الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد السادس والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله تعالى أن جعلنا مسلمين، من أمة محمد خاتم النبيين، الذي أكمل به
الدين، وأتم نعمته على العالمين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
(أما بعد) فقد جرت عادتنا بافتتاح كل مجلد من مجلدات المنار بخطبة نلم
فيها ببعض المهمات في العالم الإسلامي من غيٍّ وفساد، وصلاح ورشاد، وأرى
أن أهم ما طرأ في هذا العام، إقدام الترك على نشر ترجمة للقرآن، وتصدي
حكومتهم الجمهورية لنشرها، لأجل أن تحل محل القرآن العربي الذي هو كلام الله
تعالى - فرأيت أن أفتتح المجلد السادس والعشرين بتحقيق الحق في هذه المسألة في
نفسها، وبيان الباعث عليها، ثم أُولي البحث في أجزائه بسائر ما يتعلق بها، كما
فعلت في تحقيق الحق في مسألة الخلافة من جميع وجوهها، (في المجلدين 23
و24) وأكتفي في هذه الفاتحة الوجيزة بأن أذكر قراء المنار بما أطالبهم به في كل
مجلد من إبلاغنا ما يرونه منتقدًا فيه، ونسأله تعالى أن يوفقنا للصواب ويؤتينا
الحكمة وفصل الخطاب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتنة الاستغناء عن كلام الله العربي
المنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ
لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) .
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف: 12) .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً
عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27-28) .
{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ} (فصلت: 1-3) .
{حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 1-4) .
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ
لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) .
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا
كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 192-199) .
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 102-103) .
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (الرعد: 37) .
(أما بعد) فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب، تجاوزن جمع
القلة إلى جمع الكثرة ، وعَدَوْنَ إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الأطناب،
ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التبديل ولا التحويل، بأن
الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه، على خاتم
أنبيائه ورسله، قرآنًاعربيًّا، وأنه هو الذي جعله قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي
أوحاه قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنًا عربيًّا، وأن الروح الأمين نزل
به على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل،
والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل، حال كونه قرآنًًا عربيًّا غير
ذي عوج، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به (أم القرى) ومن حولها من جميع
الورى، وأنه على إنزاله إياه قرآنًا عربيًّا للإنذار والذكرى، والوعيد والبشرى،
لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا أن أنزله حكمًا عربيًّا، وأمر من
أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل، الذي جعله
فيه حقًّا مشاعًا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا قوة ولا فضل، فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) اقرأ الآيات من 104 إلى 105 من سورة النساء بطولها،
وراجع سبب نزولها، فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية، وأنه حكومة دينية مدنية عربية، عربية اللسان، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان.
وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على محمد النبي العربي الأمين، الذي
جعله سيد ولد آدم وفضّله على جميع النبيين والمرسلين، بإكمال دينه بلسانه وعلى
لسانه وإرساله لجميع العالمين، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين، بقوله:
عمت رحمته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقوله
تبارك اسمه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) - وقوله تعالى جده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وقوله جل جلاله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج
الأكبر {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى ، ثم بما
حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد
به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة،
ليكونوا بنعمته إخوانًا لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات
الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة، فكتب صلى الله عليه وسلم كتبه إلى قيصر
الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب
وأمرائهم، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة، وبشرهم بأن نورها
سينتشر ما بين المشرق والمغرب، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم، وجميع دول
الإسلام من بعدهم، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته، في كلا قسمي شريعته،
عبادته وحكومته.
فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (آسية
وأفريقية وأوربة) بلغته العربية، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث
العقيدة، وضرورة إقامة الفريضة، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين،
وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين اللتين هما عنوان الدخول فيه، على أنهما
من أعمال الصلاة أيضًا، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام، عند جميع
تلك الشعوب والأقوام، بالإجماع العلمي العملي، التعبدي والسياسي إلا ما كان من
تقصير دولة الترك العثمانيين، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين، كسلفهم من
السلجوقيين والبويهيين، حتى بعد تنحُّلهم للخلافة الإسلامية، ورفع ألويتهم على
مهد الإسلام من البلاد الحجازية، فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية
التركية اللغوية ورابطة الإسلام، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب ، فإلغاء
الخلافة العثمانية فإسقاط دولة آل عثمان، وتأليف جمهورية تركية العصبية والتربية
والتعليم، أوربية العادات والتقنين والتشريع، وإبطال ما كان في الدولة من
المصالح الإسلامية، كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية
وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية لا دينية، وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلاً
باتًّا كما فعلت الشعوب الإفرنجية، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل
التجرؤ على كل ما ذكر، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام
مراعاة للشعب التركي المسلم، كما وضعوا فيه مواد أخرى تنافي الإسلام ، من
استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط، ومن إباحة الردة
واستحلال ما حرم الشرع، وظهر أثر ذلك بالقول والفعل، كالطعن الصريح في
الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة، وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين
والمسلمات، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات
عاريات، مائلات مميلات - إلى غير ذلك من منافيات الدين.
ولكن هذا كله لم يَرْوِ غليل العصبية اللغوية التورانية، ولم يذهب بحقدها
على الرابطة الإسلامية وآدابها الدينية العربية، بل كان مِن كيدها لها السعي لإزالة
كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه وعقله ووجدانه؛ ليسهل عليهم
سله من الإسلام بمعونة التربية الجديدة والتعليم العام، بل عمدوا إلى هذه الشجرة
الطيبة الثابت أصلها، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها، الممتد في
أعالي السماء فرعها، التي تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، عمدوا إليها لاجتثاث
أصلها، واقتلاع جذرها، بعد ما كان من التحاء عودها، وامتلاخ أملودها، وخضد
شوكتها، وعضد خصلتها، بعد أن نعموا بضعة قرون ثمرتها، وإنما تلك الشجرة
الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين، هي الزيتونة المباركة
الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، فإذا
مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35) .
وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة
حرمانه منه، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك، فإن تفاسيره
بلغتهم كثيرة، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها، وحظر
مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها؛ لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية،
وبالأحاديث النبوية العربية، وبآثار السلف الصالح العربية، وبالحكم والأمثال
وشواهد اللغة العربية، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية، ومن
أنفس الأمة التركية، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لِما عبروا عنه (بتطهير اللغة
التركية) من اللغة العربية، واقترح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية، وإذا
طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم فإنهم سينفذون هذا الاقتراح
قطعًا كما نفذوا غيره ، حتى استبدل قرآن تركي بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين،
على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع
المسلمين، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين، وكونه حجة الله تعالى عليهم
إلى يوم الدين.
أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم؟ أرأيت هذا البلاء المبين؟ أرأيت هذه
الجرأة على رب العالمين؟ أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم؟ أرأيت هذا الشنآن
والاحتقار لإجماع المسلمين؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنًا ونصف،
ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرق بلاد الإسلام في الفنون
العربية، والعلوم الإسلامية؟
لقد كان من تأثير ذلك ما هو أقوى البراهين على فوضى العلم والدين،
واختلال المنطق وفساد التعليم، والجهل الفاضح بضروريات الإسلام وشؤون
المسلمين، لقد كان أثر ذلك الجدال والمراء، وتعارض الآراء والأهواء وتسويد
الصحائف المنَشَّرة بمثل ما شوهوها به في مسألة الخلافة، وقد كان يجب أن
تكون مسألة القرآن أبعد عن أهواء الخلاف، للنصوص الكثيرة الصريحة فيها،
وإجماع السلف والخلف العلم والعمل عليها، وعدم شذوذ أصحاب المذاهب والفرق
حتى المبتدعة عنها، فقد كثر الخلاف والتفرق في الدين، وتعددت الأحزاب والشيع
في المسلمين، على ما ورد في النهي عن ذلك والوعيد عليه في الآيات الصريحة،
والأحاديث الصحيحة، وارتد بعض الفرق عن الدين، مع ادعائه بضروب من فاسد
التأويل، وسخافات من أباطيل التحريف، كما فعل زنادقة الباطنية وغيرهم، قبل
أن يَقْووا ويصرحوا بكفرهم، ولم تقُم فرقة تنتمي إلى الإسلام بترجمة القرآن، ولا
ضلت طائفة بترجمة أذكار الصلاة والأذان، لأجل الاستغناء بها في التعبد لله، عن
اللفظ المنزل من عند الله، وإنما قصارى ما وقع من الخلاف فيما حول ذلك من
فروع المسألة، ومن تصوير الفقهاء للوقائع النادرة، أنه إذا أسلم أعجمي مثلاً ،
وأردنا تعليمه الصلاة فلم يستطع لسانه أن ينطق بألفاظ الفاتحة ، فهل يصلي
بمعانيها من لغته، أم يستبدل بها بعض الأذكار العربية المأثورة مؤقتًا ، ريثما يتعلم
القرآن كما ورد في بعض الأحاديث، أم يصلي بترجمة الفاتحة بلغته؟ نقل الثاني
عن أبي حنيفة وحده مع مخالفة جميع أصحابه له ، ونقل عنه أنه رجع عنه إلى
الإجماع، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه عمل به (على أنه لا حجة في عمل
أحد ولا في قوله غير المعصوم) فكان هذا الإجماع العام المطلق مما يؤيد حفظ الله
تعالى للقرآن ، أراد ملاحدة الترك أن يبطلوه في هذا الزمان {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (الصف: 8-9) .
نشرت الصحف مقالات كثيرة في مسألة ترجمة القرآن ، رأيت أقلَّها وذُكر لي
ملخص بعض دون بعض ، فعلمت مما قرأت وسمعت أن أكثر ما كتب - إن لم يكن
كله - كان أصحابه بمعزل عن شر البدع التي طرأت في هذه الأيام، ولم يتجرأ
عليها مبتدع آخر منذ ظهر الإسلام، وهو الإتيان بقرآن أعجمي مترجم يستغني به
أهل تلك اللغة عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى ، بحيث لا كسب
للرسول المنزل عليه فيه، ولم يُكلَّف إلا تبليغه كما أنزل إليه بحروفه لا مجرد
معانيه، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخاف أن يفوته شيء عند تلقيه من
الروح الأمين، فأمنه الله تعالى من ذلك بمثل قوله: من سورة الأعلى 87
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى} (الأعلى: 6)، وقوله من سورة القيامة 16: 85-19
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) .
نعم قد ترك هؤلاء الكاتبون كلهم مكافحة شر بدعة ابتدعت في الإسلام،
وأرهفوا أسنة أقلامهم للجدال في أصل مسألة الترجمة التي حدثت منذ أجيال.
فقد ترجم القرآن لغير المسلمين بعض الذين تعلموا اللغة العربية منهم
كالمستشرقين من الإفرنج لغرضين:
(أحدهما) : للعلماء وهو العلم بما فيه لذاته، كدأبهم في البحث عن كل علم
ودين في العالم.
(وثانيهما) : لدعاة الدين (المبشرين) وهو الاستعانة بها على الطعن فيه
وهم متفاوتون في تراجمهم ، فمنهم من ضل عن كثير من المعاني حتى الواضحة
ضلالاً قريبًا في بعض وضلالاً بعيدًا في بعض آخر، كمن ترجم قوله تعالى:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: 1-2) بأن جميع البشر يكونون
بعد الزوال أو قبل غروب الشمس بزهاء ثلاث ساعات في حال رديئة وخسران! !
ومنهم من سدد وقارب في ترجمته إذ وضح بعض الآيات بتعليق يعترف به
باستحالة الترجمة الحرفية بلغته.
وأما المسلمون من العجم الذين خالفوا سنة أمثالهم من السلف فيما كانوا يتقنون
من دراسة اللغة العربية؛ لأجل فَهم الكتاب والسنة، وتعصبوا للغاتهم ، واعتمدوا
في فهم النصوص على الترجمة، فكانوا يقرؤون التفاسير العربية حتى الدقيقة
للتعبير منها كتفسير البيضاوي ، ويترجمونها بلغاتهم لطلبة العلوم، ومازالوا كذلك،
ومنهم من كتب تفسير الفاتحة وتفسير بعض سور الجزأين الأخيرين بالفارسية؛
لكثرة تلاوتها في الصلوات، فأحبوا أن يفهمها التالون لها، فعل ذلك الشيخ محمد
بن محمود الحافظي البخاري المتوفى سنة 732 ويسمى كتابه هذا (تفسير خواجه
محمد بارسا) ، ومنهم من فسر القرآن كله تفسيرًا مختصرًا كالشيخ حسن بن علي
الكاشفي الواعظ المتوفى في حدود سنة 900 ، كتبه بالفارسية وترجمه بالتركية أبو
الفضل محمد بن إدريس البدليسي المتوفى سنة 982 ، وهنالك تفاسير أخرى
وحواش على بعض التفاسير المشهورة باللغتين وغيرهما.
وقد طبعت في هذا العصر مصاحف في الهند طبع بين سطورها العربية،
ترجمة حرفية للألفاظ باللغة الأوردية، للاستعانة بها على الفهم الإجمالي، ولم
يترجمه مسلمو الهند بلغتهم ترجمة مستقلة تطبع وتقرأ تعبدًا بدلاً من القرآن العربي
المنزل من عند الله كما فعل الترك في هذه الأيام.
نعم ترجمه بعض مسلمي الهند من مبتدعة القاديانية في هذه السنين الأخيرة
باللغة الإنكليزية ترجمة يقولون: إنها أصح من جميع التراجم الإنكليزية - وطبعوها
مع القرآن العربي المنزل - لكنهم أدخلوا بدعتهم فيها كما نقل إلينا المطلعون
عليها من المسلمين، ولذلك لم يأذن شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بنشرها
في القطر المصري كما بسطنا ذلك في مقال آخر من المنار، وكان هذا المنع
هو السبب في إثارة الجدال والقيل والقال عندنا، فإن القاديانية في الهند
والذين انتحلوا ضلالهم بمصر - وهم قليلون - أنكروا ذلك على شيخ الأزهر
فشايعهم بعض الكاتبين ورد عليهم آخرون، ورأينا أن أكثر الكاتبين لا يعلمون أن
الترجمة الإنكليزية الجديدة هي لمسيحية الهند القاديانية الذين يزعمون أن زعيمهم
(غلام أحمد القادياني) هو المسيح الذي ورد في الأحاديث نبأ نزوله قبيل قيام
الساعة ، وأنه كان يُوحى إليه من سخافات النثر والشعر ما يعدونه معجزة له ، وما
هو إلا سخرية لمن يعقل من أهل اللغة العربية، وأن سورة الفاتحة تدل على
مسيحيته وعلى عدم انقطاع الوحي ببعثه خاتم النبيين، وأنه نسخ فريضة الجهاد
وما يتعلق بها من الأحكام خدمة للإنكليز، بل يزعمون أن الوحي لا يزال ينزل
على خلفائه من بعده، إلخ.
كما رأينا هؤلاء الكاتبين لا يعلمون شيئًا يُعتَدُّ به من أمر ملاحدة الترك
وعداوتهم للغة العربية وأهلها بغضًا في الإسلام - وأنهم يريدون تحويل الشعب
التركي العريق فيه عنه - وأنهم ما ترجموا القرآن إلا ليتوسلوا به إلى ذلك.
فكل ما جاء به المجوزون للترجمة من غير الضالين ببدعة القاديانية المرتدين
قد أيدهم وأيد ملاحدة الترك من حيث لا يدرون، ولو دروا لكانوا من أشد الناس
إنكارًا عليهم، فوقوعهم في فتنة تأييد المرتدين عن الإسلام يؤيد قول من عد معرفة
الناس من الأمور التي تعتبر في المفتي قاله: الإمام أحمد وغيره ، وقال المحقق ابن
القيم في بيانه: إن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم ، فإن لم
يكن فقيهًا فيه كان فقيهًا في الأمر والنهي ، ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح اهـ؛ وهؤلاء الذين تصدوا للإفتاء في هذه المسألة قد فقد
أكثرهم الفقهَيْن وأقلُّهم أحدَهما.
وأما النظريات التي استدلوا بها على جواز الترجمة بل على وجوبها كما
صرح به بعضهم ، فأكثرها سخف وجهل فاضح، والذي يستحق أن يبحث فيه منها
هو مسألة الدعوة إلى الإسلام، وما يتعلق بها من أحكام، وسنذكر من ذلك ما لعله
لم يخطر لأحد من هؤلاء المفتين ببال.
وإنا لنعلم أن الترجمة الإنكليزية التي أشرنا إليها يُقصد بها ما يقصده ملاحدة
الترك من ترجمتهم التركية ، فإن القاديانية على بدعتهم التي أخرجتهم من جماعة
المسلمين لا يبيحون التعبد بغير اللغة العربية ، بل قصدوا بها الدعوة إلى الإسلام
كما يفهمونه، وقد نشر الخوجة كمال الدين الهندي مدير المجلة الإسلامية التي
تصدر باللغة الإنكليزية في لندن (إسلاميك ريونو) لأجل الدعوة إلى الإسلام خطابًا
يخبر فيه العالم الإسلامي بأنهم ترجموا القرآن بلسان الإنكليز ، ويريدون طبعه
ونشره مع الأصل (أي القرآن العربي كلام الله) ، ويطلب منهم المساعدة المالية
على ذلك ، وعلى نشر المجلة، وقد نشرنا دعوته في الجزء العاشر من المجلد
السابع عشر (شوال سنة 1332) للمنار (ص793-795) ، وعلقنا عليها تعليقة
وجيزة نصحنا له فيها بأن لا يطبع ترجمة القرآن التي نوه بها إلا بعد عرضها على
جماعة من كبراء العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها، وعللنا ذلك بقولنا: فإن
رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية ، فيُخشى أن تكون ترجمته كثيرة
الغلط كغيرها، على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من التأثير والمعاني ما
تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال، وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن
يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو، وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد اهـ.
وكان من غرضنا عرض الترجمة على جماعة من كبار العلماء لفتح باب
تحرير هذه المسألة، ثم علمنا أن خوجه كمال الدين ليس هو المترجم، ثم بلغنا أنه
ترك المسيحية القاديانية إلى الإسلام الخالص، وقد صرح في مصر بالبراءة منهم
قولاً وكتابة ، ولكنه لا يزال يعتمد على هذه الترجمة في الدعوة إلى الإسلام
كالقاديانية، وقد سبق لنا كتابة أخرى في تعذر ترجمة القرآن على جميع البشر
ومباحث أخرى فيها.
وقد كثرت مطالبة الناس لنا بالكتابة في الموضوع من العلماء والفضلاء الذين
اعتادوا من المنار القول الفصل، والحز في المفصل، على ما يعلم بعضهم من
سبقنا إلى ذلك في مواضع من مجلدات المنار السابقة، ومن اطلاع بعض من كتبوا
في هذه الأيام على ما كنا كتبناه من قبل، وسماع بعضهم منا في ليالي رمضان ما
نراه من خطأ وصواب في المسألة، وإنما يبغي هؤلاء تفصيلاً يدحض الشبهات،
ويجلي الحق بالحجج الناهضة من جميع الجهات، كما فعلنا في مسألة الخلافة
العظمى، وأن ننشر ذلك في بعض الصحف المنتشرة لتذيع في الناس فوعدْنا،
على أننا قد كنا ألممنا بذكر هذه المسألة في الجزء الأخير من المجلد الخامس
والعشرين، ووعدنا فيه بالعودة إلى الكتابة فيها بالتفصيل، وقد كتبنا هذه العجالة
قبل مراجعة ما كنا كتبنا ومراجعة ما حفظنا لدينا من قصاصات الصحف فيما كتبه
أشهر الذين كتبوا في المسألة (ولعلنا نجد فيها من الحق ما لم يوجد فيما وقفنا عليها
من غيرها) ، فرأينا أن نجعلها مقدمة لِمَا سنكتبه بعد من التفصيل والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة في مسألة الخلافة وأحكامها والخلفاء
(س1-17) من صاحب الإمضاء في دهلي - الهند -بنصه وغلطه اللغوي
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) نحمده
ونصلي على رسوله الكريم) .
استفتاء
ما تقول أيها العلماء الكرام والحاملون لواء الإسلام في سؤال مسطورات
تحت:
(1)
هل حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) صحيح
أم لا؟
(2)
هل يعمل به في زماننا أم لا؟
(3)
إن قلتم لا فما دليل المنع من الكتاب والسنة؟
(4)
إن كان الحديث صحيح فهل يعمل به في هذا الزمان وهل يكون
نصب الإمام واجبًا في الملة المحمدية أم لا؟
(5)
هل يشترط في الإمام القرشية مطلقًا أو ما أقاموا الدين؟
(6)
إن لم توجد إقامة الدين في قريش (كما في بلادنا الهند) فهل يجوز
أن يكون الإمام من قوم آخرين أم لا؟
(7)
إن تغافل أو تجاهل قريش أو عوام الناس ، ولم يعملوا بهذه السنة فأية
طريقة تختار لإحياء هذه السنة وإلا فكيف؟
(8)
جماعة بغير إمام أو خليفة هل لهم حكم الجماعة أم لا؟
(9)
هل يكون الإمام صاحب السياسة والقدرة أو بدونهما؟
الاستفتاء الثانية
(10)
هل كانت الزكاة تجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم؟ إن كانت تجمع ففيم كانت تصرف؟
(11)
هل كانت تجمع على عهد الخلفاء الراشدين مثل ما كانت على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم وكم يأخذ الخلفاء الراشدون لحوائج حياتهم من هذا
يعني (الزكاة) وكيف كان استحقاقهم شرعًا؟ وكيف كانوا ينفقون إسرافًا أم
اقتصادًا ، وهل كان المسلمون يحاسبون الخلفاء في ذلك الزمن أو لا (أي في بيت
المال أم من الزكاة) .
(12)
كيف يفعل صاحب الزكاة في زمننا ، هل يؤديها إلى الإمام الشرعي
أو يقسمها بنفسه على الفقراء والمساكين كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ.
(13)
في أي شيء يجب على الإمام أن يصرف الزكاة ، وهل يصرف
مستقلاًّ بنفسه حيث يشاء أو بالشورى؟
(14)
كم يأخذ الإمام الشرعي لنفقة نفسه وعياله ، وهل يأخذ مستقلاًّ أو
بالشورى؟
(15)
إذا اتهم الناس الإمام بالجور في صرف الصدقة ، أو ثبت لهم أن
الإمام لا يصرف الزكاة حيث أمر الله بل يجمع ، فهل لهم أن يجبروه على وضع
الحساب عندهم أو لا؟
(17)
وإذا كان الإمام مخالفًا لسيرة الخلفاء الراشدين المهديين في تصرفه ،
وأيضًا في القول والفعل فهل يصح أن يبقى إمامًا أو لا؟
(الحقيقة) أن واحد العالم المولوي في بلادنا (الهند - الدهلي) ادعى أنه
إمام وخليفة الله ، وخلافته كخلافة الخلفاء الراشدين ، ومن لم يبايعه ومات بدون
بيعته مات ميتة جاهلية ، ويحذر الناس ويخوف المسلمين بوعيد هذا الحديث (من
مات وليس في عنقه بيعة إلخ) ويقول: إنه من لم يؤد الزكاة إلي فلن يقبل الله
زكاته وإذا اعترض الناس عليه أنه ليس بقرشي ، ولا صاحب السياسة والقدرة ،
وأنه لا يقدر أن يجري حدود الله لأنه محكوم ككافة المسلمين في الهند ، وأن الإمام
لا يصير إلا بانتخاب المسلمين وكثرة رأيهم ، أجاب أن السياسة والقرشية ليست
بضروري فصار تنازعًا وتخاصمًا واختلافًا كثيرًا بين المسلمين في هذه المسألة
الإمامة.
فعليكم أيها العلماء الإسلام أن تبينوا بالدلائل الواضحة والبراهين القاطعة
بالكتاب والسنة والكتب السير المعتبرة ، بينوا بالدليل تؤجروا عند الجليل.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المحقق الهندي
…
(المنار)
نجيب عن هذه الأسئلة بالإجمال الموجز استغناء عن التفصيل في أكثرها
بكتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي نشرنا فصوله في المنار ، ولأن سببها
إبطال ادعاء أحد صعاليك الدجالين للخلافة في الهند ، وهو لا يحتاج إلى كل هذه
الأسئلة ولا إلى التفصيل في أحكامها ، بل لولا عموم الجهل لم تحتجْ هذه الدعوى
السخيفة إلى سؤالٍ ما؛ إذ من المعروف أن الخلافة الصحيحة إنما تنعقد بمبايعة أهل
الحل والعقد من المسلمين لرجل مستجمع للشروط التي بينها العلماء في كتب العقائد
وكتب الفقه، وأن خلافة التغلب تحصل بمبايعة أهل القوة والعصبية لأي رجل
يؤيدونه وينفذون أحكامه - وكل من الأمرين محال وقوعه في الهند وهي مقهورة
تحت سلطان دولة أجنبية - وهذا المعتوه الذي ادعى الخلافة في الهند يظن بجهله
أو عَتَهه أن دعوى الخلافة من مجنون مثله كافية لوجوب اتباعه ، ودفع أموال الزكاة
وغيرها له يتمتع بها.
ولعل الذي أغراه بهذه الدعوى ما رآه من ادعاء الدجال غلام أحمد القادياني
للنبوة والرسالة والوحي والمعجزات ، وأنه مسيح الملة المحمدية ، فوجد من
المارقين والجاهلين الذين وُصفوا بأنهم (أتباع كل ناعق) من صدقه وصار له ولهم
دين جديد كمسيحية النصارى بالنسبة إلى شريعة التوراة.
أما الجواب عن الأسئلة الأربعة الأولى فهي أن الحديث صحيح رواه مسلم
عن ابن عمر مرفوعًا ، ويجب العمل به في كل زمان ، فنصب الإمام واجب في
الملة في هذا الزمان كغيره ، وجميع المسلمين آثمون بعدم نصب إمام تجتمع كلمتهم
عليه بقدر طاقتهم ، ومعاقبون عليه في الدنيا بما يعلمه أهل البصيرة منهم
وسيعاقبون في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وحده.
وأما الجواب عن الثلاثة بعدها فهي أن النسب القرشي شرط في الإمام الحق
مطلقًا بإجماع أهل السنة والشيعة ، بل سبق إجماع الصحابة على ذلك ولا يُعتد
بمن خالفهم من الخوارج وغيرهم ، وإنما ورد في الصحيح أنه يجب أن يُسمع لهم
ويُطاعوا ما أقاموا الدِّين إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والواجب على أهل
الحل والعقد حمل من قصر منهم في إقامة الدين على ما يجب عليه من ذلك.
وأما الجواب عن السؤال الثامن فهو أن الجماعة التي أمرنا باتباعها لا تسمى
جماعة المسلمين إلا إذا كان لها إمام بايعته باختيارها ، ومما يدل على ذلك حديث
حذيفة الذي رواه الجماعة كلهم وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال صلى
الله عليه وسلم (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك
الموت وأنت على ذلك) فلم يأمره بالتزام طاعة أي فرقة من فرق المسلمين الذين
ليس لهم جماعة ولا إمام يقيم الحق والقسط.
وأما الجواب عن التاسع فهو أن إمام المسلمين هو رئيس حكومتهم السياسية ،
ويجب عليهم أن يكونوا قوة وشوكة له بمقتضى مبايعتهم له ، وليس معنى قوة الإمام
أن تكون له قوة وعصبية قبل مبايعته وأن يبايع لأجلها كما توهم الكثيرون ، فإن
هذا أصل فاسد مفسد للدين والدنيا إذ مقتضاه أن الحق للقوة فكل قوي يتبع ويطاع
لقوته ، وإن كان ظالمًا عاصيًا له تعالى ، ويقر على سلبه الحق من أهله إلخ؛ وقد
وضحنا هذا في كتاب الخلافة.
وأما الأسئلة المتعلقة بالزكاة فجوابها أن الزكاة كان لها عمال في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يجمعونها من الناس ، وكانت تصرف في
مصارفها الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ؛ وللإمام أن يصرف بنفسه وأن يعهد بالصرف إلى غيره كما هو
شأن كل رئيس حكومة أو مصلحة أو شركة ، أما الشورى فإنما يحتاج إليها في
الوقائع والمسائل المشكلة التي ليس فيها نص صريح قطعي ، أو يتوقف تنفيذ النص
فيها على الوجه المطلوب على بحث ، ففي مثل ما ذكر كان الخلفاء الراشدون
يجمعون أهل العلم والرأي ويستشيرونهم، وعلى البلاد التي ليس فيها حكومة
إسلامية تنفذ أحكام الشرع في الزكاة أن يدفعوا الصدقات لمستحقيها بأيديهم ، وفي
مثل نجد واليمن يؤدونها للإمام.
وأما معاملة الخلفاء في نفقاتهم ومعاملتهم فهي منوطة بأهل الحل والعقد من
جماعة المسلمين ، وقد فرضوا للخليفة الأول ما يناسب حالة أمثاله في المعيشة من
حيث هو رجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ثروة كعثمان وعبد الرحمن بن
عوف ولا أدناهم كعمار بن ياسر، ويجد السائل ما يحتاج إليه من تفصيل لأحكام
الإمامة وأهل الحل والعقد في كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) .
***
الاحتيال على الربا بورق النقد
(س18) من صاحب الإمضاء
إلى حضرة الأستاذ الكبير صاحب الإمضاء المنير أدام الله فضله:
ورق النقدي يباع ويُشرى في الأسواق بقيمة غير محدودة ، فهل يجوز للإنسان
أن يبيع قسمًا من الورق النقدي متفقًا مع المشتري في أسعار أكثر من أسعار السوق
الحاضرة لمدة معينة أم لا؟ نرجوكم أفتونا عنها ولكم من الله جزيل السلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... كاتبه
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ياسين السيد
(ج) سبق لنا تفصيل لأحكام الأوراق المالية (بنك نوت) ، فنكتفي هنا
بأن نقول: إن هذه الصورة المذكورة في هذا السؤال ليست صورة بيع وشراء، بل
هي صورة دَين مؤجل بزيادة معينة في مقابل الأجل ، وهو عقد ربوي ظاهر
صريح ليس من قبيل الحيل التي اختلف فيها الفقهاء، وأما اضطراب أسعار ما
يُسمى الورق السوري فسببه معروف ، وهو يشبه فيه نقد الفضة التركي كالريال
المجيدي ، فإذا اختلف سعر الريال إذا صُرف بغيره من نقد المعدن أو الورق فهل
يبيح ذلك إعطاء مائة ريال لرجل على أن يرد لمعطيها مائة وعشرة ريالات بعد
أشهر أو سنة مثلاً؟ وهل يسمى هذا بيعًا؟ لا ، على أن بيع الربويات المختلفة
الجنس التي يجوز فيها التفاضل يشترط فيها التقابض في المجلس ، وإلا كان من
ربا الفضل الذي حرم؛ لأنه ذريعة لربا النَّساء المجمع على تحريمه.
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وَحدة الوجود
والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضًا من
قول أهل الوَحدة ، وهو مع كفره قول متناقض ، فإنه قد يعلم بالاضطرار من دين
الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد ، وأن أقوال المشركين الذين قالوا:
{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَداًّ وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:
23) والذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3)
والذين قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ
إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 53-54)، والذين قالوا: {حَرِّقُوهُ
وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 68) ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد.
وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجود إن كان أحدًا كان إثبات العدد
تناقضًا ، فإذا قال القائل: الوجود واحد وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان
هذان قولين متناقضين ، فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر ، وإذا قال قائل: الألسنة
كلها لسانه ، فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها ، وذلك يقتضي أن لا يكون
هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة ، وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم
فإنه ينقض قولهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد.
فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود
فهذا صحيح ، لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا
عين وجود هذا ، بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي
يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسم المنطقيون الكلي إلى جنس ونوع وفصل
وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون
أحد المشتركين ليس هو الآخر ، وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات
أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود ، فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا
لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مُبايَنة لوجود كل مخلوق من مباينة
وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر.
وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال: لا يعرف التوحيد إلا
الواحد وتصح العبارة عن التوحيد ، وذلك لا يعبر عنه إلا بغير ، ومن أثبت غيرًا
فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره تناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا
واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه ، وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه
ومن لا يعرفه ، وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من
يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا: من أثبت غيرًا فلا توحيد له، يناقض هذا ،
وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر
عن توحيده ، ورسوله عبر عن توحيده ، والقرآن مملوء من ذكر التوحيد ، بل إنما
أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد ، وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) ، ولو لم يكن عنه عبارة لَمَا نطق به أحد ، وأفضل ما
نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أفضل
الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال: (من كان آخر كلامه لا إله
إلا الله دخل الجنة) لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة
الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يُتَصور تحقُّقه في الخارج ، فإن الوحدة العينية
الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين ، ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى
أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد ، كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما
يتناول كل جسم وكل إنسان ، وهذا الجسم ليس هو ذاك ، وهذا الإنسان ليس
هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك.
وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً- التعبير عن التوحيد
يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله ، فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك
من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه
غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما
لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه ، ففي أحد الاصطلاحين يقال: إنه غير ، وفي
الاصطلاح الآخر لا يقال: إنه غير ، فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد
لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق ،
فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل
مخلوقة في غيره ، فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من
أعظم الإلحاد ، وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا. وإن
كان الواحد المعين لا يُكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها [1] .
وأيضًا فيقال لهؤلاء الملاحدة: إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه
لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما
يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله ، ومعلوم أن مَن جعل هذا صفة لله كان من
أعظم الناس كفرًا وضلالاً ، فمن قال: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل ، فإن
الصفات والأعراض لا تكون عين الوجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن
عربي يقول:
وكل كلام في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله ، وأما هذا
اللحيد [2] فزاد على هؤلاء ، فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده ، لم يجعل ذلك
كلامًا له بل يقال: أن يكون [3] هنا كلام له لئلا يثبت غيرًا له.
وقد عُلم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله
تعالى ، وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة
من صفات الله؛ ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح
الإنكار ، قال تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر:
64) ، وقال تعالى:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ} (الأنعام: 14) وقال تعالى:
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (فاطر: 3) ، وقال
تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114)، وكذلك قول القائل: وَجَدتُ المحبة غير المقصود لأنها لا
تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما
يكون إلا من عبد لرب ، لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا - هو كلام
فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يَخفى ، فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين
أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ
لِّلَّهِ} (البقرة: 165)، وقوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54)، وقوله:
{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 24)، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَّقِينَ} (التوبة: 4)، {يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح: (ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله
أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن
يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وقد أجمع سلف
الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له ، وهذا أصل
دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام ، وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن
درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال: أيها الناس
ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ
إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا
كبيرًا. ثم نزل فذبحه.
وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل
وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح ، فإن الإنسان يحب نفسه وليس
غيرًا لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثَم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق
والمؤمنون غير الله ، وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مُقدمتَي الحجة
باطلة قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم فإن الغير موجود ،
والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه؛ ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في
هذا ويقول كما قال ابن الفارض [4] .
وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب ، ولو أنصف الناس ما رأوا
عابدًا ولا معبودًا - كلا المقدمتين باطل ، فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد
نفسه بنفسه كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} (آل عمران: 18)
والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه ، فقد وجد نفسه بنفسه كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ} (البقرة: 163)، وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ} (النحل: 51)، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: 19) وأمثال ذلك.
وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض ، فإنه إذا لم يكن عابدًا ولا معبودًا بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله ، فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه:
الفقيرإذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله ، وقد صرح ابن
عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وَيَنْكَحُ
وَيُنْكَحُ ، وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك الكمال عندهم كما قال في
الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور
الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومًا عرفًا
وعقلاً وشرعًا ، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة (وقال) ألا ترى الحق يظهر
بصفات المحدثات ، وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق
يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد ، كما أن صفات
العبد من أولها إلى آخرها صفات لله تعالى.
هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك
الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا يعاملك بموجب مذهبك ، فيُضرب ويُوجع ويُهان
ويُصفع ويُظلم ، فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى قيل له: ما ثَم غير
ولا عابد ولا معبود ، فلم يفعل بك هذا غيرك ، بل الضارب هو المضروب والشاتم
هو المشتوم والعابد هو المعبود ، فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه ، قيل
له: فقل أيضًا عبد نفسه، فإذا أثبت ظالمًا ومظلومًا وهما واحد فأثبت عابدًا ومعبودًا
وهما واحد ، ثم يقال له: هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح ،
وهذا الذي شبع ورَوِيَ هو نفس هذا الذي جاع وعطش ، فإن اعترف بأنه غيره
أثبت المغايرة ، وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا ، فبين العابد والمعبود أولى
وأحرى ، وإن قال: هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية ، فإن هذا القول من
أقبح السفسطة ، فيقال: فإذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه
وأهلك نفسه ، والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء ، لكن جهة أمرها
ليست جهة فعلها ، بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات ، وكل أحد
يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظَلم ذلك ليس هو إياه وليس هو
بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه ، وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة
للمخلوقين من هذا لهذا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا وهم عند كثير من
الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق وأفضل أهل
الطريق، حتى يُفَضِّلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين، لم يكن
بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم بذلك أن
الضلال لا حد له، وأنه إذا كفرت العقول لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من
فرق في نوع الإنسان ، فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو من
شرار الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب،
بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين الذين يفسدون الدنيا
والدين.
والمقصود هنا رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال، وأما توبة مَن
قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن
عباده ويعفو عن السيئات ، ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات،
والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن
غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن
تاب ، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين ، وأما قوله:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فإنها
مقيدة خاصة؛ لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق
بمشيئة الله تعالى.
والحكاية المذكورة عن الذي قال أنه التقم العالم كله ، وأراد أن يقول: أنا
الحق، وأختها التي قيل فيها: إن الإلهية لا يَدَعُها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق
الله هو من هذا الباب ، والفقير الذي قال: ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إله
مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب، وسدد الخطاب؛ ولكن
هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله ، ويَدَّعون أنهم [5] من موسى وأمثاله ،
حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلَمَ وحسُن إسلامه ،
وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء ، ودعاه إلى هذا القول وزينه له
فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم ، وأن قولهم من جنس قول فرعون
فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال
نعم ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع
موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولمَ؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون ،
فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً
صادقًا ، قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمن
سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة ، أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول
فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود.
فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل ، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف
معناها وأنه باطل والواجب إنكارها ، فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من
المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون ، لا
سيما وأقول: هؤلاء أشرُّ من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها ، واعتقدها
كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 73) ، والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًّا من كفار أهل
الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قُدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى
صحيحًا ، فإن ما يحمل عليها إذا لم يُعرف مقصود صاحبها [6] وهؤلاء قد عرف
مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ، ولهم في ذلك كتب مصنفة
وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضًا ، وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع
في ذلك إلا جاهل لا يُلتفت إليه ، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن
الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل، فإن ضرر هذه على
المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من
ضرر السُّراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سُراق وخونة، فإن هؤلاء غاية
ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببًا لرحمته
في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله
وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله
ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين،
فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنًا وليًّا لله ، فيصير منافقًا عدوًّا لله ، ولقد
ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحاجِّ؛ ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى
قُبرُص فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون
بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى ، وهؤلاء يجعلوننا شرًّا من النصارى ،
والأمر كما قاله هذا القائل.
وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله ، وأن كلامهم كلام العارفين
المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم ، فمنهم من دخل في اتحادهم
وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق
بالمجهولات، وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين، وهم بمنزلة من يعظم أعداء
الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالي المشركين وأهل الكتاب،
ظانًّا أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال
المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين.
وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب، والله أعلم.
(انتهت الرسالة)
(المنار)
أرسل إلينا هذه الرسالة مع رسائل وفتاوى أخرى لشيخ الإسلام وناصر
السنة الإمام أحمد تقي الدين بن تيمية - قدس الله روحه - أخونا في الله الأستاذ
الفاضل الشيخ محمد بهجة الأثري البغدادي بإرشاد أستاذه صفوة أصدقائنا علامة
العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألولسي رحمه الله تعالى، وهي
منقولة بقلم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الفضيلي الزبيدي البغدادي عن نسخة
كثيرة الغلط والتحريف والسقط ، قال: إنه اجتهد في تصحيحها ما استطاع ،
ونقول: إننا اجتهدنا بعده ، فصححنا مما بقي من ذلك ما تيسر لنا ونبهنا على بعض
ما يتيسر في الحواشي ، ونحمد الله تعالى أن صار المراد منها كله مفهومًا،
فنسأله تعالى أن يثيب الجميع: المؤلف والناسخ والمرسل والمرشد والناشر
بفضله وكرمه.
_________
(1)
يعني أن السلف كفروا الجهمية ببدعتهم في الإلحاد بصفات الله وإنكار كونها معاني وجودية قائمة بذاته ، وزعمهم أن كلامه أصوات خلقها في سمع موسى وغيره.
(2)
كذا في الأصل ، فإن لم يكن محرفًا فهو تصغير لاحدٍ، وكيف يصغر الشيخ الأكبر؟ .
(3)
كذا في الأصل ، فيجر لفظًا ومعنى.
(4)
لم يذكر عن ابن الفارض هنا شيئًا.
(5)
سقط من هنا كلمة أعرف أو أعلم أو أفضل.
(6)
المنار: في الكلام تحريف وسقط والمعنى المفهوم من القرينة أنها إنما يصح أن تحمل على معنى صحيح تحتمله اللغة إذا لم يعرف مقصود صاحبها.
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
المقالات الجمالية
(4)
نبذة من مناظرة خيالية للسيد جمال الدين
قال جامع هذه الطائفة من المقالات الجمالية بعد المقالة الثالثة:
ثم انتقل (السيد) حفظه الله من لندن بعد نزوله بها بخمسة عشر يومًا إلى
باريس عاصمة الفرنسيس ، وكان ذلك في شهر يناير سنة 1883 عربية فتلقاه أهلها
بالقبول والإقبال ، ولم يَدَعوه يأخذ راحته حتى التمس أصحاب جرائدها العربية من
حضرته أن يطرز جرائدهم بشيء من غرره.
وقد وقفنا له على فصل من ذلك في جريدة (أبو نظارة زرقاء) ، وكانت
تفرغ الجد في قالب الهزل ، ولكنها لم تستوعب الفصل لضيق مجالها بل وَعَدَتْ
باستيفائه على التدريج في أعدادها التالية ، إلا أننا لم نقف لها على غير ذلك العدد
لعسر الحصول عليها؛ بسبب منع دخولها في البلاد التي نحن فيها ، وعلى ذلك
أثرنا عنها الشذرة التي تضمنها ذلك العدد من الفصل المذكور؛ حرصًا منا على
التقاط فوائد أستاذنا ، قال متعنا الله بطول حياته:
فقال صاحب المقالة: إنكم قد ضللتم عن رشدكم، وتُهتم في بيداء غِوايتكم،
وما يقوم لكم دليل في تقاعسكم عن الذود عن أوطانكم، ولقد غلب عليكم الجبن،
واستولى عليكم الضعف، وأضعف جمانكم الخوف والخشية، ألا ترون أن كل أمر
صعب عند الشروع فيه؟ ، أفلا تشعرون أن صعوبة المسالك بمقدار عظم
المقاصد؟ وأن الراحة محفوفة بالمشاق، وأن أفضل الأعمال أحمزها [1]
أفترضَون بالعبودية للأجانب، والاستكانة للأباعد، وإن موت المرء خير من
بقائه في هذه الدنيا مع قلة مدتها وسرعة زوالها، رقًّا لا يملك من الأمر شيئًا.
أتظنون أن هذا التعلل يدفع عنكم غضب رب الجنود، لا وحقه إنكم إن لم
تدافعوا عن أوطانكم بنفوسكم وأموالكم لا تنالون منزلة لديه، ولا تجدون مخلصًا
من سخطه، وتبقون في ذل العبودية ما دامت الأرض باقية (وكل عذاب دونه
لحقير) فتشجعوا وثبتوا أقدامكم، وسكنوا روعكم، واعلموا أن الظفر مقرون
بالصبر، وأيقنوا أن الراحة والسعادة في أثر المشقة، وأن سنة الله قد جرت من
الأزل، أن لا ينال الإنسان مرغوبه إلا بعد التعب، فلا تقدموا هذه الحجج
الداحضة، ولا تظهروا الفشل في طلب حقوقكم، ولا تتسربلوا الجبن فإن كل جبان
محروم، فاسعوا في اتفاق كلمتكم، واجعلوا صدوركم مِجنًّا لسهام أعدائكم، مجدين
في خلاص بلادكم، واعلموا أن الأمم الغابرة والحاضرة ما نكست رقابها ولا
كسرت أطواق العبودية إلا بتحمل المشاقّ والخوض في غمرات الموت اهـ.
***
كتاب له في الدفاع عن الدولة العثمانية
(5)
وكتب حفظه الله إلى صاحب جريدة البصير التي تطبع بباريس عاصمة
الفرنسيس ، وهو يومئذ لم يزل نزيلها ، وذلك في فبراير عام 1883 غربيًّا وربيع
الأول سنة 300 هجرية قال جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا:
سيدي الخليل بما فُطر عليه من العقل الغريزي الذي دلت عليه عقائل فكاره،
وأنبأت دقائق أفكاره عن فسيح مجاله وسعة مضماره، كان الواجب عليه قبل
الخوض في أحوال الشرق والسلوك في بيداء سياسته، وهتك الستر عن قبائح
رعاته وشنائع ساسته، أن ينظر ببصيرته الوقادة إلى ما أَلَمَّ بالشرقيين من البلايا،
وما أحاط بهم من الرزايا، فإنهم لتفريطهم في إصلاح شؤونهم من قبل قد أشرفوا
على الهلاك، وصاروا بعجزهم عن صيانة حقوقهم غرضًا لكل نابل، وطُعمة لكل
آكل، تستملك الأباعد بلادهم، وتستعبد رجالهم، وتستلب أموالهم، ولا ريب أن
الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال ، التي لا تُنال إلا بهمة
عالية تأبى العبودية، ولا نجاة لهم من هذه المصيبة التي تقهر النفوس، وتوجب
الذل والخمول، إلا بالتفافهم تحت راية واحدة على الذود عن حقوقهم، من دون
ملاحظة الاختلاف في الجنسية؛ لأنهم بتقارب أخلاقهم، وتلاؤم عاداتهم، وتوافق
أفكارهم، صاروا كأنهم جنس واحد، وإن اختلفت لغاتهم فخضوع بعضهم لبعض
مع تناسب طبائعهم لا يبعث على الذل والاستكانة، ولا يزيل النخوة التي هي
الداعية إلى كل فضيلة وكمال، وإذا تفرقت كلمتهم، وتشتَّتت قوتهم، لا يمكنهم
الخلاص من مخالب الذين ينتهزون الفرصة لاسترقاقهم، فيجب على كل شرقي
دفعًا لهذه النازلة، وصيانة لأمته من ذل العبودية، أن يسعى جمعًا للكلمة في تشييد
مباني الحكومات الباقية في الشرق، فإن الأجانب ما وضعوا أيديهم على بلد إلا
عاملوا أهله معاملة الآلة، ولهذا يمكنني أن أقول: إن سيدي الخليل في مقالاته التي
حررها إنهاضًا لهمم الأمة العربية ، وإن كان ما أراد منها الأخير أبناء جنسه، قد
حاد عن صراط السياسية القويمة بتعرضه للدولة العثمانية، وكان عليه أن يفقه أن
هذه الدولة في هذه الأيام، بمنزلة نظام لأجناس مختلفة من الشرقيين يحفظها عن
التفرق والضياع، ويمكِّن كل جنس منها أن يسعى رويدًا رويدًا في إصلاح شؤونه،
ويرتقي إلى مدارج عزه، على حسب كده وجده ، وإذا انقطع هذا النظام وتفرقت
الكلمة، وتشتت الجمع، واستقلت كل طائفة بأمرها فإنها لا تستطيع وقتئذ صون
نفسها عن تطاول الأجانب، ولا تطيق مقاومة الأباعد الذين لا يريدون إلا
استعبادهم، فيصبح كل هذه الأجناس عبيدًا أذلاء لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا،
فلا يُنتظر لهم إذًا كمال، ولا يرجى لهم فلاح أبدًا، وربما اضمحلت جنسيتهم التي
نيطت ببقاء لغتهم، وهذا الموت الذي لا بعث بعده ما دامت الأرض دائرة ، ولا
أشك أن سيدي الخليل لو لمح ببصره لرآني محقًّا في مقالتي هذه، ورجائي منه بعد
الإغماض عما جرى به قلمي أن يتخذ لكبح شِرَّة الأجانب اتفاق كلمة العثمانيين
مسلكًا لجريدته الغراء ، ويبني خدمته لعموم الشرق على أساس سياسته،لا زال
هاديًا للعباد إلى سبيل الرشاد اهـ.
قال جامع المقالات:
وقد كانت هذه الرسالة سببًا في عدول تلك الجريدة عن مشربها الأول ، إذ
كانت شديدة الانحراف على الدولة العثمانية كما هو مذهب كثيرين من بعض
الطوائف المستظلين بظلها لا زال وارفًا، ثم استقامت واعتدلت بعد أن التمست
لنفسها العذر عما كان من رأيها فيما أجابت به أستاذنا، ثبتها الله على صراطها
الأخير وألحق أمثالها بها، وأكثر في المسلمين من مثل سيدنا وأستاذنا وأطال بقاءه
للدين والدنيا.
_________
(1)
أحمز الأعمال أمتنها اهـ ، من القاموس زاد في شرحه وقيل: أمضها وأشقها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدين والسياسة
وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم
قد سبق لنا بحث كثير في موضوع هذا العنوان نشر بعناوين متعددة ، وفي
أثناء التفسير وغير التفسير من أبواب المنار، فقراء المنار يعلمون أن المدارس
الإفرنجية والمدارس المتفرنجة على اختلاف أنواعهما من تبشيرية أنشئت لدعوة
النصرانية، و (علمانية) أنشئت لمقاومة الأديان أو بمعزل عنها - ومن رسمية
للحكومات المتفرنجة كالتركية والمصرية - ومن أهلية أيضًا - كلها قد أخرجت
للشعوب الإسلامية نابتة مضطربة في أمر دينها ودنياها وسياستها وآدابها، يقل فيها
من يعرف دينه معرفة صحيحة، ومن يحافظ على آدابه وفرائضه تقليدًا أو على
بصيرة، ويقل في المتدينين منهم مَن يدري كيف يجعل ما استفاده من علوم
العصر وفنونه غذاء معنويًّا لأمته وقوة وعزة لملته؛ لأن أكثرهم لم يحصل من
العلوم والفنون ما يؤهله لعمل ينهض بالأمة نهوضًا ماديًّا أو معنويًّا ، وإنما تلقوا
قليلاً من المبادئ هم فيها مقلدون كما أن أكثرهم مقلدون في الطعن بدين أمتهم
لبعض ملاحدة الإفرنج مع الفرق العظيم بيننا وبينهم في ذلك، ولا سيما فيما يسمونه
الفصل بين الدين والسياسة، وفي براءة أوربة من التعصب الديني وهي مثاره
وأتون ناره.
ولكن يكثر فيهم الهادمون لبناء أمتهم وملتهم باحتقار مقوماتها التي كانت بها
أمة ذات صلة ممتازة كالدين والتشريع والأخلاق واللغة، ومشخصاتها التي تعد
مزيد رسوخ في مقوماتها وتميزها كالتقاليد القومية والأزياء الوطنية والعادات النافعة
وهم في هدمهم لبنيان أمتهم يحسبون أنهم يبنون لها بنيانًا جديدًا خيرًا مما بناه لها
التاريخ ، فكانت به أمة ممتازة في الوجود لها تاريخ عظيم فيه من دين بلغ الذروة
العليا في التهذيب، وشرع عادل رفعها فوق رؤوس الأمم قرونًا كثيرة، وفتوحات
شهد لها فلاسفة التاريخ من الإفرنج بأن تاريخ البشر لم يعرف لها مثلاً في جمعها
بين العدل والرحمة إلخ.
ولو كان لهؤلاء رسوخ قدم في العلم والحكمة وحظ عظيم من فنون العصر
لأحدثوا لأمتهم قوة وثروة يجددان مجدها، مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها التي
أشرنا إليها، بدلاً من محاولة قتلها وإعادة خلقها.
صدق على هؤلاء الهادمين وعلى المدارس التي تخرجوا فيها قول اللورد
سالسبوري الوزير البريطاني المشهور: إن هذه المدارس التبشيرية أول خطوة
لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها - فإنها تخَرَّج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في
عقائدها وأفكارها وتقاليدها فتحدث فيها صدعًا وشقاقًا تنقسم به على نفسها - على
تعبيرهم - فيقتلها هذا الانقسام بأيديها (أو ما هذا معناه) ، ولم يذكر اللورد
بالصراحة أن ما تحدثه هذه المدارس من إفساد العقائد يتبعه فساد الأخلاق وغلبة
الأفكار المادية ، وحب الشرف والزينة والشهوات على المتخرجين فيها ، فيحول
ذلك دون اتفاقهم حتى فيما يفتتنون به من أمور التفرنج.
وإننا نرى من مصداق كلامنا وكلام اللورد من قبل أن متفرنجة الترك قد
هدموا تلك السلطنة (الإمبراطورية) الراسخة الأساس، الواسعة المقياس، وانتهى
أمرهم إلى إمارة صغيرة طردوا منها الشعوب المسيحية، وهم الآن يقاتلون فيها
الشعب الكردي الذي يلي الشعب التركي في العدد والبأس والقوة، ونرى الشقاق
بالغًا غايته بين هؤلاء المتفرنجين المرتدين وبين أهل الدين والمحافظة على التقاليد
الإسلامية من الشعب التركي نفسه ، فحكومته تسفك ما بقي من دماء شبانها وتفني
بقايا ثروتها القليلة في مقاومة الفتن الداخلية والحروب الوطنية، ونرى من مصداق
ذلك أيضًا هذا الشقاق بين أحزاب الشعب المصري الذي بلغ غايته في هذا العام،
ولا يعلم غير الله ما سيكون من سوء مغبته إن دام.
من المعلوم عند كل من يعرف الإسلام أنه دين وتشريع سياسي قضائي ونظام
اجتماعي، وأنه حكم عربي كما نطق به كتابه المنزل، فإن كان من مثار العجب
أن يحاربه ملاحدة الترك إيثارًا للعصبية اللغوية على عصبيته ، بعد أن كان لهم به
من العزة والسلطان ما كان، ولم يكن لهم بلغتهم أدنى قيمة في الوجود ، فأعجب من
ذلك أن يقوم من متفرنجة العرب أنفسهم من يحارب الإسلام، بعد أن كان لأمتهم به
من المجد والملك والسلطان والحضارة والعلوم والآداب ما كان ، وكانوا به أئمة
لمئات الملايين من غير أبناء جلدتهم ، يقتبسون دينهم من القرآن العربي والسنة
العربية ، ويتدارسون اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها، ويحجون إلى
بُهرَة البلاد العربية يتقربون بذلك إلى الله تعالى ، وكل من لم يفسد التفرنج عليهم
أمر دينهم ، يفضلون الشعب العربي على شعوبهم ، حتى إن مسلمي الهند الصادقين
في الإسلام يفضلون استقلال العرب على استقلالهم وسعادة بلاد العرب وسلامتها
من عدوان الاستعمار على سلامة وطنهم.
مع هذا كله نجد بعض ملاحدة المتفرنجين من العرب يحاربون الدين
الإسلامي نفسه ، ويطعنون به ويصدون عنه، ويرون من تقليد الترك وغيرهم في
العصبية الجنسية أن يعادوا جميع الشعوب الإسلامية حتى الشعب الهندي الذي يدافع
عنهم، وتبذل جمعياتهم السياسية من الجهاد بالمال والنفس في سبيله ما لم نبذل
عشره جمعية عربية، ويعدون إمامهم في عصبيتهم هذه الشريف حسين بن علي
المكي وأولاده الذين كانوا بحركتهم العربية أكبر مصيبة على العرب وخدمة
للأجانب ، كما فصلناه في المنار وفي غيره من الجرائد بالبراهين التي لم يستطع
أحد من أنصارهم رد شيء منها.
ومن سوء الحظ أن الجرائد العامة تنشر لهؤلاء الملاحدة آراءهم حتى
للجاهلين منهم الذين لا يرجعون فيما يكتبون إلى شبهات علمية ولا سياسية تستحق
الذكر، أو تستأهل الرد، ومن ذلك ما رأيناه مرارًا في جريدة البيان العربية الغراء
التي تصدر في نيويورك عدة مقالات في ذلك كان آخر ما نُشر منها رد وطعن علينا
في خطتنا السياسية الإسلامية ، وفي فهمنا للدين وتفسيرنا للقرآن، والكاتب لم يقرأ
من تفسيرنا شيئًا، ولم يطلع على المنار أيضًا، ولو اطلع عليهما لا يفهم منهما
شيئًا مما نقصده فهمًا صحيحًا؛ لضعفه في اللغة العربية وجهله التام بنحوها وبيانها
كما تدل عليه عبارته المملوءة بالغلط ، وذكره لبعض آيات القرآن محرفة.. ثم
هو مع ذلك يسند إلينا من الأقوال الدينية والسياسية ما لم نقله بل ما قلنا ما يخالفه،
وينفي عنا من الأقوال والأفعال ما هو ثابت لنا ومعروف عنا ومنشور في مجلتنا،
وكذلك شأنه فيما ينقله عن غيرنا وما يسنده إلى التاريخ.
لهذا لم يخطر في بالنا أن نرد على شيء مما كتبه، وإن وقتنا لأضيق وأثمن
من أن يصرف في مثل ذلك، ولدينا من الأعمال ما هو خير منه وأنفع - ولكن
بعض كبار الكتاب السياسيين حملته الغيرة على الحق والخوف على أغرار قراء
تلك الجريدة الواسعة الانتشار ، فيقرؤها العوام والخواص أن يغتروا ببعض ما يكتبه
هذا الرجل - على كتابة رد طويل على نوع من مزاعمه الباطلة الضارة، كما أن
بعض الكتاب المدققين المطلعين على بعض أجزاء المنار والعارفين بسيرتنا في
السياسة العربية والإسلامية كتب ردًّا آخر دافع به عنا، ونشر كل منهما في جريدة
البيان نفسها، فنشكر لكل منهما غيرته، وننشر الرد الأول العام، لأنه مفيد
للخواص وللعوام، وهذا نصه:
***
العالم الغربي والعرب والإسلام
لا حيلة لك مع المكابر بالمحسوسات
قد كان الناس يتمثلون بقول القائل:
لي حيلة فيمن ينم
…
وليس في الكذب حيلة
من كان يخلق ما يقو
…
ل فحيلتي فيه قليلة
ولكن نسوا أن هناك من تقل معه الحيلة مثل الكذاب وأكثر وهو المجادل
المكابر في المحسوس ، الذي لا يجبن عن أن يقول للشمس الطالعة في رأد الضحى:
إنها ظلام، والذي يخلق أيضًا التواريخ لتأييد حجته وينكر الوقائع الثابتة المشهودة
لتأييد حجته، ويتخيل ويخيل الأمور على ما يريده هو لا على ما هي عليه في
الواقع، يهجم على المسائل التي يكاد يعرف منها شيئًا كأنه قتلها علمًا، ولا يتوب
بعد أن يكون ظهر خطؤه في قضية أن يتوخى المكابرة في قضية أخرى ومن الأول
إلى الآخر قصارى كلامه (عنزة ولو طارت) .
فمن العبث أن تقول له: إن الناس لا تقدر أن تعيش بلا دين ، وإنه لم يعهد
إلى اليوم أن شعبًا عاش بدون دين ، وإن أوربا باقية على نصرانيتها، وإن التعليم
المسيحي لا يزال يعلم في أرقى المدارس والكليات في أرقى الممالك من شمالي أوربا
مثل إنكلترة والدانمارك وهولندة والسويد وألمانية، وإنهم يعلمون كون المسيح
هو ابن الله إلى هذه الساعة، وإنهم لا يريدون أن يعرفوا أنفسهم إلا مسيحيين.
ومن العبث أن تقول له: إنه حيث كان الدين لازمًا للشعوب فهو في نفسه قوة
عظيمة لا تقدر حكومات هذه الشعوب أن تتعرض لها بمهانة أو بجهالة حتى لا
يصيبها من أجل ذلك ضرر، وتحصل هزاهز وفتن، وإنه ليس من باب خلط
الدين بالسياسة أن يلجأ رجال السياسة إلى الدين، إما في تهذيب الأخلاق أو في
السعي لتوهين روح الإجرام والدعارة، أو في النضال عن استقلال الأمة، أو في
تقوية الروابط مع أمم أخرى ، والاستفادة من تلك الروابط المؤثرة والعوامل الراهنة
التي ليس إنكارها إلا محض حماقة.
ومن العبث أن تقول له: إن أوربة الراقية لم تهمل أيضًا هذه الروابط ولا
استخفت بها ولا وجدتها بدعة في السياسة، وإن ملك إنكلترة الراقية العظيمة بل
العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية، وإن
إمبراطور ألمانية هو رئيس الكنيسة اللوثيرية، وإن إمبراطور النمسة كان على
رأس مملكة راقية جدًّا ، وكان يُخاطَب بـ (ذي الجلالة الرسولية) إشعارًا بصفته
الدينية، وإن المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلترة وهامة حزب الأحرار كان
قسيسًا ، ومن أشد الخلق تدينًا لا بل تعصبًا، وإن دولة فرنسة التي يقال: إنها لا
دينية تنعت نفسها (بحامية النصارى) في المشرق ، وإن غمبتا ركن الجمهورية
والسياسة اللادينية كان قد قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً: (عداوة رجال الدين
ليست من بضائع التصدير) وإنه إن لم يكن الدين رابطة فأية رابطة بين فرنسة
والموارنة وهم ليسوا بلاتين ولا بأوربيين ، بل هم آراميون ساميون أبناء عم
العرب وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم ، عبثًا
تقول له ذلك؛ لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح ، وأوربا تركت الدين.
وكذلك من العبث أن تقول له:إن الأوربيين الذين تقول: إنهم نبذوا الدعوة
الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية ، ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ
ما يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند؟ أفلم
تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس ورومية؟ أفما قرأت ماذا كانوا
يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنكليز أثناء الحرب العامة من كون ذلك هو
الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية
التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة
الحرب الصليبية على يده؟ أفما عرفت أن الجنرال غورو نفسه كان لأول وصوله
إلى بيروت وعند الاحتفال بقراءة أمر تعيينه ألقى خطبة أشار فيها إلى الحرب
الصليبية ، وقال: إن بداية علاقات فرنسة بسورية هي من أيام الحرب الصليبية؟
أفما عرفت أن الذي عين غورو على سورية هو نفس كليمنصو الذي هو عدو للدين
المسيحي ولكنه ليس بعدو للسياسة التي قد ينفعها الدين المسيحي؟ أفما علمت أن
سبب صرف (ويغان) وهو كاثوليكي أيضًا وإرسال سرايل [1] مكانه هو لكون
الوزارة الحاضرة علمت أن عدم نجاح فرنسة في سورية ناشئ عن أسباب عديدة
من أهمها: اعتقاد المسلمين أن فرنسة لا تزال تابعة هناك سياسة دينية لهم عليها
دلائل كثيرة من مثل بناء الكنائس بأمر السلطة المحتلة في بلدة درعا ، والاحتفال
بتنصير من يتنصر من السنغاليين ، وتقديم اسم النصارى على اسم المسلمين من في
الدفاتر الرسمية ، وكذلك تقديم بطريرك الموارنة على مفتي الإسلام في المحافل ،
وتهديد المفتي بما يسوءه إن أبى الخضوع لهذه القاعدة ، فأراد المسيو هريو أن
يسهل مأمورية فرنسة في سورية ، بإقصاء المندوبين الذين ينفرون المسلمين
بسياستهم الكاثوليكية ، وإرسال مندوب سام معروف بكره الأكليروس تزلفًا إلى
الإسلام، ومع هذا لم يخْلُ هذا الانتخاب من إثارة الاعتراضات من جهة الأحزاب
الوطنية بفرنسة ، حتى إن المسيو ميلران رئيس الجمهورية السابق اعترض عليه
في خطابه.
ومن العبث أن تقول للمكابر في المشهودات: إن الشيء الذي أنت تبرئ
أوربة منه وتتحمل له صنوف التأويلات إذا وقع لا تتنصل أوربة منه ولا تجده
إرَّا، وإن بعض وزراء الإنكليز صرح أثناء حرب البلقان بكونه مغتبطًا
برجوع مدينة سلانيك إلى النصرانية؛ لكونها من مهاد النصرانية ، وإن الدول
البلقانيات الأربع عندما أعلنَّ الحرب على تركيا كان بلاغهن متضمنًا أن حربهن
لتركيا هو حرب الصليب للهلال، ولو علمت تلك الدول أن بلاغًا مفرغًا في هذا
القالب يسوء وقعه في أوربة ما كانت حررته بهذه الصورة ، بل لك أن تقول: إنها
ما حررته بهذا الشكل إلا استمالة للرأي العام الأوربي ، ولا تنس خطاب ألفونسو
الثالث عشر ملك أسبانية الذي كان من جملة نقاط القدح الذي قدحه فيه
الكاتب الروائي الأسبانيولي بياسكو إيبا نيز هو قول الملك: (إن أسبانية اشتهرت
من القديم بقتال المسلمين ، وهذه النوبة هي مصممة على أن لا تترك قتال
مسلمي الريف حتى تنصب الصليب هناك محل الهلال) وغير ذلك من الألفاظ
التي يقول الكاتب الأسبانيولي: إنها زادت هيجان المسلمين ، وكانت السبب في
إتلاف الألوف من مهج الأسبانيول ، وإن الملك مسئول عن ذلك بحماقته - أي
بإعلانه ما كان يجب أن يُعمل ولا يُعلن - ومع كون إيبانيز أصاب في انتقاده ، فهو
اليوم تحت المحاكمة في فرنسة من أجل طعنه بالملك ألفونسو هذا.
ومن العبث أيضًا أن يستشهد الإنسان على عواطف أوربة الدينية ، بل على
سياستها الدينية بما تبذله الحكومات من الأموال الجزيلة في المستعمرات مساعدة
للبعثات الدينية الساعية في تنصير أهالي آسية وأفريقية ، ولو كان المراد
تنصيرهم هم الفتيثيين أو الوثنيين لكان هذا نعم العمل ، لكن البعثات الدينية غير
مكتفية بتنصير الوثنيين بل تدأب أيضًا في تنصير المسلمين بجميع الوسائل ،
وتسابق المسلمين إلى استمالة الوثنيين منادية بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو
أسلم الوثنيون.
وإنك لتجد في أواسط أفريقية وغربيها وجنوبيها وماداغسكر وشرقي أفريقية
بعثات دينية بروتستانية وكاثوليكية ، لا تعد ولا تحصى كلها تنفق القناطير المقنطرة
من الذهب ، تحميها حكومات أوربة وأميركا بأجمعها ، وتؤيدها بالأموال والنفوذ
وبكل وسيلة ، وقد تتعرض للدعاية الإسلامية بقدر الإمكان وتضيق عليها ، كما فعل
ضباط الإنكليز في الأوغاندة عندما رأوا انتشار الإسلام بين أهالي تلك البلاد ،
فوقفوا سدًّا حائلاً في وجهه ، بل قاوموا البعثات الكاثوليكية ، ليخلو الجو للدعاية
البروتستانية، وكذلك الحكومة الفرنسية في ماداغسكر تقاوم دخول من يدخل من
الماداغسكريين في الإسلام ، ولا تريد أن تعترف رسميًّا بوجود مسلمين في تلك
الجزيرة حتى لا يتحول جانب كبير من أهلها إلى الإسلام ، فأنت ترى من هذا
وغيره وألف مثال يضيق المكان عن استيفائها أن السياسة الأوربية ليست بمعزل
عن الدين ألبتة ولو كابر المكابر وناكر المناكر.
وقد يقول: إن هذه الحماية التي تبسطها حكومات أوربة للرسالات الدينية
المنتشرة في كل أفريقية وآسية وجزر الأوقيانوس إنما تقصد بها مآرب استعمارية
لا دينية محضة ، وهذا لا يضر شيئًا في جوهر الموضوع ، بل يزيد موضوعنا
تأييدًا وهو أن رجال السياسة ولو كانوا في أنفسهم غير متمسكين بالدين ، يقدرون
قدر نفوذه على الخلق ، ويجتهدون أن يستثمروه لفائدة حكوماتهم.
ومن الفضول أن نذكر للمكابر ما بذلته حكومة هولندة من المساعي في تغيير
عقائد مسلمي الجاوى وسومطرة بواسطة الرسالات التبشيرية ، وكونها وقفت
لتنصير بضعة عشر ألف مسلم ، ولكن لمّا رأى الهولنديون أن هذا العدد قليل
بالقياس إلى الخمسة والثلاثين أو الأربعين مليون مسلم القاطنين بتلك الجزائر خطر
ببال بعض نواب مجلس الأمة في هولندة أن يقترحوا على الحكومة عدم الاعتراف
بإسلام أكثر من خمسة ملايين منهم ، وهؤلاء الذين أسلموا منذ أربعة قرون، وأما
الذين أسلموا منذ القرن الماضي أو الحالي فلا يعتبرون مسلمين ، ولم يمنع الحكومة
الهولندية أن تأخذ بهذا الرأي سوى قيام بعض العقلاء المحنكين ممن خبروا أحوال
تلك البلاد ، وتحذيرهم من العمل بهذا الرأي الذي إن كان له أقل حظ من الإجراء
ثارت هناك ثورة لا نهاية لها ، وقالوا لأولئك المقترحين: إن الخمسة والثلاثين
مليون مسلم هناك القديم منهم في الإسلام ، والحديث هم في درجة واحدة من
الاعتصام بدينهم ، فلا نجني من هذا الرأي إلا الثورة ، فيا ليت شعري إذا كانت
هولندة لا فرق عندها بين المسيحي والمسلم ، ولا تنظر إلى الدين فلماذا يهمها إلى
هذه الدرجة أن يخرج رعاياها المسلمون من الإسلام فيما لو أمكن؟ ولماذا تخصص
فرنسة في جزائر الغرب جوائز لا تُعطى إلا للأوربي أو اليهودي أو المسلم الذي
يرضى أن يتنصَّر؟
وليقل لي المكابر أي علاقة من جهة القومية أو الوطنية بين الإنكليز وبين
النساطرة في العراق حتى نظمت منهم جيشًا ، واتخذتهم لها بطانة منذ أول احتلالها؟
بل أية علاقة بين الإنكليز والأرمن إن لم تكن العلاقة الدينية؟ فإن قيل: إن
سبب انعطاف الإنكليز وسائر الأوربيين نحو الأرمن هو كونهم أصيبوا ونكبوا وتلك
المذابح التي جرت ، أجبناك أفلا توجد أمم وأقوام إسلامية أصيبت ونكبت وذبحها
المتغلبون عليها بعشرات الألوف ، فهل هز ذلك من أوربا أقل عاطفة؟ أفلم يُنكَب
الجركس وأهل الطاغستان سنة 1866 وأجلى منهم الروس بقية السيوف وهم
نصف مليون نسمة إلى الأناضول ، فمات أكثرهم بالحمى والجوع، فمَن مِن أمم
أوربة اهتز لمصيبتهم؟ أفلم يذبح الأرمن هؤلاء عشرات ألوف من مسلمي شرقي
الأناضول؟ وروى القائد العام الروسي الذي كان يحارب الأتراك في جهة أرضروم
أنه لولاه لم يدع الأرمن مسلمًا واحدًا بعد انهزام الأتراك عن أرضروم وطرابزون
ووان ، وورد في تقاريره وتقارير غيره من قواد الروس إلى حكومتهم - وهي
تقارير قد طبعت بعد الحرب - تفاصيل فظائع أوقعها الأرمن بالمسلمين ، لا يكاد
الإنسان يصدقها لولا ورودها في تقريرات رسمية من قواد الجيش الروسي أعداء
الترك إلى مراجعهم ، يخبرونهم بوقائع الحال ، ومن جملتها أن الأرمن كانوا
يجمعون المئات والألوف من الأتراك والأكراد إلى الجوامع رجالاً ونساء وأطفالاً ،
ويشبون فيها النار فتحترق بكل من فيها ، وأنهم كانوا يحفرون أخاديد وحفرًا يدفنون
فيها المسلمين أحياء بين رجال ونساء وأطفال (وفي مرة أخرى نذكر هذه الوقائع
تفصيلاً نقلاً عن تقريرات القواد الروس؛ لأنها ليست تحت يدي في هذه الساعة)
وفي أحد المواضع التي ذهب عن بالي اسمها الآن دفنوا ثمانمائة نسمة أحياء منهم
كثير من النساء والأطفال.
هذه شهادات الروس عدا شهادات غيرهم ممن شهد بعينه من الإفرنج ، وروى
الحق فلندع جانبًا شهادات الأتراك ، وهذا لا يمنع قولنا: إن الأرمن أيضًا ذاقوا من
النكبات ما هو عبرة في التاريخ ، وخلت منهم جميعًا الأناضول، ولسنا نحاول
تخفيف أخبار مصائبهم ، ولكننا نقول: إن أوربة تهتز كلها لمصيبتهم ولا تتحرك
لها عاطفة تذكر لمصيبة المسلمين فلماذا؟ أتراه لكون الأرمن أوربيين؟ كلا ، إن
هو إلا لكونهم مسيحيين ، وربما قيل: إن أوروبة ربما لم تكن تعلم بما وقع من
المصائب على المسلمين ولو علمت ذلك في حينه لم تتأخر عن إغاثتهم، وجواب
هذا بل أوربة كانت محيطة علمًا بكل شيء ، وأتذكر أنني قرأت تلغرافًا في جريدة
الطان بتاريخ أحد أيام تموز سنة 1920 واردًا إليها من مراسلها في القوقاس يذكر
المذابح التي قد أوقعها الأرمن بالمسلمين في بلاد أريفان ، وأنهم في يوم واحد ذبحوا
منهم عشرة آلاف، وأن مئات ألوف منهم جلوا إلى إيران وآذربيجان وكرجستان
إلخ ، ومثل ذلك المذابح التي أوقعها الأروام بالترك في ولاية أزمير وبنفس أزمير
ولا سيما بايدين، وقد كانت بمرأى من كثير من الأوربيين، وأقام بعضهم أشد
النكير عليها، وبعد ذلك طلبت حكومة الآستانة من أوربة التحقيق بواسطة لجنة
دولية ، فذهبت وفحصت وثبت وقوع المذابح ، وعادت فألقت بتقريرها إلى مؤتمر
باريس وجرى توبيخ الحكومة اليونانية على ما جرى ، وهذا كل ما وقع ، إنما
جمعية الصليب الأحمر في سويسرة التي لا ينكر أحد ما لها من المساعدات في هذه
المواقف عندما أرسلت وفدًا لإغاثة منكوبي الأروام ، لم يسعها إلا أن تشرك معهم
منكوبي الأتراك.
وبالاختصار لا يوجد عاقل يقدر أن يقول: إن المسلمين هم والمسيحيين شرع
في نظر أوربة ، والشاهد (الأخير) أنه لو كان أهل الريف مسيحيين لكان الريف
قد امتلأ اليوم ببعثات الصليب الأحمر من أوربة وأميركا وبالأطباء والصيادلة
والمتطوعين والممرضين ، أهل الريف مسلمون ، فلذلك لا يساعدهم من أوربة أحد
حتى في الأمور العائدة للإنسانية ، ومهما قتل الأسبانيول منهم فأوربة تجد ذلك أمرًا
طبيعيًّا ، وإذا ماتوا من الجوع تأسَّف بعض الأوربيين عليهم من بعيد [2] .
إذًا فمن النفخ في غير ضرم أن نقنع المكابر بأنه ما دامت حالة أوربة
الروحية هي هذه فالعالم الإسلامي لا يمكنه ترك عواطفه الدينية ، ولا نبذ تلك
الرابطة ظهريًّا [3] .
وكذب وبهتان واختلاق على الناس دعوى بعضهم أن الرابطة الإسلامية تدعو
العربي أن يكون عبدًا للتركي؛ لأن الإسلام سوَّى بين المسلمين ومَنْ مِنَ المسلمين
ظلم أخاه حق لهذا أن يدفع عنه ظلمه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن
سَبِيلٍ} (الشورى: 41) ، وكل من يثير هذه الدعوى التي لم يقُل بها أحد ملقيًا
على دعايته الإفرنجية ستار الحمية العربية ، فإنما هو داعية إلى السيطرة الأوربية
على المسلمين يحاول أن يهونها عليهم ويسيغها في حلوقهم، فتجده بكرة وأصيلاً
يكرر ألفاظ: تركيا وترك وأتراك ومستتركين ، وهو ينسى أن هذه الجعجعة لا
تخفي شيئًا من الحقائق ، وأنه لم يقل أحد: بجواز استعباد الأتراك للعرب ولا لغير
العرب حتى ولا للروم ولا للأرمن ، ولكن كنا نحب أن نرى حمية هؤلاء الأدعياء
في العربية الذين يلقون دروس العروبة على مثل الإمام يحيى وابن سعود
ويتهمونهما بالشعوبية ، كنا نحب أن نراها تظهر في مقاومة الإنكليز وغيرهم من
الأمم المستعمِرة الأوربية ، والحال أن ضمائرهم التي تنطوي على السرور بخضوع
المسلمين (لأمة راقية مثل أميركا) قد ينم عليها مثل هذه الجملة وغيرها مهما
حاولوا الإنكار ، فإذا كان يجوز خضوع المسلمين لأمة راقية كأميركا فلماذا لا
يجوز خضوعهم لأمة راقية كإنكلترة أو لأمة راقية كفرنسة مثلاً؟ فقد ظهر من هنا
المرمى والمغزى من هذه الدعاية ولو تظاهر المتظاهر بالعكس.
وأما الإسلام فلا يأمر بإطاعة الظالم سواء كان ذلك تركيًّا أو عربيًّا ، ولكنه لا
يجيز إطاعة غير أهله ، وهو في هذا مطابق للروح الأوربية التي معناها استقلال
كل أمة بنفسها وعدم قبول سلطة أجنبية عليها، ولو كانت تلك السلطة صادرة من
أمة أرقى من تلك الأمة ، فإن درجات الرقي لا تصح في أوربة فَيصلاً لمسألة
الاستقلال ، وكل أمة تعتقد أن حكم أمة أخرى عليها ولو كانت أرقى منها يفضي
إلى بوارها ، فلذلك كان مبدأ الاستقلال مقدَّمًا في أوربة على مبدأ سلطة الأصلح ،
فمما لا شك فيه أن إدارة ألمانية هي أصلح من إدارة بولونية ، وأن ألمانية أقدر على
إفادة سليزية من بولونية ، ولكن تفوق الألمان على البولونيين في الإدارة والعلم لا
يسلب البولونيين حق الاستيلاء على ما أهله بولونيون من سليزية، كذلك الإنكليز
أقدر من الأيرلنديين على إدارة أيرلندة ، ولكن أوربة ترى حقًّا أن يتولى الأيرلنديون
إدارة أنفسهم؛ لأنهم شعب مستقل بنفسه وهلم جرًّا.
والظاهر أن بعض الذين يدعون التمحض في العربية ولا نرى منهم هذا
التمخض إلا فيما يتعلق بعداوة الأتراك ضائقة صدورهم بنفرة العرب من الإنكليز
وعدم انقيادهم لهذه (الأمة الراقية) ، وأكثر سخطهم هو على أهل اليمن؛ لأنهم
سمعوا أن اليمن بقي أثناء الحرب متمسكًا بالدولة العثمانية ، لا بل حارب الإنكليز
ومحاربة اليمانيين للإنكليز زلة لا تغتفر ، ورفض الإمام يحيى عقد أي معاهدة مع
الإنكليز شيء مؤسف عندهم ، ودليل على قوة النعرة الدينية في اليمن وعلى كونهم
يميلون إلى الأتراك بسبب الجامعة الإسلامية، فهذا مما ينبغي أن لا يكون ، وأرقى
رجال العرب عند هذه الفئة هو الحسين لكونه عاهد الإنكليز وحالفهم ، ولو كانت
نتيجة هذه المحالفة ما كانت.. وكأن الحسين الآن يَهتِم أنامله عضًّا من الندم، ويليه
ابن سعود في الرقي لكونه عاهد الإنكليز ولم يحاربهم، فهذه شهادة لا بأس بها بحقه،
ولكنه لا يبلغ درجة الحسين الذي رضي أن يحالفهم ويحارب في صفوفهم ، وأما
الإمام يحيى فهو أشد أمراء العرب تأخرًا، أفلم تعلم أنه حارب الإنكليز ، وأنه
يعتصم بالجامعة الإسلامية؟
نعم إن أهل اليمن والإمام يحيى مسلمون ويريدون أن يبقوا مسلمين كأهل نجد
وأهل الحجاز وغيرهم ، وكما يريد أن يبقى أهل أوربة مسيحيين وأهل أيرلندة
كاثوليكا وأهل الأولستر من أيرلندة بروتستانتا، وليس أهل اليمن ببدع في هذا
الأمر ، بل حسبهم أن يقتدوا بالعالم المتمدن في المحافظة على دينهم ، وأما نفور
أهل اليمن من الإنكليز فلكون الإمام يحيى وكبار اليمن يعلمون أنه لا يوجد في نظر
الإنكليز أمة ينبغي لها سلب الاستقلال بل الاضمحلال مثل العرب ، فإنه ما دامت
الهند موجودة في الدنيا فأعدى أعداء الإنكليز هم العرب ، وأكره شيء إلى إنكلترة
هو قيام دولة عربية مستقلة تحول بين إنكلترة وبين هندها ، فالإمام يحيى لم يَخْفَ
عليه الذي خفي على غيره وعلم موطن الداء وتجنبه ، وحافظ على ولاء الأتراك لا
حبًّا بالأتراك بل بوطنه وأمته، لأنه يعلم أن الإنكليز هم أعداء العرب ، ولا يجهل
أطماعهم في اليمن ، ويرى من الحكمة أن يمد يده إلى الأتراك ليكونوا وإياه على
الإنكليز وعدو العدو صديق كما لا يخفى.
وأما تعليم هؤلاء لمثل الإمام يحيى العربية والعروبية فهو والله من أبدع
النكبات التي سمعناها ، إذ إن لم يكن الإمام يحيى عربيًّا وملجأ للعرب فمن هو
العربي يا ترى؟ يعيبون الإمام يحيى بموالاة الأتراك ومَنْ مِنَ العرب قاوم الأتراك
مقاومة الإمام يحيى؟ ومن ذا الذي جرد عليه الأتراك المرة والمرتين والثلاث المائة
تابورًا والمائة والخمسين تابورًا وعجزوا عن تدويخه؟ أفمثل هؤلاء يعير الإمام
تحيى بنقص الحمية العربية؟ وهل الملك حسين كان قادرًا على الوقوف في وجه
الأتراك لولا وجوده في صف الإنكليز؟ فلو كان الإمام يحيى انحاز إلى الإنكليز
أثناء الحرب لكان (راقيًا) ولو خدعه الإنكليز كما خدعوا الحسين لكان معذورًا كما
معذور الحسين.. إذ كان يكفيه من الشرف أنه يكون عاهد الإنكليز أعداء المسلمين
عمومًا والعرب خصوصًا ، وحارب في صفوفهم ، وأثبت عدم مبالاته بالرابطة
الإسلامية ، وبرهن على رقي أفكاره.. . وبعد ذلك فليكن ما كان أوَلَيْسَ أنه يكون
قد حارب الأتراك وحالف الإنكليز؟
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
ويغان هو القائد الفرنسي الذي خلف غورو في سورية ، وسرايل هو القائد الذي خلف ويغان.
(2)
المنار: بل سعينا نحن في مصر باسم جمعية الرابطة الشرقية ، وسعى غيرنا فيها وفي الهند؛ لإرسال بعثة طبية لمداواة جرحى الريفيين ، فتعذر ذلك وتوسلنا هنا إلى الوزير الفرنسي المفوض ، فتوسط لنا لدى دولته بكل همة وسرعة وكانت النتيجة أن فرنسة لا تسمح لنا بإرسالها من حدود المغرب الذي يئط تحت حمايتها.
(3)
بل لا نترك ولا ننبذ وإن تغيرت حالتها ، ولكن نسالمها إذا سالمتنا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
إيقاظ الغرب للإسلام
نقتبس ما يأتي من هذا الكتاب الذي ألفه (اللورد هدلي) الذي أسلم ولقب
(بسيف الرحمن رحمة الله فاروق) لِما فيه من الفوائد والعِبَر للمتفرنجين وغيرهم ،
قال في أوله ما ترجمته بقلم مترجم الكتاب مع تصحيح بعض الألفاظ:
***
تمهيد
قال المستر آرثر بلفور هذه الحكمة منذ عدة سنوات (هناك ناصح واحد فقط
أردأ من الخوف وذلك الناصح هو اليأس) .
تملكتْ فؤادي تلك الحكمة في ذلك الوقت ، وإني للإشارة إلى الموضوع
المحتوية عليه الصحائف المقبلة والتعنيف المحقق الذي سألقاه لشرحي اعتقاداتي
بصراحة وجلاء تام عن الدين الإسلامي أقول: (إن هناك رفيقًا واحدًا أردأ من
الزندقة وذلك الرفيق هو الخوف) .
كم من الناس جعلهم (خوف) العواقب يتمسكون بالاعتراف الصريح بدين
واعتقادات لا يسلمون بها ولا يصدقونها في الواقع.
يريد كل منا أن يختار لنفسه الأحسن - أحسن الأطعمة ، أحسن المساكن ،
أحسن المراكز ، أحسن الإخوان - ولكن كم منا من فكر في أن يختار أحسن
الديانات؟
إن معظمنا راضٍ بالدين الذي وجد عليه آباءه، وإننا من حيث حب الذات
والأنانية مُحقُّون في ذلك طبعًا؛ لأنه يوفر علينا كثيرًا من التعب ، فنسير متبعين
الطريق التي كان يسير فيها أسلافنا رافضين أن نبحث أو أن نلقي ولو نظرة واحدة
على أي دين آخر - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) - قرآن كريم.
إنه من المستحيل على أي إنسان أن يصل إلى أسمى غرض في الحياة -
الحياة بمعناها الحقيقي - إذا قيد نفسه بسيور العبادات التقليدية ، وبنى كل خلاصه
على المعمودية ومختلف الأعمال الكهنوتية ، ونظرًا لأني نشأت بروتستانيًّا وعشت
سنين عديدة في مملكة رومان كاثوليك ، فقد سمحت لي الفرص بسعة فائقة أن
أدرس صنفين من أصناف المسيحية متَّبعيْن بفصيلتين من أهم الفصائل في الكنيسة
المسيحية، وقد عشت أيضًا في الشرق ، وإنه لشد ما يسرني أن أعترف بأن ليس
هناك بغض بين المسلمين ، بل هناك المحبة بأوسع معانيها ، وهي منتشرة بينهم
أكثر مما هي منتشرة بين المسيحيين في الجزر البريطانية ، فالمسلمون مثلاً
متسامحون جدًّا ومطبوعون على إيتاء الخير إزاء جميع المسيحيين بخلاف ما عليه
فروع الكنيسة بعضها بإزاء بعض.
إني لا أتجاسر على أن أقول: إنه إذا عينت لجنة من الإنكليز الأكْفاء حقيقة
ممن هم على شاكلة المأسوف عليه اللورد سالسبري والمأسوف عليه اللورد
بيكونسفيلد والمستر بلفور واللورد هالدين والسير روفس إسحاق إلخ لفحص الدين
الذي يجب أن يتدين به العالم كله لأجمعوا أمرهم على أن يختاروا الدين الإسلامي
الذي يشهد له العقل ، والذي يجيب رغبة الفؤاد والروح الشديدة من الاتصال
بالخالق سبحانه وتعالى.
إنني لا أعتذر من أجل وضعي للفصول القليلة التي ستظهر بين غلاف هذا
الكتاب ، وليس لدي أقل خوف من الاتهام بالإلحاد والجحود اللذين سأُرمَى بهما
لابتعادي عن المسيحية واهتدائي بهدي الإسلام.
إنني لا أعتقد وما سبق لي أن اعتقدت قط أنه من الضروري لخلاصي أن
أصدق ألوهية المسيح ، أو أن أعتقد الثالوث أو العقائد الأخرى التي تدعي الكنيسة
أنها ضرورية للخلاص ، إني أؤمن برسالات الله السماوية المرسلة لنا على لسان
رسله المصطفين.
***
مقدمة
لكي أقدم الصحائف المقبلة إلى القراء لا أجد خيرًا من إعادة نشري هنا لمقالة
صغيرة من قلمي ظهرت في إحدى جرائد لندرة الأسبوعية في نوفمبر سنة 1913.
(ظهرت في جرائد عديدة قطع تشرح معتقدي الديني ، وإنه ليبهجني أن
أرى كل ما وُجِّه إلي من الانتقاد لغاية الآن لم يكن إلا بلطف مُتناهٍ ، إنه لا ينتظر
أن تخرج خطوة معلومة عن خط سير مألوف دون أن تستوقف النظر) .
(ورد لي في أحد الأيام خطاب من أحد المسيحيين المتدينين يخبرني فيه بأن
الدين الإسلامي إنما هو دين لذة ، وأن النبي كانت له زوجات عديدات وأن ذلك
قاعدة في الإسلام ، فما أغرب هذه الفكرة عن الإسلام! إلا أنها فكرة راسخة في
عقول تسعة وتسعين في المائة من البريطانيين الذين لم يُعنوا ببحث الحقائق
الواضحة لديانة ما ينيف على مائة مليون من رعاياهم ، ولو درسوا تلك الديانة
لتبين لهم أن نبي بلاد العرب صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا في كبح النفس عن
الهوى وردِّها عن الشهوات ، وكان مخلصًا لزوجته الوحيدة السيدة خديجة التي هي
أكبر منه بخمس عشرة سنة ، والتي كانت أول من آمن برسالته السماوية، وبعد
وفاتها تزوج بالسيدة عائشة ، وقد تزوج أيضًا ببعض أيامى متبعيه الذين استشهدوا
في إعلاء كلمة الله وذلك لا بدافع الشهوة بل لكي يعولهن ويمنحهن مساكن ،
وينزلهن منزلة ما كنَّ ليحصلن عليها لولاه.
(نحن معشر البريطانيين نعجب بأننا نحب العدل والإنصاف، ولكن أيُّ
شيء أعظم جورًا وحيفًا من الحكم الذي يصدره كثير منا على الدين الإسلامي دون
أن يجتهد أو يحاول أن يعرف ولو مجملاً بسيطًا من عقائده ، حتى إنهم لا يفقهون
معنى لكلمة (الإسلام) .
(إنه من المحتمل أن يظن بعض من أصدقائي أنني قد غُلبت على أمري أو
سيطر علي المسلمون إلا أن ذلك ليس بحقيقي؛ لأن اعتقاداتي الحالية ما هي إلا
نتيجة بحث سنوات عديدة ، وإن كانت مناقشاتي الحقيقية مع متعلمي المسلمين في
موضوع الديانة لم تبتدئ إلا منذ زمن قريب ، وإنني لمحتاج إلى القول: بأنه قد
غمرني الفرح عندما وجدت أن كل نظرياتي واستنتاجاتي كانت مُطابِقة مُطابَقةً تامة
للإسلام ، إن أخي خواجا كمال الدين لم يحاول بتاتًا أن يتسلط على فؤادي ولو قليلاً ،
فإنه كان دائمًا مثال الأمانة والصدق إذ قد شرح لي في ترجمة القرآن الكريم الذي
استطعت أن أفهم معناه من الترجمة المشوهة المنتشرة بين المسيحيين ، فأنار من
هذه الوجهة المحجة الواضحة التي تسير فيها جمعية التبشير الإسلامي ، فإنها ما
احتالت ولا خدعت أحدًا قط ، فالهداية كما جاء في القرآن الشريف يجب أن تكون
بمحض الرغبة والاختيار ومن تلقاء النفس؛ لذا لم يرتكب خواجا كمال الدين أي
صفة من صفات الاحتيال والخديعة ، وقد أراد عيسى نفس تلك الصفة عندما قال
لحوارييه: (وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ، وانفضوا التراب
الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم) .
(وقد علمت أمثلة كثيرة جدًّا من البروتستانت المتعصبين الذين ظنوا أن من
واجباتهم أن يغشوا بيوت الرومان الكاثوليك ، فيحتالوا على من يقطنها لنقله إلى
دينهم ومثل هذا العمل المثير الذي لا يليق بكرامة جار هو طبعًا عمل كريه جدًّا ،
أدى إلى إثارة العواطف وإيجاد النزاع الذي جر عليهم الازدراء والاحتقار ، وإنني
لأتألم جد الألم عندما يعرض لفكري أن أولئك المبشرين المسيحيين حاولوا ذلك مع
المسلمين أيضًا ، وإن كان لا يوجد هناك باعث يدعوهم إلى هداية هؤلاء الذين هم
(أصح منهم مسيحية) وأفضل منهم أنفسهم في مسيحيتهم ، وقد عجزت تمامًا عن أن
أعرف لم فعلوا ذلك ، إنني لم أقل:(أصح منهم مسيحية) جزافًا بل بعد إعمال
العقل والروية؛ لأن المحبة والألفة والتسامح في الدين الإسلامي أقرب جدًّا لما أتى
به المسيح مما عليه رجال المسيحية إلى الكنائس المتنوعة.
خذ مثلاً العقيدة الإنسيانية التي تختص بالثالوث بحالة مشوشة لا يقبلها العقل
ترى أنه من الواضح جليًّا أن هذه العقيدة المهمة عندهم للغاية والتي تعتبر إحدى
العقائد الرئيسية للكنيسة تمثل المذهب الكاثوليكي ، وإننا إذا لم نعتقدها نهلك هلاكًا
أبديًّا، وهكذا نؤمن بوجوب اعتقاد الثالوث إن أردنا الخلاص أو بطريقة أخرى
نقول: إن الله رحيم وقادر على كل شيء ، وفي الوقت نفسه نتهمه بالظلم والقساوة
اللذين لا نستطيع ولا نرضى أن ننسبهما إلى أفظع سفاكي الدماء من الظلمة البشرية
كأن الله الذي هو أمام الجميع وفوق الجميع يتغلب عليه اعتقاد مخلوق ضعيف فانٍ
في الثالوث.
(هذا مثل آخر يدل على عدم وجود الحسنى لديهم: وصلني خطاب لمناسبة
اتجاهي نحو الإسلام أخبرني فيه كاتبه بأنني إذا لم أعتقد ألوهية المسيح لا يمكنني
الخلاص، إن مسألة ألوهية المسيح ما ظهرت لي قط أنها مهمة، هل أرسل
المسيح رسلاً من البشر برسالات إلهية؟ لو كان عندي الآن أي شك في تلك النقطة
الأخيرة لآلمني ذلك جدًّا ، إلا أنني أشكر الله سبحانه وتعالى لعدم وجود هذا الشك
أرجو أن يكون اعتقادي في المسيح وتعاليمه ثابتًا جدًّا كاعتقاد أي مسلم أو مسيحي
حقيقي آخر ، لأنني سبق لي أن قلت مرارًا أن الديانة الإسلامية والديانة المسيحية
كما علمت بالمسيح نفسه هما أختان ولم يفصلهما عن بعضهما إلا المذاهب ،
والاصطلاحات المسيحية فقط التي يمكن الاستغناء عنها بكل سهولة وارتياح.
يطلب منهم أن يعتقدوا هذه المذاهب والعقائد التي لا تفهم ، وهناك بلا شك
رغبة واشتهاء إلى ديانة تقبلها العقول والميول ، فمن سمع بمسلم ارتد إلى الكفر
والإلحاد؟ ربما كانت هناك حالات من هذه إلا أنني أشك جدًّا فيها.
(إنني أعتقد أن هناك آلافًا من الرجال والنساء أيضًا مسلمين قلبًا ولكن
خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ على التغيير تآمرا على منعهم
من إظهار معتقداتهم ، إنني خطوت هذه الخطوة وإنني أعلم علم اليقين أن كثيرًا من
إخواني وأقاربي ينظرون إليَّ الآن كروح ضالة ويصلون من أجلي ، إلا أني لست -
في الحقيقية - في اعتقاداتي اليوم إلا كما كنت منذ عشرين سنة تمامًا ولكن
صراحتي في القول هي التي أفقدتني حسن ظنهم بي.
الآن وقد شرحت بعضًا من الأسباب التي جعلتني أتبع الدين الإسلامي ،
وقلت: إنني أعتبر نفسي الآن أني أصبحت بإسلامي مسيحيًّا أفضل مسيحية مما
كنت عليه من قبل؛ فآمل أن يتبع الآخرون مثالي ويعتقدون أحقية الإسلام الذي أقر
بكل شهامة وفخر أنه أصح الأديان، إنه ستصل السعادة لأي امرئ ينظر إلى
هذه الخطوة كخطوة متقدمة لا خطوة مضادة للمسيحية الحقة بأي وجه) اهـ.
(المنار)
سبق لنا نشر هذه المقالة في المنار عقب شيوع إسلام اللورد هدلي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ماضي الأزهر
وحاضره ومستقبله
(3)
ذكرنا في المقالة الثانية جملة مطالب الأزهريين التي نظرت فيها لجنة
الحكومة ، وما قبلته وأقرته وصدر أمر الوزارة بتنفيذه ، وكان طلبة الأزهر قد
طبعوا مذكرة تفسيرية لمطالبهم الخاصة ورفعوها إلى البلاط الملكي والوزارة ،
ووزعوا منها نسخًا على من يرجون عطفهم ومساعدتهم من أصحاب الشأن ، فرأينا
نشر تفسيرهم لمطالبهم استقصاء للمهم من تاريخ هذا الطور الجديد للأزهر ،
وتمهيدًا لما سنبينه من رأينا فيه ، وهذا نصها بعد تمهيد وجيز جعلوه مقدمة لها:
(المطلب الأول) : (حسبان الأزهر جامعة كبرى تتكون عناصرها من
الأزهر والمعاهد الدينية الحالية ومدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والمعلمين
الأولية ، بشرط أن تكون هذه المدارس كلها تابعة للأزهر تبعية فعلية حتى يتوصل
بذلك إلى توحيد جهات التعليم الخاص بالشريعة واللغة العربية) .
هذا هو المطلب الأساسي الذي لا يمكن أن ينال الأزهر غايته من الإصلاح
والكرامة بدونه، على أنه في الواقع من أساليب الإصلاح الأولية القاضية بعدم
التجزئة في المعاهد التي يتحد فيها نوع التعليم وجوهره ، وهذه المدارس في الحقيقة
أجزاء للأزهر وأعضاء فُصِلت منه ، ولا يمكننا أن نفهم انعزالها عنه مع ما بينها
وبينه من الصلة الظاهرة في اتحاد الغرض وتَسَاوي برامج التعليم أو تقاربها ، بل
وفي زي الطلبة أيضًا ، ولم يشاهد الناس فيما شهدوا أن تقطع الصلة في المعاهد
التي من هذا النوع، ويفرق بينها هذا التفريق الكبير، إلا في مصر.
إن الحقيقة المُرة نجهر بها الآن وهي أن الغرض الواضح من وجود المدارس
المشار إليها على نظامها المعروف هو أن يترك الأزهر وشأنه مهملاً منسيًّا ، يشقى
طلابه وخريجوه ولا يؤدي وظيفته في المجتمع إلا بالمقدار اليسير الذي نراه في
الوقت الذي نخص فيه هذه المدارس بالعناية والرعاية ، حتى يعد خريجوها لأقصى
درجات النفع والانتفاع.
وهذه هي الفكرة الخطرة على الأزهر ، فقد كان لها أسوأ النتائج في عرقلة
سيره ووقوفه دون الغاية التي أداها للإنسانية في أزمنة متطاولة ، وإذا كان مثار
التفكير في إيجاد هذه المدارس ما كان يشاع من تعسر الإصلاح في الأزهر، فلا
عذر اليوم وقد تطور الزمن وأصبح الأزهر نفسه ينادي بالإصلاح غير آنف من كل
عمل يكسبه صبغة عصرية صالحة ما دامت لا تتنافى مع صفته الدينية ، فالواجب
إذن أن يُقابَل نداؤه بالترحاب ، وأن يُعدل عن عزل هذه المدارس التي اقتضت
الضرورة عزلها كما يقولون ، ويكون من الجميع جامعة شرقية سامية ، تقدم للبلاد
الإسلامية عامة ومصر خاصة ما كان يؤديه الأزهر في زمنه الغابر من ثمرات
ناضجة في العلوم والآداب ، أما بقاء الحال على ما هو عليه اليوم فلا معنى له غير
القضاء على الأزهر وتقويض ما بقي من أثره ، في حين أن هذه المدارس تتسع
وتنمو بما يسدى إليها من ضروب الرعاية والعطف ، وهذا ولا ريب منافٍ للعدالة ،
موجب للتنافر والشقاق بين أبناء الطائفة الواحدة، وهو فوق ذلك تدبير خطر
بالنسبة إلى المصلحة العلمية العامة، فإن الأزهر قوة كبيرة إذا عني بها جنت الأمة
منها أوفر الثمرات وأنضجها ، ولا سيما في الظروف المقبلة التي يتحتم فيها تعميم
التعليم بين أفراد الشعب، ولقد بدت مخاطر العزلة التي يشقى بها الأزهر فعلاً في
أزمة المعلمين التي تعالجها البلاد في العهد الأخير ، فليس من الحزم أن يستفحل
الداء والدواء قريب.
لسنا نريد أن نُلغي هذه المدارس كما يدعي بعض المغرضين [1] ولكن مطلبنا
واضح جلي ، وهو كما قلناه: إدماجها في الأزهر مع إدخال الإصلاح على برامجه
متى كانت الحالة تقضي بذلك ، وهذا مطلب لا غبار عليه ولا يمكن أن ينازع فيه
من يريد الإصلاح ، وبودنا أن يفطن إلى ذلك كل مفكر؛ ليعتقد أن الأزهر يريد
الخير لمحض الخير، ولهذا فليعمل العاملون.
(المطلب الثاني) تعديل قانون التخصص بجعل مدة الدراسة فيه سنتين فقط ،
على أن تكون مدرستا القضاء الشرعي ودار العلوم فرعين من الأزهر، الأولى
للتخصص في القضاء الشرعي، والثانية للتخصص في اللغة العربية، وباقي أقسام
التخصص في الفنون الأخرى بالأزهر (مع إضافة قسم جديد للتخصص في العلوم
الرياضية) على أن يكون الانتساب مقيدًا بالحصول على شهادة العالمية من
الأزهر.
يتناول هذا المطلب أمرين: أولهما يتعلق بقسم التخصص ، وثانيهما بالنظام
الذي يتبع بعد ضم مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي إلى الأزهر ، أما فيما
يرجع إلى التخصص فنطلب أن تخفض المدة الدراسية فيه إلى سنتين فحسب ، إذ
كان الغرض الذي أُنشئ من أجله هذا القسم هو التفوق في ناحية خاصة من العلوم
التي تلقاها الطلبة ، وهذا المبدأ وجيه لا اعتراض عليه ، ولكن المدة المقدرة له من
الطول بحيث لا تتفق مع المصلحة فهي إذا أضيفت إلى مدة الدراسة العامة (اثني
عشر عامًا) كان المجموع ستة عشر يضاف إليها ما يمكن أن يعرض للطالب من
الرسوب وهو أربعة أعوام ، فيكون المجموع عشرين عامًا دراسية ، وهي مدة لا
نظير لها في معهد من معاهد التعليم فالشأن في مدد الدراسة أن يراعى فيها القصر
الممكن؛ حتى توجد للمتعلمين فرصة من العمر صالحة للانتفاع بما حصلوا عليه
من العلم.
على أن مدة السنتين تعد كافية للاستزادة من علوم كررها الطالب مرارًا ونال
الشهادات الدالة على تضلعه منها ، وإذا غضضنا الطرف عن ذلك ، ونظرنا إلى
نظام الدراسة قام الدليل واضحًا على وجوب اختزال المدة ، فإن طلبة التخصص
بالأزهر لا يتلقون غير حصة واحدة في اليوم فلا مانع مطلقًا من مضاعفة الدراسة؛
عوضًا عن طول المدة التي يجب أن تستنفد في الصالح العام ، وأما في تخصص
القضاء الشرعي، فإن العلوم التي تدرس فيه من القلة والسهولة بحيث يستطاع
دراستها بإتقان في عامين ، مع مراعاة أن التخصص في الأقسام كلها إنما هو في
العلم لا في الكتب كما هو في المتبع الآن.
أما الأمر الثاني المتعلق بمهمة مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي بعد
ضمهما إلى الأزهر، فينحصر طلبهما في أن تعاون هاتان المدرستان الأزهر على
خدماته الجليلة، وتكونا قسمين من أقسام التخصص الذي أنشئ له في الأزهر
سبعة أقسام في شتى العلوم ، فتقصر دار العلوم على حاملي شهادة العالمية الأزهرية
للتخصص في العلوم العربية ، وتلقي ما يجب تلقيه للقيام بمهمة التعليم ، ولا ريب
أن قصرها على هذه المهمة بعد أن يكتمل نضوج الطلبة في الأزهر يعيد عصرًا
مزدهرًا بالأدباء واللغويين ، ويبث في البلاد روحًا جديدة في هذه الناحية الفقيرة
ناحية الأدب واللغة ، كما أنه ينشئ للبلاد نشأ يؤدي للتعليم أجلّ الخدمات.
أما مدرسة القضاء فتُخصَّص لتلقي العلوم المؤهلة لتولي مناصب القضاء
الشرعي التي لم تدرس بالأزهر ، وهي وإن كانت الآن معدة لذلك فعلاً إلا أنها
ليست تابعة للأزهر تبعية فعلية ، ومدة الدراسة فيها تزيد عن حاجة العلوم التي
تدرس بها الآن.
ومما يجب التنبيه عليه أنه يلزم أن ينشأ في قسم التخصص بالأزهر فرع
جديد للعلوم الرياضية بجانب ما فيه من العلوم الأخرى ، فإن هذه العلوم لا مندوحة
عن التوسع فيها في هذا العصر، كما أنها ضرورية لإتمام المهمة العظمى التي
تطلب من جامعة الأزهر ، ولإنشاء هذا الفرع ميزة أخرى هي استغناء الأزهر
بخريجيه في القيام بتدريس هذه المواد بالأزهر ، وتولي الأعمال الإدارية والحسابية
على أتم وجه، وفيه أيضًا فتح مجال الأعمال أمام خريجه بالقدرة على تعاطي
الشئون الحيوية النافعة.
(المطلب الثالث) المساواة الفعلية بين حاملي شهادات الأزهر ونظرائهم من
حاملي شهادات وزارة المعارف ، فتتساوى الشهادة الأولية بالابتدائية والثانوية
بالبكالوريا ، والعالمية بالليسانس وشهادة التخصص بالدكتوراه وذلك فيما يختص
بمميزاتها من المرتبات والترقيات واحتساب المعاشات مع حفظ الامتيازات الخاصة
بهم مثل (كوبونات) السكك الحديدية.
من المؤلم أن تجتمع على الأزهر عزلته عن الاشتراك بقسط وافر في
الأعمال العامة، والغبن الفاحش في المرتبات والحقوق التي ينالها من أسعده الحظ
من خريجيه ، فعلى الرغم من أن الشهادات التي يحصل عليها الأزهريون معتبرة
كنظيراتها من الشهادات التي تعطى لتلامذة المدارس، فإن البون شاسع جدًّا بين
مرتبات هؤلاء وأولئك ، ومثل هذا يقال عن نظم الترقيات والمعاشات ، فالشهادة
الابتدائية الأزهرية سُلب من حاملها حق التوظف مطلقًا ، وعلى ذلك لا يمكن مقارنة
حقوقها بالابتدائية في المدارس، والثانوية الأزهرية إذا سمح لحاملها بالتوظف في
مثل الإمامة والخطابة مثلاً يفرض لها مرتب يتراوح بين جنيه وثلاثة جنيهات ، ولا
ريب أنه لا نسبة بين هذا المرتب الحقير وبين مرتب حامل (البكالوريا) إذ
يتقاضى ثمانية جنيهات شهريًّا.
وأما الشهادة العالمية التي هي شهادة عليا فإن نصيب حاملها إذا كان محدودًا
والتحق بوظيفة تدريس في المعاهد الدينية أن يعطى له عشرة جنيهات ، في حين
أن مثيلاتها من الشهادات العليا تنيل صاحبها الحق في تقاضي خمسة عشر جنيهًا
شهريًّا ، وهذا الذي ذكرناه في مرتبات الأزهريين إنما هو بالنسبة إلى الوظائف
التي تعد رئيسية ، ومن ذلك يمكن إدراك المرتبات الضئيلة التي تفرض للوظائف
الأخرى ، ففي وزارة الأوقاف يعطى حامل العالمية في وظيفتي الإمامة والخطابة
مرتبًا يتراوح بين أربعة جنيهات واثني عشر جنيهًا مصريًّا حسب التعديل الأخير ،
في حين أن فقهاء المكاتب يتقاضون من ستة جنيهات إلى ثمانية عشر.
ومثل هذا الغبن في المرتبات واقع في الترقيات والمعاشات ، فالترقيات في
الأزهر تسير ببطء يبيد العزم ولا يشجع على العمل، وهي في غيره تبعث الأمل
وتحيي الرجاء، أما المعاشات فلا نخطئ إذا قلنا: إنها في الأزهر تكاد ألا تكون
شيئًا.
ونحن لا ندري سبب هذه التفرقة البينة الغبن مع أن المجهودات التي يصرفها
طالب المدرسة تقل كثيرًا عن مجهودات الأزهري ، مع أنه يمتاز أيضًا بشرف
الانتساب إلى الدين، فينبغي أن تحفظ كرامته وتصان حقوقه حتى للخدمة العامة
وهو مطمئن على مستقبله ، ولا سيما إذا ذكرنا أنه فوق صفته الدينية قادر على سد
حاجات الأمة في كثير من الشئون العامة ، التي تستلزم الدراية والكفايات المختلفة
بما يتجمل به من شتى الفنون التي تدرس بالأزهر.
أما (الكوبونات) التي تعطي العلماء حق السفر بأجور مخفضة فإن لها معنى
ساميًا ، عُرف أن العلماء خليقون به من زمن بعيد ، فينبغي أن يبقى ما دامت لهم
كرامة ومكانة خاصة.
(المطلب الرابع) تنفيذ الحقوق التي كفلتها القوانين واللوائح لحملة الشهادات
الأزهرية المعطل العمل بها الآن.
إنما تلتمس الشهادات لنتائجها المترتبة عليها لا لذواتها ، ومن المسلم به أن
كل عمل لا فائدة له مبغض مكروه ، وبودنا أن يكثر الإقبال على التعليم الديني حتى
تعم تعاليمه الأفراد والجماعات ، ولا يمكن ذلك إلا إذا كان للشهادات التي تعطى
لطالبه قيمة مادية تغني عوزه وتسد حاجته ، على أن الواقع يخالف ذلك في الأزهر
ويسوءنا أن نقول: إن الأزهر له هذه الخاصة وحده دون معاهد العلم كلها ، فقد
سُطرت ميزات الشهادات في الأوراق ولا شيء غير ذلك! ففي القانون نمرة 10
نص على أن لحامل الشهادة العالمية الحق في وظائف القضاء الشرعي، والكتابة
بالمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية والتدريس بالأزهر والمعاهد الدينية
إلخ ، ولحامل الشهادة الثانوية الحق في وظائف الخط والإملاء والوظائف الكتابية
بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى والمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية
والإمامة والوعظ
…
إلخ ، أما الابتدائية (فيظهر أنه لا يصح أن يكون لها ميزة
حتى ولو على الورق فألغيت ميزتها!) .
فإذا أراد الطالب أن يلتمس طريقًا مما ضمنه القانون لإحدى هذه الشهادات بعد
حصوله عليها رغبة في حفظ أوده وجد الأبواب موصدة دونه ، ويسوءنا أن كثيرًا
من حملة العالمية لا يجدون مرتزقًا يقيهم ذل الحاجة، حتى وزارة الأوقاف التي هم
أشد الناس صلة بها لا تقبل أحدًا منهم في وظائفها الكتابية ، وكانت نتيجة هذه
المعاملة الشديدة أن كثيرًا من العلماء قدموا أنفسهم إلى مجالس المديريات للتدريس
في مدارسها ، فرفضت وسرت هذه الدعوى إلى المدارس الأهلية فاشتد الداء،
وثقلت وطأته على هؤلاء الذين قضوا حياتهم في خدمة العلم ، وذلك ما يسيل
النفوس أسفًا على كرامة العلم والدين.
ليس في وسع العالم الديني أن يتناول عملاً دنيئًا حرصًا على شرفه ، كما أنه
لم يَلق من عناية أولي الأمر به ما يجعله كغيره من الطوائف المتعلمة سعيدًا أو على
الأقل مطمئنًا على مستقبله، فبقي أن نسأل ولاة الأمور عن مصيره؟
الحق أنه شيء كبير أن يُترك هؤلاء العلماء لعويلهم من ثِقل البؤس في هذا
العصر مع أنهم في كل العصور كانوا موطن الاحترام والرعاية، ولسنا نطلب إلا
ما رضي به ولاة الأمر ووضعوه من تلقاء أنفسهم في (قانون) ، يجب أن يكون
نافذًا وأن لا يكون حبرًا على ورق ، وإذا طلبنا ذلك بالنسبة لحاملي العالمية فنطلبه
أيضًا بالنسبة إلى حملة الثانوية والابتدائية ، فقد يحدث كثيرًا أن يتخلف الطالب من
الدراسة بعد نيله إحدى هاتين ، فليس من العدل ان يحرم ثمرة عمله والقانون
صريح في حفظ حقه.
(وبعد) فالطريق الطبيعي في التعليم أن يوجد للطلبة ضوء من الأمل يكون
منيرًا لهممهم مشجعًا لهم ، وإلا انصرفوا عنه وعافوه ، وذلك ما لا يصح أن يكون
وخصوصًا في المعاهد الدينية.
(المطلب الخامس) إقرار مشروع التعليم الديني في المدارس ، وهو الذي
وافقت عليه وزارة المعارف في إحدى الوزارات السابقة حيث إن تنفيذه ضروري
لصالح الأمة، وإسناد القيام به إلى خريجي الأزهر خاصة.
كان الدين ولا يزال مبعث سعادة الأمة ومصدر مجدها فهو حافظ شخصيتها،
ومظهر آدابها ، وهو المحور الذي تجتمع عنده القلوب وتتحد النزعات والآمال ،
فأيما أمة أقامت للدين وزنه، وعرفت خطره، كان لها ما تشاء من عزة وسلطان،
وعلى العكس من ذلك أمة تنبذ أحكامه ظهريًّا.
وإنه لمن المحزن أن تخلو مدارسنا المصرية من تعليم الدين ونشر آدابه
السامية ، ولا ندري ما الذي وصل بمدارسنا إلى هذا الحضيض مع أنه يدرس
(بين) جدرانها كثير من العلوم قد لا يكون بعضها ضروريًّا، فالحق أنه يجب وضع
حد لهذه الحالة المملة ، إذ لو استمرت لأصبح الدين وقد تقلص ظله ، وضعفت
شوكته. وإن الأزهر الذي في عنقه أمانة الإرشاد والمحافظة على الدين لا يمكن أن
يجمد بإزاء ذلك ، بل يطلب ويلح في الطلب بأن يُعنى بالدين العناية الكافية فتذاع
آدابه وتعاليمه الجليلة في نفوس أبناء الأمة ، حتى لا يطغى على أفكارهم اللدنة
سيل الأباطيل؛ فيخرجوا على دينهم كما هو شأن المتعلمين اليوم، فإن كثيرًا منهم
قد استهواه التقليد الأعمى فنبذ دينه، وذلك ضرر لا يصح السكوت عليه بل يجب
العمل على استئصال شأفته، ولن يكون ذلك بغير الدين ، ولا يضر وزارة المعارف
أن يتلقى التلاميذ بجانب ما يتلقونه - مما ينفع ولا ينفع - هذا العنصر الضروري
لحياة الأفراد والأمم ، وإذا قال الأزهر ذلك فهو يتكلم بلسان آباء التلاميذ وأولياء
أمورهم الذين يسرهم أن يكون أبناؤهم راشدين دَيّنين، لا ملاحدة مارقين ، ومما
يمكن أن يعتبر دلالة على وجوب تنفيذ هذا المطلب أنه كاد (يبلغ) تمامه في عهد
إحدى الوزارات السابقة بعد أن نبهها إليه أحد [2] علماء الأزهر الأعلام، على أنه
لا يمكن أن يؤدى الأمر على وجهه الصالح إلا إذا جعل تعليم الدين أساسيًّا ، وأسند
تعليمه من الآن إلى المتضلعين منه الواقفين على أسراره فهم وحدهم البصيرون
بطرق التفهم والإقناع ، القادرون على رياضة النشء إلى أقوم الطرق بالقدوة
والموعظة الحسنة، وليس لطائفة أن تنازع الأزهريين هذه المقدرة أو تطمع في
هذه المنزلة دونهم ، ولذلك نطلب إسناد التعليم إلى علماء الأزهر دون سواهم حتى
يتوصل إلى الغرض المروم.
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار يستعمل لفظ المغرض عند العوام وفي الجرائد بمعنى ذي الغرض والهوى النفسي وهو المراد هنا، وإنما بينا هذا لأن قراء المنار في الأقطار التي لا تستعمل فيها هذه الكلمة بهذا المعنى لا يفهمونها ، وإذا راجعوها في معاجم اللغة المتداولة لا يجدونها.
(2)
فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون.
الكاتب: محمد رشيد رضا
وهب بن منبه وكعب الأحبار
حضرة ملجأ الباحثين السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فقد جرحتم الحبر بن وهب بن
منبه وكعب الأحبار في تفسيركم بالمنار قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُّبِينٌ} (الشعراء: 32) بأنهما:
(1)
رويا أخبار غرائب بني إسرائيل ، ومنها موت خمسة وعشرين ألفًا
من قوم فرعون فزعًا من ثعبان العصى (كذا) .
(2)
وكانا يدسان في الدين بكذب الرواية.
(3)
ومن جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان
رضي الله عنهما.
ولكون الحبرين من رجال كتب الحديث الصحيحة التي صار التعويل عليها
في الدين الإسلامي بعد القرآن الكريم ، وكان هذا التجريح غير منطبق على ما
عُرف عنهما عند علماء الحديث ، وقد صرحتم بأنه بحسب الغالب على ظنكم ،
وكان يترتب عليه الحط من اعتبار الحديث الشريف عند المطلعين عليه من قراء
المجلة ممن لا يعرف عنهما سوى ما قلتم لوجود اسميهما في كتبه (كذا) ، مع أن
الأمة محتاجة للتمسك بالسنة؛ لأن سعادتها وإنقاذها مما هي فيه متوقفان على العمل
بها والرجوع إليها كما كان سلفنا الصالح ، فيعود إلينا ما كانوا فيه من عز ومجد.
فحُبًّا في دفع ما يشين السنة المحمدية أحببت نشر ما دونه المتقدمون في
توثيق الحبرين ، مبتدِئًا بقاعدة من كتاب الجرح والتعديل للعلامة القاسمي حيث نقل
بالصحيفة الخامسة عن المحدث السيوطي عبارة الأصولي صاحب كتاب الاقتراح
أن من (الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي) تخريج أحد الشيخين له في الصحيح ،
وإن تُكُلم في بعض مَن خَرَّج له فلا يلتفت إليه ، والحبران خرَّج لهما أحد
الشيخين البخاري في صحيحه (كذا) وكذا باقي أصحاب الكتب الصحيحة مسلم
وأبو داود والنسائي والترمذي كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي (كذا) .
وحينئذ لا يلتفت لتضعيف ابن الفلاس لسيدنا وهب خصوصًا وأنه لم يبين
وجه التضعيف ، والمتقرر في فن المصطلح أن التجريح لا يُقبل إلا مع البيان ،
وأن جرْح الواحد غير متفق عليه (كذا) .
ومما يدل على ورع سيدنا وهب ما نقله البخاري في أول كتاب الجنائز ونصه:
(وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن ليس
مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) يريد أن
يلتزم السائل العمل بالأحكام الشرعية ولا يرتكن على مجرد النطق بالشهادتين ،
ومثله قوله: (مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر) كما نقله صاحب الفتح
في هذا المكان [1] .
وصُنع البخاري في باب مطل الغنى ظلم من كتاب الاستقراض يدل على
عظم سيدنا وهب أيضًا ، حيث قال في سند الحديث هكذا: (عن همام بن منبه
أخي وهب) وما كان همام مجهولاً فنسبه إلى وهب لتعريفه بل هو معروف ، وأخذ
عنه أصحاب الكتب الستة الصحيحة ، وما كان البخاري لينسب رواية همام وهو
بمنزلة شاهده إلى فاسق أو متهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإنما هي نسبة تشريف أراد بها التأكيد في تزكية راويه.
ومن الحكم المأثورة عن سيدنا وهب قوله: العلم خليل المؤمن والحلم وزيره
والعقل دليله والصبر أمير جنوده والرفق أبوه واللين أخوه: فجعل للمؤمن دولة من
نفسه ، نقل ذلك الحافظ الذهبي في ترجمته له في كتاب ميزان الاعتداد في نقد
الرجال.
وكعب الأحبار فضلاً عن أخذ المحدثين عنه لم يطعن عليه أحد منهم ،
والمذاكرة التي دارت بينه وبين أبي هريرة حال رحلته بالشام (في الساعة التي في
يوم الجمعة) من الحجج الدينية الإسلامية التي يشير إليها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن
لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 197) كما هو موضح بموطأ
الإمام مالك ، ويكفيه توثيقًا أخذ أبي هريرة عنه وابن عباس ومعاوية وجماعة من
التابعين ، نص على ذلك صاحب الخلاصة المذكورة عند ترجمته باسم (كعب بن
مانع الحميري أبو إسحاق الحبر وقال بالهامش: وهو المعروف بكعب الأحبار
إلخ) .
أما عن نفي أوجه الجرح الثلاثة السالفة:
(فالأول) غير جارح أصلاً؛ لأن أخبار بني إسرائيل ليست مما تعبدنا الله
بها ، ولم نلزم بالتحري في نقلها إلزامنا بنقل الأحاديث الإسلامية لما رواه الإمام
الشافعي في رسالته الأصولية الشهيرة في أواخر (باب تثبيت خبر الحجة) بسنده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،
وحدثوا عني ولا تكذبوا علي) ورواه صاحب كتاب رموز الأحاديث في حرف
الحاء بلفظ (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنكم لا تحدثون عنهم شيئًا إلا وقد
كان فيهم أعجب منه) عن الشافعي وابن منيع وصححه السخاوي فأي وزر على
من بلغه هذا الحديث فحدث بأخبار بني إسرائيل على علاتها كما سمعها ، ما دام أنه
لم يرد في ديننا ما يمنع من ذلك ، ولم تصادم أصلاً من أصوله وإلا كانت منسوخة
هذا وبمراجعة تفسير ابن جرير عند هذه الآية وجد أن في سند الخبر بموت الخمسة
وعشرين ألفًا من هو مجهول ، فيحتمل أن هذا المجهول هو الواضع لهذا الخبر
والأصوب حمله على الحديث السالف ، إذ لا ضرر علينا من ذلك دينًا ، ولم نُكلَّف
بتمحيص أخبار بني إسرائيل والبحث في أسانيدها وتبعتها عليهم.
(الثاني) لم نعلم أحدًا قبل الآن نسبهما للكذب والدس في الأحاديث الإسلامية
وكل ما نسب إليهما من بعض المتأخرين هو الإكثار من أخبار غرائب بني
إسرائيل ، وقد علمت ما فيه ولم يصرح الإمام أحمد بأن سيدنا وهبًا كان يختلف إلى
قومه بعد إسلامهم؛ ليكذب أو يدس ، والأقرب حمله على التودد والإرشاد ، وقد
ترجم للحبرين ابن جرير الطبري في تاريخه بالجزء الثالث عشر في ضمن الناقلين
للأخبار من التابعين ، وهو بصفته مؤرخ يحكي كل ما قيل فلم تصدر منه كلمة تشم
منها هذه الرائحة ، بل بعكس ذلك أفاد ما يدل على جلالتهما ، وحكى لسيدنا كعب
حادثة تدل على شدة ذكائه وتدينه فانظره.
(الثالث) أن نسبتهما إلى جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين غير معقول من
الوجهة التاريخية ، فإن الخليفة الثاني قتل سنة 23 هـ ، وسيدنا وهب قتل ظلمًا
أيضًا سنة 110هـ أو سنة 114هـ فيكون بينهما تسعون عامًا (كذا) تقريبًا ، فلا
يبعد أن يكون لم يولد وقت قتله ، وسيدنا كعب كان مقيمًا بالشام بعيدًا عن الفرس ،
وجمعية السبئيين لم تؤلف بعد؛ لأن عبد الله بن سبأ رئيسها لم يظهر إلا في خلافة
سيدنا عثمان ، وأكثر المؤرخين على أن قتل الخليفة الثاني فردي (كذا) وأن
الذي قتله هو أبو لؤلؤة غلام سيدنا المغيرة بن شعبة الذي بعثه وهو عامل على
الكوفة ليقوم بالصنائع التي تنفع المسلمين ، وكان ضاربًا عليه مائة درهم في الشهر
فتظلم منها إلى الخليفة ، فلم يرها كثيرة فحنق عليه وقتله بعد أيام ، وحينئذ لم يكن
مرسلاً من جمعية سرية.
والخليفة الثالث قتل سنة 35 هـ ، فبينه وبين سيدنا وهب نحو الثمانين عامًا
فإن كان وُجد فالأقرب أنه كان حينئذ في سن الطفولة ، وإقامته كانت بصنعاء بعيدًا
عن مراكز الجمعيات التي حكي عنها تدبير قتل الخليفة ، أما سيدنا كعب فقد تُوفي
سنة 32هـ أي قبل قتل الخليفة بثلاثة أعوام كما ذكره صاحب الخلاصة المذكورة ،
على أن الحالة تشهد ببُعدهما عن مثل هذه الأحوال لأنه لو نسب إليهما ذلك لشاع
واشتهر ، فلم يأخذ عنهما أحد من المحدثين وخصوصًا البخاري الذي كان يمتنع عن
الأخذ عن الراوي لأدنى شبهة قيلت فيه ، وأيضًا لحكى عنهما ذلك أحد المترجمين
لهم المذكورين ، ومع أن الحافظ الذهبي التزم في كتابه (تذكرة الحفاظ) أن يذكر
فيه المحدثين الموثقين فقط ، وقد ذكرهما (كذا) بترجمتين مستفيضتين عن علمهما
وورعهما وكفى بذلك توثيقًا ، هذا ما اطلعت عليه الآن مما دوَّنه المتقدمون عن
هذين الحَبرين الجليلين ، أرجو نشره بالمجلة مشفوعًا برأيكم واقبلوا فائق الاحترام.
…
...
…
...
…
...
…
عبد الرحمن الجمجوني
(جواب المنار)
يظهر أن المنتقد قرأ عبارتنا في التفسير فانتقد ما علق بذهنه منها من غير
مراجعة لعبارتها ، ولو رجع إليها في أي وقت لرأى جلّ ما كتبه غير وارد عليها،
وما أطال به من الثناء على وهب في غير محله إذ ليس من موضوع الكلام، وكذا
ما ذكره من نفي اشتراكه في الجمعيات السرية الفارسية وفي قتل الخليفة الثاني،
وما ذكره من براءة كعب الأحبار من مثل ذلك فأنا لم أر مهمًّا بهذا، وإنما قلت فيهما:
إنهما كانا (كثيرا الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول ،
وأن قومهما كانوا يكيدون للأمة الإسلامية العربية ، فقاتِلُ الخليفة الثاني فارسي
مُرسَل من جمعية سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله
بن سبأ اليهودي ، وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن
السياسية وأكاذيب الرواية في الصدر الأول) اهـ بحروفه وسنوضحه بعد.
وذكرت قبله (أنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق
الجمهور له ، بل أنا أسوأ ظنًّا فيه على ما روي من كثرة عبادته ، ويغلب على
ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفرس) إلخ ، ولم أقل: إنه اشترك في مقتل عمر
فيرد علي بتاريخه أو بغير ذلك، والذي يعنينا من هذا النقد ما هو المقصود منه
بالذات وهو رواية لرجلين وما زعمه المنتقد من توثيق الشيخين لهما ولا سيما
البخاري ، وكون كل من رويا عنه أو روى عنه الأول ثقة لا يقبل فيه جرح ، ولا
يصح أن تكون روايته محل بحث، وفي كلام المنتقد أغلاط لغوية وفنية وتاريخية
لا حاجة إلى إضاعة الوقت في بيانها ، فأكتفي في الرد على ما ذكرت أنه المقصود
بالذات فأقول:
أما كعب الأحبار فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئًا ولكن ذكره فيه
بما يُعد جرحًا له لا تعديلاً، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب
وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية
يحدث رهطًا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق
هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (تأمل) .
قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في
البخاري ، وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له رقم البخاري
فيوهم أنه أخرج له إلخ: يعني أن ذكر صاحب التهذيب رقم البخاري وهو حرف
(خ) عند اسم كعب غلط ، وقد صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء
في صحيح البخاري وغيره، والمنتقد يبدئ ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه
له ، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من أصدق المحدثين عن أهل الكتاب ،
وأنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب- طعن صريح في عدالته وفي عدالة جمهور رواة
الإسرائيليات إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم ، ومن كان متقنًا للكذب في ذلك
يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر ، إذ لم تكن كتب أهل الكتاب
منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا ، فإن توراة اليهود بين الأيدي ، ونحن
نرى فيما رواه كعب ووهب عنها ما لا وجود له فيها البتة على كثرته، وهي هي
التوراة التي كانت عندهم في عصرهما، فإن ما وقع من التحريف والنقصان منها
قد كان قبل الإسلام، وأما بعده فجل ما وقع من التحريف هو المعنوي بحمل اللفظ
على غير ما وضع له واختلاف الترجمة، ولا يعقل أن تكون هذه القصص الطويلة
التي نراها في التفسير والتاريخ مروية عن التوراة قد حذفت منها بعد موت كعب
ووهب وغيرهما من رواتها، فهي من الأكاذيب التي لم يكن يتيسر للصحابة
والتابعين ولرجال الجرح والتعديل الأولين العثور عليها، وكذا علماء القرون
الوسطى من المحدثين وغيرهم إلا من عُني عناية خاصة بالاطلاع على كتب العهد
العتيق والعهد الجديد عند أهل الكتاب ، وعلى التواريخ المفصلة لأخبارهم وقليل ما
هم ، وقد كان مثل البخاري من جهاندة المنقول ومثل الفخر الرازي من جهاندة
المعقول يظنان أن جميع تحريف أهل الكتاب معنوي؛ لأن تغيير أهل الملة لكتابها
الديني غير معقول إذ لابد من أن يكون بالتواطؤ وإجماع الأمة، وسبب هذا أن
هؤلاء العلماء لم يكونوا يعلمون أن اليهود لم يكن عندهم من التوراة في الصدر
الأول من تاريخهم إلا النسخة التي وضعها موسى عليه السلام في صندوق
العهد (التابوت) وأنها فقدت بعد ذلك ولم يكونوا يحفظونها، وأن ما عندهم الآن
يرجع إلى ما كتبه لهم (عزرا) بعد السى ولذلك تكثر فيه الألفاظ البابلية، وهم
يزعمون أنه أُلهم الصواب فيما كتب إلهامًا.. . مع أن ما فيها من الأغلاط المخالفة
للواقع ، ومن ذِكر الحوادث التي وقعت بعد موسى ، ومن ذِكر موت موسى وعدم
ظهور أحد بعده مثله ومن.. . ومن.. . ما ينقض دعوى الإلهام المذكورة - إلى
آخر ما فصلناه من قبل في موضعه.
وأما مسلم فقد ذكره في بعض أسانيده ، ولكن ليس له رواية صريحة عنه
لحديث انفرد به فيكون جرحه موجبًا لحرماننا من الأخذ به، وقال الحافظ ابن كثير:
إن حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) الذي خطّأه المحققون بروايته
له هو ، مما أخذه أبو هريرة عن كعب على أنه صرح فيه بسماعه من النبي صلى
الله عليه وسلم وقال في تهذيب التهذيب: وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع من
مسلم في أواخر كتاب الإيمان: وفي حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة رفعه (إذا أدى العبد حق الله وحق مَواليه كان له أجران) قال:
فحدثت به كعبًا فقال كعب: ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد اهـ.
أقول: إنهم قبلوا هذه الزيادة في الحديث؛ لغرورهم بكعب حتى قال النووي:
وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه بتوقيف ، ويحتمل أنه بالاجتهاد؛ لأن من
رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله
مسرورًا اهـ ، فانظر إلى هذا التأويل المتناقض لهذه الزيادة المتعلقة بأصول العقيدة
بحيث يطلب فيها القطع ، وهي أن العبد المذكور والمُزهد - وهو بضم الميم إسكان
الزاي قليل المال - لا حساب عليهما ، فهو يجعل الحساب على كبار الأغنياء لأحرار
وحدهم ، وهذا مخالف لعمومات الكتاب والسنة القطعية ومعارَض بنصوص خاصة.
وأما ما ذكر من رواية له في آخر كتاب الإيمان منه فهو أن أبا هريرة قال
لكعب إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعوها ، فأنا أريد أن
أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) فقال له كعب: أنت سمعت هذا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. روى هذا عن كعب عمرو بن سفيان
الثقفي ، انفرد مسلم بروايته عنه وليس له غيره إلا حديث واحد ، ولمسلم عن كعب
مثله في الاستفهام من أبي هريرة عن حديث الأمة التي فُقدت من بني إسرائيل
وكونها هي الفار.
وجملة القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم الذي
في صحيح مسلم ، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند
غيره؛ ولذلك امتنع البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته، ومع
هذا كله يجعل المنتقد ما زعمه من رواية البخاري عنه الركن الأعظم لتعديله ،
والخوف على ضياع السنة من جرحه فكلامه حجة عليه.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: ونقل في الفتح انتقاد الداودي لكلمة وهب وكونها مخالفة لحديث الباب الذي رواه البخاري بعدها ، وهي على كل حال لا تدل على الورع ولا الورع يقتضي صحة الرواية مطلقًا ، وكذا نطقه ببعض الحكم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجلات وجرائد جديدة
(الإخاء)
(مجلة علمية تاريخية أدبية روائية مصوَّرة ، تصدر في أول كل شهر
أفرنكي لصاحبها سليم قبعين) قيمة الاشتراك فيها 80 بمصر والسودان ومئة
قرش في سائر الأقطار - وسليم أفندي كاتب متفنن مشهور ، وقد انفرد دون الكُتاب
في مصر بمعرفة اللغة الروسية ، فله منها مادة لا يشاركه فيها غيره ، وقد أتمت
مجلته السنة الأولى وهي أشق المراحل ، فصار الرجاء باستمرارها ونجاحها وطيدًا
وهو ما نتمناه له ولها.
***
(المجلة الشهرية)
مجلة جديدة يصدرها بالقاهرة إسكندر أفندي مكاريوس ، ويتولى رئاسة
تحريرها نجيب أفندي شاهين ، وقد قال في مقدمتها: (هذه المجلة مرادة للعامة
أولاً وللخاصة ثانيًا ، وغايتها مزدوجة وهي إيجابية مع الأولين وسلبية مع الآخرين،
ويكفينا من هؤلاء أن يرمقوها بنظرة عدم الإنكار، لأن الخاصة في كل بلد
متعنتون وإرضاء المتعنت صعب كما جاء في المثل، وتعنُّتُهم هذا ناشئ عن
رسوخهم في العلم وعلو كعبهم في الفن ، ونحن إنما نلم بهما إلمامًا هنا) ونقول:
هذه خطة المجلة وهي عن اختيار لا عجز ، فإن نجيبًا كاتب بارع تولى التحرير
في المقتطف عدة سنين ، وكان قبل إصدار هذه الجريدة أحد محرري جريدة السياسة
وقيمة الاشتراك في هذه المجلة خمسون قرشًا في مصر والسودان و17 شلنًا في
الخارج.
***
(صحيفة الإعلانات)
صحيفة أسبوعية جديدة (تنشر الإعلانات مبوبة ، وتبحث في المسائل
الاقتصادية والتجارية والاجتماعية) ، تصدر في كل يوم أحد في 16 صفحة كبيرة
منها أربعة باللغة الفرنسية وباقيها باللغة العربية ، صاحب امتيازها أحمد شفيق باشا
العالم الإداري الشهير ، ورئيس تحريرها الشيخ بولس مسعد من الكُتاب البارعين،
وقيمة الاشتراك السنوي فيها 25 قرشًا في مصر و40 قرشًا في الخارج، والمنتظر
منها أن تخدم النهضة الاقتصادية والصناعية والتجارية خدمة جليلة لم تُسبق إليها.
***
(أم القرى)
جريدة عربية إسلامية أسبوعية تصدر في مكة المكرمة مكان جريدة (القبلة)
التي كان يصدرها الملك حسين، مديرها يوسف أفندي ياسين من أفضل شبان
النابتة العربية السورية ، وسنخصها بمقال مطول في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سبب اتباع المسلم للإسلام
ونفوره من دعوة النصرانية
(س19 و20) من القس الدانمركي ألفرد نيلسن في دمشق
ما هو الذي يجعلك تتبع دين الإسلام كدين الحق، وإذا تعرفت بالتبشير
المسيحي وبالكتب المسيحية فما هو الذي يبعدك ويُنفِّرك عن دعوتها؟
(ج) ثبت عندي أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلاً أميًّا لم يتعلم
القراءة ولا الكتابة، ولا عاشر أحدًا من علماء الأديان ولا التاريخ والقوانين
والفلسفة والآداب، ولا غير ذلك، وأنه لم يكن شاعرًا ولا خطيبًا، ولا محبًّا لما
كان معهودًا بين كبراء قومه وأذكيائهم من الرياسة والمفاخرة والشهرة بالفصاحة
والبلاغة، وإنما كان ممتازًا بين أقرانه في قومه بسلامة الفطرة وحب العزلة
والصدق والأمانة والعفة والمروءة وغير ذلك من مكارم الأخلاق، حتى لقبوه
بالأمين ، قضى على ذلك سن الصبا والشباب الذي تظهر فيه جميع رغبات البشر
ومزاياهم ، ثم إنه بعد إكمال الأربعين والدخول في سن الكهولة ادعى النبوة ، وأن
الله بعثه رسولاً إلى الناس كافة كما أرسل من قبله من الرسل إلى أقوامهم بمثل ما
أرسله به من الدعوة إلى توحيده تعالى وعبادته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله
والدار الآخرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحق والعدل
بالمساواة بين الناس ، وغير ذلك من أصول العقائد المعقولة ، والآداب العالية ،
والأحكام والشرائع العادلة، التي أكمل الله تعالى بها الدين، وجعله بها خاتم النبيين ،
بما يعد إصلاحًا يفوق جميع ما كان عليه البشر من أتباع الأنبياء وغيرهم ، وجاء
بكتاب في ذلك قال: إن الله تعالى أنزله عليه ، وأنه وحي من لدنه سبحانه يعجز
جميع البشر عن الإتيان بمثله في علومه ومعارفه وإصلاحه وتأثيره في إبطال الشرك
والخرافات والأباطيل الفاشية في البشر وإصلاح الفطر والقلوب والأعمال لمن
اهتدى به. كما أنه معجز في أسلوبه وبلاغته وتحدَّى الناس بذلك فعجزوا عن الإتيان
بسورة من مثله وجاء فيه من أخبار الغيب الماضية والمستقبلة ما ثبت
ثبوتًا قطعيًّا، ومنه أن الله تعالى سينصره ويخذل أعداءه ، ويستخلف قومه وأمته في
الأرض ، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وقد وقع جميع ما أخبر به، وما وضح
به صلى الله عليه وسلم أخباره كفتح بلاد كسرى وقيصر ، ومنها مصر التي وصى
بأهلها خيرًا، وأيده الله تعالى بآيات أخرى.
ومن أهم ما أخبر به القرآن مما لم يكن يعلمه أحد من قوم الرسول صلى الله
عليه وسلم ولا في بلاده أن اليهود والنصارى {أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ} (آل
عمران: 23) ، وأنهم نسوا حظًّا مما ذكروا به، وأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا،
ودخل عليهم الشرك ، ومن العجيب أن المسلمين لم يعلموا مصداق ذلك بالتفصيل
إلا بعد اطلاعهم على مجموعة كتب الفريقين وتاريخها ، ثم ما كتبه أحرار علماء
أوربة من الطعن فيها، فمن أين عرف ذلك رجل أُميّ نشأ بين قوم أميين لولا وحي
الله تعالى له بذلك؟
فهذه نبذة مجملة في بيان سبب استمساكي بعروة الإسلام ، واعتقادي أنه الدين
الحق بالاختصار الذي اقترحه القس السائل.
وأما سبب نفوري من دعوة المبشرين دعاة النصرانية فهي اعتقادي بطلان
دعوتهم في نفسها ، فإن أساسها أن آدم عصى ربه فاستحق هو وذريته العذاب
الأبدي بعدل الله، وأن عذابهم ينافي رحمة الله ، فلم يجد سبحانه وسيلة للجمع بين
رحمته وعدله إلا أن يحل في ناسوت أحد بني آدم ، ويتحمل العذاب والألم واللعنة؛
لتخليصهم من العذاب ، فحل في ناسوت المسيح لأجل ذلك ، ومع هذا لم يتم له ما
أراد فإنه اشترط لخلاصهم أن يؤمنوا بذلك ، ولكن أكثرهم لم يؤمنوا به ، ورأيت
جل تأثير هذه الدعوة في الذين يجهلون حقيقة الإسلام تشكيكهم في أصل الدين،
وجعْلهم من الإباحيين، وإيقاع الشقاق بينهم وبين غيرهم ، ومن أهم تلك الأسباب
التي جعلتني أحتقر أكثرهم ما ثبت عندي من كونهم يتَّجرون بالدين اتجارًا فيكذبون
ويحرِّفون، ومنهم الملحدون الذين لا إيمان لهم، والمقلدون المتعصبون الذين
يبغضون المسلمين بما تربوا عليه مما لا يجهله القس السائل، ولا أنكر مع هذا أنه
يوجد فيهم المتدين المخلص في دينه، ولكن هذا بحسب اختباري قليل، والله يقول
الحق وهو يهدي السبيل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإسلام وأصول الحكم
بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام
بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها، وتضليل أبنائها
(تمهيد) ما زال أعداء الإسلام الطامعون في ثل عرشه والقضاء على ملكه
وإبطال تشريعه، واستعباد الشعوب التي تدين الله به، يجاهدونه بالسيف والنار،
وبالكيد والدهاء، وبالآراء والأفكار، وبإفساد العقائد والأخلاق، وبالطعن في جميع
مقومات هذه الأمة ومشخصاتها، وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها
وأفرادها، ليسهل جعلها طعمة للطامعين، وفريسة لوحوش المستعمرين، وقد كانت
هذه الحرب السياسية العلمية للإسلام والمسلمين أضر وأنكى من الحروب الصليبية
باسم الدين ، فالحرب الصليبية كانت تجمع كلمة المسلمين للدفاع عن حقيقتهم
والمدافعة عن سلطتهم، وهذه الحرب المعنوية فرقت كلمتهم وشقت عصاهم،
ومزقت شمل شعوبهم، وأذاقت بعضهم بأس بعض، فصاروا عونًا لأعدائهم على
أنفسهم ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
قد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين محو اسم السلطنة العثمانية
الإسلامية من لوح الوجود، وإلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم الصغيرة،
التي أمكنهم استبقاؤها من تلك السلطنة العظيمة ، وتأليفهم حكومة جمهورية غير
مقيدة بالشرع الإسلامي في أصول أحكامه ولا فروعها ، وتصريحهم بالفصل التام
بين الدولة والدين؛ فذعر العالم الإسلامي وزلزل بعملهم هذا زلزالاً شديدًا،
وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم من نصارى الشرق وملاحدة المتفرنجين
المارقين من الإسلام، ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر، هاتفين لعمل الترك،
وكذلك فعل أمثالهم في سائر البلاد، إلا أن هؤلاء نشطوا لجعل الحكومة المصرية
حكومة لا دينية كحكومة أنقرة فهزئ العالم الإسلامي بدعوتهم وسخر منهم ، وراجت
في مقابلتها الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي عام؛ لإحياء منصب الخلافة بقدر ما
تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان.
بينا نحن معشر المسلمين على هذا إذا نحن بنبأة جديدة في شكلها، تؤيد تلك
النزعة الإفرنجية النصرانية في موضوعها، وتلك الفعلة الإلحادية في مشروعها.
بينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة ، لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام
صادقًا ولا كاذبًا، بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي ولا
جهمي ولا معتزلي، بل لم تخطر على بال أولئك الزنادقة الذين زعموا أن للإسلام
باطنًا غير ظاهره، فظاهره للعوام الجاهلين، وباطنه للخواص العارفين، وأرادوا
هدم سلطان الإسلام بالإسلام؛ لإعادة سلطان المجوسية الكسروية التي قضى عليها
المسلمون القضاء الأبدي، وإنما سبق الناعق بها اليوم ناعق آخر من متفرنجة هذه
البلاد ومن رجال القانون والقضاء الأهلي ، قيل: إنه انضوى إلى دين البابية
البهائية آخر فرق الباطنية ، نعق بها هذا الرجل في مجمع عقده لها في الإسكندرية
منذ بضع سنين بخطاب (محاضرة) ألقاه على كثير من رجال القانون ، ثم طبعه
ووزعه بالمجان فرددنا عليه ردًّا أعجزه فلم يستطع أن يدافع عن نفسه ولا دافع عنه
أحد من أعداء الإسلام ، لا من البهائية ولا من رجال قوانينهم الوضعية الذين
يريدون أن ينسخوا بها الشريعة الإسلامية.
وأما الناعق بهذه البدعة اليوم فمن العلماء المتخرجين في الأزهر ومن قضاة
المحاكم الشرعية {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) ، ومن بيت كريم في هذه
البلاد عُرف أهله بالآداب العالية والأخلاق وبالدين أيضًا ، خلاصة هذه البدعة:
أنه ليس للإسلام خلافة ولا إمامة ولا حكومة ولا تشريع سياسي ولا قضائي ،
وأنه دين روحاني محض كدين النصارى بالمعنى الذي فهمته شيعة البروتستانت
منهم دون من قبلهم ، وأن ما ادعاه المسلمون من عهد أبي بكر الصديق رضي الله
عنه إلى يومنا هذا من أمر الإمامة والخلافة باطل من القول وضلال من العمل،
وفساد في الأرض، لما جعلوه للخليفة من السلطان الديني الإلهي، وإنما أضل
جماعة المسلمين في ذلك الملوك؛ لتوطيد سلطانهم فيهم، وأن أبا بكر كان ملكًا
للعرب أراد أن يحقق وحدتهم. ويجعل السلطان لقريش وحدهم فيهم، وليس له ولا
لمؤيديه حجة من الدين، ولم يكن جميع الخارجين عليه والمانعين أداء الزكاة له
مرتدين عن الإسلام، وأن قتالهم لم يكن دينيًّا بل سياسيًّا للدفاع عن دولة العرب
ووحدتهم، والدين نفسه لم يوجب أن تكون للعرب ولا لغيرهم من المسلمين دولة
ولا وحدة ، بل لكل فريق من المسلمين عربهم وعجمهم أن يقيموا لأنفسهم حكومة
يرضونها، ودين الإسلام لم يقيدهم في ذلك بقيد ما ، بل هو بريء من كل ما
عزوه إليه من ذلك.
هذه خلاصة البدعة الجديدة التي قام ببثها اليوم في العالم الإسلامي الشيخ علي
عبد الرازق (من علماء الجامع الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية) المصرية بكتاب
ألفه فيها جاوزت صفحاته المائة، وهو يوزعه في الأقطار الإسلامية - على ما
بلغنا - بغير ثمن، وما كان لدعاة الأديان والمذاهب والأحزاب السياسية
والاجتماعية أن يستغلوا دعايتهم ويتجروا بالمال فيها فحسب الديني منهم ثواب الله
في الآخرة، والدنيوي عظمة الدنيا وجاهها والانتظام في سلك مؤسسي الانقلابات
الكبرى فيها.
ولا ينبغي لنا أن نكتفي في بيان ملخص هذه البدعة بما فهمناه من الكتاب من
غير نقل عبارته في النتيجة المرادة منه، وإن كان هذا الملخص مقدمة وتمهيدًا لرد
طويل مفصل نبطل به نصوصه المختلبة، ومقاصده المختبلة، قال في الصفحة
الأخيرة منه (ص103) ما نصه:
(والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون
وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة، والخلافة ليست
في شيء من الخطط الدينية. كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم
ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم
يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى
أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة) ، ثم قال إيضاحًا لهذا:
(لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم
الاجتماع والسياسة كلها ، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه [1]
وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن
ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم) .
أقول: القضية الأولى من هذا الإيضاح حق أريد به باطل وهو ما بعده،
فنظام الخلافة الإسلامية أفضل نظام عرفه البشر ، وكان المسلمون أعز الأمم عندما
أقاموه ، وما ذلوا واستكانوا لغير ربهم إلا عندما تركوه، وما كان لأمة عاقلة مستقلة
أن تبني قواعد ملكها ونظام حكومتها على أحدث تجارب غيرها من الأمم فتكون
كقدح الراكب لا تستقر على حال من القلق والاضطراب، ومن ذا الذي يحكم لها
بالخيرية بين الجمهورية والملكية، وبين الاشتراكية والبلشفية والرأسمالية مثلاً؟
وإذ كان يقول: هذا حكم الإسلام في المسألة عنده فماذا يقول فيما في القرآن
والسنة من الأحكام السياسية: كالمعاهدات والمعاهدين وأحكام الحرب ، والأحكام
القضائية الشخصية كالمواريث والزواج والطلاق والعدة ، والأحكام المدنية كتحريم
الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وأحكام العقوبات من حدود وتعزيزات؛ هل
ينكرها من أصلها كما أنكر أحاديث الخلافة والإجماع على نصب الخليفة؟ أم يقول:
إن طاعة الله ورسوله لا تجب فيها، وإنها مستثناة من حكم قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ويستدِلُّ على
ذلك ببعض الشعر الذي يحفظه من الأغاني والعقد الفريد ودواوين الشعراء كما فعل
فيما سنذكره من دلائله في بحث الخلافة.
أم يقول فيها كما قال سلفه والسابق له إلى اقتراح هدم حكومة الإسلام من
أساسها ، ونسف أصولها الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس أحمد صفوت
أفندي الذي أشرنا إلى بدعته آنفًا ، تلك البدعة التي كانت سببًا فيما نرى لندب
الإنكليز إياه لإصلاح القضاء في فلسطين! ! وملخصها: أن النبي (صلى الله
عليه وسلم) كان حاكمًا للمسلمين ، وكانت طاعته واجبة كما تجب طاعة كل حاكم
في زمن حكمه، وأن أحكامه لا يجب أن تتبع من بعده، وأن لكل حاكم في كل
زمن مثلما كان له من ذلك وله بمقتضاه أن يلغي كل حكم كان قبله، لا فرق بين
الرسول وغيره، وكذلك إجماع المتقدمين وأقيستهم لا يجب أن يؤخذ بها من بعدهم
فإجماعنا في هذا العصر خير لنا من إجماعهم، وأقيستنا خير لنا من أقيستهم.
وأما أحكام القرآن فقد صرح بأنها هي التي فرضها الله على المسلمين في كل
زمان دون غيرها ، ثم جعل ما عدا المبادئ العامة منها (أي كالأمر بالعدل) ثلاثة
أقسام: ما حرمه الله وما أوجبه وما جوزه - فحكم الأول عنده - وقد مثل له بتحريم
الأمهات والبنات - أن لا يتعرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه! ! وحكم
الثاني عنده - وقد مثل له بالعدة والإشهاد على عقد الزواج - أن يبقى منه ما تتحقق
به الحكمة المقصودة منه ، فيستغنى بها عن التزام الحكم نفسه......... [2] حكومة أن
تحرم بالقوانين الوضعية ما تشاء منه ، ثم قال ما نصه: (وبذلك ينقض وجوب
التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ الواردة في القرآن) .
فخلاصة رأيه أن كل ما ثبت بالسنة أو الإجماع أو القياس من الأحكام
الشرعية لا يجب على أحد من المسلمين العمل به، وأن أحكام القرآن نفسها لا
يجب العمل بنصوصها ومدلول ألفاظها، وإنما يبحث المسلمون ما داموا يدَّعون
الإسلام عن مرمى المحرمات منها فيراعونه، وعن حكمة الواجبات فيراعونها ، وأما
الجائزات فلهم أن يحرموا منها ما أحله الله أو يوجبوه بحسب ما يتراءى لحكوماتهم
في كل زمان.
ولكن ظاهر عبارة عالم الأزهر وقاضي الشرع الذي جاء خلفًا لهذا السلف
القانوني في هدم التشريع الإسلامي أن أحكام القرآن كغيرها لا توجب على المسلمين
التقيد في حكومتهم بها ، ولا تمنعهم أن يأخذوا بأحدث تجارب الأمم فيها حتى إذا
فرضنا أن أحدثها وهي البلشفية نجحت فلا حرج عليهم في الأخذ بها.
أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه: إنه هدم لحكم الإسلام
وشرعه من أساسه، وتفريق لجماعته، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في
جميع الأحكام الشرعية الدنيوية، من شخصية وسياسية ومدنية وجنائية ، وتجهيل
للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين والمحدثين والمتكلمين،
وبالجملة هو اتباع لغير سبيل المؤمنين ، فالإسلام بريء منه بحسب ما فهمه
المسلمون من العصر الأول إلى عصرنا هذا ، وإننا سنرد على جميع أبوابه
وفصوله ردًّا مفصلاً جريًا على خطتنا في الدفاع عن ديننا وملتنا، ولكننا لا نقول
في شخص صاحبه شيئًا فحسابه على الله تعالى ، وإنما نقول: إنه لا يجوز لمشيخة
الأزهر أن تسكت عنه كما سكتت عن أحمد صفوت وأمثاله، فإن هذا المؤلف
الجديد رجل منهم ، فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو
وأنصاره: إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه، فإن كان ردنا عليه
ودحضنا لشبهاته يرفع عنهم إثم الإنكار عليه وتحذير الناس من ضلالته - لأن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات - فإن للأئمة التي توجه
إليهم بالسكوت عن مثل هذا لا ترتفع بردنا وحدنا، بل يحط من أقدارهم في نظر
الأمة كلها، وحاشاهم الله من ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الاستكانة: الذل والخضوع تتعدى باللام لا بـ (إلى) قال تعالى: [فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ](المؤمنون: 76) .
(2)
يوجد هنا بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه.
الكاتب: أحمد بن تيمية
مناظرة ابن تيمية العلنية
لدجاجلة البطائحية الرفاعية
(وهي من أعظم ما تصدى له ، وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن
تيمية - قدس الله روحه - من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإحياء السنة، ومحاربة البدعة، بعد أن أهمل ذلك الحكام ، فالعلماء ، ففشت البدع
وصار كثير منها يُعد من شعائر الدين، أو خصائص الصالحين، فكان رحمه الله
من أعظم المجددين) قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين.
(أما بعد) فقد كتبت ما حضرني ذِكْره في المشهد الكبير بقصر الإمارة
والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكُتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم ، في
أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس؛ لتشوُّف الهمم إلى معرفة
ذلك ، وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع
بعض أطراف الواقعة ، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن
الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويَرَه لانتشار هذه الواقعة العظيمة،
ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا وقهر الناس على متابعة الكتاب
والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة
والتلبيس على المسلمين.
وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم وطريق
الشيخ أحمد بن الرفاعي ، وحاله وما وافقوا منه المسلمين وما خالفوهم؛ ليتبين ما
دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه
في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة
المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم، وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في
غير هذا الموضع ، وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر
والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتألُّه والوجد والمحبة والزهد والفقر
والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف
ونحو ذلك ما يوجد ، فيوجد أيضًا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر،
ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف
بشريعة الإسلام والكذب والتلبيس، وإظهار المخارق [1] الباطلة ، وأكل أموال
الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.
وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة ، بيَّنت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم
بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم
جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق
مثل ملابسة النار والحيات ، وإظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل
والسكر وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد
غير مرة منهم قوم إظهار ذلك ، فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن
أسترهم ، فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام
فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن
نغتسل بما يذهب الحيلة ، ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن
ذلك.
وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التَّتَر بالمشرق ، وكان له
صنم يعبده قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ، ويبقى أثر
الأكل في الطعام بيِّنًا يُرَى فيه، فأنكرت ذلك، فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟
فقلت: نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر،
فاستعظم ذلك التتري ذلك ، وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل لكن
اليوم بحضورك لم يظهر ذلك ، فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك ، ذلك
التتري كافر مشرك ، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام ، وأنت
كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل
ذلك بحضورك [2] ، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري
بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم
بُلْق فيكم سواد وبياض ، فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا.
وقلت لهم في مجلس آخر لمَّا قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن
عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن من الأعراب والفلاحين أو الأتراك أو
العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة ، لم يُحسب لكم ذلك ، فمن معه
ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص
من المغشوش من الصُّفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك ، فقالوا لي: لا
نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا [3]، فقلت: همتي ليست معكم بل أنا معارض
لكم مانع لكم؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا ، فانقلبوا صاغرين.
فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ
البر مُطوَّقين بأغلال الحديد في أعناقهم [4] ، وهو وأتباعه معروفون بأمور ، وكان
يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن ، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من
الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينًا ، يوهمون به
الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وأنه سِيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين
طريقهم: أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع وقلت:
هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة
ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم [5] ، ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به إلى الله
تعالى؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد
كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك ، وهو أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال: (ما لي أرى عليك حلية
أهل النار) [6] ، وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه
بأهل النار من المنكرات ، وقال بعض الناس: قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره: (أحب القيد
وأكره الغل القيد ثبات في الدين) فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة [7] .
فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع زيادة ، وخوفته
من عاقبة الإصرار على البدعة ، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله ، ونحو ذلك من
الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به ، وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في
الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ، ولا اتخاذها
طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله
يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة
إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس
مثلهم.
فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به ، وهو أن المباحات إنما تكون
مباحة إذا جعلت مباحات ، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم
يشرعه الله، وجعْل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعْل ما ليس من
المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم
ذم الله في القرآن لمن شرَّع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله
بتحريمه [8] فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا
كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعْل مباح أو مكروه أو محرم ، لم
يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين
إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما
ليس بطاعة ولا عبادة [9] .
ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين وعهود أهل
الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك ، ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين
والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله ، لكن قد يكون عليه
كفارة عند الحنث في ذلك ، ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد
بالتزامه طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من
طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واتباع الكتاب والسنة إذ كان المسلمون
متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر
وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله
عليه وسلم ، وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما عُلم باتفاق الأمة أنه ليس
بواجب ولا مستحب ولا قربة ، لم يجُزْ أن يُعتقَد أو يقال: إنه قربة وطاعة، فكذلك
هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا
ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة
وعمل، وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم
يكن محرمًا لا ينهى عنه ، بل يقال: إنه جائز [10] ولا يفرقون بين اتخاذه دينًا
وطاعة وبرًّا وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينًا
بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما وبالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر
السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها
معاصي سيئات.
***
فصل
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ، ومضت على ذلك مدة والناس
يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين،
ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة،
وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر (ذلك الشيخ) لمسجد الجامع ، وكان قد كتب إليّ
كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار ، وهو كلام باطل لا تقوم به
حجة، بل إما أحاديث موضوعة أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد
عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل ، فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب ،
فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك، وحضر عندنا منهم شخص ، فنزعنا
الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور
بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ
اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50) ؛
ولهذا غالب وَجْدِهم هوًى مطلق لا يدرون مَن يعبدون ، وفيهم شَبَه قوي من
النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77) ؛ ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء.
فحملهم هواهم على أن تجمَّعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع
مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب ، فلما قضيت صلاة الجمعة
أرسلت إلى شيخهم؛ لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ونتفق
على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة وكأنهم
اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم ، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر
لي وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم
مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة ،
فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين
الضجيج والعجيج، والإزباد والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، والتقلب
في نهر بَرَدى، وإظهار التوله الذي يخيلوا [11] به على الردى، وإبراز ما يدعونه
من الحال والمحال، الذي يسلِّمه إليهم مَن أضلوا مِن الجهال.
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له: هم مشتكون،
فقال: ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى عليّ ودعوى الاعتداء مني
عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم:
فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا:
بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا:
نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا [12]، قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه
نصرناه، قالوا: نريد أن تشد منا، قال: لا ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو
معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل
إليّ بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم ، عرفني بصورة
الحال ، وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.
فلما علمت ذلك أُلقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين،
وكشف حال أهل النفاق المبتدعين؛ لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت
البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت
إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال،
وكثر فيكم القيل والقال ، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان ، فهو الذي
أوقع نفسه في الهوان ، فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين
يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة،
والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة ، وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار
الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع
محمد بن عبد الله ، وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.
ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع [13] ، وذكر أنه لا بد من
حضورهم لموعد الاجتماع؛ فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته
واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن
أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك ، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل،
وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل ، وقد كان بقايا الصابئة
أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى
الدهماء ، وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه
من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية ،
يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة ، ثم إلى الإشراك ، ثم إلى جحود الحق
تعالى ، ومِن شِرْكهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن
الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق كالملحدين من أهل الاتحاد ،
والغالية من أصناف العباد ، فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب
أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو
المسبب لجميع الأسباب ، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء،
وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به
على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالاً لا
يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء ، وأن شيخهم
هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن
المنكِر عليهم ما هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر ،
وأن لهم طريقًا وله طريق ، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى
ذات الزخرف والتزويق ، وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على
الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور
الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في
دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول
قائل.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أطلقوا اسم المخارق والمخاريق على الخوارق المفتعلة بالحيل والتلبيس والشعوذة ، وهي في أصل اللغة ضرب من لعب الصبيان.
(2)
لعل ذلك الشيطان من شياطين الإنس كأن يأكل من الطعام في غفلة من ذلك الأمير الخرافي ، ويوهمه أن الصنم أكله لمصلحة له في التلبيس عليه.
(3)
أراد بهذا رشوة شيخ الإسلام بمشاركته في هذا الجاه الباطل على حد [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ](القلم: 9) .
(4)
رأيت مثل هؤلاء في الهند من متصوفة الشرك.
(5)
أي يقتدي بسيرتهم لموافقتها الكتاب والسنة كالجنيد.
(6)
رواه النسائي وله تتمة.
(7)
أصل الحديث في الصحيحين وهذا لفظ مسلم وبعده: فلا أدري هو هو في الحديث أم قاله ابن سيرين اهـ؛ أي رواية عن أبي هريرة ، وفي رواية له إسناده إلى أبي هريرة وليس في رواية البخاري له شيء من الشك المذكور.
(8)
بل جعله من الشرك أو الكفر المتعدي الذي هو أضر من الشرك كما بيناه في تفسير [وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ](الأعراف: 33) وغيره راجع ص398-404 من جزء التفسير الثامن ، وكذا ص143 و147 و164 و181 منه.
(9)
لعله سقط من هنا: طاعة وعبادة، منصوبين.
(10)
سقط جواب (إذا) من الناسخ ، ومعناه أنهم يرون جواز جعله قربة وعبادة ، وهذا مثار كثير من البدع المحدثة ، وذكر لي بعض علماء الأزهر في هذه الأيام أن بعض كبار علمائه كانوا يتكلمون فيما يتكره الوهابية من بدع القبور وغيرها ، ويستحسنون ذلك ، فقال بعضهم منكرًا: ولكنهم منعوا أن يستشفع بأصحابها الصالحين ، فقال له شيخ الأزهر (الأستاذ أبو الفضل الجيزاوي) : هذا هو الشرع فقال المنكر: ما دليله؟ فقال الشيخ: إنما يطلب الدليل على الإذن به لا على المنع، فدل هذا على أن الشيخ - أيد الله به السنة - أعلمهم.
(11)
كذا ولعل أصله تحيلوا أي اتخذوا الحيل وسيلة للجاه فساقتهم إلى الردى ، ذلك بأن أفعالهم التي ذكرها ولباسهم وأغلالهم لها تأثير عظيم في قلوب العوام وأصحاب الأوهام.
(12)
هذه كلمة باطلة قالها بعض الفقهاء المغرورين بالدجل ، فاتخذها الدجاجلة أصلاً شرعيًّا وحكمًا إلهيًّا.
(13)
لعل أصله الأمير المطاع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
العالم الغربي والعرب والإسلام
(2)
وماذا يقول الإنسان وماذا عساه أن يباحث أو يناظر لا يخجلون أن يقولوا:
إن الأوربيين بقوا أصدقاء للمسلمين ثلاثة قرون، وأنهم ما ثاروا للحرب الصليبية
إلا بسبب الأتراك، بما تعدوا به على أمم البلقان وعلى شواطئ الإدرياتيك.
مرارًا تمنينا أن الذي لا يعلم شيئًا لا يتشدق به، ومرارًا أملنا أن الذي يرى
نفسه مخطئًا يتجنب الخوض فيما لا يعرفه، إن القارئ ليرثي لهذا القول ولهذا
القائل، وأحيانًا يغلب عليه الضحك، فإنه عندما زحف الأوربيون إلى سورية
وفلسطين لم يكن فيهما أتراك، وما كان الترك إلا في قونية وإن كان الترك حاربوا
الصليبيين في قونية وأنهكوهم نوعًا، فتكون تلك منهم خدمة للعرب الذين كانوا
يومئذ هدفًا للصليبيين، وكان هؤلاء زاحفين إليهم، فإن الصليبيين كانوا قاصدين
القدس والشام والحجاز ومصر لا قونية التي لم يكن لهم شغل بها، والقدس
والشام ومصر والحجاز لم تكن تركية بل عربية، ثم لما قصدوا مصر لم تكن مصر
للأتراك، ثم لما قصدوا تونس في زمان مارلويس لم تكن تونس للأتراك، ثم لما
قصدوها وأخذوها في زمن شارلكان لم تكن للأتراك، ولما استولوا على وهران
وأكثر سواحل مراكش لم يكن شيء من ذلك للأتراك، ولما قصد البرتغاليون
زنجبار في القرن الخامس عشر، وأزالوا منها ملك العرب ثم عمان واستولوا عليها
لم يكن ثمة أتراك، ولما تحالفوا مع الحبشة وقصدوا محاربة مصر وتحويل النيل
الأزرق عن مصر لم تكن مصر للأتراك، وجميع الحروب التي قد وقعت بين
الإفرنج وعرب الأندلس وممالك المغرب لم يكن شيء منها بسبب الأتراك، ولا كان
هناك أتراك، ومما يقهقه له الإنسان من الضحك؛ كون الإفرنج غضبوا على
المسلمين وحاربوهم؛ لكون المسلمين كانوا يُصلون لانتصار الأتراك.. . وانظر
إلى هذه الجملة وتأمل ما فيها من الادعاء مع خلو معناها التام من الصحة وهي هذه.
(إن التاريخ يوضح بما لا يحتمل التأويل ولا يقبل الشك ولا يجوز معه
الجدل ولا نسوغ فيه مناقشة أن العالم الغربي (أي أوربا) بقي ملازمًا صداقة
المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي الشهير عليه، إلى أن
قام الأتراك وتعديهم عليه تباعًا في سهول البلقان وعلى الشاطئ الأدرياتيكي؛ مما
حرك فيه عامل الانتقام لزعمه؛ وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم الإسلامي راضٍ
عن أعمال الأتراك هذه طالما مئات ملايين تصلي لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر
الترك المسلمين على أعداء دينهم) انتهى بنصه الشائق.
ولا يعلم الإنسان ماذا يصلح وماذا يصحح من الأغلاط في هذه الجملة التي
يظهر أنها قرئت في كتاب إنكليزي، فعربت بهذه الصورة، واتخذت حجة،
وظنت آية منزلة، وصارت لا تقبل الشك، ولا تحتمل التأويل.. نقول:
أولاً - عندما قصد الإفرنج الشرق إنما كان مقصدهم بلاد العرب ولم يكن
حينئذ بها أتراك.
ثانيًا - اعتدى الإفرنج على مصر وجزيرة العرب وطرابلس وتونس
والجزائر والقطر المراكشي وعرب الأندلس حينما لم يكن فيها أتراك، ولا لها
علاقة بالأتراك كما قلنا.
ثالثاً - عندما زحف الإفرنج في الصليبية الأولى (سنة 1099) إلى بيت
المقدس لم يكن الأتراك وصلوا إلى سهول البلقان تباعًا ولا إلى الشاطئ الأدرياتيكي
حتى يقال: إن العالم الغربي انتقم من غارات الأتراك في سهول البلقان والشاطئ
الأدرياتيكي بالاعتداء على العرب في القدس والشام ومصر، فإن الإفرنج زحفوا
إلى سورية وفلسطين في القرن الحادي عشر، وأن الأتراك زحفوا على سهول
البلقان والساحل الأدرياتيكي في أواخر القرن الرابع عشر، فبمقتضى هذه العبارة
يكون الإفرنج انتقموا من العرب في بلاد العرب عن أعمال عملها الترك معهم تباعًا
في سهول البلقان والساحل الأدرياتيكي، قبل وقوعها بأربعة قرون ونصف، وهل
تظن أن المكابر يعدل عن عناده ولو ظهر له هذا الجهل الفاضح ممن نقل عنه
وصدق كلامه؟ كلا قد جربنا ذلك من قبل فلم يزل الذي يعرف بما لا يعرف مصرًّا
على خطئه.
رابعًا - كيف بقي العالم الغربي ملازمًا صداقة المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد
انتصار صلاح الدين عليه، وصلاح الدين انتصر على الإفرنج سنة 1192، وبعد
ذلك جرت الصليبية الثالثة التي كانت أشد الصليبيات، وبقيت الحرب فيها على
عكا سنتين ثم عقبتها الصليبية الرابعة سنة 1204، ثم الصليبية الخامسة سنة
1221، ثم الصليبية السادسة سنة 1229، ثم الصليبية السابعة سنة 1252 التي
غزوا فيها دمياط، ثم الصليبية الثامنة سنة 1270 في زمن لويس التاسع وفيها
غزوا مصر، وأُسر فيها مارلويس وبعد أن فدى نفسه عاد فغزا تونس، ومات في
حصارها.
فهذه كلها حروب اعتداء في اعتداء على المسلمين، لا سيما على العرب
الذين ذاقوا فيها من الأهوال والنكبات ما لا يوصف، وكلها من بعد صلاح الدين
وضمن ثلاثة قرون (الصداقة) التي زعمها صاحب تلك الجملة المعربة، فإن
كانت هذه هي الصداقة فيكف تكون العداوة يا تُرى؟ ثم بعد تلك القرون الثلاثة
حروب أخرى تقدم ذكرها لم يكن فيها أدنى رائحة للأتراك، وإنما اضطر عرب
المغرب بتوالي تعدي الإفرنج عليهم إلى استنجاد الأتراك، الذين استخلصوا تونس
والجزائر ووهران في زمن سليمان القانوني، كما أن سواحل مراكش استخلصها
من البرتغال مولاي إسماعيل سلطان قابوس العظيم جد الأسرة السلجماسية، على
أنه من الحقائق التاريخية أن الذي زاد رابطة العرب بالأتراك هو ما رأوه فيما بعد
من جهاد الأتراك في دفع الإفرنج عن البلاد العربية، فالإفرنج هم الذين أحوجوا
العرب إلى الأتراك.
خامسًا - مضحك جدًّا قوله: إن العالم الغربي تحرك فيه عامل الانتقام لزعمه
أن العالم الإسلامي راضٍ عن أعمال الأتراك يصلي لله سرًّا وعلانية؛ لنصر
الترك المسلمين، فالعالم الغربي يذبح تلك الأمم ويوقع تلك المصائب كلها في أقوام
كل ذنبهم أنهم صلوا لنصرة أبناء دينهم بالقتال فعلاً - كما يتطوع ألوف من الإنكليز
وغيرهم اليوم في حرب الريف بجانب الأسبان - حقًّا قائل هذا القول الإفرنجي لا
يخجل، ومصدقه يستحق الرثاء، لا يكفي الإفرنج أن قصدوا القدس من أقصى
بلادهم، وخربوا ديار الشام، ونسفوا الحضارة العربية، ودخلوا بيت المقدس؛
فالتجأ المسلمون إلى المسجد الأقصى فدخلوا إليه وذبحوهم عن آخرهم نساء ورجالاً
وأطفالاً، وكانوا سبعين ألفًا حتى غاصت الخيل في الدم إلى صدورها، وامتلأت
القدس بأشلاء القتلى فاستحيا الإفرنج ثلاثمائة من المسلمين؛ لأجل نقل الجثث
وتنظيف الشوارع من الدماء، وبعد أن فرغوا من عملهم هذا عاد الإفرنج فقتلوهم
أيضًا، وارتكبوا فظائع لا يسع المقام ذكرها، بل بعد ذلك كله يأتي واحد فيقول:
(إنما فعلوا ذلك) لأن العالم الغربي زعم وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم
الإسلامي راضٍ عن الأتراك الذين اعتدوا على العالم الغربي في سهول البلقان
والشاطئ الأدرياتيكي، أي أنه يعطي العالم الغربي الحق في هذه المذابح بأجمعها
التي مذبحة المسجد الأقصى واحدة منها، ويرى الذنب ليس من العالم الغربي بل
من المسلمين الذين (صلوا لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر الترك المسلمين أبناء دينهم
(أفلا تراهم يستحقون هذه المذابح وقد صلوا هذه الصلاة؟ هذا ولو كانوا صلوا
لنصر الأتراك قبل وصول الأتراك إلى الأدرياتيكي بأربعمائة سنة.. . هنا حيلتي
مع الذي لا يعرف ما يقول أصبحت قليلة.
من كان يخلق ما يقو
…
ل فحيلتي فيه قليلة
وماذا عساني أن أعد من تلك الحقائق الناصعة والآراء الصائبة [1] ؟ أقول له:
إن بلاد شمالي أفريقية بقيت عربية؛ لكون العرب ثبتوا فيها، لا من أجل كونها
إسلامية؟ لم نعلم أي مؤرخ شرقي أو غربي أو فيلسوف اجتماعي قال هذا القول،
ولا كيف يتصور العقل أن مراكش والجزائر وتونس وطرابلس تبقى عربية بدون
إسلام، وأية رابطة تبقى للبربر الذين هم القسم الأعظم فيها مع العرب إن لم يكن
الإسلام؟ وأية قوة كانت للعرب على البربر ليس في الوقت الحاضر فقط بل في
وقت الفتح نفسه إن لم تكن قوة الإسلام، فإن فتح العرب لهذه الأقطار باتفاق جميع
المؤرخين شرقًا وغربًا إنما تم واتسق بدخول البربر في الإسلام وليس بسبب آخر.
أم ذلك القول: بأنه يجب أن نترك هذا الحلم الجميل الذي هو نشر العربية
بواسطة القرآن والهزء بهذا (الحلم الجميل) ؟ فهذا أيضًا من الفلسفة التي عجزت
العقول عن إدراكها.. . نعم إن المستعمرين ولا سيما الإنكليز تعجبهم هذه النقمة،
ويتمنون انتشارها ورواج هذا التضليل بين العرب طمعًا في حص أجنحة الأمة
العربية التي تخشى إنكلترة انتظام شملها واستئناف دولتها أكثر كثيرًا مما تخشى
الأتراك، وهذا هو السبب الوحيد في كوننا نُعنى بإدحاض هذه الأقاويل وإزالة
تلبيسها، وإظهار ما فيها من العته؛ لئلا يلصق منها شيء بأذهان الجالية العربية
بأميركا وفيها كثير من السذج وغير المتعلمين، ومن ربما يظنون أن تلك الأقاويل
على شيء من الصحة، فمعلوم عند الجميع أن كل الأمم العظيمة والصغيرة تجد
وتدأب في نشر لغاتها، وتؤسس لذلك المعاهد العلمية، وتنفق عليها القناطير
المقنطرة، وكلما ازداد انتشار لغة ازدادت سعادة المتكلمين بها وحق إعجابهم، فإن
انتشار لغة أمة من الأمم يعتبر إضافة لعدد كبير من غير أبنائها إليها، فضلاً عما
يُستجلب إليها من الميول؛ لأن من عرف شيئًا أحبه ومن جهل شيئًا عاداه، والأمة
العربية تجسدها سائر الأمم على كون لغتها هي لغة سبعين مليونًا من العرب
والمستعربين - المستعربين بسبب الإسلام ونفوذه الماضي لا يسبب آخر أصلاً -
واللغة الدينية لثلاثمائة وخمسين مليون مسلم في الأرض قد امتزجت بلغاتهم
الأصلية، وتشكلت منها أكثر ألفاظهم العلمية، وهذا كله بدون شيء من العناء
الذي يعانيه الإفرنج، لأجل نشر لغاتهم، أفمثل هذا الغرض الذي ترمي إليه كل
الأمم الراقية، وتبذل من أجل بعضه الجهود والأموال الطائلة يهزأ به؟ ويقال عنه:
(حلم جميل) لا فائدة لنا به.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
ثم عاد الكاتب إلى ذكر تلك الدعوى الغربية الغريبة في تعليل حرب
الصليبيين للعرب بأسلوب آخر وقفّى عليه بقوله:
ربما قيل لي: كررت هذا المعنى كثيراً ولم تزل ترجع إليه، فأقول: بلى؛
لأنه أعجبني وأطربني جدًّا، وحقًّا أراد أن يعامل ويغلط من يباهت في الحقائق التي
لا يختلف فيها اثنان، فليأت بمثل هذه المزاعم وليُضحك قُراءه ويُطربهم وإلا فلا، ولا سيما عندما يقول: إن هذه الرواية هي مما لا يحتمل الشك ولا التأويل، ولا
يقبل الجدل ولا يسوغ المناقشة) أنه هو كون الإفرنج لم يقصدوا سورية، ولا خربوا مدنها، ولا طمسوا حضارتها العربية، ولا ذبحوا مئات الألوف من أهلها
كالشياه، ولا أجروا الدماء في المسجد الأقصى حتى غاصت الخيل فيها إلى
صدورها، ولما وصل الخبر إلى بغداد قام العويل وعلا البكاء وهجمت العامة
على دار الخلافة، وكان يومًا عظيمًا، كلا لم يعملوا شيئًا من هذه الأفعال سنة
1099 إلا نكاية بالأتراك عن حروب مستقبلة سيعملونها نحو سنة 1400
إلى 1450.
وهذه أشبه بما كانت دول الحلفاء تقول للعرب قبل الحرب العامة وفي أثنائها:
وهو أن هذه الدول (دول الحق والعدل) ليس لها غرض سوى تحرير العرب
من عبودية الأتراك، وإنزال العقاب في هؤلاء الأتراك البرابرة، وتأسيس استقلال
للعرب يستأنفون به مجدهم السابق، وما زالوا يكررون هذا التدجيل على العرب
وصدقهم فيه كثير من معاتيه الله في ملكه كما يقال - ولا يزال بعضهم مصدقًا -
حتى وضعت الحرب أوزارها، فكانت الدائرة الحقيقية هي على العرب، وظهر
الغش والخداع وغدروا بالحسين بن علي حليفهم وهزؤوا به وهم الآن بهذه المدة بعد
سقوطه يحاولون إخراجه من العقبة التي هي من أراضي الحجاز الصرفة، وهو
أصبح لا يكره أحدًا في العالم كرهه للإنكليز، حال كون الأتراك الآن ناعمين
بملكهم مستقلين أكثر من ذي قبل (والعالم الغربي) يتزلف إليهم ظاهرًا.
لا تثقل علينا هذه الأقاويل من أجل تضمنها محاربة الدين الإسلامي أو
الجامعة الإسلامية، فإننا نحترم جميع الآراء والمذاهب، ونقرأ كلام كثيرين ممن
يجاهر بالإلحاد أو التعطيل، أو يحارب الدين المسيحي خاصة أو الدين الإسلامي
خاصة، ونأخذ كثيرًا من أقوالهم بعين الاعتبار [2] إذا كان أصحابها من ذوي العلم
والاطلاع والفلسفة والتاريخ، لا بل نعجب بهم وبسعة علمهم إذا كانوا نظير الدكتور
شبلي الشميل والأستاذ الزهاوي وأمثالهما، والجامعة الإسلامية لا نفهمها إلا بمعنى
الرابطة التي يقدر أن يستفيد منها الأمم المستضعفة منهم على قدر إمكانهم؛ لأن من
سنة الخلق أن الضعفاء يتفقون والأقوياء يختلفون، وإذا كانت إنكلترة اليوم وهي
أقوى الأقوياء تدعو فرنسة وإيطالية وأسبانية لتشكيل جبهة واحدة في وجه الإسلام
فما ظنك بالمسلمين الضعفاء، الذين هم أحوج إلى الانضمام، وكون ابن عبد
المؤمن لم ينجد صلاح الدين أثناء الحرب الصليبية على الإفرنج - على رواية أنه
لم ينجده - ناشئ عن كون الإسلام قويًّا يومئذ لا يخشى عليه بالجملة، على أن ما
جاء مخالفًا للواجب لا يجوز أن يكون قياسًا، فقد وُجد في ملوك فاس من أسقطه
أهل مملكته فذهب إلى الأسبان، وجاء بهم، وقاتل قومه، أفنجعل ذلك مثالاً ونقول:
إن خيانة الملك لقومه ليست بشيء، فقد فعل الملك فلان ما هو كيت وكيت؟ وكم
في تاريخ الإسلام من حوادث سيئة، وأخبار منكرة عن ملوك وأمراء ووزراء مما
لا يخلو منه أمة أفنتخذ ذلك حجة ونقول: ما دام فلان سرق فيجوز لي أن أسرق
وما دام فلان قتل فلا حرج علي في أن أقتل؟
وليس بالضروري الاستمساك بالجامعة الإسلامية دون سواها، فالجامعة
الشرقية هي أوسع منها وأكثر وسائل، ولقد استعدت لها الأمم الشرقية منذ أمد،
وتأسست في طوكيو جمعية؛ لغرض تحرير الأمم الأسيوية من رق أوربا ، وصل
فيها مؤخرًا اجتماع يقال: إنه لم يسبق له مثيل في الازدحام والاكتظاظ، وخطب
فيه خطباء من الصين واليابان في موضوع اتحاد الأمم الأسيوية، ووجوب
تضامنها وتعاضدها لرفع سلطة العالم الغربي عنها، وستنمو هذه الجمعية ويكون لها
شأن عظيم.
وكان يود الإنسان أن لا يكون من حاجة إلى جامعة إسلامية ولا إلى جامعة
شرقية، وأن ترتفع الفوارق الدينية والوطنية، وتصير الجامعة هي الجامعة
الإنسانية لا غير، ولكن مع الأسف نقول: إن (العالم الغربي) لا يزال بعيدًا من
هذه الإحساسات، محتقرًا غيره مجوِّزًا لنفسه استعباد سائر الشعوب في السياسة
وفي الاقتصاديات وفي كل شيء، بحيث لا يقدر الشرقيون أن يسترسلوا إليه أو
يثقوا به، فإذا قام واحد مع ذلك يناضل عن (العالم الغربي) بعلم وحكمة وإنصاف
وروايات صحيحة شأن العلماء - سَرَّ الإنسان أن يناظرهم ولو كانوا سائرين في
عكس خطة الشرقيين، وأما النضال عن (العالم الغربي) بمثل هذا الخلط الذي قدمت لك أنموذجات منه فهو شيء مزعج لا يطاق، ويخشى الإنسان منه على أذهان البسطاء. اهـ.
_________
(1)
يعني أقوال ذلك المتفرنج الملحد الذي يرد عليه.
(2)
المنار: المراد بالاعتبار ما فيها من العبرة والموعظة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله
(4)
تتمة شرح مطالب الأزهريين
(المطلب السادس) : (تعديل الكشف الطبي بحيث لا يُمنع من تولي
وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ، ومعاملة العلماء معاملة خاصة في
الكشف الطبي بوزارة المعارف، وحفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف
التدريس بالأزهر، ووظائف الإمامة والخطابة بالمساجد) .
إن من ينظر إلى الإجراءات التي يتخذها ما يسمونه (القومسيون الطبي)
ليثبت بها صلاحية الشخص للوظيفة، يجد تلك الإجراءات شديدة وقاسية، وهي
أشد وأقصى إذا عومل بها الأزهريون، الذين اعتادوا أو عودهم ولاة الأمور أن لا
يُعتنى بهم صحيًّا، وأن يتركوا لجيوش الأمراض المختلفة تفتك بهم، فأماكن
الدراسة في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح - ولم توجد إلا لتكون أماكن
للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة القاسية، وفي زمني الحر
والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف الصحة الجيدة، هذا إلى
المتاعب الكثيرة التي يستلزمها الانكباب على الدرس والتحصيل، سيما في العلوم
الأزهرية البعيدة الغور والطويلة المدى، ولا ريب أن ذلك كافٍ لأن يحول دون
استيفاء خريجي الأزهر للشروط التي يفرضها القومسيون الطبي، فلابد أن تكون
للأزهريين معاملة خاصة تراعى فيها الاعتبارات التي ذكرنا، سيما أن هذه
الإجراءات لم يكن للأزهريين بها عهد، ولم يقيدهم بها قانون، على أنه إذا أجيب
ما نطلب بشأن أماكن الدراسة وغير ذلك من المطالب فقد يكون لولاة الأمور الحق
في أن يعاملوا من ينتفع بهذه الإصلاحات معاملة بقية إخوانهم خريجي المدارس.
وإذا ثبت بما ذكرنا وجوب تعديل الكشف الطبي بالنسبة للأزهريين، فإنا
نذكر أن هذا الطلب يشمل أموراً ثلاثة:
(1)
أن لا يمنع من وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ.
(2)
أن يعامل العلماء إذا عينوا للتدريس بوزارة المعارف معاملة خاصة
كالاكتفاء بنصف نظر في مجموع العينين.
(3)
حفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف التدريس بالأزهر، ووظائف
الإمامة والخطابة بالمساجد، ونكتفي بما قدمنا عن الكلام في الأمرين الأولين،
ونتكلم عن الأمر الثالث.
ذلك أن المكفوفين الذين يمضون زمنًا طويلاً في الأزهر، يكدون؛ لنيل
شهادة العالمية - هم أولى الناس بالعطف عليهم، وأجدرهم بالأخذ بناصرهم فلابد
أن يفتح لهم باب الأمل بما يتناسب مع كدهم واجتهادهم وما أحاط بهم من اعتبارات
أخرى، أما حرمانهم نهائيًّا من كل عمل فمعناه أنهم ليسوا أهلاً لشيء، وأنهم
أضاعوا حياتهم سدى، وهو تصرف لا يستطيع إنسان تبريره أو الذود عنه، سيما
أن كلهم أو جلهم يحتاج بعد تخرجه إلى المعونة وما يسد به رمقه في الحياة وإلى ما
يجعله كذلك عضوًا نافعًا في الهيئة الاجتماعية، فلابد أن يعطوا حظهم من الإنصاف
والرعاية.
وإذا طلبنا لهم حق التدريس بالأزهر، وهو ما كان حقهم حتى الزمن القريب
وحرمتهم منه القوانين الحديثة؛ فإنا لا نطلب لهم ما لا يستطيعون، فكثير منهم في
كل زمان كانوا من رجال العلم النابهين وأساطينه الأجلاء.
ولا يزال العلم والدين مدينين لأمثال عبد الله بن عباس وعبد الله بن أم مكتوم
وو، في العصور الغابرة، وإن كثيرًا من مكفوفي العصر الحاضر في الأزهر
خاصة وفي مصر عامة لدليل جدي على أن الله عوض هذه الطائفة المسكينة من فقد
أبصارهم ذكاء حادًّا، وفكرًا ثاقبًا، وقلبًا بصيرًا، وليس من مصلحة العلم والدين
أن تقبر تلك المواهب، ويحرم الناس من الانتفاع بها بحجة أن أهلها غير مبصرين.
على أنه لا يزال إلى اليوم عدد كبير من علماء الأزهر المكفوفين يباشرون
التدريس بالأزهر، وليس من يعيب كفايتهم فيما يكلفون به من مختلف الفنون.
وإذا كان التدريس بالأزهر من الحقوق الضرورية للمكفوفين، فإنه يستلزم أن
لا يحرموا من دخول قسم التخصص بالأزهر، ومما يساعد ذلك أن المرسوم الملكي
الكريم الصادر بإنشاء قسم التخصص، لم يشترط لدخوله سوى نيل شهادة العالمية
دون أن يفرق بين مكفوف ومبصر، فلا يصح مع هذا الإطلاق أن يكون التخصص
وقفًا على طائفة خاصة لتهمل طائفة أخرى هي أحوج الناس إلى المعونة والعطف.
وأما حقهم في الإمامة والخطابة فليس لأحد أن يقول: إن بهم مانعًا من الأهلية
له فمن الواجب أن يعطوه؛ لتُكفَل لهم حاجتهم الضرورية، ولينتفع المجتمع بكثير
من الكفايات التي منَّ الله بها عليهم.
(المطلب السابع) : (إرسال بعثات إلى الجامعات الأوربية؛ لدراسة العلوم
التي تتناسب مع التعليم في الأزهر، واتخاذ الطرق التي تكفل ذلك) .
لقد دهش بعض الناس لهذا الطلب، واعتبروه غريبًا في ذاته، وأنه لا يليق
بطالب العلم الديني، ولكن الأزهر الناهض الذي يريد أن يستعيد مجده وكرامته،
وأن يشغل المركز الجدير به بصفته أكبر جامعة شرقية إسلامية، يجب أن ينال هذا
المطلب الضروري، وأن تتخذ له الوسائل التي تكفل نجاحه.
أوَلَسْنا في حاجة لعلوم جديدة في حياة الأزهر الجديدة؟ أو قل: إلى دراسة
تلك العلوم التي جاءت الأزهر منذ زمن غير بعيد - كالتربية - دراسة وافية؟
ثم أليس من اللازم مثلاً أن ندرس في جامعات أوربا فلسفة الديانات وغيرها
من العلوم التي لها علاقة بالأديان، وإلا فكيف نفعل ونحن نرى الأجانب يدرسون
إلى جانب دينهم ديننا أيضًا؛ ليتقولوا علينا إذا شاؤوا، وليحرفوا الكلم عن مواضعه،
في الوقت الذي لا ندري نحن من دينهم شيئًا لنرد باطلهم بحقنا! !
فمن الضروري أن نلم بذلك كله، ونتوسع فيه توسعًا نتمكن به من تأدية
واجباتنا على الوجه الأكمل، فإن في عنقنا واجب الدفاع عن الدين وإذاعة شأنه بين
الناس، وذلك يستلزم الوقوف على كل ما له مساس بالأديان.
ومن الضروري أيضًا أن يكون من البعثة الأزهرية من يتخصص في الفلسفة
والتاريخ والعلوم العقلية، فنكون قد عملنا على أن نعيد للعلم في الشرق والأزهر
قوته وشبابه، وفي ذلك مفخرة عظيمة لمصر تجعلها على الدوام قبلة رواد العلوم
والآداب في الشرق عامة.
ولقد فطن إلى ذلك منشئ مصر الحديثة محمد علي باشا، فأرسل بعثات
كثيرة إلى الخارج كانت كلها أو أغلبها من الأزهريين، وقد كان أولئك المبعوثون
بعد عودتهم قواد النهضة العلمية المزدهرة التي غمرت مصر، ورددت البلاد
الشرقية صداها، وكان لها منها الأثر الجميل.
وإذا كان هذا أثر البعثات الأزهرية في الماضي، فإن بوسع مصر في
الحاضر أن تستفيد مما يمتاز به الأزهر من نشاط وكفاية ودأب على العمل واستعداد
للتفوق والنبوغ، فترسل إلى الخارج من الأزهريين من يكون عونًا لها في مستقبلها
المحتاج إلى الكفاح الشديد في سبيل سعادة الأهلين.
وما يقوله بعض قصار النظر: من أن إرسال الأزهريين إلى الخارج مفسد
لدينهم هو من باب الوهم الذي لا يقبله عقل، فإنما يفتتن عن دينه أولئك الجاهلون
بالدين الذين لم تمتزج تعاليمه بأنفسهم، ولم يدركوا أسراره ومبادئه لا الأزهريون
الذين هم أعرف الناس بالدين، والذين عملوا جهدهم لحفظه، وكانوا على الدوام
حُماته الأمجاد وحراسه القادرين.
وإذا قال أحد: إن الأزهريين لا يملكون الوسيلة التي يتمكنون بها من السفر
إلى الخارج كإتقان اللغة الأجنبية؛ فإنا نرد عليهم بأنا نقبل عن طيب خاطر أن
ينشأ قسم اختياري بالأزهر لتعليم اللغات، يستطيع بواسطته الطالب إتقان اللغة
التي يريدها؛ ليكون على استعداد للسفر، وليس في تعليم اللغة الأجنبية وإتقانها ما
يمكن أن يكون موضع اعتراض من الوجهة الدينية أو غيرها، على أن عددًا غير
قليل من الأزهريين يدرس الآن بعض اللغات خارج الأزهر، وكثير منهم يتقن هذه
اللغات التي يدرسها، مما يدل على استعداد الأزهريين للسفر في البعثات من الآن
إذا أجابهم إلى طلبهم ولاة الأمور.
(المطلب الثامن) : (إيجاد أمكنة صحية صالحة للدراسة غير الأمكنة
الحالية التي يدرس فيها الطلبة) .
لقد قلنا فيما سبق عند الكلام على الكشف الطبي ووجوب تعديله بالنسبة
للأزهريين: (إن أماكن الدراسة الحالية في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح
ولم توجد - إلا لتكون أماكن للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة
القاسية، وفي زمني الحر والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف
الصحة الجيدة) والآن نقول: إن هذه الأماكن التي يدرس بها الأزهريون لا
تستوفي شرطًا واحدًا مما توجبه التربية الحديثة، فالطلبة يضطرون للجلوس
متربعين طول يومهم، لا يحول بينهم وبين الأرض سوى حاجز بالٍ من الحصير،
لا يدفع رطوبة ولا يمنع أذى، ولا ريب أن تلك الجلسة الدائمة على الشكل الذي
ذكرنا مما يعرض صحة الطلبة للضعف، ويجعلهم عرضة لشتى الأمراض، فضلاً
عن تشتيت أذهانهم، وفقد انتباههم أثناء إلقاء الدرس، مع أن الانتباه واجتماع
الذهن ضروريان؛ ليستفيد الطالب مما يُلقَى عليه استفادة صحيحة قيمة.
هذا مع أن في تجاور الدروس بدون حاجز يفصلها عن بعضها ما يدعو لاختلاط
أصوات المدرسين والتهويش على بعضهم، وما يتبع ذلك من الجلبة والضوضاء
وسماع الطلبة الذين يجلسون في آخر الحلقات أصوات مدرسي الفصول الأخرى؛
التي قد تكون أصواتهم أقرب إليهم من أصوات مدرسيهم، وإن أقل نظرة لحالة
الدروس بالأزهر وقت انتظامها تكفي للاقتناع، وليس هذا من المصلحة في شيء،
على أنه ليس هناك ما يصح أن يسمى موازنة بين أماكن الدراسة بالمعاهد الدينية
والمدارس الأخرى، من حيث استيفاء الشروط التي تستوجبها التربية، فإن شرطًا
واحدًا من الشروط التي توجبها لا يوجد بأماكن الدراسة بالأزهر، في الوقت الذي لا
تنقص فيه المدارس الأخرى شرطًا واحدًا، ونحن على يقين بأن ذلك لا يرضي ولاة
الأمور؛ لأنهم مقتنعون بأنه من الضروري لمصلحة الطلبة ولتمام الاستفادة المدرسية
صلاحية الأمكنة للدراسة، واستيفاءها للشروط اللازمة، وذلك ما يجب أن ينظر إليه
بعين الاعتبار في المعاهد الدينية.
(المطلب التاسع) : (جعل الوظائف الكتابية بالمحاكم الشرعية حقًّا مشتركًا
بين جميع المذاهب) .
لا ريب أن هذا الطلب مع عدالته لا يكلف الحكومة شيئًا من المال، وهو
ليس إلا تنازلاً من علماء الحنفية عن بعض حق هو لهم، رضوا بأن يشركهم
إخوانهم من المذاهب الأخرى في الانتفاع به؛ لأن لأولئك الإخوان من الكفاءة لهذا
العمل ما لهم (الأحناف) .
على أنا إذا اعتبرناه حقًّا للأحناف، فليس إلا مجاراة لما هو واقع دون شيء
آخر؛ لأن القانون جعله حقًّا مطلقًا لحامل العالمية دون أن يفرق بين مذهب ومذهب
أليس من المصلحة مراعاة هذا الإطلاق، لا سيما أن فيه تحقيقًا للعدالة؟ ؟
وما دامت الكفاية والأهلية موجودتين فلا سبيل لإهمالهما.
لو أن الكتابة بالمحاكم الشرعية تشمل إصدار أحكام فقهية على مذهب الحنفية
لمَا كان للأحناف أن يرضوا بمشاركة غيرهم لهم في هذه الوظيفة، ولما كان
لغيرهم أن يطلبها، وإذا كانت وزارة الحقانية قد اتخذت - ولا تزال - مفتشين
للمحاكم الشرعية من غير الحنفية، فأولى لها أن تقبلهم في وظائف الكتابة التي لا
يسوغ حرمانهم منها.
(المطلب العاشر) : (إلغاء القوانين الاستثنائية والإجراءات التي ترتبت
عليها، وإباحة الانتساب والتحويل إلى الجهة التي يريدها الطالب) .
لقد كان مما لا يُتوقع أن تصدر قوانين جائرة تقيد بها حرية رجال الدين
الأزهريين في التعبير عن ميولهم وآرائهم، سواء كانت هذه الآراء في إصلاح
الأزهر أو في حالة البلد العامة؛ لأن الآراء يجب أن تكون على الدوام محترمة،
وأن يفسح المجال لظهورها لا أن تتخذ الوسائل لقمعها، وإذا وجب أن تحترم
الآراء وأن تكون حرة، فإن أولى بالاحترام والحرية آراء المتعلمين من رجال الدين
فهي على كل حال بعيدة عن أن تكون سيئة الغاية أو منكرة الأثر.
إن الأزهريين مَحوطون دائمًا بآداب دينهم وأوامره ونواهيه، وهذا كافٍ لأن
يحول بينهم وبين ما يمكن أن يكون أداة شر أو وسيلة للإفساد، فكان من الضروري
أن يكون لهم ما لسائر طوائف الأمة من تمام الحرية في التعبير عن أفكارهم
وميولهم، ما دام ذلك في حدود القانون العام.
وإذا كانت هذه القوانين قد ألجئ إليها في ظروف خاصة أيام كانت البلاد
خاضعة خضوعًا مطلقًا للأجنبي، ولم تكن الوزارات شاعرة بشيء من الاستقلال
في خدمة البلاد، فإن من الضروري إزالة هذه القوانين بعد أن تغيرت الحال،
وأصبح للبلد دستور يضمن حرية الآراء.
وليس ما يدعو لأن نذكر بالتفصيل مبلغ هذه القوانين من الجور، ويكفي أن
نقول أنها مخالفة للدستور، وهي مع ذلك في شكلها وجوهرها مما لا مثيل له في
جامعة من الجامعات، بل ولا في مدرسة من المدارس المصرية، وذلك كافٍ
لوجوب إلغائها مع ما ترتب عليها من إجراءات.
وكذلك يجب أن يحدد النظر في القانون القاضي بقصر طلبة كل جهة على
المعهد القريب لهم دون أن يسمح لأحد منهم بالانتساب إلى معهد آخر.
فقد تكون وسائل حياة الطالب موفورة في بعض الجهات دون بعض، وقد
تكون هناك اعتبارات أخرى كوجود الطالب مع من يعوله أو يلي أمره، فمن
الضروري أن تراعى في القانون المذكور هذه الاعتبارات؛ حتى لا يحال بين العلم
والراغبين فيه.
(المطلب الحادي عشر) : (جعل الامتحانات على دورين في السنة الواحدة
حسب المتبع في المدارس) .
إذا راعينا كثرة المواد المقررة في سني الدراسة بالأزهر، والكتب التي
تدرس فيها تلك المواد، وغزارة مادتها وحاجتها إلى البحث المطرد والتعمق فيه،
نجد أن من اللازم لمصلحة العلم والطلبة أن يكون هناك امتحانان أحدهما في آخر
السنة الدراسية الماضية، وثانيهما قبل بدء العام الدراسي المقبل، ولكل شخص
الحق في دخول أي الامتحانين، على أن لا يعتبر الثاني ملحقًا للأول، ويكون لمن
رسب في الامتحان الأول ولو في كل المواد أن يدخل الامتحان الثاني، وما دامت
الغاية من الامتحان هي أن يتأكد من إحاطة الطالب بالمواد التي درسها فلا على ولاة
الأمور أن يكون ذلك في أي الامتحانين، مع مراعاة أن إعطاء الطلبة هذا الحق
يفتح باب الأمل لمن يخونهم الحظ في آخر العام لأسباب، قد لا يكون في وسعهم دفعها
،فتهيأ لهم الفرصة؛ ليتمكنوا من حفظ عام من حياتهم، وفي ذلك أيضًا تخفيف
العبء عن ولاة أمور الطلبة في الإنفاق عليهم، سيما من الطبقات غير
الغنية، وذلك ما لا يحسن إهماله لمصلحة العلم والمتعلمين.
(المطلب الثاني عشر) : (انتقاء الكتب وتعديل البرامج بما يتناسب مع
حاجيات العصر الحاضر والتقدم العلمي الحالي) .
يعد هذا الطلب من لوازم الإصلاح المنشود، فإن الكتب المقررة الآن بالأزهر
قد ألفت في عصور سابقة، تختلف حالتها كثيرًا عن حالة هذا العصر ،
فالأسلوب الذي كتبت به، والأبحاث التي تناولتها يحتاجان إلى كثير من التهذيب
والتنقيح، ليتفق ذلك مع حاجيات هذا الزمن.
ففي التوحيد مثلاً لا تزال تدرس الكتب التي تبحث مذاهب السوفسطائية، وما
عليها من ردود مع انقراض هذه المذاهب وأصحابها، وقد كان الواجب أن يُعنى
بمذاهب الإلحاد التي تفشت في هذا العصر، فتدرس ماهيتها وطرق دحضها والرد
عليها، وفي علوم البلاغة ندرس كتبًا لا نجاوز الحد، إذا قلنا: إنها معقدة لا تعين
الطالب على فهم روح العلم، وهي مع ذلك تأخذ من وقته أكثر مما يأخذ منها،
وبإجمال فإن كثيرًا من الكتب المقررة بالأزهر تحتاج إلى تهذيب أو استبدال.
ولا ريب أن الميول إذا اتجهت إلى سد هذا النقص وجدت ذلك من الميسور،
فإن للعرب مؤلفات قيمة تتفق مع حالة العصر، وما لا يوجد من ذلك فمن الممكن
أن تقوم به لجنة تناط بها هذه الغاية، وفي مصر من الرجال الأكفاء في الفنون
المختلفة من يؤدي ذلك على أكمل وجه.
وأما تعديل البرامج فإنا نطلبه؛ ليسير الأزهر جنبًا إلى جنب مع أكبر المعاهد
العلمية، وليعلم المتعنتون أنا لسنا جامدين، وأنا على استعداد لأن يستفيد الأزهر
من كل تقدم علمي في الخارج؛ ليحتفظ بمجده الخالد، وليبقى معهد الشرق العظيم
كما كان في سالف الأيام.
***
الخاتمة
وبعد، فقد وضحنا مطالب الأزهر بعد أن صورنا متاعبه وآلامه، ولا ريب
ولا ريب أن قارئها الكريم وجد فيها آية الحق الواضح، ولمس برهان العدالة
الناصع، ومن أجل ذلك لا يخامرنا الشك في أنها ستَلقى تعضيدًا يُشعر الأزهريين
أن العدل لا يعدم أنصارًا يذودون عنه، ويساعدون على أن يسود، ولولا اعتقادنا
أن للحق صولة على الأفئدة، وسلطانًا مهيمنًا على النفوس، لكان لنا مندوحة عن
الشكوى، ولكنا بسطنا هذه الأدواء وشفعناها بأدويتها الناجعة، ولا شفيع لنا غير ما
تضمنته من الحقائق، فإلى كل غيور نزجيها على هذه الصفة، وعليها يرحب
الأزهر بمن يتقدم لنصرته وإرجاع مجده إليه، وفق الله الجميع إلى ما فيه الخير
العام.
عبد الوكيل جابر، محمد فهمي السيد، عبد اللطيف محمد السبكي، مصطفى
العطيفي، كامل محمد حسن، محمود حسين مهدلي، علي محمد حسن، جاد
سليمان محمد محمد الجسر، عبد الحميد مطاوع، منصور علي رجب، عبد الحكيم
أبو المعالي، طه علي طه، محمد عبد الله أبو النجا، محمود عبد الدايم، حامد
عوني، محرز السباعي، أحمد علي أحمد، عبد الفتاح محمد، عبد الحميد عباس،
الأبحر، صالح موسى، محمد الفحيل، محمد أبو الحسن، محمود خليفة، محمود
الخولي، عبد العظيم المسلاوي، حسين مشرف، نصار شديد، محمود ربيع،
أحمد هنداوي، محمود نعيم جاد، مشهر أحمد هندي، علي علي الطباخ، علي
محمد عامر، زكريا حسن مكاوي، محمد الأباصيري، محمود عوض، محمد منير
محمود، عبد الرحمن النواوي، أحمد الكومي، عبد العظيم سالم حسين السيد عبد
الله، أحمد طالب عبد الله، حسن سيد أحمد البخشونجي ، انتهى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس
شروط تسليم غرناطة لإسبانية وعاقبة المسلمين معها
(مقتبس من خلاصة تاريخ الأندلس للأمير شكيب أرسلان)
أما شروط تسليم غرناطة فقد سردها المرحوم ضيا باشا في تاريخه للأندلس،
وهي خمس وخمسون مادة، تتضمن تفاصيل ما وقع عليه الاتفاق، وفي طيها من
عهود المحاسنة والملاطفة والمراعاة والمحافظة على أعراض القوم، وعقائدهم
ودمائهم وأموالهم وكراماتهم وراحاتهم ما لا يفي به إلا نصه.
وقد تكرر في المادة الخامسة العهد من الملك والملكة باحترام ديانة المسلمين
ومساجدهم وأوقافها وأموالها المحفوظة، وعدم التعرض لأمورهم الشرعية، بل
إعادة ذلك إلى فقهائهم والمحافظة على أصول الفقهاء وعاداتهم وملابسهم، وأن يبقى
هذا العهد معمولاً به في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.
وفي المادة السادسة عدم سلب أسلحة المسلمين ومراكبهم ومواشيهم إلا الأسلحة
النارية فتَقرَّر أخذها.
وفي المادة السابعة تسهيل السفر لكل من شاء الهجرة بأمواله وأمتعته، وفيما
بعدها إجازته على نفقة دولة قشتالة من أي مرسى أراد، وتسهيل معاملات بيع
العقار لمن شاء الرحيل، وإذا لم يتهيأ البيع ووكل صاحب المِلك وكيلاً، تعتبر
وكالته، ويساعَد على استيفاء حاصلاته وإيصالها إليه بمكانه وراء البحر.
وورد في المادة الحادية عشرة تشديد مجازاة كل من يدخل من النصارى جامعًا
بدون رخصة الفقهاء.
وورد في المادة الخامسة عشرة إعفاء السلطان أبي عبد الله وسائر أمراء
المسلمين وقُوَّادهم وفقهائهم من الضرائب والرسوم، وإقرار الجميع على امتيازاتهم
كما كانوا لعهد ملوكهم، وأن تكون كلمتهم نافذة وقولهم مسموعًا.
وورد في المادة السادسة عشرة والتي بعدها ما يتضمن عدم جواز دخول أحد
من النصارى بيوت المسلمين، حتى ولا الملك والملكة، ومن خالف ذلك من
النصارى يجازَى بشدة.
وفي المادة الخامسة والعشرين إذا فر أحد من أسرى المسلمين المعتقلين في
سائر الممالك، ووصل إلى غرناطة فقد نجا، ولم يكن لمأموري شرطة غرناطة أن
يمسكوه، لكن ذلك الامتياز مخصوص بعرب الأندلس لا يتناول أسرى المغرب.
وفي المادة الثلاثين أن من أسلم من النصارى قبل هذه الكائنة فلا تجوز
معاملته إلا بالحسنى، ولا يرى أقل تحقير، ومن خالف ذلك ينال من الجزاء شدة،
وفي المادة الواحدة والثلاثين لا يجبر مسلم ولا مسلمة على قبول الدين المسيحي.
وفي المادة الثانية والثلاثين إذا كان المسلم متزوجًا بنصرانية وأسلمت، لا
تجبر على الرجوع إلى دينها الأصلي، والذين يتولدون من هذا الزواج يعدون
مسلمين، ولو ارتدت الزوجة عن إسلامها.
وفي الخامسة والثلاثين لا يرد المسلمون شيئًا مما غنموه أثناء الوقائع التي
جرت إلى يوم تسليم البلد، وفي التي بعدها لا يعاقبون على شيء مما مضى من
تحقير الأسرى أو إهانتهم.
وفي الثانية والأربعين تفصل الخصومات بين المسلمين والنصارى في مجلس
مؤلف من قائدين أحدهما مسلم والآخر مسيحي.
وفي الثالثة والأربعين تعاد جميع أسرى المسلمين في مدة ثمانية أشهر
من أي بلاد وُجدوا فيها من إسبانية، وفي مدة خمسة أشهر إن كانوا في
بلاد الأندلس.
وفي الثانية والخمسين عدم استخدام شرطة من النصارى؛ لمراقبة شؤون
المسلمين، بل تكون شرطتهم من أنفسهم.
وفي آخر هذه المعاهدة تعهد الملك فرديناند وامرأته صاحبا ممالك قشتالة
وأراغون وليون وصقلية أن يحافظا على نص شروطها حرفًا بحرف، وينفذا جميع
أحكامها من خاص وعام وكلي وجزئي بكمال التدقيق، وبدون أدنى زيادة ولا
نقصان مهما يكن من الأسباب، وأن تبقى على شكلها وهيئتها، ولا يتغير ولا يتبدل
حرف منها إلى الأبد، ولا يمكن أحدًا من خلفاء الملكين المشار إليهما، ولا خلفاء
خلفائهما ولا حفدتهما ولا أولادهم إلى ما شاء الله أن ينقضوا أقل حكم من أحكامها،
أو يبدلوا حركة من حركاتها، وأُعطِيَ الأمر بها إلى الأمراء والوزراء والقواد
والأجناد والرهبان والرعية من حاضر وغائب، وقاصٍ ودانٍ، وكبير وصغير،
وأعلن أن من يجترئ على الخلل بشيء مما تضمنته هذه المعاهدة، يجزى جزاء
من أقدم على إفساد البراءات الملوكية أو تقليد الحجج والسندات بدون أدنى تأخير.
وأقسم الملك فرديناند والملكة إيزابلا وسائر من أمضوا الشروط على دينهم
وشرفهم برعايتها إلى الأبد على الصورة المبينة، وكتبت على رق غزال محلى
ومطرز تحريرًا في ثلاثين من كانون الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وألف من
الميلاد.
وحررها فرناند وصفره بأمر الملكين، وأمضاها الملك فرديناند والملكة
إيزابلا وأولادهما الدون جان والدونة وإيزابلا والدونة حنة والدونة ماريانة والدونة
كتالينة ورئيس أساقفة أشبيلية الدون دياغو هرتادو رئيس أساقفة صانتياغو الدون
ألفونس وكبير فرسان صانتياغو المسمى بالدون ألفونس أيضًا، والدون جان كبير
فرسان القنطرة والدون الفارو زعيم رهابين ماريوحنا والدون بيروغونزالس
كردينال أسبانية، ورئيس أساقفة المملكة، والدون هنري كبير حكومة أراغون،
ومن أبناء عم الملك، والدون ألفونس من أبناء عمه أيضًا، والدون الفارو مدير
دائرة الملكين، والدون بتروفاناندز رئيس جند قشتالة، ويليهم نحو من أربعين دونًا
كلهم من أبناء السلالة المالكة، وأساقفة البلاد وأمرائها وأعيانها وقوادها.
وكتب أيضًا معاهدة أخرى لسلطان غرناطة أبي عبد الله بن أبي الحسن
متضمنة أربع عشرة مادة فيها تمليكه الإقطاعات والأراضي والبلدان التي وهبها
إياه المَلِكان، معينًا كلاًّ منها بذاته والتعهد بإعطائه أربعة عشر مليونًا وخمسمائة
قطعة من السكة المعروفة بالمراويد عند دخولهما قلعة الحمراء، وإفراز ملكيته
لجميع العقار الموروث، وإعفاؤه من دفع الضرائب والرسوم وأداء المكوس عما
يجلب من الأمتعة برسمه، وأنه في أي وقت شاء بيع هذه الأراضي والأملاك،
يشتريها الملكان كلها بقيمتها العادلة، وإن لم يشأ بيعها، وأراد النقلة إلى بر
المغرب فالوكيل الذي يعينه عليها يستوفي له حاصلاتها، ويوردها عليه في أي
جهة كان مما وراء البحر، وفي أي وقت عول على الإجازة تنقله مع رجاله وعياله
وأمواله سفن دولة قشتالة مجانًا، ولا يطالب بشيء، ولا يكون مسؤولاً عن شيء
مما حصل إلى حين عقد الصلح، ولا يسترد شيء مما غنمه، وجميع هذه الشروط
كما هي جارية في حقه تجري أيضًا في حق والدته وشقائقه وزوجته وزوجة مولاي
أبي نصر، والعهدة الثانية مؤرخة في يوم تاريخ الأولى، إلا أنني وجدت أكثر
المؤرخين يؤرخون إمضاء المعاهدات في 25 كانون الأول وفق 22 المحرم سنة
897.
(ثم نقل المؤرخ رواية نفح الطيب في تسليم غرناطة، وبعض شروط
الصلح بينهم وبين المسلمين مخلصًا بما نصه) .
(وفي ثاني ربيع الأول من سنة 897 استولى النصارى على الحمراء،
ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف
الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل
والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم
على ما كانت عليه، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم - وأن تبقى المساجد كما
كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدًا -وأن لا
يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي، وأن يُفتكَّ جميع من أُسر في غرناطة من
حيث كانوا، وخصوصًا أعيان نَُّص عليهم، ومن هرب من أسرى المسلمين ودخل
غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد
الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا
الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء ، وأن لا يؤخذ أحد بذنب
غيره ، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ، وأن من تنصر من المسلمين
يوقف أيامًا، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع
إلى الإسلام تمادى على ما أراد؛ ولا يعاقب من قتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا
يؤخذ ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى
ولا يسفر لجهة من الجهات ، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم
جميع المظالم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين،
ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه
وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود [1] ، وأهل الدجن ، ولا يمنع مؤذن ولا
مُصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منهم يعاقَب، ويُتركون من
المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده،
وأمثال هذا مما تركنا ذكره، انتهى المراد منه.
نقض الأسبانيول عهد مسلمي الأندلس وتنكيلهم بهم
وإكراههم على التنصر
قال صاحب المختصر المذكور:
ولنذكر حالة بقية مسلمي الأندلس بعد ذهاب ملكهم فيها فنقول: ورد في تاريخ
(الإسلام في إسبانية) تأليف ستانلي لانبول ما محصله (إن آخر أنفاس أبي عبد
الله على تلك الربوة لم يكن بآخر حر أنفاس المسلمين في تلك الديار، بل بداية
أنفاس يرسلونها الصعداء، وافتتاح عهد انتقام وابتلاء، وإن أسقف غرناطة الأول
هرناندو دوتالافيره كان رجلاً حليمًا عادلاً، أحسن معاملة المغاربة، وأبى الجور
عليهم، وتعلم العربية، وكان يصلي بها، وعلى يده ارتد ألوف من المغاربة إلى
النصرانية، قيل: إن ثلاثة آلاف تنصروا في يوم واحد، إلا أن الكردينال
كسيميناس الذي كان من القسم المحارب بين رؤساء الكنيسة اعتسف السبيل، ومال
إلى العنف والإكراه، وأساء معاملة المسلمين، وحمل الملكة إيزابلا على ما بقي
نقطة دهماء في تاريخ حياتها من اضطهادهم واستعبادهم وإكراههم على التنصر،
فأثار ذلك ساكنهم، وأخرج كامنهم، وفي إحدى المرات حبست امرأة من البيازين
لشأن من هذا القبيل، فثار سكان البيازين، وتحصنوا وحملوا السلاح، وكادوا
يفتكون بالجند وأوشك الدم أن يسيل بحدة الكردينال كسيميناس.
إلا أن المطران هرناندو الموصوف بالوداعة، دخل ربض البيازين بالسكينة
والأنس مع نفر قليل من حاشيته بدون سلاح، وسأل القوم عن شكواهم، وتقبلها
منهم بالاستماع والاحتفال، وهدأ روعهم وأعاد طائر الأمن إلى وكره، وحجب
الدماء يومئذ، على أن كسمينيس المشهور لم يزل يُغوي الملكة، حتى أصدرت
أمرها إكراه المسلمين على إحدى الخطتين الجلاء أو النصرانية، وذلك بأنهم كانوا
يذكرون المسلمين بأنهم سلالة النصارى في الأصل، فأُقفلت المساجد وأحرقت
الكتب، التي هي ثمرات القرون وزبد الحقب، وأذيق المسلمون العذاب أشكالاً
وألوانًا، ففضل عامتهم فراق دينهم على فراق أوطانهم، إلا أن شعلة من الحمية
الإسلامية بقيت تلمع في جبال البشرات، حيث حمتهم أوعارها من مضطهديهم.
وأول جيش أرسل إليهم تحت قيادة الدون ألونزو دواغيلار البطل الشهير
انهزم هزيمة شنعاء وذلك في سنة 1501، وقتل الدون المذكور، وقيل: إنه الدون
الخامس المقتول من عشيرتهم في حرب المسلمين، فازداد انتقام الأسبانيول من
المغاربة بعد هذه الغلبة، وهجم كونت طنديلة على قوجار، وهدم كونت سرين
جامعًا على جماعة التجأوا إليه من المسلمين بنسائهم وأطفالهم، وأمسك الملك
فرديناند بنفسه الطريق على الفارين من الجبال، فمن بقي حيًّا من الثوار فر إلى
مراكش ومصر والبلاد العثمانية وانتهت الثورة الأولى في الجبال.
ومضى على ذلك نصف قرن والبُغض دفين في القلوب، والمسلمون
المتنصرون يعمدون أولادهم ظاهرًا، فإذا انصرف القسيس مسحوا عن الولد ماء
المعمودية، وإذا تزوج أحد الموريسك (لقب المتنصرة من المغاربة) أجرى
القسيس عقد الإكليل، ثم بعد ذهابه عقدوا النكاح بحسب السنة الإسلامية.
وكانوا يتلقون قرصان البحر من أهل المغرب، ويعاونونهم على اختطاف
أولاد النصارى، ويأتون غير ذلك، فلو كانت ثمت حكومة عاقلة قوية ترعى
عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة، لم يكن محل لذلك البغض العميق،
ولكن حكام الأسبانيول لم يكونوا أهل عقل ولا عدل، وكانوا يزدادون بتمادي الأيام
شرًّا، ولم تلبث الأوامر أن صدرت بإكراه المغاربة على ترك ألبستهم المخصوصة
بهم، وعلى لبس البرنيطة والسراويلات الأسبانيولية، وبحظر الغسل ودخول
الحمام عليهم اقتداء بغالبيتهم في احتمال الأقذار، ثم منعوهم من التكلم بالعربية،
وصدر الأمر بأن لا يتكلموا بغير الأسبانيولي، بأن يغيروا أسماءهم ويسيروا سيرة
أسبانيولية، ويسموا أنفسهم أسبانيولاً، وكان تصديق الإمبراطور شرلكان هذا الأمر
الفظيع في سنة 1526 على أنه لم يكن الظاهر من اعتماده إجراءه بالفعل، لكن
عماله اتخذوه ذريعة لاستنزاف أموال الموسرين من المغاربة، صار ديوان التفتيش
يحترف ويتجر بهذه المسألة، ولما صار الأمر إلى فيليب الثاني شدد في إنفاذ
الأوامر بحق الموريسك، وسنة 1567 عزز الأمر الصادر بشأن تغيير الزي
واللغة باستيثاق غريب؛ لأجل منع النظافة التي هي من سنن الإسلام، وذلك بأنه
أخذ يهدم حمامات الحمراء البديعة، فالطرائق التي أخذوا بها لتنكير أحوال تلك
الأمة هي أشد من أن يحتملها أي قبيل كان، دع سلائل المنصور وعبد الرحمن
وأبناء سراج، ولذلك لم يطل الزمن حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة، وثار فرج
ابن فرج من نسل بني سراج بجماعة من ذوي الحمية من غرناطة، قاصدًا الجبال
قبل أن تمكنت الحامية من تعقبهم، ونودي بهرناندو دوفلور من نسل خلفاء قرطبة
ملكًا على الأندلس تحت اسم محمد بن أمية، وعمت الثورة في أسبوع واحد كل
أنحاء جبال البشرات ووقع ذلك سنة 1568.
ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى وأوعرها مسلكًا،
كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالاً، والفتنة فيه بعيدة المرمى، فاستمرت
هذه المرة حولين كاملين، حافلاً تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر
والتعذيب والاستباحة والاحتيال من الجانبين، لكنه أيضًا حافل بوقائع يندر في
تاريخ الفروسية، وكتب الحماسة الظفر بأمثالها، وتبقى على صفحات السير فخرًا
للقرون والأمم، كان المغاربة هناك في موطنهم الأخير، والموقف الذي يحاولون
فيه إدراك الثأر على نحو مئة سنة قضوها في البلاء العظيم، والهون الذي ليس له
نظير، فهبوا جميعًا منادين بأخذ الثأر واقتضاء الأوتار قرية بعد قرية، وهدموا
الكنائس، وأهانوا ما فيها، وفتكوا بالقسيسين، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في
أيديهم، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج، ودافعوا دفاعًا شديدًا، وكان مركيز
مونتيجارة قائدًا في غرناطة، فعمد إلى المسالمة، وأخذ بالملاينة، وكادت الوقدة
تنطفئ لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء في حبس البيازين من
المغاربة، قيل: إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز، لكن الموريسك لم يقبلوا العذر،
ونشروا لواء الثورة، وصار ابن أمية أميرًا بالفعل على جميع جهات البشرات،
إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة، فقام بعض أعوانه وقتلوه، وبويع لرجل آخر
موصوف بالنجدة والحماسة اسمه عبد الله بن أبوه.
فأرسلت دولة إسبانية لتدويخ الثوار الدون جون الأوسترى أخا الملك، وهو
شاب في الثانية والعشرين من العمر، فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى
1570، وأتى من الفظائع، ما بخلت بأنداده كتب الوقائع، فذُبح النساء والأطفال
أمام عينيه، وأحرق المساكن ودمر البلاد، وكانت علامته (لا هوادة) وانتهى
الأمر بإذعان الموريسك، لكنه لم يطل واستأنف مولاي عبد الله بن أبوه الكرة،
فاحتال الأسبانيول حتى قتلوه غيلة، وبقي رأسه منصوبًا فوق أحد أبواب غرناطة
ثلاثين سنة، وأفحش الأسبانيول في قمع الثورة بما أقدموا عليه من الذبح والحريق
والخنق بالدخان حتى أهلكوا من بقية العرب هناك خلقًا كثيرًا، وخنع الذين نجوا
من الموت لكنهم وقعوا في الرق، وسيقوا مماليك وعبدانًا، ونُفي جملة منهم، فأخذ
عددهم يتناقص، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ وهو عيد جميع
القديسين سنة 1570، بلغ عدد من ذهب منهم عشرين ألفًا، والذين أخذوا منهم في
معمعة الفتنة صاروا إلى الاستعباد، والباقون أخرجوا من البلاد مخفورين، فمات
كثير منهم على الطرق تعبًا، فمنهم من أجاز إلى بر العدوة وطافوا هناك سائلين
لأجل قوتهم الضروري، ومنهم من لجأ إلى بلاد فرنسا حيث استقبلوهم بِرًّا وترحيبًا،
واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانية، ولم ينتهِ إخراجهم
تمامًا إلى سنة 1610، إذ وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم بعد أن
وليها الإسلام ثمانية قرون، ويقال: إن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت
فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين، وأن
الذين خرجوا لآخر مرة نحو نصف مليون.
وأما الأسبانيول المساكين فلم يعرفوا ماذا يصنعون، ولا أنهم يخربون بيوتهم
بأيديهم، بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة، مع أن أسبانية كانت مركز
المدنية ومبعث أشعة العلم قرونًا، وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام
بمقدار ما استفادته هذه البلاد، فلما غادرها الإسلام انكسفت شمسها وتسلط نحسها،
وإن فضل مسلمي الأندلس؛ ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة،
وسقوط هذه الأمة في سلم الاجتماع بعد أن خلت ديارها من الإسلام انتهى كلامه
ملخصًا.
واستشهد في حاشية هذه الجملة بنقل يمثل لك درجة هذه الحقيقة، وهو أن
الملِك حوَّل مدينة غرناطة ضياعًا واسعة ومزارع التزموا بيعها سنة 1591؛ بسبب
كونهم يخسرون عليها أكثر من غلتها، مع أن هذه البقاع كانت لعهد العرب حدائق
غنَّاء، وغياضًا ذات أفياء، وموارد ثروة ورخاء.
وقال واشنطون أرفن في تاريخه لفتح غرناطة ما معناه ملخصًا: إنه بعد
دخول هذه البلدة في حوزة الأسبانيول بقيت الحال غير مستتبة تمامًا مدة سنوات إلى
أن وقع من اجتهاد رؤساء مذهب الكاثوليك في حمل المسلمين هناك على النصرانية،
ما أيأس مغاربة الجبال المتشددين في دينهم، فثأروا برؤساء الدين، وقبضوا على
اثنين من هؤلاء الدعاة في مدينة دارين وعرضوا عليهما الإسلام فامتنعا فقتلوهما،
وقيل: إن النساء والأولاد قتلوهما قصعًا بالعصي وشدخًا بالحجارة، وإنهم أحرقوا
جثتيهما، فانتقم النصارى من هذه الفعلة بأن اجتمع منهم نحو ثمانمائة فارس،
وساروا إلى قرى المغاربة يخربون ويعيثون، فاعتصم المغاربة بالجبال، وانتشرت
الفتنة في الجبال كلها، لكن وسطها كان في جبل برميجه المصاقب للبحر، فلما
اتصل الخبر بالملك فرديناند أصدر أوامره بنقل المغاربة الساكنين في جهات الثورة
إلى قشتالة، وأعطى الأمر سرًّا بأن من يدخل منهم في النصرانية يبقى في وطنه،
ثم رمى تلك الأُمة بالصائد المشهور ألونزو دواغيلار، ومعه جيش وهو الذي قضى
معظم شبابه في قتال المغاربة، فما اقترب من بلادهم حتى هرع جملة وافرة منهم
إلى رندة للدخول في النصرانية، وجمر الباقون منهم تحت قيادة فارس اسمه
الفهري سائقين نساءهم وأطفالهم إلى حيث يتعذر السلوك من تلك الأوعار،
مرابطين شعاب الجبال دون مرور عساكر الأسبانيول فالتقى الجمعان أمام بلدة
مونارده، وانتشب القتال فيقال: إن الدون ألونزو مع ابنه الدون بطرو وثلاثمائة
من شجعانه صدقوا الحملة على المغاربة، فأزاحوهم وتلاحقوا في الهزيمة، فتتبعهم
الجند يغنمون وينهبون، ولما امتلأت أيديهم بالغنائم كر عليهم الفهري بجماعة من
أبطاله، وعلت الصرخة فارتجَّت لها جوانب الأودية، وذعر الأسبانيول، فتداعوا
للفرار، وثبت ألونزو في مكانه يحرضهم، ويضم من شتيت شملهم، فصبر معه
جماعة، وولى الأكثرون، ودخل الظلام، وخيم الغسق، واشتد الخناق بالأسبانيول،
وجرح بطرو ابن ألونزو، فأمره أبوه بالرجوع، فأصر على البقاء بجانب أبيه،
فأمر أتباعه بحمله إلى معسكر كونت أورينه فاحتملوه مثخنًا جراحًا، ولبث الدون
بمائتين من رجاله، يناضلون حتى فنوا عن آخرهم.
وتحصن الدون بين صخرين يتقي بهما، فبصر به الفهري فقصده واستحر
الصراع، وألحّ الفهري وطمع في قرنه، وكانا متماثلين في ثبات الجنان مع قوة
الأضلاع وتوثق الخلق، فصاح ألونزو بخصمه (لا تحسبن نفسك وقعت على صيد
هين، فأنا الدون ألونزو دراغيلار) فأجابه المغربي (إن كنت أنت الدون ألونزو
فاعلم أنني أنا الفهري) ثم كوره صريعًا، ومات بموته مثال الفراسة الأسبانيولية
والنموذج الغشمشمية في الأندلس.
واندفع المغاربة ذلك الليل بطوله يطاردون الأسبانيول ولم ينكفئوا حتى لاح
الصباح، فأجلى المعترك عن قتل الدون فرنسيسكو دوناميز المدريدي الذي كان قائد
المدفعية الأكبر، وكانت له المواقف المشكورة في حصار غرناطة، لكن مصرع
الدون ألونزو دواغيلار أنسى الأحزان جميعها، وعند وصول خبر هذه الفاجعة إلى
الملك زحف بالجيش إلى جبال رندة، فسكنت بحضوره النائرة، واشترى بعض
المغاربة أرواحهم فجازوا إلى إفريقية، واحتمى آخرون بالنصرانية ، وأما أهل البلد
الذي قتل فيه الدعاة فسُلكوا في سلسلة العبودية، وبحث الملك عن جثة الدون
فوجدوها بين مائتي جثة من الأسبانيول، فيها أجساد عدد من الأمراء والكبراء،
فحملوها إلى قرطبة في مشهد حافل، بين مدامع كالسحب الهواطل، ودفن في
كنيسة مار هيبو ليتو، وندبه الأسبانيول دهرًا طويلاً) انتهى كلامه مجملاً.
وذكر المؤرخ الفرنسي الشهير فيكتور دروى في تاريخه ما يأتي ملخصًا (أن
أسبانية تخلصت من العرب لكنها بقيت حافظة عليهم إحنة شديدة، ربتها في قلوبهم
ثمانية قرون قضتها معهم في الحرب، وكان لذلك العهد سكان الجزيرة أخلاطًا من
مسلمين ونصارى ويهود، فعول فرديناند على توحيد الهيئة بوحدة الاعتقاد؛ تعزيزًا
للدولة، فأنشأ ديوانًا جديدًا للتفتيش، وكان الملك هو الذي يعين الرئيس والمفتش
الكبير، ويضع يده على أملاك المحكوم عليهم، وكان هؤلاء في البداية من
النصارى المتهودين والمسلمين المتنصرين ظاهرًا الباقين في الباطن أمناء لمحمد
صلى الله عليه وسلم ثم شملت أحكام الديوان أهل البدع السياسية كالبدع الدينية
أيضًا.
وسنة 1492 قرر ديوان التفتيش المذكور طرد اليهود من إسبانية بعد أن
سلبوهم أموالهم، وقد قدر بعض المؤرخين المعاصرين لتلك الحادثة عدد من خرج
منهم 800 ألف (قلت: منهم جماعة وافرة بأزمير وأقوام بالآستانة هاجروا إليها في
تلك الكائنة، ومنذ خمس سنين احتفلوا بعيد مُضيّ الأربعمائة سنة على دخولهم بلاد
الدولة العلية، أكثروا فيه من الدعاء لسلطنة آل عثمان التي هي كهف المطرودين)
والقسم الأكبر منهم هلكوا وعذبوا بما لم يعذبه أحد من العالمين، وسنة 1499 صدر
أمر بسلب المغاربة حريتهم الدينية التي تقررت لهم بموجب عهد غرناطة، فجلا
منهم جم غفير، ولم يتم خروجهم جميعًا حتى القرن التالي في سنة 1609، وهكذا
فازت إسبانية بوحدتها الدينية، لكنها خسرت صناعتها وتجارتها اللتين كان العرب
واليهود أهم عمالها.
وذكر مرة عند كلامه على شرلكان أنه أكمل مقصد فرديناند، فأكره مغاربة
بلنسية على التنصر وأهل غرناطة على ترك زيهم والتكلم بغير لغتهم، وقال
بمناسبة فيليب الثاني أنه اضطهد المغاربة، وضيق عليهم حتى التزموا الثورة سنة
1568، وأوقدوا نيرانهم على تلك الجبال إيذانًا بالخروج، وكان يمكنهم بما أمسكوه
من مخانق جبالهم الثبات طويلاً لو امتدت إليهم يد معونة من إخوانهم أهل إفريقية،
ففرق فيليب شملهم، وبددهم في مقاطعته، ولم تمض سنون عشر حتى صاروا كلهم
أرقاء.
ثم لنذكر بحسب عادتنا في المقابلة كلام المقرئ في هذه الوقائع الأخيرة، وهو
ببعض تصرف (ثم إن النصارى نكثوا العهود، ونقضوا الشروط عروة عروة إلى
أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة، بعد أمور وأسباب
أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا: إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من
النصارى أن يرجعوا قهرًا للنصرانية، ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا قوة لهم، ثم
تعدوا إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للمسلم: إن جدك كان نصرانيًّا فأسْلَمَ فلترجع
نصرانيًّا، ولما فحُش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم، وهذا كان
السبب للتنصر قالوا: إن الحكم خرج من السلطان من قام على الحاكم فليس إلا
الموت إلا أن يتنصروا بالجملة، فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وامتنع
قوم من التنصر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك
منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم
قتلاً وسبيًا، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا
منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب قرطبة وهو ألونزو دواغيلار، وأخرجوا
على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر.
ثم بعد هذا كله كان مَن أظهر التنصر من المسلمين، يعبد الله في خفية
ويصلي، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرًا بسبب ذلك،
ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في
بعض الجبال على النصارى مرارًا، ولم يقيض الله تعالى لها ناصرًا، إلى أن كان
إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام [2] سبعة عشر وألف، فخرجت
ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان من وهران وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط
عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد
تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المضرة.
وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها
الخالية وبلادها، وكذلك بتطاون وسلا وفيجة الجزائر، ولما استخدم سلطان
المغرب الأقصى منهم عسكرًا جرارًا، وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر
ما هو مشهور الآن، وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والحمامات وهم الآن
بهذا الحال، ووصل منهم جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام
وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصف، والله وارث الأرض
ومن عليها، وهو خير الوارثين) انتهى.
_________
(1)
لعل الأصل: ولا يحمل علامة إلخ أو - ولا يجعل له علامة كما يجعل لليهود اهـ ، مصححه.
(2)
لعل أصله: أي عام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
بطل العرب والإسلام وأندلسهما الجديدة
الأمير محمد عبد الكريم
وقول كاتب أسباني فيه
ركدت عاصفة المعارك بين الدولة الأسبانية والأمير محمد عبد الكريم، وخمد
لهيبها فبقي جل جمرها تحت الرماد من حيث اشتعلت نارها بينه وبين الدولة
الفرنسية في منطقة حكومة المخزن المغربية الواقعة تحت حمايتها، وكان الكثيرون
من الناس سيظنون أنَّ تقحُّم هذا البطل بِصِليِّ هذه النار الحامية سيحرق شهرته
ويقضي على آماله؛ لما لفرنسة من الشهرة الطائرة في فنون الحرب علمًا وعملاً،
ولكن فوزه في حرب الفرنسيس لم يكن دون فوزه في حرب الأسبانيول، بل كان
فوزًا قامت له أعرق أمم في أوربة في الحرب وقعدت، فأسقط قيمة نقدها إلى أسفل
دركة كانت ألقته فيها الحرب العظمى، واضطرها إلي متابعة سَوق الجيوش من
الوطن أرسالاً، واستنفارهم خفافًا وثقالاً، وطفقت صحف العالم تتحدث بدنو الخطر
من فاس وتوقع امتداده إلى الجزائر، هذا على كون أخبار الوقائع لا مصدر له
دونها، ويعلم جميع الناس سنة الدول كلها في إفراغ هذه الأخبار في القوالب
السياسية الموافقة لمصلحتها من كتمان بعض وتمويه بعض، والمنار لا يعنى بنشر
الوقائع الحربية ووصف ميادين القتال، وإنما يدخل في موضوعه ما له شأن في
الانقلابات والتطور الاجتماعي وأسبابه من حوادث التاريخ.
وقد قرأنا في جريدة البيان العربية التي تصدر عن (نيويورك) مقالة لكاتب
أسباني اسمه (إنريك دي مناس) ، نشرها في جريدة (هرالد تربيون) النيوركية،
وصف بها ما عرف وما اعتقد من حرب الأمير محمد عبد الكريم وشؤونه ومقاصده
بعد اختباره الشخصي، إذ كان من الذين شهدوا بعض معارك القتال بينه وبين قومه؛
فرأينا أن ننقل جل هذا المقالة عن عدد البيان الذي صدر في 22 شوال الماضي
الموافق 16 مايو (أيار) .
بدأ الكاتب كلامه بمقدمة ذكر فيها أن أخبار القتال في الريف لا يصدر شيء
منها عن معسكر عبد الكريم، بل كلها تصد عن طريق خصوم العرب، فلا يوثق
بشيء منها ولا سبيل إلى معرفة الحقيقة منها إلا لمن يستنبطها من فحوى الكلام،
ويستشفها من لحن القول دون صريحه (وعبر عن ذلك بقراءة ما بين السطور
وهي كناية عصرية غربية صارت مشهورة) وضرب لذلك المثل ببعض الأخبار
الفرنسية المختَلَقَة التي لا تُعقل بحسب الفن العسكري من خسائر العرب وخسائر
الفرنسيس، ولا ينسين القارئ أنه أسٍباني عدو لهم وناصح لفرنسة، ثم قال:
وقد قدر لي أن حاربت عبد الكريم بنفسي من عهد غير بعيد، فأنا لذلك
أعرف بعض الشيء عن نشاط الريفيين وشدة مراسهم، وأشهد علنًا بالقلم واللسان
ببطولتهم، رأيت بعيني أولئك العرب الشجعان يواجهون المدافع الرشاشة،
ويهاجمون رجالها غير مبالين بنيرانها الآكلة حتى كأنها ليست موجودة أو أنها
عديمة الأذى، ومن أجل هذا أقول: إن دعوى الفرنساويين بأن مثل هؤلاء الأبطال
يتراجعون إلى الوراء بسبب خمسين رجلاً من الأقوال المضحكة.
فالمصيبة في هذا هي أن الأمير كان وغيرهم من أهل الغرب الموالين لفرنسة
والمريدين لها الفوز يقبلون على هذه الأنباء كأنها آيات منزلة، ويصدقونها فلا
يجهدون العقول ولو قليلاً للتمييز بين غثها وسمينها أو صدقها وكذبها، وهذا هو
الباعث على خفاء حقيقة الخطر الكبير الذي يهدد كل أوربة من جانب المشكل
المراكشي [1] ؛ ولهذا عقدت العزيمة على كتابة هذا المقال؛ لكي أوضح فيه نيات
الريفيين وما يرمون إليه في ثورتهم هذه من الوجهتين السياسية والدينية.
فالحركة التي يقوم بها عبد الكريم الآن متأتية في أصلها عن البواعث التالية:
لقد كانت فرنسا تسعى من زمن غير يسير إلى موالاة القبائل المراكشية المختلفة،
والاتفاق معها على ترويج المتاجر الفرنساوية هناك وذلك بواسطة الشريف
حرقاوي، وهو زعيم كبير من قبيلة بني مولود، وقد حصرت أكثر قواها في
ترويج هذه السياسة في قبيلة بني زروال المجاورة لقبيلة بني مولود، ثم إن القسم
الأكبر من قبيلة بني زروال تحت زعامة ابن مناله وهو زعيم كثير الطموح صمم
العزيمة عندما وجد نفسه في مركز منيع يخطب وده فيه الفرنساويون من جهة وعبد
الكريم من جهة أخرى على سياسة مزدوجة.
وكان في هذا الوقت أحد مناصري عبد الكريم وهو الفقيه الزهاري قد ناجز
الشريف حرقاوي في وقعات عديدة، لم يكن فيها نصر فاصل لأحدهما، فابن مناله
حافظ على خطة الحياد وهو لكي يقي رجاله من أن يستميلهم الفرنساويون أو
العرب إليهم، ويحفظ ما له من السيطرة عليهم مال إلى استعمال القسوة فيهم؛ فأدى
ذلك إلى تذمر شديد بينهم، فعلم عبد الكريم بذلك؛ لأنه كان يرقبهم بعين ساهرة،
وسعى إلى اغتيال ابن مناله بوسائل مختلفة أهمها الرشوة والوعود التي بذلها لمحبي
الزعامة فيهم.
كان ذلك في شهر مارس (آذار) من هذا العام، فلما تخلص عبد الكريم من
ابن مناله وتمكن بدهائه من إزالة ما للحرقاوي من النفوذ، أدرك أنه قد أصبح في
مركز منيع يساعده على مهاجمة فرنسة؛ فحشد جموعه على ما علمنا قريبًا من تازه
على مسافة ثلاثين ميلاً من فاس شمالاً بشرق، وأرسل كتائب من أنصاره؛ لتعيث
فسادًا في منطقة متالزا الفرنساوية على التخوم التي تفصل بين مراكش الأسبانية
ومراكش الفرنساوية، وكان الفرنساويون قد أنشأوا على مقربة من تازه عدة مراكز
عسكرية، وعمل فرنسة في إنشاء تلك المراكز خطأ فاضح من الوجهة الحربية.
ذلك أن مثل هذه المواقع العسكرية التي عرفت أسبانية بعد فوات الوقت أنها
علة شقائها، والتي أمر المسيطر الأسباني دي ريفيرا بتخليتها في الحال يمكن
قطعها عن مجموع الجيش بسهولة ومحاصرتها ومنع النجدات عنها، ولما كان عبد
الكريم قد عرف باختباراته الماضية ملاءمة هذه المواقع العسكرية لحركاته لم يُضيع
دقيقة من الوقت في التردد في مهاجمتها؛ لعلمه بأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي
يكسبه التفوق (أولاً) لأنها قريبة (وثانيًا) لأن فصلها عن بقية الجيش سهل
للغاية (وثالثًا) لأن أول انتصار يحرزه مهما يكن قليل الشأن ينشط أتباعه،
ويثير في صدورهم روح الشجاعة ويحملهم على المخاطرة والإقدام.
وأنا أعتقد أن المواقع العسكرية الفرنساوية المحصورة المسلحة بمدافع رشاشة
وغيرها عديدة ستتمكن من المقاومة وقتًا طويلاً، ولكن الصعوبة هي في طريقة
تمكن فرنسة من إمدادها بالمؤن والذخائر، فإذا لم يحصل المحصورون على أقوات
جديدة ومياه صالحة للشرب تصير مقاومتهم عديمة الجدوى، وبما أن الريفيين
يدركون هذه الأمور فهم قد زادوا عدد المراقبين للطرق المؤدية إلى تلك المعاقل
لكي يحولوا - مهما كلفهم ذلك - دون وصول أقوات إلى الرجال الذين فيها والذين
يعدهم الريفيون الآن من أسراهم.
وطريقة العرب في الحرب هي أن لا يوجدوا مقاومة رسمية منظمة إلا ما كان
منها في الأقاليم الجبلية أو في الأماكن الملائمة لهم بنوع خاص، فأساليبهم الحربية
منحصرة في الدفاع عن موقف معلوم وقتًا معلومًا عندما يهاجمهم العدو، ومن ثم
ينهزمون منه اختيارًا يوهمون مهاجميهم إمكان الظفر بهم بسهولة، ولكنهم يعودون
ذات ليلة أو في نفس تلك الليلة كأنما قد خرجوا من جوف الأرض، ويقومون
بمهاجمة عنيفة، فهذه الطريقة قد مكنتهم من أعدائهم، وسهلت لهم الحصول على
الغنائم والأسلاب، وتبديد شمل العدو.
فالجيش الفرنساوي المؤلف من 12000 رجل تحت قيادة الجنرال ليوتي في
الوقت الحاضر لا يكفي لسوى حماية مدينة فاس وأرباضها، على أنه لا يقوى على
الحراك أو على مناهضة عبد الكريم إلا بعد أن تصله النجدات المنتظرة من الجزائر،
وهي فيما يقال: ستكون متراوحة في العدد بين 15000 و 20000 جندي،
وعندها يزحف إلى إنقاذ المعاقل العسكرية المحصورة على أن تلك النجدات سوف
تلاقي صعوبات جمة في الوصول إليه؛ لأنها مضطرة إلى عبور نهر أوترغا،
وهو في هذه الأيام بحالة فيضان يتعذر معها عبوره.
وفي رأيي أن فرنسة لا تَقوى على مواجهة عبد الكريم بما يصون ماء وجهها
في العراك بأقل من أربعين إلى خمسين ألف جندي، ومن المعلوم أن عجز فرنسة
عن مناهضة عبد الكريم وصد هجماته قد أوجدت تأثيرًا سيئًا في نفوس القبائل التي
لا تزال موالية لها، والتي قد تنقلب إلى أعداء في أقل من ارتداد الطرف كما قد
وقع لأسبانية، فإذا جرى هذا يصبح موقف فرنسة في تلك الأرجاء حرجًا كبير
الخطر.
وأنا أعتقد أن فرنسة قد ارتكبت خطأ فظيعًا في غض نظرها عن النكبات التي
لحقت بأسبانية في مراكشها مدة خمس عشرة سنة، فهي فيما أظن قد اعتقدت أن
عبد الكريم بالرغم مما أحرزه من الانتصارات على أسبانية لا تحدثه نفسه بمهاجمة
فرنسة، ففي هذا لم تكن ذات نظر بعيد، وقد كان من حقها أن تدرك أن سَكرة
النصر التي قد تتملك عبد الكريم تحمله يومًا من الأيام على التمادي في إبعاد كل
الأجانب عن بلاده - وهكذا يهاجم فرنسة - تلك أمور قد أدركها كثيرون من زمن
طويل، وأما فرنسة فقد عجزت عن إدراكها.
وإنني على ما يدعيه بعض الفرنساويين من أن العرب يكرهون الأسبانيين
أقول عن اختبار: إنهم يكرهون الفرنساويين أضعاف ذلك، نعم إنهم كانوا يبدون
احترامًا أكثر لفرنسة، ولكن ذلك الاحترام ناتج عن خوف لا عن حب، فالعرب
كما لا يخفى لا يحترمون سوى القوة، وبما أنهم كانوا إلى اليوم يعتقدون أن فرنسة
في مراكش أقوى منهم بالشيء الكثير لم يفكروا في مهاجمتها، وعلى هذا أقول: إن
الفتنة الحالية منظورًا إليها من كل الجهات هي من الحركات العظيمة الأهمية، وقد
تكون أهميتها في هذا الحين غير بادية للعيان إلا أن المستقبل مخيف.
ويمكنني أن أدعي بعض العلم بالخطط التي رسمها عبد الكريم لنفسه،استقيت
ذلك من صديق لي اسمه خوزي دياز، وهو من الناس القلائل الذين زاروا عبد
الكريم في منزله بأكسدير، علمت من هذا الصديق وغيره أن عبد الكريم يفاوض
على الدوام زعماء العالم الإسلامي في كل مكان في العالم، وغرضه من ذلك إيجاد
حركة عدائية ضد كل الدول المسيحية التي تحتل بلدانًا إسلامية، وعبد الكريم يعتمد
في خلق ما يلزمه من القوة على تعصب العرب الديني وهو يؤجج نيرانه ليبلغ من
ذلك مُناه في طرد أسبانية وفرنسة من مراكش [2] ودعاية عبد الكريم مبثوثة بين
جميع القبائل تدعوهم إلى مناصرته للبطش بالطامعين بأراضي الإسلام، وتؤكد لهم
أنه سيقذف بهم جميعًا إلى البحر.
ومما هو جدير بالذكر أن عبد الكريم ليس بطلاً مجربًا فقط فقد حدثته في
مواضع كثيرة وحدثه غيري كثيرون، فهو رجل واسع الاطلاع وفيه ذكاء ودهاء
وتعقل بمقدار يندر وجود مثله في رجل واحد، والرجل يعتقد أن عليه واجبًا وطنيًّا،
وهو يعرف كل الحوادث المتعلقة بمدة السبعمائة سنة التي سيطر فيها العرب على
أسبانية، وهو وأخوه الذي تلقى فن الهندسة في مدريد قد جالا في كثير من البلدان
المتمدنة، وسكنا زمنًا طويلاً في جنوبي أسبانية.
وفي مدة إقامة عبد الكريم في ذلك الجانب من أسبانية شاهد آثار أمجاد العرب
الباقية في كل مكان من تلك البلاد، ولا سيما في غرناطة، فأثر ذلك فيه أيما تأثير،
وولد فيه نزوعًا إلى محاولة استعادة أمجاد الأجداد، وهو أمر نبيل يشكر عليه
الرجل مهما قيل عن مساوئه وأخطاره، وقد بث هذه الدعوة العربية في كل مكان
بواسطة المشايخ والأئمة الذين يتجولون من مكان إلى آخر، ولهم سلطة معروفة
على العامة.
وقد لقب عبد الكريم نفسه منذ زمن بعيد برئيس جمهورية الريف حتى إنه
ألف وزارة وهو طامح إلى توحيد كل القبائل والشعوب التي هي من جنسه تحت
هيئة حكومة منظمة، ومعلوم أن فرنسة حسب الظاهر لا تحسب حسابًا كبيرًا لفتنة
الريفيين، ولعلها تصبر إلى أن يهب كل سكان مراكش لمناهضتها قبل أن تدرك
وتعترف بأن الحالة موجبة للخوف والاحتساب، على أن المراكشيين فيما أعتقد لا
يخيبون آمالها من هذا القبيل ولكل شيء وقت، والتاريخ مملوء من هذه
النظائر.
ويذكر الذاكرون أن نابليون قد انكسر مرارًا بجيشه المجرب في أسبانية،
حيث حاربه هناك شراذم من الرجال عام 1808، وكانوا يجرون في مكافحته على
نفس الخطة التي يجري عليها الريفيون مع الفرنسويين اليوم، وثورة البورس على
إنكلترا هي مثال آخر من تلك الأمثلة، ومثل هذا يقال عن الفتنة في بنجاب من
بلاد الهند [3] ، ومن المعلوم أن تملُّك المستعمرات البعيدة الشُّقة هو الآن من
الكماليات الموجبة لباهظ النفقات التي تستكبرها أغنى الدول وأقواها.
وقد أصبح الناس في تلك المستعمرات غيرهم بالأمس، فهم يعرفون تاريخ
بلادهم وتاريخ الدولة التي تسيطر عليهم، ويدركون حقوقهم وواجباتهم، خذ مثالاً
لذلك عبد الكريم الذي تلقى العلوم في أسبانية وغيرها، وعاد إلى بلاده ينشر ما
استنتجه من ذلك بين أبناء قومه، فالعلوم التي تلقَّنها كانت بمثابة سلاح قاطع في
أيدي التلاميذ ضد معلمهم، وعبثًا تحاول فرنسة قمع العصيان وإطفاء نائرة الفتنة،
فهي وإن استطاعت ذلك (وهو فيما نرى بعيد) فإنها لم تستأصل أسباب الخروج
وبواعث النواة التي بثها عبد الكريم بين مواطنيه.
وانغلاب العرب في الكفاح ليس من الأمور التي يعبأون بها، فهم إن انهزموا
اليوم يعودون في الغد إلى المناجزة أوفر نشاطًا وأكثر إقدامًا، وما يشيعه ذوو
الأغراض من أن عبد الكريم يقصد بتوجيه حملاته على المنطقة الفرنساوية خدع
الأسبانيول الذين يطمع في إخراجهم من البلاد هو من الأقوال العارية عن الصحة؛
لأن عبد الكريم غير مبالٍ الآن بالمنطقة الأسبانية؛ لأنه يدرك قوة تحصين الأسبان
بعد تراجعهم إلى الوراء، وهو أعقل من أن يهاجمهم في هذا الحين.
فغرض عبد الكريم الحقيقي هو توجيه ضربة شديدة إلى فرنسة حتى إذا بطش
بجيشها يثير عواطف الشعوب والقبائل المراكشية، ويحملها بفوزه على مناصرته،
وحينئذ يحشد من الجيوش ما يمكنه من توجيه الضربات الشديدة إلى فرنسة
وأسبانية معًا، ومن أجل هذا أقول: إنه ما لم تقو فرنسة على إنزال أشد العقاب
بعبد الكريم بالأسرع الممكن، تكون خسارة فرنسة في مراكش عظيمة وسقوط
مهابتها في عيون أهل البلاد سريعًا للغاية؛ لأن عبد الكريم يذيع أنباء انتصاراته في
طول البلاد وعرضها لكي يحمل أهل البلاد على اعتقاد أن سحق فرنسة وأسبانية في
مراكش ليس من الأمور المحتملة فقط بل من الأمور المقررة.
ويجب أن لا ننسى أن المراكشيين إذا حاربوا بعدد قليل من الرجال لا يكون
ذلك ناتجًا عن عدم وجود الرجال عندهم، بل عن عدم وجود الأسلحة، على أن
كفاحهم بالقليل من الرجال يزيل سوء نتائج هذه الحاجة فإن المراكشي إذا حارب
يندفع بشجاعة أو بالحري يتناسى الخوف، والمراكشي الذي يرى رفيقه مجندلاً في
ساحة القتال لا يرتاع ولا يلوي إلى الفرار بل يأخذ مكانه.
والأسلوب الحربي الذي يتمشى عليه عبد الكريم هو أن يتراجع بينما يكون
العدو متقدمًا، حتى إذا وقف العدو عن التقدم يشرع هو ورجاله في اصطياد رجال
العدو واحدًا بعد آخر، وهو فن يحسنه العرب أكثر من كل شعب آخر، ومن
الصعب جدًّا إطلاق الرصاص على المراكشيين؛ لأنهم لا يحاربون مجتمعين بل
أفرادًا أو أزواجًا يتحركون على الدوام، بينما الفرنساويون أو الأسبانيون يزحفون
جماعات تكون أفضل هدف لرصاص عدوهم.
إن المقاتل العربي الفارس لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار، فهو يهجم
كالمارد على صفوف الأعداء إلى أن يصير على مسافة 1500 إلى 2000 متر،
ويطلق نيرانه وهو مثابر على الجولان، وهو على الغالب لا يخطئ المرمى حتى
إذا قضى وطرًا يكر راجعًا؛ ليعبئ بندقيته من حيث تطيش طلقات الأعداء
المصوبة عليه فلا تصل إليه، وغني عن البيان أن الطيارات والمدافع لا نفع منها
في هذه الولايات، ولا توجد هناك مدن أو حصون ليضربها العدو ويستولي عليها،
بل أبطال مجربون يصيبون ولا يصابون.
هؤلاء العرب هم جنود مدربون من المهد، وهم يفضلون اصطياد الناس على
اصطياد الوحوش وغيرها، ومن الأقوال المأثورة عنهم: إن أحب الأشياء إلى
العربي في الحياة بندقيته ثم جواده وأخيرًا زوجته التي يعاملها على ما هو مشهور
كما يعامل البهيمة، وهي قلما تترك البيت، فإذا فعلت تخرج مبرقعة، ولا يرى
وجهها إلا سيدها دون سواه [4] .
والمحارب العربي يكفيه القليل من القوت كحفنة من التين أو التمر تغذوه
النهار بطوله، ولا يعطش ويقوى على الركض مسافات طويلة، ولا يتأثر من الحر،
وإذا حارب العرب حربًا دينية فلا يوجد في جيوش الأرض من يضارعهم؛ ذلك
لما في دينهم من الوعود بالجنة لمن حارب ضد المسيحيين [5] ، فهم ينالون مقابل
هذا الجهاد مكانًا جميلاً في السماء، ويحرزون الجياد المطهمة والسلاح الجميل
والنساء الحسان، ومن أجل هذا فهم لا يخافون من الموت في ساحة القتال [6] .
وبعكس ذلك الجندي الفرنساوي أو الأسباني الذي لا دين له على الغالب ولا
هو يؤمن بثواب حتى ولا في هذا العالم، ولا بعقاب في الآخرة، ومن أجل هذا
فهو لا يستميت في القتال ولا يتهالك كالعربي، ذلك ما أردت بيانه هنا إيضاحًا
للحالة الراهنة، وهناك أشياء كثيرة مهمة لا تسمح الفسحة بإيرادها، على أن القراء
يدركون من الذي تقدم بيانه راكنة الحركة التي يقوم بها عبد الكريم، وأنها تتطلب
اهتمامًا خاصًّا ودراية وتدبيرًا عظيمًا؛ لإنقاذ غوائلها.
وجملة القول أنه إذا كان عبد الكريم قد نجح في مساعيه بغرس البغضاء في
أذهان مواطنيه للأوروبيين فليس في الدنيا ما يقوى على إزالتها، ومهما أتى
الفرنساويون من آيات القتال، ومهما جردوا من الجيوش فإنهم يعجزون عن
استئصال هذه الفكرة القومية التي ستكلف فرنسة على تمادي الزمن أنهارًا من الدماء
وأنهارًا من الذهب كما كلفت أسبانية.
(المنار)
انتهت المقالة، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذه الكراسة من المنار بأن محمد
عبد الكريم يحارب الآن الدولتين معًا وهو منتصر عليهما.
_________
(1)
المنار: يريد بهذا الكلام تحريض أوربة كلها على الريفيين كعادتهم.
(2)
(البيان) عادوا إلى ذكر التعصب الذي يرمي به الغرب الشرق كلما شكا من ظلم الاستعماريين أو هب للتخلص من تصلفهم وجشعهم.
(3)
المنار: أي التي كان سببها إطلاق الإنكليز العادلين الرحماء مدافعهم على الأهالي العزل من رجال ونساء وأطفال بلا ذنب إلا أن يكون التعصب الذي معناه التألم من ظلم الأجنبي المستعبِد لهم.
(4)
المنار: إنها على هذا أفضل عند العرب من الزوجة الإفرنجية التي يرى غير زوجها لا وجهها فقط بل سائر بدنها أيضًا.
(5)
المنار: هذه التهمة اختلقها الصليبيون واستغلها الماديون والملحدون من سلائلهم، والصواب أن القرآن نطق بأن النصارى أقرب الناس مودة للمسلمين؛ ولكن الإفرنج عادوا المسلمين وسلبوا ملكهم، ثم كانوا معهم مضرب المثل (رمتني بدائها وانسلت) فهم يتهمونهم بذلك لتطيعهم شعوبهم الحرة، وتوافقهم على استمرار استعبادهم واضطهادهم لهم.
(6)
هذا أهم أسباب عناية الإفرنج بإفساد عقائد المسلمين وإبطال ثقتهم بدينهم، وقد كان تأثير مدارسهم ومدارسنا المقلدة لهم في تمكينهم من استعباد المسلمين وسلب ملكهم أعظم من تأثير أساطيلهم وجيوشهم، وإن ملاحدة المتفرنجين منا لشر منهم وأضر، لعنة الله عليهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحج في هذا العام (1343)
كان للدول المستعمرة المسيطرة على الشعوب الإسلامية غرض واحد من
السعي لمنع الحج وهو معروف لكل المسلمين بسياسة الاستعمار، فصار لهم في
هذا العام غرضان، ثانيهما: أن لا ترى شعوبهم إدارة إسلامية صالحة في حرم الله
عز وجل كإدارة السلطان عبد العزيز آل سعود، فيحدث لهم أمل جديد في حكومة
إسلامية عادلة مستعدة لأن تكون دولة قوية، تقدر أن تنقذ الحرمين الشريفين من
وقوعهما تحت سيطرة الاستعمار الذي رضيه لهما الشريف حسين وأولاده علي
وعبد الله فيصل كما رضوه للعراق وسورية وفلسطين، على شرط أن يكونوا
ملوكًا وأمراء فيه تحت السيادة الإنكليزية، كما بيناه مرارًا بالبراهين التي لم يقدر
أن ينقضها أحد منهم ولا من أُجَرائهم.
أذاع السلطان عبد العزيز منشورًا في الدعوة إلى أداء فريضة الحج، ونشر
في جريدة أم القرى المكية، ووزعت منه نسخ مستقلة كثيرة في مشارق العالم
الإسلامي ومغاربه، ونشر في أشهر صحف مصر وسورية والهند وجاوه وغيرها
من الأقطار، ذكر فيه أمن الطريق، وفتح ثلاث من ثغور الحجاز لنزول الحجاج
فيها، القنفذة والليث في جنوب جدة ورابغ في شمالها، فطفق الأجانب يدسون
الدسائس ويثيرون الهواجس والوساوس؛ لتخويف المسلمين من سبيل الحج،
ويدَّعون أن جيوش الشريف على المحصور في جدة وأساطيله واقفة للحجاج
بالمرصاد، فهم على خطر أينما توجهوا من بر وبحر، وأن الحجاز ولا سيما مكة
المكرمة في مجاعة، فيخشى على من يجيئها من الحجاج أن يموتوا جوعًا إن هم
نجوا من جيوش الشريف علي (ملك الحجاز) وتجاوبت بمثل هذا البرقيات
الإنكليزية من جدة ولندن والهند، ولبعضها صفة رسمية بريطانية، كزعم قنصل
الإنكليز في جدة عدم صلاحية الثغور المذكورة لنزول الحجاج، وعدم وجود
الأقوات وغيرها مما يحتاجون إليه، فيها حتى نصحت الحكومة الهندية البريطانية
مسلمي الهند بأن لا يحج أحد منهم في هذا العام، فلم يقبلوا نصحها (وقد يستفيد
الظنة المتنصح) وتابعتها حكومة مصر فنصحت للمصريين بمثل ذلك، وزادت
أن فرضت على من يريد الحج دفع تأمين لها ضِعفَي ما كانت تأخذه من كل حاج
عاقبة ذلك على مثل هذه الإذاعات التي كانت تنشرها جريدة المقطم، المنشأة؛
لخدمة السياسة البريطانية والمنفردة بترويج الدعاية الحجازية، حتى إن أحد
محرريها قال لبعض الناس قبل نشر الحكومة لقرارها بأيام: إننا قد نجحنا في منع
الحج في هذا العام، ولا غرو فنفوذ الإنكليز بمصر في هذه الأيام، أقوى مما كان
في كل زمان، وإننا كنا طبعنا نداء سلطان نجد عند وصوله، ووزعنا منه نسخًا
كثيرة وهذا نصه:
نداء عام إلى جميع المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها.
مكة المكرمة 1 شعبان سنة 1343
…
25 فبراير سنة 1925.
من سلطان نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى كافة إخواننا
المسلمين في أقاصي الأرض وأدانيها.
نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه، ونستفتح بالذي هو خير، وبعد فلقد مَنَّ الله علينا وأمدنا بعنايته في دخول
هذه البلاد المقدسة، وتفضَّلَ علينا ومكننا من طرد الحسين وأولاده الفئة الباغية من
هذه الديار المطهرة، وبذلك زالت والحمد لله دولة الظلم والجبروت، وحلت
الشريعة السمحة محل الأغراض والأهواء، وتوزع العدل بين الناس سواء في ذلك
الصغير والكبير والشريف والوضيع، فسَادَ النظام في البلدة المطهرة وفي سائر
أنحاء البلاد، واستتبَّ الأمن وعمَّتْ السكينة والطمأنينة سائر الأرجاء بصورة لم
تعهد من قبل، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة:
54) ، وهذا مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من
أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) تبارك وتعالى.
هذه هي الحقيقة الراهنة في البلاد، ولكن الحسين وأولاده وأشياعهم قعدوا في
الخارج يخلقون الأراجيف، ويشيعون الأكاذيب عن الموقف الحربي في الحجاز
وعما يمكن أن يؤول موسم الحج في هذا العام تضليلاً للأفكار وتشويهًا للحقائق.
ولما كان من أجلِّ مقاصدنا خدمة الإسلام والعالم الإسلامي، وهو المبدأ الذي
اتخذناه عند الشروع في هذه القضية العظيمة الشأن، رأيت الواجب يدعوني لأبين
للمسلمين عامة ما يأتي:
(1)
أن جندنا قد حصر علي بن الحسين وجنده وقُواه في بلدة جدة التي
أحاطها بالأسلاك والحصون، وضيق عليه تضييقًا عظيمًا، وسيخرجه منها في
وقت قريب إن شاء الله تعالى.
(2)
أننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من كافة
المسلمين في موسم هذه السنة، ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم والمحافظة على
جميع حقوقهم، وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة من إحدى المواني التي
ينزلون إليها وهي رابغ أو (الليث) أو (القنفدة) وقد أحكم فيها النظام واستتب
الأمن استتبابًا تامًّا منذ دخلتها جيوشنا، وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز جميع
الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى.
(3)
أعلن لكافة إخواننا المسلمين أنه لم يبق أثر للمشاكل والعراقيل التي
كان يضعها الحسين ضد المشاريع الخيرية والاقتصادية، وأن أبواب الحجاز
مفتوحة لجميع من يريد القيام بأي عمل خيري أو اقتصادي، وأن الحكومة المحلية
مستعدة للقيام بجميع التسهيلات الممكنة؛ لتنشيط من يريد القيام بهذه المشاريع
الخيرية والاقتصادية.
هذا ما أردنا إعلانه للناس كافة؛ ليحيط الجميع علمًا به، سائلاً الله تعالى أن
يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، ويهدينا وإياكم إلى سبيل الرشاد، إنه ولي التوفيق،
نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... سلطان نجد
…
... عبد العزيز عبد الرحمن
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الفيصل السعود
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عاقبة الشريف حسين بن علي مع الإنكليز
كتبت في الرحلة الحجازية فصلاً في صفات هذا الرجل وشمائله، وكان ذلك
قبل اليأس من كل خير يُرجى منه لأمته وملته، والجزم بأنه لا يُتَوقع منه إلا الشر،
على أنني لم أكن حرًّا في التصريح برأيي كله فيه عند كتابته، ومع شدة
احتراسي من التصريح بانتقاد ما ينتقد منه، لأنني لم أكن أرى ذلك من المصلحة
ولا من الذوق والأدب، ولأن ذلك كان في عهد المراقبة على الصحف، ولا سيما
المنار، وقد أمرت المراقبة الإنكليزية بحذف بعض الجمل من ذلك الفصل لم تأمر
بحذفه المراقبة المصرية قبلها، وكان ما يكتب في المنار من مسائل الحرب والبلاد
العربية ونحوها يراقَب مراقبة مزدوجة.
وَصَفْتُه في ذلك الفصل بشدة الاستبداد والعناد بسوء الظن وعدم الثقة بأحد،
ولكن جعلت ذلك في معرض مظهره المدح ثم قلت: وقد وقفت منه على آراء
سيكون لها أعظم شأن في سياسته، منها يأسه من الدولة العثمانية، ومنها
(أن له ثقة بالدولة البريطانية وتقديرًا لقوتها وعظمتها لا حد لهما ولا سلطان لشيء
عليهما) وعنيت بهذا أنه لا يمكن تحويله عن شيء من ذلك ببرهان عقلي ولا
سياسي ولا ديني ولا بمراعاة مصلحة قومية إلخ.
ثم كان من مصداق هذا القول فيه أنه رضي لنفسه أن يكون موظفًا بريطانيًّا
في الحجاز، فكان إذا استاء من شيء يطلب من الحكومة الإنكليزية إقالته من ملك
الحجاز وتعيين غيره في مكانه، حتى إنه نشر خبر استقالته في جريدته (القبلة)
ونشر مرة صورة برقية، أرسلها إلى مدير جريدة التيمس، يرجوه فيها بأن يقنع
حكومته بقبول استقالته، ونصح له غيرنا وكنا نصحنا له كغيرنا وأنى يقبل نصيحة
أحد؟ .
فكان عاقبة جهله وغروره واستبداده برأيه أن خذله الإنكليز في كل شيء،
بعد أن نالوا منه ومن أولاده ما ثبت به لكل أحد مطلع على أمرهم وأمر العالم أنهم
خانوا أُمتهم، ونبذوا دينهم وشرفهم وراء ظهورهم في خدمتهم، تعددت أحداث
خذلانهم له هو، وبقي مصرًّا على الاتكال عليهم والثقة بحسياتهم النجيبة، وقد
طرده سلطان نجد من مكة فانهزم إلى العقبة آخر ثغور الحجاز الشمالية، وكان
الإنكليز خدعوه بأن يضم منطقة العقبة ومعان إلى إمارة ولده عبد الله (شرقي
الأردن) ففعل وهو يتخيل أنها من مملكته العربية، وأنه هو الذي ولى نجله
المحبوب عليها! !
ثم كان عاقبة هذه الجناية والخيانة أن أمره الإنكليز بالخروج من هذه المنطقة
والسفر إلى البصرة، حيث أعد له نجله فيصل قصرًا لائقًا بمقامه، فتمنع وقال:
إنه لا يخرج من أرض الحجاز مختارًا، فسررنا بذلك وعزمت على كتابة مقالة في
تأييده والدفاع عنه والاحتجاج على الإنكليز، وكاشفت بعض أصدقائي بذلك، ولكن
لم نلبث أن نُبِّئنا بأنه خضع وخنع عملاً برأي ولده عبد الله، وأبسل نفسه فأرسلوه
إلى جزيرة قبرص حيث أعدت له الحكومة الإنكليزية دارًا لائقة به؛ ليقيم في ظل
عَلمها الظليل، كما اقترح عليها من قبل مرارًا {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا
السُّوأَى} (الروم: 10) وإنما العاقبة الحسنى للمتقين، وسنعود إلى تفصيل
القول في هذه المسألة وبيان العبرة فيها.
ونختم هذه الكلمة هنا بإنذار الحكومة البريطانية أن لا تغتر بسوء حال
المسلمين وتواكلهم، فتضم شيئًا من أرض الحجاز إلى ما نسميه منطقة الانتداب،
فقد أصبح جميع الناس يعرفون معنى هذا الانتداب، وشروعها في الاستيلاء على
الحجاز، إن هي تجرأت عليه سيكون مبدأ زوال سلطانها من الشرق الإسلامي إن
شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
مناظرة ابن تيمية العلنية
لدجاجلة البطائحية الرفاعية
كتبها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية -نفسه
رضي الله عنه
(2)
قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم
أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب،
والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلي مرة ثانية فبلغه أنَّا
في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة
وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في
حضورهم، فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع،
متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من
الأمراء، بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال: إنهم قالوا:
إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت: هذا من
البهتان.
وها أنا ذا أصف ما كان قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل
نارًا، ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء
يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما
الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير
المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا
على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماه وعلى أمير السلاح أجل
أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم، فذكرت تلبيسهم على
الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم
يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال
الغيب، فصنعوا خشبًا طوالاً، وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر
الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزّة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على
الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا منه مالاً كثيرًا، ثم انكشف له أمرهم.
قلت للأمير وولده: هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني
بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم أوهموه أن الموتى
تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي
بجبل لبنان، ولم يقربوه منه، بل من بعيد؛ لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب
منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها
هذا كله، وتقرب قفجق منه، وجذب الشعر؛ فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده
من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس،
وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا، وهو نائب السلطنة بحماه،
يخبره بصورة ما جرى.
وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا
نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة، وسألني عنه،
فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد
ذلك في المجلس العام كما سأذكره.
قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون
بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي
يعجز عنها أهل الشرع، فليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه
سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل
أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل
جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم
بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر البارنج وحجر الطلق، وغير ذلك
من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل
والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال:
أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقيَ في قلبي أن أفعله،
ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى
الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله،
والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا
أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه،
وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين
الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض
ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات.
وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم، أيد الله
موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم، فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء
على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر
أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر،
وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال: اليوم نرى
حربًا عظيمًا، ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.
وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه
القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى
مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر
والمولهين ونحو ذلك فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة،
وأن له فيهم ظنًّا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال فإنه ذكر لي ذلك.
وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق، فإنه من
أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه
وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون،
وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء،
والطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة
عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} (لقمان: 19) .
فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء
والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يُسمي نفسه خليفة
سيده أحمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك،
وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من
المسائلة، فأعطيته طِلْبته، ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا
خفي عليَّ تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى عليَّ تلبيس أحد، بل أدركه في
أول الأمر، فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك
الذي كان اجتمع بي قديمًا، فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد
يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.
فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح،
والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال
وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة (فقلت) أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى:
{غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ} (غافر: 3) هذه إلى جنب هذه، وقال
تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: 49-50) فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن
وهب بن منبه روى: أنه كان في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقًا في
حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت، (فقلت) لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا
بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر
ابن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من
التوراة فقال: (أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان
موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتمونني لضللتم) وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال:
(كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم) وأنزل
الله تعالى {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51)
فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا
خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة
والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة:
48) ، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تُعلم صحتها، وما
علينا من عباد بني إسرائيل {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 134) هات ما في القرآن وما في
الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.
فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة
والفقهاء، ونحن قوم شافعية (فقلت) له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد
من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال
الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته، وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟
فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة
فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك (وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر،
فإني تكلمت بكلام بعُد عهدي به.
فانتدب ذلك الشيخ عبد الله، ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور
باطنة، لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه مثل المجالس والمدارس
والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا
يقف [1] عليه أهل الظاهر، فلا ينكرونه علينا (فقلت) له ورفعت صوتي
وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق، كل هذا
مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من
الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم
طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه.
(فقال) ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة
كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها
(فقلت) ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى
مغربها:أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو
مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء
الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار
يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج وحجر الطلق، فضجَّ الناس
بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى
جسومنا بالكبريت (فقلت) : فقم، وأخذت أحرز [2] عليه في القيام إلى ذلك، فمد
يده يظهر خلع القميص (فقلت) : لا حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر
الوهم على عادتهم (فقال) : من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة
حطب، (فقلت) هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود، بل قنديل
يوقد، وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة
الله، أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك، تغير وذل وذكر لي أن وجهه أصفرَّ.
ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو
طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل
على صحة ما تدَّعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال
الأكبر يقول للسماء أمطري، فتُمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي
كنوزك فتخرُج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم
فيقوم [3] ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك،
فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي
على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي،
وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا يعني:
الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به، فقال
الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به،
وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند
الأمير في طلب الصلح، وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد
مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون
منهم، وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.
فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118-119) ،
وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته
ثلاثين درهمًا، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم، وذهب أنه ملبس، وكان قد
حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماه، ولما
فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة، وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم.
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا
يشدون منهم أنهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما
بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة
عما مضى، وسألني الأمير عما يطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن
يعتقد [4] أنه لا يجب عليه اتباعهما أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك،
أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما ونحو ذلك من وجوه الخروج عن
الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال
الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه.
(فقالوا) : نحن ملتزمون بالكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟
نحن نخلعها (فقلت) : الأطواق وغير الأطواق ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما
المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه
وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم
الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا
التزامًا عامًّا، ومن خرج عنه ضربت عنقه - وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية
الميدان - وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًّا في حق جميع الناس، فإن هذا
مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان
والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور، أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت
عنقه.
(قلت) : ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله،
فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته؛ حتى إنهم بالأمس بعد أن
اشتكوا علي في عصر الجمعة، جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي
أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله، ودعاء لغيره في حال
مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
وهذا قد فُعل بالأمس بحضرة شيخهم، فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون
بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة،
وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا، وهذا منكر يبطل الصلاة.
(فقال) : هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس (فقلت) : العطاس
من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا
الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني
بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود
والنصارى، مثل قول أحدهم: أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر: كذا وكذا
من الإمام ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكِر تركَ الصلاة
يصلون بالتوبة، وأنا أعلم أنهم متولين [5] شياطين وليسوا مغلوبين على ذلك كما
يُغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.
فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم
الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت) له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ (فقال) :
هذا من الله حال يَرِد عليهم (فقلت) : هذا من الشيطان الرجيم، لم يأمر الله به
ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله (فقال) : ما في
السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، (فقلت) له: هذا
من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو
بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان
وسخطه الرحمن.
(فقال) : فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ (فقلت) : بهذه السياط الشرعية،
فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال
الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط
الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام
وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يُقَرُّونَ ولا نُقَرُّ نحن؟ (فقلت) : اليهود
والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على
بدعته، فأُفحموا لذلك.
وحقيقة الأمر أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يُقَر على ذلك، فمن دعا
إلى بدعة وأظهرها لم يقر ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون
على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم، فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام
وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًّا فهو إما مرتد وإما مشرك، وإما زنديق
ظاهر الزندقة، وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن
محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي
هدي محمد وشر الأمور محدثاتها [6] ، وكل بدعة ضلالة) وفي السنن عن
العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها
العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول كأن هذه موعظة مودع، فماذا
تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى
اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا
بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل
بدعة ضلالة) وفي رواية [7](وكل ضلالة في النار)(فقال) لي: البدعة مثل
الزنا، وروى حديثًا في ذم الزنا (فقلت) : هذا حديث موضوع على رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم، والزنا معصية والبدعة شر من المعصية، كما قال
سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها،
والبدعة لا يتاب منها، وكان قد (قال) بعضهم: نحن نتوِّب الناس (فقلت) :
مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، (فقلت) :
حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون
تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه أو ينوون التوبة،
فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما
يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم
عليها شر من المعاصي.
(قلت) مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري
في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر،
وكان يُضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم جلده الحد، فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به
إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لا
تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) (قلت) : فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا
فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله، شهد له النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم بذلك، ونهى عن لعنه.
وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي
سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس،
بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يخرج
من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم
وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما
يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية (لو يعلم الذين
يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل) وفي رواية (شر قتلى تحت
أديم السماء خير قتلى من قتلوه) قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم
وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم؛ وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول
الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من
هذه الأهواء، فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة
وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني
والسارق وشارب الخمر.
أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعني
أتباع أحمد بن الرفاعي - فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب
العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعزبار والرزجنة [8] ، تريدون أن تبطلوا دين الله
ورسوله، (فقال) : يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، (فقلت) : مثل ما أحرقني
الرافضة لما قصدت الصعود إليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم،
ويقول أصحابهم: إن لهم سرًّا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء
الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسَّره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب - فإن فيهم من الغلو والشرك
والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب
ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب
الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب
من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ
لَا تُنظِرُونِ} (هود: 55) .
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة
ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت
عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق
وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
هذا آخر ما جرى مع البطائحية لشيخ الإسلام
وإمام الأئمة الأعلام، الشيخ تقي الدين
أحمد الشهير بابن تيمية
قدس الله روحه
ونور ضريحه
ورضي عنه
(انتهى عن الأصل البغدادي كسابقه)
_________
(1)
وفي نسخة لا يقدر.
(2)
كذا في الأصل، ولعله أصر عليه في القيام.
(3)
كذا في الأصل، وفي رواية مسلم في حديث الدجال قال فيقول: أتؤمن بي قال فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به، فيؤشر بالمنشار من فرقه؛ حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين ، ثم يقول له: قم فيستوي قائمًا، قال ثم يقول له: أتؤمن بي، فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، قال: ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، الحديث اهـ من حاشية الأصل.
(4)
الأمثلة الثلاثة التي ذكرها هي لعدم متابعة الكتاب والسنة لا لمتابعتهما المطلوبة، فلعله قد سقط من هذا الموضوع جملة مضمونها: والرجوع عما يخالفها مثل كذا وكذا.
(5)
كذا في الأصل، ومقتضى الإعراب (متولون) إلا أن يكون حُذف من الكلام شيء فيه ناصب لقوله متولين.
(6)
المنار: لفظ مسلم: فإن خير الحديث كتاب الله إلخ.
(7)
هذه الزيادة شاذة ليست في السنن، فذِكر شيخ الإسلام وحافظ السنة لها غريب، وكأنه أراد بها زيادة الترهيب.
(8)
كذا في الأصل.