكر توقد نورها

بالكهرباءة في سماوة مصنع

وقد يستوي الشاعران في الاطلاع على العناصر البسيطة، ولكن أحدهما

يشاهدها مؤلفة في صورة لم يشهدها الآخر فيساعده استحضار تلك الهيئة على

انتزاع معنى لا يخطر على بال غيره، فصفوان بن إدريس الأندلسي عاش في

مطر يرى فيه المقلة الزرقاء تلوح عليها حمرة الرمد، فقال يصف الورد مفتحًا

على شاطئ الخليج:

والورد في شط الخليج كأنه

رمد ألم بمقلة رمداء

ومن الشعراء من لم يأخذ في حافظته صورة المقلة الزرقاء وعليها مسحة من

الرمد كمن نشأ في ناحية الجنوب، وإنما رأى المقلة الرمداء ولون الزرقة ينفرد

أحدهما عن الآخر، وانظر إلى ابن الرومي حين قال له بعض اللائمين: لم لا تشبه

تشابيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ ثم قص عليه تشبيهه للهلال بزورق من فضة

عليه حمولة من عنبر، وتشبيه الآذريون بمداهن من هذب فيها بقايا غالية - قال

الرومي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ذاك إنما يصف ماعون

بيته؛ لأنه ابن خليفة، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظروا إذا أنا وصفت ما

أعرف أين يقع قولي من الناس؟

وقد يتفق الشاعران في معرفة العناصر والهيئة المؤلفة ويكون أحدهما أشد

علقة بها وأكثر ترددًا عليها، فيكون خطورها على قريحته أكثر من خطورها على

قريحة من شاهدها مرة أو مرتين، كنت رأيت مرة الآلة المصورة، وعرفت كيف

ترسم الصورة في زجاجتها، ولم يسنح لي أن أستمد منها معنى خياليًّا حتى نزل

بجواري في بعض البلاد أحد المولعين بها، وتكررت ملاحظتي لها، فريثما جال في

خاطري معنى الخطأ في فهم الحقيقة هجمت علي صورة الآلة والزجاجة فقلت:

عذرتك إذ صورت في نفسك الهدى

ضلالاً وصورت الضلال رشادا

فإن زجاجات المصور تقلب الـ

سواد بياضًا والبياض سوادا

قد يستمد الشاعر من غيره تخييلاً يضيف إليه ما يوسع في نطاقه، ولهذا

ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يكون الأصل من المعاني النادرة والزيادة تساويه في غرابتها أو

تنقص عنه، وهنا لا يكون صاحب الزيادة أرجح ممن أنشأ أصل المعنى قطعًا؛ إذ

من المحتمل أن شبهه لهذه الزيادة وإدراجه لها في صورة المعنى إنما تيسر له من

تلقيه لذلك الأصل الذي أقامه له الشاعر الأول؛ بحيث لا يكون في قريحته فضل قوة

على تحصيل هذا الأساس بنفسه، ومثال هذا قول علي الكوفي يصف النجوم:

كأن التي حول المجرة أوردت

لتكرع في ماء هناك صبيب

وقول البارودي يصفها أيضًا:

وكأنها حول المجر حمائم

بيض عكفن على جوانب مشرع

فلم يزد البارودي عما خيل إليك الكوفي سوى أن جعل تلك النجوم الواردة

حمائم بيضًا.

ومن هذا القبيل قول المعتمد بن عباد يصف نهرًا في روض:

ولربما سلت لنا من مائها

سيفًا وكان عن النواظر مغمدا

وقول أبي القاسم البخاري:

والنهر شق بساط الروض تحسبه

سيفًا ولكنه في السلم مشهور

فهذا البيت أخذ في ضمنه معنى البيت الأول، وإنما زاد عليه بأن السيف مجرد في حال السلم.

ثانيها: أن يكون المعنى الأصلي غريبًا، وتكون الزيادة أدل منه على البراعة،

ويصح لك في هذا الحال أن تقضي بفضل الثاني؛ إذ في يدك ما ينهض بحجتك على

أن في قريحته قوة تمكنها من إنشاء الصورة من أصلها، ومثال هذا قول الخفاجي:

كأن الدجى لما تولت نجومه

مدبر حرب قد هزمن له صفَّا

وقول البارودي يصف الليل أيضًا:

متوشح بالنيرات كباسل

من نسل حام باللجين مدرع

حسب النجوم تخلفت عن أمره

فوحى لهن من الهلال بأصبع

فإن كان البارودي قد تنبه إلى تشبيه الليل بأمير حرب من بيت الخفاجي، فقد

زاد عليه ما هو أغرب منه، أعني ظنه أن النجوم تخلفت عن أمره، ثم إشارته إليها

بأصبع من الهلال.

ثالثها: أن يكون الأصل من المعاني التي تتناولها العزائم لأول لفتة؛ إذ

أصبحت مبذولة ابتذال تمثيلك جميل الطلعة بالقمر والمقدام بالأسد، ويسوغ لك

بدون شبهة أن تعد التخييل فيما يرجح به وزن صاحب الزيادة البديعة، فالذين

شبهوا الزهر بالدراهم كثير، ولكن ابن زمرك أضاف إلى ذلك أن جعل النسيم جابيًا

لها فقال:

كأنما الزهر في حافاتها سحرًا

دراهم والنسيم اللدن يجبيها

ومن المتداول تشبيه الأقاح بالثغور، وقد بنى عليه ابن رشيق أن جعل الشمس

ترشف منه ريق الغوادي فقال:

باكر إلى اللذات واركب لها

سوابق اللهو ذوات المزاح

من قبل أن ترشف شمس الضحى

ريق الغوادي من ثغور الأقاح

ومن المعهود تشبيه الليل بالغراب، فتناوله عبد الرحمن الفنداقي الأندلسي

ورفعه في الحسن درجات فقال:

وانبرى جنح الدجى عن صبحه

كغراب طار عن بيض كنين

وقد يذهب الشاعران إلى محاكاة أمر، فيحاكيه أحدهما ناظرًا إليه بانفراده،

ويحاكيه الآخر ناظرًا إليه في حال اقترانه بأمور أخرى، فلا يحق لك متى قايست

بينهما ورأيت الأول أحكم أن تقضي لصاحبه بالرجحان؛ إذ قد تكون محاكاة الثاني

إنما جاءتها الجودة من ملاحظة ما اتصل بها من المعاني، ولولا هذه المقارنة لم

يقدم صاحبه على هذه المحاكاة، ربما تسمع أبا جعفر الأندلسي خيل أصوات الحمام

في الصباح بالخصام، فيبدو لك أن تشبيهها بالغناء أو النواح أقرب إلى الجودة وأشد

مطابقة لحالها، ولكنك إذا وقفت على قوله:

فالصبح قد ذبح الظلام بنصله

فغدت تخاصمه الحمائم فيه

أدركت جودة التخييل التي أحرزها بما انضم إليه من تمهيد سبب الخصام،

وهو اعتداء الصبح على الظلام وقتله بالنصل ذبحًا.

يعدون في تخيلات فكتور هيغو تشبيهه الموج بالغنم، فإذا قيل لك: إن الشاعر

العربي معروف الرصافي قد شبهه بالرجال حسبت أنه وقع التشبيه إلى الحضيض،

حتى إذا قرأت قوله يصف قصر البحر في بيروت:

كأن الموج في الدأما رجال

وهذا القصر بينهم خطيب

تخاطبهم مبانيه فيعلو

من الأمواج تصفيق رحيب

تيقنت أن الرجل قد ذهب في التخييل البديع إلى الدرجة القصوى، فتشبيه

الموج بالغنم هو أحكم من تشبيهه بالرجال متى نظرت إليه مستقلاًّ، ولكنك إذا

راعيت ما انضم إليه من تشبيه القصر القائم على ضفة البحر بالخطيب، وتلاطم

الأمواج بالتصفيق - لم يكن في وقوعه على ذوقك أقل تأثيرًا من تشبيهه بالغنم

السائمة [2] .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: فيه تذكير نعت السماء وقد أراد باليوم ما يعم الليل وكان يمكنه التعبير به.

(2)

المنار: بل هو أكبر تأثيرًا وأعز نصيرًا.

ص: 370

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بحث أبدية النار

حضرة مولانا السيد السديد، الأستاذ الأكبر محمد رشيد رضا، أدام رشده

الرب الفعال لما يريد، آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد اطلعت على جزئي المنار

الأغر الأول والثاني من المجلد الثاني والعشرين، فألفيت بهما وجوه الفرق بين الجنة

والنار المنقولة عن ابن القيم رحمه الله بدوام الجنة وفناء النار، بخلاف ما

عليه المسلمون [1] من دوامهما معًا بدوام الله تعالى، وهو الحق الموافق للمعقول

والمنقول والحكمة، وأما الشُّبَهْ التي ذكرها ابن القيم فما هي إلا سراب، وقد عجبنا

من تحسين فضيلتكم لتلك الوجوه وأنها تفيد المارقين، وأنها الموافقة للغة دون

الاصطلاح الكلامي مما كاد يكون صريحًا في الميل لها، ومما زادني عجبًا قول

فضيلتكم في نهاية تعقيبها بأنها تنفع المارقين، ولا تضر المؤمنين بقول الجمهور

مستدلين أو مقلدين، فكيف الجمع بين متنافيين في عقيدة يجب توحيد الحق فيها [2] ،

على أن ابن القيم نفسه لم يجزم بتلك الوجوه بدليل قوله عقبها: (فإن قيل: فإلى أين

انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف

مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود: 107) إلخ،

وليس في هذه الآية ما يدل على فناء النار أصلاً، وإذا جاز تأويلها مع آيات التأبيد

الكثيرة فأي مانع يمنع من تأويل قوله تعالى في الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 108) بأنه غير مقطوع ما دامت الجنة، كما قيل في العذاب، فالفرق بينهما

تحكم بدون موجب أصلاً، ودعوى أن الجنة مقتضى صفات الذات والنار مقتضى

صفة الفعل ليست بشيء؛ لأن العذاب الدائم مقتضى صفة القهر الدائمة كما سيأتي،

وقد ذكر ابن القيم تلك الوجوه أيضًا في كتابه شفاء العليل، وتوقف فيها ثم قال إثرها:

أو من كان عنده فضل علم فليحدثه. إشارة إلى عدم كفايتها في الدلالة مع الاجتهاد

في تحسينها كل التحسين بذكر أشياء حسنة في نفسها لكنها بعيدة عن المقصود، ولقد

وجدنا تلك الوجوه يناقض بعضها بعضًا، فتارة يذكر فيها استحالة دخول الكافر الجنة

كقوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف:

40) وتارةً تجيز العفو عن الكافر بعد تطهيره بمكثه طويلاً في العذاب وبعد فناء

النار، ولا معنى للعفو والتطهير إلا إدخاله الجنة بعد ذلك، فخالف في ذلك صريح

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) هذه بعض ملاحظاتي

على ذكر تلك الوجوه الفاسدة والشبه الكاسدة بمجلة المنار الأغر، ولم يكن بد من

البحث وراء الحقيقة، فنقول بالاختصار:

إن تلك الوجوه ترجع إلى خمسة أمور:

أولها: مخالفة أبدية النار للعقل، ثانيها: النقل لا يفيد الأبدية، الثالثة:

الأبدية مخالفة لكون دائرة رحمة الله أوسع من دائرة غضبه، رابعها: لا مانع من

توبة الكافر بعد طهارته بالعذاب ولو بعد حين، خامسها: مخالفة الأبدية للحكمة.

وسنبين بطلان الجميع إن شاء الله، فنقول:

أما الأول: فهو أن هؤلاء الكفار لما زاولوا الكفر أو المعاصي عنادًا أو إهمالاً

مرة بعد مرة مع الإصرار عليها حتى صارت ملكة راسخة، فهم خبثت ذواتهم خبثًا

دائمًا، وأصروا على كفرهم وعصيانهم أبد الآباد، وعزموا على أن يدوموا عليه

ولا يتركوه بحال من الأحوال، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا

لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام: 28) ودعوى أن ذلك بالوقوف فقط، وعدم العذاب

بالفعل [3] مردود بأنه لا فرق بين رؤية العذاب واقتحامه، على أنهم لم يطلبوا الرجعة

عند رؤيته فقط بل طلبوها مرارًا بعد مكثهم في العذاب؛ لقوله تعالى زجرًا للقائل

منهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} (المؤمنون: 99-100)، وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا

ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون: 107-108) ، ونحو ذلك

من الآيات الكثيرة في هذا الصدد، فكان دوام العذاب جزاءً وفاقًا على قدر الجريمة

والمعصية، ألا ترى لو أن ملكًا وضع قانونًا لرعيته بيّن فيه عقاب كل جريمة،

واقتضى نظام رعيته، وأمن كل واحد منهم على نفسه وماله وعرضه أنه جعل عقوبة

جريمة القتل مثلاً السجن الدائم مع الأشغال الشاقة، وأعلن ذلك على رعيته، ثم

ارتكب بعد ذلك واحد منهم تلك الجريمة، فعاقبه عليها بمقتضى قانونه الذي علم

الجاني قبل إقدامه على الجناية، فالعقل لا يستقبح ذلك، بل يعده العقلاء عدلاً

وحسنًا، فكذلك صنع الله الحكيم في خليقته جعل عقاب الكفر عذابًا أليمًا دائمًا في

دار الآخرة؛ لأنه جحود بنعمة من لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته، وقد بين

كل ذلك على لسان رسله، ونصب الأدلة في الأنفس والآفاق، ووعد أولئك الكفار

أنهم إن تابوا - أي: في الدنيا - يغفر لهم ما قد سلف فضلاً وكرمًا، وقال سبحانه:

{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال: 38) ، ثم إنه لا

شك أن الملك إذا وضع قانونًا وجعل فيه لكل جريمة عقابًا، فإذا لم يجزم الناس بأن

ذلك الملك يوقع عقاب كل جريمة على فاعلها كان جعل تلك العقوبات في ذلك

القانون عبثا ولا يفيد فائدته المطلوبة، ولولا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن

يَشَاءُ} (النساء: 48) ما كان العقل يجيز العفو عن غير المشرك، ولكنه حيث

قال - وقوله الحق - قلنا بجوازه.

وأما الثاني: فلا شك أنه جاء ما لا يحصى في القرآن والسنة المتواترة مما

يدل على خلود الكفار في النار والعذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها، ودعوى عدم

صراحة الآيات والأحاديث في دوام العذاب، فهو بفرض تسليمه يرد بأنها: إن لم

تكن صريحة فيه فهي فيه ظاهرة، وقد صرح الأصوليون بأن دلالة الظواهر

الكثيرة على ما يظهر منها قطعية، على أن قوله تعالى:{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة: 37) بعد قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (المائدة: 37) كما ينفي

موتهم فيها مع بقائها ينفي فناءها حيث وصف نفس العذاب الحاصل بالنار بأنه مقيم؛

أي: دائم، ولولا هذه النكتة لم يكن له فائدة بعد قوله:{وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (المائدة: 37) كما لا يخفى.

وأما الثالث: فمبني على أن الكفار أكثر من المؤمنين كما يقتضيه قوله تعالى:

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} (هود: 17) فيكون المعذبون الخالدون أكثر

من المنعمين، فكيف تكون دائرة رحمته أوسع من دائرة عقابه؟ نقول: إن هذه

الكثرة بالنسبة إلى بني آدم فقط، وبنو آدم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور

والولدان:

{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} (المدثر: 31)، {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 8) فيكون أهل الرحمة أكثر أهل من أهل الغضب، على أن أهل النار

مرخومون في عذابهم، فإن ما عند الله من كل شيء لا يتناهى، وبعض الشر أهون

من بعض، وهم مختلفون في العذاب، وإن ظن كل واحد من أهلها أنه أشد الناس

عذابًا، لكن الكلام إنما هو في الواقع ونفس الأمر، على أن الجميع ما داموا في

دائرة الوجود والحياة فهم في دائرة رحمة الله والفيض العميم، فإن كلاًّ منهما من

النعم التي يحافظ عليها الإنسان ويتجشم لأجلها أبشع الأدوية.

وأما الرابع: فلم يقل أحد: إن التوبة تنفع في الآخرة، فأما من تاب في هذه

الدار - دار العمل - من الكفر، فقد أبدل الكفر القبيح بضده الحسن اختيارًا منه،

وامتثالاً لأمر الله تعالى، فهناك كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى

هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها العمل أو يضر، ويمكن للعبد

باختياره أن يتدارك ما فاته من الأعمال الحسنة، وأن يندم على ما عمله من

الأعمال القبيحة فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن، قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ

يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114) فلا بدع في مغفرة الله جودًا

وكرمًا ورحمة وفضلاً، وأما في الدار الآخرة التي هي دار الجزاء على الأعمال، لا

دار عمل فلا تنفعهم التوبة أصلاً، فقد اختلفت الداران وامتاز الفريقان {فَرِيقٌ فِي

الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وانتهى الأمد بعد الذي ضربه الله على

لسان رسله للعمل وقبول التوبة، وقد رأينا في هذا أن الدواء ينفع وقتًا محدودًا، فإن

فات ذلك الوقت واستحكم الداء فلا ينفع الدواء.

وأما الخامس: وهو أهمها، فسنبين بعون الله تعالى من وجوه الحكمة في

دوام عذاب الكفار وعدم فنائها ما يكون ناقضًا للأساس الذي بنى عليه ابن القيم تلك

العلالي من مخالفة دوام العذاب للحكمة، فنقول: أما حكمة النهي عن الشرور

والوعيد عليها؛ أي: وعيد الكفار بتأبيد العذاب وغيرهم بالعذاب المؤقت فهي إرادة

تقليل وقوعها حتى لا يفسد الكون ويتم له ما قدر من الأجل، ونحن نرى المؤمن

المصدق بوعيد الله ورسوله تصده الشهوات والشياطين عن الانزجار بالوعيد مهما

بلغ من الشدة والصرامة؛ اغترارًا بكون العذاب مهما طال ينقطع، فكيف بالكافر

المكذب بالوعيد إذا كان العذاب الذي توعد به منتهيًا؟ أفيصح أن يكون توعدهم به

زاجرًا لهم عن كفرهم كزجر الوعيد بالعذاب الدائم؟ أفيبعد أن يكون العليم الحكيم قد

علم أنه لو لم يجعل عذابهم دائمًا لما آمن من الناس من يكون إيمانهم مانعًا من

مصير الكون إلى الخراب والفساد قبل انتهاء الأجل المقدر له؟ ثم في دوام عذاب

الكفار دوام ظهور آثار طائفة من أسمائه تعالى كالقهار والمنتقم، كما أن في بقاء

نعيم المؤمنين بقاء آثار جملة أخرى منها كالجواد والكريم، ومعلوم أن جميع

مدلولات أسمائه تعالى صفات كمال يجب بقاؤها له، وفناء النار وأهلها ينافي ذلك،

ولا جائز أن يقال: يمكن أن يخلق بعد هذا الفناء خلق يكلفون، فيعاقب المخالف

منهم، فيكون مظهر أسماء القهر؛ لأن هذا لم يقل به أحد ولم يدل عليه دليل [4] . ثم

من المعروف المألوف أن الإنسان بعد طول النعيم عليه يصير نعيمه كأحد العادات،

ليس فيه كبير لذة، وإذا كان مسبوقًا بآلام نسيت الآلام بتتابع النعيم، فلو فنيت النار

وأهلها لخفت لذة أهل الجنة وقلت قيمة نعيمهم في نظرهم بعد طول العهد، فكان في

دوام تعذيب الكفار الذي استحقوه بكفرهم الذي لا حد لخبثه بعد إقامة الحجج وإزاحة

الأعذار دوامًا عظيمًا اغتباط المؤمنين بنعيمهم، واستمرار كمال شكرهم لربهم ومعلوم

أن المؤمنين أكثر جدًّا من الكافرين؛ إذ منهم الملائكة الذين لا يحيط بعشر معشار

عشرهم إلا خالقهم جل وعلا، وقد تقرر في العقول أن إيجاد الشر القليل لأجل الخير

الكثير خير، وقد اعترف هو (ابن القيم) بنحو ذلك فظهر أن لدوام عذاب الكفار عدة

حكم:

1-

جعل العقاب بحيث يترتب على العلم به غايته التي أريد لأجلها من منع

انتشار الكفر إلى حد يفسد الكون قبل أجله المسمى.

2-

جعل العقاب مناسبًا للجريمة في عدم التناهي؛ لما علم من أن خبث الكفر

لا حد له.

3-

دوام ظهور آثار الأسماء الإلهية التي بها تتحقق الألوهية.

4-

دوام ابتهاج المنعمين بنعيمهم بالمقايسة بينه وبين ما فيه المعذبون،

وقد يشير إلى هذا قوله تعالى: {وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ

أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (الإسراء: 9-10) ، فأدخل إعداد العذاب الأليم لغير المؤمنين في بشارة

المؤمنين، وما هذا إلا لأنه يعظم اغتباطهم بنعيمهم بالمقايسة بينه وبين عذاب

أعدائهم. هذا، وبقي أن بعض القاصرين يقول: إذا كان المخلوق لا يسمح ببقاء

عدوه في العذاب الصارم الطويل مهما بلغت عداوته له، وإن سمح عُدَّ غليظ القلب،

فكيف يسمح أرحم الراحمين بدوام العذاب البالغ غاية الصرامة؟ فنقول: هذا قياس

للغائب على الشاهد، وهو فاسد، فإن المخلوق يتألم قلبه برؤيته المعاقب، فإذا سعى

في إزالة عقابه كان ذلك بالحقيقة سعيًا في إزالة الألم عن نفسه، والله تعالى متنزه

عن القلب والانفعالات كما لا يخفى، وبقي أيضًا أن ما ينقل عن بعض السلف وما

يذكر في بعض كتب الصوفية بعدم الخلود في النار، فذلك محمول قطعًا على عدم

خلود عصاة المؤمنين الموحدين في النار، ومتى كان الكلام محتملاً تعين حمله على

ما لا يعارض القطعيات، هذا ما عنَّ لي ذكره في هذا الموضوع الخطير مؤملاً

تحقيق الحق فيه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

...

...

...

... إبراهيم محمد عريقات

...

...

...

إمام وخطيب مسجد عز الدين

...

...

...

... ببرنبال - غربية

(المنار)

قد أحسن الكاتب بالتزامه شروط المنار بحصر الكلام في موضوعه،

وجل ما ذكره قد سبق للمنار قول فيه، وفي كثير من مسائله نظر أشرنا إلى بعض

ما يتعلق بالتفسير وأسماء الله منه لذاته لا لتعلقه بموضوع الرسالة، فإننا وعدنا

بعدم مناقشة المنتقدين في أصل هذه المسألة، ولا يمنعنا هذا من أن نوجه نظره إلى

التأمل في الحكم الأربع، هل الأولى واقعة والثانية ثابتة؟ وما حد الكفر المذكور

فيهما؟ وهل أسماء الأفعال كالقهار والمحيي والمميت أبدية كأسماء الذات خلافًا

للعلماء الذين قالوا بأبدية أسماء الذات فقط، وما دليل ذلك؟ وهل تعذيب بعض

العباد ليتنعم غيرهم، أو ليزداد نعيمه بعذابهم من الحكم التي لا تنافي العدل ولا

الرحمة، وقوله تعالى:{جَزَاءً وِفَاقاً} (النبأ: 26)، وقوله: {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ

ذَرَّةٍ} (النساء: 40) ، وأمثاله؟ وكون العقاب بالعدل، والثواب بالفضل؟ وهل

ملائكة الجنة من الذين ينعمون فيها جزاءً على أعمالهم، وما القول في ملائكة النار

إذًا؟ نرجو أن يتأمل أخونا الكاتب الفاضل في ذلك كله حق التأمل، وإن شاء بعد

ذلك أن يبين ما يحققه فيه بمقال فعل.

***

رسالة أخرى بغير عنوان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تنزه عن الخطأ والنسيان، وجعل ذلك في الإنسان دليلاً على

كمال ربوبيته وأنه الواحد الديان، وأشهد ألا إله إلا هو منزل القرآن، بالوعد

والوعيد على سيد الأكوان، محمد خاتم النبيين وإمام الغر المحجلين، صلى الله

عليه وعلى آله ومن اقتفى أثره واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد، فقد رأيت

لأستاذنا العلامة صاحب المنار نقلاً في فناء النار معزوًّا لابن القيم رحمه الله

في كتابه حادي الأرواح، أعقب به تفسيره في آية الأنعام:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} (الأنعام: 128) إلخ.

فدهشت من قول ابن القيم، وأنكرت عليه ذلك القول، كما أنكرت على أستاذنا

صاحب المنار نقله في مناره ونشره بين الناس، وقد كتبت له في ذلك وكتب لي،

وقد ذكر الأسباب التي دعته لإيراد ما نقل، ولما رآني مصرًّا على إنكاري خاشيًا

عواقب هذه النقول على العامة كتب لي - حفظه الله - بأن أكتب ما يدفع الضرر

الذي أخشاه ريثما يعود هو للموضوع نفسه في تفسير آية هود، إذا كنت أظن أن

المدة إلى ذلك الوقت تطول، فكتبت ما سيأتي مستعينًا بالله متحريًا الاختصار المفيد،

راغبًا عن التطويل الممل إلا ما دعت إليه الحاجة.

وقبل البدع في كتابة ما أردت، أقدم شكري لأستاذي العلامة السيد محمد رشيد

على سعة صدره لي وقبوله نقدي واحترامه رأيي - مع أني تلميذه - ولو لم يكن في

هذا الانتقاد إلا بيان فضل الأستاذ السيد محمد أستاذنا في سَنِّه سُنَّة أماتها الذين لا

يحبون الحق، ويخافون أن تظهر عيوبهم أو تنتقص شيوخهم - لو لم يكن إلا ذلك

لكفاه فخرًا، ولا سيما أن المنتقد تلميذه، وقد أفسح له صدرًا مناره للانتقاد عليه وعلى

شيخنا ابن القيم العلامة رحمه الله فليحي المنار وصاحبه رافعًا راية الحق مرشدًا

الناس إليه بالقول والعمل والسلام.

قال أستاذي صاحب المنار بعد تفسيره الآية على الوجه الأكمل، وقد استوفى

ذلك بالإسهاب المحقق ابن القيم في كتابه حادي الأرواح، فقال:(فصل) وأما

أبدية النار إلخ، وساق أقوالاً سبعة، وكأنه لم يرض إلا القول السابع وهو فناؤها.

وقال: قال شيخ الإسلام: وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة

وأبي سعيد وغيرهم. وساق رواية عبد بن حميد في تفسيره، وطفق يقوي السند

بما يشيد من ذكر بعض الشيوخ، ويقول: وحسبك بهذا الإسناد جلالة، ونحن نقول

له: حسبك أن الحسن لم يسمع من عمر، وإن اعتذر عن ذلك بقوله: وإن لم يسمع

من عمر إلخ، وجزم الحسن بصحة الخبر عن عمر، بل صحته عن عمر نفسه لو

صح لم يجز التعلق به في مسألة سمعية اعتقادية غيبية، زد على ذلك أن عمر ليس

رسولاً، ولو كان رسولاً وروي عنه بمثل هذا الإسناد المعلول لما ساغ لنا الأخذ به

والتعويل عليه، فما بالك وعمر رضي الله عنه ليس رسولاً ولا السند إليه

صحيحًا، وكيف يقول عمر هذا القول ويروى عنه وهو الذي عرفت شدته في

الدين؟ وهو الذي ضرب أبا هريرة في صدره بين ثدييه ضربة ألقاه على استه وفي

يده نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بعثه يخبر: (من لقي الله يشهد ألا

إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه دخل الجنة) ، فذهب أبو هريرة مجهشًا إلى النبي -

صلى الله عليه وسلم شاكيًا له من عمر، فجاء عمر في خلف أبي هريرة، فقال

صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله، بأبي أنت

وأمي، أبعثت أبا هريرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:(نعم) قال: فلا تفعل، فإني

أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(فخلهم) ، هذا معنى ما رواه مسلم في صحيحه، فهل عمر بعد هذا يقول ما رواه

عنه ابن حميد والحسن؟ وأي الإسنادين أصح؟ وأيهما أحق أن نأخذ به عن عمر؟

على أن شدة عمر في الدين لا تخفى على أحد ممن شم رائحة الإسلام.

وقد روي عنه أنه كان يقول: يا ليت أم عمر لم تلد عمر. وكان يقول:

ليتني شجرة تعضد. ونحو هذا كثير في السير، ثم كيف يقول هذا القول أبوهريرة

وهو صاحب القصة، ويتكلم في فناء النار، وهو وغيره من الصحابة كانوا

أحرص الناس على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرغبهم عن الخوض

فيما ليس لهم به علم؟ وقد كان يكون عند بعضهم الخبر عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم يكتمه خشية افتتان الناس به فلا يفشه إلا عند موته تأثمًا، يعلم هذا كل

من قرأ الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، ولست أظن أن ابن القيم لم ير ذلك

وهو الإمام الحافظ المطلع على ما لعلنا لم نطلع عليه ولم نره للآن، ولكن لم يكن

معصومًا من الخطأ والنسيان، ومن لم يكن عنده علم باصطلاح المحدثين وتحريهم

صحة السند وقولهم في الرجال وقبولهم الحديث الصحيح، وردهم ما لم يصح ولو

كان في سنده أقل علة، من لم يكن عالمًا بذلك، فحسبه مقدمة صحيح مسلم ليعلم ما

شرطه - وهو دون البخاري - وهذا كله دائر حول حديث رسول الله صلى الله

عليه وسلم لا عمر ولا غيره.

فلهذا يرى مريد الحق أن هذه الروايات غير صحيحة عن الصحابة - رضي

الله عنهم - وهي أشبه بقول اليهود الذين غرهم في دينهم ما كانوا يفترون وأرادوا

تغرير المسلمين وخدعهم، وقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم ص18 من

الجزء الأول: (أما أهل النار الذين هم أهلها) إلخ، فلم ندر حاله، ولم يسنده، ولم

يعزه.

ثم قال: ولا يناقض هذا قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} (البقرة: 162) ،

وقوله: {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: 48) هكذا قلت، والصحيح] وما

هم بخارجين منها [، ولم أدر ممن الخطأ في الآية؛ لأن] وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [

قيلت في أهل الجنة من سورة الحجر فليعلم.

يقول رحمه الله: لا تناقض بين إخباره تعالى عن أهل النار بأنهم خالدون

فيها وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم بعد التصحيح، وبين فنائها؛ أي: إن

خلودهم فيها يكون ما دامت، ويالله العجب، ومن أين له عدم دوامها وقد دلت

الآيات والأحاديث على بقائها باللزوم وإن كانت لم تصرح ببقائها؛ لأنها ليست

مقصودة بالذات، ولأنها لم تخلق إلا لأهلها؟ فما داموا فيها فهي دائمة، فهم المحور

الذي يدور عليه الجزاء بقاءً وفناءً، لا النار التي لم تكن لولاهم، ولم توجد إلا لهم،

فكيف عكس الأمر رحمه الله وجعل الأخبار دائرة حول النار ولها؟ فإن قيل: إنهم

خلقوا لها كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: 179) إلخ، قلنا: هذا يدل على بقائها أيضًا، وكان خلقهم

أدل على بقائها؛ إذ قال الله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة: 37) وقد أخبر الله تعالى عن بقاء النار وأهلها بكل لفظ أخبر به عن

بقاء الجنة وأهلها، يعلم هذا من قرأ القرآن وتدبره، فكما قال تعالى في الجنة:

] خالدين فيها أبدًا [، كذلك قال في النار، فلا يستطيع أحد بعد هذا أن يوجد فرقًا

بين الخبرين واللفظ واحد، ولئن قال في الجنة:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:

108) ، فقد قال في النار:{َعذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة: 37) ، بل قال في الجنة

بهذا اللفظ: {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة: 21) ولا ريب أن النعيم المقيم هو وغير

المجذوذ شيء واحد في الدلالة، زد على ذلك أن الله تعالى أخبر أن أهل النار لا

يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، وهذا نحو قوله: لا يدخلونها أبدًا،

وليس بعد هذا قاطع لأطماع الطامعين في الجنة الهاربين من النار، فقد عبر لهم

بأعظم محال وهو دخول جسم عظيم في خرق صغير، ومتى يلج الجمل في سم

الخياط ويسوغ في العقل دخوله فيه حتى يسوغ دخول الجنة لمن ليس من أهلها ولم

يخلق لها؟ أيكذب الله نفسه أم تكون عبثًا حكمته؟ يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً

مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: 179) ، ثم يعيدهم إلى الجنة، هذا محال، وقد

ذكرنا ما قالوه في الاستثناء (بإلا ما شاء الله) ورد أقوالهم كلها، ولم يختر إلا

الوجه الذي يدل على مخالفة (إلا) لما قبلها، وذِكر المشيئة هنا وفي هود دال

على ثبوت هذه الصفة لله تعالى لا غير، وأنه لا مكره له فيما يفعل، وقد أكد هذا

المعنى في سورة هود بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود: 107)

وكثيرًا ما تذكر المشيئة في القرآن لهذا الغرض؛ كقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ

إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) ، ومن أهل العربية من قال في استثناء سورة

سبح: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6-7) - وهو كالذي هنا

- لم يشأ الله أن تنسى شيئًا، وذكر ابن جرير هذا القول، وقال - وهو كقوله -:

{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107) ، ولا

يشاء، قال: وأنت قائل في الكلام لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء

أن أمنعك والنية ألا تمنعه، ولا تشاء شيئًا، وعلى هذا مجاري الإيمان يستثنى فيها

ونية الحالف التمام اهـ.

وترى المحدثين يقولون في السند: صحيح إن شاء الله. ويذكرونها غير

مقصود بها تعليق شيء عليها، بل يذكرونها فيما وقع تبركًا واستذكارًا أن ما شاء الله

كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه لا يشاء إلا ما وافق الحكمة.

فأنت - أيدك الله - ترى أن الأخبار عن الصحابة غير ثابتة، ولو ثبتت لما

كان فيها دليل على الفناء، بل تؤول على الخارجين منها، وترى الآيات القرآنية

مصرحة بخلود وأبدية أهل النار فيها، وأن الجنة محرمة عليهم، ودخولها محال

عليهم كدخول الجمل في سَمِّ الخياط، ولئن لم تدل هذه الآيات على كثرتها وذكر

ألفاظ بقاء أهلها فيها وتنوعها من الخلود للإقامة للأبدية إلى غير ذلك، لئن لم تدل

على بقاء النار وعدم فنائها بالمطابقة، فلعمر الله لقد دلت عليه باللزوم والاضطرار،

كدلالة وجود السقف على الجدار، فما داموا خالدين فيها أبدًا فهي خالدة أبدًا، إلا إن

ادَّعى مدع أن خالدين، وأبدًا، ومقيمًا، وما شاكلها لا تدل دائمًا على البقاء وعدم

التحول فيكون لنا إذن أن نرد هذه الدعوى بالكتاب والسنة أيضًا واللغة التي بها نزل

كتاب الله، وسننقض ما عدده ابن القيم رحمه الله من الأوجه في فناء النار، وما

أورده من الشبه إن اتسع المنار لذلك، وما قصدنا إلا إزالة شُبَه الذين يغترون بقوله،

والبقية تأتي إن شاء الله.

...

...

...

عبد الظاهر محمد أبو السمح

...

...

...

معلم - برمل الإسكندرية

(المنار)

نشرنا هذه الرسالة بنصها، وفيها تكرار وتطويل بالاستطراد ليس من

الموضوع، كالكلام في شدة عمر في الدين وضربه لأبي هريرة على تبليغ الصحابة

حديثًا صحيحًا حدَّث به بعد ذلك، ونقله أئمة الحديث وغيرهم حتى الكاتب لمن

يخشى عليهم من الغرور والاتكال ما لم يكن يخشى على أصحاب الرسول صلى الله

عليه وسلم ورضي عنهم، وكان جمهور الصحابة ينكرون على عمر هذه الشدة،

ولا حاجة إلى هذه الخطابيات مع إنكاره صحة الرواية عن عمر وعدم الاحتجاج

بقوله، فإن دفع هذه الخطابة سهل بأن يقال: إذا كان عمر قد قال ذلك فما قاله

وحاله ما ذكر الكاتب إلا لثبوته عنده واعتقاده أنه لا فتنة في ذكره، وكذا أبو هريرة،

فلعله في بقية الرد يجتنب التكرار والاستطراد وحكاية أقوال ابن القيم على

الطريقة التي جرى عليها في هذه النبذة، فإن القراء لا يراجعونها، ليفهموا المراد،

وخير منها أن يقسم الكلام إلى مسائل يبين ما يراه الحق فيها.

_________

(1)

المنار: أي: جمهورهم وإلا كان خطأ فالخلاف معروف.

(2)

بينا في الجزء الماضي مرادنا بهذا القول وغيره مما لم يفهمه المنتقدون من كلامنا، وكلام ابن القيم أيضًا.

(3)

المنار: يشير إلى أن الله تعالى قال فيهم هذا حين وقفوا على النار، فطلبوا الرد إلى الدنيا، ثم هو يقول: إن هذه دعوى مردودة بعد الفرق بين رؤية العذاب والوقوع فيه، ولكن الدعوى حق، وما ردها به باطل، فليس سواء ذوق العذاب ورؤيته، ومن الغريب استشهاده على طلب الرجوع إلى الدنيا بعد المكث في العذاب بما حكاه الله تعالى في قوله:(رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) وأول الآية (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)(المؤمنون: 99-100) إلخ، وأما الشاهد الثاني ففي محله.

(4)

المنار: أليس من أسمائه تعالى الخالق البارئ والخلاق فكيف جزم بانقطاع تعلقها، وخالف قوله في صفتي القهار والمنتقم؟ على أن القهار ليس بمعنى المعذب، والانتقام يصدق بكل عقاب، ويرد عليه أسماء أخرى كالعفو والغفور أيضًا.

ص: 379

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرحلة السورية الثانية

(5)

حال مسلمي بيروت الاجتماعية

قد أصاب مسلمي بيروت في سني الحرب ما أصاب سائر الطوائف في جميع

البلاد من تأثير مفاسدها التي أشرنا إليها في الفصول السابقة، ولكن حسنت حالهم

الاقتصادية فسبقوا غيرهم بمراحل، وهم وإن كانوا مع إخوانهم في الوطن فرسي

رهان في البراعة بالتجارة، قد امتازوا على النصارى واليهود في زمن الحرب بكون

نقودهم في صناديقهم، وجل نقود أولئك في المصارف الأوربية التي انقطعت المعاملة

بينها وبين البلاد العثمانية، وبكواتهم أجرأ على المجازفة، فاتسع علمهم وعظم

ربحهم، واشتروا أملاكًا عظيمة في بيروت ولبنان، وليس هذا ما نبغي من عقد هذا

الفصل، وإنما عقدناه للإلمام بحالهم العلمية والاجتماعية.

كانت بيروت في السنين الخالية دون دمشق وطرابلس في العناية بالعلوم

الغربية من شرعية وأدبية، وإنما كان يمتاز في الجيل والأجيال الواحد بعد الواحد

كالشيخ محمد الحوت الكبير الذي فاق علماء سورية المتأخرين بالعناية في علم

الحديث، والشيخ أحمد البربير في اللغة والأدب، وانتهت الشهرة في الجيل

الماضي إلى ثلاثة من فقهائهم وأدبائهم: الشيخ عبد الباسط الفاخوري المفتي، والشيخ

يوسف الأسير، والشيخ إبراهيم الأحدب، وهذا طرابلسي المولد والنشأة، واختار

الإقامة في بيروت بعد أن تخرج في طرابلس بالشيخ عبد الغني الرافعي الشهير،

وليست بيروت الآن بأقل من طرابلس في عدد طلبة العلوم الشرعية والعربية، ولا

في أضعفهم فيها، ولكن دمشق تفضلهما بما سنذكره بعد.

وأما الحال الاجتماعية، فقد تجدد فيها للمسلمين ثلاثة أمور ذات شأن كبير:

(أحدهما) في ترقي النساء المدني، و (الثاني) الاستعداد للاتفاق مع النصارى

والاتحاد الوطني معهم، و (الثالث) الميل إلى مجاراة من حولهم في التعليم

والتربية الملية، وإننا نقول في كل منها كلمة:

مسلمات بيروت

كانت المسلمات في بيروت أشد محافظة على التقاليد القومية من أمثالهن في

سائر المدن السورية، فلم تؤثر فيهن عوامل التفرنج الذي غلب على نساء

النصارى، لا النافع الصالح منها ولا الضار المفسد ولا عوامل التترك الذي سرى

إلى مسلمات دمشق، فكن أشد مسلمات سورية جمودًا، وكان رجالهن راضين بذلك،

ثم رغبوا في تعليم البنات، فأنشؤوا لهن مدارس ابتدائية، وأنشأت الحكومة العثمانية

مدرسة للبنات في بيروت، كان جميع تلميذاتها من المسلمات؛ لأن النصارى لا

يرغبون إلا في مدارس الإفرنج، ثم وجد في بعض شبان المسلمين الذين تعلموا في

المدارس الأوربية والأمريكية وأثَّر فيهم التفرنج ميل فَرْنَجَةِ النساء كان الرأي

الإسلامي العام يقاومهم فيه، وما زال صديقنا الأستاذ الشيخ مصطفى نجا مفتي

بيروت زعيم هؤلاء المقاومين على عنايته بتعليم البنات، وإشرافه عليه في عدة

مدارس، حتى إنه شديد الإنكار على تعليمهن العزف بآلة (البيانو) التي لا يكاد يخلو

منها بيت من بيوت الطبقات الوسطى في مصر، دع الطبقات العليا في الثروة،

ولما عني الاتحاديون من الترك بإفساد آداب مسلمات سورية جريًا على خطتهم التي

جعلوا من أوائل قواعدها أن الأمة لا يمكن تحولها من حال إلى حال إلا بهدم

عقائدها وأخلاقها وآدبها وتقاليدها، وجهوا كثيرًا من هذه العناية إلى مسلمات

بيروت، وحاولوا تعويدهن السكر والتهتك مع مخالطة الرجال، فكان الرأي العام

وتشدد المفتي وأنصاره مضعفًا لتأثير هذه العاصفة التي كان يخشى أن تدمر الدين

والآداب تدميرًا لا تقوم للأمة بعده قائمة إلا بإصلاح جيل جديد إذا تيسرت وسائل

الإصلاح.

لا شك في أن عاداتنا وتقاليدنا القومية في النساء والرجال؛ منها ما هو حسن،

وهو بقايا آداب الشرع وإصلاح الدين، ومنها ما هو قبيح ضار يجب تغييره

بالتدريج، وفي أن ما يراد من التغيير والتجديد في الأمة؛ منه ما هو حسن نافع لا

يمكن للأمة الإسلامية أن تجاري سائر الأمم في سعة العيش والعزة والاستقلال

بدونه، ومنه ما هو قبيح ضار مفسد لأمري الدين والدنيا جميعًا، ومن سنن

الاجتماع المطردة في البشر أن الإفراط في الأمور المتقابلة تظهر به مزية الوسط

المعتدل بينهما، وأن استعداد الجمهور الأعظم هو الذي يرجح أحد الطرفين

المذمومين، أو الوسط المحمود في العمل، والذي رأيته أن حظ بيروت في المسألة

النسائية كان أقرب في هذا الطور إلى الاعتدال.

في كل طبقة من المحافظين والمتفرنجين والمتوسطين إفراط وتفريط واعتدال

فغلاة الاتحاديين أمرهم فرط؛ إذ كانوا يرون التعجيل بإبطال جميع العقائد

والعبادات والعادات، وتكوين الأمة تكوينًا جديدًا في كل شأن، وزعيمهم الدكتور

ناظم وطلعت باشا، وكان من المعتدلين منهم أنور باشا؛ إذ كان يرى احترام الشعائر

الدينية والاستفادة من الرابطة الإسلامية، بدلاً من قطع روابطها، ويعتقد بعض

عارفي أمره أنه صار بمقامه في برقة صحيح العقيدة، محافظًا على الصلوات إيمانًا

واحتسابًا لا سياسة ورياء، وبذلك اتسعت مسافة الخلف بينه وبين أولئك الغلاة

وزعيميهم، ومن رجالهم المعتدلين عزمي بك الذي كان واليًا على بيروت في زمن

الحرب، وقد رأيت الناس فيها معجبين بما كان عليه من الحزم والعزم والعدل

والدقة في النظام، ويرون أنه لو كان عند الدول كثير من أمثاله لفاقت بها دول

أوربة.

وجه عزمي بك عنايته في بيروت إلى ترقية المسلمات في الحضارة العصرية

بالتدريج الذي تؤمن معه الفوضى الأدبية وتعويدهن حضور مجامع الرجال العلمية

والأدبية وسماع ما يلقون فيها من الخطب المفيدة والشعر العصري، وإسماعهم ما

تجود به قرائح المتلعمات منهن، ومشاركتهن لهم في الأمور الاجتماعية، ولولا أن

وجد في بيروت أحمد مختار بك بيهم يساعده على ذلك لضاع عزمه وخاب سعيه

على ما أوتي من قوة إرادة وسلطة كادت تكون مطلقةً.

كان لأحمد مختار بك بيهم جماعة من المرايا لم تجتمع في وطنه لغيره في

عصره، كان على كرامة بيته ومكانة عشيرته ذكي الفؤاد طلق اللسان جريء

الجنان صادق الوطنية والغيرة القومية عالي الهمة كبير المروءة حسن المعاشرة

عارفًا بزمانه وفيًّا لأصدقائه، فكان بذلك من زعماء مسلمي بيروت الذين يرجع

إليهم في المهمات، كما كان محترمًا عند سائر الطوائف بآدابه وحسن معاشرته،

فكان الناس يحبونه ويحترمونه ويحسنون الظن بإخلاصه حتى فيما ينكرونه من

شذوذ بعض أعماله وميله إلى التفرنج، فلم يكونوا يتهمونه بأنه يقصد بهذا إضعاف

مقومات أمته ومشخصاتها الملية ولا تقوية النفوذ الأجنبي فيها، فهذه المكانة التي

كان يعرفها لنفسه في قومه جرأته على مواتاة عزمي بك ومساعدته على ما قصد

إليه، بل استعان كل منهما بنفوذ الآخر على عمل يريانه نافعًا للمسلمين، بل لا بد

لهم منه في حياتهم المدنية العصرية، بل كانا يريان أن نساء المسلمين لا بد أن

يتركن الحجاب ويجارين غيرهن من نساء الملل في الحضارة العصرية، وأن

الخير لنا أن نبني ذلك على أساس متين؛ أي: جامع بين مصلحة الدنيا وصلاح

الدين، وإلا فعل التيار العصري فعله فينا بغير اختيار منا، فكان إثمه أكبر من

نفعه.

أنشأ الزعيمان ناديًا للنساء في سنة 1335 (1917م) وألّفا له جمعيةً من

كرائم المتعلمات منهن باسم (جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات) ، ثم أسس

هؤلاء الكرائم مدرسةً لتعليم البنات، وكان النادي يعقد اجتماعات نسائية يحضرها

النساء والمستحسنون لهذا العمل من الأدباء والأطباء، ويلقون فيها الخطب

والدروس التي اصطلح كتاب العصر على تسميتها بالمحاضرات، ويسمون من

أعضاء النادي الكرائم ما يلقينه فيه ويتحدثون معهن في المسائل الأدبية والاقتصادية

والصحية وتدبير المنزل والتربية، وإنما يكن مع الرجال سادلات على وجوههن

النقاب الإسلامبولي الأسود، لا سافرات، ويجلسن في جانب والرجال في جانب،

فهن قد سبقن في بدايتهن نساء مصر إلى هذه المحافل والمجامع التي كان يتمناها

قاسم أمين وإخوانه من زهاء ربع قرن مع مبالغتهن في الحجاب وكثافة النقاب،

حتى إن بعض الأوانس من أعضائه حضرن حفلة ذكرى مرور قرن على المعلم

بطرس البستاني في الجامعة الأمريكانية ببيروت، وألقت فيها عنبرة سلام وعادلة

بيهم فيها ما جادت به قرائحهن في الموضوع على الجم الغفير من الرجال والنساء.

دعاني أحمد مختار بك رحمه الله[1] إلى زيارة هذا النادي وإلقاء النصائح

والحكم فيه تعضيدًا له وإرشادًا للسيدات المسلمات، فإنهن يتمنين الاستفادة مني

كالرجال، وقد جرت العادة بأن ألقي في بعض مساجد بيروت ومجامعها خطبًا

ودروسًا في كل زيارة من زياراتي لها، فأجبته إلى ذلك.

زرت النادي أولاً، ثم أجبت دعوته إلى إلقاء نصيحة عامة فيه، وكان هذا

في يوم مشهود حضره بالدعوة كثير من النساء والرجال، ومنهم من لم يكن يلم به،

ولا يسمح لأحد من أهل بيته بالإلمام به، وألقيت فيه خطابًا مطولاً ذكرت فيه

خلاصة وجيزة عن حال النساء في مصر، وفوائد نهضتهن وغوائلها، وما ينبغي

للمسلمات السوريات في بيروت وغيرها من الاعتبار بها، وبينت فيه حالة العصر

الاجتماعية، وما ينبغي للمرأة المسلمة فيه من الجمع بين فضائل دينها وآدابه

ومعرفة ما يجب عليها لبيتها ووطنها وأمتها، وما يجب من تقديم الأهم فالأهم،

وهو تدبير المنزل وتربية الأولاد وما يتوقفان عليه من العلوم الكثيرة، فنال هذا

الخطاب استحسان جميع الأحزاب المختلفة في هذا الموضوع، وإنني أنشر هنا ما

ألقته رئيسة (جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات) التي تدير المدرسة والنادي

السابق ذكرهما ترحيبًا بي، وسأنشر في فرصة أخرى بعض ما ألقي في حفلاته

السابقة؛ ليقف قراء المنار على أفكارهن ودرجة تقدمهن.

***

ترحيب الرئيسة الفاضلة

سيدات النبل وسادة الفضل

إن جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات ترحب اليوم بضيفها الكريم العالم

الفاضل صاحب السيادة الأستاذ رشيد رضا، فهو الخطيب البليغ الذي طالما لهجت

الألسن بذكر مناره الذي أضاء العالم الإسلامي بأبحاثه العلمية المفيدة، وقد رأيناه

عند اجتماعنا به للمرة الأولى في مدرستنا خير نصير للمرأة؛ إذ أفاض علينا من

بعض حكمه ما يجعلنا نزداد نشاطًا بأن نعيد مجد السلف الصالح، فنستمد منه تلك

القوة الأدبية والمعارف السامية التي طالما تاقت النفوس إليها، ونضم إلى ذلك ما

يلائم حالتنا وتقاليدنا من الرقي العصري، فحبًّا بالاستفادة من ينابيع علمه وفضله،

فقد قامت هيئة جمعيتنا بدعوة حضرته ليلقي على مسامعنا محاضرة علمية تكون

خير ذكرى يحفظها نادينا لسيادته.

فباسم جمعيتنا أقدم الشكر لسماحته، ولكل من يعاضد صروح العلم والأدب،

ونخص منهم بالشكر حضرة الوطني الغيور الوجيه الفاضل السيد عارف النعماني

الذي تبرع بمبلغ مائتي ليرة لمدرستنا لتصرف في سبيل تعليم الفتيات البائسات

اللواتي يدعين إلى الله بأن يديمه عضدًا للإحسان، فسلام على كل روح أوقفت

لإعلاء الوطن وأهله.

...

...

... بيروت 12 ربيع سنة 1338

...

...

...

...

... خديجة بربير

***

خطبة النابغة الفاضلة الآنسة عنبرة سلام

سيداتي الكريمات وساداتي الأفاضل

خلق الإنسان للجهاد في هذه الحياة، فهو لا يزال يكافح الخطوب وينازل

العثرات، فتارة يروح تحتها، وتارة تكون له الغلبة عليها، وهو دائمًا في نزاع

مستمر مع القوى المحيطة به، ولكنه إما أن يجاهد في كسب معاشه وموارد رزقه،

فيدل على أنه إنسان حي في جسم المجتمع البشري، وإما أن يقوم بالنصرة العامة

على طرق مختلفة، وأشد هذه الطرق صعوبة ما كان يقصد منها تغيير معتقدات

فاسدة كانت في نفوس الناس أجيالاً طويلة، حتى قيَّض الله نابغة يعالج هذه المعتقدات

ويكافحها بأحسن منها، فهو العالم الحكيم والمجاهد العظيم.

لقد مضى على الأمة الإسلامية حينٌ من الدهر كانت تكتنفها به الجهالات

وتعمل في أعضائها أيدي الفساد، فقد ابتلاها الله بمن أضاعوا رشدها وأضلوها

سواء السبيل، أولئك قوم نصبوا أنفسهم لهدي الأمة فضيقوا عليها المسالك،

وأفهموها الدين بصورة لا تنطبق على الدين الحنيف بشيء، فخدروا أعصابها،

وأضعفوا بنيانها، حتى جاد الله عليها بحكماء ينبهون أعصاب العامة، ويهدئون

روع العقلاء، فأنجبت الأفغان للأمة ركنًا وسندًا، ونفحتها مصر الكريمة عضدًا

ومرشدًا، ولم تكن سوريا بأقل منهما حظًّا، بل هي تفتخر بأن كان من أبنائها من

غدا للأمة هاديًا، ولضعفها مداويًا، تتجه نحوه آمال المسلمين في أقطار المعمورة

فيجدون به مضيء سبيلهم، والآخذ بأيديهم إلى محجة الصواب.

إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى من يفهمها الدين المبين بأسهل الطرق وأقربها

تناولاً، إننا بحاجة شديدة إلى علماء يوفقون بين الدينيات ومبادئ العمران التي

وضعت عليها أساسات الدين، فلا يجعلون الدين بمعزل عن كل ما من شأنه أن يدعو

إلى الحضارة والتقدم حتى يخال للناظر البعيد كاللورد كرومر مثلاً، ذلك الرجل العظيم

الذي لم يكلف نفسه مؤنة البحث، بل اكتفى أن حكم على الإسلام بالمسلمين أنه ينافي

روح العصر والمدنية، وهو الدين الكريم الذي ملأ الأرجاء نورًا، ونفخ في العالم

روح حياة مدنت الأمصار.

ولن تنسى الأمة الإسلامية ما أحدثتها في نفسها تعاليم المرحوم السيد جمال

الدين الأفغاني الذي نسميه بحق المصلح الكبير وفيلسوف القرن الأخير، والذي جدد

للإسلام رونقه وبهاءه، وقد لاقى في حياته الإصلاحية من العثرات ما يثني عزم

الضعيف ويشحذ همة العظيم، فمر عليها جميعًا معليًا شأن الدين، ومثبتًا فلسفته

الدينية على أمتن الأركان حتى شهد له فلاسفة العالم الأوربي بمقدرته الفائقة، وعلو

كعبه في مباحثه الدقيقة، فأحلوه من الإكرام المقام الأسمى، وكان من النوابغ الذين لا

تجود بهم الطبيعة في كل حين.

ثم داوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ذلك الجهاد بتعاليم تروق للنفوس

فتغذيها بأبدع الأساليب، ففسر آيات الكتاب المجيد بصورة سهلة رائقة وعبارات

بسيطة واضحة لم يسبق لها مثيل اهتز لها العالم الإسلامي إجلالاً وإعجابًا، وإن من

فتاويه الكثيرة لما يأخذ بالألباب، ولست بالمحدثة الشهيرة، فأحدثكم عن تعاليمه

ومباديه، أو أروي فلسفته وفتاويه، بل يروق لي أن أذكر هنا قصة صغيرة تدل على

الأساليب البسيطة التي سار عليها الأستاذ الإمام، ويمشي في سبيلها الآن سماحة

خلفه الأستاذ الكبير: أسلم أحدهم مرة، فجاء الأستاذ الإمام يطلب إليه فقيهًا يعلمه

أصول الدين، فمضى عليه عدة أيام وهو يعلمه الشروح عن الماء الطاهر منه

وغير الطاهر أو المطهر، فجاء بعدها يشكو أمر هذه الشروح الطويلة إلى

الأستاذ رحمه الله فأجابه: اذهب يا بني فالماء الذي تشرب منه توضأ به.

على هذه الطريقة السهلة الفنية يثبت في أذهان القوم الدين القويم، ويسار بهم إلى

الإصلاح على صراط مستقيم، وقد جاهد رحمه الله في إصلاح شأن الأمة في

عدة سنين ما أفسده عليها غيره في قرون، فقال عنه السيد الأفغاني: إنه لمصر

أعز من جيش وأقوى من أسطول. وكان للأمة بأجمعها معزز جيوش عمرانها وقائد

أساطيل تجدد بنيانها.

ولم تحرم الأمة بعدهما يدًا قوية على الإصلاح، ولا عدمت همة عالية تلم

شعثها وتقوم معوجها، فكان من فضيلة الأستاذ الكريم الذي نتشرف بالاحتفال به

اليوم ومن مناره الأغر أمتن رابطة بين المسلمين في أنحاء الأرض المترامية

الأطراف، يؤثر في نفوسهم بجهاد متواصل عرفه له الخاص والعام، فقام أهل

الهند يحتفلون به ذاك الاحتفال الكبير، يظهرون به مشاعرهم نحو المجاهد العظيم،

وقامت البلاد الإسلامية تردد صدى آرائه السامية، وتقدم لجهاده ألوية شكرها وثنائها،

وأقر له بالفضل كثيرون، وشهد بجهاده العظيم الطبيعيون، فذكر الدكتور شميل

في كتابه فلسفة النشوء والارتقاء ما يعانيه أستاذنا الكريم في سبيل إفهام جهلة

المسلمين وعامتهم وإصلاح أحوال دينهم ودنياهم، وإننا جميعًا نعقد على إصلاحاته

آمالنا؛ لما له في القلوب من المقام الرفيع، ولأن لعلماء الدين من المقدرة على السير

بالأمة إلى أحسن سبيل، والأخذ بها في معارج الرقي ما ليس بقدرة غيرهم القيام به،

فعلى علماء الأمة تعلق الأمة الرجاء، يتقدمهم نبراسها المضيء بمناره الواضح.

وإن لي أخيرًا رجاءً أقدمه لسماحة صاحب الفضيلة والفضل، وهو توجيه

عامة المسلمين إلى حالة المرأة وحثهم على الاهتمام العظيم بأمر رقيها وإصلاح

شأنها؛ لأنها أم الأمة وبيدها تغرس شجيرات الخير والصلاح، فليأخذوا بها في سبيل

الفلاح بطريقة مثلى، وليعدوها للسير إلى ما تتطلبه طبيعة الأيام مع المحافظة

التامة على أخلاقنا الأساسية، فيكون لها في رقي الأمة شأن، وتكون في إصلاحها

العون والمساعد، وإنني أرجو الله أن يبقي لهذه الأمة عالمها الكبير يحمل لواء

جهاده العظيم، في رأسه قبس تستضيء به الأمة جمعاء في مشارق الأرض

ومغاربها.

...

...

...

... 4 ديسمبر سنة 1919

...

...

...

...

... عنبرة سلام

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

توفي في العام الماضي فكان لوفاته وقع أليم في بيوت شاركها فيه سائر البلاد السورية، وقد احتفل بجنازته بما لم يسبق له مثل في ذلك القطر.

ص: 390

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسألة المصرية في طورها الأخير

سبق لنا القول في تأليف سعد باشا زغلول للوفد المصري، وفي لجنة لورد

ملنر وما كان من أمرها مع الوفد ولجنة الوفد التي جاءت من باريس لعرض

المشروع على الأمة وخلاصة رأي الأمة فيه.

ثم إن تقرير لجنة ملنر صدر رسميًّا بنصه في 12 جمادى الآخرة هذه السنة

(20 فبراير سنة 1921) وفيه فوائد وعبر كثيرة، ربما نلم بشيء منها في فرصة

أخرى، وتلا صدوره بلاغ رسمي من الحكومة البريطانية هذا نص ترجمته:

القاهرة في 26 فبراير سنة 1921

إلى حضرة صاحب العظمة السلطان بسراي عابدين

يا صاحب العظمة

لم أتأخر عن إبلاغ حكومة جلالته الرأي الذي أبديتموه عظمتكم مرارًا عن

ضرورة وصول الحكومة إلى قرار في موضوع اقتراحات ملنر يتفق مع أماني

مصر والشعب المصري، تلك الأماني التي اشتهر عطف عظمتكم عليها.

ويسرني أن أبلغ عظمتكم قرار حكومتي، وإني متأكد أن هذا القرار يطابق

رأي عظمتكم، وهي تعيين وفد رسمي لأجل الشروع في تبادل الآراء مع حكومة

جلالته فيما يختص بالاتفاق المنوي عقده.

وإني أود بصفة خاصة أن أوجه نظر عظمتكم إلى روح حسن النية الذي

أظهرته حكومتي بقَبولها التساهل في أمر إلغاء الحماية قبل المفاوضات الرسمية.

وستقدرون عظمتكم أن هذا التساهل الكبير دليل صريح على الأهمية التي

تعلقها حكومتي على إقامة علاقاتها مع الشعب المصري على أساس ودي دائم،

وهذا نص قرار حكومتي الذي كلفت إبلاغه إلى عظمتكم.

إن حكومة جلالة الملك بعد درس الاقتراحات التي قدمها اللورد ملنر استنتجت

أن نظام الحماية لا يكون علاقة مرضية تبقى فيها مصر تجاه بريطانية العظمى،

ومع أن حكومة جلالته لم تتوصل بعد إلى قرارات نهائية فيما يختص باقتراحات

اللورد ملنر، فإنها ترغب في الشروع في تبادل الآراء في هذه الاقتراحات مع وفد

يعينه عظمة السلطان للوصول إذا أمكن إلى إبدال الحماية بعلاقة تضمن المصالح

الخصوصية التي لبريطانية العظمى، وتمكنها من تقديم الضمانات الكافية للدول

الأجنبية، وتطابق الأماني المشروعة لمصر والشعب المصري، وإني أغتنم هذه

الفرصة، فأكرر لعظمتكم تأكيد احترامي الفائق.

...

...

...

...

...

اللنبي

وبناءً على هذا البلاغ والاتفاق غير الرسمي في لندره على أن يكون عدلي

باشا يكن هو رئيس الوزارة التي تتولى تأليف الوفد الرسمي الذي يعقد الاتفاق بين

إنكلترة ومصر - استقالت وزارة محمد توفيق باشا نسيم، وألف عدلي باشا

الوزارة بالأمر السلطاني كما ترى:

الأمر السلطاني لعدلي باشا يكن بتأليف الوزارة

عزيزي عدلي يكن باشا

لقد كان من أقوى بواعث السرور لدينا إبلاغ أمتنا المحبوبة قرار الحكومة

البريطانية الذي تبلغ إلينا بواسطة حضرة صاحب المقام الجليل مندوبها السامي فيما

يتعلق بإلغاء الحماية، وتعيين وفد رسمي من جانبنا للمفاوضة في وضع اتفاق بين

البلدين، وإنا لنبتهج لهذا القرار الذي فتح الطريق لتحقيق الأماني القومية.

وبما لنا في ذاتكم من الثقة الكاملة قديمًا، وما نعهده فيكم من الرويَّة الصائبة

التي تستدعيها مهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه مسند رئاسة مجلس

وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدة لياقتكم، وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ

بتأليف هيئة وزارة جديدة تقوم باتخاذ الوسائل السياسية التي تقتضيها الظروف

الحاضرة وعرض مشروعه لجانبنا لصدور مرسومنا العالي به.

وإني أضرع إلى الله عز وجل بأن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا

ورعايانا بالخير والسعادة بحوله تعالى وقوته.

...

6 رجب سنة 1339 (16 مارس سنة 1921)

...

...

...

...

...

فؤاد

جواب حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا

يا صاحب العظمة: أتقدم لعظمتكم بجزيل الشكر على ما أوليتموني من الثقة

العالية؛ إذ تفضلتم بتكليفي بتأليف الوزارة في الظروف الحاضرة، وشرفتموني بتقليد

رتبة الرئاسة، لقد كان لي من جليل عواطف عظمتكم أكبر مشجع على قبول تلك

المهمة، ووضع إخلاصي كله في خدمتكم، وفي خدمة البلاد.

لذلك أتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم

الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل، حتى إذا صادف ذلك الاستحسان العالي،

يصدر الأمر الكريم بالتصديق عليه.

حسين رشدي باشا نائب مجلس الوزراء.

عبد الخالق ثروت باشا وزير الداخلية.

إسماعيل صدقي باشا وزير المالية.

أحمد زيور باشا وزير المواصلات.

جعفر والي باشا وزير المعارف العمومية.

أحمد مدحت يكن باشا وزير الأوقاف.

محمد شفيق باشا وزير الأشغال العمومية والبحرية.

نجيب بطرس غالي باشا باشا وزير الزارعة.

عبد الفتاح يحيى باشا وزير الحقانية.

إن الوزارة ستجعل نصب عينيها في المهمة السياسية التي ستقوم بها لتحديد

العلاقات الجديدة بين بريطانيا العظمى وبين مصر الوصول إلى اتفاق لا يجعل

محلاًّ للشك في استقلال مصر، وستجري في هذه المهمة متشبعة بما تتوق إليه

البلاد، ومسترشدة بما رسمته إرادة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي يرأسه

سعد زغلول باشا إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض.

ومما يوجب الارتياح أن تصريح الحكومة البريطانية بأن المفاوضات ستجري

على أساس إلغاء الحماية من شأنه أن يسهل مهمة الوزارة من هذه الوجهة، فإن

ذلك التصريح الذي يدل على حسن استعداد بريطانيا العظمى مما يدعو إلى الأمل

بأن المفاوضات التي ستحصل بهذه الروح ستفضي إلى اتفاق محقق للأماني الوطنية،

وتكون فاتحة عصر جديد بين البلدين شعاره المودة وتبادل الثقة، وسيكون للأمة

على لسان الممثلين لها في الجمعية الوطنية القول الفصل في هذا الاتفاق.

وبما أن هذه الجمعية ستكون أيضًا بمثابة جمعية تأسيسية، فإن الوزارة ستأخذ

على عاتقها تحضير مشروع دستور موافق للمبادئ الحديثة للأنظمة الدستورية،

وستحاط الانتخابات لهذه الجمعية بكل الضمانات التي تكفل تمام حريتها، وتنظم

بكيفية تحقق تمثيل رأي الأمة تمثيلا ًصحيحًا.

وفي هذا المقام تعرب الوزارة عن اعتقادها بأن الظروف الحاضرة تبرر

الإسراع في الرجوع إلى النظام العادي، وبأنها ستتمكن بفضل نفوذ عظمتكم من

رفع الأحكام العسكرية وإلغاء الرقابة في القريب العاجل، وإنا نعتمد على حكمة

الأمة في تسهيل هذا العمل الذي يحقق نجاحه أعز أماني الوزارة.

وإننا لندرك حق الإدراك ما تحتاج إليه البلاد من الإصلاحات الكبرى، بيد أننا

لتمسكنا باشتراك الأمة في وضعها نمتنع عن كل تغيير جوهري قبل تنفيذ النظام

النيابي الجديد، على أننا بتأييد عظمتكم لنا سنعنى بإدارة أمور البلاد، وننشط في

خير الطرق وأصلحها للمحافظة على مرافقها وتوسيع نطاق رقيها، وستكون

المسألة الاقتصادية الحاضرة موضوع اهتمامنا العظيم.

هذا، وإن الوزارة على يقين من أن هذا المنهاج يوافق المقاصد التي ما زالت

عظمتكم تصبو إليها لخير رعاياها، وهي ما تشعر به من عبء المسئولية الملقاة

على عاتقها، تأمل الوصول بمهمتها إلى النجاح المنشود، معتزة بعطف وتعضيد

عظمتكم، ومعتمدة على ثقة البلاد.

وإني لعظمتكم العبد الخاضع المطيع، والخادم المخلص الأمين.

القاهرة في 7 رجب سنة 1333 (17 مارس 1921)

عدلي يكن

وقد قابل الشعب هذا البيان بالسرور والابتهاج لتصريحه بالسعي إلى

الاستقلال الذي لا شك فيه بالاتفاق مع الوفد الذي يرأسه سعد باشا زغلول وفقًا

لرغائب الأمة، بل تنفيذًا لطلبها، وإلغاء الأحكام العرفية التي كان قد اشتد ختامها

بمحاكمة الوطنيين الذين اتهموا بالإرهاب والانتقام من المخالفين لهم في إثر

مظاهرات سنتي 1919 و1920 وحكم بالإعدام على أفراد منهم في مقدمتهم عبد

الرحمن بك فهمي سكرتير الوفد المصري ذو المكانة العالية في وطنيته، ولكن بدل

بحكم الإعدام الحكم عليه بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة، وقد سميت هذه

الوزارة وزارة الثقة، وقام الشعب لها، وفي مقدمتهم طلبة المدارس الذين هم دمه

الحي وعصبه الحساس بمظاهرات عظيمة، وقد بلغت رئيس الوفد المصري سعد

باشا زغلول بيانها الوزارة، ودعته لتأييدها في عملها - وكان في باريس - فعاد

بمن بقي معه من أعضاء الوفد؛ ليتولى العمل في الوطن بعد أن يقف على حال

الشعب وآرائه بعد أن غاب عنه زهاء عامين، فتلقته البلاد بضروب الحفاوة

والاحتفال ما لم يسبق لها نظير فيها، وربما عز نظيره في غيرها أيضًا، فكان ذلك

أكمل مظاهر الوحدة، وإجماعًا من السواد الأعظم على زعيم واحد، ولكن جراثيم

التفرق والاختلاف التي لحق بها الوفد في أوربة فجعلته فريقين: أحدهما يظاهر

عدلي باشا، والآخر يظاهر رئيسه، لم تلبث أن فعلت فعلها قبل أن تتم الاحتفالات

بالرئيس، وسنبين ذلك بما يزيل كل تلبيس ضللت الصحف به الجمهور.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 397