الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد السادس والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله تعالى أن جعلنا مسلمين، من أمة محمد خاتم النبيين، الذي أكمل به
الدين، وأتم نعمته على العالمين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
(أما بعد) فقد جرت عادتنا بافتتاح كل مجلد من مجلدات المنار بخطبة نلم
فيها ببعض المهمات في العالم الإسلامي من غيٍّ وفساد، وصلاح ورشاد، وأرى
أن أهم ما طرأ في هذا العام، إقدام الترك على نشر ترجمة للقرآن، وتصدي
حكومتهم الجمهورية لنشرها، لأجل أن تحل محل القرآن العربي الذي هو كلام الله
تعالى - فرأيت أن أفتتح المجلد السادس والعشرين بتحقيق الحق في هذه المسألة في
نفسها، وبيان الباعث عليها، ثم أُولي البحث في أجزائه بسائر ما يتعلق بها، كما
فعلت في تحقيق الحق في مسألة الخلافة من جميع وجوهها، (في المجلدين 23
و24) وأكتفي في هذه الفاتحة الوجيزة بأن أذكر قراء المنار بما أطالبهم به في كل
مجلد من إبلاغنا ما يرونه منتقدًا فيه، ونسأله تعالى أن يوفقنا للصواب ويؤتينا
الحكمة وفصل الخطاب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتنة الاستغناء عن كلام الله العربي
المنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ
لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) .
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف: 12) .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً
عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27-28) .
{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ} (فصلت: 1-3) .
{حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 1-4) .
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ
لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) .
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا
كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 192-199) .
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 102-103) .
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (الرعد: 37) .
(أما بعد) فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب، تجاوزن جمع
القلة إلى جمع الكثرة ، وعَدَوْنَ إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الأطناب،
ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التبديل ولا التحويل، بأن
الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه، على خاتم
أنبيائه ورسله، قرآنًاعربيًّا، وأنه هو الذي جعله قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي
أوحاه قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنًا عربيًّا، وأن الروح الأمين نزل
به على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل،
والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل، حال كونه قرآنًًا عربيًّا غير
ذي عوج، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به (أم القرى) ومن حولها من جميع
الورى، وأنه على إنزاله إياه قرآنًا عربيًّا للإنذار والذكرى، والوعيد والبشرى،
لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا أن أنزله حكمًا عربيًّا، وأمر من
أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل، الذي جعله
فيه حقًّا مشاعًا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا قوة ولا فضل، فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) اقرأ الآيات من 104 إلى 105 من سورة النساء بطولها،
وراجع سبب نزولها، فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية، وأنه حكومة دينية مدنية عربية، عربية اللسان، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان.
وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على محمد النبي العربي الأمين، الذي
جعله سيد ولد آدم وفضّله على جميع النبيين والمرسلين، بإكمال دينه بلسانه وعلى
لسانه وإرساله لجميع العالمين، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين، بقوله:
عمت رحمته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقوله
تبارك اسمه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) - وقوله تعالى جده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وقوله جل جلاله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج
الأكبر {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى ، ثم بما
حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد
به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة،
ليكونوا بنعمته إخوانًا لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات
الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة، فكتب صلى الله عليه وسلم كتبه إلى قيصر
الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب
وأمرائهم، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة، وبشرهم بأن نورها
سينتشر ما بين المشرق والمغرب، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم، وجميع دول
الإسلام من بعدهم، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته، في كلا قسمي شريعته،
عبادته وحكومته.
فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (آسية
وأفريقية وأوربة) بلغته العربية، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث
العقيدة، وضرورة إقامة الفريضة، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين،
وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين اللتين هما عنوان الدخول فيه، على أنهما
من أعمال الصلاة أيضًا، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام، عند جميع
تلك الشعوب والأقوام، بالإجماع العلمي العملي، التعبدي والسياسي إلا ما كان من
تقصير دولة الترك العثمانيين، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين، كسلفهم من
السلجوقيين والبويهيين، حتى بعد تنحُّلهم للخلافة الإسلامية، ورفع ألويتهم على
مهد الإسلام من البلاد الحجازية، فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية
التركية اللغوية ورابطة الإسلام، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب ، فإلغاء
الخلافة العثمانية فإسقاط دولة آل عثمان، وتأليف جمهورية تركية العصبية والتربية
والتعليم، أوربية العادات والتقنين والتشريع، وإبطال ما كان في الدولة من
المصالح الإسلامية، كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية
وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية لا دينية، وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلاً
باتًّا كما فعلت الشعوب الإفرنجية، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل
التجرؤ على كل ما ذكر، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام
مراعاة للشعب التركي المسلم، كما وضعوا فيه مواد أخرى تنافي الإسلام ، من
استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط، ومن إباحة الردة
واستحلال ما حرم الشرع، وظهر أثر ذلك بالقول والفعل، كالطعن الصريح في
الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة، وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين
والمسلمات، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات
عاريات، مائلات مميلات - إلى غير ذلك من منافيات الدين.
ولكن هذا كله لم يَرْوِ غليل العصبية اللغوية التورانية، ولم يذهب بحقدها
على الرابطة الإسلامية وآدابها الدينية العربية، بل كان مِن كيدها لها السعي لإزالة
كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه وعقله ووجدانه؛ ليسهل عليهم
سله من الإسلام بمعونة التربية الجديدة والتعليم العام، بل عمدوا إلى هذه الشجرة
الطيبة الثابت أصلها، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها، الممتد في
أعالي السماء فرعها، التي تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، عمدوا إليها لاجتثاث
أصلها، واقتلاع جذرها، بعد ما كان من التحاء عودها، وامتلاخ أملودها، وخضد
شوكتها، وعضد خصلتها، بعد أن نعموا بضعة قرون ثمرتها، وإنما تلك الشجرة
الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين، هي الزيتونة المباركة
الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، فإذا
مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35) .
وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة
حرمانه منه، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك، فإن تفاسيره
بلغتهم كثيرة، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها، وحظر
مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها؛ لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية،
وبالأحاديث النبوية العربية، وبآثار السلف الصالح العربية، وبالحكم والأمثال
وشواهد اللغة العربية، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية، ومن
أنفس الأمة التركية، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لِما عبروا عنه (بتطهير اللغة
التركية) من اللغة العربية، واقترح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية، وإذا
طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم فإنهم سينفذون هذا الاقتراح
قطعًا كما نفذوا غيره ، حتى استبدل قرآن تركي بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين،
على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع
المسلمين، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين، وكونه حجة الله تعالى عليهم
إلى يوم الدين.
أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم؟ أرأيت هذا البلاء المبين؟ أرأيت هذه
الجرأة على رب العالمين؟ أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم؟ أرأيت هذا الشنآن
والاحتقار لإجماع المسلمين؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنًا ونصف،
ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرق بلاد الإسلام في الفنون
العربية، والعلوم الإسلامية؟
لقد كان من تأثير ذلك ما هو أقوى البراهين على فوضى العلم والدين،
واختلال المنطق وفساد التعليم، والجهل الفاضح بضروريات الإسلام وشؤون
المسلمين، لقد كان أثر ذلك الجدال والمراء، وتعارض الآراء والأهواء وتسويد
الصحائف المنَشَّرة بمثل ما شوهوها به في مسألة الخلافة، وقد كان يجب أن
تكون مسألة القرآن أبعد عن أهواء الخلاف، للنصوص الكثيرة الصريحة فيها،
وإجماع السلف والخلف العلم والعمل عليها، وعدم شذوذ أصحاب المذاهب والفرق
حتى المبتدعة عنها، فقد كثر الخلاف والتفرق في الدين، وتعددت الأحزاب والشيع
في المسلمين، على ما ورد في النهي عن ذلك والوعيد عليه في الآيات الصريحة،
والأحاديث الصحيحة، وارتد بعض الفرق عن الدين، مع ادعائه بضروب من فاسد
التأويل، وسخافات من أباطيل التحريف، كما فعل زنادقة الباطنية وغيرهم، قبل
أن يَقْووا ويصرحوا بكفرهم، ولم تقُم فرقة تنتمي إلى الإسلام بترجمة القرآن، ولا
ضلت طائفة بترجمة أذكار الصلاة والأذان، لأجل الاستغناء بها في التعبد لله، عن
اللفظ المنزل من عند الله، وإنما قصارى ما وقع من الخلاف فيما حول ذلك من
فروع المسألة، ومن تصوير الفقهاء للوقائع النادرة، أنه إذا أسلم أعجمي مثلاً ،
وأردنا تعليمه الصلاة فلم يستطع لسانه أن ينطق بألفاظ الفاتحة ، فهل يصلي
بمعانيها من لغته، أم يستبدل بها بعض الأذكار العربية المأثورة مؤقتًا ، ريثما يتعلم
القرآن كما ورد في بعض الأحاديث، أم يصلي بترجمة الفاتحة بلغته؟ نقل الثاني
عن أبي حنيفة وحده مع مخالفة جميع أصحابه له ، ونقل عنه أنه رجع عنه إلى
الإجماع، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه عمل به (على أنه لا حجة في عمل
أحد ولا في قوله غير المعصوم) فكان هذا الإجماع العام المطلق مما يؤيد حفظ الله
تعالى للقرآن ، أراد ملاحدة الترك أن يبطلوه في هذا الزمان {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (الصف: 8-9) .
نشرت الصحف مقالات كثيرة في مسألة ترجمة القرآن ، رأيت أقلَّها وذُكر لي
ملخص بعض دون بعض ، فعلمت مما قرأت وسمعت أن أكثر ما كتب - إن لم يكن
كله - كان أصحابه بمعزل عن شر البدع التي طرأت في هذه الأيام، ولم يتجرأ
عليها مبتدع آخر منذ ظهر الإسلام، وهو الإتيان بقرآن أعجمي مترجم يستغني به
أهل تلك اللغة عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى ، بحيث لا كسب
للرسول المنزل عليه فيه، ولم يُكلَّف إلا تبليغه كما أنزل إليه بحروفه لا مجرد
معانيه، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخاف أن يفوته شيء عند تلقيه من
الروح الأمين، فأمنه الله تعالى من ذلك بمثل قوله: من سورة الأعلى 87
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى} (الأعلى: 6)، وقوله من سورة القيامة 16: 85-19
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) .
نعم قد ترك هؤلاء الكاتبون كلهم مكافحة شر بدعة ابتدعت في الإسلام،
وأرهفوا أسنة أقلامهم للجدال في أصل مسألة الترجمة التي حدثت منذ أجيال.
فقد ترجم القرآن لغير المسلمين بعض الذين تعلموا اللغة العربية منهم
كالمستشرقين من الإفرنج لغرضين:
(أحدهما) : للعلماء وهو العلم بما فيه لذاته، كدأبهم في البحث عن كل علم
ودين في العالم.
(وثانيهما) : لدعاة الدين (المبشرين) وهو الاستعانة بها على الطعن فيه
وهم متفاوتون في تراجمهم ، فمنهم من ضل عن كثير من المعاني حتى الواضحة
ضلالاً قريبًا في بعض وضلالاً بعيدًا في بعض آخر، كمن ترجم قوله تعالى:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: 1-2) بأن جميع البشر يكونون
بعد الزوال أو قبل غروب الشمس بزهاء ثلاث ساعات في حال رديئة وخسران! !
ومنهم من سدد وقارب في ترجمته إذ وضح بعض الآيات بتعليق يعترف به
باستحالة الترجمة الحرفية بلغته.
وأما المسلمون من العجم الذين خالفوا سنة أمثالهم من السلف فيما كانوا يتقنون
من دراسة اللغة العربية؛ لأجل فَهم الكتاب والسنة، وتعصبوا للغاتهم ، واعتمدوا
في فهم النصوص على الترجمة، فكانوا يقرؤون التفاسير العربية حتى الدقيقة
للتعبير منها كتفسير البيضاوي ، ويترجمونها بلغاتهم لطلبة العلوم، ومازالوا كذلك،
ومنهم من كتب تفسير الفاتحة وتفسير بعض سور الجزأين الأخيرين بالفارسية؛
لكثرة تلاوتها في الصلوات، فأحبوا أن يفهمها التالون لها، فعل ذلك الشيخ محمد
بن محمود الحافظي البخاري المتوفى سنة 732 ويسمى كتابه هذا (تفسير خواجه
محمد بارسا) ، ومنهم من فسر القرآن كله تفسيرًا مختصرًا كالشيخ حسن بن علي
الكاشفي الواعظ المتوفى في حدود سنة 900 ، كتبه بالفارسية وترجمه بالتركية أبو
الفضل محمد بن إدريس البدليسي المتوفى سنة 982 ، وهنالك تفاسير أخرى
وحواش على بعض التفاسير المشهورة باللغتين وغيرهما.
وقد طبعت في هذا العصر مصاحف في الهند طبع بين سطورها العربية،
ترجمة حرفية للألفاظ باللغة الأوردية، للاستعانة بها على الفهم الإجمالي، ولم
يترجمه مسلمو الهند بلغتهم ترجمة مستقلة تطبع وتقرأ تعبدًا بدلاً من القرآن العربي
المنزل من عند الله كما فعل الترك في هذه الأيام.
نعم ترجمه بعض مسلمي الهند من مبتدعة القاديانية في هذه السنين الأخيرة
باللغة الإنكليزية ترجمة يقولون: إنها أصح من جميع التراجم الإنكليزية - وطبعوها
مع القرآن العربي المنزل - لكنهم أدخلوا بدعتهم فيها كما نقل إلينا المطلعون
عليها من المسلمين، ولذلك لم يأذن شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بنشرها
في القطر المصري كما بسطنا ذلك في مقال آخر من المنار، وكان هذا المنع
هو السبب في إثارة الجدال والقيل والقال عندنا، فإن القاديانية في الهند
والذين انتحلوا ضلالهم بمصر - وهم قليلون - أنكروا ذلك على شيخ الأزهر
فشايعهم بعض الكاتبين ورد عليهم آخرون، ورأينا أن أكثر الكاتبين لا يعلمون أن
الترجمة الإنكليزية الجديدة هي لمسيحية الهند القاديانية الذين يزعمون أن زعيمهم
(غلام أحمد القادياني) هو المسيح الذي ورد في الأحاديث نبأ نزوله قبيل قيام
الساعة ، وأنه كان يُوحى إليه من سخافات النثر والشعر ما يعدونه معجزة له ، وما
هو إلا سخرية لمن يعقل من أهل اللغة العربية، وأن سورة الفاتحة تدل على
مسيحيته وعلى عدم انقطاع الوحي ببعثه خاتم النبيين، وأنه نسخ فريضة الجهاد
وما يتعلق بها من الأحكام خدمة للإنكليز، بل يزعمون أن الوحي لا يزال ينزل
على خلفائه من بعده، إلخ.
كما رأينا هؤلاء الكاتبين لا يعلمون شيئًا يُعتَدُّ به من أمر ملاحدة الترك
وعداوتهم للغة العربية وأهلها بغضًا في الإسلام - وأنهم يريدون تحويل الشعب
التركي العريق فيه عنه - وأنهم ما ترجموا القرآن إلا ليتوسلوا به إلى ذلك.
فكل ما جاء به المجوزون للترجمة من غير الضالين ببدعة القاديانية المرتدين
قد أيدهم وأيد ملاحدة الترك من حيث لا يدرون، ولو دروا لكانوا من أشد الناس
إنكارًا عليهم، فوقوعهم في فتنة تأييد المرتدين عن الإسلام يؤيد قول من عد معرفة
الناس من الأمور التي تعتبر في المفتي قاله: الإمام أحمد وغيره ، وقال المحقق ابن
القيم في بيانه: إن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم ، فإن لم
يكن فقيهًا فيه كان فقيهًا في الأمر والنهي ، ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح اهـ؛ وهؤلاء الذين تصدوا للإفتاء في هذه المسألة قد فقد
أكثرهم الفقهَيْن وأقلُّهم أحدَهما.
وأما النظريات التي استدلوا بها على جواز الترجمة بل على وجوبها كما
صرح به بعضهم ، فأكثرها سخف وجهل فاضح، والذي يستحق أن يبحث فيه منها
هو مسألة الدعوة إلى الإسلام، وما يتعلق بها من أحكام، وسنذكر من ذلك ما لعله
لم يخطر لأحد من هؤلاء المفتين ببال.
وإنا لنعلم أن الترجمة الإنكليزية التي أشرنا إليها يُقصد بها ما يقصده ملاحدة
الترك من ترجمتهم التركية ، فإن القاديانية على بدعتهم التي أخرجتهم من جماعة
المسلمين لا يبيحون التعبد بغير اللغة العربية ، بل قصدوا بها الدعوة إلى الإسلام
كما يفهمونه، وقد نشر الخوجة كمال الدين الهندي مدير المجلة الإسلامية التي
تصدر باللغة الإنكليزية في لندن (إسلاميك ريونو) لأجل الدعوة إلى الإسلام خطابًا
يخبر فيه العالم الإسلامي بأنهم ترجموا القرآن بلسان الإنكليز ، ويريدون طبعه
ونشره مع الأصل (أي القرآن العربي كلام الله) ، ويطلب منهم المساعدة المالية
على ذلك ، وعلى نشر المجلة، وقد نشرنا دعوته في الجزء العاشر من المجلد
السابع عشر (شوال سنة 1332) للمنار (ص793-795) ، وعلقنا عليها تعليقة
وجيزة نصحنا له فيها بأن لا يطبع ترجمة القرآن التي نوه بها إلا بعد عرضها على
جماعة من كبراء العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها، وعللنا ذلك بقولنا: فإن
رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية ، فيُخشى أن تكون ترجمته كثيرة
الغلط كغيرها، على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من التأثير والمعاني ما
تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال، وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن
يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو، وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد اهـ.
وكان من غرضنا عرض الترجمة على جماعة من كبار العلماء لفتح باب
تحرير هذه المسألة، ثم علمنا أن خوجه كمال الدين ليس هو المترجم، ثم بلغنا أنه
ترك المسيحية القاديانية إلى الإسلام الخالص، وقد صرح في مصر بالبراءة منهم
قولاً وكتابة ، ولكنه لا يزال يعتمد على هذه الترجمة في الدعوة إلى الإسلام
كالقاديانية، وقد سبق لنا كتابة أخرى في تعذر ترجمة القرآن على جميع البشر
ومباحث أخرى فيها.
وقد كثرت مطالبة الناس لنا بالكتابة في الموضوع من العلماء والفضلاء الذين
اعتادوا من المنار القول الفصل، والحز في المفصل، على ما يعلم بعضهم من
سبقنا إلى ذلك في مواضع من مجلدات المنار السابقة، ومن اطلاع بعض من كتبوا
في هذه الأيام على ما كنا كتبناه من قبل، وسماع بعضهم منا في ليالي رمضان ما
نراه من خطأ وصواب في المسألة، وإنما يبغي هؤلاء تفصيلاً يدحض الشبهات،
ويجلي الحق بالحجج الناهضة من جميع الجهات، كما فعلنا في مسألة الخلافة
العظمى، وأن ننشر ذلك في بعض الصحف المنتشرة لتذيع في الناس فوعدْنا،
على أننا قد كنا ألممنا بذكر هذه المسألة في الجزء الأخير من المجلد الخامس
والعشرين، ووعدنا فيه بالعودة إلى الكتابة فيها بالتفصيل، وقد كتبنا هذه العجالة
قبل مراجعة ما كنا كتبنا ومراجعة ما حفظنا لدينا من قصاصات الصحف فيما كتبه
أشهر الذين كتبوا في المسألة (ولعلنا نجد فيها من الحق ما لم يوجد فيما وقفنا عليها
من غيرها) ، فرأينا أن نجعلها مقدمة لِمَا سنكتبه بعد من التفصيل والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
أسئلة في مسألة الخلافة وأحكامها والخلفاء
(س1-17) من صاحب الإمضاء في دهلي - الهند -بنصه وغلطه اللغوي
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) نحمده
ونصلي على رسوله الكريم) .
استفتاء
ما تقول أيها العلماء الكرام والحاملون لواء الإسلام في سؤال مسطورات
تحت:
(1)
هل حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) صحيح
أم لا؟
(2)
هل يعمل به في زماننا أم لا؟
(3)
إن قلتم لا فما دليل المنع من الكتاب والسنة؟
(4)
إن كان الحديث صحيح فهل يعمل به في هذا الزمان وهل يكون
نصب الإمام واجبًا في الملة المحمدية أم لا؟
(5)
هل يشترط في الإمام القرشية مطلقًا أو ما أقاموا الدين؟
(6)
إن لم توجد إقامة الدين في قريش (كما في بلادنا الهند) فهل يجوز
أن يكون الإمام من قوم آخرين أم لا؟
(7)
إن تغافل أو تجاهل قريش أو عوام الناس ، ولم يعملوا بهذه السنة فأية
طريقة تختار لإحياء هذه السنة وإلا فكيف؟
(8)
جماعة بغير إمام أو خليفة هل لهم حكم الجماعة أم لا؟
(9)
هل يكون الإمام صاحب السياسة والقدرة أو بدونهما؟
الاستفتاء الثانية
(10)
هل كانت الزكاة تجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم؟ إن كانت تجمع ففيم كانت تصرف؟
(11)
هل كانت تجمع على عهد الخلفاء الراشدين مثل ما كانت على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم وكم يأخذ الخلفاء الراشدون لحوائج حياتهم من هذا
يعني (الزكاة) وكيف كان استحقاقهم شرعًا؟ وكيف كانوا ينفقون إسرافًا أم
اقتصادًا ، وهل كان المسلمون يحاسبون الخلفاء في ذلك الزمن أو لا (أي في بيت
المال أم من الزكاة) .
(12)
كيف يفعل صاحب الزكاة في زمننا ، هل يؤديها إلى الإمام الشرعي
أو يقسمها بنفسه على الفقراء والمساكين كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ.
(13)
في أي شيء يجب على الإمام أن يصرف الزكاة ، وهل يصرف
مستقلاًّ بنفسه حيث يشاء أو بالشورى؟
(14)
كم يأخذ الإمام الشرعي لنفقة نفسه وعياله ، وهل يأخذ مستقلاًّ أو
بالشورى؟
(15)
إذا اتهم الناس الإمام بالجور في صرف الصدقة ، أو ثبت لهم أن
الإمام لا يصرف الزكاة حيث أمر الله بل يجمع ، فهل لهم أن يجبروه على وضع
الحساب عندهم أو لا؟
(17)
وإذا كان الإمام مخالفًا لسيرة الخلفاء الراشدين المهديين في تصرفه ،
وأيضًا في القول والفعل فهل يصح أن يبقى إمامًا أو لا؟
(الحقيقة) أن واحد العالم المولوي في بلادنا (الهند - الدهلي) ادعى أنه
إمام وخليفة الله ، وخلافته كخلافة الخلفاء الراشدين ، ومن لم يبايعه ومات بدون
بيعته مات ميتة جاهلية ، ويحذر الناس ويخوف المسلمين بوعيد هذا الحديث (من
مات وليس في عنقه بيعة إلخ) ويقول: إنه من لم يؤد الزكاة إلي فلن يقبل الله
زكاته وإذا اعترض الناس عليه أنه ليس بقرشي ، ولا صاحب السياسة والقدرة ،
وأنه لا يقدر أن يجري حدود الله لأنه محكوم ككافة المسلمين في الهند ، وأن الإمام
لا يصير إلا بانتخاب المسلمين وكثرة رأيهم ، أجاب أن السياسة والقرشية ليست
بضروري فصار تنازعًا وتخاصمًا واختلافًا كثيرًا بين المسلمين في هذه المسألة
الإمامة.
فعليكم أيها العلماء الإسلام أن تبينوا بالدلائل الواضحة والبراهين القاطعة
بالكتاب والسنة والكتب السير المعتبرة ، بينوا بالدليل تؤجروا عند الجليل.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المحقق الهندي
…
(المنار)
نجيب عن هذه الأسئلة بالإجمال الموجز استغناء عن التفصيل في أكثرها
بكتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي نشرنا فصوله في المنار ، ولأن سببها
إبطال ادعاء أحد صعاليك الدجالين للخلافة في الهند ، وهو لا يحتاج إلى كل هذه
الأسئلة ولا إلى التفصيل في أحكامها ، بل لولا عموم الجهل لم تحتجْ هذه الدعوى
السخيفة إلى سؤالٍ ما؛ إذ من المعروف أن الخلافة الصحيحة إنما تنعقد بمبايعة أهل
الحل والعقد من المسلمين لرجل مستجمع للشروط التي بينها العلماء في كتب العقائد
وكتب الفقه، وأن خلافة التغلب تحصل بمبايعة أهل القوة والعصبية لأي رجل
يؤيدونه وينفذون أحكامه - وكل من الأمرين محال وقوعه في الهند وهي مقهورة
تحت سلطان دولة أجنبية - وهذا المعتوه الذي ادعى الخلافة في الهند يظن بجهله
أو عَتَهه أن دعوى الخلافة من مجنون مثله كافية لوجوب اتباعه ، ودفع أموال الزكاة
وغيرها له يتمتع بها.
ولعل الذي أغراه بهذه الدعوى ما رآه من ادعاء الدجال غلام أحمد القادياني
للنبوة والرسالة والوحي والمعجزات ، وأنه مسيح الملة المحمدية ، فوجد من
المارقين والجاهلين الذين وُصفوا بأنهم (أتباع كل ناعق) من صدقه وصار له ولهم
دين جديد كمسيحية النصارى بالنسبة إلى شريعة التوراة.
أما الجواب عن الأسئلة الأربعة الأولى فهي أن الحديث صحيح رواه مسلم
عن ابن عمر مرفوعًا ، ويجب العمل به في كل زمان ، فنصب الإمام واجب في
الملة في هذا الزمان كغيره ، وجميع المسلمين آثمون بعدم نصب إمام تجتمع كلمتهم
عليه بقدر طاقتهم ، ومعاقبون عليه في الدنيا بما يعلمه أهل البصيرة منهم
وسيعاقبون في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وحده.
وأما الجواب عن الثلاثة بعدها فهي أن النسب القرشي شرط في الإمام الحق
مطلقًا بإجماع أهل السنة والشيعة ، بل سبق إجماع الصحابة على ذلك ولا يُعتد
بمن خالفهم من الخوارج وغيرهم ، وإنما ورد في الصحيح أنه يجب أن يُسمع لهم
ويُطاعوا ما أقاموا الدِّين إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والواجب على أهل
الحل والعقد حمل من قصر منهم في إقامة الدين على ما يجب عليه من ذلك.
وأما الجواب عن السؤال الثامن فهو أن الجماعة التي أمرنا باتباعها لا تسمى
جماعة المسلمين إلا إذا كان لها إمام بايعته باختيارها ، ومما يدل على ذلك حديث
حذيفة الذي رواه الجماعة كلهم وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال صلى
الله عليه وسلم (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك
الموت وأنت على ذلك) فلم يأمره بالتزام طاعة أي فرقة من فرق المسلمين الذين
ليس لهم جماعة ولا إمام يقيم الحق والقسط.
وأما الجواب عن التاسع فهو أن إمام المسلمين هو رئيس حكومتهم السياسية ،
ويجب عليهم أن يكونوا قوة وشوكة له بمقتضى مبايعتهم له ، وليس معنى قوة الإمام
أن تكون له قوة وعصبية قبل مبايعته وأن يبايع لأجلها كما توهم الكثيرون ، فإن
هذا أصل فاسد مفسد للدين والدنيا إذ مقتضاه أن الحق للقوة فكل قوي يتبع ويطاع
لقوته ، وإن كان ظالمًا عاصيًا له تعالى ، ويقر على سلبه الحق من أهله إلخ؛ وقد
وضحنا هذا في كتاب الخلافة.
وأما الأسئلة المتعلقة بالزكاة فجوابها أن الزكاة كان لها عمال في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يجمعونها من الناس ، وكانت تصرف في
مصارفها الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ؛ وللإمام أن يصرف بنفسه وأن يعهد بالصرف إلى غيره كما هو
شأن كل رئيس حكومة أو مصلحة أو شركة ، أما الشورى فإنما يحتاج إليها في
الوقائع والمسائل المشكلة التي ليس فيها نص صريح قطعي ، أو يتوقف تنفيذ النص
فيها على الوجه المطلوب على بحث ، ففي مثل ما ذكر كان الخلفاء الراشدون
يجمعون أهل العلم والرأي ويستشيرونهم، وعلى البلاد التي ليس فيها حكومة
إسلامية تنفذ أحكام الشرع في الزكاة أن يدفعوا الصدقات لمستحقيها بأيديهم ، وفي
مثل نجد واليمن يؤدونها للإمام.
وأما معاملة الخلفاء في نفقاتهم ومعاملتهم فهي منوطة بأهل الحل والعقد من
جماعة المسلمين ، وقد فرضوا للخليفة الأول ما يناسب حالة أمثاله في المعيشة من
حيث هو رجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ثروة كعثمان وعبد الرحمن بن
عوف ولا أدناهم كعمار بن ياسر، ويجد السائل ما يحتاج إليه من تفصيل لأحكام
الإمامة وأهل الحل والعقد في كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) .
***
الاحتيال على الربا بورق النقد
(س18) من صاحب الإمضاء
إلى حضرة الأستاذ الكبير صاحب الإمضاء المنير أدام الله فضله:
ورق النقدي يباع ويُشرى في الأسواق بقيمة غير محدودة ، فهل يجوز للإنسان
أن يبيع قسمًا من الورق النقدي متفقًا مع المشتري في أسعار أكثر من أسعار السوق
الحاضرة لمدة معينة أم لا؟ نرجوكم أفتونا عنها ولكم من الله جزيل السلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... كاتبه
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ياسين السيد
(ج) سبق لنا تفصيل لأحكام الأوراق المالية (بنك نوت) ، فنكتفي هنا
بأن نقول: إن هذه الصورة المذكورة في هذا السؤال ليست صورة بيع وشراء، بل
هي صورة دَين مؤجل بزيادة معينة في مقابل الأجل ، وهو عقد ربوي ظاهر
صريح ليس من قبيل الحيل التي اختلف فيها الفقهاء، وأما اضطراب أسعار ما
يُسمى الورق السوري فسببه معروف ، وهو يشبه فيه نقد الفضة التركي كالريال
المجيدي ، فإذا اختلف سعر الريال إذا صُرف بغيره من نقد المعدن أو الورق فهل
يبيح ذلك إعطاء مائة ريال لرجل على أن يرد لمعطيها مائة وعشرة ريالات بعد
أشهر أو سنة مثلاً؟ وهل يسمى هذا بيعًا؟ لا ، على أن بيع الربويات المختلفة
الجنس التي يجوز فيها التفاضل يشترط فيها التقابض في المجلس ، وإلا كان من
ربا الفضل الذي حرم؛ لأنه ذريعة لربا النَّساء المجمع على تحريمه.
_________
الكاتب: أحمد بن تيمية
إبطال وَحدة الوجود
والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضًا من
قول أهل الوَحدة ، وهو مع كفره قول متناقض ، فإنه قد يعلم بالاضطرار من دين
الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد ، وأن أقوال المشركين الذين قالوا:
{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَداًّ وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:
23) والذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3)
والذين قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ
إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 53-54)، والذين قالوا: {حَرِّقُوهُ
وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 68) ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد.
وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجود إن كان أحدًا كان إثبات العدد
تناقضًا ، فإذا قال القائل: الوجود واحد وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان
هذان قولين متناقضين ، فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر ، وإذا قال قائل: الألسنة
كلها لسانه ، فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها ، وذلك يقتضي أن لا يكون
هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة ، وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم
فإنه ينقض قولهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد.
فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود
فهذا صحيح ، لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا
عين وجود هذا ، بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي
يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسم المنطقيون الكلي إلى جنس ونوع وفصل
وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون
أحد المشتركين ليس هو الآخر ، وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات
أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود ، فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا
لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مُبايَنة لوجود كل مخلوق من مباينة
وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر.
وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال: لا يعرف التوحيد إلا
الواحد وتصح العبارة عن التوحيد ، وذلك لا يعبر عنه إلا بغير ، ومن أثبت غيرًا
فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره تناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا
واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه ، وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه
ومن لا يعرفه ، وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من
يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا: من أثبت غيرًا فلا توحيد له، يناقض هذا ،
وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر
عن توحيده ، ورسوله عبر عن توحيده ، والقرآن مملوء من ذكر التوحيد ، بل إنما
أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد ، وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) ، ولو لم يكن عنه عبارة لَمَا نطق به أحد ، وأفضل ما
نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أفضل
الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال: (من كان آخر كلامه لا إله
إلا الله دخل الجنة) لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة
الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يُتَصور تحقُّقه في الخارج ، فإن الوحدة العينية
الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين ، ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى
أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد ، كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما
يتناول كل جسم وكل إنسان ، وهذا الجسم ليس هو ذاك ، وهذا الإنسان ليس
هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك.
وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً- التعبير عن التوحيد
يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله ، فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك
من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه
غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما
لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه ، ففي أحد الاصطلاحين يقال: إنه غير ، وفي
الاصطلاح الآخر لا يقال: إنه غير ، فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد
لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق ،
فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل
مخلوقة في غيره ، فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من
أعظم الإلحاد ، وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا. وإن
كان الواحد المعين لا يُكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها [1] .
وأيضًا فيقال لهؤلاء الملاحدة: إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه
لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما
يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله ، ومعلوم أن مَن جعل هذا صفة لله كان من
أعظم الناس كفرًا وضلالاً ، فمن قال: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل ، فإن
الصفات والأعراض لا تكون عين الوجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن
عربي يقول:
وكل كلام في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله ، وأما هذا
اللحيد [2] فزاد على هؤلاء ، فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده ، لم يجعل ذلك
كلامًا له بل يقال: أن يكون [3] هنا كلام له لئلا يثبت غيرًا له.
وقد عُلم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله
تعالى ، وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة
من صفات الله؛ ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح
الإنكار ، قال تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر:
64) ، وقال تعالى:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ} (الأنعام: 14) وقال تعالى:
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (فاطر: 3) ، وقال
تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114)، وكذلك قول القائل: وَجَدتُ المحبة غير المقصود لأنها لا
تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما
يكون إلا من عبد لرب ، لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا - هو كلام
فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يَخفى ، فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين
أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ
لِّلَّهِ} (البقرة: 165)، وقوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54)، وقوله:
{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 24)، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَّقِينَ} (التوبة: 4)، {يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح: (ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله
أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن
يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وقد أجمع سلف
الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له ، وهذا أصل
دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام ، وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن
درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال: أيها الناس
ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ
إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا
كبيرًا. ثم نزل فذبحه.
وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل
وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح ، فإن الإنسان يحب نفسه وليس
غيرًا لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثَم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق
والمؤمنون غير الله ، وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مُقدمتَي الحجة
باطلة قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم فإن الغير موجود ،
والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه؛ ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في
هذا ويقول كما قال ابن الفارض [4] .
وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب ، ولو أنصف الناس ما رأوا
عابدًا ولا معبودًا - كلا المقدمتين باطل ، فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد
نفسه بنفسه كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} (آل عمران: 18)
والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه ، فقد وجد نفسه بنفسه كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ} (البقرة: 163)، وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ} (النحل: 51)، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: 19) وأمثال ذلك.
وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض ، فإنه إذا لم يكن عابدًا ولا معبودًا بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله ، فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه:
الفقيرإذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله ، وقد صرح ابن
عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وَيَنْكَحُ
وَيُنْكَحُ ، وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك الكمال عندهم كما قال في
الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور
الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومًا عرفًا
وعقلاً وشرعًا ، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة (وقال) ألا ترى الحق يظهر
بصفات المحدثات ، وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق
يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد ، كما أن صفات
العبد من أولها إلى آخرها صفات لله تعالى.
هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك
الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا يعاملك بموجب مذهبك ، فيُضرب ويُوجع ويُهان
ويُصفع ويُظلم ، فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى قيل له: ما ثَم غير
ولا عابد ولا معبود ، فلم يفعل بك هذا غيرك ، بل الضارب هو المضروب والشاتم
هو المشتوم والعابد هو المعبود ، فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه ، قيل
له: فقل أيضًا عبد نفسه، فإذا أثبت ظالمًا ومظلومًا وهما واحد فأثبت عابدًا ومعبودًا
وهما واحد ، ثم يقال له: هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح ،
وهذا الذي شبع ورَوِيَ هو نفس هذا الذي جاع وعطش ، فإن اعترف بأنه غيره
أثبت المغايرة ، وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا ، فبين العابد والمعبود أولى
وأحرى ، وإن قال: هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية ، فإن هذا القول من
أقبح السفسطة ، فيقال: فإذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه
وأهلك نفسه ، والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء ، لكن جهة أمرها
ليست جهة فعلها ، بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات ، وكل أحد
يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظَلم ذلك ليس هو إياه وليس هو
بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه ، وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة
للمخلوقين من هذا لهذا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا وهم عند كثير من
الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق وأفضل أهل
الطريق، حتى يُفَضِّلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين، لم يكن
بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم بذلك أن
الضلال لا حد له، وأنه إذا كفرت العقول لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من
فرق في نوع الإنسان ، فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو من
شرار الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب،
بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين الذين يفسدون الدنيا
والدين.
والمقصود هنا رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال، وأما توبة مَن
قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن
عباده ويعفو عن السيئات ، ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات،
والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن
غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن
تاب ، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين ، وأما قوله:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فإنها
مقيدة خاصة؛ لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق
بمشيئة الله تعالى.
والحكاية المذكورة عن الذي قال أنه التقم العالم كله ، وأراد أن يقول: أنا
الحق، وأختها التي قيل فيها: إن الإلهية لا يَدَعُها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق
الله هو من هذا الباب ، والفقير الذي قال: ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إله
مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب، وسدد الخطاب؛ ولكن
هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله ، ويَدَّعون أنهم [5] من موسى وأمثاله ،
حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلَمَ وحسُن إسلامه ،
وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء ، ودعاه إلى هذا القول وزينه له
فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم ، وأن قولهم من جنس قول فرعون
فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال
نعم ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع
موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولمَ؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون ،
فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً
صادقًا ، قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمن
سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة ، أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول
فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود.
فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل ، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف
معناها وأنه باطل والواجب إنكارها ، فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من
المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون ، لا
سيما وأقول: هؤلاء أشرُّ من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها ، واعتقدها
كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 73) ، والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًّا من كفار أهل
الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قُدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى
صحيحًا ، فإن ما يحمل عليها إذا لم يُعرف مقصود صاحبها [6] وهؤلاء قد عرف
مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ، ولهم في ذلك كتب مصنفة
وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضًا ، وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع
في ذلك إلا جاهل لا يُلتفت إليه ، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن
الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل، فإن ضرر هذه على
المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من
ضرر السُّراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سُراق وخونة، فإن هؤلاء غاية
ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببًا لرحمته
في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله
وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله
ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين،
فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنًا وليًّا لله ، فيصير منافقًا عدوًّا لله ، ولقد
ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحاجِّ؛ ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى
قُبرُص فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون
بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى ، وهؤلاء يجعلوننا شرًّا من النصارى ،
والأمر كما قاله هذا القائل.
وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله ، وأن كلامهم كلام العارفين
المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم ، فمنهم من دخل في اتحادهم
وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق
بالمجهولات، وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين، وهم بمنزلة من يعظم أعداء
الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالي المشركين وأهل الكتاب،
ظانًّا أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال
المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين.
وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب، والله أعلم.
(انتهت الرسالة)
(المنار)
أرسل إلينا هذه الرسالة مع رسائل وفتاوى أخرى لشيخ الإسلام وناصر
السنة الإمام أحمد تقي الدين بن تيمية - قدس الله روحه - أخونا في الله الأستاذ
الفاضل الشيخ محمد بهجة الأثري البغدادي بإرشاد أستاذه صفوة أصدقائنا علامة
العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألولسي رحمه الله تعالى، وهي
منقولة بقلم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الفضيلي الزبيدي البغدادي عن نسخة
كثيرة الغلط والتحريف والسقط ، قال: إنه اجتهد في تصحيحها ما استطاع ،
ونقول: إننا اجتهدنا بعده ، فصححنا مما بقي من ذلك ما تيسر لنا ونبهنا على بعض
ما يتيسر في الحواشي ، ونحمد الله تعالى أن صار المراد منها كله مفهومًا،
فنسأله تعالى أن يثيب الجميع: المؤلف والناسخ والمرسل والمرشد والناشر
بفضله وكرمه.
_________
(1)
يعني أن السلف كفروا الجهمية ببدعتهم في الإلحاد بصفات الله وإنكار كونها معاني وجودية قائمة بذاته ، وزعمهم أن كلامه أصوات خلقها في سمع موسى وغيره.
(2)
كذا في الأصل ، فإن لم يكن محرفًا فهو تصغير لاحدٍ، وكيف يصغر الشيخ الأكبر؟ .
(3)
كذا في الأصل ، فيجر لفظًا ومعنى.
(4)
لم يذكر عن ابن الفارض هنا شيئًا.
(5)
سقط من هنا كلمة أعرف أو أعلم أو أفضل.
(6)
المنار: في الكلام تحريف وسقط والمعنى المفهوم من القرينة أنها إنما يصح أن تحمل على معنى صحيح تحتمله اللغة إذا لم يعرف مقصود صاحبها.
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
المقالات الجمالية
(4)
نبذة من مناظرة خيالية للسيد جمال الدين
قال جامع هذه الطائفة من المقالات الجمالية بعد المقالة الثالثة:
ثم انتقل (السيد) حفظه الله من لندن بعد نزوله بها بخمسة عشر يومًا إلى
باريس عاصمة الفرنسيس ، وكان ذلك في شهر يناير سنة 1883 عربية فتلقاه أهلها
بالقبول والإقبال ، ولم يَدَعوه يأخذ راحته حتى التمس أصحاب جرائدها العربية من
حضرته أن يطرز جرائدهم بشيء من غرره.
وقد وقفنا له على فصل من ذلك في جريدة (أبو نظارة زرقاء) ، وكانت
تفرغ الجد في قالب الهزل ، ولكنها لم تستوعب الفصل لضيق مجالها بل وَعَدَتْ
باستيفائه على التدريج في أعدادها التالية ، إلا أننا لم نقف لها على غير ذلك العدد
لعسر الحصول عليها؛ بسبب منع دخولها في البلاد التي نحن فيها ، وعلى ذلك
أثرنا عنها الشذرة التي تضمنها ذلك العدد من الفصل المذكور؛ حرصًا منا على
التقاط فوائد أستاذنا ، قال متعنا الله بطول حياته:
فقال صاحب المقالة: إنكم قد ضللتم عن رشدكم، وتُهتم في بيداء غِوايتكم،
وما يقوم لكم دليل في تقاعسكم عن الذود عن أوطانكم، ولقد غلب عليكم الجبن،
واستولى عليكم الضعف، وأضعف جمانكم الخوف والخشية، ألا ترون أن كل أمر
صعب عند الشروع فيه؟ ، أفلا تشعرون أن صعوبة المسالك بمقدار عظم
المقاصد؟ وأن الراحة محفوفة بالمشاق، وأن أفضل الأعمال أحمزها [1]
أفترضَون بالعبودية للأجانب، والاستكانة للأباعد، وإن موت المرء خير من
بقائه في هذه الدنيا مع قلة مدتها وسرعة زوالها، رقًّا لا يملك من الأمر شيئًا.
أتظنون أن هذا التعلل يدفع عنكم غضب رب الجنود، لا وحقه إنكم إن لم
تدافعوا عن أوطانكم بنفوسكم وأموالكم لا تنالون منزلة لديه، ولا تجدون مخلصًا
من سخطه، وتبقون في ذل العبودية ما دامت الأرض باقية (وكل عذاب دونه
لحقير) فتشجعوا وثبتوا أقدامكم، وسكنوا روعكم، واعلموا أن الظفر مقرون
بالصبر، وأيقنوا أن الراحة والسعادة في أثر المشقة، وأن سنة الله قد جرت من
الأزل، أن لا ينال الإنسان مرغوبه إلا بعد التعب، فلا تقدموا هذه الحجج
الداحضة، ولا تظهروا الفشل في طلب حقوقكم، ولا تتسربلوا الجبن فإن كل جبان
محروم، فاسعوا في اتفاق كلمتكم، واجعلوا صدوركم مِجنًّا لسهام أعدائكم، مجدين
في خلاص بلادكم، واعلموا أن الأمم الغابرة والحاضرة ما نكست رقابها ولا
كسرت أطواق العبودية إلا بتحمل المشاقّ والخوض في غمرات الموت اهـ.
***
كتاب له في الدفاع عن الدولة العثمانية
(5)
وكتب حفظه الله إلى صاحب جريدة البصير التي تطبع بباريس عاصمة
الفرنسيس ، وهو يومئذ لم يزل نزيلها ، وذلك في فبراير عام 1883 غربيًّا وربيع
الأول سنة 300 هجرية قال جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا:
سيدي الخليل بما فُطر عليه من العقل الغريزي الذي دلت عليه عقائل فكاره،
وأنبأت دقائق أفكاره عن فسيح مجاله وسعة مضماره، كان الواجب عليه قبل
الخوض في أحوال الشرق والسلوك في بيداء سياسته، وهتك الستر عن قبائح
رعاته وشنائع ساسته، أن ينظر ببصيرته الوقادة إلى ما أَلَمَّ بالشرقيين من البلايا،
وما أحاط بهم من الرزايا، فإنهم لتفريطهم في إصلاح شؤونهم من قبل قد أشرفوا
على الهلاك، وصاروا بعجزهم عن صيانة حقوقهم غرضًا لكل نابل، وطُعمة لكل
آكل، تستملك الأباعد بلادهم، وتستعبد رجالهم، وتستلب أموالهم، ولا ريب أن
الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال ، التي لا تُنال إلا بهمة
عالية تأبى العبودية، ولا نجاة لهم من هذه المصيبة التي تقهر النفوس، وتوجب
الذل والخمول، إلا بالتفافهم تحت راية واحدة على الذود عن حقوقهم، من دون
ملاحظة الاختلاف في الجنسية؛ لأنهم بتقارب أخلاقهم، وتلاؤم عاداتهم، وتوافق
أفكارهم، صاروا كأنهم جنس واحد، وإن اختلفت لغاتهم فخضوع بعضهم لبعض
مع تناسب طبائعهم لا يبعث على الذل والاستكانة، ولا يزيل النخوة التي هي
الداعية إلى كل فضيلة وكمال، وإذا تفرقت كلمتهم، وتشتَّتت قوتهم، لا يمكنهم
الخلاص من مخالب الذين ينتهزون الفرصة لاسترقاقهم، فيجب على كل شرقي
دفعًا لهذه النازلة، وصيانة لأمته من ذل العبودية، أن يسعى جمعًا للكلمة في تشييد
مباني الحكومات الباقية في الشرق، فإن الأجانب ما وضعوا أيديهم على بلد إلا
عاملوا أهله معاملة الآلة، ولهذا يمكنني أن أقول: إن سيدي الخليل في مقالاته التي
حررها إنهاضًا لهمم الأمة العربية ، وإن كان ما أراد منها الأخير أبناء جنسه، قد
حاد عن صراط السياسية القويمة بتعرضه للدولة العثمانية، وكان عليه أن يفقه أن
هذه الدولة في هذه الأيام، بمنزلة نظام لأجناس مختلفة من الشرقيين يحفظها عن
التفرق والضياع، ويمكِّن كل جنس منها أن يسعى رويدًا رويدًا في إصلاح شؤونه،
ويرتقي إلى مدارج عزه، على حسب كده وجده ، وإذا انقطع هذا النظام وتفرقت
الكلمة، وتشتت الجمع، واستقلت كل طائفة بأمرها فإنها لا تستطيع وقتئذ صون
نفسها عن تطاول الأجانب، ولا تطيق مقاومة الأباعد الذين لا يريدون إلا
استعبادهم، فيصبح كل هذه الأجناس عبيدًا أذلاء لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا،
فلا يُنتظر لهم إذًا كمال، ولا يرجى لهم فلاح أبدًا، وربما اضمحلت جنسيتهم التي
نيطت ببقاء لغتهم، وهذا الموت الذي لا بعث بعده ما دامت الأرض دائرة ، ولا
أشك أن سيدي الخليل لو لمح ببصره لرآني محقًّا في مقالتي هذه، ورجائي منه بعد
الإغماض عما جرى به قلمي أن يتخذ لكبح شِرَّة الأجانب اتفاق كلمة العثمانيين
مسلكًا لجريدته الغراء ، ويبني خدمته لعموم الشرق على أساس سياسته،لا زال
هاديًا للعباد إلى سبيل الرشاد اهـ.
قال جامع المقالات:
وقد كانت هذه الرسالة سببًا في عدول تلك الجريدة عن مشربها الأول ، إذ
كانت شديدة الانحراف على الدولة العثمانية كما هو مذهب كثيرين من بعض
الطوائف المستظلين بظلها لا زال وارفًا، ثم استقامت واعتدلت بعد أن التمست
لنفسها العذر عما كان من رأيها فيما أجابت به أستاذنا، ثبتها الله على صراطها
الأخير وألحق أمثالها بها، وأكثر في المسلمين من مثل سيدنا وأستاذنا وأطال بقاءه
للدين والدنيا.
_________
(1)
أحمز الأعمال أمتنها اهـ ، من القاموس زاد في شرحه وقيل: أمضها وأشقها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدين والسياسة
وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم
قد سبق لنا بحث كثير في موضوع هذا العنوان نشر بعناوين متعددة ، وفي
أثناء التفسير وغير التفسير من أبواب المنار، فقراء المنار يعلمون أن المدارس
الإفرنجية والمدارس المتفرنجة على اختلاف أنواعهما من تبشيرية أنشئت لدعوة
النصرانية، و (علمانية) أنشئت لمقاومة الأديان أو بمعزل عنها - ومن رسمية
للحكومات المتفرنجة كالتركية والمصرية - ومن أهلية أيضًا - كلها قد أخرجت
للشعوب الإسلامية نابتة مضطربة في أمر دينها ودنياها وسياستها وآدابها، يقل فيها
من يعرف دينه معرفة صحيحة، ومن يحافظ على آدابه وفرائضه تقليدًا أو على
بصيرة، ويقل في المتدينين منهم مَن يدري كيف يجعل ما استفاده من علوم
العصر وفنونه غذاء معنويًّا لأمته وقوة وعزة لملته؛ لأن أكثرهم لم يحصل من
العلوم والفنون ما يؤهله لعمل ينهض بالأمة نهوضًا ماديًّا أو معنويًّا ، وإنما تلقوا
قليلاً من المبادئ هم فيها مقلدون كما أن أكثرهم مقلدون في الطعن بدين أمتهم
لبعض ملاحدة الإفرنج مع الفرق العظيم بيننا وبينهم في ذلك، ولا سيما فيما يسمونه
الفصل بين الدين والسياسة، وفي براءة أوربة من التعصب الديني وهي مثاره
وأتون ناره.
ولكن يكثر فيهم الهادمون لبناء أمتهم وملتهم باحتقار مقوماتها التي كانت بها
أمة ذات صلة ممتازة كالدين والتشريع والأخلاق واللغة، ومشخصاتها التي تعد
مزيد رسوخ في مقوماتها وتميزها كالتقاليد القومية والأزياء الوطنية والعادات النافعة
وهم في هدمهم لبنيان أمتهم يحسبون أنهم يبنون لها بنيانًا جديدًا خيرًا مما بناه لها
التاريخ ، فكانت به أمة ممتازة في الوجود لها تاريخ عظيم فيه من دين بلغ الذروة
العليا في التهذيب، وشرع عادل رفعها فوق رؤوس الأمم قرونًا كثيرة، وفتوحات
شهد لها فلاسفة التاريخ من الإفرنج بأن تاريخ البشر لم يعرف لها مثلاً في جمعها
بين العدل والرحمة إلخ.
ولو كان لهؤلاء رسوخ قدم في العلم والحكمة وحظ عظيم من فنون العصر
لأحدثوا لأمتهم قوة وثروة يجددان مجدها، مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها التي
أشرنا إليها، بدلاً من محاولة قتلها وإعادة خلقها.
صدق على هؤلاء الهادمين وعلى المدارس التي تخرجوا فيها قول اللورد
سالسبوري الوزير البريطاني المشهور: إن هذه المدارس التبشيرية أول خطوة
لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها - فإنها تخَرَّج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في
عقائدها وأفكارها وتقاليدها فتحدث فيها صدعًا وشقاقًا تنقسم به على نفسها - على
تعبيرهم - فيقتلها هذا الانقسام بأيديها (أو ما هذا معناه) ، ولم يذكر اللورد
بالصراحة أن ما تحدثه هذه المدارس من إفساد العقائد يتبعه فساد الأخلاق وغلبة
الأفكار المادية ، وحب الشرف والزينة والشهوات على المتخرجين فيها ، فيحول
ذلك دون اتفاقهم حتى فيما يفتتنون به من أمور التفرنج.
وإننا نرى من مصداق كلامنا وكلام اللورد من قبل أن متفرنجة الترك قد
هدموا تلك السلطنة (الإمبراطورية) الراسخة الأساس، الواسعة المقياس، وانتهى
أمرهم إلى إمارة صغيرة طردوا منها الشعوب المسيحية، وهم الآن يقاتلون فيها
الشعب الكردي الذي يلي الشعب التركي في العدد والبأس والقوة، ونرى الشقاق
بالغًا غايته بين هؤلاء المتفرنجين المرتدين وبين أهل الدين والمحافظة على التقاليد
الإسلامية من الشعب التركي نفسه ، فحكومته تسفك ما بقي من دماء شبانها وتفني
بقايا ثروتها القليلة في مقاومة الفتن الداخلية والحروب الوطنية، ونرى من مصداق
ذلك أيضًا هذا الشقاق بين أحزاب الشعب المصري الذي بلغ غايته في هذا العام،
ولا يعلم غير الله ما سيكون من سوء مغبته إن دام.
من المعلوم عند كل من يعرف الإسلام أنه دين وتشريع سياسي قضائي ونظام
اجتماعي، وأنه حكم عربي كما نطق به كتابه المنزل، فإن كان من مثار العجب
أن يحاربه ملاحدة الترك إيثارًا للعصبية اللغوية على عصبيته ، بعد أن كان لهم به
من العزة والسلطان ما كان، ولم يكن لهم بلغتهم أدنى قيمة في الوجود ، فأعجب من
ذلك أن يقوم من متفرنجة العرب أنفسهم من يحارب الإسلام، بعد أن كان لأمتهم به
من المجد والملك والسلطان والحضارة والعلوم والآداب ما كان ، وكانوا به أئمة
لمئات الملايين من غير أبناء جلدتهم ، يقتبسون دينهم من القرآن العربي والسنة
العربية ، ويتدارسون اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها، ويحجون إلى
بُهرَة البلاد العربية يتقربون بذلك إلى الله تعالى ، وكل من لم يفسد التفرنج عليهم
أمر دينهم ، يفضلون الشعب العربي على شعوبهم ، حتى إن مسلمي الهند الصادقين
في الإسلام يفضلون استقلال العرب على استقلالهم وسعادة بلاد العرب وسلامتها
من عدوان الاستعمار على سلامة وطنهم.
مع هذا كله نجد بعض ملاحدة المتفرنجين من العرب يحاربون الدين
الإسلامي نفسه ، ويطعنون به ويصدون عنه، ويرون من تقليد الترك وغيرهم في
العصبية الجنسية أن يعادوا جميع الشعوب الإسلامية حتى الشعب الهندي الذي يدافع
عنهم، وتبذل جمعياتهم السياسية من الجهاد بالمال والنفس في سبيله ما لم نبذل
عشره جمعية عربية، ويعدون إمامهم في عصبيتهم هذه الشريف حسين بن علي
المكي وأولاده الذين كانوا بحركتهم العربية أكبر مصيبة على العرب وخدمة
للأجانب ، كما فصلناه في المنار وفي غيره من الجرائد بالبراهين التي لم يستطع
أحد من أنصارهم رد شيء منها.
ومن سوء الحظ أن الجرائد العامة تنشر لهؤلاء الملاحدة آراءهم حتى
للجاهلين منهم الذين لا يرجعون فيما يكتبون إلى شبهات علمية ولا سياسية تستحق
الذكر، أو تستأهل الرد، ومن ذلك ما رأيناه مرارًا في جريدة البيان العربية الغراء
التي تصدر في نيويورك عدة مقالات في ذلك كان آخر ما نُشر منها رد وطعن علينا
في خطتنا السياسية الإسلامية ، وفي فهمنا للدين وتفسيرنا للقرآن، والكاتب لم يقرأ
من تفسيرنا شيئًا، ولم يطلع على المنار أيضًا، ولو اطلع عليهما لا يفهم منهما
شيئًا مما نقصده فهمًا صحيحًا؛ لضعفه في اللغة العربية وجهله التام بنحوها وبيانها
كما تدل عليه عبارته المملوءة بالغلط ، وذكره لبعض آيات القرآن محرفة.. ثم
هو مع ذلك يسند إلينا من الأقوال الدينية والسياسية ما لم نقله بل ما قلنا ما يخالفه،
وينفي عنا من الأقوال والأفعال ما هو ثابت لنا ومعروف عنا ومنشور في مجلتنا،
وكذلك شأنه فيما ينقله عن غيرنا وما يسنده إلى التاريخ.
لهذا لم يخطر في بالنا أن نرد على شيء مما كتبه، وإن وقتنا لأضيق وأثمن
من أن يصرف في مثل ذلك، ولدينا من الأعمال ما هو خير منه وأنفع - ولكن
بعض كبار الكتاب السياسيين حملته الغيرة على الحق والخوف على أغرار قراء
تلك الجريدة الواسعة الانتشار ، فيقرؤها العوام والخواص أن يغتروا ببعض ما يكتبه
هذا الرجل - على كتابة رد طويل على نوع من مزاعمه الباطلة الضارة، كما أن
بعض الكتاب المدققين المطلعين على بعض أجزاء المنار والعارفين بسيرتنا في
السياسة العربية والإسلامية كتب ردًّا آخر دافع به عنا، ونشر كل منهما في جريدة
البيان نفسها، فنشكر لكل منهما غيرته، وننشر الرد الأول العام، لأنه مفيد
للخواص وللعوام، وهذا نصه:
***
العالم الغربي والعرب والإسلام
لا حيلة لك مع المكابر بالمحسوسات
قد كان الناس يتمثلون بقول القائل:
لي حيلة فيمن ينم
…
وليس في الكذب حيلة
من كان يخلق ما يقو
…
ل فحيلتي فيه قليلة
ولكن نسوا أن هناك من تقل معه الحيلة مثل الكذاب وأكثر وهو المجادل
المكابر في المحسوس ، الذي لا يجبن عن أن يقول للشمس الطالعة في رأد الضحى:
إنها ظلام، والذي يخلق أيضًا التواريخ لتأييد حجته وينكر الوقائع الثابتة المشهودة
لتأييد حجته، ويتخيل ويخيل الأمور على ما يريده هو لا على ما هي عليه في
الواقع، يهجم على المسائل التي يكاد يعرف منها شيئًا كأنه قتلها علمًا، ولا يتوب
بعد أن يكون ظهر خطؤه في قضية أن يتوخى المكابرة في قضية أخرى ومن الأول
إلى الآخر قصارى كلامه (عنزة ولو طارت) .
فمن العبث أن تقول له: إن الناس لا تقدر أن تعيش بلا دين ، وإنه لم يعهد
إلى اليوم أن شعبًا عاش بدون دين ، وإن أوربا باقية على نصرانيتها، وإن التعليم
المسيحي لا يزال يعلم في أرقى المدارس والكليات في أرقى الممالك من شمالي أوربا
مثل إنكلترة والدانمارك وهولندة والسويد وألمانية، وإنهم يعلمون كون المسيح
هو ابن الله إلى هذه الساعة، وإنهم لا يريدون أن يعرفوا أنفسهم إلا مسيحيين.
ومن العبث أن تقول له: إنه حيث كان الدين لازمًا للشعوب فهو في نفسه قوة
عظيمة لا تقدر حكومات هذه الشعوب أن تتعرض لها بمهانة أو بجهالة حتى لا
يصيبها من أجل ذلك ضرر، وتحصل هزاهز وفتن، وإنه ليس من باب خلط
الدين بالسياسة أن يلجأ رجال السياسة إلى الدين، إما في تهذيب الأخلاق أو في
السعي لتوهين روح الإجرام والدعارة، أو في النضال عن استقلال الأمة، أو في
تقوية الروابط مع أمم أخرى ، والاستفادة من تلك الروابط المؤثرة والعوامل الراهنة
التي ليس إنكارها إلا محض حماقة.
ومن العبث أن تقول له: إن أوربة الراقية لم تهمل أيضًا هذه الروابط ولا
استخفت بها ولا وجدتها بدعة في السياسة، وإن ملك إنكلترة الراقية العظيمة بل
العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية، وإن
إمبراطور ألمانية هو رئيس الكنيسة اللوثيرية، وإن إمبراطور النمسة كان على
رأس مملكة راقية جدًّا ، وكان يُخاطَب بـ (ذي الجلالة الرسولية) إشعارًا بصفته
الدينية، وإن المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلترة وهامة حزب الأحرار كان
قسيسًا ، ومن أشد الخلق تدينًا لا بل تعصبًا، وإن دولة فرنسة التي يقال: إنها لا
دينية تنعت نفسها (بحامية النصارى) في المشرق ، وإن غمبتا ركن الجمهورية
والسياسة اللادينية كان قد قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً: (عداوة رجال الدين
ليست من بضائع التصدير) وإنه إن لم يكن الدين رابطة فأية رابطة بين فرنسة
والموارنة وهم ليسوا بلاتين ولا بأوربيين ، بل هم آراميون ساميون أبناء عم
العرب وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم ، عبثًا
تقول له ذلك؛ لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح ، وأوربا تركت الدين.
وكذلك من العبث أن تقول له:إن الأوربيين الذين تقول: إنهم نبذوا الدعوة
الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية ، ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ
ما يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند؟ أفلم
تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس ورومية؟ أفما قرأت ماذا كانوا
يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنكليز أثناء الحرب العامة من كون ذلك هو
الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية
التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة
الحرب الصليبية على يده؟ أفما عرفت أن الجنرال غورو نفسه كان لأول وصوله
إلى بيروت وعند الاحتفال بقراءة أمر تعيينه ألقى خطبة أشار فيها إلى الحرب
الصليبية ، وقال: إن بداية علاقات فرنسة بسورية هي من أيام الحرب الصليبية؟
أفما عرفت أن الذي عين غورو على سورية هو نفس كليمنصو الذي هو عدو للدين
المسيحي ولكنه ليس بعدو للسياسة التي قد ينفعها الدين المسيحي؟ أفما علمت أن
سبب صرف (ويغان) وهو كاثوليكي أيضًا وإرسال سرايل [1] مكانه هو لكون
الوزارة الحاضرة علمت أن عدم نجاح فرنسة في سورية ناشئ عن أسباب عديدة
من أهمها: اعتقاد المسلمين أن فرنسة لا تزال تابعة هناك سياسة دينية لهم عليها
دلائل كثيرة من مثل بناء الكنائس بأمر السلطة المحتلة في بلدة درعا ، والاحتفال
بتنصير من يتنصر من السنغاليين ، وتقديم اسم النصارى على اسم المسلمين من في
الدفاتر الرسمية ، وكذلك تقديم بطريرك الموارنة على مفتي الإسلام في المحافل ،
وتهديد المفتي بما يسوءه إن أبى الخضوع لهذه القاعدة ، فأراد المسيو هريو أن
يسهل مأمورية فرنسة في سورية ، بإقصاء المندوبين الذين ينفرون المسلمين
بسياستهم الكاثوليكية ، وإرسال مندوب سام معروف بكره الأكليروس تزلفًا إلى
الإسلام، ومع هذا لم يخْلُ هذا الانتخاب من إثارة الاعتراضات من جهة الأحزاب
الوطنية بفرنسة ، حتى إن المسيو ميلران رئيس الجمهورية السابق اعترض عليه
في خطابه.
ومن العبث أن تقول للمكابر في المشهودات: إن الشيء الذي أنت تبرئ
أوربة منه وتتحمل له صنوف التأويلات إذا وقع لا تتنصل أوربة منه ولا تجده
إرَّا، وإن بعض وزراء الإنكليز صرح أثناء حرب البلقان بكونه مغتبطًا
برجوع مدينة سلانيك إلى النصرانية؛ لكونها من مهاد النصرانية ، وإن الدول
البلقانيات الأربع عندما أعلنَّ الحرب على تركيا كان بلاغهن متضمنًا أن حربهن
لتركيا هو حرب الصليب للهلال، ولو علمت تلك الدول أن بلاغًا مفرغًا في هذا
القالب يسوء وقعه في أوربة ما كانت حررته بهذه الصورة ، بل لك أن تقول: إنها
ما حررته بهذا الشكل إلا استمالة للرأي العام الأوربي ، ولا تنس خطاب ألفونسو
الثالث عشر ملك أسبانية الذي كان من جملة نقاط القدح الذي قدحه فيه
الكاتب الروائي الأسبانيولي بياسكو إيبا نيز هو قول الملك: (إن أسبانية اشتهرت
من القديم بقتال المسلمين ، وهذه النوبة هي مصممة على أن لا تترك قتال
مسلمي الريف حتى تنصب الصليب هناك محل الهلال) وغير ذلك من الألفاظ
التي يقول الكاتب الأسبانيولي: إنها زادت هيجان المسلمين ، وكانت السبب في
إتلاف الألوف من مهج الأسبانيول ، وإن الملك مسئول عن ذلك بحماقته - أي
بإعلانه ما كان يجب أن يُعمل ولا يُعلن - ومع كون إيبانيز أصاب في انتقاده ، فهو
اليوم تحت المحاكمة في فرنسة من أجل طعنه بالملك ألفونسو هذا.
ومن العبث أيضًا أن يستشهد الإنسان على عواطف أوربة الدينية ، بل على
سياستها الدينية بما تبذله الحكومات من الأموال الجزيلة في المستعمرات مساعدة
للبعثات الدينية الساعية في تنصير أهالي آسية وأفريقية ، ولو كان المراد
تنصيرهم هم الفتيثيين أو الوثنيين لكان هذا نعم العمل ، لكن البعثات الدينية غير
مكتفية بتنصير الوثنيين بل تدأب أيضًا في تنصير المسلمين بجميع الوسائل ،
وتسابق المسلمين إلى استمالة الوثنيين منادية بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو
أسلم الوثنيون.
وإنك لتجد في أواسط أفريقية وغربيها وجنوبيها وماداغسكر وشرقي أفريقية
بعثات دينية بروتستانية وكاثوليكية ، لا تعد ولا تحصى كلها تنفق القناطير المقنطرة
من الذهب ، تحميها حكومات أوربة وأميركا بأجمعها ، وتؤيدها بالأموال والنفوذ
وبكل وسيلة ، وقد تتعرض للدعاية الإسلامية بقدر الإمكان وتضيق عليها ، كما فعل
ضباط الإنكليز في الأوغاندة عندما رأوا انتشار الإسلام بين أهالي تلك البلاد ،
فوقفوا سدًّا حائلاً في وجهه ، بل قاوموا البعثات الكاثوليكية ، ليخلو الجو للدعاية
البروتستانية، وكذلك الحكومة الفرنسية في ماداغسكر تقاوم دخول من يدخل من
الماداغسكريين في الإسلام ، ولا تريد أن تعترف رسميًّا بوجود مسلمين في تلك
الجزيرة حتى لا يتحول جانب كبير من أهلها إلى الإسلام ، فأنت ترى من هذا
وغيره وألف مثال يضيق المكان عن استيفائها أن السياسة الأوربية ليست بمعزل
عن الدين ألبتة ولو كابر المكابر وناكر المناكر.
وقد يقول: إن هذه الحماية التي تبسطها حكومات أوربة للرسالات الدينية
المنتشرة في كل أفريقية وآسية وجزر الأوقيانوس إنما تقصد بها مآرب استعمارية
لا دينية محضة ، وهذا لا يضر شيئًا في جوهر الموضوع ، بل يزيد موضوعنا
تأييدًا وهو أن رجال السياسة ولو كانوا في أنفسهم غير متمسكين بالدين ، يقدرون
قدر نفوذه على الخلق ، ويجتهدون أن يستثمروه لفائدة حكوماتهم.
ومن الفضول أن نذكر للمكابر ما بذلته حكومة هولندة من المساعي في تغيير
عقائد مسلمي الجاوى وسومطرة بواسطة الرسالات التبشيرية ، وكونها وقفت
لتنصير بضعة عشر ألف مسلم ، ولكن لمّا رأى الهولنديون أن هذا العدد قليل
بالقياس إلى الخمسة والثلاثين أو الأربعين مليون مسلم القاطنين بتلك الجزائر خطر
ببال بعض نواب مجلس الأمة في هولندة أن يقترحوا على الحكومة عدم الاعتراف
بإسلام أكثر من خمسة ملايين منهم ، وهؤلاء الذين أسلموا منذ أربعة قرون، وأما
الذين أسلموا منذ القرن الماضي أو الحالي فلا يعتبرون مسلمين ، ولم يمنع الحكومة
الهولندية أن تأخذ بهذا الرأي سوى قيام بعض العقلاء المحنكين ممن خبروا أحوال
تلك البلاد ، وتحذيرهم من العمل بهذا الرأي الذي إن كان له أقل حظ من الإجراء
ثارت هناك ثورة لا نهاية لها ، وقالوا لأولئك المقترحين: إن الخمسة والثلاثين
مليون مسلم هناك القديم منهم في الإسلام ، والحديث هم في درجة واحدة من
الاعتصام بدينهم ، فلا نجني من هذا الرأي إلا الثورة ، فيا ليت شعري إذا كانت
هولندة لا فرق عندها بين المسيحي والمسلم ، ولا تنظر إلى الدين فلماذا يهمها إلى
هذه الدرجة أن يخرج رعاياها المسلمون من الإسلام فيما لو أمكن؟ ولماذا تخصص
فرنسة في جزائر الغرب جوائز لا تُعطى إلا للأوربي أو اليهودي أو المسلم الذي
يرضى أن يتنصَّر؟
وليقل لي المكابر أي علاقة من جهة القومية أو الوطنية بين الإنكليز وبين
النساطرة في العراق حتى نظمت منهم جيشًا ، واتخذتهم لها بطانة منذ أول احتلالها؟
بل أية علاقة بين الإنكليز والأرمن إن لم تكن العلاقة الدينية؟ فإن قيل: إن
سبب انعطاف الإنكليز وسائر الأوربيين نحو الأرمن هو كونهم أصيبوا ونكبوا وتلك
المذابح التي جرت ، أجبناك أفلا توجد أمم وأقوام إسلامية أصيبت ونكبت وذبحها
المتغلبون عليها بعشرات الألوف ، فهل هز ذلك من أوربا أقل عاطفة؟ أفلم يُنكَب
الجركس وأهل الطاغستان سنة 1866 وأجلى منهم الروس بقية السيوف وهم
نصف مليون نسمة إلى الأناضول ، فمات أكثرهم بالحمى والجوع، فمَن مِن أمم
أوربة اهتز لمصيبتهم؟ أفلم يذبح الأرمن هؤلاء عشرات ألوف من مسلمي شرقي
الأناضول؟ وروى القائد العام الروسي الذي كان يحارب الأتراك في جهة أرضروم
أنه لولاه لم يدع الأرمن مسلمًا واحدًا بعد انهزام الأتراك عن أرضروم وطرابزون
ووان ، وورد في تقاريره وتقارير غيره من قواد الروس إلى حكومتهم - وهي
تقارير قد طبعت بعد الحرب - تفاصيل فظائع أوقعها الأرمن بالمسلمين ، لا يكاد
الإنسان يصدقها لولا ورودها في تقريرات رسمية من قواد الجيش الروسي أعداء
الترك إلى مراجعهم ، يخبرونهم بوقائع الحال ، ومن جملتها أن الأرمن كانوا
يجمعون المئات والألوف من الأتراك والأكراد إلى الجوامع رجالاً ونساء وأطفالاً ،
ويشبون فيها النار فتحترق بكل من فيها ، وأنهم كانوا يحفرون أخاديد وحفرًا يدفنون
فيها المسلمين أحياء بين رجال ونساء وأطفال (وفي مرة أخرى نذكر هذه الوقائع
تفصيلاً نقلاً عن تقريرات القواد الروس؛ لأنها ليست تحت يدي في هذه الساعة)
وفي أحد المواضع التي ذهب عن بالي اسمها الآن دفنوا ثمانمائة نسمة أحياء منهم
كثير من النساء والأطفال.
هذه شهادات الروس عدا شهادات غيرهم ممن شهد بعينه من الإفرنج ، وروى
الحق فلندع جانبًا شهادات الأتراك ، وهذا لا يمنع قولنا: إن الأرمن أيضًا ذاقوا من
النكبات ما هو عبرة في التاريخ ، وخلت منهم جميعًا الأناضول، ولسنا نحاول
تخفيف أخبار مصائبهم ، ولكننا نقول: إن أوربة تهتز كلها لمصيبتهم ولا تتحرك
لها عاطفة تذكر لمصيبة المسلمين فلماذا؟ أتراه لكون الأرمن أوربيين؟ كلا ، إن
هو إلا لكونهم مسيحيين ، وربما قيل: إن أوروبة ربما لم تكن تعلم بما وقع من
المصائب على المسلمين ولو علمت ذلك في حينه لم تتأخر عن إغاثتهم، وجواب
هذا بل أوربة كانت محيطة علمًا بكل شيء ، وأتذكر أنني قرأت تلغرافًا في جريدة
الطان بتاريخ أحد أيام تموز سنة 1920 واردًا إليها من مراسلها في القوقاس يذكر
المذابح التي قد أوقعها الأرمن بالمسلمين في بلاد أريفان ، وأنهم في يوم واحد ذبحوا
منهم عشرة آلاف، وأن مئات ألوف منهم جلوا إلى إيران وآذربيجان وكرجستان
إلخ ، ومثل ذلك المذابح التي أوقعها الأروام بالترك في ولاية أزمير وبنفس أزمير
ولا سيما بايدين، وقد كانت بمرأى من كثير من الأوربيين، وأقام بعضهم أشد
النكير عليها، وبعد ذلك طلبت حكومة الآستانة من أوربة التحقيق بواسطة لجنة
دولية ، فذهبت وفحصت وثبت وقوع المذابح ، وعادت فألقت بتقريرها إلى مؤتمر
باريس وجرى توبيخ الحكومة اليونانية على ما جرى ، وهذا كل ما وقع ، إنما
جمعية الصليب الأحمر في سويسرة التي لا ينكر أحد ما لها من المساعدات في هذه
المواقف عندما أرسلت وفدًا لإغاثة منكوبي الأروام ، لم يسعها إلا أن تشرك معهم
منكوبي الأتراك.
وبالاختصار لا يوجد عاقل يقدر أن يقول: إن المسلمين هم والمسيحيين شرع
في نظر أوربة ، والشاهد (الأخير) أنه لو كان أهل الريف مسيحيين لكان الريف
قد امتلأ اليوم ببعثات الصليب الأحمر من أوربة وأميركا وبالأطباء والصيادلة
والمتطوعين والممرضين ، أهل الريف مسلمون ، فلذلك لا يساعدهم من أوربة أحد
حتى في الأمور العائدة للإنسانية ، ومهما قتل الأسبانيول منهم فأوربة تجد ذلك أمرًا
طبيعيًّا ، وإذا ماتوا من الجوع تأسَّف بعض الأوربيين عليهم من بعيد [2] .
إذًا فمن النفخ في غير ضرم أن نقنع المكابر بأنه ما دامت حالة أوربة
الروحية هي هذه فالعالم الإسلامي لا يمكنه ترك عواطفه الدينية ، ولا نبذ تلك
الرابطة ظهريًّا [3] .
وكذب وبهتان واختلاق على الناس دعوى بعضهم أن الرابطة الإسلامية تدعو
العربي أن يكون عبدًا للتركي؛ لأن الإسلام سوَّى بين المسلمين ومَنْ مِنَ المسلمين
ظلم أخاه حق لهذا أن يدفع عنه ظلمه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن
سَبِيلٍ} (الشورى: 41) ، وكل من يثير هذه الدعوى التي لم يقُل بها أحد ملقيًا
على دعايته الإفرنجية ستار الحمية العربية ، فإنما هو داعية إلى السيطرة الأوربية
على المسلمين يحاول أن يهونها عليهم ويسيغها في حلوقهم، فتجده بكرة وأصيلاً
يكرر ألفاظ: تركيا وترك وأتراك ومستتركين ، وهو ينسى أن هذه الجعجعة لا
تخفي شيئًا من الحقائق ، وأنه لم يقل أحد: بجواز استعباد الأتراك للعرب ولا لغير
العرب حتى ولا للروم ولا للأرمن ، ولكن كنا نحب أن نرى حمية هؤلاء الأدعياء
في العربية الذين يلقون دروس العروبة على مثل الإمام يحيى وابن سعود
ويتهمونهما بالشعوبية ، كنا نحب أن نراها تظهر في مقاومة الإنكليز وغيرهم من
الأمم المستعمِرة الأوربية ، والحال أن ضمائرهم التي تنطوي على السرور بخضوع
المسلمين (لأمة راقية مثل أميركا) قد ينم عليها مثل هذه الجملة وغيرها مهما
حاولوا الإنكار ، فإذا كان يجوز خضوع المسلمين لأمة راقية كأميركا فلماذا لا
يجوز خضوعهم لأمة راقية كإنكلترة أو لأمة راقية كفرنسة مثلاً؟ فقد ظهر من هنا
المرمى والمغزى من هذه الدعاية ولو تظاهر المتظاهر بالعكس.
وأما الإسلام فلا يأمر بإطاعة الظالم سواء كان ذلك تركيًّا أو عربيًّا ، ولكنه لا
يجيز إطاعة غير أهله ، وهو في هذا مطابق للروح الأوربية التي معناها استقلال
كل أمة بنفسها وعدم قبول سلطة أجنبية عليها، ولو كانت تلك السلطة صادرة من
أمة أرقى من تلك الأمة ، فإن درجات الرقي لا تصح في أوربة فَيصلاً لمسألة
الاستقلال ، وكل أمة تعتقد أن حكم أمة أخرى عليها ولو كانت أرقى منها يفضي
إلى بوارها ، فلذلك كان مبدأ الاستقلال مقدَّمًا في أوربة على مبدأ سلطة الأصلح ،
فمما لا شك فيه أن إدارة ألمانية هي أصلح من إدارة بولونية ، وأن ألمانية أقدر على
إفادة سليزية من بولونية ، ولكن تفوق الألمان على البولونيين في الإدارة والعلم لا
يسلب البولونيين حق الاستيلاء على ما أهله بولونيون من سليزية، كذلك الإنكليز
أقدر من الأيرلنديين على إدارة أيرلندة ، ولكن أوربة ترى حقًّا أن يتولى الأيرلنديون
إدارة أنفسهم؛ لأنهم شعب مستقل بنفسه وهلم جرًّا.
والظاهر أن بعض الذين يدعون التمحض في العربية ولا نرى منهم هذا
التمخض إلا فيما يتعلق بعداوة الأتراك ضائقة صدورهم بنفرة العرب من الإنكليز
وعدم انقيادهم لهذه (الأمة الراقية) ، وأكثر سخطهم هو على أهل اليمن؛ لأنهم
سمعوا أن اليمن بقي أثناء الحرب متمسكًا بالدولة العثمانية ، لا بل حارب الإنكليز
ومحاربة اليمانيين للإنكليز زلة لا تغتفر ، ورفض الإمام يحيى عقد أي معاهدة مع
الإنكليز شيء مؤسف عندهم ، ودليل على قوة النعرة الدينية في اليمن وعلى كونهم
يميلون إلى الأتراك بسبب الجامعة الإسلامية، فهذا مما ينبغي أن لا يكون ، وأرقى
رجال العرب عند هذه الفئة هو الحسين لكونه عاهد الإنكليز وحالفهم ، ولو كانت
نتيجة هذه المحالفة ما كانت.. وكأن الحسين الآن يَهتِم أنامله عضًّا من الندم، ويليه
ابن سعود في الرقي لكونه عاهد الإنكليز ولم يحاربهم، فهذه شهادة لا بأس بها بحقه،
ولكنه لا يبلغ درجة الحسين الذي رضي أن يحالفهم ويحارب في صفوفهم ، وأما
الإمام يحيى فهو أشد أمراء العرب تأخرًا، أفلم تعلم أنه حارب الإنكليز ، وأنه
يعتصم بالجامعة الإسلامية؟
نعم إن أهل اليمن والإمام يحيى مسلمون ويريدون أن يبقوا مسلمين كأهل نجد
وأهل الحجاز وغيرهم ، وكما يريد أن يبقى أهل أوربة مسيحيين وأهل أيرلندة
كاثوليكا وأهل الأولستر من أيرلندة بروتستانتا، وليس أهل اليمن ببدع في هذا
الأمر ، بل حسبهم أن يقتدوا بالعالم المتمدن في المحافظة على دينهم ، وأما نفور
أهل اليمن من الإنكليز فلكون الإمام يحيى وكبار اليمن يعلمون أنه لا يوجد في نظر
الإنكليز أمة ينبغي لها سلب الاستقلال بل الاضمحلال مثل العرب ، فإنه ما دامت
الهند موجودة في الدنيا فأعدى أعداء الإنكليز هم العرب ، وأكره شيء إلى إنكلترة
هو قيام دولة عربية مستقلة تحول بين إنكلترة وبين هندها ، فالإمام يحيى لم يَخْفَ
عليه الذي خفي على غيره وعلم موطن الداء وتجنبه ، وحافظ على ولاء الأتراك لا
حبًّا بالأتراك بل بوطنه وأمته، لأنه يعلم أن الإنكليز هم أعداء العرب ، ولا يجهل
أطماعهم في اليمن ، ويرى من الحكمة أن يمد يده إلى الأتراك ليكونوا وإياه على
الإنكليز وعدو العدو صديق كما لا يخفى.
وأما تعليم هؤلاء لمثل الإمام يحيى العربية والعروبية فهو والله من أبدع
النكبات التي سمعناها ، إذ إن لم يكن الإمام يحيى عربيًّا وملجأ للعرب فمن هو
العربي يا ترى؟ يعيبون الإمام يحيى بموالاة الأتراك ومَنْ مِنَ العرب قاوم الأتراك
مقاومة الإمام يحيى؟ ومن ذا الذي جرد عليه الأتراك المرة والمرتين والثلاث المائة
تابورًا والمائة والخمسين تابورًا وعجزوا عن تدويخه؟ أفمثل هؤلاء يعير الإمام
تحيى بنقص الحمية العربية؟ وهل الملك حسين كان قادرًا على الوقوف في وجه
الأتراك لولا وجوده في صف الإنكليز؟ فلو كان الإمام يحيى انحاز إلى الإنكليز
أثناء الحرب لكان (راقيًا) ولو خدعه الإنكليز كما خدعوا الحسين لكان معذورًا كما
معذور الحسين.. إذ كان يكفيه من الشرف أنه يكون عاهد الإنكليز أعداء المسلمين
عمومًا والعرب خصوصًا ، وحارب في صفوفهم ، وأثبت عدم مبالاته بالرابطة
الإسلامية ، وبرهن على رقي أفكاره.. . وبعد ذلك فليكن ما كان أوَلَيْسَ أنه يكون
قد حارب الأتراك وحالف الإنكليز؟
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
ويغان هو القائد الفرنسي الذي خلف غورو في سورية ، وسرايل هو القائد الذي خلف ويغان.
(2)
المنار: بل سعينا نحن في مصر باسم جمعية الرابطة الشرقية ، وسعى غيرنا فيها وفي الهند؛ لإرسال بعثة طبية لمداواة جرحى الريفيين ، فتعذر ذلك وتوسلنا هنا إلى الوزير الفرنسي المفوض ، فتوسط لنا لدى دولته بكل همة وسرعة وكانت النتيجة أن فرنسة لا تسمح لنا بإرسالها من حدود المغرب الذي يئط تحت حمايتها.
(3)
بل لا نترك ولا ننبذ وإن تغيرت حالتها ، ولكن نسالمها إذا سالمتنا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
إيقاظ الغرب للإسلام
نقتبس ما يأتي من هذا الكتاب الذي ألفه (اللورد هدلي) الذي أسلم ولقب
(بسيف الرحمن رحمة الله فاروق) لِما فيه من الفوائد والعِبَر للمتفرنجين وغيرهم ،
قال في أوله ما ترجمته بقلم مترجم الكتاب مع تصحيح بعض الألفاظ:
***
تمهيد
قال المستر آرثر بلفور هذه الحكمة منذ عدة سنوات (هناك ناصح واحد فقط
أردأ من الخوف وذلك الناصح هو اليأس) .
تملكتْ فؤادي تلك الحكمة في ذلك الوقت ، وإني للإشارة إلى الموضوع
المحتوية عليه الصحائف المقبلة والتعنيف المحقق الذي سألقاه لشرحي اعتقاداتي
بصراحة وجلاء تام عن الدين الإسلامي أقول: (إن هناك رفيقًا واحدًا أردأ من
الزندقة وذلك الرفيق هو الخوف) .
كم من الناس جعلهم (خوف) العواقب يتمسكون بالاعتراف الصريح بدين
واعتقادات لا يسلمون بها ولا يصدقونها في الواقع.
يريد كل منا أن يختار لنفسه الأحسن - أحسن الأطعمة ، أحسن المساكن ،
أحسن المراكز ، أحسن الإخوان - ولكن كم منا من فكر في أن يختار أحسن
الديانات؟
إن معظمنا راضٍ بالدين الذي وجد عليه آباءه، وإننا من حيث حب الذات
والأنانية مُحقُّون في ذلك طبعًا؛ لأنه يوفر علينا كثيرًا من التعب ، فنسير متبعين
الطريق التي كان يسير فيها أسلافنا رافضين أن نبحث أو أن نلقي ولو نظرة واحدة
على أي دين آخر - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) - قرآن كريم.
إنه من المستحيل على أي إنسان أن يصل إلى أسمى غرض في الحياة -
الحياة بمعناها الحقيقي - إذا قيد نفسه بسيور العبادات التقليدية ، وبنى كل خلاصه
على المعمودية ومختلف الأعمال الكهنوتية ، ونظرًا لأني نشأت بروتستانيًّا وعشت
سنين عديدة في مملكة رومان كاثوليك ، فقد سمحت لي الفرص بسعة فائقة أن
أدرس صنفين من أصناف المسيحية متَّبعيْن بفصيلتين من أهم الفصائل في الكنيسة
المسيحية، وقد عشت أيضًا في الشرق ، وإنه لشد ما يسرني أن أعترف بأن ليس
هناك بغض بين المسلمين ، بل هناك المحبة بأوسع معانيها ، وهي منتشرة بينهم
أكثر مما هي منتشرة بين المسيحيين في الجزر البريطانية ، فالمسلمون مثلاً
متسامحون جدًّا ومطبوعون على إيتاء الخير إزاء جميع المسيحيين بخلاف ما عليه
فروع الكنيسة بعضها بإزاء بعض.
إني لا أتجاسر على أن أقول: إنه إذا عينت لجنة من الإنكليز الأكْفاء حقيقة
ممن هم على شاكلة المأسوف عليه اللورد سالسبري والمأسوف عليه اللورد
بيكونسفيلد والمستر بلفور واللورد هالدين والسير روفس إسحاق إلخ لفحص الدين
الذي يجب أن يتدين به العالم كله لأجمعوا أمرهم على أن يختاروا الدين الإسلامي
الذي يشهد له العقل ، والذي يجيب رغبة الفؤاد والروح الشديدة من الاتصال
بالخالق سبحانه وتعالى.
إنني لا أعتذر من أجل وضعي للفصول القليلة التي ستظهر بين غلاف هذا
الكتاب ، وليس لدي أقل خوف من الاتهام بالإلحاد والجحود اللذين سأُرمَى بهما
لابتعادي عن المسيحية واهتدائي بهدي الإسلام.
إنني لا أعتقد وما سبق لي أن اعتقدت قط أنه من الضروري لخلاصي أن
أصدق ألوهية المسيح ، أو أن أعتقد الثالوث أو العقائد الأخرى التي تدعي الكنيسة
أنها ضرورية للخلاص ، إني أؤمن برسالات الله السماوية المرسلة لنا على لسان
رسله المصطفين.
***
مقدمة
لكي أقدم الصحائف المقبلة إلى القراء لا أجد خيرًا من إعادة نشري هنا لمقالة
صغيرة من قلمي ظهرت في إحدى جرائد لندرة الأسبوعية في نوفمبر سنة 1913.
(ظهرت في جرائد عديدة قطع تشرح معتقدي الديني ، وإنه ليبهجني أن
أرى كل ما وُجِّه إلي من الانتقاد لغاية الآن لم يكن إلا بلطف مُتناهٍ ، إنه لا ينتظر
أن تخرج خطوة معلومة عن خط سير مألوف دون أن تستوقف النظر) .
(ورد لي في أحد الأيام خطاب من أحد المسيحيين المتدينين يخبرني فيه بأن
الدين الإسلامي إنما هو دين لذة ، وأن النبي كانت له زوجات عديدات وأن ذلك
قاعدة في الإسلام ، فما أغرب هذه الفكرة عن الإسلام! إلا أنها فكرة راسخة في
عقول تسعة وتسعين في المائة من البريطانيين الذين لم يُعنوا ببحث الحقائق
الواضحة لديانة ما ينيف على مائة مليون من رعاياهم ، ولو درسوا تلك الديانة
لتبين لهم أن نبي بلاد العرب صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا في كبح النفس عن
الهوى وردِّها عن الشهوات ، وكان مخلصًا لزوجته الوحيدة السيدة خديجة التي هي
أكبر منه بخمس عشرة سنة ، والتي كانت أول من آمن برسالته السماوية، وبعد
وفاتها تزوج بالسيدة عائشة ، وقد تزوج أيضًا ببعض أيامى متبعيه الذين استشهدوا
في إعلاء كلمة الله وذلك لا بدافع الشهوة بل لكي يعولهن ويمنحهن مساكن ،
وينزلهن منزلة ما كنَّ ليحصلن عليها لولاه.
(نحن معشر البريطانيين نعجب بأننا نحب العدل والإنصاف، ولكن أيُّ
شيء أعظم جورًا وحيفًا من الحكم الذي يصدره كثير منا على الدين الإسلامي دون
أن يجتهد أو يحاول أن يعرف ولو مجملاً بسيطًا من عقائده ، حتى إنهم لا يفقهون
معنى لكلمة (الإسلام) .
(إنه من المحتمل أن يظن بعض من أصدقائي أنني قد غُلبت على أمري أو
سيطر علي المسلمون إلا أن ذلك ليس بحقيقي؛ لأن اعتقاداتي الحالية ما هي إلا
نتيجة بحث سنوات عديدة ، وإن كانت مناقشاتي الحقيقية مع متعلمي المسلمين في
موضوع الديانة لم تبتدئ إلا منذ زمن قريب ، وإنني لمحتاج إلى القول: بأنه قد
غمرني الفرح عندما وجدت أن كل نظرياتي واستنتاجاتي كانت مُطابِقة مُطابَقةً تامة
للإسلام ، إن أخي خواجا كمال الدين لم يحاول بتاتًا أن يتسلط على فؤادي ولو قليلاً ،
فإنه كان دائمًا مثال الأمانة والصدق إذ قد شرح لي في ترجمة القرآن الكريم الذي
استطعت أن أفهم معناه من الترجمة المشوهة المنتشرة بين المسيحيين ، فأنار من
هذه الوجهة المحجة الواضحة التي تسير فيها جمعية التبشير الإسلامي ، فإنها ما
احتالت ولا خدعت أحدًا قط ، فالهداية كما جاء في القرآن الشريف يجب أن تكون
بمحض الرغبة والاختيار ومن تلقاء النفس؛ لذا لم يرتكب خواجا كمال الدين أي
صفة من صفات الاحتيال والخديعة ، وقد أراد عيسى نفس تلك الصفة عندما قال
لحوارييه: (وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ، وانفضوا التراب
الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم) .
(وقد علمت أمثلة كثيرة جدًّا من البروتستانت المتعصبين الذين ظنوا أن من
واجباتهم أن يغشوا بيوت الرومان الكاثوليك ، فيحتالوا على من يقطنها لنقله إلى
دينهم ومثل هذا العمل المثير الذي لا يليق بكرامة جار هو طبعًا عمل كريه جدًّا ،
أدى إلى إثارة العواطف وإيجاد النزاع الذي جر عليهم الازدراء والاحتقار ، وإنني
لأتألم جد الألم عندما يعرض لفكري أن أولئك المبشرين المسيحيين حاولوا ذلك مع
المسلمين أيضًا ، وإن كان لا يوجد هناك باعث يدعوهم إلى هداية هؤلاء الذين هم
(أصح منهم مسيحية) وأفضل منهم أنفسهم في مسيحيتهم ، وقد عجزت تمامًا عن أن
أعرف لم فعلوا ذلك ، إنني لم أقل:(أصح منهم مسيحية) جزافًا بل بعد إعمال
العقل والروية؛ لأن المحبة والألفة والتسامح في الدين الإسلامي أقرب جدًّا لما أتى
به المسيح مما عليه رجال المسيحية إلى الكنائس المتنوعة.
خذ مثلاً العقيدة الإنسيانية التي تختص بالثالوث بحالة مشوشة لا يقبلها العقل
ترى أنه من الواضح جليًّا أن هذه العقيدة المهمة عندهم للغاية والتي تعتبر إحدى
العقائد الرئيسية للكنيسة تمثل المذهب الكاثوليكي ، وإننا إذا لم نعتقدها نهلك هلاكًا
أبديًّا، وهكذا نؤمن بوجوب اعتقاد الثالوث إن أردنا الخلاص أو بطريقة أخرى
نقول: إن الله رحيم وقادر على كل شيء ، وفي الوقت نفسه نتهمه بالظلم والقساوة
اللذين لا نستطيع ولا نرضى أن ننسبهما إلى أفظع سفاكي الدماء من الظلمة البشرية
كأن الله الذي هو أمام الجميع وفوق الجميع يتغلب عليه اعتقاد مخلوق ضعيف فانٍ
في الثالوث.
(هذا مثل آخر يدل على عدم وجود الحسنى لديهم: وصلني خطاب لمناسبة
اتجاهي نحو الإسلام أخبرني فيه كاتبه بأنني إذا لم أعتقد ألوهية المسيح لا يمكنني
الخلاص، إن مسألة ألوهية المسيح ما ظهرت لي قط أنها مهمة، هل أرسل
المسيح رسلاً من البشر برسالات إلهية؟ لو كان عندي الآن أي شك في تلك النقطة
الأخيرة لآلمني ذلك جدًّا ، إلا أنني أشكر الله سبحانه وتعالى لعدم وجود هذا الشك
أرجو أن يكون اعتقادي في المسيح وتعاليمه ثابتًا جدًّا كاعتقاد أي مسلم أو مسيحي
حقيقي آخر ، لأنني سبق لي أن قلت مرارًا أن الديانة الإسلامية والديانة المسيحية
كما علمت بالمسيح نفسه هما أختان ولم يفصلهما عن بعضهما إلا المذاهب ،
والاصطلاحات المسيحية فقط التي يمكن الاستغناء عنها بكل سهولة وارتياح.
يطلب منهم أن يعتقدوا هذه المذاهب والعقائد التي لا تفهم ، وهناك بلا شك
رغبة واشتهاء إلى ديانة تقبلها العقول والميول ، فمن سمع بمسلم ارتد إلى الكفر
والإلحاد؟ ربما كانت هناك حالات من هذه إلا أنني أشك جدًّا فيها.
(إنني أعتقد أن هناك آلافًا من الرجال والنساء أيضًا مسلمين قلبًا ولكن
خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ على التغيير تآمرا على منعهم
من إظهار معتقداتهم ، إنني خطوت هذه الخطوة وإنني أعلم علم اليقين أن كثيرًا من
إخواني وأقاربي ينظرون إليَّ الآن كروح ضالة ويصلون من أجلي ، إلا أني لست -
في الحقيقية - في اعتقاداتي اليوم إلا كما كنت منذ عشرين سنة تمامًا ولكن
صراحتي في القول هي التي أفقدتني حسن ظنهم بي.
الآن وقد شرحت بعضًا من الأسباب التي جعلتني أتبع الدين الإسلامي ،
وقلت: إنني أعتبر نفسي الآن أني أصبحت بإسلامي مسيحيًّا أفضل مسيحية مما
كنت عليه من قبل؛ فآمل أن يتبع الآخرون مثالي ويعتقدون أحقية الإسلام الذي أقر
بكل شهامة وفخر أنه أصح الأديان، إنه ستصل السعادة لأي امرئ ينظر إلى
هذه الخطوة كخطوة متقدمة لا خطوة مضادة للمسيحية الحقة بأي وجه) اهـ.
(المنار)
سبق لنا نشر هذه المقالة في المنار عقب شيوع إسلام اللورد هدلي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ماضي الأزهر
وحاضره ومستقبله
(3)
ذكرنا في المقالة الثانية جملة مطالب الأزهريين التي نظرت فيها لجنة
الحكومة ، وما قبلته وأقرته وصدر أمر الوزارة بتنفيذه ، وكان طلبة الأزهر قد
طبعوا مذكرة تفسيرية لمطالبهم الخاصة ورفعوها إلى البلاط الملكي والوزارة ،
ووزعوا منها نسخًا على من يرجون عطفهم ومساعدتهم من أصحاب الشأن ، فرأينا
نشر تفسيرهم لمطالبهم استقصاء للمهم من تاريخ هذا الطور الجديد للأزهر ،
وتمهيدًا لما سنبينه من رأينا فيه ، وهذا نصها بعد تمهيد وجيز جعلوه مقدمة لها:
(المطلب الأول) : (حسبان الأزهر جامعة كبرى تتكون عناصرها من
الأزهر والمعاهد الدينية الحالية ومدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والمعلمين
الأولية ، بشرط أن تكون هذه المدارس كلها تابعة للأزهر تبعية فعلية حتى يتوصل
بذلك إلى توحيد جهات التعليم الخاص بالشريعة واللغة العربية) .
هذا هو المطلب الأساسي الذي لا يمكن أن ينال الأزهر غايته من الإصلاح
والكرامة بدونه، على أنه في الواقع من أساليب الإصلاح الأولية القاضية بعدم
التجزئة في المعاهد التي يتحد فيها نوع التعليم وجوهره ، وهذه المدارس في الحقيقة
أجزاء للأزهر وأعضاء فُصِلت منه ، ولا يمكننا أن نفهم انعزالها عنه مع ما بينها
وبينه من الصلة الظاهرة في اتحاد الغرض وتَسَاوي برامج التعليم أو تقاربها ، بل
وفي زي الطلبة أيضًا ، ولم يشاهد الناس فيما شهدوا أن تقطع الصلة في المعاهد
التي من هذا النوع، ويفرق بينها هذا التفريق الكبير، إلا في مصر.
إن الحقيقة المُرة نجهر بها الآن وهي أن الغرض الواضح من وجود المدارس
المشار إليها على نظامها المعروف هو أن يترك الأزهر وشأنه مهملاً منسيًّا ، يشقى
طلابه وخريجوه ولا يؤدي وظيفته في المجتمع إلا بالمقدار اليسير الذي نراه في
الوقت الذي نخص فيه هذه المدارس بالعناية والرعاية ، حتى يعد خريجوها لأقصى
درجات النفع والانتفاع.
وهذه هي الفكرة الخطرة على الأزهر ، فقد كان لها أسوأ النتائج في عرقلة
سيره ووقوفه دون الغاية التي أداها للإنسانية في أزمنة متطاولة ، وإذا كان مثار
التفكير في إيجاد هذه المدارس ما كان يشاع من تعسر الإصلاح في الأزهر، فلا
عذر اليوم وقد تطور الزمن وأصبح الأزهر نفسه ينادي بالإصلاح غير آنف من كل
عمل يكسبه صبغة عصرية صالحة ما دامت لا تتنافى مع صفته الدينية ، فالواجب
إذن أن يُقابَل نداؤه بالترحاب ، وأن يُعدل عن عزل هذه المدارس التي اقتضت
الضرورة عزلها كما يقولون ، ويكون من الجميع جامعة شرقية سامية ، تقدم للبلاد
الإسلامية عامة ومصر خاصة ما كان يؤديه الأزهر في زمنه الغابر من ثمرات
ناضجة في العلوم والآداب ، أما بقاء الحال على ما هو عليه اليوم فلا معنى له غير
القضاء على الأزهر وتقويض ما بقي من أثره ، في حين أن هذه المدارس تتسع
وتنمو بما يسدى إليها من ضروب الرعاية والعطف ، وهذا ولا ريب منافٍ للعدالة ،
موجب للتنافر والشقاق بين أبناء الطائفة الواحدة، وهو فوق ذلك تدبير خطر
بالنسبة إلى المصلحة العلمية العامة، فإن الأزهر قوة كبيرة إذا عني بها جنت الأمة
منها أوفر الثمرات وأنضجها ، ولا سيما في الظروف المقبلة التي يتحتم فيها تعميم
التعليم بين أفراد الشعب، ولقد بدت مخاطر العزلة التي يشقى بها الأزهر فعلاً في
أزمة المعلمين التي تعالجها البلاد في العهد الأخير ، فليس من الحزم أن يستفحل
الداء والدواء قريب.
لسنا نريد أن نُلغي هذه المدارس كما يدعي بعض المغرضين [1] ولكن مطلبنا
واضح جلي ، وهو كما قلناه: إدماجها في الأزهر مع إدخال الإصلاح على برامجه
متى كانت الحالة تقضي بذلك ، وهذا مطلب لا غبار عليه ولا يمكن أن ينازع فيه
من يريد الإصلاح ، وبودنا أن يفطن إلى ذلك كل مفكر؛ ليعتقد أن الأزهر يريد
الخير لمحض الخير، ولهذا فليعمل العاملون.
(المطلب الثاني) تعديل قانون التخصص بجعل مدة الدراسة فيه سنتين فقط ،
على أن تكون مدرستا القضاء الشرعي ودار العلوم فرعين من الأزهر، الأولى
للتخصص في القضاء الشرعي، والثانية للتخصص في اللغة العربية، وباقي أقسام
التخصص في الفنون الأخرى بالأزهر (مع إضافة قسم جديد للتخصص في العلوم
الرياضية) على أن يكون الانتساب مقيدًا بالحصول على شهادة العالمية من
الأزهر.
يتناول هذا المطلب أمرين: أولهما يتعلق بقسم التخصص ، وثانيهما بالنظام
الذي يتبع بعد ضم مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي إلى الأزهر ، أما فيما
يرجع إلى التخصص فنطلب أن تخفض المدة الدراسية فيه إلى سنتين فحسب ، إذ
كان الغرض الذي أُنشئ من أجله هذا القسم هو التفوق في ناحية خاصة من العلوم
التي تلقاها الطلبة ، وهذا المبدأ وجيه لا اعتراض عليه ، ولكن المدة المقدرة له من
الطول بحيث لا تتفق مع المصلحة فهي إذا أضيفت إلى مدة الدراسة العامة (اثني
عشر عامًا) كان المجموع ستة عشر يضاف إليها ما يمكن أن يعرض للطالب من
الرسوب وهو أربعة أعوام ، فيكون المجموع عشرين عامًا دراسية ، وهي مدة لا
نظير لها في معهد من معاهد التعليم فالشأن في مدد الدراسة أن يراعى فيها القصر
الممكن؛ حتى توجد للمتعلمين فرصة من العمر صالحة للانتفاع بما حصلوا عليه
من العلم.
على أن مدة السنتين تعد كافية للاستزادة من علوم كررها الطالب مرارًا ونال
الشهادات الدالة على تضلعه منها ، وإذا غضضنا الطرف عن ذلك ، ونظرنا إلى
نظام الدراسة قام الدليل واضحًا على وجوب اختزال المدة ، فإن طلبة التخصص
بالأزهر لا يتلقون غير حصة واحدة في اليوم فلا مانع مطلقًا من مضاعفة الدراسة؛
عوضًا عن طول المدة التي يجب أن تستنفد في الصالح العام ، وأما في تخصص
القضاء الشرعي، فإن العلوم التي تدرس فيه من القلة والسهولة بحيث يستطاع
دراستها بإتقان في عامين ، مع مراعاة أن التخصص في الأقسام كلها إنما هو في
العلم لا في الكتب كما هو في المتبع الآن.
أما الأمر الثاني المتعلق بمهمة مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي بعد
ضمهما إلى الأزهر، فينحصر طلبهما في أن تعاون هاتان المدرستان الأزهر على
خدماته الجليلة، وتكونا قسمين من أقسام التخصص الذي أنشئ له في الأزهر
سبعة أقسام في شتى العلوم ، فتقصر دار العلوم على حاملي شهادة العالمية الأزهرية
للتخصص في العلوم العربية ، وتلقي ما يجب تلقيه للقيام بمهمة التعليم ، ولا ريب
أن قصرها على هذه المهمة بعد أن يكتمل نضوج الطلبة في الأزهر يعيد عصرًا
مزدهرًا بالأدباء واللغويين ، ويبث في البلاد روحًا جديدة في هذه الناحية الفقيرة
ناحية الأدب واللغة ، كما أنه ينشئ للبلاد نشأ يؤدي للتعليم أجلّ الخدمات.
أما مدرسة القضاء فتُخصَّص لتلقي العلوم المؤهلة لتولي مناصب القضاء
الشرعي التي لم تدرس بالأزهر ، وهي وإن كانت الآن معدة لذلك فعلاً إلا أنها
ليست تابعة للأزهر تبعية فعلية ، ومدة الدراسة فيها تزيد عن حاجة العلوم التي
تدرس بها الآن.
ومما يجب التنبيه عليه أنه يلزم أن ينشأ في قسم التخصص بالأزهر فرع
جديد للعلوم الرياضية بجانب ما فيه من العلوم الأخرى ، فإن هذه العلوم لا مندوحة
عن التوسع فيها في هذا العصر، كما أنها ضرورية لإتمام المهمة العظمى التي
تطلب من جامعة الأزهر ، ولإنشاء هذا الفرع ميزة أخرى هي استغناء الأزهر
بخريجيه في القيام بتدريس هذه المواد بالأزهر ، وتولي الأعمال الإدارية والحسابية
على أتم وجه، وفيه أيضًا فتح مجال الأعمال أمام خريجه بالقدرة على تعاطي
الشئون الحيوية النافعة.
(المطلب الثالث) المساواة الفعلية بين حاملي شهادات الأزهر ونظرائهم من
حاملي شهادات وزارة المعارف ، فتتساوى الشهادة الأولية بالابتدائية والثانوية
بالبكالوريا ، والعالمية بالليسانس وشهادة التخصص بالدكتوراه وذلك فيما يختص
بمميزاتها من المرتبات والترقيات واحتساب المعاشات مع حفظ الامتيازات الخاصة
بهم مثل (كوبونات) السكك الحديدية.
من المؤلم أن تجتمع على الأزهر عزلته عن الاشتراك بقسط وافر في
الأعمال العامة، والغبن الفاحش في المرتبات والحقوق التي ينالها من أسعده الحظ
من خريجيه ، فعلى الرغم من أن الشهادات التي يحصل عليها الأزهريون معتبرة
كنظيراتها من الشهادات التي تعطى لتلامذة المدارس، فإن البون شاسع جدًّا بين
مرتبات هؤلاء وأولئك ، ومثل هذا يقال عن نظم الترقيات والمعاشات ، فالشهادة
الابتدائية الأزهرية سُلب من حاملها حق التوظف مطلقًا ، وعلى ذلك لا يمكن مقارنة
حقوقها بالابتدائية في المدارس، والثانوية الأزهرية إذا سمح لحاملها بالتوظف في
مثل الإمامة والخطابة مثلاً يفرض لها مرتب يتراوح بين جنيه وثلاثة جنيهات ، ولا
ريب أنه لا نسبة بين هذا المرتب الحقير وبين مرتب حامل (البكالوريا) إذ
يتقاضى ثمانية جنيهات شهريًّا.
وأما الشهادة العالمية التي هي شهادة عليا فإن نصيب حاملها إذا كان محدودًا
والتحق بوظيفة تدريس في المعاهد الدينية أن يعطى له عشرة جنيهات ، في حين
أن مثيلاتها من الشهادات العليا تنيل صاحبها الحق في تقاضي خمسة عشر جنيهًا
شهريًّا ، وهذا الذي ذكرناه في مرتبات الأزهريين إنما هو بالنسبة إلى الوظائف
التي تعد رئيسية ، ومن ذلك يمكن إدراك المرتبات الضئيلة التي تفرض للوظائف
الأخرى ، ففي وزارة الأوقاف يعطى حامل العالمية في وظيفتي الإمامة والخطابة
مرتبًا يتراوح بين أربعة جنيهات واثني عشر جنيهًا مصريًّا حسب التعديل الأخير ،
في حين أن فقهاء المكاتب يتقاضون من ستة جنيهات إلى ثمانية عشر.
ومثل هذا الغبن في المرتبات واقع في الترقيات والمعاشات ، فالترقيات في
الأزهر تسير ببطء يبيد العزم ولا يشجع على العمل، وهي في غيره تبعث الأمل
وتحيي الرجاء، أما المعاشات فلا نخطئ إذا قلنا: إنها في الأزهر تكاد ألا تكون
شيئًا.
ونحن لا ندري سبب هذه التفرقة البينة الغبن مع أن المجهودات التي يصرفها
طالب المدرسة تقل كثيرًا عن مجهودات الأزهري ، مع أنه يمتاز أيضًا بشرف
الانتساب إلى الدين، فينبغي أن تحفظ كرامته وتصان حقوقه حتى للخدمة العامة
وهو مطمئن على مستقبله ، ولا سيما إذا ذكرنا أنه فوق صفته الدينية قادر على سد
حاجات الأمة في كثير من الشئون العامة ، التي تستلزم الدراية والكفايات المختلفة
بما يتجمل به من شتى الفنون التي تدرس بالأزهر.
أما (الكوبونات) التي تعطي العلماء حق السفر بأجور مخفضة فإن لها معنى
ساميًا ، عُرف أن العلماء خليقون به من زمن بعيد ، فينبغي أن يبقى ما دامت لهم
كرامة ومكانة خاصة.
(المطلب الرابع) تنفيذ الحقوق التي كفلتها القوانين واللوائح لحملة الشهادات
الأزهرية المعطل العمل بها الآن.
إنما تلتمس الشهادات لنتائجها المترتبة عليها لا لذواتها ، ومن المسلم به أن
كل عمل لا فائدة له مبغض مكروه ، وبودنا أن يكثر الإقبال على التعليم الديني حتى
تعم تعاليمه الأفراد والجماعات ، ولا يمكن ذلك إلا إذا كان للشهادات التي تعطى
لطالبه قيمة مادية تغني عوزه وتسد حاجته ، على أن الواقع يخالف ذلك في الأزهر
ويسوءنا أن نقول: إن الأزهر له هذه الخاصة وحده دون معاهد العلم كلها ، فقد
سُطرت ميزات الشهادات في الأوراق ولا شيء غير ذلك! ففي القانون نمرة 10
نص على أن لحامل الشهادة العالمية الحق في وظائف القضاء الشرعي، والكتابة
بالمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية والتدريس بالأزهر والمعاهد الدينية
إلخ ، ولحامل الشهادة الثانوية الحق في وظائف الخط والإملاء والوظائف الكتابية
بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى والمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية
والإمامة والوعظ
…
إلخ ، أما الابتدائية (فيظهر أنه لا يصح أن يكون لها ميزة
حتى ولو على الورق فألغيت ميزتها!) .
فإذا أراد الطالب أن يلتمس طريقًا مما ضمنه القانون لإحدى هذه الشهادات بعد
حصوله عليها رغبة في حفظ أوده وجد الأبواب موصدة دونه ، ويسوءنا أن كثيرًا
من حملة العالمية لا يجدون مرتزقًا يقيهم ذل الحاجة، حتى وزارة الأوقاف التي هم
أشد الناس صلة بها لا تقبل أحدًا منهم في وظائفها الكتابية ، وكانت نتيجة هذه
المعاملة الشديدة أن كثيرًا من العلماء قدموا أنفسهم إلى مجالس المديريات للتدريس
في مدارسها ، فرفضت وسرت هذه الدعوى إلى المدارس الأهلية فاشتد الداء،
وثقلت وطأته على هؤلاء الذين قضوا حياتهم في خدمة العلم ، وذلك ما يسيل
النفوس أسفًا على كرامة العلم والدين.
ليس في وسع العالم الديني أن يتناول عملاً دنيئًا حرصًا على شرفه ، كما أنه
لم يَلق من عناية أولي الأمر به ما يجعله كغيره من الطوائف المتعلمة سعيدًا أو على
الأقل مطمئنًا على مستقبله، فبقي أن نسأل ولاة الأمور عن مصيره؟
الحق أنه شيء كبير أن يُترك هؤلاء العلماء لعويلهم من ثِقل البؤس في هذا
العصر مع أنهم في كل العصور كانوا موطن الاحترام والرعاية، ولسنا نطلب إلا
ما رضي به ولاة الأمر ووضعوه من تلقاء أنفسهم في (قانون) ، يجب أن يكون
نافذًا وأن لا يكون حبرًا على ورق ، وإذا طلبنا ذلك بالنسبة لحاملي العالمية فنطلبه
أيضًا بالنسبة إلى حملة الثانوية والابتدائية ، فقد يحدث كثيرًا أن يتخلف الطالب من
الدراسة بعد نيله إحدى هاتين ، فليس من العدل ان يحرم ثمرة عمله والقانون
صريح في حفظ حقه.
(وبعد) فالطريق الطبيعي في التعليم أن يوجد للطلبة ضوء من الأمل يكون
منيرًا لهممهم مشجعًا لهم ، وإلا انصرفوا عنه وعافوه ، وذلك ما لا يصح أن يكون
وخصوصًا في المعاهد الدينية.
(المطلب الخامس) إقرار مشروع التعليم الديني في المدارس ، وهو الذي
وافقت عليه وزارة المعارف في إحدى الوزارات السابقة حيث إن تنفيذه ضروري
لصالح الأمة، وإسناد القيام به إلى خريجي الأزهر خاصة.
كان الدين ولا يزال مبعث سعادة الأمة ومصدر مجدها فهو حافظ شخصيتها،
ومظهر آدابها ، وهو المحور الذي تجتمع عنده القلوب وتتحد النزعات والآمال ،
فأيما أمة أقامت للدين وزنه، وعرفت خطره، كان لها ما تشاء من عزة وسلطان،
وعلى العكس من ذلك أمة تنبذ أحكامه ظهريًّا.
وإنه لمن المحزن أن تخلو مدارسنا المصرية من تعليم الدين ونشر آدابه
السامية ، ولا ندري ما الذي وصل بمدارسنا إلى هذا الحضيض مع أنه يدرس
(بين) جدرانها كثير من العلوم قد لا يكون بعضها ضروريًّا، فالحق أنه يجب وضع
حد لهذه الحالة المملة ، إذ لو استمرت لأصبح الدين وقد تقلص ظله ، وضعفت
شوكته. وإن الأزهر الذي في عنقه أمانة الإرشاد والمحافظة على الدين لا يمكن أن
يجمد بإزاء ذلك ، بل يطلب ويلح في الطلب بأن يُعنى بالدين العناية الكافية فتذاع
آدابه وتعاليمه الجليلة في نفوس أبناء الأمة ، حتى لا يطغى على أفكارهم اللدنة
سيل الأباطيل؛ فيخرجوا على دينهم كما هو شأن المتعلمين اليوم، فإن كثيرًا منهم
قد استهواه التقليد الأعمى فنبذ دينه، وذلك ضرر لا يصح السكوت عليه بل يجب
العمل على استئصال شأفته، ولن يكون ذلك بغير الدين ، ولا يضر وزارة المعارف
أن يتلقى التلاميذ بجانب ما يتلقونه - مما ينفع ولا ينفع - هذا العنصر الضروري
لحياة الأفراد والأمم ، وإذا قال الأزهر ذلك فهو يتكلم بلسان آباء التلاميذ وأولياء
أمورهم الذين يسرهم أن يكون أبناؤهم راشدين دَيّنين، لا ملاحدة مارقين ، ومما
يمكن أن يعتبر دلالة على وجوب تنفيذ هذا المطلب أنه كاد (يبلغ) تمامه في عهد
إحدى الوزارات السابقة بعد أن نبهها إليه أحد [2] علماء الأزهر الأعلام، على أنه
لا يمكن أن يؤدى الأمر على وجهه الصالح إلا إذا جعل تعليم الدين أساسيًّا ، وأسند
تعليمه من الآن إلى المتضلعين منه الواقفين على أسراره فهم وحدهم البصيرون
بطرق التفهم والإقناع ، القادرون على رياضة النشء إلى أقوم الطرق بالقدوة
والموعظة الحسنة، وليس لطائفة أن تنازع الأزهريين هذه المقدرة أو تطمع في
هذه المنزلة دونهم ، ولذلك نطلب إسناد التعليم إلى علماء الأزهر دون سواهم حتى
يتوصل إلى الغرض المروم.
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار يستعمل لفظ المغرض عند العوام وفي الجرائد بمعنى ذي الغرض والهوى النفسي وهو المراد هنا، وإنما بينا هذا لأن قراء المنار في الأقطار التي لا تستعمل فيها هذه الكلمة بهذا المعنى لا يفهمونها ، وإذا راجعوها في معاجم اللغة المتداولة لا يجدونها.
(2)
فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون.
الكاتب: محمد رشيد رضا
وهب بن منبه وكعب الأحبار
حضرة ملجأ الباحثين السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فقد جرحتم الحبر بن وهب بن
منبه وكعب الأحبار في تفسيركم بالمنار قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُّبِينٌ} (الشعراء: 32) بأنهما:
(1)
رويا أخبار غرائب بني إسرائيل ، ومنها موت خمسة وعشرين ألفًا
من قوم فرعون فزعًا من ثعبان العصى (كذا) .
(2)
وكانا يدسان في الدين بكذب الرواية.
(3)
ومن جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان
رضي الله عنهما.
ولكون الحبرين من رجال كتب الحديث الصحيحة التي صار التعويل عليها
في الدين الإسلامي بعد القرآن الكريم ، وكان هذا التجريح غير منطبق على ما
عُرف عنهما عند علماء الحديث ، وقد صرحتم بأنه بحسب الغالب على ظنكم ،
وكان يترتب عليه الحط من اعتبار الحديث الشريف عند المطلعين عليه من قراء
المجلة ممن لا يعرف عنهما سوى ما قلتم لوجود اسميهما في كتبه (كذا) ، مع أن
الأمة محتاجة للتمسك بالسنة؛ لأن سعادتها وإنقاذها مما هي فيه متوقفان على العمل
بها والرجوع إليها كما كان سلفنا الصالح ، فيعود إلينا ما كانوا فيه من عز ومجد.
فحُبًّا في دفع ما يشين السنة المحمدية أحببت نشر ما دونه المتقدمون في
توثيق الحبرين ، مبتدِئًا بقاعدة من كتاب الجرح والتعديل للعلامة القاسمي حيث نقل
بالصحيفة الخامسة عن المحدث السيوطي عبارة الأصولي صاحب كتاب الاقتراح
أن من (الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي) تخريج أحد الشيخين له في الصحيح ،
وإن تُكُلم في بعض مَن خَرَّج له فلا يلتفت إليه ، والحبران خرَّج لهما أحد
الشيخين البخاري في صحيحه (كذا) وكذا باقي أصحاب الكتب الصحيحة مسلم
وأبو داود والنسائي والترمذي كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي (كذا) .
وحينئذ لا يلتفت لتضعيف ابن الفلاس لسيدنا وهب خصوصًا وأنه لم يبين
وجه التضعيف ، والمتقرر في فن المصطلح أن التجريح لا يُقبل إلا مع البيان ،
وأن جرْح الواحد غير متفق عليه (كذا) .
ومما يدل على ورع سيدنا وهب ما نقله البخاري في أول كتاب الجنائز ونصه:
(وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن ليس
مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) يريد أن
يلتزم السائل العمل بالأحكام الشرعية ولا يرتكن على مجرد النطق بالشهادتين ،
ومثله قوله: (مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر) كما نقله صاحب الفتح
في هذا المكان [1] .
وصُنع البخاري في باب مطل الغنى ظلم من كتاب الاستقراض يدل على
عظم سيدنا وهب أيضًا ، حيث قال في سند الحديث هكذا: (عن همام بن منبه
أخي وهب) وما كان همام مجهولاً فنسبه إلى وهب لتعريفه بل هو معروف ، وأخذ
عنه أصحاب الكتب الستة الصحيحة ، وما كان البخاري لينسب رواية همام وهو
بمنزلة شاهده إلى فاسق أو متهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإنما هي نسبة تشريف أراد بها التأكيد في تزكية راويه.
ومن الحكم المأثورة عن سيدنا وهب قوله: العلم خليل المؤمن والحلم وزيره
والعقل دليله والصبر أمير جنوده والرفق أبوه واللين أخوه: فجعل للمؤمن دولة من
نفسه ، نقل ذلك الحافظ الذهبي في ترجمته له في كتاب ميزان الاعتداد في نقد
الرجال.
وكعب الأحبار فضلاً عن أخذ المحدثين عنه لم يطعن عليه أحد منهم ،
والمذاكرة التي دارت بينه وبين أبي هريرة حال رحلته بالشام (في الساعة التي في
يوم الجمعة) من الحجج الدينية الإسلامية التي يشير إليها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن
لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 197) كما هو موضح بموطأ
الإمام مالك ، ويكفيه توثيقًا أخذ أبي هريرة عنه وابن عباس ومعاوية وجماعة من
التابعين ، نص على ذلك صاحب الخلاصة المذكورة عند ترجمته باسم (كعب بن
مانع الحميري أبو إسحاق الحبر وقال بالهامش: وهو المعروف بكعب الأحبار
إلخ) .
أما عن نفي أوجه الجرح الثلاثة السالفة:
(فالأول) غير جارح أصلاً؛ لأن أخبار بني إسرائيل ليست مما تعبدنا الله
بها ، ولم نلزم بالتحري في نقلها إلزامنا بنقل الأحاديث الإسلامية لما رواه الإمام
الشافعي في رسالته الأصولية الشهيرة في أواخر (باب تثبيت خبر الحجة) بسنده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،
وحدثوا عني ولا تكذبوا علي) ورواه صاحب كتاب رموز الأحاديث في حرف
الحاء بلفظ (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنكم لا تحدثون عنهم شيئًا إلا وقد
كان فيهم أعجب منه) عن الشافعي وابن منيع وصححه السخاوي فأي وزر على
من بلغه هذا الحديث فحدث بأخبار بني إسرائيل على علاتها كما سمعها ، ما دام أنه
لم يرد في ديننا ما يمنع من ذلك ، ولم تصادم أصلاً من أصوله وإلا كانت منسوخة
هذا وبمراجعة تفسير ابن جرير عند هذه الآية وجد أن في سند الخبر بموت الخمسة
وعشرين ألفًا من هو مجهول ، فيحتمل أن هذا المجهول هو الواضع لهذا الخبر
والأصوب حمله على الحديث السالف ، إذ لا ضرر علينا من ذلك دينًا ، ولم نُكلَّف
بتمحيص أخبار بني إسرائيل والبحث في أسانيدها وتبعتها عليهم.
(الثاني) لم نعلم أحدًا قبل الآن نسبهما للكذب والدس في الأحاديث الإسلامية
وكل ما نسب إليهما من بعض المتأخرين هو الإكثار من أخبار غرائب بني
إسرائيل ، وقد علمت ما فيه ولم يصرح الإمام أحمد بأن سيدنا وهبًا كان يختلف إلى
قومه بعد إسلامهم؛ ليكذب أو يدس ، والأقرب حمله على التودد والإرشاد ، وقد
ترجم للحبرين ابن جرير الطبري في تاريخه بالجزء الثالث عشر في ضمن الناقلين
للأخبار من التابعين ، وهو بصفته مؤرخ يحكي كل ما قيل فلم تصدر منه كلمة تشم
منها هذه الرائحة ، بل بعكس ذلك أفاد ما يدل على جلالتهما ، وحكى لسيدنا كعب
حادثة تدل على شدة ذكائه وتدينه فانظره.
(الثالث) أن نسبتهما إلى جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين غير معقول من
الوجهة التاريخية ، فإن الخليفة الثاني قتل سنة 23 هـ ، وسيدنا وهب قتل ظلمًا
أيضًا سنة 110هـ أو سنة 114هـ فيكون بينهما تسعون عامًا (كذا) تقريبًا ، فلا
يبعد أن يكون لم يولد وقت قتله ، وسيدنا كعب كان مقيمًا بالشام بعيدًا عن الفرس ،
وجمعية السبئيين لم تؤلف بعد؛ لأن عبد الله بن سبأ رئيسها لم يظهر إلا في خلافة
سيدنا عثمان ، وأكثر المؤرخين على أن قتل الخليفة الثاني فردي (كذا) وأن
الذي قتله هو أبو لؤلؤة غلام سيدنا المغيرة بن شعبة الذي بعثه وهو عامل على
الكوفة ليقوم بالصنائع التي تنفع المسلمين ، وكان ضاربًا عليه مائة درهم في الشهر
فتظلم منها إلى الخليفة ، فلم يرها كثيرة فحنق عليه وقتله بعد أيام ، وحينئذ لم يكن
مرسلاً من جمعية سرية.
والخليفة الثالث قتل سنة 35 هـ ، فبينه وبين سيدنا وهب نحو الثمانين عامًا
فإن كان وُجد فالأقرب أنه كان حينئذ في سن الطفولة ، وإقامته كانت بصنعاء بعيدًا
عن مراكز الجمعيات التي حكي عنها تدبير قتل الخليفة ، أما سيدنا كعب فقد تُوفي
سنة 32هـ أي قبل قتل الخليفة بثلاثة أعوام كما ذكره صاحب الخلاصة المذكورة ،
على أن الحالة تشهد ببُعدهما عن مثل هذه الأحوال لأنه لو نسب إليهما ذلك لشاع
واشتهر ، فلم يأخذ عنهما أحد من المحدثين وخصوصًا البخاري الذي كان يمتنع عن
الأخذ عن الراوي لأدنى شبهة قيلت فيه ، وأيضًا لحكى عنهما ذلك أحد المترجمين
لهم المذكورين ، ومع أن الحافظ الذهبي التزم في كتابه (تذكرة الحفاظ) أن يذكر
فيه المحدثين الموثقين فقط ، وقد ذكرهما (كذا) بترجمتين مستفيضتين عن علمهما
وورعهما وكفى بذلك توثيقًا ، هذا ما اطلعت عليه الآن مما دوَّنه المتقدمون عن
هذين الحَبرين الجليلين ، أرجو نشره بالمجلة مشفوعًا برأيكم واقبلوا فائق الاحترام.
…
...
…
...
…
...
…
عبد الرحمن الجمجوني
(جواب المنار)
يظهر أن المنتقد قرأ عبارتنا في التفسير فانتقد ما علق بذهنه منها من غير
مراجعة لعبارتها ، ولو رجع إليها في أي وقت لرأى جلّ ما كتبه غير وارد عليها،
وما أطال به من الثناء على وهب في غير محله إذ ليس من موضوع الكلام، وكذا
ما ذكره من نفي اشتراكه في الجمعيات السرية الفارسية وفي قتل الخليفة الثاني،
وما ذكره من براءة كعب الأحبار من مثل ذلك فأنا لم أر مهمًّا بهذا، وإنما قلت فيهما:
إنهما كانا (كثيرا الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول ،
وأن قومهما كانوا يكيدون للأمة الإسلامية العربية ، فقاتِلُ الخليفة الثاني فارسي
مُرسَل من جمعية سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله
بن سبأ اليهودي ، وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن
السياسية وأكاذيب الرواية في الصدر الأول) اهـ بحروفه وسنوضحه بعد.
وذكرت قبله (أنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق
الجمهور له ، بل أنا أسوأ ظنًّا فيه على ما روي من كثرة عبادته ، ويغلب على
ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفرس) إلخ ، ولم أقل: إنه اشترك في مقتل عمر
فيرد علي بتاريخه أو بغير ذلك، والذي يعنينا من هذا النقد ما هو المقصود منه
بالذات وهو رواية لرجلين وما زعمه المنتقد من توثيق الشيخين لهما ولا سيما
البخاري ، وكون كل من رويا عنه أو روى عنه الأول ثقة لا يقبل فيه جرح ، ولا
يصح أن تكون روايته محل بحث، وفي كلام المنتقد أغلاط لغوية وفنية وتاريخية
لا حاجة إلى إضاعة الوقت في بيانها ، فأكتفي في الرد على ما ذكرت أنه المقصود
بالذات فأقول:
أما كعب الأحبار فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئًا ولكن ذكره فيه
بما يُعد جرحًا له لا تعديلاً، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب
وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية
يحدث رهطًا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق
هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (تأمل) .
قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في
البخاري ، وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له رقم البخاري
فيوهم أنه أخرج له إلخ: يعني أن ذكر صاحب التهذيب رقم البخاري وهو حرف
(خ) عند اسم كعب غلط ، وقد صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء
في صحيح البخاري وغيره، والمنتقد يبدئ ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه
له ، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من أصدق المحدثين عن أهل الكتاب ،
وأنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب- طعن صريح في عدالته وفي عدالة جمهور رواة
الإسرائيليات إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم ، ومن كان متقنًا للكذب في ذلك
يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر ، إذ لم تكن كتب أهل الكتاب
منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا ، فإن توراة اليهود بين الأيدي ، ونحن
نرى فيما رواه كعب ووهب عنها ما لا وجود له فيها البتة على كثرته، وهي هي
التوراة التي كانت عندهم في عصرهما، فإن ما وقع من التحريف والنقصان منها
قد كان قبل الإسلام، وأما بعده فجل ما وقع من التحريف هو المعنوي بحمل اللفظ
على غير ما وضع له واختلاف الترجمة، ولا يعقل أن تكون هذه القصص الطويلة
التي نراها في التفسير والتاريخ مروية عن التوراة قد حذفت منها بعد موت كعب
ووهب وغيرهما من رواتها، فهي من الأكاذيب التي لم يكن يتيسر للصحابة
والتابعين ولرجال الجرح والتعديل الأولين العثور عليها، وكذا علماء القرون
الوسطى من المحدثين وغيرهم إلا من عُني عناية خاصة بالاطلاع على كتب العهد
العتيق والعهد الجديد عند أهل الكتاب ، وعلى التواريخ المفصلة لأخبارهم وقليل ما
هم ، وقد كان مثل البخاري من جهاندة المنقول ومثل الفخر الرازي من جهاندة
المعقول يظنان أن جميع تحريف أهل الكتاب معنوي؛ لأن تغيير أهل الملة لكتابها
الديني غير معقول إذ لابد من أن يكون بالتواطؤ وإجماع الأمة، وسبب هذا أن
هؤلاء العلماء لم يكونوا يعلمون أن اليهود لم يكن عندهم من التوراة في الصدر
الأول من تاريخهم إلا النسخة التي وضعها موسى عليه السلام في صندوق
العهد (التابوت) وأنها فقدت بعد ذلك ولم يكونوا يحفظونها، وأن ما عندهم الآن
يرجع إلى ما كتبه لهم (عزرا) بعد السى ولذلك تكثر فيه الألفاظ البابلية، وهم
يزعمون أنه أُلهم الصواب فيما كتب إلهامًا.. . مع أن ما فيها من الأغلاط المخالفة
للواقع ، ومن ذِكر الحوادث التي وقعت بعد موسى ، ومن ذِكر موت موسى وعدم
ظهور أحد بعده مثله ومن.. . ومن.. . ما ينقض دعوى الإلهام المذكورة - إلى
آخر ما فصلناه من قبل في موضعه.
وأما مسلم فقد ذكره في بعض أسانيده ، ولكن ليس له رواية صريحة عنه
لحديث انفرد به فيكون جرحه موجبًا لحرماننا من الأخذ به، وقال الحافظ ابن كثير:
إن حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) الذي خطّأه المحققون بروايته
له هو ، مما أخذه أبو هريرة عن كعب على أنه صرح فيه بسماعه من النبي صلى
الله عليه وسلم وقال في تهذيب التهذيب: وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع من
مسلم في أواخر كتاب الإيمان: وفي حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة رفعه (إذا أدى العبد حق الله وحق مَواليه كان له أجران) قال:
فحدثت به كعبًا فقال كعب: ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد اهـ.
أقول: إنهم قبلوا هذه الزيادة في الحديث؛ لغرورهم بكعب حتى قال النووي:
وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه بتوقيف ، ويحتمل أنه بالاجتهاد؛ لأن من
رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله
مسرورًا اهـ ، فانظر إلى هذا التأويل المتناقض لهذه الزيادة المتعلقة بأصول العقيدة
بحيث يطلب فيها القطع ، وهي أن العبد المذكور والمُزهد - وهو بضم الميم إسكان
الزاي قليل المال - لا حساب عليهما ، فهو يجعل الحساب على كبار الأغنياء لأحرار
وحدهم ، وهذا مخالف لعمومات الكتاب والسنة القطعية ومعارَض بنصوص خاصة.
وأما ما ذكر من رواية له في آخر كتاب الإيمان منه فهو أن أبا هريرة قال
لكعب إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعوها ، فأنا أريد أن
أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) فقال له كعب: أنت سمعت هذا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. روى هذا عن كعب عمرو بن سفيان
الثقفي ، انفرد مسلم بروايته عنه وليس له غيره إلا حديث واحد ، ولمسلم عن كعب
مثله في الاستفهام من أبي هريرة عن حديث الأمة التي فُقدت من بني إسرائيل
وكونها هي الفار.
وجملة القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم الذي
في صحيح مسلم ، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند
غيره؛ ولذلك امتنع البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته، ومع
هذا كله يجعل المنتقد ما زعمه من رواية البخاري عنه الركن الأعظم لتعديله ،
والخوف على ضياع السنة من جرحه فكلامه حجة عليه.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: ونقل في الفتح انتقاد الداودي لكلمة وهب وكونها مخالفة لحديث الباب الذي رواه البخاري بعدها ، وهي على كل حال لا تدل على الورع ولا الورع يقتضي صحة الرواية مطلقًا ، وكذا نطقه ببعض الحكم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجلات وجرائد جديدة
(الإخاء)
(مجلة علمية تاريخية أدبية روائية مصوَّرة ، تصدر في أول كل شهر
أفرنكي لصاحبها سليم قبعين) قيمة الاشتراك فيها 80 بمصر والسودان ومئة
قرش في سائر الأقطار - وسليم أفندي كاتب متفنن مشهور ، وقد انفرد دون الكُتاب
في مصر بمعرفة اللغة الروسية ، فله منها مادة لا يشاركه فيها غيره ، وقد أتمت
مجلته السنة الأولى وهي أشق المراحل ، فصار الرجاء باستمرارها ونجاحها وطيدًا
وهو ما نتمناه له ولها.
***
(المجلة الشهرية)
مجلة جديدة يصدرها بالقاهرة إسكندر أفندي مكاريوس ، ويتولى رئاسة
تحريرها نجيب أفندي شاهين ، وقد قال في مقدمتها: (هذه المجلة مرادة للعامة
أولاً وللخاصة ثانيًا ، وغايتها مزدوجة وهي إيجابية مع الأولين وسلبية مع الآخرين،
ويكفينا من هؤلاء أن يرمقوها بنظرة عدم الإنكار، لأن الخاصة في كل بلد
متعنتون وإرضاء المتعنت صعب كما جاء في المثل، وتعنُّتُهم هذا ناشئ عن
رسوخهم في العلم وعلو كعبهم في الفن ، ونحن إنما نلم بهما إلمامًا هنا) ونقول:
هذه خطة المجلة وهي عن اختيار لا عجز ، فإن نجيبًا كاتب بارع تولى التحرير
في المقتطف عدة سنين ، وكان قبل إصدار هذه الجريدة أحد محرري جريدة السياسة
وقيمة الاشتراك في هذه المجلة خمسون قرشًا في مصر والسودان و17 شلنًا في
الخارج.
***
(صحيفة الإعلانات)
صحيفة أسبوعية جديدة (تنشر الإعلانات مبوبة ، وتبحث في المسائل
الاقتصادية والتجارية والاجتماعية) ، تصدر في كل يوم أحد في 16 صفحة كبيرة
منها أربعة باللغة الفرنسية وباقيها باللغة العربية ، صاحب امتيازها أحمد شفيق باشا
العالم الإداري الشهير ، ورئيس تحريرها الشيخ بولس مسعد من الكُتاب البارعين،
وقيمة الاشتراك السنوي فيها 25 قرشًا في مصر و40 قرشًا في الخارج، والمنتظر
منها أن تخدم النهضة الاقتصادية والصناعية والتجارية خدمة جليلة لم تُسبق إليها.
***
(أم القرى)
جريدة عربية إسلامية أسبوعية تصدر في مكة المكرمة مكان جريدة (القبلة)
التي كان يصدرها الملك حسين، مديرها يوسف أفندي ياسين من أفضل شبان
النابتة العربية السورية ، وسنخصها بمقال مطول في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
_________