المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (26)

- ‌رمضان - 1343ه

- ‌فاتحة المجلد السادس والعشرين

- ‌فتنة الاستغناء عن كلام الله العربيالمنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدين والسياسةوملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم

- ‌إيقاظ الغرب للإسلام

- ‌ماضي الأزهروحاضره ومستقبله(3)

- ‌وهب بن منبه وكعب الأحبار

- ‌ذو القعدة - 1343ه

- ‌سبب اتباع المسلم للإسلامونفوره من دعوة النصرانية

- ‌الإسلام وأصول الحكم

- ‌العالم الغربي والعرب والإسلام(2)

- ‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله(4)

- ‌عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس

- ‌بطل العرب والإسلام وأندلسهما الجديدةالأمير محمد عبد الكريم

- ‌الحج في هذا العام (1343)

- ‌عاقبة الشريف حسين بن علي مع الإنكليز

- ‌ذو الحجة - 1343ه

- ‌أثارة من التاريخ

- ‌السفور والحجاب

- ‌النساء والتبرج والتمثيل

- ‌الإسلام وأصول الحكم

- ‌حرب الريفأو الأندلس الجديدة

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌الوثائق الرسمية في المسألة العربية

- ‌بمناسبة كتاب مفتوح [

- ‌المحرم - 1344ه

- ‌لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة

- ‌كلمةفي فوائد كتابي المغني والشرح الكبير

- ‌رفيق العظموفاته وترجمته

- ‌السفور والحجاب

- ‌من عذيري

- ‌منشور عام [

- ‌أسرار البلاغة أو فلسفة البيان

- ‌صفر - 1344ه

- ‌حكم هيئة كبار العلماءفي كتاب الإسلام وأصول الحكم

- ‌الإنكليز والحجاز

- ‌ربيع الأول - 1344ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌مواد المنار

- ‌كلمةفي فوائد كتابي المغني والشرح الكبير

- ‌الخطر على الحجاز وعلى الإسلام

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌زيارة زعماء الهند لمصر

- ‌الإسلام في جاوه

- ‌جمادى الآخرة - 1344ه

- ‌فتوى المنارفي حظر ترجمة القرآن

- ‌تتمة فتوى اللباس والزي

- ‌تنبيه مهم

- ‌أسرار البلاغة أو فلسفة البيان

- ‌الحكومة الإسلامية

- ‌لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة

- ‌الشرق والغرب

- ‌العالم الإسلامي

- ‌اللادينيون في تونس ومصروكتاب علي عبد الرازق

- ‌تفسير المنار

- ‌القضايا الدينية في المحاكمونتائج الحرية

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌رجب - 1344ه

- ‌الثورة السورية والحكومة الفرنسيةوالتنازع بين الشرق والغرب

- ‌انحطاط المسلمينوسكونهم وسبب ذلك [

- ‌تربية أمراء العرب قبل الإسلاموكيف نستفيد منها في هذه الأيام

- ‌كتاب ابن تيميةإلى الشيخ ناصر المنبجي

- ‌الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية

- ‌جمعية منكوبي الإعانة السورية

- ‌الجمعية العلمية للمعارف الإسلامية

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌شعبان - 1344ه

- ‌استفتاء في كلمة للملك فيصلفي الأديان السماوية

- ‌كتاب الخلافة الإسلامية

- ‌الحجاز والعرببين السلطان العامل الصامتوملوك الدعاية القوَّالين

- ‌استيلاء ابن السعود على جميع الحجاز

- ‌ الصحة

- ‌الثورة السورية والحكومة الفرنسيةوالتنازع بين الشرق والغرب

- ‌مبايعة أهل الحجاز لسلطان نجد

- ‌الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية

- ‌وهب بن منبه وكعب الأحبار

- ‌فؤاد بك سليم

- ‌شعبان - 1344ه

- ‌مسألة صفات الله تعالىوعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

- ‌الصحة

- ‌الثورة السورية والحكومة الفرنسيةوالتنازع بين الشرق والغرب

- ‌نكبة سوريةوما قيل في إعانة منكوبيها

- ‌قصيدة شاعر الشام

- ‌الطريقة التجانية

- ‌أنباء الحجاز

- ‌مؤتمر الخلافة

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌خاتمة المجلد السادس والعشرين

الفصل: ‌شعبان - 1344ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد السادس والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمد الله تعالى أن جعلنا مسلمين، من أمة محمد خاتم النبيين، الذي أكمل به

الدين، وأتم نعمته على العالمين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.

(أما بعد) فقد جرت عادتنا بافتتاح كل مجلد من مجلدات المنار بخطبة نلم

فيها ببعض المهمات في العالم الإسلامي من غيٍّ وفساد، وصلاح ورشاد، وأرى

أن أهم ما طرأ في هذا العام، إقدام الترك على نشر ترجمة للقرآن، وتصدي

حكومتهم الجمهورية لنشرها، لأجل أن تحل محل القرآن العربي الذي هو كلام الله

تعالى - فرأيت أن أفتتح المجلد السادس والعشرين بتحقيق الحق في هذه المسألة في

نفسها، وبيان الباعث عليها، ثم أُولي البحث في أجزائه بسائر ما يتعلق بها، كما

فعلت في تحقيق الحق في مسألة الخلافة من جميع وجوهها، (في المجلدين 23

و24) وأكتفي في هذه الفاتحة الوجيزة بأن أذكر قراء المنار بما أطالبهم به في كل

مجلد من إبلاغنا ما يرونه منتقدًا فيه، ونسأله تعالى أن يوفقنا للصواب ويؤتينا

الحكمة وفصل الخطاب.

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتنة الاستغناء عن كلام الله العربي

المنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر

بسم الله الرحمن الرحيم

{الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) .

{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ

لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) .

{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ

الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف: 12) .

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً

عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27-28) .

{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ

يَعْلَمُونَ} (فصلت: 1-3) .

{حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ

الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 1-4) .

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ

لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) .

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ

المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن

يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا

كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 192-199) .

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى

لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ

وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 102-103) .

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ

لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ

يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) .

{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا

لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (الرعد: 37) .

(أما بعد) فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب، تجاوزن جمع

القلة إلى جمع الكثرة ، وعَدَوْنَ إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الأطناب،

ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التبديل ولا التحويل، بأن

الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه، على خاتم

أنبيائه ورسله، قرآنًاعربيًّا، وأنه هو الذي جعله قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي

أوحاه قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنًا عربيًّا، وأن الروح الأمين نزل

به على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل،

والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل، حال كونه قرآنًًا عربيًّا غير

ذي عوج، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به (أم القرى) ومن حولها من جميع

الورى، وأنه على إنزاله إياه قرآنًا عربيًّا للإنذار والذكرى، والوعيد والبشرى،

لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا أن أنزله حكمًا عربيًّا، وأمر من

أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل، الذي جعله

فيه حقًّا مشاعًا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا قوة ولا فضل، فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا

إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) اقرأ الآيات من 104 إلى 105 من سورة النساء بطولها،

وراجع سبب نزولها، فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية، وأنه حكومة دينية مدنية عربية، عربية اللسان، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان.

وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على محمد النبي العربي الأمين، الذي

جعله سيد ولد آدم وفضّله على جميع النبيين والمرسلين، بإكمال دينه بلسانه وعلى

لسانه وإرساله لجميع العالمين، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين، بقوله:

عمت رحمته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقوله

تبارك اسمه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) - وقوله تعالى جده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وقوله جل جلاله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا

أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج

الأكبر {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .

وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى ، ثم بما

حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد

به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة،

ليكونوا بنعمته إخوانًا لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات

الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة، فكتب صلى الله عليه وسلم كتبه إلى قيصر

الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب

وأمرائهم، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة، وبشرهم بأن نورها

سينتشر ما بين المشرق والمغرب، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم، وجميع دول

الإسلام من بعدهم، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته، في كلا قسمي شريعته،

عبادته وحكومته.

فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (آسية

وأفريقية وأوربة) بلغته العربية، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث

العقيدة، وضرورة إقامة الفريضة، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين،

وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين اللتين هما عنوان الدخول فيه، على أنهما

من أعمال الصلاة أيضًا، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام، عند جميع

تلك الشعوب والأقوام، بالإجماع العلمي العملي، التعبدي والسياسي إلا ما كان من

تقصير دولة الترك العثمانيين، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين، كسلفهم من

السلجوقيين والبويهيين، حتى بعد تنحُّلهم للخلافة الإسلامية، ورفع ألويتهم على

مهد الإسلام من البلاد الحجازية، فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية

التركية اللغوية ورابطة الإسلام، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب ، فإلغاء

الخلافة العثمانية فإسقاط دولة آل عثمان، وتأليف جمهورية تركية العصبية والتربية

والتعليم، أوربية العادات والتقنين والتشريع، وإبطال ما كان في الدولة من

المصالح الإسلامية، كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية

وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية لا دينية، وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلاً

باتًّا كما فعلت الشعوب الإفرنجية، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل

التجرؤ على كل ما ذكر، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام

مراعاة للشعب التركي المسلم، كما وضعوا فيه مواد أخرى تنافي الإسلام ، من

استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط، ومن إباحة الردة

واستحلال ما حرم الشرع، وظهر أثر ذلك بالقول والفعل، كالطعن الصريح في

الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة، وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين

والمسلمات، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات

عاريات، مائلات مميلات - إلى غير ذلك من منافيات الدين.

ولكن هذا كله لم يَرْوِ غليل العصبية اللغوية التورانية، ولم يذهب بحقدها

على الرابطة الإسلامية وآدابها الدينية العربية، بل كان مِن كيدها لها السعي لإزالة

كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه وعقله ووجدانه؛ ليسهل عليهم

سله من الإسلام بمعونة التربية الجديدة والتعليم العام، بل عمدوا إلى هذه الشجرة

الطيبة الثابت أصلها، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها، الممتد في

أعالي السماء فرعها، التي تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، عمدوا إليها لاجتثاث

أصلها، واقتلاع جذرها، بعد ما كان من التحاء عودها، وامتلاخ أملودها، وخضد

شوكتها، وعضد خصلتها، بعد أن نعموا بضعة قرون ثمرتها، وإنما تلك الشجرة

الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين، هي الزيتونة المباركة

الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، فإذا

مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ

وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35) .

وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة

حرمانه منه، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك، فإن تفاسيره

بلغتهم كثيرة، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها، وحظر

مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها؛ لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية،

وبالأحاديث النبوية العربية، وبآثار السلف الصالح العربية، وبالحكم والأمثال

وشواهد اللغة العربية، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية، ومن

أنفس الأمة التركية، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لِما عبروا عنه (بتطهير اللغة

التركية) من اللغة العربية، واقترح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية، وإذا

طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم فإنهم سينفذون هذا الاقتراح

قطعًا كما نفذوا غيره ، حتى استبدل قرآن تركي بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين،

على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع

المسلمين، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين، وكونه حجة الله تعالى عليهم

إلى يوم الدين.

أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم؟ أرأيت هذا البلاء المبين؟ أرأيت هذه

الجرأة على رب العالمين؟ أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم؟ أرأيت هذا الشنآن

والاحتقار لإجماع المسلمين؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنًا ونصف،

ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرق بلاد الإسلام في الفنون

العربية، والعلوم الإسلامية؟

لقد كان من تأثير ذلك ما هو أقوى البراهين على فوضى العلم والدين،

واختلال المنطق وفساد التعليم، والجهل الفاضح بضروريات الإسلام وشؤون

المسلمين، لقد كان أثر ذلك الجدال والمراء، وتعارض الآراء والأهواء وتسويد

الصحائف المنَشَّرة بمثل ما شوهوها به في مسألة الخلافة، وقد كان يجب أن

تكون مسألة القرآن أبعد عن أهواء الخلاف، للنصوص الكثيرة الصريحة فيها،

وإجماع السلف والخلف العلم والعمل عليها، وعدم شذوذ أصحاب المذاهب والفرق

حتى المبتدعة عنها، فقد كثر الخلاف والتفرق في الدين، وتعددت الأحزاب والشيع

في المسلمين، على ما ورد في النهي عن ذلك والوعيد عليه في الآيات الصريحة،

والأحاديث الصحيحة، وارتد بعض الفرق عن الدين، مع ادعائه بضروب من فاسد

التأويل، وسخافات من أباطيل التحريف، كما فعل زنادقة الباطنية وغيرهم، قبل

أن يَقْووا ويصرحوا بكفرهم، ولم تقُم فرقة تنتمي إلى الإسلام بترجمة القرآن، ولا

ضلت طائفة بترجمة أذكار الصلاة والأذان، لأجل الاستغناء بها في التعبد لله، عن

اللفظ المنزل من عند الله، وإنما قصارى ما وقع من الخلاف فيما حول ذلك من

فروع المسألة، ومن تصوير الفقهاء للوقائع النادرة، أنه إذا أسلم أعجمي مثلاً ،

وأردنا تعليمه الصلاة فلم يستطع لسانه أن ينطق بألفاظ الفاتحة ، فهل يصلي

بمعانيها من لغته، أم يستبدل بها بعض الأذكار العربية المأثورة مؤقتًا ، ريثما يتعلم

القرآن كما ورد في بعض الأحاديث، أم يصلي بترجمة الفاتحة بلغته؟ نقل الثاني

عن أبي حنيفة وحده مع مخالفة جميع أصحابه له ، ونقل عنه أنه رجع عنه إلى

الإجماع، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه عمل به (على أنه لا حجة في عمل

أحد ولا في قوله غير المعصوم) فكان هذا الإجماع العام المطلق مما يؤيد حفظ الله

تعالى للقرآن ، أراد ملاحدة الترك أن يبطلوه في هذا الزمان {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ

اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى

وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (الصف: 8-9) .

نشرت الصحف مقالات كثيرة في مسألة ترجمة القرآن ، رأيت أقلَّها وذُكر لي

ملخص بعض دون بعض ، فعلمت مما قرأت وسمعت أن أكثر ما كتب - إن لم يكن

كله - كان أصحابه بمعزل عن شر البدع التي طرأت في هذه الأيام، ولم يتجرأ

عليها مبتدع آخر منذ ظهر الإسلام، وهو الإتيان بقرآن أعجمي مترجم يستغني به

أهل تلك اللغة عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى ، بحيث لا كسب

للرسول المنزل عليه فيه، ولم يُكلَّف إلا تبليغه كما أنزل إليه بحروفه لا مجرد

معانيه، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخاف أن يفوته شيء عند تلقيه من

الروح الأمين، فأمنه الله تعالى من ذلك بمثل قوله: من سورة الأعلى 87

{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى} (الأعلى: 6)، وقوله من سورة القيامة 16: 85-19

{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) .

نعم قد ترك هؤلاء الكاتبون كلهم مكافحة شر بدعة ابتدعت في الإسلام،

وأرهفوا أسنة أقلامهم للجدال في أصل مسألة الترجمة التي حدثت منذ أجيال.

فقد ترجم القرآن لغير المسلمين بعض الذين تعلموا اللغة العربية منهم

كالمستشرقين من الإفرنج لغرضين:

(أحدهما) : للعلماء وهو العلم بما فيه لذاته، كدأبهم في البحث عن كل علم

ودين في العالم.

(وثانيهما) : لدعاة الدين (المبشرين) وهو الاستعانة بها على الطعن فيه

وهم متفاوتون في تراجمهم ، فمنهم من ضل عن كثير من المعاني حتى الواضحة

ضلالاً قريبًا في بعض وضلالاً بعيدًا في بعض آخر، كمن ترجم قوله تعالى:

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: 1-2) بأن جميع البشر يكونون

بعد الزوال أو قبل غروب الشمس بزهاء ثلاث ساعات في حال رديئة وخسران! !

ومنهم من سدد وقارب في ترجمته إذ وضح بعض الآيات بتعليق يعترف به

باستحالة الترجمة الحرفية بلغته.

وأما المسلمون من العجم الذين خالفوا سنة أمثالهم من السلف فيما كانوا يتقنون

من دراسة اللغة العربية؛ لأجل فَهم الكتاب والسنة، وتعصبوا للغاتهم ، واعتمدوا

في فهم النصوص على الترجمة، فكانوا يقرؤون التفاسير العربية حتى الدقيقة

للتعبير منها كتفسير البيضاوي ، ويترجمونها بلغاتهم لطلبة العلوم، ومازالوا كذلك،

ومنهم من كتب تفسير الفاتحة وتفسير بعض سور الجزأين الأخيرين بالفارسية؛

لكثرة تلاوتها في الصلوات، فأحبوا أن يفهمها التالون لها، فعل ذلك الشيخ محمد

بن محمود الحافظي البخاري المتوفى سنة 732 ويسمى كتابه هذا (تفسير خواجه

محمد بارسا) ، ومنهم من فسر القرآن كله تفسيرًا مختصرًا كالشيخ حسن بن علي

الكاشفي الواعظ المتوفى في حدود سنة 900 ، كتبه بالفارسية وترجمه بالتركية أبو

الفضل محمد بن إدريس البدليسي المتوفى سنة 982 ، وهنالك تفاسير أخرى

وحواش على بعض التفاسير المشهورة باللغتين وغيرهما.

وقد طبعت في هذا العصر مصاحف في الهند طبع بين سطورها العربية،

ترجمة حرفية للألفاظ باللغة الأوردية، للاستعانة بها على الفهم الإجمالي، ولم

يترجمه مسلمو الهند بلغتهم ترجمة مستقلة تطبع وتقرأ تعبدًا بدلاً من القرآن العربي

المنزل من عند الله كما فعل الترك في هذه الأيام.

نعم ترجمه بعض مسلمي الهند من مبتدعة القاديانية في هذه السنين الأخيرة

باللغة الإنكليزية ترجمة يقولون: إنها أصح من جميع التراجم الإنكليزية - وطبعوها

مع القرآن العربي المنزل - لكنهم أدخلوا بدعتهم فيها كما نقل إلينا المطلعون

عليها من المسلمين، ولذلك لم يأذن شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بنشرها

في القطر المصري كما بسطنا ذلك في مقال آخر من المنار، وكان هذا المنع

هو السبب في إثارة الجدال والقيل والقال عندنا، فإن القاديانية في الهند

والذين انتحلوا ضلالهم بمصر - وهم قليلون - أنكروا ذلك على شيخ الأزهر

فشايعهم بعض الكاتبين ورد عليهم آخرون، ورأينا أن أكثر الكاتبين لا يعلمون أن

الترجمة الإنكليزية الجديدة هي لمسيحية الهند القاديانية الذين يزعمون أن زعيمهم

(غلام أحمد القادياني) هو المسيح الذي ورد في الأحاديث نبأ نزوله قبيل قيام

الساعة ، وأنه كان يُوحى إليه من سخافات النثر والشعر ما يعدونه معجزة له ، وما

هو إلا سخرية لمن يعقل من أهل اللغة العربية، وأن سورة الفاتحة تدل على

مسيحيته وعلى عدم انقطاع الوحي ببعثه خاتم النبيين، وأنه نسخ فريضة الجهاد

وما يتعلق بها من الأحكام خدمة للإنكليز، بل يزعمون أن الوحي لا يزال ينزل

على خلفائه من بعده، إلخ.

كما رأينا هؤلاء الكاتبين لا يعلمون شيئًا يُعتَدُّ به من أمر ملاحدة الترك

وعداوتهم للغة العربية وأهلها بغضًا في الإسلام - وأنهم يريدون تحويل الشعب

التركي العريق فيه عنه - وأنهم ما ترجموا القرآن إلا ليتوسلوا به إلى ذلك.

فكل ما جاء به المجوزون للترجمة من غير الضالين ببدعة القاديانية المرتدين

قد أيدهم وأيد ملاحدة الترك من حيث لا يدرون، ولو دروا لكانوا من أشد الناس

إنكارًا عليهم، فوقوعهم في فتنة تأييد المرتدين عن الإسلام يؤيد قول من عد معرفة

الناس من الأمور التي تعتبر في المفتي قاله: الإمام أحمد وغيره ، وقال المحقق ابن

القيم في بيانه: إن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم ، فإن لم

يكن فقيهًا فيه كان فقيهًا في الأمر والنهي ، ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح اهـ؛ وهؤلاء الذين تصدوا للإفتاء في هذه المسألة قد فقد

أكثرهم الفقهَيْن وأقلُّهم أحدَهما.

وأما النظريات التي استدلوا بها على جواز الترجمة بل على وجوبها كما

صرح به بعضهم ، فأكثرها سخف وجهل فاضح، والذي يستحق أن يبحث فيه منها

هو مسألة الدعوة إلى الإسلام، وما يتعلق بها من أحكام، وسنذكر من ذلك ما لعله

لم يخطر لأحد من هؤلاء المفتين ببال.

وإنا لنعلم أن الترجمة الإنكليزية التي أشرنا إليها يُقصد بها ما يقصده ملاحدة

الترك من ترجمتهم التركية ، فإن القاديانية على بدعتهم التي أخرجتهم من جماعة

المسلمين لا يبيحون التعبد بغير اللغة العربية ، بل قصدوا بها الدعوة إلى الإسلام

كما يفهمونه، وقد نشر الخوجة كمال الدين الهندي مدير المجلة الإسلامية التي

تصدر باللغة الإنكليزية في لندن (إسلاميك ريونو) لأجل الدعوة إلى الإسلام خطابًا

يخبر فيه العالم الإسلامي بأنهم ترجموا القرآن بلسان الإنكليز ، ويريدون طبعه

ونشره مع الأصل (أي القرآن العربي كلام الله) ، ويطلب منهم المساعدة المالية

على ذلك ، وعلى نشر المجلة، وقد نشرنا دعوته في الجزء العاشر من المجلد

السابع عشر (شوال سنة 1332) للمنار (ص793-795) ، وعلقنا عليها تعليقة

وجيزة نصحنا له فيها بأن لا يطبع ترجمة القرآن التي نوه بها إلا بعد عرضها على

جماعة من كبراء العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها، وعللنا ذلك بقولنا: فإن

رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية ، فيُخشى أن تكون ترجمته كثيرة

الغلط كغيرها، على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من التأثير والمعاني ما

تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال، وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن

يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو، وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد اهـ.

وكان من غرضنا عرض الترجمة على جماعة من كبار العلماء لفتح باب

تحرير هذه المسألة، ثم علمنا أن خوجه كمال الدين ليس هو المترجم، ثم بلغنا أنه

ترك المسيحية القاديانية إلى الإسلام الخالص، وقد صرح في مصر بالبراءة منهم

قولاً وكتابة ، ولكنه لا يزال يعتمد على هذه الترجمة في الدعوة إلى الإسلام

كالقاديانية، وقد سبق لنا كتابة أخرى في تعذر ترجمة القرآن على جميع البشر

ومباحث أخرى فيها.

وقد كثرت مطالبة الناس لنا بالكتابة في الموضوع من العلماء والفضلاء الذين

اعتادوا من المنار القول الفصل، والحز في المفصل، على ما يعلم بعضهم من

سبقنا إلى ذلك في مواضع من مجلدات المنار السابقة، ومن اطلاع بعض من كتبوا

في هذه الأيام على ما كنا كتبناه من قبل، وسماع بعضهم منا في ليالي رمضان ما

نراه من خطأ وصواب في المسألة، وإنما يبغي هؤلاء تفصيلاً يدحض الشبهات،

ويجلي الحق بالحجج الناهضة من جميع الجهات، كما فعلنا في مسألة الخلافة

العظمى، وأن ننشر ذلك في بعض الصحف المنتشرة لتذيع في الناس فوعدْنا،

على أننا قد كنا ألممنا بذكر هذه المسألة في الجزء الأخير من المجلد الخامس

والعشرين، ووعدنا فيه بالعودة إلى الكتابة فيها بالتفصيل، وقد كتبنا هذه العجالة

قبل مراجعة ما كنا كتبنا ومراجعة ما حفظنا لدينا من قصاصات الصحف فيما كتبه

أشهر الذين كتبوا في المسألة (ولعلنا نجد فيها من الحق ما لم يوجد فيما وقفنا عليها

من غيرها) ، فرأينا أن نجعلها مقدمة لِمَا سنكتبه بعد من التفصيل والله يقول الحق

وهو يهدي السبيل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة في مسألة الخلافة وأحكامها والخلفاء

(س1-17) من صاحب الإمضاء في دهلي - الهند -بنصه وغلطه اللغوي

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) نحمده

ونصلي على رسوله الكريم) .

استفتاء

ما تقول أيها العلماء الكرام والحاملون لواء الإسلام في سؤال مسطورات

تحت:

(1)

هل حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) صحيح

أم لا؟

(2)

هل يعمل به في زماننا أم لا؟

(3)

إن قلتم لا فما دليل المنع من الكتاب والسنة؟

(4)

إن كان الحديث صحيح فهل يعمل به في هذا الزمان وهل يكون

نصب الإمام واجبًا في الملة المحمدية أم لا؟

(5)

هل يشترط في الإمام القرشية مطلقًا أو ما أقاموا الدين؟

(6)

إن لم توجد إقامة الدين في قريش (كما في بلادنا الهند) فهل يجوز

أن يكون الإمام من قوم آخرين أم لا؟

(7)

إن تغافل أو تجاهل قريش أو عوام الناس ، ولم يعملوا بهذه السنة فأية

طريقة تختار لإحياء هذه السنة وإلا فكيف؟

(8)

جماعة بغير إمام أو خليفة هل لهم حكم الجماعة أم لا؟

(9)

هل يكون الإمام صاحب السياسة والقدرة أو بدونهما؟

الاستفتاء الثانية

(10)

هل كانت الزكاة تجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم؟ إن كانت تجمع ففيم كانت تصرف؟

(11)

هل كانت تجمع على عهد الخلفاء الراشدين مثل ما كانت على عهد

النبي صلى الله عليه وسلم وكم يأخذ الخلفاء الراشدون لحوائج حياتهم من هذا

يعني (الزكاة) وكيف كان استحقاقهم شرعًا؟ وكيف كانوا ينفقون إسرافًا أم

اقتصادًا ، وهل كان المسلمون يحاسبون الخلفاء في ذلك الزمن أو لا (أي في بيت

المال أم من الزكاة) .

(12)

كيف يفعل صاحب الزكاة في زمننا ، هل يؤديها إلى الإمام الشرعي

أو يقسمها بنفسه على الفقراء والمساكين كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ

لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ.

(13)

في أي شيء يجب على الإمام أن يصرف الزكاة ، وهل يصرف

مستقلاًّ بنفسه حيث يشاء أو بالشورى؟

(14)

كم يأخذ الإمام الشرعي لنفقة نفسه وعياله ، وهل يأخذ مستقلاًّ أو

بالشورى؟

(15)

إذا اتهم الناس الإمام بالجور في صرف الصدقة ، أو ثبت لهم أن

الإمام لا يصرف الزكاة حيث أمر الله بل يجمع ، فهل لهم أن يجبروه على وضع

الحساب عندهم أو لا؟

(17)

وإذا كان الإمام مخالفًا لسيرة الخلفاء الراشدين المهديين في تصرفه ،

وأيضًا في القول والفعل فهل يصح أن يبقى إمامًا أو لا؟

(الحقيقة) أن واحد العالم المولوي في بلادنا (الهند - الدهلي) ادعى أنه

إمام وخليفة الله ، وخلافته كخلافة الخلفاء الراشدين ، ومن لم يبايعه ومات بدون

بيعته مات ميتة جاهلية ، ويحذر الناس ويخوف المسلمين بوعيد هذا الحديث (من

مات وليس في عنقه بيعة إلخ) ويقول: إنه من لم يؤد الزكاة إلي فلن يقبل الله

زكاته وإذا اعترض الناس عليه أنه ليس بقرشي ، ولا صاحب السياسة والقدرة ،

وأنه لا يقدر أن يجري حدود الله لأنه محكوم ككافة المسلمين في الهند ، وأن الإمام

لا يصير إلا بانتخاب المسلمين وكثرة رأيهم ، أجاب أن السياسة والقرشية ليست

بضروري فصار تنازعًا وتخاصمًا واختلافًا كثيرًا بين المسلمين في هذه المسألة

الإمامة.

فعليكم أيها العلماء الإسلام أن تبينوا بالدلائل الواضحة والبراهين القاطعة

بالكتاب والسنة والكتب السير المعتبرة ، بينوا بالدليل تؤجروا عند الجليل.

...

...

...

...

... المحقق الهندي

(المنار)

نجيب عن هذه الأسئلة بالإجمال الموجز استغناء عن التفصيل في أكثرها

بكتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي نشرنا فصوله في المنار ، ولأن سببها

إبطال ادعاء أحد صعاليك الدجالين للخلافة في الهند ، وهو لا يحتاج إلى كل هذه

الأسئلة ولا إلى التفصيل في أحكامها ، بل لولا عموم الجهل لم تحتجْ هذه الدعوى

السخيفة إلى سؤالٍ ما؛ إذ من المعروف أن الخلافة الصحيحة إنما تنعقد بمبايعة أهل

الحل والعقد من المسلمين لرجل مستجمع للشروط التي بينها العلماء في كتب العقائد

وكتب الفقه، وأن خلافة التغلب تحصل بمبايعة أهل القوة والعصبية لأي رجل

يؤيدونه وينفذون أحكامه - وكل من الأمرين محال وقوعه في الهند وهي مقهورة

تحت سلطان دولة أجنبية - وهذا المعتوه الذي ادعى الخلافة في الهند يظن بجهله

أو عَتَهه أن دعوى الخلافة من مجنون مثله كافية لوجوب اتباعه ، ودفع أموال الزكاة

وغيرها له يتمتع بها.

ولعل الذي أغراه بهذه الدعوى ما رآه من ادعاء الدجال غلام أحمد القادياني

للنبوة والرسالة والوحي والمعجزات ، وأنه مسيح الملة المحمدية ، فوجد من

المارقين والجاهلين الذين وُصفوا بأنهم (أتباع كل ناعق) من صدقه وصار له ولهم

دين جديد كمسيحية النصارى بالنسبة إلى شريعة التوراة.

أما الجواب عن الأسئلة الأربعة الأولى فهي أن الحديث صحيح رواه مسلم

عن ابن عمر مرفوعًا ، ويجب العمل به في كل زمان ، فنصب الإمام واجب في

الملة في هذا الزمان كغيره ، وجميع المسلمين آثمون بعدم نصب إمام تجتمع كلمتهم

عليه بقدر طاقتهم ، ومعاقبون عليه في الدنيا بما يعلمه أهل البصيرة منهم

وسيعاقبون في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وحده.

وأما الجواب عن الثلاثة بعدها فهي أن النسب القرشي شرط في الإمام الحق

مطلقًا بإجماع أهل السنة والشيعة ، بل سبق إجماع الصحابة على ذلك ولا يُعتد

بمن خالفهم من الخوارج وغيرهم ، وإنما ورد في الصحيح أنه يجب أن يُسمع لهم

ويُطاعوا ما أقاموا الدِّين إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والواجب على أهل

الحل والعقد حمل من قصر منهم في إقامة الدين على ما يجب عليه من ذلك.

وأما الجواب عن السؤال الثامن فهو أن الجماعة التي أمرنا باتباعها لا تسمى

جماعة المسلمين إلا إذا كان لها إمام بايعته باختيارها ، ومما يدل على ذلك حديث

حذيفة الذي رواه الجماعة كلهم وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له:

(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال صلى

الله عليه وسلم (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك

الموت وأنت على ذلك) فلم يأمره بالتزام طاعة أي فرقة من فرق المسلمين الذين

ليس لهم جماعة ولا إمام يقيم الحق والقسط.

وأما الجواب عن التاسع فهو أن إمام المسلمين هو رئيس حكومتهم السياسية ،

ويجب عليهم أن يكونوا قوة وشوكة له بمقتضى مبايعتهم له ، وليس معنى قوة الإمام

أن تكون له قوة وعصبية قبل مبايعته وأن يبايع لأجلها كما توهم الكثيرون ، فإن

هذا أصل فاسد مفسد للدين والدنيا إذ مقتضاه أن الحق للقوة فكل قوي يتبع ويطاع

لقوته ، وإن كان ظالمًا عاصيًا له تعالى ، ويقر على سلبه الحق من أهله إلخ؛ وقد

وضحنا هذا في كتاب الخلافة.

وأما الأسئلة المتعلقة بالزكاة فجوابها أن الزكاة كان لها عمال في عهد النبي

صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يجمعونها من الناس ، وكانت تصرف في

مصارفها الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ؛ وللإمام أن يصرف بنفسه وأن يعهد بالصرف إلى غيره كما هو

شأن كل رئيس حكومة أو مصلحة أو شركة ، أما الشورى فإنما يحتاج إليها في

الوقائع والمسائل المشكلة التي ليس فيها نص صريح قطعي ، أو يتوقف تنفيذ النص

فيها على الوجه المطلوب على بحث ، ففي مثل ما ذكر كان الخلفاء الراشدون

يجمعون أهل العلم والرأي ويستشيرونهم، وعلى البلاد التي ليس فيها حكومة

إسلامية تنفذ أحكام الشرع في الزكاة أن يدفعوا الصدقات لمستحقيها بأيديهم ، وفي

مثل نجد واليمن يؤدونها للإمام.

وأما معاملة الخلفاء في نفقاتهم ومعاملتهم فهي منوطة بأهل الحل والعقد من

جماعة المسلمين ، وقد فرضوا للخليفة الأول ما يناسب حالة أمثاله في المعيشة من

حيث هو رجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ثروة كعثمان وعبد الرحمن بن

عوف ولا أدناهم كعمار بن ياسر، ويجد السائل ما يحتاج إليه من تفصيل لأحكام

الإمامة وأهل الحل والعقد في كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) .

***

الاحتيال على الربا بورق النقد

(س18) من صاحب الإمضاء

إلى حضرة الأستاذ الكبير صاحب الإمضاء المنير أدام الله فضله:

ورق النقدي يباع ويُشرى في الأسواق بقيمة غير محدودة ، فهل يجوز للإنسان

أن يبيع قسمًا من الورق النقدي متفقًا مع المشتري في أسعار أكثر من أسعار السوق

الحاضرة لمدة معينة أم لا؟ نرجوكم أفتونا عنها ولكم من الله جزيل السلام.

...

...

...

...

... كاتبه

...

...

...

...

... ياسين السيد

(ج) سبق لنا تفصيل لأحكام الأوراق المالية (بنك نوت) ، فنكتفي هنا

بأن نقول: إن هذه الصورة المذكورة في هذا السؤال ليست صورة بيع وشراء، بل

هي صورة دَين مؤجل بزيادة معينة في مقابل الأجل ، وهو عقد ربوي ظاهر

صريح ليس من قبيل الحيل التي اختلف فيها الفقهاء، وأما اضطراب أسعار ما

يُسمى الورق السوري فسببه معروف ، وهو يشبه فيه نقد الفضة التركي كالريال

المجيدي ، فإذا اختلف سعر الريال إذا صُرف بغيره من نقد المعدن أو الورق فهل

يبيح ذلك إعطاء مائة ريال لرجل على أن يرد لمعطيها مائة وعشرة ريالات بعد

أشهر أو سنة مثلاً؟ وهل يسمى هذا بيعًا؟ لا ، على أن بيع الربويات المختلفة

الجنس التي يجوز فيها التفاضل يشترط فيها التقابض في المجلس ، وإلا كان من

ربا الفضل الذي حرم؛ لأنه ذريعة لربا النَّساء المجمع على تحريمه.

_________

ص: 28

الكاتب: أحمد بن تيمية

إبطال وَحدة الوجود

والرد على القائلين بها

لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

رضي الله عنه

وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضًا من

قول أهل الوَحدة ، وهو مع كفره قول متناقض ، فإنه قد يعلم بالاضطرار من دين

الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد ، وأن أقوال المشركين الذين قالوا:

{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَداًّ وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:

23) والذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3)

والذين قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ

إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 53-54)، والذين قالوا: {حَرِّقُوهُ

وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 68) ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد.

وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجود إن كان أحدًا كان إثبات العدد

تناقضًا ، فإذا قال القائل: الوجود واحد وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان

هذان قولين متناقضين ، فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر ، وإذا قال قائل: الألسنة

كلها لسانه ، فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها ، وذلك يقتضي أن لا يكون

هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة ، وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم

فإنه ينقض قولهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد.

فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود

فهذا صحيح ، لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا

عين وجود هذا ، بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي

يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسم المنطقيون الكلي إلى جنس ونوع وفصل

وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون

أحد المشتركين ليس هو الآخر ، وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات

أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود ، فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا

لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مُبايَنة لوجود كل مخلوق من مباينة

وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر.

وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال: لا يعرف التوحيد إلا

الواحد وتصح العبارة عن التوحيد ، وذلك لا يعبر عنه إلا بغير ، ومن أثبت غيرًا

فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره تناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا

واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه ، وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه

ومن لا يعرفه ، وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من

يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا: من أثبت غيرًا فلا توحيد له، يناقض هذا ،

وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر

عن توحيده ، ورسوله عبر عن توحيده ، والقرآن مملوء من ذكر التوحيد ، بل إنما

أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد ، وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا

مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45)

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا

فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) ، ولو لم يكن عنه عبارة لَمَا نطق به أحد ، وأفضل ما

نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أفضل

الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال: (من كان آخر كلامه لا إله

إلا الله دخل الجنة) لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة

الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يُتَصور تحقُّقه في الخارج ، فإن الوحدة العينية

الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين ، ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى

أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد ، كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما

يتناول كل جسم وكل إنسان ، وهذا الجسم ليس هو ذاك ، وهذا الإنسان ليس

هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك.

وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً- التعبير عن التوحيد

يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله ، فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك

من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه

غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما

لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه ، ففي أحد الاصطلاحين يقال: إنه غير ، وفي

الاصطلاح الآخر لا يقال: إنه غير ، فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد

لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق ،

فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل

مخلوقة في غيره ، فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من

أعظم الإلحاد ، وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا. وإن

كان الواحد المعين لا يُكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها [1] .

وأيضًا فيقال لهؤلاء الملاحدة: إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه

لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما

يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله ، ومعلوم أن مَن جعل هذا صفة لله كان من

أعظم الناس كفرًا وضلالاً ، فمن قال: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل ، فإن

الصفات والأعراض لا تكون عين الوجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن

عربي يقول:

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله ، وأما هذا

اللحيد [2] فزاد على هؤلاء ، فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده ، لم يجعل ذلك

كلامًا له بل يقال: أن يكون [3] هنا كلام له لئلا يثبت غيرًا له.

وقد عُلم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله

تعالى ، وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة

من صفات الله؛ ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح

الإنكار ، قال تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر:

64) ، وقال تعالى:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ} (الأنعام: 14) وقال تعالى:

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (فاطر: 3) ، وقال

تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114)، وكذلك قول القائل: وَجَدتُ المحبة غير المقصود لأنها لا

تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما

يكون إلا من عبد لرب ، لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا - هو كلام

فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يَخفى ، فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين

أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ

لِّلَّهِ} (البقرة: 165)، وقوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54)، وقوله:

{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 24)، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

المُتَّقِينَ} (التوبة: 4)، {يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ

وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في

الحديث الصحيح: (ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله

أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن

يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وقد أجمع سلف

الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له ، وهذا أصل

دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام ، وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن

درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال: أيها الناس

ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ

إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا

كبيرًا. ثم نزل فذبحه.

وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل

وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح ، فإن الإنسان يحب نفسه وليس

غيرًا لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثَم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق

والمؤمنون غير الله ، وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مُقدمتَي الحجة

باطلة قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم فإن الغير موجود ،

والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه؛ ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في

هذا ويقول كما قال ابن الفارض [4] .

وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب ، ولو أنصف الناس ما رأوا

عابدًا ولا معبودًا - كلا المقدمتين باطل ، فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد

نفسه بنفسه كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} (آل عمران: 18)

والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه ، فقد وجد نفسه بنفسه كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ

وَاحِدٌ} (البقرة: 163)، وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ

وَاحِدٌ} (النحل: 51)، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: 19) وأمثال ذلك.

وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض ، فإنه إذا لم يكن عابدًا ولا معبودًا بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله ، فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه:

الفقيرإذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله ، وقد صرح ابن

عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وَيَنْكَحُ

وَيُنْكَحُ ، وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك الكمال عندهم كما قال في

الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور

الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومًا عرفًا

وعقلاً وشرعًا ، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة (وقال) ألا ترى الحق يظهر

بصفات المحدثات ، وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق

يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد ، كما أن صفات

العبد من أولها إلى آخرها صفات لله تعالى.

هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك

الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا يعاملك بموجب مذهبك ، فيُضرب ويُوجع ويُهان

ويُصفع ويُظلم ، فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى قيل له: ما ثَم غير

ولا عابد ولا معبود ، فلم يفعل بك هذا غيرك ، بل الضارب هو المضروب والشاتم

هو المشتوم والعابد هو المعبود ، فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه ، قيل

له: فقل أيضًا عبد نفسه، فإذا أثبت ظالمًا ومظلومًا وهما واحد فأثبت عابدًا ومعبودًا

وهما واحد ، ثم يقال له: هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح ،

وهذا الذي شبع ورَوِيَ هو نفس هذا الذي جاع وعطش ، فإن اعترف بأنه غيره

أثبت المغايرة ، وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا ، فبين العابد والمعبود أولى

وأحرى ، وإن قال: هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية ، فإن هذا القول من

أقبح السفسطة ، فيقال: فإذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه

وأهلك نفسه ، والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء ، لكن جهة أمرها

ليست جهة فعلها ، بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات ، وكل أحد

يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظَلم ذلك ليس هو إياه وليس هو

بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه ، وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة

للمخلوقين من هذا لهذا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا وهم عند كثير من

الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق وأفضل أهل

الطريق، حتى يُفَضِّلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين، لم يكن

بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم بذلك أن

الضلال لا حد له، وأنه إذا كفرت العقول لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من

فرق في نوع الإنسان ، فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو من

شرار الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب،

بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين الذين يفسدون الدنيا

والدين.

والمقصود هنا رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال، وأما توبة مَن

قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن

عباده ويعفو عن السيئات ، ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات،

والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن

غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن

تاب ، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا

عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ

الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين ، وأما قوله:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فإنها

مقيدة خاصة؛ لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق

بمشيئة الله تعالى.

والحكاية المذكورة عن الذي قال أنه التقم العالم كله ، وأراد أن يقول: أنا

الحق، وأختها التي قيل فيها: إن الإلهية لا يَدَعُها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق

الله هو من هذا الباب ، والفقير الذي قال: ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إله

مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب، وسدد الخطاب؛ ولكن

هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله ، ويَدَّعون أنهم [5] من موسى وأمثاله ،

حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلَمَ وحسُن إسلامه ،

وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء ، ودعاه إلى هذا القول وزينه له

فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم ، وأن قولهم من جنس قول فرعون

فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال

نعم ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع

موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولمَ؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون ،

فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً

صادقًا ، قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمن

سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة ، أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول

فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود.

فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل ، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف

معناها وأنه باطل والواجب إنكارها ، فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من

المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون ، لا

سيما وأقول: هؤلاء أشرُّ من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها ، واعتقدها

كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ

وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 73) ، والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًّا من كفار أهل

الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.

وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قُدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى

صحيحًا ، فإن ما يحمل عليها إذا لم يُعرف مقصود صاحبها [6] وهؤلاء قد عرف

مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ، ولهم في ذلك كتب مصنفة

وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضًا ، وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع

في ذلك إلا جاهل لا يُلتفت إليه ، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن

الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل، فإن ضرر هذه على

المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من

ضرر السُّراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سُراق وخونة، فإن هؤلاء غاية

ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببًا لرحمته

في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله

وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله

ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين،

فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنًا وليًّا لله ، فيصير منافقًا عدوًّا لله ، ولقد

ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحاجِّ؛ ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى

قُبرُص فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون

بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى ، وهؤلاء يجعلوننا شرًّا من النصارى ،

والأمر كما قاله هذا القائل.

وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله ، وأن كلامهم كلام العارفين

المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم ، فمنهم من دخل في اتحادهم

وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق

بالمجهولات، وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين، وهم بمنزلة من يعظم أعداء

الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالي المشركين وأهل الكتاب،

ظانًّا أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال

المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين.

وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب، والله أعلم.

(انتهت الرسالة)

(المنار)

أرسل إلينا هذه الرسالة مع رسائل وفتاوى أخرى لشيخ الإسلام وناصر

السنة الإمام أحمد تقي الدين بن تيمية - قدس الله روحه - أخونا في الله الأستاذ

الفاضل الشيخ محمد بهجة الأثري البغدادي بإرشاد أستاذه صفوة أصدقائنا علامة

العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألولسي رحمه الله تعالى، وهي

منقولة بقلم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الفضيلي الزبيدي البغدادي عن نسخة

كثيرة الغلط والتحريف والسقط ، قال: إنه اجتهد في تصحيحها ما استطاع ،

ونقول: إننا اجتهدنا بعده ، فصححنا مما بقي من ذلك ما تيسر لنا ونبهنا على بعض

ما يتيسر في الحواشي ، ونحمد الله تعالى أن صار المراد منها كله مفهومًا،

فنسأله تعالى أن يثيب الجميع: المؤلف والناسخ والمرسل والمرشد والناشر

بفضله وكرمه.

_________

(1)

يعني أن السلف كفروا الجهمية ببدعتهم في الإلحاد بصفات الله وإنكار كونها معاني وجودية قائمة بذاته ، وزعمهم أن كلامه أصوات خلقها في سمع موسى وغيره.

(2)

كذا في الأصل ، فإن لم يكن محرفًا فهو تصغير لاحدٍ، وكيف يصغر الشيخ الأكبر؟ .

(3)

كذا في الأصل ، فيجر لفظًا ومعنى.

(4)

لم يذكر عن ابن الفارض هنا شيئًا.

(5)

سقط من هنا كلمة أعرف أو أعلم أو أفضل.

(6)

المنار: في الكلام تحريف وسقط والمعنى المفهوم من القرينة أنها إنما يصح أن تحمل على معنى صحيح تحتمله اللغة إذا لم يعرف مقصود صاحبها.

ص: 33

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

المقالات الجمالية

(4)

نبذة من مناظرة خيالية للسيد جمال الدين

قال جامع هذه الطائفة من المقالات الجمالية بعد المقالة الثالثة:

ثم انتقل (السيد) حفظه الله من لندن بعد نزوله بها بخمسة عشر يومًا إلى

باريس عاصمة الفرنسيس ، وكان ذلك في شهر يناير سنة 1883 عربية فتلقاه أهلها

بالقبول والإقبال ، ولم يَدَعوه يأخذ راحته حتى التمس أصحاب جرائدها العربية من

حضرته أن يطرز جرائدهم بشيء من غرره.

وقد وقفنا له على فصل من ذلك في جريدة (أبو نظارة زرقاء) ، وكانت

تفرغ الجد في قالب الهزل ، ولكنها لم تستوعب الفصل لضيق مجالها بل وَعَدَتْ

باستيفائه على التدريج في أعدادها التالية ، إلا أننا لم نقف لها على غير ذلك العدد

لعسر الحصول عليها؛ بسبب منع دخولها في البلاد التي نحن فيها ، وعلى ذلك

أثرنا عنها الشذرة التي تضمنها ذلك العدد من الفصل المذكور؛ حرصًا منا على

التقاط فوائد أستاذنا ، قال متعنا الله بطول حياته:

فقال صاحب المقالة: إنكم قد ضللتم عن رشدكم، وتُهتم في بيداء غِوايتكم،

وما يقوم لكم دليل في تقاعسكم عن الذود عن أوطانكم، ولقد غلب عليكم الجبن،

واستولى عليكم الضعف، وأضعف جمانكم الخوف والخشية، ألا ترون أن كل أمر

صعب عند الشروع فيه؟ ، أفلا تشعرون أن صعوبة المسالك بمقدار عظم

المقاصد؟ وأن الراحة محفوفة بالمشاق، وأن أفضل الأعمال أحمزها [1]

أفترضَون بالعبودية للأجانب، والاستكانة للأباعد، وإن موت المرء خير من

بقائه في هذه الدنيا مع قلة مدتها وسرعة زوالها، رقًّا لا يملك من الأمر شيئًا.

أتظنون أن هذا التعلل يدفع عنكم غضب رب الجنود، لا وحقه إنكم إن لم

تدافعوا عن أوطانكم بنفوسكم وأموالكم لا تنالون منزلة لديه، ولا تجدون مخلصًا

من سخطه، وتبقون في ذل العبودية ما دامت الأرض باقية (وكل عذاب دونه

لحقير) فتشجعوا وثبتوا أقدامكم، وسكنوا روعكم، واعلموا أن الظفر مقرون

بالصبر، وأيقنوا أن الراحة والسعادة في أثر المشقة، وأن سنة الله قد جرت من

الأزل، أن لا ينال الإنسان مرغوبه إلا بعد التعب، فلا تقدموا هذه الحجج

الداحضة، ولا تظهروا الفشل في طلب حقوقكم، ولا تتسربلوا الجبن فإن كل جبان

محروم، فاسعوا في اتفاق كلمتكم، واجعلوا صدوركم مِجنًّا لسهام أعدائكم، مجدين

في خلاص بلادكم، واعلموا أن الأمم الغابرة والحاضرة ما نكست رقابها ولا

كسرت أطواق العبودية إلا بتحمل المشاقّ والخوض في غمرات الموت اهـ.

***

كتاب له في الدفاع عن الدولة العثمانية

(5)

وكتب حفظه الله إلى صاحب جريدة البصير التي تطبع بباريس عاصمة

الفرنسيس ، وهو يومئذ لم يزل نزيلها ، وذلك في فبراير عام 1883 غربيًّا وربيع

الأول سنة 300 هجرية قال جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا:

سيدي الخليل بما فُطر عليه من العقل الغريزي الذي دلت عليه عقائل فكاره،

وأنبأت دقائق أفكاره عن فسيح مجاله وسعة مضماره، كان الواجب عليه قبل

الخوض في أحوال الشرق والسلوك في بيداء سياسته، وهتك الستر عن قبائح

رعاته وشنائع ساسته، أن ينظر ببصيرته الوقادة إلى ما أَلَمَّ بالشرقيين من البلايا،

وما أحاط بهم من الرزايا، فإنهم لتفريطهم في إصلاح شؤونهم من قبل قد أشرفوا

على الهلاك، وصاروا بعجزهم عن صيانة حقوقهم غرضًا لكل نابل، وطُعمة لكل

آكل، تستملك الأباعد بلادهم، وتستعبد رجالهم، وتستلب أموالهم، ولا ريب أن

الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال ، التي لا تُنال إلا بهمة

عالية تأبى العبودية، ولا نجاة لهم من هذه المصيبة التي تقهر النفوس، وتوجب

الذل والخمول، إلا بالتفافهم تحت راية واحدة على الذود عن حقوقهم، من دون

ملاحظة الاختلاف في الجنسية؛ لأنهم بتقارب أخلاقهم، وتلاؤم عاداتهم، وتوافق

أفكارهم، صاروا كأنهم جنس واحد، وإن اختلفت لغاتهم فخضوع بعضهم لبعض

مع تناسب طبائعهم لا يبعث على الذل والاستكانة، ولا يزيل النخوة التي هي

الداعية إلى كل فضيلة وكمال، وإذا تفرقت كلمتهم، وتشتَّتت قوتهم، لا يمكنهم

الخلاص من مخالب الذين ينتهزون الفرصة لاسترقاقهم، فيجب على كل شرقي

دفعًا لهذه النازلة، وصيانة لأمته من ذل العبودية، أن يسعى جمعًا للكلمة في تشييد

مباني الحكومات الباقية في الشرق، فإن الأجانب ما وضعوا أيديهم على بلد إلا

عاملوا أهله معاملة الآلة، ولهذا يمكنني أن أقول: إن سيدي الخليل في مقالاته التي

حررها إنهاضًا لهمم الأمة العربية ، وإن كان ما أراد منها الأخير أبناء جنسه، قد

حاد عن صراط السياسية القويمة بتعرضه للدولة العثمانية، وكان عليه أن يفقه أن

هذه الدولة في هذه الأيام، بمنزلة نظام لأجناس مختلفة من الشرقيين يحفظها عن

التفرق والضياع، ويمكِّن كل جنس منها أن يسعى رويدًا رويدًا في إصلاح شؤونه،

ويرتقي إلى مدارج عزه، على حسب كده وجده ، وإذا انقطع هذا النظام وتفرقت

الكلمة، وتشتت الجمع، واستقلت كل طائفة بأمرها فإنها لا تستطيع وقتئذ صون

نفسها عن تطاول الأجانب، ولا تطيق مقاومة الأباعد الذين لا يريدون إلا

استعبادهم، فيصبح كل هذه الأجناس عبيدًا أذلاء لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا،

فلا يُنتظر لهم إذًا كمال، ولا يرجى لهم فلاح أبدًا، وربما اضمحلت جنسيتهم التي

نيطت ببقاء لغتهم، وهذا الموت الذي لا بعث بعده ما دامت الأرض دائرة ، ولا

أشك أن سيدي الخليل لو لمح ببصره لرآني محقًّا في مقالتي هذه، ورجائي منه بعد

الإغماض عما جرى به قلمي أن يتخذ لكبح شِرَّة الأجانب اتفاق كلمة العثمانيين

مسلكًا لجريدته الغراء ، ويبني خدمته لعموم الشرق على أساس سياسته،لا زال

هاديًا للعباد إلى سبيل الرشاد اهـ.

قال جامع المقالات:

وقد كانت هذه الرسالة سببًا في عدول تلك الجريدة عن مشربها الأول ، إذ

كانت شديدة الانحراف على الدولة العثمانية كما هو مذهب كثيرين من بعض

الطوائف المستظلين بظلها لا زال وارفًا، ثم استقامت واعتدلت بعد أن التمست

لنفسها العذر عما كان من رأيها فيما أجابت به أستاذنا، ثبتها الله على صراطها

الأخير وألحق أمثالها بها، وأكثر في المسلمين من مثل سيدنا وأستاذنا وأطال بقاءه

للدين والدنيا.

_________

(1)

أحمز الأعمال أمتنها اهـ ، من القاموس زاد في شرحه وقيل: أمضها وأشقها.

ص: 44

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدين والسياسة

وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم

قد سبق لنا بحث كثير في موضوع هذا العنوان نشر بعناوين متعددة ، وفي

أثناء التفسير وغير التفسير من أبواب المنار، فقراء المنار يعلمون أن المدارس

الإفرنجية والمدارس المتفرنجة على اختلاف أنواعهما من تبشيرية أنشئت لدعوة

النصرانية، و (علمانية) أنشئت لمقاومة الأديان أو بمعزل عنها - ومن رسمية

للحكومات المتفرنجة كالتركية والمصرية - ومن أهلية أيضًا - كلها قد أخرجت

للشعوب الإسلامية نابتة مضطربة في أمر دينها ودنياها وسياستها وآدابها، يقل فيها

من يعرف دينه معرفة صحيحة، ومن يحافظ على آدابه وفرائضه تقليدًا أو على

بصيرة، ويقل في المتدينين منهم مَن يدري كيف يجعل ما استفاده من علوم

العصر وفنونه غذاء معنويًّا لأمته وقوة وعزة لملته؛ لأن أكثرهم لم يحصل من

العلوم والفنون ما يؤهله لعمل ينهض بالأمة نهوضًا ماديًّا أو معنويًّا ، وإنما تلقوا

قليلاً من المبادئ هم فيها مقلدون كما أن أكثرهم مقلدون في الطعن بدين أمتهم

لبعض ملاحدة الإفرنج مع الفرق العظيم بيننا وبينهم في ذلك، ولا سيما فيما يسمونه

الفصل بين الدين والسياسة، وفي براءة أوربة من التعصب الديني وهي مثاره

وأتون ناره.

ولكن يكثر فيهم الهادمون لبناء أمتهم وملتهم باحتقار مقوماتها التي كانت بها

أمة ذات صلة ممتازة كالدين والتشريع والأخلاق واللغة، ومشخصاتها التي تعد

مزيد رسوخ في مقوماتها وتميزها كالتقاليد القومية والأزياء الوطنية والعادات النافعة

وهم في هدمهم لبنيان أمتهم يحسبون أنهم يبنون لها بنيانًا جديدًا خيرًا مما بناه لها

التاريخ ، فكانت به أمة ممتازة في الوجود لها تاريخ عظيم فيه من دين بلغ الذروة

العليا في التهذيب، وشرع عادل رفعها فوق رؤوس الأمم قرونًا كثيرة، وفتوحات

شهد لها فلاسفة التاريخ من الإفرنج بأن تاريخ البشر لم يعرف لها مثلاً في جمعها

بين العدل والرحمة إلخ.

ولو كان لهؤلاء رسوخ قدم في العلم والحكمة وحظ عظيم من فنون العصر

لأحدثوا لأمتهم قوة وثروة يجددان مجدها، مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها التي

أشرنا إليها، بدلاً من محاولة قتلها وإعادة خلقها.

صدق على هؤلاء الهادمين وعلى المدارس التي تخرجوا فيها قول اللورد

سالسبوري الوزير البريطاني المشهور: إن هذه المدارس التبشيرية أول خطوة

لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها - فإنها تخَرَّج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في

عقائدها وأفكارها وتقاليدها فتحدث فيها صدعًا وشقاقًا تنقسم به على نفسها - على

تعبيرهم - فيقتلها هذا الانقسام بأيديها (أو ما هذا معناه) ، ولم يذكر اللورد

بالصراحة أن ما تحدثه هذه المدارس من إفساد العقائد يتبعه فساد الأخلاق وغلبة

الأفكار المادية ، وحب الشرف والزينة والشهوات على المتخرجين فيها ، فيحول

ذلك دون اتفاقهم حتى فيما يفتتنون به من أمور التفرنج.

وإننا نرى من مصداق كلامنا وكلام اللورد من قبل أن متفرنجة الترك قد

هدموا تلك السلطنة (الإمبراطورية) الراسخة الأساس، الواسعة المقياس، وانتهى

أمرهم إلى إمارة صغيرة طردوا منها الشعوب المسيحية، وهم الآن يقاتلون فيها

الشعب الكردي الذي يلي الشعب التركي في العدد والبأس والقوة، ونرى الشقاق

بالغًا غايته بين هؤلاء المتفرنجين المرتدين وبين أهل الدين والمحافظة على التقاليد

الإسلامية من الشعب التركي نفسه ، فحكومته تسفك ما بقي من دماء شبانها وتفني

بقايا ثروتها القليلة في مقاومة الفتن الداخلية والحروب الوطنية، ونرى من مصداق

ذلك أيضًا هذا الشقاق بين أحزاب الشعب المصري الذي بلغ غايته في هذا العام،

ولا يعلم غير الله ما سيكون من سوء مغبته إن دام.

من المعلوم عند كل من يعرف الإسلام أنه دين وتشريع سياسي قضائي ونظام

اجتماعي، وأنه حكم عربي كما نطق به كتابه المنزل، فإن كان من مثار العجب

أن يحاربه ملاحدة الترك إيثارًا للعصبية اللغوية على عصبيته ، بعد أن كان لهم به

من العزة والسلطان ما كان، ولم يكن لهم بلغتهم أدنى قيمة في الوجود ، فأعجب من

ذلك أن يقوم من متفرنجة العرب أنفسهم من يحارب الإسلام، بعد أن كان لأمتهم به

من المجد والملك والسلطان والحضارة والعلوم والآداب ما كان ، وكانوا به أئمة

لمئات الملايين من غير أبناء جلدتهم ، يقتبسون دينهم من القرآن العربي والسنة

العربية ، ويتدارسون اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها، ويحجون إلى

بُهرَة البلاد العربية يتقربون بذلك إلى الله تعالى ، وكل من لم يفسد التفرنج عليهم

أمر دينهم ، يفضلون الشعب العربي على شعوبهم ، حتى إن مسلمي الهند الصادقين

في الإسلام يفضلون استقلال العرب على استقلالهم وسعادة بلاد العرب وسلامتها

من عدوان الاستعمار على سلامة وطنهم.

مع هذا كله نجد بعض ملاحدة المتفرنجين من العرب يحاربون الدين

الإسلامي نفسه ، ويطعنون به ويصدون عنه، ويرون من تقليد الترك وغيرهم في

العصبية الجنسية أن يعادوا جميع الشعوب الإسلامية حتى الشعب الهندي الذي يدافع

عنهم، وتبذل جمعياتهم السياسية من الجهاد بالمال والنفس في سبيله ما لم نبذل

عشره جمعية عربية، ويعدون إمامهم في عصبيتهم هذه الشريف حسين بن علي

المكي وأولاده الذين كانوا بحركتهم العربية أكبر مصيبة على العرب وخدمة

للأجانب ، كما فصلناه في المنار وفي غيره من الجرائد بالبراهين التي لم يستطع

أحد من أنصارهم رد شيء منها.

ومن سوء الحظ أن الجرائد العامة تنشر لهؤلاء الملاحدة آراءهم حتى

للجاهلين منهم الذين لا يرجعون فيما يكتبون إلى شبهات علمية ولا سياسية تستحق

الذكر، أو تستأهل الرد، ومن ذلك ما رأيناه مرارًا في جريدة البيان العربية الغراء

التي تصدر في نيويورك عدة مقالات في ذلك كان آخر ما نُشر منها رد وطعن علينا

في خطتنا السياسية الإسلامية ، وفي فهمنا للدين وتفسيرنا للقرآن، والكاتب لم يقرأ

من تفسيرنا شيئًا، ولم يطلع على المنار أيضًا، ولو اطلع عليهما لا يفهم منهما

شيئًا مما نقصده فهمًا صحيحًا؛ لضعفه في اللغة العربية وجهله التام بنحوها وبيانها

كما تدل عليه عبارته المملوءة بالغلط ، وذكره لبعض آيات القرآن محرفة.. ثم

هو مع ذلك يسند إلينا من الأقوال الدينية والسياسية ما لم نقله بل ما قلنا ما يخالفه،

وينفي عنا من الأقوال والأفعال ما هو ثابت لنا ومعروف عنا ومنشور في مجلتنا،

وكذلك شأنه فيما ينقله عن غيرنا وما يسنده إلى التاريخ.

لهذا لم يخطر في بالنا أن نرد على شيء مما كتبه، وإن وقتنا لأضيق وأثمن

من أن يصرف في مثل ذلك، ولدينا من الأعمال ما هو خير منه وأنفع - ولكن

بعض كبار الكتاب السياسيين حملته الغيرة على الحق والخوف على أغرار قراء

تلك الجريدة الواسعة الانتشار ، فيقرؤها العوام والخواص أن يغتروا ببعض ما يكتبه

هذا الرجل - على كتابة رد طويل على نوع من مزاعمه الباطلة الضارة، كما أن

بعض الكتاب المدققين المطلعين على بعض أجزاء المنار والعارفين بسيرتنا في

السياسة العربية والإسلامية كتب ردًّا آخر دافع به عنا، ونشر كل منهما في جريدة

البيان نفسها، فنشكر لكل منهما غيرته، وننشر الرد الأول العام، لأنه مفيد

للخواص وللعوام، وهذا نصه:

***

العالم الغربي والعرب والإسلام

لا حيلة لك مع المكابر بالمحسوسات

قد كان الناس يتمثلون بقول القائل:

لي حيلة فيمن ينم

وليس في الكذب حيلة

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليلة

ولكن نسوا أن هناك من تقل معه الحيلة مثل الكذاب وأكثر وهو المجادل

المكابر في المحسوس ، الذي لا يجبن عن أن يقول للشمس الطالعة في رأد الضحى:

إنها ظلام، والذي يخلق أيضًا التواريخ لتأييد حجته وينكر الوقائع الثابتة المشهودة

لتأييد حجته، ويتخيل ويخيل الأمور على ما يريده هو لا على ما هي عليه في

الواقع، يهجم على المسائل التي يكاد يعرف منها شيئًا كأنه قتلها علمًا، ولا يتوب

بعد أن يكون ظهر خطؤه في قضية أن يتوخى المكابرة في قضية أخرى ومن الأول

إلى الآخر قصارى كلامه (عنزة ولو طارت) .

فمن العبث أن تقول له: إن الناس لا تقدر أن تعيش بلا دين ، وإنه لم يعهد

إلى اليوم أن شعبًا عاش بدون دين ، وإن أوربا باقية على نصرانيتها، وإن التعليم

المسيحي لا يزال يعلم في أرقى المدارس والكليات في أرقى الممالك من شمالي أوربا

مثل إنكلترة والدانمارك وهولندة والسويد وألمانية، وإنهم يعلمون كون المسيح

هو ابن الله إلى هذه الساعة، وإنهم لا يريدون أن يعرفوا أنفسهم إلا مسيحيين.

ومن العبث أن تقول له: إنه حيث كان الدين لازمًا للشعوب فهو في نفسه قوة

عظيمة لا تقدر حكومات هذه الشعوب أن تتعرض لها بمهانة أو بجهالة حتى لا

يصيبها من أجل ذلك ضرر، وتحصل هزاهز وفتن، وإنه ليس من باب خلط

الدين بالسياسة أن يلجأ رجال السياسة إلى الدين، إما في تهذيب الأخلاق أو في

السعي لتوهين روح الإجرام والدعارة، أو في النضال عن استقلال الأمة، أو في

تقوية الروابط مع أمم أخرى ، والاستفادة من تلك الروابط المؤثرة والعوامل الراهنة

التي ليس إنكارها إلا محض حماقة.

ومن العبث أن تقول له: إن أوربة الراقية لم تهمل أيضًا هذه الروابط ولا

استخفت بها ولا وجدتها بدعة في السياسة، وإن ملك إنكلترة الراقية العظيمة بل

العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية، وإن

إمبراطور ألمانية هو رئيس الكنيسة اللوثيرية، وإن إمبراطور النمسة كان على

رأس مملكة راقية جدًّا ، وكان يُخاطَب بـ (ذي الجلالة الرسولية) إشعارًا بصفته

الدينية، وإن المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلترة وهامة حزب الأحرار كان

قسيسًا ، ومن أشد الخلق تدينًا لا بل تعصبًا، وإن دولة فرنسة التي يقال: إنها لا

دينية تنعت نفسها (بحامية النصارى) في المشرق ، وإن غمبتا ركن الجمهورية

والسياسة اللادينية كان قد قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً: (عداوة رجال الدين

ليست من بضائع التصدير) وإنه إن لم يكن الدين رابطة فأية رابطة بين فرنسة

والموارنة وهم ليسوا بلاتين ولا بأوربيين ، بل هم آراميون ساميون أبناء عم

العرب وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم ، عبثًا

تقول له ذلك؛ لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح ، وأوربا تركت الدين.

وكذلك من العبث أن تقول له:إن الأوربيين الذين تقول: إنهم نبذوا الدعوة

الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية ، ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ

ما يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند؟ أفلم

تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس ورومية؟ أفما قرأت ماذا كانوا

يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنكليز أثناء الحرب العامة من كون ذلك هو

الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية

التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة

الحرب الصليبية على يده؟ أفما عرفت أن الجنرال غورو نفسه كان لأول وصوله

إلى بيروت وعند الاحتفال بقراءة أمر تعيينه ألقى خطبة أشار فيها إلى الحرب

الصليبية ، وقال: إن بداية علاقات فرنسة بسورية هي من أيام الحرب الصليبية؟

أفما عرفت أن الذي عين غورو على سورية هو نفس كليمنصو الذي هو عدو للدين

المسيحي ولكنه ليس بعدو للسياسة التي قد ينفعها الدين المسيحي؟ أفما علمت أن

سبب صرف (ويغان) وهو كاثوليكي أيضًا وإرسال سرايل [1] مكانه هو لكون

الوزارة الحاضرة علمت أن عدم نجاح فرنسة في سورية ناشئ عن أسباب عديدة

من أهمها: اعتقاد المسلمين أن فرنسة لا تزال تابعة هناك سياسة دينية لهم عليها

دلائل كثيرة من مثل بناء الكنائس بأمر السلطة المحتلة في بلدة درعا ، والاحتفال

بتنصير من يتنصر من السنغاليين ، وتقديم اسم النصارى على اسم المسلمين من في

الدفاتر الرسمية ، وكذلك تقديم بطريرك الموارنة على مفتي الإسلام في المحافل ،

وتهديد المفتي بما يسوءه إن أبى الخضوع لهذه القاعدة ، فأراد المسيو هريو أن

يسهل مأمورية فرنسة في سورية ، بإقصاء المندوبين الذين ينفرون المسلمين

بسياستهم الكاثوليكية ، وإرسال مندوب سام معروف بكره الأكليروس تزلفًا إلى

الإسلام، ومع هذا لم يخْلُ هذا الانتخاب من إثارة الاعتراضات من جهة الأحزاب

الوطنية بفرنسة ، حتى إن المسيو ميلران رئيس الجمهورية السابق اعترض عليه

في خطابه.

ومن العبث أن تقول للمكابر في المشهودات: إن الشيء الذي أنت تبرئ

أوربة منه وتتحمل له صنوف التأويلات إذا وقع لا تتنصل أوربة منه ولا تجده

إرَّا، وإن بعض وزراء الإنكليز صرح أثناء حرب البلقان بكونه مغتبطًا

برجوع مدينة سلانيك إلى النصرانية؛ لكونها من مهاد النصرانية ، وإن الدول

البلقانيات الأربع عندما أعلنَّ الحرب على تركيا كان بلاغهن متضمنًا أن حربهن

لتركيا هو حرب الصليب للهلال، ولو علمت تلك الدول أن بلاغًا مفرغًا في هذا

القالب يسوء وقعه في أوربة ما كانت حررته بهذه الصورة ، بل لك أن تقول: إنها

ما حررته بهذا الشكل إلا استمالة للرأي العام الأوربي ، ولا تنس خطاب ألفونسو

الثالث عشر ملك أسبانية الذي كان من جملة نقاط القدح الذي قدحه فيه

الكاتب الروائي الأسبانيولي بياسكو إيبا نيز هو قول الملك: (إن أسبانية اشتهرت

من القديم بقتال المسلمين ، وهذه النوبة هي مصممة على أن لا تترك قتال

مسلمي الريف حتى تنصب الصليب هناك محل الهلال) وغير ذلك من الألفاظ

التي يقول الكاتب الأسبانيولي: إنها زادت هيجان المسلمين ، وكانت السبب في

إتلاف الألوف من مهج الأسبانيول ، وإن الملك مسئول عن ذلك بحماقته - أي

بإعلانه ما كان يجب أن يُعمل ولا يُعلن - ومع كون إيبانيز أصاب في انتقاده ، فهو

اليوم تحت المحاكمة في فرنسة من أجل طعنه بالملك ألفونسو هذا.

ومن العبث أيضًا أن يستشهد الإنسان على عواطف أوربة الدينية ، بل على

سياستها الدينية بما تبذله الحكومات من الأموال الجزيلة في المستعمرات مساعدة

للبعثات الدينية الساعية في تنصير أهالي آسية وأفريقية ، ولو كان المراد

تنصيرهم هم الفتيثيين أو الوثنيين لكان هذا نعم العمل ، لكن البعثات الدينية غير

مكتفية بتنصير الوثنيين بل تدأب أيضًا في تنصير المسلمين بجميع الوسائل ،

وتسابق المسلمين إلى استمالة الوثنيين منادية بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو

أسلم الوثنيون.

وإنك لتجد في أواسط أفريقية وغربيها وجنوبيها وماداغسكر وشرقي أفريقية

بعثات دينية بروتستانية وكاثوليكية ، لا تعد ولا تحصى كلها تنفق القناطير المقنطرة

من الذهب ، تحميها حكومات أوربة وأميركا بأجمعها ، وتؤيدها بالأموال والنفوذ

وبكل وسيلة ، وقد تتعرض للدعاية الإسلامية بقدر الإمكان وتضيق عليها ، كما فعل

ضباط الإنكليز في الأوغاندة عندما رأوا انتشار الإسلام بين أهالي تلك البلاد ،

فوقفوا سدًّا حائلاً في وجهه ، بل قاوموا البعثات الكاثوليكية ، ليخلو الجو للدعاية

البروتستانية، وكذلك الحكومة الفرنسية في ماداغسكر تقاوم دخول من يدخل من

الماداغسكريين في الإسلام ، ولا تريد أن تعترف رسميًّا بوجود مسلمين في تلك

الجزيرة حتى لا يتحول جانب كبير من أهلها إلى الإسلام ، فأنت ترى من هذا

وغيره وألف مثال يضيق المكان عن استيفائها أن السياسة الأوربية ليست بمعزل

عن الدين ألبتة ولو كابر المكابر وناكر المناكر.

وقد يقول: إن هذه الحماية التي تبسطها حكومات أوربة للرسالات الدينية

المنتشرة في كل أفريقية وآسية وجزر الأوقيانوس إنما تقصد بها مآرب استعمارية

لا دينية محضة ، وهذا لا يضر شيئًا في جوهر الموضوع ، بل يزيد موضوعنا

تأييدًا وهو أن رجال السياسة ولو كانوا في أنفسهم غير متمسكين بالدين ، يقدرون

قدر نفوذه على الخلق ، ويجتهدون أن يستثمروه لفائدة حكوماتهم.

ومن الفضول أن نذكر للمكابر ما بذلته حكومة هولندة من المساعي في تغيير

عقائد مسلمي الجاوى وسومطرة بواسطة الرسالات التبشيرية ، وكونها وقفت

لتنصير بضعة عشر ألف مسلم ، ولكن لمّا رأى الهولنديون أن هذا العدد قليل

بالقياس إلى الخمسة والثلاثين أو الأربعين مليون مسلم القاطنين بتلك الجزائر خطر

ببال بعض نواب مجلس الأمة في هولندة أن يقترحوا على الحكومة عدم الاعتراف

بإسلام أكثر من خمسة ملايين منهم ، وهؤلاء الذين أسلموا منذ أربعة قرون، وأما

الذين أسلموا منذ القرن الماضي أو الحالي فلا يعتبرون مسلمين ، ولم يمنع الحكومة

الهولندية أن تأخذ بهذا الرأي سوى قيام بعض العقلاء المحنكين ممن خبروا أحوال

تلك البلاد ، وتحذيرهم من العمل بهذا الرأي الذي إن كان له أقل حظ من الإجراء

ثارت هناك ثورة لا نهاية لها ، وقالوا لأولئك المقترحين: إن الخمسة والثلاثين

مليون مسلم هناك القديم منهم في الإسلام ، والحديث هم في درجة واحدة من

الاعتصام بدينهم ، فلا نجني من هذا الرأي إلا الثورة ، فيا ليت شعري إذا كانت

هولندة لا فرق عندها بين المسيحي والمسلم ، ولا تنظر إلى الدين فلماذا يهمها إلى

هذه الدرجة أن يخرج رعاياها المسلمون من الإسلام فيما لو أمكن؟ ولماذا تخصص

فرنسة في جزائر الغرب جوائز لا تُعطى إلا للأوربي أو اليهودي أو المسلم الذي

يرضى أن يتنصَّر؟

وليقل لي المكابر أي علاقة من جهة القومية أو الوطنية بين الإنكليز وبين

النساطرة في العراق حتى نظمت منهم جيشًا ، واتخذتهم لها بطانة منذ أول احتلالها؟

بل أية علاقة بين الإنكليز والأرمن إن لم تكن العلاقة الدينية؟ فإن قيل: إن

سبب انعطاف الإنكليز وسائر الأوربيين نحو الأرمن هو كونهم أصيبوا ونكبوا وتلك

المذابح التي جرت ، أجبناك أفلا توجد أمم وأقوام إسلامية أصيبت ونكبت وذبحها

المتغلبون عليها بعشرات الألوف ، فهل هز ذلك من أوربا أقل عاطفة؟ أفلم يُنكَب

الجركس وأهل الطاغستان سنة 1866 وأجلى منهم الروس بقية السيوف وهم

نصف مليون نسمة إلى الأناضول ، فمات أكثرهم بالحمى والجوع، فمَن مِن أمم

أوربة اهتز لمصيبتهم؟ أفلم يذبح الأرمن هؤلاء عشرات ألوف من مسلمي شرقي

الأناضول؟ وروى القائد العام الروسي الذي كان يحارب الأتراك في جهة أرضروم

أنه لولاه لم يدع الأرمن مسلمًا واحدًا بعد انهزام الأتراك عن أرضروم وطرابزون

ووان ، وورد في تقاريره وتقارير غيره من قواد الروس إلى حكومتهم - وهي

تقارير قد طبعت بعد الحرب - تفاصيل فظائع أوقعها الأرمن بالمسلمين ، لا يكاد

الإنسان يصدقها لولا ورودها في تقريرات رسمية من قواد الجيش الروسي أعداء

الترك إلى مراجعهم ، يخبرونهم بوقائع الحال ، ومن جملتها أن الأرمن كانوا

يجمعون المئات والألوف من الأتراك والأكراد إلى الجوامع رجالاً ونساء وأطفالاً ،

ويشبون فيها النار فتحترق بكل من فيها ، وأنهم كانوا يحفرون أخاديد وحفرًا يدفنون

فيها المسلمين أحياء بين رجال ونساء وأطفال (وفي مرة أخرى نذكر هذه الوقائع

تفصيلاً نقلاً عن تقريرات القواد الروس؛ لأنها ليست تحت يدي في هذه الساعة)

وفي أحد المواضع التي ذهب عن بالي اسمها الآن دفنوا ثمانمائة نسمة أحياء منهم

كثير من النساء والأطفال.

هذه شهادات الروس عدا شهادات غيرهم ممن شهد بعينه من الإفرنج ، وروى

الحق فلندع جانبًا شهادات الأتراك ، وهذا لا يمنع قولنا: إن الأرمن أيضًا ذاقوا من

النكبات ما هو عبرة في التاريخ ، وخلت منهم جميعًا الأناضول، ولسنا نحاول

تخفيف أخبار مصائبهم ، ولكننا نقول: إن أوربة تهتز كلها لمصيبتهم ولا تتحرك

لها عاطفة تذكر لمصيبة المسلمين فلماذا؟ أتراه لكون الأرمن أوربيين؟ كلا ، إن

هو إلا لكونهم مسيحيين ، وربما قيل: إن أوروبة ربما لم تكن تعلم بما وقع من

المصائب على المسلمين ولو علمت ذلك في حينه لم تتأخر عن إغاثتهم، وجواب

هذا بل أوربة كانت محيطة علمًا بكل شيء ، وأتذكر أنني قرأت تلغرافًا في جريدة

الطان بتاريخ أحد أيام تموز سنة 1920 واردًا إليها من مراسلها في القوقاس يذكر

المذابح التي قد أوقعها الأرمن بالمسلمين في بلاد أريفان ، وأنهم في يوم واحد ذبحوا

منهم عشرة آلاف، وأن مئات ألوف منهم جلوا إلى إيران وآذربيجان وكرجستان

إلخ ، ومثل ذلك المذابح التي أوقعها الأروام بالترك في ولاية أزمير وبنفس أزمير

ولا سيما بايدين، وقد كانت بمرأى من كثير من الأوربيين، وأقام بعضهم أشد

النكير عليها، وبعد ذلك طلبت حكومة الآستانة من أوربة التحقيق بواسطة لجنة

دولية ، فذهبت وفحصت وثبت وقوع المذابح ، وعادت فألقت بتقريرها إلى مؤتمر

باريس وجرى توبيخ الحكومة اليونانية على ما جرى ، وهذا كل ما وقع ، إنما

جمعية الصليب الأحمر في سويسرة التي لا ينكر أحد ما لها من المساعدات في هذه

المواقف عندما أرسلت وفدًا لإغاثة منكوبي الأروام ، لم يسعها إلا أن تشرك معهم

منكوبي الأتراك.

وبالاختصار لا يوجد عاقل يقدر أن يقول: إن المسلمين هم والمسيحيين شرع

في نظر أوربة ، والشاهد (الأخير) أنه لو كان أهل الريف مسيحيين لكان الريف

قد امتلأ اليوم ببعثات الصليب الأحمر من أوربة وأميركا وبالأطباء والصيادلة

والمتطوعين والممرضين ، أهل الريف مسلمون ، فلذلك لا يساعدهم من أوربة أحد

حتى في الأمور العائدة للإنسانية ، ومهما قتل الأسبانيول منهم فأوربة تجد ذلك أمرًا

طبيعيًّا ، وإذا ماتوا من الجوع تأسَّف بعض الأوربيين عليهم من بعيد [2] .

إذًا فمن النفخ في غير ضرم أن نقنع المكابر بأنه ما دامت حالة أوربة

الروحية هي هذه فالعالم الإسلامي لا يمكنه ترك عواطفه الدينية ، ولا نبذ تلك

الرابطة ظهريًّا [3] .

وكذب وبهتان واختلاق على الناس دعوى بعضهم أن الرابطة الإسلامية تدعو

العربي أن يكون عبدًا للتركي؛ لأن الإسلام سوَّى بين المسلمين ومَنْ مِنَ المسلمين

ظلم أخاه حق لهذا أن يدفع عنه ظلمه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن

سَبِيلٍ} (الشورى: 41) ، وكل من يثير هذه الدعوى التي لم يقُل بها أحد ملقيًا

على دعايته الإفرنجية ستار الحمية العربية ، فإنما هو داعية إلى السيطرة الأوربية

على المسلمين يحاول أن يهونها عليهم ويسيغها في حلوقهم، فتجده بكرة وأصيلاً

يكرر ألفاظ: تركيا وترك وأتراك ومستتركين ، وهو ينسى أن هذه الجعجعة لا

تخفي شيئًا من الحقائق ، وأنه لم يقل أحد: بجواز استعباد الأتراك للعرب ولا لغير

العرب حتى ولا للروم ولا للأرمن ، ولكن كنا نحب أن نرى حمية هؤلاء الأدعياء

في العربية الذين يلقون دروس العروبة على مثل الإمام يحيى وابن سعود

ويتهمونهما بالشعوبية ، كنا نحب أن نراها تظهر في مقاومة الإنكليز وغيرهم من

الأمم المستعمِرة الأوربية ، والحال أن ضمائرهم التي تنطوي على السرور بخضوع

المسلمين (لأمة راقية مثل أميركا) قد ينم عليها مثل هذه الجملة وغيرها مهما

حاولوا الإنكار ، فإذا كان يجوز خضوع المسلمين لأمة راقية كأميركا فلماذا لا

يجوز خضوعهم لأمة راقية كإنكلترة أو لأمة راقية كفرنسة مثلاً؟ فقد ظهر من هنا

المرمى والمغزى من هذه الدعاية ولو تظاهر المتظاهر بالعكس.

وأما الإسلام فلا يأمر بإطاعة الظالم سواء كان ذلك تركيًّا أو عربيًّا ، ولكنه لا

يجيز إطاعة غير أهله ، وهو في هذا مطابق للروح الأوربية التي معناها استقلال

كل أمة بنفسها وعدم قبول سلطة أجنبية عليها، ولو كانت تلك السلطة صادرة من

أمة أرقى من تلك الأمة ، فإن درجات الرقي لا تصح في أوربة فَيصلاً لمسألة

الاستقلال ، وكل أمة تعتقد أن حكم أمة أخرى عليها ولو كانت أرقى منها يفضي

إلى بوارها ، فلذلك كان مبدأ الاستقلال مقدَّمًا في أوربة على مبدأ سلطة الأصلح ،

فمما لا شك فيه أن إدارة ألمانية هي أصلح من إدارة بولونية ، وأن ألمانية أقدر على

إفادة سليزية من بولونية ، ولكن تفوق الألمان على البولونيين في الإدارة والعلم لا

يسلب البولونيين حق الاستيلاء على ما أهله بولونيون من سليزية، كذلك الإنكليز

أقدر من الأيرلنديين على إدارة أيرلندة ، ولكن أوربة ترى حقًّا أن يتولى الأيرلنديون

إدارة أنفسهم؛ لأنهم شعب مستقل بنفسه وهلم جرًّا.

والظاهر أن بعض الذين يدعون التمحض في العربية ولا نرى منهم هذا

التمخض إلا فيما يتعلق بعداوة الأتراك ضائقة صدورهم بنفرة العرب من الإنكليز

وعدم انقيادهم لهذه (الأمة الراقية) ، وأكثر سخطهم هو على أهل اليمن؛ لأنهم

سمعوا أن اليمن بقي أثناء الحرب متمسكًا بالدولة العثمانية ، لا بل حارب الإنكليز

ومحاربة اليمانيين للإنكليز زلة لا تغتفر ، ورفض الإمام يحيى عقد أي معاهدة مع

الإنكليز شيء مؤسف عندهم ، ودليل على قوة النعرة الدينية في اليمن وعلى كونهم

يميلون إلى الأتراك بسبب الجامعة الإسلامية، فهذا مما ينبغي أن لا يكون ، وأرقى

رجال العرب عند هذه الفئة هو الحسين لكونه عاهد الإنكليز وحالفهم ، ولو كانت

نتيجة هذه المحالفة ما كانت.. وكأن الحسين الآن يَهتِم أنامله عضًّا من الندم، ويليه

ابن سعود في الرقي لكونه عاهد الإنكليز ولم يحاربهم، فهذه شهادة لا بأس بها بحقه،

ولكنه لا يبلغ درجة الحسين الذي رضي أن يحالفهم ويحارب في صفوفهم ، وأما

الإمام يحيى فهو أشد أمراء العرب تأخرًا، أفلم تعلم أنه حارب الإنكليز ، وأنه

يعتصم بالجامعة الإسلامية؟

نعم إن أهل اليمن والإمام يحيى مسلمون ويريدون أن يبقوا مسلمين كأهل نجد

وأهل الحجاز وغيرهم ، وكما يريد أن يبقى أهل أوربة مسيحيين وأهل أيرلندة

كاثوليكا وأهل الأولستر من أيرلندة بروتستانتا، وليس أهل اليمن ببدع في هذا

الأمر ، بل حسبهم أن يقتدوا بالعالم المتمدن في المحافظة على دينهم ، وأما نفور

أهل اليمن من الإنكليز فلكون الإمام يحيى وكبار اليمن يعلمون أنه لا يوجد في نظر

الإنكليز أمة ينبغي لها سلب الاستقلال بل الاضمحلال مثل العرب ، فإنه ما دامت

الهند موجودة في الدنيا فأعدى أعداء الإنكليز هم العرب ، وأكره شيء إلى إنكلترة

هو قيام دولة عربية مستقلة تحول بين إنكلترة وبين هندها ، فالإمام يحيى لم يَخْفَ

عليه الذي خفي على غيره وعلم موطن الداء وتجنبه ، وحافظ على ولاء الأتراك لا

حبًّا بالأتراك بل بوطنه وأمته، لأنه يعلم أن الإنكليز هم أعداء العرب ، ولا يجهل

أطماعهم في اليمن ، ويرى من الحكمة أن يمد يده إلى الأتراك ليكونوا وإياه على

الإنكليز وعدو العدو صديق كما لا يخفى.

وأما تعليم هؤلاء لمثل الإمام يحيى العربية والعروبية فهو والله من أبدع

النكبات التي سمعناها ، إذ إن لم يكن الإمام يحيى عربيًّا وملجأ للعرب فمن هو

العربي يا ترى؟ يعيبون الإمام يحيى بموالاة الأتراك ومَنْ مِنَ العرب قاوم الأتراك

مقاومة الإمام يحيى؟ ومن ذا الذي جرد عليه الأتراك المرة والمرتين والثلاث المائة

تابورًا والمائة والخمسين تابورًا وعجزوا عن تدويخه؟ أفمثل هؤلاء يعير الإمام

تحيى بنقص الحمية العربية؟ وهل الملك حسين كان قادرًا على الوقوف في وجه

الأتراك لولا وجوده في صف الإنكليز؟ فلو كان الإمام يحيى انحاز إلى الإنكليز

أثناء الحرب لكان (راقيًا) ولو خدعه الإنكليز كما خدعوا الحسين لكان معذورًا كما

معذور الحسين.. إذ كان يكفيه من الشرف أنه يكون عاهد الإنكليز أعداء المسلمين

عمومًا والعرب خصوصًا ، وحارب في صفوفهم ، وأثبت عدم مبالاته بالرابطة

الإسلامية ، وبرهن على رقي أفكاره.. . وبعد ذلك فليكن ما كان أوَلَيْسَ أنه يكون

قد حارب الأتراك وحالف الإنكليز؟

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

ويغان هو القائد الفرنسي الذي خلف غورو في سورية ، وسرايل هو القائد الذي خلف ويغان.

(2)

المنار: بل سعينا نحن في مصر باسم جمعية الرابطة الشرقية ، وسعى غيرنا فيها وفي الهند؛ لإرسال بعثة طبية لمداواة جرحى الريفيين ، فتعذر ذلك وتوسلنا هنا إلى الوزير الفرنسي المفوض ، فتوسط لنا لدى دولته بكل همة وسرعة وكانت النتيجة أن فرنسة لا تسمح لنا بإرسالها من حدود المغرب الذي يئط تحت حمايتها.

(3)

بل لا نترك ولا ننبذ وإن تغيرت حالتها ، ولكن نسالمها إذا سالمتنا.

ص: 47

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إيقاظ الغرب للإسلام

نقتبس ما يأتي من هذا الكتاب الذي ألفه (اللورد هدلي) الذي أسلم ولقب

(بسيف الرحمن رحمة الله فاروق) لِما فيه من الفوائد والعِبَر للمتفرنجين وغيرهم ،

قال في أوله ما ترجمته بقلم مترجم الكتاب مع تصحيح بعض الألفاظ:

***

تمهيد

قال المستر آرثر بلفور هذه الحكمة منذ عدة سنوات (هناك ناصح واحد فقط

أردأ من الخوف وذلك الناصح هو اليأس) .

تملكتْ فؤادي تلك الحكمة في ذلك الوقت ، وإني للإشارة إلى الموضوع

المحتوية عليه الصحائف المقبلة والتعنيف المحقق الذي سألقاه لشرحي اعتقاداتي

بصراحة وجلاء تام عن الدين الإسلامي أقول: (إن هناك رفيقًا واحدًا أردأ من

الزندقة وذلك الرفيق هو الخوف) .

كم من الناس جعلهم (خوف) العواقب يتمسكون بالاعتراف الصريح بدين

واعتقادات لا يسلمون بها ولا يصدقونها في الواقع.

يريد كل منا أن يختار لنفسه الأحسن - أحسن الأطعمة ، أحسن المساكن ،

أحسن المراكز ، أحسن الإخوان - ولكن كم منا من فكر في أن يختار أحسن

الديانات؟

إن معظمنا راضٍ بالدين الذي وجد عليه آباءه، وإننا من حيث حب الذات

والأنانية مُحقُّون في ذلك طبعًا؛ لأنه يوفر علينا كثيرًا من التعب ، فنسير متبعين

الطريق التي كان يسير فيها أسلافنا رافضين أن نبحث أو أن نلقي ولو نظرة واحدة

على أي دين آخر - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا

حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) - قرآن كريم.

إنه من المستحيل على أي إنسان أن يصل إلى أسمى غرض في الحياة -

الحياة بمعناها الحقيقي - إذا قيد نفسه بسيور العبادات التقليدية ، وبنى كل خلاصه

على المعمودية ومختلف الأعمال الكهنوتية ، ونظرًا لأني نشأت بروتستانيًّا وعشت

سنين عديدة في مملكة رومان كاثوليك ، فقد سمحت لي الفرص بسعة فائقة أن

أدرس صنفين من أصناف المسيحية متَّبعيْن بفصيلتين من أهم الفصائل في الكنيسة

المسيحية، وقد عشت أيضًا في الشرق ، وإنه لشد ما يسرني أن أعترف بأن ليس

هناك بغض بين المسلمين ، بل هناك المحبة بأوسع معانيها ، وهي منتشرة بينهم

أكثر مما هي منتشرة بين المسيحيين في الجزر البريطانية ، فالمسلمون مثلاً

متسامحون جدًّا ومطبوعون على إيتاء الخير إزاء جميع المسيحيين بخلاف ما عليه

فروع الكنيسة بعضها بإزاء بعض.

إني لا أتجاسر على أن أقول: إنه إذا عينت لجنة من الإنكليز الأكْفاء حقيقة

ممن هم على شاكلة المأسوف عليه اللورد سالسبري والمأسوف عليه اللورد

بيكونسفيلد والمستر بلفور واللورد هالدين والسير روفس إسحاق إلخ لفحص الدين

الذي يجب أن يتدين به العالم كله لأجمعوا أمرهم على أن يختاروا الدين الإسلامي

الذي يشهد له العقل ، والذي يجيب رغبة الفؤاد والروح الشديدة من الاتصال

بالخالق سبحانه وتعالى.

إنني لا أعتذر من أجل وضعي للفصول القليلة التي ستظهر بين غلاف هذا

الكتاب ، وليس لدي أقل خوف من الاتهام بالإلحاد والجحود اللذين سأُرمَى بهما

لابتعادي عن المسيحية واهتدائي بهدي الإسلام.

إنني لا أعتقد وما سبق لي أن اعتقدت قط أنه من الضروري لخلاصي أن

أصدق ألوهية المسيح ، أو أن أعتقد الثالوث أو العقائد الأخرى التي تدعي الكنيسة

أنها ضرورية للخلاص ، إني أؤمن برسالات الله السماوية المرسلة لنا على لسان

رسله المصطفين.

***

مقدمة

لكي أقدم الصحائف المقبلة إلى القراء لا أجد خيرًا من إعادة نشري هنا لمقالة

صغيرة من قلمي ظهرت في إحدى جرائد لندرة الأسبوعية في نوفمبر سنة 1913.

(ظهرت في جرائد عديدة قطع تشرح معتقدي الديني ، وإنه ليبهجني أن

أرى كل ما وُجِّه إلي من الانتقاد لغاية الآن لم يكن إلا بلطف مُتناهٍ ، إنه لا ينتظر

أن تخرج خطوة معلومة عن خط سير مألوف دون أن تستوقف النظر) .

(ورد لي في أحد الأيام خطاب من أحد المسيحيين المتدينين يخبرني فيه بأن

الدين الإسلامي إنما هو دين لذة ، وأن النبي كانت له زوجات عديدات وأن ذلك

قاعدة في الإسلام ، فما أغرب هذه الفكرة عن الإسلام! إلا أنها فكرة راسخة في

عقول تسعة وتسعين في المائة من البريطانيين الذين لم يُعنوا ببحث الحقائق

الواضحة لديانة ما ينيف على مائة مليون من رعاياهم ، ولو درسوا تلك الديانة

لتبين لهم أن نبي بلاد العرب صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا في كبح النفس عن

الهوى وردِّها عن الشهوات ، وكان مخلصًا لزوجته الوحيدة السيدة خديجة التي هي

أكبر منه بخمس عشرة سنة ، والتي كانت أول من آمن برسالته السماوية، وبعد

وفاتها تزوج بالسيدة عائشة ، وقد تزوج أيضًا ببعض أيامى متبعيه الذين استشهدوا

في إعلاء كلمة الله وذلك لا بدافع الشهوة بل لكي يعولهن ويمنحهن مساكن ،

وينزلهن منزلة ما كنَّ ليحصلن عليها لولاه.

(نحن معشر البريطانيين نعجب بأننا نحب العدل والإنصاف، ولكن أيُّ

شيء أعظم جورًا وحيفًا من الحكم الذي يصدره كثير منا على الدين الإسلامي دون

أن يجتهد أو يحاول أن يعرف ولو مجملاً بسيطًا من عقائده ، حتى إنهم لا يفقهون

معنى لكلمة (الإسلام) .

(إنه من المحتمل أن يظن بعض من أصدقائي أنني قد غُلبت على أمري أو

سيطر علي المسلمون إلا أن ذلك ليس بحقيقي؛ لأن اعتقاداتي الحالية ما هي إلا

نتيجة بحث سنوات عديدة ، وإن كانت مناقشاتي الحقيقية مع متعلمي المسلمين في

موضوع الديانة لم تبتدئ إلا منذ زمن قريب ، وإنني لمحتاج إلى القول: بأنه قد

غمرني الفرح عندما وجدت أن كل نظرياتي واستنتاجاتي كانت مُطابِقة مُطابَقةً تامة

للإسلام ، إن أخي خواجا كمال الدين لم يحاول بتاتًا أن يتسلط على فؤادي ولو قليلاً ،

فإنه كان دائمًا مثال الأمانة والصدق إذ قد شرح لي في ترجمة القرآن الكريم الذي

استطعت أن أفهم معناه من الترجمة المشوهة المنتشرة بين المسيحيين ، فأنار من

هذه الوجهة المحجة الواضحة التي تسير فيها جمعية التبشير الإسلامي ، فإنها ما

احتالت ولا خدعت أحدًا قط ، فالهداية كما جاء في القرآن الشريف يجب أن تكون

بمحض الرغبة والاختيار ومن تلقاء النفس؛ لذا لم يرتكب خواجا كمال الدين أي

صفة من صفات الاحتيال والخديعة ، وقد أراد عيسى نفس تلك الصفة عندما قال

لحوارييه: (وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ، وانفضوا التراب

الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم) .

(وقد علمت أمثلة كثيرة جدًّا من البروتستانت المتعصبين الذين ظنوا أن من

واجباتهم أن يغشوا بيوت الرومان الكاثوليك ، فيحتالوا على من يقطنها لنقله إلى

دينهم ومثل هذا العمل المثير الذي لا يليق بكرامة جار هو طبعًا عمل كريه جدًّا ،

أدى إلى إثارة العواطف وإيجاد النزاع الذي جر عليهم الازدراء والاحتقار ، وإنني

لأتألم جد الألم عندما يعرض لفكري أن أولئك المبشرين المسيحيين حاولوا ذلك مع

المسلمين أيضًا ، وإن كان لا يوجد هناك باعث يدعوهم إلى هداية هؤلاء الذين هم

(أصح منهم مسيحية) وأفضل منهم أنفسهم في مسيحيتهم ، وقد عجزت تمامًا عن أن

أعرف لم فعلوا ذلك ، إنني لم أقل:(أصح منهم مسيحية) جزافًا بل بعد إعمال

العقل والروية؛ لأن المحبة والألفة والتسامح في الدين الإسلامي أقرب جدًّا لما أتى

به المسيح مما عليه رجال المسيحية إلى الكنائس المتنوعة.

خذ مثلاً العقيدة الإنسيانية التي تختص بالثالوث بحالة مشوشة لا يقبلها العقل

ترى أنه من الواضح جليًّا أن هذه العقيدة المهمة عندهم للغاية والتي تعتبر إحدى

العقائد الرئيسية للكنيسة تمثل المذهب الكاثوليكي ، وإننا إذا لم نعتقدها نهلك هلاكًا

أبديًّا، وهكذا نؤمن بوجوب اعتقاد الثالوث إن أردنا الخلاص أو بطريقة أخرى

نقول: إن الله رحيم وقادر على كل شيء ، وفي الوقت نفسه نتهمه بالظلم والقساوة

اللذين لا نستطيع ولا نرضى أن ننسبهما إلى أفظع سفاكي الدماء من الظلمة البشرية

كأن الله الذي هو أمام الجميع وفوق الجميع يتغلب عليه اعتقاد مخلوق ضعيف فانٍ

في الثالوث.

(هذا مثل آخر يدل على عدم وجود الحسنى لديهم: وصلني خطاب لمناسبة

اتجاهي نحو الإسلام أخبرني فيه كاتبه بأنني إذا لم أعتقد ألوهية المسيح لا يمكنني

الخلاص، إن مسألة ألوهية المسيح ما ظهرت لي قط أنها مهمة، هل أرسل

المسيح رسلاً من البشر برسالات إلهية؟ لو كان عندي الآن أي شك في تلك النقطة

الأخيرة لآلمني ذلك جدًّا ، إلا أنني أشكر الله سبحانه وتعالى لعدم وجود هذا الشك

أرجو أن يكون اعتقادي في المسيح وتعاليمه ثابتًا جدًّا كاعتقاد أي مسلم أو مسيحي

حقيقي آخر ، لأنني سبق لي أن قلت مرارًا أن الديانة الإسلامية والديانة المسيحية

كما علمت بالمسيح نفسه هما أختان ولم يفصلهما عن بعضهما إلا المذاهب ،

والاصطلاحات المسيحية فقط التي يمكن الاستغناء عنها بكل سهولة وارتياح.

يطلب منهم أن يعتقدوا هذه المذاهب والعقائد التي لا تفهم ، وهناك بلا شك

رغبة واشتهاء إلى ديانة تقبلها العقول والميول ، فمن سمع بمسلم ارتد إلى الكفر

والإلحاد؟ ربما كانت هناك حالات من هذه إلا أنني أشك جدًّا فيها.

(إنني أعتقد أن هناك آلافًا من الرجال والنساء أيضًا مسلمين قلبًا ولكن

خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ على التغيير تآمرا على منعهم

من إظهار معتقداتهم ، إنني خطوت هذه الخطوة وإنني أعلم علم اليقين أن كثيرًا من

إخواني وأقاربي ينظرون إليَّ الآن كروح ضالة ويصلون من أجلي ، إلا أني لست -

في الحقيقية - في اعتقاداتي اليوم إلا كما كنت منذ عشرين سنة تمامًا ولكن

صراحتي في القول هي التي أفقدتني حسن ظنهم بي.

الآن وقد شرحت بعضًا من الأسباب التي جعلتني أتبع الدين الإسلامي ،

وقلت: إنني أعتبر نفسي الآن أني أصبحت بإسلامي مسيحيًّا أفضل مسيحية مما

كنت عليه من قبل؛ فآمل أن يتبع الآخرون مثالي ويعتقدون أحقية الإسلام الذي أقر

بكل شهامة وفخر أنه أصح الأديان، إنه ستصل السعادة لأي امرئ ينظر إلى

هذه الخطوة كخطوة متقدمة لا خطوة مضادة للمسيحية الحقة بأي وجه) اهـ.

(المنار)

سبق لنا نشر هذه المقالة في المنار عقب شيوع إسلام اللورد هدلي.

_________

ص: 60

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ماضي الأزهر

وحاضره ومستقبله

(3)

ذكرنا في المقالة الثانية جملة مطالب الأزهريين التي نظرت فيها لجنة

الحكومة ، وما قبلته وأقرته وصدر أمر الوزارة بتنفيذه ، وكان طلبة الأزهر قد

طبعوا مذكرة تفسيرية لمطالبهم الخاصة ورفعوها إلى البلاط الملكي والوزارة ،

ووزعوا منها نسخًا على من يرجون عطفهم ومساعدتهم من أصحاب الشأن ، فرأينا

نشر تفسيرهم لمطالبهم استقصاء للمهم من تاريخ هذا الطور الجديد للأزهر ،

وتمهيدًا لما سنبينه من رأينا فيه ، وهذا نصها بعد تمهيد وجيز جعلوه مقدمة لها:

(المطلب الأول) : (حسبان الأزهر جامعة كبرى تتكون عناصرها من

الأزهر والمعاهد الدينية الحالية ومدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والمعلمين

الأولية ، بشرط أن تكون هذه المدارس كلها تابعة للأزهر تبعية فعلية حتى يتوصل

بذلك إلى توحيد جهات التعليم الخاص بالشريعة واللغة العربية) .

هذا هو المطلب الأساسي الذي لا يمكن أن ينال الأزهر غايته من الإصلاح

والكرامة بدونه، على أنه في الواقع من أساليب الإصلاح الأولية القاضية بعدم

التجزئة في المعاهد التي يتحد فيها نوع التعليم وجوهره ، وهذه المدارس في الحقيقة

أجزاء للأزهر وأعضاء فُصِلت منه ، ولا يمكننا أن نفهم انعزالها عنه مع ما بينها

وبينه من الصلة الظاهرة في اتحاد الغرض وتَسَاوي برامج التعليم أو تقاربها ، بل

وفي زي الطلبة أيضًا ، ولم يشاهد الناس فيما شهدوا أن تقطع الصلة في المعاهد

التي من هذا النوع، ويفرق بينها هذا التفريق الكبير، إلا في مصر.

إن الحقيقة المُرة نجهر بها الآن وهي أن الغرض الواضح من وجود المدارس

المشار إليها على نظامها المعروف هو أن يترك الأزهر وشأنه مهملاً منسيًّا ، يشقى

طلابه وخريجوه ولا يؤدي وظيفته في المجتمع إلا بالمقدار اليسير الذي نراه في

الوقت الذي نخص فيه هذه المدارس بالعناية والرعاية ، حتى يعد خريجوها لأقصى

درجات النفع والانتفاع.

وهذه هي الفكرة الخطرة على الأزهر ، فقد كان لها أسوأ النتائج في عرقلة

سيره ووقوفه دون الغاية التي أداها للإنسانية في أزمنة متطاولة ، وإذا كان مثار

التفكير في إيجاد هذه المدارس ما كان يشاع من تعسر الإصلاح في الأزهر، فلا

عذر اليوم وقد تطور الزمن وأصبح الأزهر نفسه ينادي بالإصلاح غير آنف من كل

عمل يكسبه صبغة عصرية صالحة ما دامت لا تتنافى مع صفته الدينية ، فالواجب

إذن أن يُقابَل نداؤه بالترحاب ، وأن يُعدل عن عزل هذه المدارس التي اقتضت

الضرورة عزلها كما يقولون ، ويكون من الجميع جامعة شرقية سامية ، تقدم للبلاد

الإسلامية عامة ومصر خاصة ما كان يؤديه الأزهر في زمنه الغابر من ثمرات

ناضجة في العلوم والآداب ، أما بقاء الحال على ما هو عليه اليوم فلا معنى له غير

القضاء على الأزهر وتقويض ما بقي من أثره ، في حين أن هذه المدارس تتسع

وتنمو بما يسدى إليها من ضروب الرعاية والعطف ، وهذا ولا ريب منافٍ للعدالة ،

موجب للتنافر والشقاق بين أبناء الطائفة الواحدة، وهو فوق ذلك تدبير خطر

بالنسبة إلى المصلحة العلمية العامة، فإن الأزهر قوة كبيرة إذا عني بها جنت الأمة

منها أوفر الثمرات وأنضجها ، ولا سيما في الظروف المقبلة التي يتحتم فيها تعميم

التعليم بين أفراد الشعب، ولقد بدت مخاطر العزلة التي يشقى بها الأزهر فعلاً في

أزمة المعلمين التي تعالجها البلاد في العهد الأخير ، فليس من الحزم أن يستفحل

الداء والدواء قريب.

لسنا نريد أن نُلغي هذه المدارس كما يدعي بعض المغرضين [1] ولكن مطلبنا

واضح جلي ، وهو كما قلناه: إدماجها في الأزهر مع إدخال الإصلاح على برامجه

متى كانت الحالة تقضي بذلك ، وهذا مطلب لا غبار عليه ولا يمكن أن ينازع فيه

من يريد الإصلاح ، وبودنا أن يفطن إلى ذلك كل مفكر؛ ليعتقد أن الأزهر يريد

الخير لمحض الخير، ولهذا فليعمل العاملون.

(المطلب الثاني) تعديل قانون التخصص بجعل مدة الدراسة فيه سنتين فقط ،

على أن تكون مدرستا القضاء الشرعي ودار العلوم فرعين من الأزهر، الأولى

للتخصص في القضاء الشرعي، والثانية للتخصص في اللغة العربية، وباقي أقسام

التخصص في الفنون الأخرى بالأزهر (مع إضافة قسم جديد للتخصص في العلوم

الرياضية) على أن يكون الانتساب مقيدًا بالحصول على شهادة العالمية من

الأزهر.

يتناول هذا المطلب أمرين: أولهما يتعلق بقسم التخصص ، وثانيهما بالنظام

الذي يتبع بعد ضم مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي إلى الأزهر ، أما فيما

يرجع إلى التخصص فنطلب أن تخفض المدة الدراسية فيه إلى سنتين فحسب ، إذ

كان الغرض الذي أُنشئ من أجله هذا القسم هو التفوق في ناحية خاصة من العلوم

التي تلقاها الطلبة ، وهذا المبدأ وجيه لا اعتراض عليه ، ولكن المدة المقدرة له من

الطول بحيث لا تتفق مع المصلحة فهي إذا أضيفت إلى مدة الدراسة العامة (اثني

عشر عامًا) كان المجموع ستة عشر يضاف إليها ما يمكن أن يعرض للطالب من

الرسوب وهو أربعة أعوام ، فيكون المجموع عشرين عامًا دراسية ، وهي مدة لا

نظير لها في معهد من معاهد التعليم فالشأن في مدد الدراسة أن يراعى فيها القصر

الممكن؛ حتى توجد للمتعلمين فرصة من العمر صالحة للانتفاع بما حصلوا عليه

من العلم.

على أن مدة السنتين تعد كافية للاستزادة من علوم كررها الطالب مرارًا ونال

الشهادات الدالة على تضلعه منها ، وإذا غضضنا الطرف عن ذلك ، ونظرنا إلى

نظام الدراسة قام الدليل واضحًا على وجوب اختزال المدة ، فإن طلبة التخصص

بالأزهر لا يتلقون غير حصة واحدة في اليوم فلا مانع مطلقًا من مضاعفة الدراسة؛

عوضًا عن طول المدة التي يجب أن تستنفد في الصالح العام ، وأما في تخصص

القضاء الشرعي، فإن العلوم التي تدرس فيه من القلة والسهولة بحيث يستطاع

دراستها بإتقان في عامين ، مع مراعاة أن التخصص في الأقسام كلها إنما هو في

العلم لا في الكتب كما هو في المتبع الآن.

أما الأمر الثاني المتعلق بمهمة مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي بعد

ضمهما إلى الأزهر، فينحصر طلبهما في أن تعاون هاتان المدرستان الأزهر على

خدماته الجليلة، وتكونا قسمين من أقسام التخصص الذي أنشئ له في الأزهر

سبعة أقسام في شتى العلوم ، فتقصر دار العلوم على حاملي شهادة العالمية الأزهرية

للتخصص في العلوم العربية ، وتلقي ما يجب تلقيه للقيام بمهمة التعليم ، ولا ريب

أن قصرها على هذه المهمة بعد أن يكتمل نضوج الطلبة في الأزهر يعيد عصرًا

مزدهرًا بالأدباء واللغويين ، ويبث في البلاد روحًا جديدة في هذه الناحية الفقيرة

ناحية الأدب واللغة ، كما أنه ينشئ للبلاد نشأ يؤدي للتعليم أجلّ الخدمات.

أما مدرسة القضاء فتُخصَّص لتلقي العلوم المؤهلة لتولي مناصب القضاء

الشرعي التي لم تدرس بالأزهر ، وهي وإن كانت الآن معدة لذلك فعلاً إلا أنها

ليست تابعة للأزهر تبعية فعلية ، ومدة الدراسة فيها تزيد عن حاجة العلوم التي

تدرس بها الآن.

ومما يجب التنبيه عليه أنه يلزم أن ينشأ في قسم التخصص بالأزهر فرع

جديد للعلوم الرياضية بجانب ما فيه من العلوم الأخرى ، فإن هذه العلوم لا مندوحة

عن التوسع فيها في هذا العصر، كما أنها ضرورية لإتمام المهمة العظمى التي

تطلب من جامعة الأزهر ، ولإنشاء هذا الفرع ميزة أخرى هي استغناء الأزهر

بخريجيه في القيام بتدريس هذه المواد بالأزهر ، وتولي الأعمال الإدارية والحسابية

على أتم وجه، وفيه أيضًا فتح مجال الأعمال أمام خريجه بالقدرة على تعاطي

الشئون الحيوية النافعة.

(المطلب الثالث) المساواة الفعلية بين حاملي شهادات الأزهر ونظرائهم من

حاملي شهادات وزارة المعارف ، فتتساوى الشهادة الأولية بالابتدائية والثانوية

بالبكالوريا ، والعالمية بالليسانس وشهادة التخصص بالدكتوراه وذلك فيما يختص

بمميزاتها من المرتبات والترقيات واحتساب المعاشات مع حفظ الامتيازات الخاصة

بهم مثل (كوبونات) السكك الحديدية.

من المؤلم أن تجتمع على الأزهر عزلته عن الاشتراك بقسط وافر في

الأعمال العامة، والغبن الفاحش في المرتبات والحقوق التي ينالها من أسعده الحظ

من خريجيه ، فعلى الرغم من أن الشهادات التي يحصل عليها الأزهريون معتبرة

كنظيراتها من الشهادات التي تعطى لتلامذة المدارس، فإن البون شاسع جدًّا بين

مرتبات هؤلاء وأولئك ، ومثل هذا يقال عن نظم الترقيات والمعاشات ، فالشهادة

الابتدائية الأزهرية سُلب من حاملها حق التوظف مطلقًا ، وعلى ذلك لا يمكن مقارنة

حقوقها بالابتدائية في المدارس، والثانوية الأزهرية إذا سمح لحاملها بالتوظف في

مثل الإمامة والخطابة مثلاً يفرض لها مرتب يتراوح بين جنيه وثلاثة جنيهات ، ولا

ريب أنه لا نسبة بين هذا المرتب الحقير وبين مرتب حامل (البكالوريا) إذ

يتقاضى ثمانية جنيهات شهريًّا.

وأما الشهادة العالمية التي هي شهادة عليا فإن نصيب حاملها إذا كان محدودًا

والتحق بوظيفة تدريس في المعاهد الدينية أن يعطى له عشرة جنيهات ، في حين

أن مثيلاتها من الشهادات العليا تنيل صاحبها الحق في تقاضي خمسة عشر جنيهًا

شهريًّا ، وهذا الذي ذكرناه في مرتبات الأزهريين إنما هو بالنسبة إلى الوظائف

التي تعد رئيسية ، ومن ذلك يمكن إدراك المرتبات الضئيلة التي تفرض للوظائف

الأخرى ، ففي وزارة الأوقاف يعطى حامل العالمية في وظيفتي الإمامة والخطابة

مرتبًا يتراوح بين أربعة جنيهات واثني عشر جنيهًا مصريًّا حسب التعديل الأخير ،

في حين أن فقهاء المكاتب يتقاضون من ستة جنيهات إلى ثمانية عشر.

ومثل هذا الغبن في المرتبات واقع في الترقيات والمعاشات ، فالترقيات في

الأزهر تسير ببطء يبيد العزم ولا يشجع على العمل، وهي في غيره تبعث الأمل

وتحيي الرجاء، أما المعاشات فلا نخطئ إذا قلنا: إنها في الأزهر تكاد ألا تكون

شيئًا.

ونحن لا ندري سبب هذه التفرقة البينة الغبن مع أن المجهودات التي يصرفها

طالب المدرسة تقل كثيرًا عن مجهودات الأزهري ، مع أنه يمتاز أيضًا بشرف

الانتساب إلى الدين، فينبغي أن تحفظ كرامته وتصان حقوقه حتى للخدمة العامة

وهو مطمئن على مستقبله ، ولا سيما إذا ذكرنا أنه فوق صفته الدينية قادر على سد

حاجات الأمة في كثير من الشئون العامة ، التي تستلزم الدراية والكفايات المختلفة

بما يتجمل به من شتى الفنون التي تدرس بالأزهر.

أما (الكوبونات) التي تعطي العلماء حق السفر بأجور مخفضة فإن لها معنى

ساميًا ، عُرف أن العلماء خليقون به من زمن بعيد ، فينبغي أن يبقى ما دامت لهم

كرامة ومكانة خاصة.

(المطلب الرابع) تنفيذ الحقوق التي كفلتها القوانين واللوائح لحملة الشهادات

الأزهرية المعطل العمل بها الآن.

إنما تلتمس الشهادات لنتائجها المترتبة عليها لا لذواتها ، ومن المسلم به أن

كل عمل لا فائدة له مبغض مكروه ، وبودنا أن يكثر الإقبال على التعليم الديني حتى

تعم تعاليمه الأفراد والجماعات ، ولا يمكن ذلك إلا إذا كان للشهادات التي تعطى

لطالبه قيمة مادية تغني عوزه وتسد حاجته ، على أن الواقع يخالف ذلك في الأزهر

ويسوءنا أن نقول: إن الأزهر له هذه الخاصة وحده دون معاهد العلم كلها ، فقد

سُطرت ميزات الشهادات في الأوراق ولا شيء غير ذلك! ففي القانون نمرة 10

نص على أن لحامل الشهادة العالمية الحق في وظائف القضاء الشرعي، والكتابة

بالمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية والتدريس بالأزهر والمعاهد الدينية

إلخ ، ولحامل الشهادة الثانوية الحق في وظائف الخط والإملاء والوظائف الكتابية

بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى والمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية

والإمامة والوعظ

إلخ ، أما الابتدائية (فيظهر أنه لا يصح أن يكون لها ميزة

حتى ولو على الورق فألغيت ميزتها!) .

فإذا أراد الطالب أن يلتمس طريقًا مما ضمنه القانون لإحدى هذه الشهادات بعد

حصوله عليها رغبة في حفظ أوده وجد الأبواب موصدة دونه ، ويسوءنا أن كثيرًا

من حملة العالمية لا يجدون مرتزقًا يقيهم ذل الحاجة، حتى وزارة الأوقاف التي هم

أشد الناس صلة بها لا تقبل أحدًا منهم في وظائفها الكتابية ، وكانت نتيجة هذه

المعاملة الشديدة أن كثيرًا من العلماء قدموا أنفسهم إلى مجالس المديريات للتدريس

في مدارسها ، فرفضت وسرت هذه الدعوى إلى المدارس الأهلية فاشتد الداء،

وثقلت وطأته على هؤلاء الذين قضوا حياتهم في خدمة العلم ، وذلك ما يسيل

النفوس أسفًا على كرامة العلم والدين.

ليس في وسع العالم الديني أن يتناول عملاً دنيئًا حرصًا على شرفه ، كما أنه

لم يَلق من عناية أولي الأمر به ما يجعله كغيره من الطوائف المتعلمة سعيدًا أو على

الأقل مطمئنًا على مستقبله، فبقي أن نسأل ولاة الأمور عن مصيره؟

الحق أنه شيء كبير أن يُترك هؤلاء العلماء لعويلهم من ثِقل البؤس في هذا

العصر مع أنهم في كل العصور كانوا موطن الاحترام والرعاية، ولسنا نطلب إلا

ما رضي به ولاة الأمر ووضعوه من تلقاء أنفسهم في (قانون) ، يجب أن يكون

نافذًا وأن لا يكون حبرًا على ورق ، وإذا طلبنا ذلك بالنسبة لحاملي العالمية فنطلبه

أيضًا بالنسبة إلى حملة الثانوية والابتدائية ، فقد يحدث كثيرًا أن يتخلف الطالب من

الدراسة بعد نيله إحدى هاتين ، فليس من العدل ان يحرم ثمرة عمله والقانون

صريح في حفظ حقه.

(وبعد) فالطريق الطبيعي في التعليم أن يوجد للطلبة ضوء من الأمل يكون

منيرًا لهممهم مشجعًا لهم ، وإلا انصرفوا عنه وعافوه ، وذلك ما لا يصح أن يكون

وخصوصًا في المعاهد الدينية.

(المطلب الخامس) إقرار مشروع التعليم الديني في المدارس ، وهو الذي

وافقت عليه وزارة المعارف في إحدى الوزارات السابقة حيث إن تنفيذه ضروري

لصالح الأمة، وإسناد القيام به إلى خريجي الأزهر خاصة.

كان الدين ولا يزال مبعث سعادة الأمة ومصدر مجدها فهو حافظ شخصيتها،

ومظهر آدابها ، وهو المحور الذي تجتمع عنده القلوب وتتحد النزعات والآمال ،

فأيما أمة أقامت للدين وزنه، وعرفت خطره، كان لها ما تشاء من عزة وسلطان،

وعلى العكس من ذلك أمة تنبذ أحكامه ظهريًّا.

وإنه لمن المحزن أن تخلو مدارسنا المصرية من تعليم الدين ونشر آدابه

السامية ، ولا ندري ما الذي وصل بمدارسنا إلى هذا الحضيض مع أنه يدرس

(بين) جدرانها كثير من العلوم قد لا يكون بعضها ضروريًّا، فالحق أنه يجب وضع

حد لهذه الحالة المملة ، إذ لو استمرت لأصبح الدين وقد تقلص ظله ، وضعفت

شوكته. وإن الأزهر الذي في عنقه أمانة الإرشاد والمحافظة على الدين لا يمكن أن

يجمد بإزاء ذلك ، بل يطلب ويلح في الطلب بأن يُعنى بالدين العناية الكافية فتذاع

آدابه وتعاليمه الجليلة في نفوس أبناء الأمة ، حتى لا يطغى على أفكارهم اللدنة

سيل الأباطيل؛ فيخرجوا على دينهم كما هو شأن المتعلمين اليوم، فإن كثيرًا منهم

قد استهواه التقليد الأعمى فنبذ دينه، وذلك ضرر لا يصح السكوت عليه بل يجب

العمل على استئصال شأفته، ولن يكون ذلك بغير الدين ، ولا يضر وزارة المعارف

أن يتلقى التلاميذ بجانب ما يتلقونه - مما ينفع ولا ينفع - هذا العنصر الضروري

لحياة الأفراد والأمم ، وإذا قال الأزهر ذلك فهو يتكلم بلسان آباء التلاميذ وأولياء

أمورهم الذين يسرهم أن يكون أبناؤهم راشدين دَيّنين، لا ملاحدة مارقين ، ومما

يمكن أن يعتبر دلالة على وجوب تنفيذ هذا المطلب أنه كاد (يبلغ) تمامه في عهد

إحدى الوزارات السابقة بعد أن نبهها إليه أحد [2] علماء الأزهر الأعلام، على أنه

لا يمكن أن يؤدى الأمر على وجهه الصالح إلا إذا جعل تعليم الدين أساسيًّا ، وأسند

تعليمه من الآن إلى المتضلعين منه الواقفين على أسراره فهم وحدهم البصيرون

بطرق التفهم والإقناع ، القادرون على رياضة النشء إلى أقوم الطرق بالقدوة

والموعظة الحسنة، وليس لطائفة أن تنازع الأزهريين هذه المقدرة أو تطمع في

هذه المنزلة دونهم ، ولذلك نطلب إسناد التعليم إلى علماء الأزهر دون سواهم حتى

يتوصل إلى الغرض المروم.

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار يستعمل لفظ المغرض عند العوام وفي الجرائد بمعنى ذي الغرض والهوى النفسي وهو المراد هنا، وإنما بينا هذا لأن قراء المنار في الأقطار التي لا تستعمل فيها هذه الكلمة بهذا المعنى لا يفهمونها ، وإذا راجعوها في معاجم اللغة المتداولة لا يجدونها.

(2)

فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون.

ص: 65

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وهب بن منبه وكعب الأحبار

حضرة ملجأ الباحثين السيد محمد رشيد رضا المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فقد جرحتم الحبر بن وهب بن

منبه وكعب الأحبار في تفسيركم بالمنار قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ

مُّبِينٌ} (الشعراء: 32) بأنهما:

(1)

رويا أخبار غرائب بني إسرائيل ، ومنها موت خمسة وعشرين ألفًا

من قوم فرعون فزعًا من ثعبان العصى (كذا) .

(2)

وكانا يدسان في الدين بكذب الرواية.

(3)

ومن جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان

رضي الله عنهما.

ولكون الحبرين من رجال كتب الحديث الصحيحة التي صار التعويل عليها

في الدين الإسلامي بعد القرآن الكريم ، وكان هذا التجريح غير منطبق على ما

عُرف عنهما عند علماء الحديث ، وقد صرحتم بأنه بحسب الغالب على ظنكم ،

وكان يترتب عليه الحط من اعتبار الحديث الشريف عند المطلعين عليه من قراء

المجلة ممن لا يعرف عنهما سوى ما قلتم لوجود اسميهما في كتبه (كذا) ، مع أن

الأمة محتاجة للتمسك بالسنة؛ لأن سعادتها وإنقاذها مما هي فيه متوقفان على العمل

بها والرجوع إليها كما كان سلفنا الصالح ، فيعود إلينا ما كانوا فيه من عز ومجد.

فحُبًّا في دفع ما يشين السنة المحمدية أحببت نشر ما دونه المتقدمون في

توثيق الحبرين ، مبتدِئًا بقاعدة من كتاب الجرح والتعديل للعلامة القاسمي حيث نقل

بالصحيفة الخامسة عن المحدث السيوطي عبارة الأصولي صاحب كتاب الاقتراح

أن من (الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي) تخريج أحد الشيخين له في الصحيح ،

وإن تُكُلم في بعض مَن خَرَّج له فلا يلتفت إليه ، والحبران خرَّج لهما أحد

الشيخين البخاري في صحيحه (كذا) وكذا باقي أصحاب الكتب الصحيحة مسلم

وأبو داود والنسائي والترمذي كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي (كذا) .

وحينئذ لا يلتفت لتضعيف ابن الفلاس لسيدنا وهب خصوصًا وأنه لم يبين

وجه التضعيف ، والمتقرر في فن المصطلح أن التجريح لا يُقبل إلا مع البيان ،

وأن جرْح الواحد غير متفق عليه (كذا) .

ومما يدل على ورع سيدنا وهب ما نقله البخاري في أول كتاب الجنائز ونصه:

(وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن ليس

مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) يريد أن

يلتزم السائل العمل بالأحكام الشرعية ولا يرتكن على مجرد النطق بالشهادتين ،

ومثله قوله: (مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر) كما نقله صاحب الفتح

في هذا المكان [1] .

وصُنع البخاري في باب مطل الغنى ظلم من كتاب الاستقراض يدل على

عظم سيدنا وهب أيضًا ، حيث قال في سند الحديث هكذا: (عن همام بن منبه

أخي وهب) وما كان همام مجهولاً فنسبه إلى وهب لتعريفه بل هو معروف ، وأخذ

عنه أصحاب الكتب الستة الصحيحة ، وما كان البخاري لينسب رواية همام وهو

بمنزلة شاهده إلى فاسق أو متهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

وإنما هي نسبة تشريف أراد بها التأكيد في تزكية راويه.

ومن الحكم المأثورة عن سيدنا وهب قوله: العلم خليل المؤمن والحلم وزيره

والعقل دليله والصبر أمير جنوده والرفق أبوه واللين أخوه: فجعل للمؤمن دولة من

نفسه ، نقل ذلك الحافظ الذهبي في ترجمته له في كتاب ميزان الاعتداد في نقد

الرجال.

وكعب الأحبار فضلاً عن أخذ المحدثين عنه لم يطعن عليه أحد منهم ،

والمذاكرة التي دارت بينه وبين أبي هريرة حال رحلته بالشام (في الساعة التي في

يوم الجمعة) من الحجج الدينية الإسلامية التي يشير إليها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن

لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 197) كما هو موضح بموطأ

الإمام مالك ، ويكفيه توثيقًا أخذ أبي هريرة عنه وابن عباس ومعاوية وجماعة من

التابعين ، نص على ذلك صاحب الخلاصة المذكورة عند ترجمته باسم (كعب بن

مانع الحميري أبو إسحاق الحبر وقال بالهامش: وهو المعروف بكعب الأحبار

إلخ) .

أما عن نفي أوجه الجرح الثلاثة السالفة:

(فالأول) غير جارح أصلاً؛ لأن أخبار بني إسرائيل ليست مما تعبدنا الله

بها ، ولم نلزم بالتحري في نقلها إلزامنا بنقل الأحاديث الإسلامية لما رواه الإمام

الشافعي في رسالته الأصولية الشهيرة في أواخر (باب تثبيت خبر الحجة) بسنده

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،

وحدثوا عني ولا تكذبوا علي) ورواه صاحب كتاب رموز الأحاديث في حرف

الحاء بلفظ (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنكم لا تحدثون عنهم شيئًا إلا وقد

كان فيهم أعجب منه) عن الشافعي وابن منيع وصححه السخاوي فأي وزر على

من بلغه هذا الحديث فحدث بأخبار بني إسرائيل على علاتها كما سمعها ، ما دام أنه

لم يرد في ديننا ما يمنع من ذلك ، ولم تصادم أصلاً من أصوله وإلا كانت منسوخة

هذا وبمراجعة تفسير ابن جرير عند هذه الآية وجد أن في سند الخبر بموت الخمسة

وعشرين ألفًا من هو مجهول ، فيحتمل أن هذا المجهول هو الواضع لهذا الخبر

والأصوب حمله على الحديث السالف ، إذ لا ضرر علينا من ذلك دينًا ، ولم نُكلَّف

بتمحيص أخبار بني إسرائيل والبحث في أسانيدها وتبعتها عليهم.

(الثاني) لم نعلم أحدًا قبل الآن نسبهما للكذب والدس في الأحاديث الإسلامية

وكل ما نسب إليهما من بعض المتأخرين هو الإكثار من أخبار غرائب بني

إسرائيل ، وقد علمت ما فيه ولم يصرح الإمام أحمد بأن سيدنا وهبًا كان يختلف إلى

قومه بعد إسلامهم؛ ليكذب أو يدس ، والأقرب حمله على التودد والإرشاد ، وقد

ترجم للحبرين ابن جرير الطبري في تاريخه بالجزء الثالث عشر في ضمن الناقلين

للأخبار من التابعين ، وهو بصفته مؤرخ يحكي كل ما قيل فلم تصدر منه كلمة تشم

منها هذه الرائحة ، بل بعكس ذلك أفاد ما يدل على جلالتهما ، وحكى لسيدنا كعب

حادثة تدل على شدة ذكائه وتدينه فانظره.

(الثالث) أن نسبتهما إلى جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين غير معقول من

الوجهة التاريخية ، فإن الخليفة الثاني قتل سنة 23 هـ ، وسيدنا وهب قتل ظلمًا

أيضًا سنة 110هـ أو سنة 114هـ فيكون بينهما تسعون عامًا (كذا) تقريبًا ، فلا

يبعد أن يكون لم يولد وقت قتله ، وسيدنا كعب كان مقيمًا بالشام بعيدًا عن الفرس ،

وجمعية السبئيين لم تؤلف بعد؛ لأن عبد الله بن سبأ رئيسها لم يظهر إلا في خلافة

سيدنا عثمان ، وأكثر المؤرخين على أن قتل الخليفة الثاني فردي (كذا) وأن

الذي قتله هو أبو لؤلؤة غلام سيدنا المغيرة بن شعبة الذي بعثه وهو عامل على

الكوفة ليقوم بالصنائع التي تنفع المسلمين ، وكان ضاربًا عليه مائة درهم في الشهر

فتظلم منها إلى الخليفة ، فلم يرها كثيرة فحنق عليه وقتله بعد أيام ، وحينئذ لم يكن

مرسلاً من جمعية سرية.

والخليفة الثالث قتل سنة 35 هـ ، فبينه وبين سيدنا وهب نحو الثمانين عامًا

فإن كان وُجد فالأقرب أنه كان حينئذ في سن الطفولة ، وإقامته كانت بصنعاء بعيدًا

عن مراكز الجمعيات التي حكي عنها تدبير قتل الخليفة ، أما سيدنا كعب فقد تُوفي

سنة 32هـ أي قبل قتل الخليفة بثلاثة أعوام كما ذكره صاحب الخلاصة المذكورة ،

على أن الحالة تشهد ببُعدهما عن مثل هذه الأحوال لأنه لو نسب إليهما ذلك لشاع

واشتهر ، فلم يأخذ عنهما أحد من المحدثين وخصوصًا البخاري الذي كان يمتنع عن

الأخذ عن الراوي لأدنى شبهة قيلت فيه ، وأيضًا لحكى عنهما ذلك أحد المترجمين

لهم المذكورين ، ومع أن الحافظ الذهبي التزم في كتابه (تذكرة الحفاظ) أن يذكر

فيه المحدثين الموثقين فقط ، وقد ذكرهما (كذا) بترجمتين مستفيضتين عن علمهما

وورعهما وكفى بذلك توثيقًا ، هذا ما اطلعت عليه الآن مما دوَّنه المتقدمون عن

هذين الحَبرين الجليلين ، أرجو نشره بالمجلة مشفوعًا برأيكم واقبلوا فائق الاحترام.

...

...

...

عبد الرحمن الجمجوني

(جواب المنار)

يظهر أن المنتقد قرأ عبارتنا في التفسير فانتقد ما علق بذهنه منها من غير

مراجعة لعبارتها ، ولو رجع إليها في أي وقت لرأى جلّ ما كتبه غير وارد عليها،

وما أطال به من الثناء على وهب في غير محله إذ ليس من موضوع الكلام، وكذا

ما ذكره من نفي اشتراكه في الجمعيات السرية الفارسية وفي قتل الخليفة الثاني،

وما ذكره من براءة كعب الأحبار من مثل ذلك فأنا لم أر مهمًّا بهذا، وإنما قلت فيهما:

إنهما كانا (كثيرا الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول ،

وأن قومهما كانوا يكيدون للأمة الإسلامية العربية ، فقاتِلُ الخليفة الثاني فارسي

مُرسَل من جمعية سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله

بن سبأ اليهودي ، وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن

السياسية وأكاذيب الرواية في الصدر الأول) اهـ بحروفه وسنوضحه بعد.

وذكرت قبله (أنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق

الجمهور له ، بل أنا أسوأ ظنًّا فيه على ما روي من كثرة عبادته ، ويغلب على

ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفرس) إلخ ، ولم أقل: إنه اشترك في مقتل عمر

فيرد علي بتاريخه أو بغير ذلك، والذي يعنينا من هذا النقد ما هو المقصود منه

بالذات وهو رواية لرجلين وما زعمه المنتقد من توثيق الشيخين لهما ولا سيما

البخاري ، وكون كل من رويا عنه أو روى عنه الأول ثقة لا يقبل فيه جرح ، ولا

يصح أن تكون روايته محل بحث، وفي كلام المنتقد أغلاط لغوية وفنية وتاريخية

لا حاجة إلى إضاعة الوقت في بيانها ، فأكتفي في الرد على ما ذكرت أنه المقصود

بالذات فأقول:

أما كعب الأحبار فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئًا ولكن ذكره فيه

بما يُعد جرحًا له لا تعديلاً، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب

وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية

يحدث رهطًا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق

هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (تأمل) .

قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في

البخاري ، وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له رقم البخاري

فيوهم أنه أخرج له إلخ: يعني أن ذكر صاحب التهذيب رقم البخاري وهو حرف

(خ) عند اسم كعب غلط ، وقد صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء

في صحيح البخاري وغيره، والمنتقد يبدئ ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه

له ، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من أصدق المحدثين عن أهل الكتاب ،

وأنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب- طعن صريح في عدالته وفي عدالة جمهور رواة

الإسرائيليات إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم ، ومن كان متقنًا للكذب في ذلك

يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر ، إذ لم تكن كتب أهل الكتاب

منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا ، فإن توراة اليهود بين الأيدي ، ونحن

نرى فيما رواه كعب ووهب عنها ما لا وجود له فيها البتة على كثرته، وهي هي

التوراة التي كانت عندهم في عصرهما، فإن ما وقع من التحريف والنقصان منها

قد كان قبل الإسلام، وأما بعده فجل ما وقع من التحريف هو المعنوي بحمل اللفظ

على غير ما وضع له واختلاف الترجمة، ولا يعقل أن تكون هذه القصص الطويلة

التي نراها في التفسير والتاريخ مروية عن التوراة قد حذفت منها بعد موت كعب

ووهب وغيرهما من رواتها، فهي من الأكاذيب التي لم يكن يتيسر للصحابة

والتابعين ولرجال الجرح والتعديل الأولين العثور عليها، وكذا علماء القرون

الوسطى من المحدثين وغيرهم إلا من عُني عناية خاصة بالاطلاع على كتب العهد

العتيق والعهد الجديد عند أهل الكتاب ، وعلى التواريخ المفصلة لأخبارهم وقليل ما

هم ، وقد كان مثل البخاري من جهاندة المنقول ومثل الفخر الرازي من جهاندة

المعقول يظنان أن جميع تحريف أهل الكتاب معنوي؛ لأن تغيير أهل الملة لكتابها

الديني غير معقول إذ لابد من أن يكون بالتواطؤ وإجماع الأمة، وسبب هذا أن

هؤلاء العلماء لم يكونوا يعلمون أن اليهود لم يكن عندهم من التوراة في الصدر

الأول من تاريخهم إلا النسخة التي وضعها موسى عليه السلام في صندوق

العهد (التابوت) وأنها فقدت بعد ذلك ولم يكونوا يحفظونها، وأن ما عندهم الآن

يرجع إلى ما كتبه لهم (عزرا) بعد السى ولذلك تكثر فيه الألفاظ البابلية، وهم

يزعمون أنه أُلهم الصواب فيما كتب إلهامًا.. . مع أن ما فيها من الأغلاط المخالفة

للواقع ، ومن ذِكر الحوادث التي وقعت بعد موسى ، ومن ذِكر موت موسى وعدم

ظهور أحد بعده مثله ومن.. . ومن.. . ما ينقض دعوى الإلهام المذكورة - إلى

آخر ما فصلناه من قبل في موضعه.

وأما مسلم فقد ذكره في بعض أسانيده ، ولكن ليس له رواية صريحة عنه

لحديث انفرد به فيكون جرحه موجبًا لحرماننا من الأخذ به، وقال الحافظ ابن كثير:

إن حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) الذي خطّأه المحققون بروايته

له هو ، مما أخذه أبو هريرة عن كعب على أنه صرح فيه بسماعه من النبي صلى

الله عليه وسلم وقال في تهذيب التهذيب: وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع من

مسلم في أواخر كتاب الإيمان: وفي حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح

عن أبي هريرة رفعه (إذا أدى العبد حق الله وحق مَواليه كان له أجران) قال:

فحدثت به كعبًا فقال كعب: ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد اهـ.

أقول: إنهم قبلوا هذه الزيادة في الحديث؛ لغرورهم بكعب حتى قال النووي:

وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه بتوقيف ، ويحتمل أنه بالاجتهاد؛ لأن من

رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله

مسرورًا اهـ ، فانظر إلى هذا التأويل المتناقض لهذه الزيادة المتعلقة بأصول العقيدة

بحيث يطلب فيها القطع ، وهي أن العبد المذكور والمُزهد - وهو بضم الميم إسكان

الزاي قليل المال - لا حساب عليهما ، فهو يجعل الحساب على كبار الأغنياء لأحرار

وحدهم ، وهذا مخالف لعمومات الكتاب والسنة القطعية ومعارَض بنصوص خاصة.

وأما ما ذكر من رواية له في آخر كتاب الإيمان منه فهو أن أبا هريرة قال

لكعب إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعوها ، فأنا أريد أن

أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) فقال له كعب: أنت سمعت هذا من

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. روى هذا عن كعب عمرو بن سفيان

الثقفي ، انفرد مسلم بروايته عنه وليس له غيره إلا حديث واحد ، ولمسلم عن كعب

مثله في الاستفهام من أبي هريرة عن حديث الأمة التي فُقدت من بني إسرائيل

وكونها هي الفار.

وجملة القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم الذي

في صحيح مسلم ، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند

غيره؛ ولذلك امتنع البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته، ومع

هذا كله يجعل المنتقد ما زعمه من رواية البخاري عنه الركن الأعظم لتعديله ،

والخوف على ضياع السنة من جرحه فكلامه حجة عليه.

(للرد بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: ونقل في الفتح انتقاد الداودي لكلمة وهب وكونها مخالفة لحديث الباب الذي رواه البخاري بعدها ، وهي على كل حال لا تدل على الورع ولا الورع يقتضي صحة الرواية مطلقًا ، وكذا نطقه ببعض الحكم.

ص: 73

الكاتب: محمد رشيد رضا

مجلات وجرائد جديدة

(الإخاء)

(مجلة علمية تاريخية أدبية روائية مصوَّرة ، تصدر في أول كل شهر

أفرنكي لصاحبها سليم قبعين) قيمة الاشتراك فيها 80 بمصر والسودان ومئة

قرش في سائر الأقطار - وسليم أفندي كاتب متفنن مشهور ، وقد انفرد دون الكُتاب

في مصر بمعرفة اللغة الروسية ، فله منها مادة لا يشاركه فيها غيره ، وقد أتمت

مجلته السنة الأولى وهي أشق المراحل ، فصار الرجاء باستمرارها ونجاحها وطيدًا

وهو ما نتمناه له ولها.

***

(المجلة الشهرية)

مجلة جديدة يصدرها بالقاهرة إسكندر أفندي مكاريوس ، ويتولى رئاسة

تحريرها نجيب أفندي شاهين ، وقد قال في مقدمتها: (هذه المجلة مرادة للعامة

أولاً وللخاصة ثانيًا ، وغايتها مزدوجة وهي إيجابية مع الأولين وسلبية مع الآخرين،

ويكفينا من هؤلاء أن يرمقوها بنظرة عدم الإنكار، لأن الخاصة في كل بلد

متعنتون وإرضاء المتعنت صعب كما جاء في المثل، وتعنُّتُهم هذا ناشئ عن

رسوخهم في العلم وعلو كعبهم في الفن ، ونحن إنما نلم بهما إلمامًا هنا) ونقول:

هذه خطة المجلة وهي عن اختيار لا عجز ، فإن نجيبًا كاتب بارع تولى التحرير

في المقتطف عدة سنين ، وكان قبل إصدار هذه الجريدة أحد محرري جريدة السياسة

وقيمة الاشتراك في هذه المجلة خمسون قرشًا في مصر والسودان و17 شلنًا في

الخارج.

***

(صحيفة الإعلانات)

صحيفة أسبوعية جديدة (تنشر الإعلانات مبوبة ، وتبحث في المسائل

الاقتصادية والتجارية والاجتماعية) ، تصدر في كل يوم أحد في 16 صفحة كبيرة

منها أربعة باللغة الفرنسية وباقيها باللغة العربية ، صاحب امتيازها أحمد شفيق باشا

العالم الإداري الشهير ، ورئيس تحريرها الشيخ بولس مسعد من الكُتاب البارعين،

وقيمة الاشتراك السنوي فيها 25 قرشًا في مصر و40 قرشًا في الخارج، والمنتظر

منها أن تخدم النهضة الاقتصادية والصناعية والتجارية خدمة جليلة لم تُسبق إليها.

***

(أم القرى)

جريدة عربية إسلامية أسبوعية تصدر في مكة المكرمة مكان جريدة (القبلة)

التي كان يصدرها الملك حسين، مديرها يوسف أفندي ياسين من أفضل شبان

النابتة العربية السورية ، وسنخصها بمقال مطول في جزء آخر إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سبب اتباع المسلم للإسلام

ونفوره من دعوة النصرانية

(س19 و20) من القس الدانمركي ألفرد نيلسن في دمشق

ما هو الذي يجعلك تتبع دين الإسلام كدين الحق، وإذا تعرفت بالتبشير

المسيحي وبالكتب المسيحية فما هو الذي يبعدك ويُنفِّرك عن دعوتها؟

(ج) ثبت عندي أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلاً أميًّا لم يتعلم

القراءة ولا الكتابة، ولا عاشر أحدًا من علماء الأديان ولا التاريخ والقوانين

والفلسفة والآداب، ولا غير ذلك، وأنه لم يكن شاعرًا ولا خطيبًا، ولا محبًّا لما

كان معهودًا بين كبراء قومه وأذكيائهم من الرياسة والمفاخرة والشهرة بالفصاحة

والبلاغة، وإنما كان ممتازًا بين أقرانه في قومه بسلامة الفطرة وحب العزلة

والصدق والأمانة والعفة والمروءة وغير ذلك من مكارم الأخلاق، حتى لقبوه

بالأمين ، قضى على ذلك سن الصبا والشباب الذي تظهر فيه جميع رغبات البشر

ومزاياهم ، ثم إنه بعد إكمال الأربعين والدخول في سن الكهولة ادعى النبوة ، وأن

الله بعثه رسولاً إلى الناس كافة كما أرسل من قبله من الرسل إلى أقوامهم بمثل ما

أرسله به من الدعوة إلى توحيده تعالى وعبادته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله

والدار الآخرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحق والعدل

بالمساواة بين الناس ، وغير ذلك من أصول العقائد المعقولة ، والآداب العالية ،

والأحكام والشرائع العادلة، التي أكمل الله تعالى بها الدين، وجعله بها خاتم النبيين ،

بما يعد إصلاحًا يفوق جميع ما كان عليه البشر من أتباع الأنبياء وغيرهم ، وجاء

بكتاب في ذلك قال: إن الله تعالى أنزله عليه ، وأنه وحي من لدنه سبحانه يعجز

جميع البشر عن الإتيان بمثله في علومه ومعارفه وإصلاحه وتأثيره في إبطال الشرك

والخرافات والأباطيل الفاشية في البشر وإصلاح الفطر والقلوب والأعمال لمن

اهتدى به. كما أنه معجز في أسلوبه وبلاغته وتحدَّى الناس بذلك فعجزوا عن الإتيان

بسورة من مثله وجاء فيه من أخبار الغيب الماضية والمستقبلة ما ثبت

ثبوتًا قطعيًّا، ومنه أن الله تعالى سينصره ويخذل أعداءه ، ويستخلف قومه وأمته في

الأرض ، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وقد وقع جميع ما أخبر به، وما وضح

به صلى الله عليه وسلم أخباره كفتح بلاد كسرى وقيصر ، ومنها مصر التي وصى

بأهلها خيرًا، وأيده الله تعالى بآيات أخرى.

ومن أهم ما أخبر به القرآن مما لم يكن يعلمه أحد من قوم الرسول صلى الله

عليه وسلم ولا في بلاده أن اليهود والنصارى {أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ} (آل

عمران: 23) ، وأنهم نسوا حظًّا مما ذكروا به، وأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا،

ودخل عليهم الشرك ، ومن العجيب أن المسلمين لم يعلموا مصداق ذلك بالتفصيل

إلا بعد اطلاعهم على مجموعة كتب الفريقين وتاريخها ، ثم ما كتبه أحرار علماء

أوربة من الطعن فيها، فمن أين عرف ذلك رجل أُميّ نشأ بين قوم أميين لولا وحي

الله تعالى له بذلك؟

فهذه نبذة مجملة في بيان سبب استمساكي بعروة الإسلام ، واعتقادي أنه الدين

الحق بالاختصار الذي اقترحه القس السائل.

وأما سبب نفوري من دعوة المبشرين دعاة النصرانية فهي اعتقادي بطلان

دعوتهم في نفسها ، فإن أساسها أن آدم عصى ربه فاستحق هو وذريته العذاب

الأبدي بعدل الله، وأن عذابهم ينافي رحمة الله ، فلم يجد سبحانه وسيلة للجمع بين

رحمته وعدله إلا أن يحل في ناسوت أحد بني آدم ، ويتحمل العذاب والألم واللعنة؛

لتخليصهم من العذاب ، فحل في ناسوت المسيح لأجل ذلك ، ومع هذا لم يتم له ما

أراد فإنه اشترط لخلاصهم أن يؤمنوا بذلك ، ولكن أكثرهم لم يؤمنوا به ، ورأيت

جل تأثير هذه الدعوة في الذين يجهلون حقيقة الإسلام تشكيكهم في أصل الدين،

وجعْلهم من الإباحيين، وإيقاع الشقاق بينهم وبين غيرهم ، ومن أهم تلك الأسباب

التي جعلتني أحتقر أكثرهم ما ثبت عندي من كونهم يتَّجرون بالدين اتجارًا فيكذبون

ويحرِّفون، ومنهم الملحدون الذين لا إيمان لهم، والمقلدون المتعصبون الذين

يبغضون المسلمين بما تربوا عليه مما لا يجهله القس السائل، ولا أنكر مع هذا أنه

يوجد فيهم المتدين المخلص في دينه، ولكن هذا بحسب اختباري قليل، والله يقول

الحق وهو يهدي السبيل.

_________

ص: 98

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإسلام وأصول الحكم

بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام

بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها، وتضليل أبنائها

(تمهيد) ما زال أعداء الإسلام الطامعون في ثل عرشه والقضاء على ملكه

وإبطال تشريعه، واستعباد الشعوب التي تدين الله به، يجاهدونه بالسيف والنار،

وبالكيد والدهاء، وبالآراء والأفكار، وبإفساد العقائد والأخلاق، وبالطعن في جميع

مقومات هذه الأمة ومشخصاتها، وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها

وأفرادها، ليسهل جعلها طعمة للطامعين، وفريسة لوحوش المستعمرين، وقد كانت

هذه الحرب السياسية العلمية للإسلام والمسلمين أضر وأنكى من الحروب الصليبية

باسم الدين ، فالحرب الصليبية كانت تجمع كلمة المسلمين للدفاع عن حقيقتهم

والمدافعة عن سلطتهم، وهذه الحرب المعنوية فرقت كلمتهم وشقت عصاهم،

ومزقت شمل شعوبهم، وأذاقت بعضهم بأس بعض، فصاروا عونًا لأعدائهم على

أنفسهم ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

قد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين محو اسم السلطنة العثمانية

الإسلامية من لوح الوجود، وإلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم الصغيرة،

التي أمكنهم استبقاؤها من تلك السلطنة العظيمة ، وتأليفهم حكومة جمهورية غير

مقيدة بالشرع الإسلامي في أصول أحكامه ولا فروعها ، وتصريحهم بالفصل التام

بين الدولة والدين؛ فذعر العالم الإسلامي وزلزل بعملهم هذا زلزالاً شديدًا،

وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم من نصارى الشرق وملاحدة المتفرنجين

المارقين من الإسلام، ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر، هاتفين لعمل الترك،

وكذلك فعل أمثالهم في سائر البلاد، إلا أن هؤلاء نشطوا لجعل الحكومة المصرية

حكومة لا دينية كحكومة أنقرة فهزئ العالم الإسلامي بدعوتهم وسخر منهم ، وراجت

في مقابلتها الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي عام؛ لإحياء منصب الخلافة بقدر ما

تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان.

بينا نحن معشر المسلمين على هذا إذا نحن بنبأة جديدة في شكلها، تؤيد تلك

النزعة الإفرنجية النصرانية في موضوعها، وتلك الفعلة الإلحادية في مشروعها.

بينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة ، لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام

صادقًا ولا كاذبًا، بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي ولا

جهمي ولا معتزلي، بل لم تخطر على بال أولئك الزنادقة الذين زعموا أن للإسلام

باطنًا غير ظاهره، فظاهره للعوام الجاهلين، وباطنه للخواص العارفين، وأرادوا

هدم سلطان الإسلام بالإسلام؛ لإعادة سلطان المجوسية الكسروية التي قضى عليها

المسلمون القضاء الأبدي، وإنما سبق الناعق بها اليوم ناعق آخر من متفرنجة هذه

البلاد ومن رجال القانون والقضاء الأهلي ، قيل: إنه انضوى إلى دين البابية

البهائية آخر فرق الباطنية ، نعق بها هذا الرجل في مجمع عقده لها في الإسكندرية

منذ بضع سنين بخطاب (محاضرة) ألقاه على كثير من رجال القانون ، ثم طبعه

ووزعه بالمجان فرددنا عليه ردًّا أعجزه فلم يستطع أن يدافع عن نفسه ولا دافع عنه

أحد من أعداء الإسلام ، لا من البهائية ولا من رجال قوانينهم الوضعية الذين

يريدون أن ينسخوا بها الشريعة الإسلامية.

وأما الناعق بهذه البدعة اليوم فمن العلماء المتخرجين في الأزهر ومن قضاة

المحاكم الشرعية {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) ، ومن بيت كريم في هذه

البلاد عُرف أهله بالآداب العالية والأخلاق وبالدين أيضًا ، خلاصة هذه البدعة:

أنه ليس للإسلام خلافة ولا إمامة ولا حكومة ولا تشريع سياسي ولا قضائي ،

وأنه دين روحاني محض كدين النصارى بالمعنى الذي فهمته شيعة البروتستانت

منهم دون من قبلهم ، وأن ما ادعاه المسلمون من عهد أبي بكر الصديق رضي الله

عنه إلى يومنا هذا من أمر الإمامة والخلافة باطل من القول وضلال من العمل،

وفساد في الأرض، لما جعلوه للخليفة من السلطان الديني الإلهي، وإنما أضل

جماعة المسلمين في ذلك الملوك؛ لتوطيد سلطانهم فيهم، وأن أبا بكر كان ملكًا

للعرب أراد أن يحقق وحدتهم. ويجعل السلطان لقريش وحدهم فيهم، وليس له ولا

لمؤيديه حجة من الدين، ولم يكن جميع الخارجين عليه والمانعين أداء الزكاة له

مرتدين عن الإسلام، وأن قتالهم لم يكن دينيًّا بل سياسيًّا للدفاع عن دولة العرب

ووحدتهم، والدين نفسه لم يوجب أن تكون للعرب ولا لغيرهم من المسلمين دولة

ولا وحدة ، بل لكل فريق من المسلمين عربهم وعجمهم أن يقيموا لأنفسهم حكومة

يرضونها، ودين الإسلام لم يقيدهم في ذلك بقيد ما ، بل هو بريء من كل ما

عزوه إليه من ذلك.

هذه خلاصة البدعة الجديدة التي قام ببثها اليوم في العالم الإسلامي الشيخ علي

عبد الرازق (من علماء الجامع الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية) المصرية بكتاب

ألفه فيها جاوزت صفحاته المائة، وهو يوزعه في الأقطار الإسلامية - على ما

بلغنا - بغير ثمن، وما كان لدعاة الأديان والمذاهب والأحزاب السياسية

والاجتماعية أن يستغلوا دعايتهم ويتجروا بالمال فيها فحسب الديني منهم ثواب الله

في الآخرة، والدنيوي عظمة الدنيا وجاهها والانتظام في سلك مؤسسي الانقلابات

الكبرى فيها.

ولا ينبغي لنا أن نكتفي في بيان ملخص هذه البدعة بما فهمناه من الكتاب من

غير نقل عبارته في النتيجة المرادة منه، وإن كان هذا الملخص مقدمة وتمهيدًا لرد

طويل مفصل نبطل به نصوصه المختلبة، ومقاصده المختبلة، قال في الصفحة

الأخيرة منه (ص103) ما نصه:

(والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون

وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة، والخلافة ليست

في شيء من الخطط الدينية. كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم

ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم

يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى

أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة) ، ثم قال إيضاحًا لهذا:

(لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم

الاجتماع والسياسة كلها ، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه [1]

وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن

ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم) .

أقول: القضية الأولى من هذا الإيضاح حق أريد به باطل وهو ما بعده،

فنظام الخلافة الإسلامية أفضل نظام عرفه البشر ، وكان المسلمون أعز الأمم عندما

أقاموه ، وما ذلوا واستكانوا لغير ربهم إلا عندما تركوه، وما كان لأمة عاقلة مستقلة

أن تبني قواعد ملكها ونظام حكومتها على أحدث تجارب غيرها من الأمم فتكون

كقدح الراكب لا تستقر على حال من القلق والاضطراب، ومن ذا الذي يحكم لها

بالخيرية بين الجمهورية والملكية، وبين الاشتراكية والبلشفية والرأسمالية مثلاً؟

وإذ كان يقول: هذا حكم الإسلام في المسألة عنده فماذا يقول فيما في القرآن

والسنة من الأحكام السياسية: كالمعاهدات والمعاهدين وأحكام الحرب ، والأحكام

القضائية الشخصية كالمواريث والزواج والطلاق والعدة ، والأحكام المدنية كتحريم

الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وأحكام العقوبات من حدود وتعزيزات؛ هل

ينكرها من أصلها كما أنكر أحاديث الخلافة والإجماع على نصب الخليفة؟ أم يقول:

إن طاعة الله ورسوله لا تجب فيها، وإنها مستثناة من حكم قوله تعالى:

{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ويستدِلُّ على

ذلك ببعض الشعر الذي يحفظه من الأغاني والعقد الفريد ودواوين الشعراء كما فعل

فيما سنذكره من دلائله في بحث الخلافة.

أم يقول فيها كما قال سلفه والسابق له إلى اقتراح هدم حكومة الإسلام من

أساسها ، ونسف أصولها الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس أحمد صفوت

أفندي الذي أشرنا إلى بدعته آنفًا ، تلك البدعة التي كانت سببًا فيما نرى لندب

الإنكليز إياه لإصلاح القضاء في فلسطين! ! وملخصها: أن النبي (صلى الله

عليه وسلم) كان حاكمًا للمسلمين ، وكانت طاعته واجبة كما تجب طاعة كل حاكم

في زمن حكمه، وأن أحكامه لا يجب أن تتبع من بعده، وأن لكل حاكم في كل

زمن مثلما كان له من ذلك وله بمقتضاه أن يلغي كل حكم كان قبله، لا فرق بين

الرسول وغيره، وكذلك إجماع المتقدمين وأقيستهم لا يجب أن يؤخذ بها من بعدهم

فإجماعنا في هذا العصر خير لنا من إجماعهم، وأقيستنا خير لنا من أقيستهم.

وأما أحكام القرآن فقد صرح بأنها هي التي فرضها الله على المسلمين في كل

زمان دون غيرها ، ثم جعل ما عدا المبادئ العامة منها (أي كالأمر بالعدل) ثلاثة

أقسام: ما حرمه الله وما أوجبه وما جوزه - فحكم الأول عنده - وقد مثل له بتحريم

الأمهات والبنات - أن لا يتعرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه! ! وحكم

الثاني عنده - وقد مثل له بالعدة والإشهاد على عقد الزواج - أن يبقى منه ما تتحقق

به الحكمة المقصودة منه ، فيستغنى بها عن التزام الحكم نفسه......... [2] حكومة أن

تحرم بالقوانين الوضعية ما تشاء منه ، ثم قال ما نصه: (وبذلك ينقض وجوب

التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ الواردة في القرآن) .

فخلاصة رأيه أن كل ما ثبت بالسنة أو الإجماع أو القياس من الأحكام

الشرعية لا يجب على أحد من المسلمين العمل به، وأن أحكام القرآن نفسها لا

يجب العمل بنصوصها ومدلول ألفاظها، وإنما يبحث المسلمون ما داموا يدَّعون

الإسلام عن مرمى المحرمات منها فيراعونه، وعن حكمة الواجبات فيراعونها ، وأما

الجائزات فلهم أن يحرموا منها ما أحله الله أو يوجبوه بحسب ما يتراءى لحكوماتهم

في كل زمان.

ولكن ظاهر عبارة عالم الأزهر وقاضي الشرع الذي جاء خلفًا لهذا السلف

القانوني في هدم التشريع الإسلامي أن أحكام القرآن كغيرها لا توجب على المسلمين

التقيد في حكومتهم بها ، ولا تمنعهم أن يأخذوا بأحدث تجارب الأمم فيها حتى إذا

فرضنا أن أحدثها وهي البلشفية نجحت فلا حرج عليهم في الأخذ بها.

أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه: إنه هدم لحكم الإسلام

وشرعه من أساسه، وتفريق لجماعته، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في

جميع الأحكام الشرعية الدنيوية، من شخصية وسياسية ومدنية وجنائية ، وتجهيل

للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين والمحدثين والمتكلمين،

وبالجملة هو اتباع لغير سبيل المؤمنين ، فالإسلام بريء منه بحسب ما فهمه

المسلمون من العصر الأول إلى عصرنا هذا ، وإننا سنرد على جميع أبوابه

وفصوله ردًّا مفصلاً جريًا على خطتنا في الدفاع عن ديننا وملتنا، ولكننا لا نقول

في شخص صاحبه شيئًا فحسابه على الله تعالى ، وإنما نقول: إنه لا يجوز لمشيخة

الأزهر أن تسكت عنه كما سكتت عن أحمد صفوت وأمثاله، فإن هذا المؤلف

الجديد رجل منهم ، فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو

وأنصاره: إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه، فإن كان ردنا عليه

ودحضنا لشبهاته يرفع عنهم إثم الإنكار عليه وتحذير الناس من ضلالته - لأن

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات - فإن للأئمة التي توجه

إليهم بالسكوت عن مثل هذا لا ترتفع بردنا وحدنا، بل يحط من أقدارهم في نظر

الأمة كلها، وحاشاهم الله من ذلك.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الاستكانة: الذل والخضوع تتعدى باللام لا بـ (إلى) قال تعالى: [فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ](المؤمنون: 76) .

(2)

يوجد هنا بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه.

ص: 100

الكاتب: أحمد بن تيمية

مناظرة ابن تيمية العلنية

لدجاجلة البطائحية الرفاعية

(وهي من أعظم ما تصدى له ، وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن

تيمية - قدس الله روحه - من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وإحياء السنة، ومحاربة البدعة، بعد أن أهمل ذلك الحكام ، فالعلماء ، ففشت البدع

وصار كثير منها يُعد من شعائر الدين، أو خصائص الصالحين، فكان رحمه الله

من أعظم المجددين) قال:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين،

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم

تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين.

(أما بعد) فقد كتبت ما حضرني ذِكْره في المشهد الكبير بقصر الإمارة

والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكُتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم ، في

أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس؛ لتشوُّف الهمم إلى معرفة

ذلك ، وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع

بعض أطراف الواقعة ، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن

الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويَرَه لانتشار هذه الواقعة العظيمة،

ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا وقهر الناس على متابعة الكتاب

والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة

والتلبيس على المسلمين.

وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم وطريق

الشيخ أحمد بن الرفاعي ، وحاله وما وافقوا منه المسلمين وما خالفوهم؛ ليتبين ما

دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه

في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة

المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم، وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في

غير هذا الموضع ، وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر

والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتألُّه والوجد والمحبة والزهد والفقر

والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف

ونحو ذلك ما يوجد ، فيوجد أيضًا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر،

ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف

بشريعة الإسلام والكذب والتلبيس، وإظهار المخارق [1] الباطلة ، وأكل أموال

الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.

وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة ، بيَّنت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم

بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم

جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق

مثل ملابسة النار والحيات ، وإظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل

والسكر وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد

غير مرة منهم قوم إظهار ذلك ، فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن

أسترهم ، فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام

فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن

نغتسل بما يذهب الحيلة ، ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن

ذلك.

وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التَّتَر بالمشرق ، وكان له

صنم يعبده قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ، ويبقى أثر

الأكل في الطعام بيِّنًا يُرَى فيه، فأنكرت ذلك، فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟

فقلت: نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر،

فاستعظم ذلك التتري ذلك ، وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل لكن

اليوم بحضورك لم يظهر ذلك ، فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك ، ذلك

التتري كافر مشرك ، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام ، وأنت

كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل

ذلك بحضورك [2] ، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري

بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم

بُلْق فيكم سواد وبياض ، فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا.

وقلت لهم في مجلس آخر لمَّا قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن

عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن من الأعراب والفلاحين أو الأتراك أو

العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة ، لم يُحسب لكم ذلك ، فمن معه

ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص

من المغشوش من الصُّفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك ، فقالوا لي: لا

نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا [3]، فقلت: همتي ليست معكم بل أنا معارض

لكم مانع لكم؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا ، فانقلبوا صاغرين.

فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ

البر مُطوَّقين بأغلال الحديد في أعناقهم [4] ، وهو وأتباعه معروفون بأمور ، وكان

يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن ، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من

الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينًا ، يوهمون به

الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وأنه سِيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين

طريقهم: أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع وقلت:

هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة

ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم [5] ، ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به إلى الله

تعالى؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد

كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك ، وهو أن النبي صلى الله

تعالى عليه وسلم رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال: (ما لي أرى عليك حلية

أهل النار) [6] ، وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه

بأهل النار من المنكرات ، وقال بعض الناس: قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة

عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره: (أحب القيد

وأكره الغل القيد ثبات في الدين) فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة [7] .

فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع زيادة ، وخوفته

من عاقبة الإصرار على البدعة ، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله ، ونحو ذلك من

الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به ، وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في

الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ، ولا اتخاذها

طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله

يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة

إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس

مثلهم.

فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به ، وهو أن المباحات إنما تكون

مباحة إذا جعلت مباحات ، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم

يشرعه الله، وجعْل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعْل ما ليس من

المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم

ذم الله في القرآن لمن شرَّع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله

بتحريمه [8] فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا

كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعْل مباح أو مكروه أو محرم ، لم

يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين

إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما

ليس بطاعة ولا عبادة [9] .

ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين وعهود أهل

الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك ، ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين

والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله ، لكن قد يكون عليه

كفارة عند الحنث في ذلك ، ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد

بالتزامه طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من

طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واتباع الكتاب والسنة إذ كان المسلمون

متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر

وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله

عليه وسلم ، وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما عُلم باتفاق الأمة أنه ليس

بواجب ولا مستحب ولا قربة ، لم يجُزْ أن يُعتقَد أو يقال: إنه قربة وطاعة، فكذلك

هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا

ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة

وعمل، وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم

يكن محرمًا لا ينهى عنه ، بل يقال: إنه جائز [10] ولا يفرقون بين اتخاذه دينًا

وطاعة وبرًّا وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينًا

بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما وبالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر

السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها

معاصي سيئات.

***

فصل

فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ، ومضت على ذلك مدة والناس

يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين،

ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة،

وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر (ذلك الشيخ) لمسجد الجامع ، وكان قد كتب إليّ

كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار ، وهو كلام باطل لا تقوم به

حجة، بل إما أحاديث موضوعة أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد

عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل ، فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب ،

فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك، وحضر عندنا منهم شخص ، فنزعنا

الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور

بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ

اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50) ؛

ولهذا غالب وَجْدِهم هوًى مطلق لا يدرون مَن يعبدون ، وفيهم شَبَه قوي من

النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ

وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77) ؛ ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء.

فحملهم هواهم على أن تجمَّعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع

مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب ، فلما قضيت صلاة الجمعة

أرسلت إلى شيخهم؛ لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ونتفق

على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة وكأنهم

اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم ، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر

لي وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم

مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة ،

فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين

الضجيج والعجيج، والإزباد والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، والتقلب

في نهر بَرَدى، وإظهار التوله الذي يخيلوا [11] به على الردى، وإبراز ما يدعونه

من الحال والمحال، الذي يسلِّمه إليهم مَن أضلوا مِن الجهال.

فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له: هم مشتكون،

فقال: ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى عليّ ودعوى الاعتداء مني

عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم:

فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا:

بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا:

نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا [12]، قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه

نصرناه، قالوا: نريد أن تشد منا، قال: لا ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو

معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل

إليّ بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم ، عرفني بصورة

الحال ، وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.

فلما علمت ذلك أُلقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين،

وكشف حال أهل النفاق المبتدعين؛ لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت

البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت

إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال،

وكثر فيكم القيل والقال ، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان ، فهو الذي

أوقع نفسه في الهوان ، فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين

يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة،

والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة ، وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار

الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع

محمد بن عبد الله ، وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.

ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع [13] ، وذكر أنه لا بد من

حضورهم لموعد الاجتماع؛ فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته

واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن

أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك ، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل،

وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل ، وقد كان بقايا الصابئة

أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى

الدهماء ، وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه

من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية ،

يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة ، ثم إلى الإشراك ، ثم إلى جحود الحق

تعالى ، ومِن شِرْكهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن

الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق كالملحدين من أهل الاتحاد ،

والغالية من أصناف العباد ، فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب

أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو

المسبب لجميع الأسباب ، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء،

وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به

على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالاً لا

يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء ، وأن شيخهم

هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن

المنكِر عليهم ما هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر ،

وأن لهم طريقًا وله طريق ، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى

ذات الزخرف والتزويق ، وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على

الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور

الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في

دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول

قائل.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أطلقوا اسم المخارق والمخاريق على الخوارق المفتعلة بالحيل والتلبيس والشعوذة ، وهي في أصل اللغة ضرب من لعب الصبيان.

(2)

لعل ذلك الشيطان من شياطين الإنس كأن يأكل من الطعام في غفلة من ذلك الأمير الخرافي ، ويوهمه أن الصنم أكله لمصلحة له في التلبيس عليه.

(3)

أراد بهذا رشوة شيخ الإسلام بمشاركته في هذا الجاه الباطل على حد [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ](القلم: 9) .

(4)

رأيت مثل هؤلاء في الهند من متصوفة الشرك.

(5)

أي يقتدي بسيرتهم لموافقتها الكتاب والسنة كالجنيد.

(6)

رواه النسائي وله تتمة.

(7)

أصل الحديث في الصحيحين وهذا لفظ مسلم وبعده: فلا أدري هو هو في الحديث أم قاله ابن سيرين اهـ؛ أي رواية عن أبي هريرة ، وفي رواية له إسناده إلى أبي هريرة وليس في رواية البخاري له شيء من الشك المذكور.

(8)

بل جعله من الشرك أو الكفر المتعدي الذي هو أضر من الشرك كما بيناه في تفسير [وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ](الأعراف: 33) وغيره راجع ص398-404 من جزء التفسير الثامن ، وكذا ص143 و147 و164 و181 منه.

(9)

لعله سقط من هنا: طاعة وعبادة، منصوبين.

(10)

سقط جواب (إذا) من الناسخ ، ومعناه أنهم يرون جواز جعله قربة وعبادة ، وهذا مثار كثير من البدع المحدثة ، وذكر لي بعض علماء الأزهر في هذه الأيام أن بعض كبار علمائه كانوا يتكلمون فيما يتكره الوهابية من بدع القبور وغيرها ، ويستحسنون ذلك ، فقال بعضهم منكرًا: ولكنهم منعوا أن يستشفع بأصحابها الصالحين ، فقال له شيخ الأزهر (الأستاذ أبو الفضل الجيزاوي) : هذا هو الشرع فقال المنكر: ما دليله؟ فقال الشيخ: إنما يطلب الدليل على الإذن به لا على المنع، فدل هذا على أن الشيخ - أيد الله به السنة - أعلمهم.

(11)

كذا ولعل أصله تحيلوا أي اتخذوا الحيل وسيلة للجاه فساقتهم إلى الردى ، ذلك بأن أفعالهم التي ذكرها ولباسهم وأغلالهم لها تأثير عظيم في قلوب العوام وأصحاب الأوهام.

(12)

هذه كلمة باطلة قالها بعض الفقهاء المغرورين بالدجل ، فاتخذها الدجاجلة أصلاً شرعيًّا وحكمًا إلهيًّا.

(13)

لعل أصله الأمير المطاع.

ص: 105

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العالم الغربي والعرب والإسلام

(2)

وماذا يقول الإنسان وماذا عساه أن يباحث أو يناظر لا يخجلون أن يقولوا:

إن الأوربيين بقوا أصدقاء للمسلمين ثلاثة قرون، وأنهم ما ثاروا للحرب الصليبية

إلا بسبب الأتراك، بما تعدوا به على أمم البلقان وعلى شواطئ الإدرياتيك.

مرارًا تمنينا أن الذي لا يعلم شيئًا لا يتشدق به، ومرارًا أملنا أن الذي يرى

نفسه مخطئًا يتجنب الخوض فيما لا يعرفه، إن القارئ ليرثي لهذا القول ولهذا

القائل، وأحيانًا يغلب عليه الضحك، فإنه عندما زحف الأوربيون إلى سورية

وفلسطين لم يكن فيهما أتراك، وما كان الترك إلا في قونية وإن كان الترك حاربوا

الصليبيين في قونية وأنهكوهم نوعًا، فتكون تلك منهم خدمة للعرب الذين كانوا

يومئذ هدفًا للصليبيين، وكان هؤلاء زاحفين إليهم، فإن الصليبيين كانوا قاصدين

القدس والشام والحجاز ومصر لا قونية التي لم يكن لهم شغل بها، والقدس

والشام ومصر والحجاز لم تكن تركية بل عربية، ثم لما قصدوا مصر لم تكن مصر

للأتراك، ثم لما قصدوا تونس في زمان مارلويس لم تكن تونس للأتراك، ثم لما

قصدوها وأخذوها في زمن شارلكان لم تكن للأتراك، ولما استولوا على وهران

وأكثر سواحل مراكش لم يكن شيء من ذلك للأتراك، ولما قصد البرتغاليون

زنجبار في القرن الخامس عشر، وأزالوا منها ملك العرب ثم عمان واستولوا عليها

لم يكن ثمة أتراك، ولما تحالفوا مع الحبشة وقصدوا محاربة مصر وتحويل النيل

الأزرق عن مصر لم تكن مصر للأتراك، وجميع الحروب التي قد وقعت بين

الإفرنج وعرب الأندلس وممالك المغرب لم يكن شيء منها بسبب الأتراك، ولا كان

هناك أتراك، ومما يقهقه له الإنسان من الضحك؛ كون الإفرنج غضبوا على

المسلمين وحاربوهم؛ لكون المسلمين كانوا يُصلون لانتصار الأتراك.. . وانظر

إلى هذه الجملة وتأمل ما فيها من الادعاء مع خلو معناها التام من الصحة وهي هذه.

(إن التاريخ يوضح بما لا يحتمل التأويل ولا يقبل الشك ولا يجوز معه

الجدل ولا نسوغ فيه مناقشة أن العالم الغربي (أي أوربا) بقي ملازمًا صداقة

المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي الشهير عليه، إلى أن

قام الأتراك وتعديهم عليه تباعًا في سهول البلقان وعلى الشاطئ الأدرياتيكي؛ مما

حرك فيه عامل الانتقام لزعمه؛ وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم الإسلامي راضٍ

عن أعمال الأتراك هذه طالما مئات ملايين تصلي لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر

الترك المسلمين على أعداء دينهم) انتهى بنصه الشائق.

ولا يعلم الإنسان ماذا يصلح وماذا يصحح من الأغلاط في هذه الجملة التي

يظهر أنها قرئت في كتاب إنكليزي، فعربت بهذه الصورة، واتخذت حجة،

وظنت آية منزلة، وصارت لا تقبل الشك، ولا تحتمل التأويل.. نقول:

أولاً - عندما قصد الإفرنج الشرق إنما كان مقصدهم بلاد العرب ولم يكن

حينئذ بها أتراك.

ثانيًا - اعتدى الإفرنج على مصر وجزيرة العرب وطرابلس وتونس

والجزائر والقطر المراكشي وعرب الأندلس حينما لم يكن فيها أتراك، ولا لها

علاقة بالأتراك كما قلنا.

ثالثاً - عندما زحف الإفرنج في الصليبية الأولى (سنة 1099) إلى بيت

المقدس لم يكن الأتراك وصلوا إلى سهول البلقان تباعًا ولا إلى الشاطئ الأدرياتيكي

حتى يقال: إن العالم الغربي انتقم من غارات الأتراك في سهول البلقان والشاطئ

الأدرياتيكي بالاعتداء على العرب في القدس والشام ومصر، فإن الإفرنج زحفوا

إلى سورية وفلسطين في القرن الحادي عشر، وأن الأتراك زحفوا على سهول

البلقان والساحل الأدرياتيكي في أواخر القرن الرابع عشر، فبمقتضى هذه العبارة

يكون الإفرنج انتقموا من العرب في بلاد العرب عن أعمال عملها الترك معهم تباعًا

في سهول البلقان والساحل الأدرياتيكي، قبل وقوعها بأربعة قرون ونصف، وهل

تظن أن المكابر يعدل عن عناده ولو ظهر له هذا الجهل الفاضح ممن نقل عنه

وصدق كلامه؟ كلا قد جربنا ذلك من قبل فلم يزل الذي يعرف بما لا يعرف مصرًّا

على خطئه.

رابعًا - كيف بقي العالم الغربي ملازمًا صداقة المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد

انتصار صلاح الدين عليه، وصلاح الدين انتصر على الإفرنج سنة 1192، وبعد

ذلك جرت الصليبية الثالثة التي كانت أشد الصليبيات، وبقيت الحرب فيها على

عكا سنتين ثم عقبتها الصليبية الرابعة سنة 1204، ثم الصليبية الخامسة سنة

1221، ثم الصليبية السادسة سنة 1229، ثم الصليبية السابعة سنة 1252 التي

غزوا فيها دمياط، ثم الصليبية الثامنة سنة 1270 في زمن لويس التاسع وفيها

غزوا مصر، وأُسر فيها مارلويس وبعد أن فدى نفسه عاد فغزا تونس، ومات في

حصارها.

فهذه كلها حروب اعتداء في اعتداء على المسلمين، لا سيما على العرب

الذين ذاقوا فيها من الأهوال والنكبات ما لا يوصف، وكلها من بعد صلاح الدين

وضمن ثلاثة قرون (الصداقة) التي زعمها صاحب تلك الجملة المعربة، فإن

كانت هذه هي الصداقة فيكف تكون العداوة يا تُرى؟ ثم بعد تلك القرون الثلاثة

حروب أخرى تقدم ذكرها لم يكن فيها أدنى رائحة للأتراك، وإنما اضطر عرب

المغرب بتوالي تعدي الإفرنج عليهم إلى استنجاد الأتراك، الذين استخلصوا تونس

والجزائر ووهران في زمن سليمان القانوني، كما أن سواحل مراكش استخلصها

من البرتغال مولاي إسماعيل سلطان قابوس العظيم جد الأسرة السلجماسية، على

أنه من الحقائق التاريخية أن الذي زاد رابطة العرب بالأتراك هو ما رأوه فيما بعد

من جهاد الأتراك في دفع الإفرنج عن البلاد العربية، فالإفرنج هم الذين أحوجوا

العرب إلى الأتراك.

خامسًا - مضحك جدًّا قوله: إن العالم الغربي تحرك فيه عامل الانتقام لزعمه

أن العالم الإسلامي راضٍ عن أعمال الأتراك يصلي لله سرًّا وعلانية؛ لنصر

الترك المسلمين، فالعالم الغربي يذبح تلك الأمم ويوقع تلك المصائب كلها في أقوام

كل ذنبهم أنهم صلوا لنصرة أبناء دينهم بالقتال فعلاً - كما يتطوع ألوف من الإنكليز

وغيرهم اليوم في حرب الريف بجانب الأسبان - حقًّا قائل هذا القول الإفرنجي لا

يخجل، ومصدقه يستحق الرثاء، لا يكفي الإفرنج أن قصدوا القدس من أقصى

بلادهم، وخربوا ديار الشام، ونسفوا الحضارة العربية، ودخلوا بيت المقدس؛

فالتجأ المسلمون إلى المسجد الأقصى فدخلوا إليه وذبحوهم عن آخرهم نساء ورجالاً

وأطفالاً، وكانوا سبعين ألفًا حتى غاصت الخيل في الدم إلى صدورها، وامتلأت

القدس بأشلاء القتلى فاستحيا الإفرنج ثلاثمائة من المسلمين؛ لأجل نقل الجثث

وتنظيف الشوارع من الدماء، وبعد أن فرغوا من عملهم هذا عاد الإفرنج فقتلوهم

أيضًا، وارتكبوا فظائع لا يسع المقام ذكرها، بل بعد ذلك كله يأتي واحد فيقول:

(إنما فعلوا ذلك) لأن العالم الغربي زعم وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم

الإسلامي راضٍ عن الأتراك الذين اعتدوا على العالم الغربي في سهول البلقان

والشاطئ الأدرياتيكي، أي أنه يعطي العالم الغربي الحق في هذه المذابح بأجمعها

التي مذبحة المسجد الأقصى واحدة منها، ويرى الذنب ليس من العالم الغربي بل

من المسلمين الذين (صلوا لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر الترك المسلمين أبناء دينهم

(أفلا تراهم يستحقون هذه المذابح وقد صلوا هذه الصلاة؟ هذا ولو كانوا صلوا

لنصر الأتراك قبل وصول الأتراك إلى الأدرياتيكي بأربعمائة سنة.. . هنا حيلتي

مع الذي لا يعرف ما يقول أصبحت قليلة.

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليلة

وماذا عساني أن أعد من تلك الحقائق الناصعة والآراء الصائبة [1] ؟ أقول له:

إن بلاد شمالي أفريقية بقيت عربية؛ لكون العرب ثبتوا فيها، لا من أجل كونها

إسلامية؟ لم نعلم أي مؤرخ شرقي أو غربي أو فيلسوف اجتماعي قال هذا القول،

ولا كيف يتصور العقل أن مراكش والجزائر وتونس وطرابلس تبقى عربية بدون

إسلام، وأية رابطة تبقى للبربر الذين هم القسم الأعظم فيها مع العرب إن لم يكن

الإسلام؟ وأية قوة كانت للعرب على البربر ليس في الوقت الحاضر فقط بل في

وقت الفتح نفسه إن لم تكن قوة الإسلام، فإن فتح العرب لهذه الأقطار باتفاق جميع

المؤرخين شرقًا وغربًا إنما تم واتسق بدخول البربر في الإسلام وليس بسبب آخر.

أم ذلك القول: بأنه يجب أن نترك هذا الحلم الجميل الذي هو نشر العربية

بواسطة القرآن والهزء بهذا (الحلم الجميل) ؟ فهذا أيضًا من الفلسفة التي عجزت

العقول عن إدراكها.. . نعم إن المستعمرين ولا سيما الإنكليز تعجبهم هذه النقمة،

ويتمنون انتشارها ورواج هذا التضليل بين العرب طمعًا في حص أجنحة الأمة

العربية التي تخشى إنكلترة انتظام شملها واستئناف دولتها أكثر كثيرًا مما تخشى

الأتراك، وهذا هو السبب الوحيد في كوننا نُعنى بإدحاض هذه الأقاويل وإزالة

تلبيسها، وإظهار ما فيها من العته؛ لئلا يلصق منها شيء بأذهان الجالية العربية

بأميركا وفيها كثير من السذج وغير المتعلمين، ومن ربما يظنون أن تلك الأقاويل

على شيء من الصحة، فمعلوم عند الجميع أن كل الأمم العظيمة والصغيرة تجد

وتدأب في نشر لغاتها، وتؤسس لذلك المعاهد العلمية، وتنفق عليها القناطير

المقنطرة، وكلما ازداد انتشار لغة ازدادت سعادة المتكلمين بها وحق إعجابهم، فإن

انتشار لغة أمة من الأمم يعتبر إضافة لعدد كبير من غير أبنائها إليها، فضلاً عما

يُستجلب إليها من الميول؛ لأن من عرف شيئًا أحبه ومن جهل شيئًا عاداه، والأمة

العربية تجسدها سائر الأمم على كون لغتها هي لغة سبعين مليونًا من العرب

والمستعربين - المستعربين بسبب الإسلام ونفوذه الماضي لا يسبب آخر أصلاً -

واللغة الدينية لثلاثمائة وخمسين مليون مسلم في الأرض قد امتزجت بلغاتهم

الأصلية، وتشكلت منها أكثر ألفاظهم العلمية، وهذا كله بدون شيء من العناء

الذي يعانيه الإفرنج، لأجل نشر لغاتهم، أفمثل هذا الغرض الذي ترمي إليه كل

الأمم الراقية، وتبذل من أجل بعضه الجهود والأموال الطائلة يهزأ به؟ ويقال عنه:

(حلم جميل) لا فائدة لنا به.

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم

ثم عاد الكاتب إلى ذكر تلك الدعوى الغربية الغريبة في تعليل حرب

الصليبيين للعرب بأسلوب آخر وقفّى عليه بقوله:

ربما قيل لي: كررت هذا المعنى كثيراً ولم تزل ترجع إليه، فأقول: بلى؛

لأنه أعجبني وأطربني جدًّا، وحقًّا أراد أن يعامل ويغلط من يباهت في الحقائق التي

لا يختلف فيها اثنان، فليأت بمثل هذه المزاعم وليُضحك قُراءه ويُطربهم وإلا فلا، ولا سيما عندما يقول: إن هذه الرواية هي مما لا يحتمل الشك ولا التأويل، ولا

يقبل الجدل ولا يسوغ المناقشة) أنه هو كون الإفرنج لم يقصدوا سورية، ولا خربوا مدنها، ولا طمسوا حضارتها العربية، ولا ذبحوا مئات الألوف من أهلها

كالشياه، ولا أجروا الدماء في المسجد الأقصى حتى غاصت الخيل فيها إلى

صدورها، ولما وصل الخبر إلى بغداد قام العويل وعلا البكاء وهجمت العامة

على دار الخلافة، وكان يومًا عظيمًا، كلا لم يعملوا شيئًا من هذه الأفعال سنة

1099 إلا نكاية بالأتراك عن حروب مستقبلة سيعملونها نحو سنة 1400

إلى 1450.

وهذه أشبه بما كانت دول الحلفاء تقول للعرب قبل الحرب العامة وفي أثنائها:

وهو أن هذه الدول (دول الحق والعدل) ليس لها غرض سوى تحرير العرب

من عبودية الأتراك، وإنزال العقاب في هؤلاء الأتراك البرابرة، وتأسيس استقلال

للعرب يستأنفون به مجدهم السابق، وما زالوا يكررون هذا التدجيل على العرب

وصدقهم فيه كثير من معاتيه الله في ملكه كما يقال - ولا يزال بعضهم مصدقًا -

حتى وضعت الحرب أوزارها، فكانت الدائرة الحقيقية هي على العرب، وظهر

الغش والخداع وغدروا بالحسين بن علي حليفهم وهزؤوا به وهم الآن بهذه المدة بعد

سقوطه يحاولون إخراجه من العقبة التي هي من أراضي الحجاز الصرفة، وهو

أصبح لا يكره أحدًا في العالم كرهه للإنكليز، حال كون الأتراك الآن ناعمين

بملكهم مستقلين أكثر من ذي قبل (والعالم الغربي) يتزلف إليهم ظاهرًا.

لا تثقل علينا هذه الأقاويل من أجل تضمنها محاربة الدين الإسلامي أو

الجامعة الإسلامية، فإننا نحترم جميع الآراء والمذاهب، ونقرأ كلام كثيرين ممن

يجاهر بالإلحاد أو التعطيل، أو يحارب الدين المسيحي خاصة أو الدين الإسلامي

خاصة، ونأخذ كثيرًا من أقوالهم بعين الاعتبار [2] إذا كان أصحابها من ذوي العلم

والاطلاع والفلسفة والتاريخ، لا بل نعجب بهم وبسعة علمهم إذا كانوا نظير الدكتور

شبلي الشميل والأستاذ الزهاوي وأمثالهما، والجامعة الإسلامية لا نفهمها إلا بمعنى

الرابطة التي يقدر أن يستفيد منها الأمم المستضعفة منهم على قدر إمكانهم؛ لأن من

سنة الخلق أن الضعفاء يتفقون والأقوياء يختلفون، وإذا كانت إنكلترة اليوم وهي

أقوى الأقوياء تدعو فرنسة وإيطالية وأسبانية لتشكيل جبهة واحدة في وجه الإسلام

فما ظنك بالمسلمين الضعفاء، الذين هم أحوج إلى الانضمام، وكون ابن عبد

المؤمن لم ينجد صلاح الدين أثناء الحرب الصليبية على الإفرنج - على رواية أنه

لم ينجده - ناشئ عن كون الإسلام قويًّا يومئذ لا يخشى عليه بالجملة، على أن ما

جاء مخالفًا للواجب لا يجوز أن يكون قياسًا، فقد وُجد في ملوك فاس من أسقطه

أهل مملكته فذهب إلى الأسبان، وجاء بهم، وقاتل قومه، أفنجعل ذلك مثالاً ونقول:

إن خيانة الملك لقومه ليست بشيء، فقد فعل الملك فلان ما هو كيت وكيت؟ وكم

في تاريخ الإسلام من حوادث سيئة، وأخبار منكرة عن ملوك وأمراء ووزراء مما

لا يخلو منه أمة أفنتخذ ذلك حجة ونقول: ما دام فلان سرق فيجوز لي أن أسرق

وما دام فلان قتل فلا حرج علي في أن أقتل؟

وليس بالضروري الاستمساك بالجامعة الإسلامية دون سواها، فالجامعة

الشرقية هي أوسع منها وأكثر وسائل، ولقد استعدت لها الأمم الشرقية منذ أمد،

وتأسست في طوكيو جمعية؛ لغرض تحرير الأمم الأسيوية من رق أوربا ، وصل

فيها مؤخرًا اجتماع يقال: إنه لم يسبق له مثيل في الازدحام والاكتظاظ، وخطب

فيه خطباء من الصين واليابان في موضوع اتحاد الأمم الأسيوية، ووجوب

تضامنها وتعاضدها لرفع سلطة العالم الغربي عنها، وستنمو هذه الجمعية ويكون لها

شأن عظيم.

وكان يود الإنسان أن لا يكون من حاجة إلى جامعة إسلامية ولا إلى جامعة

شرقية، وأن ترتفع الفوارق الدينية والوطنية، وتصير الجامعة هي الجامعة

الإنسانية لا غير، ولكن مع الأسف نقول: إن (العالم الغربي) لا يزال بعيدًا من

هذه الإحساسات، محتقرًا غيره مجوِّزًا لنفسه استعباد سائر الشعوب في السياسة

وفي الاقتصاديات وفي كل شيء، بحيث لا يقدر الشرقيون أن يسترسلوا إليه أو

يثقوا به، فإذا قام واحد مع ذلك يناضل عن (العالم الغربي) بعلم وحكمة وإنصاف

وروايات صحيحة شأن العلماء - سَرَّ الإنسان أن يناظرهم ولو كانوا سائرين في

عكس خطة الشرقيين، وأما النضال عن (العالم الغربي) بمثل هذا الخلط الذي قدمت لك أنموذجات منه فهو شيء مزعج لا يطاق، ويخشى الإنسان منه على أذهان البسطاء. اهـ.

_________

(1)

يعني أقوال ذلك المتفرنج الملحد الذي يرد عليه.

(2)

المنار: المراد بالاعتبار ما فيها من العبرة والموعظة.

ص: 116

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله

(4)

تتمة شرح مطالب الأزهريين

(المطلب السادس) : (تعديل الكشف الطبي بحيث لا يُمنع من تولي

وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ، ومعاملة العلماء معاملة خاصة في

الكشف الطبي بوزارة المعارف، وحفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف

التدريس بالأزهر، ووظائف الإمامة والخطابة بالمساجد) .

إن من ينظر إلى الإجراءات التي يتخذها ما يسمونه (القومسيون الطبي)

ليثبت بها صلاحية الشخص للوظيفة، يجد تلك الإجراءات شديدة وقاسية، وهي

أشد وأقصى إذا عومل بها الأزهريون، الذين اعتادوا أو عودهم ولاة الأمور أن لا

يُعتنى بهم صحيًّا، وأن يتركوا لجيوش الأمراض المختلفة تفتك بهم، فأماكن

الدراسة في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح - ولم توجد إلا لتكون أماكن

للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة القاسية، وفي زمني الحر

والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف الصحة الجيدة، هذا إلى

المتاعب الكثيرة التي يستلزمها الانكباب على الدرس والتحصيل، سيما في العلوم

الأزهرية البعيدة الغور والطويلة المدى، ولا ريب أن ذلك كافٍ لأن يحول دون

استيفاء خريجي الأزهر للشروط التي يفرضها القومسيون الطبي، فلابد أن تكون

للأزهريين معاملة خاصة تراعى فيها الاعتبارات التي ذكرنا، سيما أن هذه

الإجراءات لم يكن للأزهريين بها عهد، ولم يقيدهم بها قانون، على أنه إذا أجيب

ما نطلب بشأن أماكن الدراسة وغير ذلك من المطالب فقد يكون لولاة الأمور الحق

في أن يعاملوا من ينتفع بهذه الإصلاحات معاملة بقية إخوانهم خريجي المدارس.

وإذا ثبت بما ذكرنا وجوب تعديل الكشف الطبي بالنسبة للأزهريين، فإنا

نذكر أن هذا الطلب يشمل أموراً ثلاثة:

(1)

أن لا يمنع من وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ.

(2)

أن يعامل العلماء إذا عينوا للتدريس بوزارة المعارف معاملة خاصة

كالاكتفاء بنصف نظر في مجموع العينين.

(3)

حفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف التدريس بالأزهر، ووظائف

الإمامة والخطابة بالمساجد، ونكتفي بما قدمنا عن الكلام في الأمرين الأولين،

ونتكلم عن الأمر الثالث.

ذلك أن المكفوفين الذين يمضون زمنًا طويلاً في الأزهر، يكدون؛ لنيل

شهادة العالمية - هم أولى الناس بالعطف عليهم، وأجدرهم بالأخذ بناصرهم فلابد

أن يفتح لهم باب الأمل بما يتناسب مع كدهم واجتهادهم وما أحاط بهم من اعتبارات

أخرى، أما حرمانهم نهائيًّا من كل عمل فمعناه أنهم ليسوا أهلاً لشيء، وأنهم

أضاعوا حياتهم سدى، وهو تصرف لا يستطيع إنسان تبريره أو الذود عنه، سيما

أن كلهم أو جلهم يحتاج بعد تخرجه إلى المعونة وما يسد به رمقه في الحياة وإلى ما

يجعله كذلك عضوًا نافعًا في الهيئة الاجتماعية، فلابد أن يعطوا حظهم من الإنصاف

والرعاية.

وإذا طلبنا لهم حق التدريس بالأزهر، وهو ما كان حقهم حتى الزمن القريب

وحرمتهم منه القوانين الحديثة؛ فإنا لا نطلب لهم ما لا يستطيعون، فكثير منهم في

كل زمان كانوا من رجال العلم النابهين وأساطينه الأجلاء.

ولا يزال العلم والدين مدينين لأمثال عبد الله بن عباس وعبد الله بن أم مكتوم

وو، في العصور الغابرة، وإن كثيرًا من مكفوفي العصر الحاضر في الأزهر

خاصة وفي مصر عامة لدليل جدي على أن الله عوض هذه الطائفة المسكينة من فقد

أبصارهم ذكاء حادًّا، وفكرًا ثاقبًا، وقلبًا بصيرًا، وليس من مصلحة العلم والدين

أن تقبر تلك المواهب، ويحرم الناس من الانتفاع بها بحجة أن أهلها غير مبصرين.

على أنه لا يزال إلى اليوم عدد كبير من علماء الأزهر المكفوفين يباشرون

التدريس بالأزهر، وليس من يعيب كفايتهم فيما يكلفون به من مختلف الفنون.

وإذا كان التدريس بالأزهر من الحقوق الضرورية للمكفوفين، فإنه يستلزم أن

لا يحرموا من دخول قسم التخصص بالأزهر، ومما يساعد ذلك أن المرسوم الملكي

الكريم الصادر بإنشاء قسم التخصص، لم يشترط لدخوله سوى نيل شهادة العالمية

دون أن يفرق بين مكفوف ومبصر، فلا يصح مع هذا الإطلاق أن يكون التخصص

وقفًا على طائفة خاصة لتهمل طائفة أخرى هي أحوج الناس إلى المعونة والعطف.

وأما حقهم في الإمامة والخطابة فليس لأحد أن يقول: إن بهم مانعًا من الأهلية

له فمن الواجب أن يعطوه؛ لتُكفَل لهم حاجتهم الضرورية، ولينتفع المجتمع بكثير

من الكفايات التي منَّ الله بها عليهم.

(المطلب السابع) : (إرسال بعثات إلى الجامعات الأوربية؛ لدراسة العلوم

التي تتناسب مع التعليم في الأزهر، واتخاذ الطرق التي تكفل ذلك) .

لقد دهش بعض الناس لهذا الطلب، واعتبروه غريبًا في ذاته، وأنه لا يليق

بطالب العلم الديني، ولكن الأزهر الناهض الذي يريد أن يستعيد مجده وكرامته،

وأن يشغل المركز الجدير به بصفته أكبر جامعة شرقية إسلامية، يجب أن ينال هذا

المطلب الضروري، وأن تتخذ له الوسائل التي تكفل نجاحه.

أوَلَسْنا في حاجة لعلوم جديدة في حياة الأزهر الجديدة؟ أو قل: إلى دراسة

تلك العلوم التي جاءت الأزهر منذ زمن غير بعيد - كالتربية - دراسة وافية؟

ثم أليس من اللازم مثلاً أن ندرس في جامعات أوربا فلسفة الديانات وغيرها

من العلوم التي لها علاقة بالأديان، وإلا فكيف نفعل ونحن نرى الأجانب يدرسون

إلى جانب دينهم ديننا أيضًا؛ ليتقولوا علينا إذا شاؤوا، وليحرفوا الكلم عن مواضعه،

في الوقت الذي لا ندري نحن من دينهم شيئًا لنرد باطلهم بحقنا! !

فمن الضروري أن نلم بذلك كله، ونتوسع فيه توسعًا نتمكن به من تأدية

واجباتنا على الوجه الأكمل، فإن في عنقنا واجب الدفاع عن الدين وإذاعة شأنه بين

الناس، وذلك يستلزم الوقوف على كل ما له مساس بالأديان.

ومن الضروري أيضًا أن يكون من البعثة الأزهرية من يتخصص في الفلسفة

والتاريخ والعلوم العقلية، فنكون قد عملنا على أن نعيد للعلم في الشرق والأزهر

قوته وشبابه، وفي ذلك مفخرة عظيمة لمصر تجعلها على الدوام قبلة رواد العلوم

والآداب في الشرق عامة.

ولقد فطن إلى ذلك منشئ مصر الحديثة محمد علي باشا، فأرسل بعثات

كثيرة إلى الخارج كانت كلها أو أغلبها من الأزهريين، وقد كان أولئك المبعوثون

بعد عودتهم قواد النهضة العلمية المزدهرة التي غمرت مصر، ورددت البلاد

الشرقية صداها، وكان لها منها الأثر الجميل.

وإذا كان هذا أثر البعثات الأزهرية في الماضي، فإن بوسع مصر في

الحاضر أن تستفيد مما يمتاز به الأزهر من نشاط وكفاية ودأب على العمل واستعداد

للتفوق والنبوغ، فترسل إلى الخارج من الأزهريين من يكون عونًا لها في مستقبلها

المحتاج إلى الكفاح الشديد في سبيل سعادة الأهلين.

وما يقوله بعض قصار النظر: من أن إرسال الأزهريين إلى الخارج مفسد

لدينهم هو من باب الوهم الذي لا يقبله عقل، فإنما يفتتن عن دينه أولئك الجاهلون

بالدين الذين لم تمتزج تعاليمه بأنفسهم، ولم يدركوا أسراره ومبادئه لا الأزهريون

الذين هم أعرف الناس بالدين، والذين عملوا جهدهم لحفظه، وكانوا على الدوام

حُماته الأمجاد وحراسه القادرين.

وإذا قال أحد: إن الأزهريين لا يملكون الوسيلة التي يتمكنون بها من السفر

إلى الخارج كإتقان اللغة الأجنبية؛ فإنا نرد عليهم بأنا نقبل عن طيب خاطر أن

ينشأ قسم اختياري بالأزهر لتعليم اللغات، يستطيع بواسطته الطالب إتقان اللغة

التي يريدها؛ ليكون على استعداد للسفر، وليس في تعليم اللغة الأجنبية وإتقانها ما

يمكن أن يكون موضع اعتراض من الوجهة الدينية أو غيرها، على أن عددًا غير

قليل من الأزهريين يدرس الآن بعض اللغات خارج الأزهر، وكثير منهم يتقن هذه

اللغات التي يدرسها، مما يدل على استعداد الأزهريين للسفر في البعثات من الآن

إذا أجابهم إلى طلبهم ولاة الأمور.

(المطلب الثامن) : (إيجاد أمكنة صحية صالحة للدراسة غير الأمكنة

الحالية التي يدرس فيها الطلبة) .

لقد قلنا فيما سبق عند الكلام على الكشف الطبي ووجوب تعديله بالنسبة

للأزهريين: (إن أماكن الدراسة الحالية في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح

ولم توجد - إلا لتكون أماكن للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة

القاسية، وفي زمني الحر والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف

الصحة الجيدة) والآن نقول: إن هذه الأماكن التي يدرس بها الأزهريون لا

تستوفي شرطًا واحدًا مما توجبه التربية الحديثة، فالطلبة يضطرون للجلوس

متربعين طول يومهم، لا يحول بينهم وبين الأرض سوى حاجز بالٍ من الحصير،

لا يدفع رطوبة ولا يمنع أذى، ولا ريب أن تلك الجلسة الدائمة على الشكل الذي

ذكرنا مما يعرض صحة الطلبة للضعف، ويجعلهم عرضة لشتى الأمراض، فضلاً

عن تشتيت أذهانهم، وفقد انتباههم أثناء إلقاء الدرس، مع أن الانتباه واجتماع

الذهن ضروريان؛ ليستفيد الطالب مما يُلقَى عليه استفادة صحيحة قيمة.

هذا مع أن في تجاور الدروس بدون حاجز يفصلها عن بعضها ما يدعو لاختلاط

أصوات المدرسين والتهويش على بعضهم، وما يتبع ذلك من الجلبة والضوضاء

وسماع الطلبة الذين يجلسون في آخر الحلقات أصوات مدرسي الفصول الأخرى؛

التي قد تكون أصواتهم أقرب إليهم من أصوات مدرسيهم، وإن أقل نظرة لحالة

الدروس بالأزهر وقت انتظامها تكفي للاقتناع، وليس هذا من المصلحة في شيء،

على أنه ليس هناك ما يصح أن يسمى موازنة بين أماكن الدراسة بالمعاهد الدينية

والمدارس الأخرى، من حيث استيفاء الشروط التي تستوجبها التربية، فإن شرطًا

واحدًا من الشروط التي توجبها لا يوجد بأماكن الدراسة بالأزهر، في الوقت الذي لا

تنقص فيه المدارس الأخرى شرطًا واحدًا، ونحن على يقين بأن ذلك لا يرضي ولاة

الأمور؛ لأنهم مقتنعون بأنه من الضروري لمصلحة الطلبة ولتمام الاستفادة المدرسية

صلاحية الأمكنة للدراسة، واستيفاءها للشروط اللازمة، وذلك ما يجب أن ينظر إليه

بعين الاعتبار في المعاهد الدينية.

(المطلب التاسع) : (جعل الوظائف الكتابية بالمحاكم الشرعية حقًّا مشتركًا

بين جميع المذاهب) .

لا ريب أن هذا الطلب مع عدالته لا يكلف الحكومة شيئًا من المال، وهو

ليس إلا تنازلاً من علماء الحنفية عن بعض حق هو لهم، رضوا بأن يشركهم

إخوانهم من المذاهب الأخرى في الانتفاع به؛ لأن لأولئك الإخوان من الكفاءة لهذا

العمل ما لهم (الأحناف) .

على أنا إذا اعتبرناه حقًّا للأحناف، فليس إلا مجاراة لما هو واقع دون شيء

آخر؛ لأن القانون جعله حقًّا مطلقًا لحامل العالمية دون أن يفرق بين مذهب ومذهب

أليس من المصلحة مراعاة هذا الإطلاق، لا سيما أن فيه تحقيقًا للعدالة؟ ؟

وما دامت الكفاية والأهلية موجودتين فلا سبيل لإهمالهما.

لو أن الكتابة بالمحاكم الشرعية تشمل إصدار أحكام فقهية على مذهب الحنفية

لمَا كان للأحناف أن يرضوا بمشاركة غيرهم لهم في هذه الوظيفة، ولما كان

لغيرهم أن يطلبها، وإذا كانت وزارة الحقانية قد اتخذت - ولا تزال - مفتشين

للمحاكم الشرعية من غير الحنفية، فأولى لها أن تقبلهم في وظائف الكتابة التي لا

يسوغ حرمانهم منها.

(المطلب العاشر) : (إلغاء القوانين الاستثنائية والإجراءات التي ترتبت

عليها، وإباحة الانتساب والتحويل إلى الجهة التي يريدها الطالب) .

لقد كان مما لا يُتوقع أن تصدر قوانين جائرة تقيد بها حرية رجال الدين

الأزهريين في التعبير عن ميولهم وآرائهم، سواء كانت هذه الآراء في إصلاح

الأزهر أو في حالة البلد العامة؛ لأن الآراء يجب أن تكون على الدوام محترمة،

وأن يفسح المجال لظهورها لا أن تتخذ الوسائل لقمعها، وإذا وجب أن تحترم

الآراء وأن تكون حرة، فإن أولى بالاحترام والحرية آراء المتعلمين من رجال الدين

فهي على كل حال بعيدة عن أن تكون سيئة الغاية أو منكرة الأثر.

إن الأزهريين مَحوطون دائمًا بآداب دينهم وأوامره ونواهيه، وهذا كافٍ لأن

يحول بينهم وبين ما يمكن أن يكون أداة شر أو وسيلة للإفساد، فكان من الضروري

أن يكون لهم ما لسائر طوائف الأمة من تمام الحرية في التعبير عن أفكارهم

وميولهم، ما دام ذلك في حدود القانون العام.

وإذا كانت هذه القوانين قد ألجئ إليها في ظروف خاصة أيام كانت البلاد

خاضعة خضوعًا مطلقًا للأجنبي، ولم تكن الوزارات شاعرة بشيء من الاستقلال

في خدمة البلاد، فإن من الضروري إزالة هذه القوانين بعد أن تغيرت الحال،

وأصبح للبلد دستور يضمن حرية الآراء.

وليس ما يدعو لأن نذكر بالتفصيل مبلغ هذه القوانين من الجور، ويكفي أن

نقول أنها مخالفة للدستور، وهي مع ذلك في شكلها وجوهرها مما لا مثيل له في

جامعة من الجامعات، بل ولا في مدرسة من المدارس المصرية، وذلك كافٍ

لوجوب إلغائها مع ما ترتب عليها من إجراءات.

وكذلك يجب أن يحدد النظر في القانون القاضي بقصر طلبة كل جهة على

المعهد القريب لهم دون أن يسمح لأحد منهم بالانتساب إلى معهد آخر.

فقد تكون وسائل حياة الطالب موفورة في بعض الجهات دون بعض، وقد

تكون هناك اعتبارات أخرى كوجود الطالب مع من يعوله أو يلي أمره، فمن

الضروري أن تراعى في القانون المذكور هذه الاعتبارات؛ حتى لا يحال بين العلم

والراغبين فيه.

(المطلب الحادي عشر) : (جعل الامتحانات على دورين في السنة الواحدة

حسب المتبع في المدارس) .

إذا راعينا كثرة المواد المقررة في سني الدراسة بالأزهر، والكتب التي

تدرس فيها تلك المواد، وغزارة مادتها وحاجتها إلى البحث المطرد والتعمق فيه،

نجد أن من اللازم لمصلحة العلم والطلبة أن يكون هناك امتحانان أحدهما في آخر

السنة الدراسية الماضية، وثانيهما قبل بدء العام الدراسي المقبل، ولكل شخص

الحق في دخول أي الامتحانين، على أن لا يعتبر الثاني ملحقًا للأول، ويكون لمن

رسب في الامتحان الأول ولو في كل المواد أن يدخل الامتحان الثاني، وما دامت

الغاية من الامتحان هي أن يتأكد من إحاطة الطالب بالمواد التي درسها فلا على ولاة

الأمور أن يكون ذلك في أي الامتحانين، مع مراعاة أن إعطاء الطلبة هذا الحق

يفتح باب الأمل لمن يخونهم الحظ في آخر العام لأسباب، قد لا يكون في وسعهم دفعها

،فتهيأ لهم الفرصة؛ ليتمكنوا من حفظ عام من حياتهم، وفي ذلك أيضًا تخفيف

العبء عن ولاة أمور الطلبة في الإنفاق عليهم، سيما من الطبقات غير

الغنية، وذلك ما لا يحسن إهماله لمصلحة العلم والمتعلمين.

(المطلب الثاني عشر) : (انتقاء الكتب وتعديل البرامج بما يتناسب مع

حاجيات العصر الحاضر والتقدم العلمي الحالي) .

يعد هذا الطلب من لوازم الإصلاح المنشود، فإن الكتب المقررة الآن بالأزهر

قد ألفت في عصور سابقة، تختلف حالتها كثيرًا عن حالة هذا العصر ،

فالأسلوب الذي كتبت به، والأبحاث التي تناولتها يحتاجان إلى كثير من التهذيب

والتنقيح، ليتفق ذلك مع حاجيات هذا الزمن.

ففي التوحيد مثلاً لا تزال تدرس الكتب التي تبحث مذاهب السوفسطائية، وما

عليها من ردود مع انقراض هذه المذاهب وأصحابها، وقد كان الواجب أن يُعنى

بمذاهب الإلحاد التي تفشت في هذا العصر، فتدرس ماهيتها وطرق دحضها والرد

عليها، وفي علوم البلاغة ندرس كتبًا لا نجاوز الحد، إذا قلنا: إنها معقدة لا تعين

الطالب على فهم روح العلم، وهي مع ذلك تأخذ من وقته أكثر مما يأخذ منها،

وبإجمال فإن كثيرًا من الكتب المقررة بالأزهر تحتاج إلى تهذيب أو استبدال.

ولا ريب أن الميول إذا اتجهت إلى سد هذا النقص وجدت ذلك من الميسور،

فإن للعرب مؤلفات قيمة تتفق مع حالة العصر، وما لا يوجد من ذلك فمن الممكن

أن تقوم به لجنة تناط بها هذه الغاية، وفي مصر من الرجال الأكفاء في الفنون

المختلفة من يؤدي ذلك على أكمل وجه.

وأما تعديل البرامج فإنا نطلبه؛ ليسير الأزهر جنبًا إلى جنب مع أكبر المعاهد

العلمية، وليعلم المتعنتون أنا لسنا جامدين، وأنا على استعداد لأن يستفيد الأزهر

من كل تقدم علمي في الخارج؛ ليحتفظ بمجده الخالد، وليبقى معهد الشرق العظيم

كما كان في سالف الأيام.

***

الخاتمة

وبعد، فقد وضحنا مطالب الأزهر بعد أن صورنا متاعبه وآلامه، ولا ريب

ولا ريب أن قارئها الكريم وجد فيها آية الحق الواضح، ولمس برهان العدالة

الناصع، ومن أجل ذلك لا يخامرنا الشك في أنها ستَلقى تعضيدًا يُشعر الأزهريين

أن العدل لا يعدم أنصارًا يذودون عنه، ويساعدون على أن يسود، ولولا اعتقادنا

أن للحق صولة على الأفئدة، وسلطانًا مهيمنًا على النفوس، لكان لنا مندوحة عن

الشكوى، ولكنا بسطنا هذه الأدواء وشفعناها بأدويتها الناجعة، ولا شفيع لنا غير ما

تضمنته من الحقائق، فإلى كل غيور نزجيها على هذه الصفة، وعليها يرحب

الأزهر بمن يتقدم لنصرته وإرجاع مجده إليه، وفق الله الجميع إلى ما فيه الخير

العام.

عبد الوكيل جابر، محمد فهمي السيد، عبد اللطيف محمد السبكي، مصطفى

العطيفي، كامل محمد حسن، محمود حسين مهدلي، علي محمد حسن، جاد

سليمان محمد محمد الجسر، عبد الحميد مطاوع، منصور علي رجب، عبد الحكيم

أبو المعالي، طه علي طه، محمد عبد الله أبو النجا، محمود عبد الدايم، حامد

عوني، محرز السباعي، أحمد علي أحمد، عبد الفتاح محمد، عبد الحميد عباس،

الأبحر، صالح موسى، محمد الفحيل، محمد أبو الحسن، محمود خليفة، محمود

الخولي، عبد العظيم المسلاوي، حسين مشرف، نصار شديد، محمود ربيع،

أحمد هنداوي، محمود نعيم جاد، مشهر أحمد هندي، علي علي الطباخ، علي

محمد عامر، زكريا حسن مكاوي، محمد الأباصيري، محمود عوض، محمد منير

محمود، عبد الرحمن النواوي، أحمد الكومي، عبد العظيم سالم حسين السيد عبد

الله، أحمد طالب عبد الله، حسن سيد أحمد البخشونجي ، انتهى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 123

الكاتب: شكيب أرسلان

‌عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس

شروط تسليم غرناطة لإسبانية وعاقبة المسلمين معها

(مقتبس من خلاصة تاريخ الأندلس للأمير شكيب أرسلان)

أما شروط تسليم غرناطة فقد سردها المرحوم ضيا باشا في تاريخه للأندلس،

وهي خمس وخمسون مادة، تتضمن تفاصيل ما وقع عليه الاتفاق، وفي طيها من

عهود المحاسنة والملاطفة والمراعاة والمحافظة على أعراض القوم، وعقائدهم

ودمائهم وأموالهم وكراماتهم وراحاتهم ما لا يفي به إلا نصه.

وقد تكرر في المادة الخامسة العهد من الملك والملكة باحترام ديانة المسلمين

ومساجدهم وأوقافها وأموالها المحفوظة، وعدم التعرض لأمورهم الشرعية، بل

إعادة ذلك إلى فقهائهم والمحافظة على أصول الفقهاء وعاداتهم وملابسهم، وأن يبقى

هذا العهد معمولاً به في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.

وفي المادة السادسة عدم سلب أسلحة المسلمين ومراكبهم ومواشيهم إلا الأسلحة

النارية فتَقرَّر أخذها.

وفي المادة السابعة تسهيل السفر لكل من شاء الهجرة بأمواله وأمتعته، وفيما

بعدها إجازته على نفقة دولة قشتالة من أي مرسى أراد، وتسهيل معاملات بيع

العقار لمن شاء الرحيل، وإذا لم يتهيأ البيع ووكل صاحب المِلك وكيلاً، تعتبر

وكالته، ويساعَد على استيفاء حاصلاته وإيصالها إليه بمكانه وراء البحر.

وورد في المادة الحادية عشرة تشديد مجازاة كل من يدخل من النصارى جامعًا

بدون رخصة الفقهاء.

وورد في المادة الخامسة عشرة إعفاء السلطان أبي عبد الله وسائر أمراء

المسلمين وقُوَّادهم وفقهائهم من الضرائب والرسوم، وإقرار الجميع على امتيازاتهم

كما كانوا لعهد ملوكهم، وأن تكون كلمتهم نافذة وقولهم مسموعًا.

وورد في المادة السادسة عشرة والتي بعدها ما يتضمن عدم جواز دخول أحد

من النصارى بيوت المسلمين، حتى ولا الملك والملكة، ومن خالف ذلك من

النصارى يجازَى بشدة.

وفي المادة الخامسة والعشرين إذا فر أحد من أسرى المسلمين المعتقلين في

سائر الممالك، ووصل إلى غرناطة فقد نجا، ولم يكن لمأموري شرطة غرناطة أن

يمسكوه، لكن ذلك الامتياز مخصوص بعرب الأندلس لا يتناول أسرى المغرب.

وفي المادة الثلاثين أن من أسلم من النصارى قبل هذه الكائنة فلا تجوز

معاملته إلا بالحسنى، ولا يرى أقل تحقير، ومن خالف ذلك ينال من الجزاء شدة،

وفي المادة الواحدة والثلاثين لا يجبر مسلم ولا مسلمة على قبول الدين المسيحي.

وفي المادة الثانية والثلاثين إذا كان المسلم متزوجًا بنصرانية وأسلمت، لا

تجبر على الرجوع إلى دينها الأصلي، والذين يتولدون من هذا الزواج يعدون

مسلمين، ولو ارتدت الزوجة عن إسلامها.

وفي الخامسة والثلاثين لا يرد المسلمون شيئًا مما غنموه أثناء الوقائع التي

جرت إلى يوم تسليم البلد، وفي التي بعدها لا يعاقبون على شيء مما مضى من

تحقير الأسرى أو إهانتهم.

وفي الثانية والأربعين تفصل الخصومات بين المسلمين والنصارى في مجلس

مؤلف من قائدين أحدهما مسلم والآخر مسيحي.

وفي الثالثة والأربعين تعاد جميع أسرى المسلمين في مدة ثمانية أشهر

من أي بلاد وُجدوا فيها من إسبانية، وفي مدة خمسة أشهر إن كانوا في

بلاد الأندلس.

وفي الثانية والخمسين عدم استخدام شرطة من النصارى؛ لمراقبة شؤون

المسلمين، بل تكون شرطتهم من أنفسهم.

وفي آخر هذه المعاهدة تعهد الملك فرديناند وامرأته صاحبا ممالك قشتالة

وأراغون وليون وصقلية أن يحافظا على نص شروطها حرفًا بحرف، وينفذا جميع

أحكامها من خاص وعام وكلي وجزئي بكمال التدقيق، وبدون أدنى زيادة ولا

نقصان مهما يكن من الأسباب، وأن تبقى على شكلها وهيئتها، ولا يتغير ولا يتبدل

حرف منها إلى الأبد، ولا يمكن أحدًا من خلفاء الملكين المشار إليهما، ولا خلفاء

خلفائهما ولا حفدتهما ولا أولادهم إلى ما شاء الله أن ينقضوا أقل حكم من أحكامها،

أو يبدلوا حركة من حركاتها، وأُعطِيَ الأمر بها إلى الأمراء والوزراء والقواد

والأجناد والرهبان والرعية من حاضر وغائب، وقاصٍ ودانٍ، وكبير وصغير،

وأعلن أن من يجترئ على الخلل بشيء مما تضمنته هذه المعاهدة، يجزى جزاء

من أقدم على إفساد البراءات الملوكية أو تقليد الحجج والسندات بدون أدنى تأخير.

وأقسم الملك فرديناند والملكة إيزابلا وسائر من أمضوا الشروط على دينهم

وشرفهم برعايتها إلى الأبد على الصورة المبينة، وكتبت على رق غزال محلى

ومطرز تحريرًا في ثلاثين من كانون الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وألف من

الميلاد.

وحررها فرناند وصفره بأمر الملكين، وأمضاها الملك فرديناند والملكة

إيزابلا وأولادهما الدون جان والدونة وإيزابلا والدونة حنة والدونة ماريانة والدونة

كتالينة ورئيس أساقفة أشبيلية الدون دياغو هرتادو رئيس أساقفة صانتياغو الدون

ألفونس وكبير فرسان صانتياغو المسمى بالدون ألفونس أيضًا، والدون جان كبير

فرسان القنطرة والدون الفارو زعيم رهابين ماريوحنا والدون بيروغونزالس

كردينال أسبانية، ورئيس أساقفة المملكة، والدون هنري كبير حكومة أراغون،

ومن أبناء عم الملك، والدون ألفونس من أبناء عمه أيضًا، والدون الفارو مدير

دائرة الملكين، والدون بتروفاناندز رئيس جند قشتالة، ويليهم نحو من أربعين دونًا

كلهم من أبناء السلالة المالكة، وأساقفة البلاد وأمرائها وأعيانها وقوادها.

وكتب أيضًا معاهدة أخرى لسلطان غرناطة أبي عبد الله بن أبي الحسن

متضمنة أربع عشرة مادة فيها تمليكه الإقطاعات والأراضي والبلدان التي وهبها

إياه المَلِكان، معينًا كلاًّ منها بذاته والتعهد بإعطائه أربعة عشر مليونًا وخمسمائة

قطعة من السكة المعروفة بالمراويد عند دخولهما قلعة الحمراء، وإفراز ملكيته

لجميع العقار الموروث، وإعفاؤه من دفع الضرائب والرسوم وأداء المكوس عما

يجلب من الأمتعة برسمه، وأنه في أي وقت شاء بيع هذه الأراضي والأملاك،

يشتريها الملكان كلها بقيمتها العادلة، وإن لم يشأ بيعها، وأراد النقلة إلى بر

المغرب فالوكيل الذي يعينه عليها يستوفي له حاصلاتها، ويوردها عليه في أي

جهة كان مما وراء البحر، وفي أي وقت عول على الإجازة تنقله مع رجاله وعياله

وأمواله سفن دولة قشتالة مجانًا، ولا يطالب بشيء، ولا يكون مسؤولاً عن شيء

مما حصل إلى حين عقد الصلح، ولا يسترد شيء مما غنمه، وجميع هذه الشروط

كما هي جارية في حقه تجري أيضًا في حق والدته وشقائقه وزوجته وزوجة مولاي

أبي نصر، والعهدة الثانية مؤرخة في يوم تاريخ الأولى، إلا أنني وجدت أكثر

المؤرخين يؤرخون إمضاء المعاهدات في 25 كانون الأول وفق 22 المحرم سنة

897.

(ثم نقل المؤرخ رواية نفح الطيب في تسليم غرناطة، وبعض شروط

الصلح بينهم وبين المسلمين مخلصًا بما نصه) .

(وفي ثاني ربيع الأول من سنة 897 استولى النصارى على الحمراء،

ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف

الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل

والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم

على ما كانت عليه، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم - وأن تبقى المساجد كما

كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدًا -وأن لا

يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي، وأن يُفتكَّ جميع من أُسر في غرناطة من

حيث كانوا، وخصوصًا أعيان نَُّص عليهم، ومن هرب من أسرى المسلمين ودخل

غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد

الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا

الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء ، وأن لا يؤخذ أحد بذنب

غيره ، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ، وأن من تنصر من المسلمين

يوقف أيامًا، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع

إلى الإسلام تمادى على ما أراد؛ ولا يعاقب من قتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا

يؤخذ ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى

ولا يسفر لجهة من الجهات ، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم

جميع المظالم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين،

ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه

وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود [1] ، وأهل الدجن ، ولا يمنع مؤذن ولا

مُصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منهم يعاقَب، ويُتركون من

المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده،

وأمثال هذا مما تركنا ذكره، انتهى المراد منه.

نقض الأسبانيول عهد مسلمي الأندلس وتنكيلهم بهم

وإكراههم على التنصر

قال صاحب المختصر المذكور:

ولنذكر حالة بقية مسلمي الأندلس بعد ذهاب ملكهم فيها فنقول: ورد في تاريخ

(الإسلام في إسبانية) تأليف ستانلي لانبول ما محصله (إن آخر أنفاس أبي عبد

الله على تلك الربوة لم يكن بآخر حر أنفاس المسلمين في تلك الديار، بل بداية

أنفاس يرسلونها الصعداء، وافتتاح عهد انتقام وابتلاء، وإن أسقف غرناطة الأول

هرناندو دوتالافيره كان رجلاً حليمًا عادلاً، أحسن معاملة المغاربة، وأبى الجور

عليهم، وتعلم العربية، وكان يصلي بها، وعلى يده ارتد ألوف من المغاربة إلى

النصرانية، قيل: إن ثلاثة آلاف تنصروا في يوم واحد، إلا أن الكردينال

كسيميناس الذي كان من القسم المحارب بين رؤساء الكنيسة اعتسف السبيل، ومال

إلى العنف والإكراه، وأساء معاملة المسلمين، وحمل الملكة إيزابلا على ما بقي

نقطة دهماء في تاريخ حياتها من اضطهادهم واستعبادهم وإكراههم على التنصر،

فأثار ذلك ساكنهم، وأخرج كامنهم، وفي إحدى المرات حبست امرأة من البيازين

لشأن من هذا القبيل، فثار سكان البيازين، وتحصنوا وحملوا السلاح، وكادوا

يفتكون بالجند وأوشك الدم أن يسيل بحدة الكردينال كسيميناس.

إلا أن المطران هرناندو الموصوف بالوداعة، دخل ربض البيازين بالسكينة

والأنس مع نفر قليل من حاشيته بدون سلاح، وسأل القوم عن شكواهم، وتقبلها

منهم بالاستماع والاحتفال، وهدأ روعهم وأعاد طائر الأمن إلى وكره، وحجب

الدماء يومئذ، على أن كسمينيس المشهور لم يزل يُغوي الملكة، حتى أصدرت

أمرها إكراه المسلمين على إحدى الخطتين الجلاء أو النصرانية، وذلك بأنهم كانوا

يذكرون المسلمين بأنهم سلالة النصارى في الأصل، فأُقفلت المساجد وأحرقت

الكتب، التي هي ثمرات القرون وزبد الحقب، وأذيق المسلمون العذاب أشكالاً

وألوانًا، ففضل عامتهم فراق دينهم على فراق أوطانهم، إلا أن شعلة من الحمية

الإسلامية بقيت تلمع في جبال البشرات، حيث حمتهم أوعارها من مضطهديهم.

وأول جيش أرسل إليهم تحت قيادة الدون ألونزو دواغيلار البطل الشهير

انهزم هزيمة شنعاء وذلك في سنة 1501، وقتل الدون المذكور، وقيل: إنه الدون

الخامس المقتول من عشيرتهم في حرب المسلمين، فازداد انتقام الأسبانيول من

المغاربة بعد هذه الغلبة، وهجم كونت طنديلة على قوجار، وهدم كونت سرين

جامعًا على جماعة التجأوا إليه من المسلمين بنسائهم وأطفالهم، وأمسك الملك

فرديناند بنفسه الطريق على الفارين من الجبال، فمن بقي حيًّا من الثوار فر إلى

مراكش ومصر والبلاد العثمانية وانتهت الثورة الأولى في الجبال.

ومضى على ذلك نصف قرن والبُغض دفين في القلوب، والمسلمون

المتنصرون يعمدون أولادهم ظاهرًا، فإذا انصرف القسيس مسحوا عن الولد ماء

المعمودية، وإذا تزوج أحد الموريسك (لقب المتنصرة من المغاربة) أجرى

القسيس عقد الإكليل، ثم بعد ذهابه عقدوا النكاح بحسب السنة الإسلامية.

وكانوا يتلقون قرصان البحر من أهل المغرب، ويعاونونهم على اختطاف

أولاد النصارى، ويأتون غير ذلك، فلو كانت ثمت حكومة عاقلة قوية ترعى

عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة، لم يكن محل لذلك البغض العميق،

ولكن حكام الأسبانيول لم يكونوا أهل عقل ولا عدل، وكانوا يزدادون بتمادي الأيام

شرًّا، ولم تلبث الأوامر أن صدرت بإكراه المغاربة على ترك ألبستهم المخصوصة

بهم، وعلى لبس البرنيطة والسراويلات الأسبانيولية، وبحظر الغسل ودخول

الحمام عليهم اقتداء بغالبيتهم في احتمال الأقذار، ثم منعوهم من التكلم بالعربية،

وصدر الأمر بأن لا يتكلموا بغير الأسبانيولي، بأن يغيروا أسماءهم ويسيروا سيرة

أسبانيولية، ويسموا أنفسهم أسبانيولاً، وكان تصديق الإمبراطور شرلكان هذا الأمر

الفظيع في سنة 1526 على أنه لم يكن الظاهر من اعتماده إجراءه بالفعل، لكن

عماله اتخذوه ذريعة لاستنزاف أموال الموسرين من المغاربة، صار ديوان التفتيش

يحترف ويتجر بهذه المسألة، ولما صار الأمر إلى فيليب الثاني شدد في إنفاذ

الأوامر بحق الموريسك، وسنة 1567 عزز الأمر الصادر بشأن تغيير الزي

واللغة باستيثاق غريب؛ لأجل منع النظافة التي هي من سنن الإسلام، وذلك بأنه

أخذ يهدم حمامات الحمراء البديعة، فالطرائق التي أخذوا بها لتنكير أحوال تلك

الأمة هي أشد من أن يحتملها أي قبيل كان، دع سلائل المنصور وعبد الرحمن

وأبناء سراج، ولذلك لم يطل الزمن حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة، وثار فرج

ابن فرج من نسل بني سراج بجماعة من ذوي الحمية من غرناطة، قاصدًا الجبال

قبل أن تمكنت الحامية من تعقبهم، ونودي بهرناندو دوفلور من نسل خلفاء قرطبة

ملكًا على الأندلس تحت اسم محمد بن أمية، وعمت الثورة في أسبوع واحد كل

أنحاء جبال البشرات ووقع ذلك سنة 1568.

ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى وأوعرها مسلكًا،

كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالاً، والفتنة فيه بعيدة المرمى، فاستمرت

هذه المرة حولين كاملين، حافلاً تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر

والتعذيب والاستباحة والاحتيال من الجانبين، لكنه أيضًا حافل بوقائع يندر في

تاريخ الفروسية، وكتب الحماسة الظفر بأمثالها، وتبقى على صفحات السير فخرًا

للقرون والأمم، كان المغاربة هناك في موطنهم الأخير، والموقف الذي يحاولون

فيه إدراك الثأر على نحو مئة سنة قضوها في البلاء العظيم، والهون الذي ليس له

نظير، فهبوا جميعًا منادين بأخذ الثأر واقتضاء الأوتار قرية بعد قرية، وهدموا

الكنائس، وأهانوا ما فيها، وفتكوا بالقسيسين، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في

أيديهم، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج، ودافعوا دفاعًا شديدًا، وكان مركيز

مونتيجارة قائدًا في غرناطة، فعمد إلى المسالمة، وأخذ بالملاينة، وكادت الوقدة

تنطفئ لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء في حبس البيازين من

المغاربة، قيل: إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز، لكن الموريسك لم يقبلوا العذر،

ونشروا لواء الثورة، وصار ابن أمية أميرًا بالفعل على جميع جهات البشرات،

إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة، فقام بعض أعوانه وقتلوه، وبويع لرجل آخر

موصوف بالنجدة والحماسة اسمه عبد الله بن أبوه.

فأرسلت دولة إسبانية لتدويخ الثوار الدون جون الأوسترى أخا الملك، وهو

شاب في الثانية والعشرين من العمر، فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى

1570، وأتى من الفظائع، ما بخلت بأنداده كتب الوقائع، فذُبح النساء والأطفال

أمام عينيه، وأحرق المساكن ودمر البلاد، وكانت علامته (لا هوادة) وانتهى

الأمر بإذعان الموريسك، لكنه لم يطل واستأنف مولاي عبد الله بن أبوه الكرة،

فاحتال الأسبانيول حتى قتلوه غيلة، وبقي رأسه منصوبًا فوق أحد أبواب غرناطة

ثلاثين سنة، وأفحش الأسبانيول في قمع الثورة بما أقدموا عليه من الذبح والحريق

والخنق بالدخان حتى أهلكوا من بقية العرب هناك خلقًا كثيرًا، وخنع الذين نجوا

من الموت لكنهم وقعوا في الرق، وسيقوا مماليك وعبدانًا، ونُفي جملة منهم، فأخذ

عددهم يتناقص، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ وهو عيد جميع

القديسين سنة 1570، بلغ عدد من ذهب منهم عشرين ألفًا، والذين أخذوا منهم في

معمعة الفتنة صاروا إلى الاستعباد، والباقون أخرجوا من البلاد مخفورين، فمات

كثير منهم على الطرق تعبًا، فمنهم من أجاز إلى بر العدوة وطافوا هناك سائلين

لأجل قوتهم الضروري، ومنهم من لجأ إلى بلاد فرنسا حيث استقبلوهم بِرًّا وترحيبًا،

واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانية، ولم ينتهِ إخراجهم

تمامًا إلى سنة 1610، إذ وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم بعد أن

وليها الإسلام ثمانية قرون، ويقال: إن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت

فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين، وأن

الذين خرجوا لآخر مرة نحو نصف مليون.

وأما الأسبانيول المساكين فلم يعرفوا ماذا يصنعون، ولا أنهم يخربون بيوتهم

بأيديهم، بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة، مع أن أسبانية كانت مركز

المدنية ومبعث أشعة العلم قرونًا، وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام

بمقدار ما استفادته هذه البلاد، فلما غادرها الإسلام انكسفت شمسها وتسلط نحسها،

وإن فضل مسلمي الأندلس؛ ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة،

وسقوط هذه الأمة في سلم الاجتماع بعد أن خلت ديارها من الإسلام انتهى كلامه

ملخصًا.

واستشهد في حاشية هذه الجملة بنقل يمثل لك درجة هذه الحقيقة، وهو أن

الملِك حوَّل مدينة غرناطة ضياعًا واسعة ومزارع التزموا بيعها سنة 1591؛ بسبب

كونهم يخسرون عليها أكثر من غلتها، مع أن هذه البقاع كانت لعهد العرب حدائق

غنَّاء، وغياضًا ذات أفياء، وموارد ثروة ورخاء.

وقال واشنطون أرفن في تاريخه لفتح غرناطة ما معناه ملخصًا: إنه بعد

دخول هذه البلدة في حوزة الأسبانيول بقيت الحال غير مستتبة تمامًا مدة سنوات إلى

أن وقع من اجتهاد رؤساء مذهب الكاثوليك في حمل المسلمين هناك على النصرانية،

ما أيأس مغاربة الجبال المتشددين في دينهم، فثأروا برؤساء الدين، وقبضوا على

اثنين من هؤلاء الدعاة في مدينة دارين وعرضوا عليهما الإسلام فامتنعا فقتلوهما،

وقيل: إن النساء والأولاد قتلوهما قصعًا بالعصي وشدخًا بالحجارة، وإنهم أحرقوا

جثتيهما، فانتقم النصارى من هذه الفعلة بأن اجتمع منهم نحو ثمانمائة فارس،

وساروا إلى قرى المغاربة يخربون ويعيثون، فاعتصم المغاربة بالجبال، وانتشرت

الفتنة في الجبال كلها، لكن وسطها كان في جبل برميجه المصاقب للبحر، فلما

اتصل الخبر بالملك فرديناند أصدر أوامره بنقل المغاربة الساكنين في جهات الثورة

إلى قشتالة، وأعطى الأمر سرًّا بأن من يدخل منهم في النصرانية يبقى في وطنه،

ثم رمى تلك الأُمة بالصائد المشهور ألونزو دواغيلار، ومعه جيش وهو الذي قضى

معظم شبابه في قتال المغاربة، فما اقترب من بلادهم حتى هرع جملة وافرة منهم

إلى رندة للدخول في النصرانية، وجمر الباقون منهم تحت قيادة فارس اسمه

الفهري سائقين نساءهم وأطفالهم إلى حيث يتعذر السلوك من تلك الأوعار،

مرابطين شعاب الجبال دون مرور عساكر الأسبانيول فالتقى الجمعان أمام بلدة

مونارده، وانتشب القتال فيقال: إن الدون ألونزو مع ابنه الدون بطرو وثلاثمائة

من شجعانه صدقوا الحملة على المغاربة، فأزاحوهم وتلاحقوا في الهزيمة، فتتبعهم

الجند يغنمون وينهبون، ولما امتلأت أيديهم بالغنائم كر عليهم الفهري بجماعة من

أبطاله، وعلت الصرخة فارتجَّت لها جوانب الأودية، وذعر الأسبانيول، فتداعوا

للفرار، وثبت ألونزو في مكانه يحرضهم، ويضم من شتيت شملهم، فصبر معه

جماعة، وولى الأكثرون، ودخل الظلام، وخيم الغسق، واشتد الخناق بالأسبانيول،

وجرح بطرو ابن ألونزو، فأمره أبوه بالرجوع، فأصر على البقاء بجانب أبيه،

فأمر أتباعه بحمله إلى معسكر كونت أورينه فاحتملوه مثخنًا جراحًا، ولبث الدون

بمائتين من رجاله، يناضلون حتى فنوا عن آخرهم.

وتحصن الدون بين صخرين يتقي بهما، فبصر به الفهري فقصده واستحر

الصراع، وألحّ الفهري وطمع في قرنه، وكانا متماثلين في ثبات الجنان مع قوة

الأضلاع وتوثق الخلق، فصاح ألونزو بخصمه (لا تحسبن نفسك وقعت على صيد

هين، فأنا الدون ألونزو دراغيلار) فأجابه المغربي (إن كنت أنت الدون ألونزو

فاعلم أنني أنا الفهري) ثم كوره صريعًا، ومات بموته مثال الفراسة الأسبانيولية

والنموذج الغشمشمية في الأندلس.

واندفع المغاربة ذلك الليل بطوله يطاردون الأسبانيول ولم ينكفئوا حتى لاح

الصباح، فأجلى المعترك عن قتل الدون فرنسيسكو دوناميز المدريدي الذي كان قائد

المدفعية الأكبر، وكانت له المواقف المشكورة في حصار غرناطة، لكن مصرع

الدون ألونزو دواغيلار أنسى الأحزان جميعها، وعند وصول خبر هذه الفاجعة إلى

الملك زحف بالجيش إلى جبال رندة، فسكنت بحضوره النائرة، واشترى بعض

المغاربة أرواحهم فجازوا إلى إفريقية، واحتمى آخرون بالنصرانية ، وأما أهل البلد

الذي قتل فيه الدعاة فسُلكوا في سلسلة العبودية، وبحث الملك عن جثة الدون

فوجدوها بين مائتي جثة من الأسبانيول، فيها أجساد عدد من الأمراء والكبراء،

فحملوها إلى قرطبة في مشهد حافل، بين مدامع كالسحب الهواطل، ودفن في

كنيسة مار هيبو ليتو، وندبه الأسبانيول دهرًا طويلاً) انتهى كلامه مجملاً.

وذكر المؤرخ الفرنسي الشهير فيكتور دروى في تاريخه ما يأتي ملخصًا (أن

أسبانية تخلصت من العرب لكنها بقيت حافظة عليهم إحنة شديدة، ربتها في قلوبهم

ثمانية قرون قضتها معهم في الحرب، وكان لذلك العهد سكان الجزيرة أخلاطًا من

مسلمين ونصارى ويهود، فعول فرديناند على توحيد الهيئة بوحدة الاعتقاد؛ تعزيزًا

للدولة، فأنشأ ديوانًا جديدًا للتفتيش، وكان الملك هو الذي يعين الرئيس والمفتش

الكبير، ويضع يده على أملاك المحكوم عليهم، وكان هؤلاء في البداية من

النصارى المتهودين والمسلمين المتنصرين ظاهرًا الباقين في الباطن أمناء لمحمد

صلى الله عليه وسلم ثم شملت أحكام الديوان أهل البدع السياسية كالبدع الدينية

أيضًا.

وسنة 1492 قرر ديوان التفتيش المذكور طرد اليهود من إسبانية بعد أن

سلبوهم أموالهم، وقد قدر بعض المؤرخين المعاصرين لتلك الحادثة عدد من خرج

منهم 800 ألف (قلت: منهم جماعة وافرة بأزمير وأقوام بالآستانة هاجروا إليها في

تلك الكائنة، ومنذ خمس سنين احتفلوا بعيد مُضيّ الأربعمائة سنة على دخولهم بلاد

الدولة العلية، أكثروا فيه من الدعاء لسلطنة آل عثمان التي هي كهف المطرودين)

والقسم الأكبر منهم هلكوا وعذبوا بما لم يعذبه أحد من العالمين، وسنة 1499 صدر

أمر بسلب المغاربة حريتهم الدينية التي تقررت لهم بموجب عهد غرناطة، فجلا

منهم جم غفير، ولم يتم خروجهم جميعًا حتى القرن التالي في سنة 1609، وهكذا

فازت إسبانية بوحدتها الدينية، لكنها خسرت صناعتها وتجارتها اللتين كان العرب

واليهود أهم عمالها.

وذكر مرة عند كلامه على شرلكان أنه أكمل مقصد فرديناند، فأكره مغاربة

بلنسية على التنصر وأهل غرناطة على ترك زيهم والتكلم بغير لغتهم، وقال

بمناسبة فيليب الثاني أنه اضطهد المغاربة، وضيق عليهم حتى التزموا الثورة سنة

1568، وأوقدوا نيرانهم على تلك الجبال إيذانًا بالخروج، وكان يمكنهم بما أمسكوه

من مخانق جبالهم الثبات طويلاً لو امتدت إليهم يد معونة من إخوانهم أهل إفريقية،

ففرق فيليب شملهم، وبددهم في مقاطعته، ولم تمض سنون عشر حتى صاروا كلهم

أرقاء.

ثم لنذكر بحسب عادتنا في المقابلة كلام المقرئ في هذه الوقائع الأخيرة، وهو

ببعض تصرف (ثم إن النصارى نكثوا العهود، ونقضوا الشروط عروة عروة إلى

أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة، بعد أمور وأسباب

أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا: إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من

النصارى أن يرجعوا قهرًا للنصرانية، ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا قوة لهم، ثم

تعدوا إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للمسلم: إن جدك كان نصرانيًّا فأسْلَمَ فلترجع

نصرانيًّا، ولما فحُش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم، وهذا كان

السبب للتنصر قالوا: إن الحكم خرج من السلطان من قام على الحاكم فليس إلا

الموت إلا أن يتنصروا بالجملة، فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وامتنع

قوم من التنصر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك

منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم

قتلاً وسبيًا، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا

منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب قرطبة وهو ألونزو دواغيلار، وأخرجوا

على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر.

ثم بعد هذا كله كان مَن أظهر التنصر من المسلمين، يعبد الله في خفية

ويصلي، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرًا بسبب ذلك،

ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في

بعض الجبال على النصارى مرارًا، ولم يقيض الله تعالى لها ناصرًا، إلى أن كان

إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام [2] سبعة عشر وألف، فخرجت

ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان من وهران وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط

عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد

تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المضرة.

وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها

الخالية وبلادها، وكذلك بتطاون وسلا وفيجة الجزائر، ولما استخدم سلطان

المغرب الأقصى منهم عسكرًا جرارًا، وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر

ما هو مشهور الآن، وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والحمامات وهم الآن

بهذا الحال، ووصل منهم جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام

وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصف، والله وارث الأرض

ومن عليها، وهو خير الوارثين) انتهى.

_________

(1)

لعل الأصل: ولا يحمل علامة إلخ أو - ولا يجعل له علامة كما يجعل لليهود اهـ ، مصححه.

(2)

لعل أصله: أي عام.

ص: 131

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بطل العرب والإسلام وأندلسهما الجديدة

الأمير محمد عبد الكريم

وقول كاتب أسباني فيه

ركدت عاصفة المعارك بين الدولة الأسبانية والأمير محمد عبد الكريم، وخمد

لهيبها فبقي جل جمرها تحت الرماد من حيث اشتعلت نارها بينه وبين الدولة

الفرنسية في منطقة حكومة المخزن المغربية الواقعة تحت حمايتها، وكان الكثيرون

من الناس سيظنون أنَّ تقحُّم هذا البطل بِصِليِّ هذه النار الحامية سيحرق شهرته

ويقضي على آماله؛ لما لفرنسة من الشهرة الطائرة في فنون الحرب علمًا وعملاً،

ولكن فوزه في حرب الفرنسيس لم يكن دون فوزه في حرب الأسبانيول، بل كان

فوزًا قامت له أعرق أمم في أوربة في الحرب وقعدت، فأسقط قيمة نقدها إلى أسفل

دركة كانت ألقته فيها الحرب العظمى، واضطرها إلي متابعة سَوق الجيوش من

الوطن أرسالاً، واستنفارهم خفافًا وثقالاً، وطفقت صحف العالم تتحدث بدنو الخطر

من فاس وتوقع امتداده إلى الجزائر، هذا على كون أخبار الوقائع لا مصدر له

دونها، ويعلم جميع الناس سنة الدول كلها في إفراغ هذه الأخبار في القوالب

السياسية الموافقة لمصلحتها من كتمان بعض وتمويه بعض، والمنار لا يعنى بنشر

الوقائع الحربية ووصف ميادين القتال، وإنما يدخل في موضوعه ما له شأن في

الانقلابات والتطور الاجتماعي وأسبابه من حوادث التاريخ.

وقد قرأنا في جريدة البيان العربية التي تصدر عن (نيويورك) مقالة لكاتب

أسباني اسمه (إنريك دي مناس) ، نشرها في جريدة (هرالد تربيون) النيوركية،

وصف بها ما عرف وما اعتقد من حرب الأمير محمد عبد الكريم وشؤونه ومقاصده

بعد اختباره الشخصي، إذ كان من الذين شهدوا بعض معارك القتال بينه وبين قومه؛

فرأينا أن ننقل جل هذا المقالة عن عدد البيان الذي صدر في 22 شوال الماضي

الموافق 16 مايو (أيار) .

بدأ الكاتب كلامه بمقدمة ذكر فيها أن أخبار القتال في الريف لا يصدر شيء

منها عن معسكر عبد الكريم، بل كلها تصد عن طريق خصوم العرب، فلا يوثق

بشيء منها ولا سبيل إلى معرفة الحقيقة منها إلا لمن يستنبطها من فحوى الكلام،

ويستشفها من لحن القول دون صريحه (وعبر عن ذلك بقراءة ما بين السطور

وهي كناية عصرية غربية صارت مشهورة) وضرب لذلك المثل ببعض الأخبار

الفرنسية المختَلَقَة التي لا تُعقل بحسب الفن العسكري من خسائر العرب وخسائر

الفرنسيس، ولا ينسين القارئ أنه أسٍباني عدو لهم وناصح لفرنسة، ثم قال:

وقد قدر لي أن حاربت عبد الكريم بنفسي من عهد غير بعيد، فأنا لذلك

أعرف بعض الشيء عن نشاط الريفيين وشدة مراسهم، وأشهد علنًا بالقلم واللسان

ببطولتهم، رأيت بعيني أولئك العرب الشجعان يواجهون المدافع الرشاشة،

ويهاجمون رجالها غير مبالين بنيرانها الآكلة حتى كأنها ليست موجودة أو أنها

عديمة الأذى، ومن أجل هذا أقول: إن دعوى الفرنساويين بأن مثل هؤلاء الأبطال

يتراجعون إلى الوراء بسبب خمسين رجلاً من الأقوال المضحكة.

فالمصيبة في هذا هي أن الأمير كان وغيرهم من أهل الغرب الموالين لفرنسة

والمريدين لها الفوز يقبلون على هذه الأنباء كأنها آيات منزلة، ويصدقونها فلا

يجهدون العقول ولو قليلاً للتمييز بين غثها وسمينها أو صدقها وكذبها، وهذا هو

الباعث على خفاء حقيقة الخطر الكبير الذي يهدد كل أوربة من جانب المشكل

المراكشي [1] ؛ ولهذا عقدت العزيمة على كتابة هذا المقال؛ لكي أوضح فيه نيات

الريفيين وما يرمون إليه في ثورتهم هذه من الوجهتين السياسية والدينية.

فالحركة التي يقوم بها عبد الكريم الآن متأتية في أصلها عن البواعث التالية:

لقد كانت فرنسا تسعى من زمن غير يسير إلى موالاة القبائل المراكشية المختلفة،

والاتفاق معها على ترويج المتاجر الفرنساوية هناك وذلك بواسطة الشريف

حرقاوي، وهو زعيم كبير من قبيلة بني مولود، وقد حصرت أكثر قواها في

ترويج هذه السياسة في قبيلة بني زروال المجاورة لقبيلة بني مولود، ثم إن القسم

الأكبر من قبيلة بني زروال تحت زعامة ابن مناله وهو زعيم كثير الطموح صمم

العزيمة عندما وجد نفسه في مركز منيع يخطب وده فيه الفرنساويون من جهة وعبد

الكريم من جهة أخرى على سياسة مزدوجة.

وكان في هذا الوقت أحد مناصري عبد الكريم وهو الفقيه الزهاري قد ناجز

الشريف حرقاوي في وقعات عديدة، لم يكن فيها نصر فاصل لأحدهما، فابن مناله

حافظ على خطة الحياد وهو لكي يقي رجاله من أن يستميلهم الفرنساويون أو

العرب إليهم، ويحفظ ما له من السيطرة عليهم مال إلى استعمال القسوة فيهم؛ فأدى

ذلك إلى تذمر شديد بينهم، فعلم عبد الكريم بذلك؛ لأنه كان يرقبهم بعين ساهرة،

وسعى إلى اغتيال ابن مناله بوسائل مختلفة أهمها الرشوة والوعود التي بذلها لمحبي

الزعامة فيهم.

كان ذلك في شهر مارس (آذار) من هذا العام، فلما تخلص عبد الكريم من

ابن مناله وتمكن بدهائه من إزالة ما للحرقاوي من النفوذ، أدرك أنه قد أصبح في

مركز منيع يساعده على مهاجمة فرنسة؛ فحشد جموعه على ما علمنا قريبًا من تازه

على مسافة ثلاثين ميلاً من فاس شمالاً بشرق، وأرسل كتائب من أنصاره؛ لتعيث

فسادًا في منطقة متالزا الفرنساوية على التخوم التي تفصل بين مراكش الأسبانية

ومراكش الفرنساوية، وكان الفرنساويون قد أنشأوا على مقربة من تازه عدة مراكز

عسكرية، وعمل فرنسة في إنشاء تلك المراكز خطأ فاضح من الوجهة الحربية.

ذلك أن مثل هذه المواقع العسكرية التي عرفت أسبانية بعد فوات الوقت أنها

علة شقائها، والتي أمر المسيطر الأسباني دي ريفيرا بتخليتها في الحال يمكن

قطعها عن مجموع الجيش بسهولة ومحاصرتها ومنع النجدات عنها، ولما كان عبد

الكريم قد عرف باختباراته الماضية ملاءمة هذه المواقع العسكرية لحركاته لم يُضيع

دقيقة من الوقت في التردد في مهاجمتها؛ لعلمه بأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي

يكسبه التفوق (أولاً) لأنها قريبة (وثانيًا) لأن فصلها عن بقية الجيش سهل

للغاية (وثالثًا) لأن أول انتصار يحرزه مهما يكن قليل الشأن ينشط أتباعه،

ويثير في صدورهم روح الشجاعة ويحملهم على المخاطرة والإقدام.

وأنا أعتقد أن المواقع العسكرية الفرنساوية المحصورة المسلحة بمدافع رشاشة

وغيرها عديدة ستتمكن من المقاومة وقتًا طويلاً، ولكن الصعوبة هي في طريقة

تمكن فرنسة من إمدادها بالمؤن والذخائر، فإذا لم يحصل المحصورون على أقوات

جديدة ومياه صالحة للشرب تصير مقاومتهم عديمة الجدوى، وبما أن الريفيين

يدركون هذه الأمور فهم قد زادوا عدد المراقبين للطرق المؤدية إلى تلك المعاقل

لكي يحولوا - مهما كلفهم ذلك - دون وصول أقوات إلى الرجال الذين فيها والذين

يعدهم الريفيون الآن من أسراهم.

وطريقة العرب في الحرب هي أن لا يوجدوا مقاومة رسمية منظمة إلا ما كان

منها في الأقاليم الجبلية أو في الأماكن الملائمة لهم بنوع خاص، فأساليبهم الحربية

منحصرة في الدفاع عن موقف معلوم وقتًا معلومًا عندما يهاجمهم العدو، ومن ثم

ينهزمون منه اختيارًا يوهمون مهاجميهم إمكان الظفر بهم بسهولة، ولكنهم يعودون

ذات ليلة أو في نفس تلك الليلة كأنما قد خرجوا من جوف الأرض، ويقومون

بمهاجمة عنيفة، فهذه الطريقة قد مكنتهم من أعدائهم، وسهلت لهم الحصول على

الغنائم والأسلاب، وتبديد شمل العدو.

فالجيش الفرنساوي المؤلف من 12000 رجل تحت قيادة الجنرال ليوتي في

الوقت الحاضر لا يكفي لسوى حماية مدينة فاس وأرباضها، على أنه لا يقوى على

الحراك أو على مناهضة عبد الكريم إلا بعد أن تصله النجدات المنتظرة من الجزائر،

وهي فيما يقال: ستكون متراوحة في العدد بين 15000 و 20000 جندي،

وعندها يزحف إلى إنقاذ المعاقل العسكرية المحصورة على أن تلك النجدات سوف

تلاقي صعوبات جمة في الوصول إليه؛ لأنها مضطرة إلى عبور نهر أوترغا،

وهو في هذه الأيام بحالة فيضان يتعذر معها عبوره.

وفي رأيي أن فرنسة لا تَقوى على مواجهة عبد الكريم بما يصون ماء وجهها

في العراك بأقل من أربعين إلى خمسين ألف جندي، ومن المعلوم أن عجز فرنسة

عن مناهضة عبد الكريم وصد هجماته قد أوجدت تأثيرًا سيئًا في نفوس القبائل التي

لا تزال موالية لها، والتي قد تنقلب إلى أعداء في أقل من ارتداد الطرف كما قد

وقع لأسبانية، فإذا جرى هذا يصبح موقف فرنسة في تلك الأرجاء حرجًا كبير

الخطر.

وأنا أعتقد أن فرنسة قد ارتكبت خطأ فظيعًا في غض نظرها عن النكبات التي

لحقت بأسبانية في مراكشها مدة خمس عشرة سنة، فهي فيما أظن قد اعتقدت أن

عبد الكريم بالرغم مما أحرزه من الانتصارات على أسبانية لا تحدثه نفسه بمهاجمة

فرنسة، ففي هذا لم تكن ذات نظر بعيد، وقد كان من حقها أن تدرك أن سَكرة

النصر التي قد تتملك عبد الكريم تحمله يومًا من الأيام على التمادي في إبعاد كل

الأجانب عن بلاده - وهكذا يهاجم فرنسة - تلك أمور قد أدركها كثيرون من زمن

طويل، وأما فرنسة فقد عجزت عن إدراكها.

وإنني على ما يدعيه بعض الفرنساويين من أن العرب يكرهون الأسبانيين

أقول عن اختبار: إنهم يكرهون الفرنساويين أضعاف ذلك، نعم إنهم كانوا يبدون

احترامًا أكثر لفرنسة، ولكن ذلك الاحترام ناتج عن خوف لا عن حب، فالعرب

كما لا يخفى لا يحترمون سوى القوة، وبما أنهم كانوا إلى اليوم يعتقدون أن فرنسة

في مراكش أقوى منهم بالشيء الكثير لم يفكروا في مهاجمتها، وعلى هذا أقول: إن

الفتنة الحالية منظورًا إليها من كل الجهات هي من الحركات العظيمة الأهمية، وقد

تكون أهميتها في هذا الحين غير بادية للعيان إلا أن المستقبل مخيف.

ويمكنني أن أدعي بعض العلم بالخطط التي رسمها عبد الكريم لنفسه،استقيت

ذلك من صديق لي اسمه خوزي دياز، وهو من الناس القلائل الذين زاروا عبد

الكريم في منزله بأكسدير، علمت من هذا الصديق وغيره أن عبد الكريم يفاوض

على الدوام زعماء العالم الإسلامي في كل مكان في العالم، وغرضه من ذلك إيجاد

حركة عدائية ضد كل الدول المسيحية التي تحتل بلدانًا إسلامية، وعبد الكريم يعتمد

في خلق ما يلزمه من القوة على تعصب العرب الديني وهو يؤجج نيرانه ليبلغ من

ذلك مُناه في طرد أسبانية وفرنسة من مراكش [2] ودعاية عبد الكريم مبثوثة بين

جميع القبائل تدعوهم إلى مناصرته للبطش بالطامعين بأراضي الإسلام، وتؤكد لهم

أنه سيقذف بهم جميعًا إلى البحر.

ومما هو جدير بالذكر أن عبد الكريم ليس بطلاً مجربًا فقط فقد حدثته في

مواضع كثيرة وحدثه غيري كثيرون، فهو رجل واسع الاطلاع وفيه ذكاء ودهاء

وتعقل بمقدار يندر وجود مثله في رجل واحد، والرجل يعتقد أن عليه واجبًا وطنيًّا،

وهو يعرف كل الحوادث المتعلقة بمدة السبعمائة سنة التي سيطر فيها العرب على

أسبانية، وهو وأخوه الذي تلقى فن الهندسة في مدريد قد جالا في كثير من البلدان

المتمدنة، وسكنا زمنًا طويلاً في جنوبي أسبانية.

وفي مدة إقامة عبد الكريم في ذلك الجانب من أسبانية شاهد آثار أمجاد العرب

الباقية في كل مكان من تلك البلاد، ولا سيما في غرناطة، فأثر ذلك فيه أيما تأثير،

وولد فيه نزوعًا إلى محاولة استعادة أمجاد الأجداد، وهو أمر نبيل يشكر عليه

الرجل مهما قيل عن مساوئه وأخطاره، وقد بث هذه الدعوة العربية في كل مكان

بواسطة المشايخ والأئمة الذين يتجولون من مكان إلى آخر، ولهم سلطة معروفة

على العامة.

وقد لقب عبد الكريم نفسه منذ زمن بعيد برئيس جمهورية الريف حتى إنه

ألف وزارة وهو طامح إلى توحيد كل القبائل والشعوب التي هي من جنسه تحت

هيئة حكومة منظمة، ومعلوم أن فرنسة حسب الظاهر لا تحسب حسابًا كبيرًا لفتنة

الريفيين، ولعلها تصبر إلى أن يهب كل سكان مراكش لمناهضتها قبل أن تدرك

وتعترف بأن الحالة موجبة للخوف والاحتساب، على أن المراكشيين فيما أعتقد لا

يخيبون آمالها من هذا القبيل ولكل شيء وقت، والتاريخ مملوء من هذه

النظائر.

ويذكر الذاكرون أن نابليون قد انكسر مرارًا بجيشه المجرب في أسبانية،

حيث حاربه هناك شراذم من الرجال عام 1808، وكانوا يجرون في مكافحته على

نفس الخطة التي يجري عليها الريفيون مع الفرنسويين اليوم، وثورة البورس على

إنكلترا هي مثال آخر من تلك الأمثلة، ومثل هذا يقال عن الفتنة في بنجاب من

بلاد الهند [3] ، ومن المعلوم أن تملُّك المستعمرات البعيدة الشُّقة هو الآن من

الكماليات الموجبة لباهظ النفقات التي تستكبرها أغنى الدول وأقواها.

وقد أصبح الناس في تلك المستعمرات غيرهم بالأمس، فهم يعرفون تاريخ

بلادهم وتاريخ الدولة التي تسيطر عليهم، ويدركون حقوقهم وواجباتهم، خذ مثالاً

لذلك عبد الكريم الذي تلقى العلوم في أسبانية وغيرها، وعاد إلى بلاده ينشر ما

استنتجه من ذلك بين أبناء قومه، فالعلوم التي تلقَّنها كانت بمثابة سلاح قاطع في

أيدي التلاميذ ضد معلمهم، وعبثًا تحاول فرنسة قمع العصيان وإطفاء نائرة الفتنة،

فهي وإن استطاعت ذلك (وهو فيما نرى بعيد) فإنها لم تستأصل أسباب الخروج

وبواعث النواة التي بثها عبد الكريم بين مواطنيه.

وانغلاب العرب في الكفاح ليس من الأمور التي يعبأون بها، فهم إن انهزموا

اليوم يعودون في الغد إلى المناجزة أوفر نشاطًا وأكثر إقدامًا، وما يشيعه ذوو

الأغراض من أن عبد الكريم يقصد بتوجيه حملاته على المنطقة الفرنساوية خدع

الأسبانيول الذين يطمع في إخراجهم من البلاد هو من الأقوال العارية عن الصحة؛

لأن عبد الكريم غير مبالٍ الآن بالمنطقة الأسبانية؛ لأنه يدرك قوة تحصين الأسبان

بعد تراجعهم إلى الوراء، وهو أعقل من أن يهاجمهم في هذا الحين.

فغرض عبد الكريم الحقيقي هو توجيه ضربة شديدة إلى فرنسة حتى إذا بطش

بجيشها يثير عواطف الشعوب والقبائل المراكشية، ويحملها بفوزه على مناصرته،

وحينئذ يحشد من الجيوش ما يمكنه من توجيه الضربات الشديدة إلى فرنسة

وأسبانية معًا، ومن أجل هذا أقول: إنه ما لم تقو فرنسة على إنزال أشد العقاب

بعبد الكريم بالأسرع الممكن، تكون خسارة فرنسة في مراكش عظيمة وسقوط

مهابتها في عيون أهل البلاد سريعًا للغاية؛ لأن عبد الكريم يذيع أنباء انتصاراته في

طول البلاد وعرضها لكي يحمل أهل البلاد على اعتقاد أن سحق فرنسة وأسبانية في

مراكش ليس من الأمور المحتملة فقط بل من الأمور المقررة.

ويجب أن لا ننسى أن المراكشيين إذا حاربوا بعدد قليل من الرجال لا يكون

ذلك ناتجًا عن عدم وجود الرجال عندهم، بل عن عدم وجود الأسلحة، على أن

كفاحهم بالقليل من الرجال يزيل سوء نتائج هذه الحاجة فإن المراكشي إذا حارب

يندفع بشجاعة أو بالحري يتناسى الخوف، والمراكشي الذي يرى رفيقه مجندلاً في

ساحة القتال لا يرتاع ولا يلوي إلى الفرار بل يأخذ مكانه.

والأسلوب الحربي الذي يتمشى عليه عبد الكريم هو أن يتراجع بينما يكون

العدو متقدمًا، حتى إذا وقف العدو عن التقدم يشرع هو ورجاله في اصطياد رجال

العدو واحدًا بعد آخر، وهو فن يحسنه العرب أكثر من كل شعب آخر، ومن

الصعب جدًّا إطلاق الرصاص على المراكشيين؛ لأنهم لا يحاربون مجتمعين بل

أفرادًا أو أزواجًا يتحركون على الدوام، بينما الفرنساويون أو الأسبانيون يزحفون

جماعات تكون أفضل هدف لرصاص عدوهم.

إن المقاتل العربي الفارس لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار، فهو يهجم

كالمارد على صفوف الأعداء إلى أن يصير على مسافة 1500 إلى 2000 متر،

ويطلق نيرانه وهو مثابر على الجولان، وهو على الغالب لا يخطئ المرمى حتى

إذا قضى وطرًا يكر راجعًا؛ ليعبئ بندقيته من حيث تطيش طلقات الأعداء

المصوبة عليه فلا تصل إليه، وغني عن البيان أن الطيارات والمدافع لا نفع منها

في هذه الولايات، ولا توجد هناك مدن أو حصون ليضربها العدو ويستولي عليها،

بل أبطال مجربون يصيبون ولا يصابون.

هؤلاء العرب هم جنود مدربون من المهد، وهم يفضلون اصطياد الناس على

اصطياد الوحوش وغيرها، ومن الأقوال المأثورة عنهم: إن أحب الأشياء إلى

العربي في الحياة بندقيته ثم جواده وأخيرًا زوجته التي يعاملها على ما هو مشهور

كما يعامل البهيمة، وهي قلما تترك البيت، فإذا فعلت تخرج مبرقعة، ولا يرى

وجهها إلا سيدها دون سواه [4] .

والمحارب العربي يكفيه القليل من القوت كحفنة من التين أو التمر تغذوه

النهار بطوله، ولا يعطش ويقوى على الركض مسافات طويلة، ولا يتأثر من الحر،

وإذا حارب العرب حربًا دينية فلا يوجد في جيوش الأرض من يضارعهم؛ ذلك

لما في دينهم من الوعود بالجنة لمن حارب ضد المسيحيين [5] ، فهم ينالون مقابل

هذا الجهاد مكانًا جميلاً في السماء، ويحرزون الجياد المطهمة والسلاح الجميل

والنساء الحسان، ومن أجل هذا فهم لا يخافون من الموت في ساحة القتال [6] .

وبعكس ذلك الجندي الفرنساوي أو الأسباني الذي لا دين له على الغالب ولا

هو يؤمن بثواب حتى ولا في هذا العالم، ولا بعقاب في الآخرة، ومن أجل هذا

فهو لا يستميت في القتال ولا يتهالك كالعربي، ذلك ما أردت بيانه هنا إيضاحًا

للحالة الراهنة، وهناك أشياء كثيرة مهمة لا تسمح الفسحة بإيرادها، على أن القراء

يدركون من الذي تقدم بيانه راكنة الحركة التي يقوم بها عبد الكريم، وأنها تتطلب

اهتمامًا خاصًّا ودراية وتدبيرًا عظيمًا؛ لإنقاذ غوائلها.

وجملة القول أنه إذا كان عبد الكريم قد نجح في مساعيه بغرس البغضاء في

أذهان مواطنيه للأوروبيين فليس في الدنيا ما يقوى على إزالتها، ومهما أتى

الفرنساويون من آيات القتال، ومهما جردوا من الجيوش فإنهم يعجزون عن

استئصال هذه الفكرة القومية التي ستكلف فرنسة على تمادي الزمن أنهارًا من الدماء

وأنهارًا من الذهب كما كلفت أسبانية.

(المنار)

انتهت المقالة، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذه الكراسة من المنار بأن محمد

عبد الكريم يحارب الآن الدولتين معًا وهو منتصر عليهما.

_________

(1)

المنار: يريد بهذا الكلام تحريض أوربة كلها على الريفيين كعادتهم.

(2)

(البيان) عادوا إلى ذكر التعصب الذي يرمي به الغرب الشرق كلما شكا من ظلم الاستعماريين أو هب للتخلص من تصلفهم وجشعهم.

(3)

المنار: أي التي كان سببها إطلاق الإنكليز العادلين الرحماء مدافعهم على الأهالي العزل من رجال ونساء وأطفال بلا ذنب إلا أن يكون التعصب الذي معناه التألم من ظلم الأجنبي المستعبِد لهم.

(4)

المنار: إنها على هذا أفضل عند العرب من الزوجة الإفرنجية التي يرى غير زوجها لا وجهها فقط بل سائر بدنها أيضًا.

(5)

المنار: هذه التهمة اختلقها الصليبيون واستغلها الماديون والملحدون من سلائلهم، والصواب أن القرآن نطق بأن النصارى أقرب الناس مودة للمسلمين؛ ولكن الإفرنج عادوا المسلمين وسلبوا ملكهم، ثم كانوا معهم مضرب المثل (رمتني بدائها وانسلت) فهم يتهمونهم بذلك لتطيعهم شعوبهم الحرة، وتوافقهم على استمرار استعبادهم واضطهادهم لهم.

(6)

هذا أهم أسباب عناية الإفرنج بإفساد عقائد المسلمين وإبطال ثقتهم بدينهم، وقد كان تأثير مدارسهم ومدارسنا المقلدة لهم في تمكينهم من استعباد المسلمين وسلب ملكهم أعظم من تأثير أساطيلهم وجيوشهم، وإن ملاحدة المتفرنجين منا لشر منهم وأضر، لعنة الله عليهم.

ص: 147

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحج في هذا العام (1343)

كان للدول المستعمرة المسيطرة على الشعوب الإسلامية غرض واحد من

السعي لمنع الحج وهو معروف لكل المسلمين بسياسة الاستعمار، فصار لهم في

هذا العام غرضان، ثانيهما: أن لا ترى شعوبهم إدارة إسلامية صالحة في حرم الله

عز وجل كإدارة السلطان عبد العزيز آل سعود، فيحدث لهم أمل جديد في حكومة

إسلامية عادلة مستعدة لأن تكون دولة قوية، تقدر أن تنقذ الحرمين الشريفين من

وقوعهما تحت سيطرة الاستعمار الذي رضيه لهما الشريف حسين وأولاده علي

وعبد الله فيصل كما رضوه للعراق وسورية وفلسطين، على شرط أن يكونوا

ملوكًا وأمراء فيه تحت السيادة الإنكليزية، كما بيناه مرارًا بالبراهين التي لم يقدر

أن ينقضها أحد منهم ولا من أُجَرائهم.

أذاع السلطان عبد العزيز منشورًا في الدعوة إلى أداء فريضة الحج، ونشر

في جريدة أم القرى المكية، ووزعت منه نسخ مستقلة كثيرة في مشارق العالم

الإسلامي ومغاربه، ونشر في أشهر صحف مصر وسورية والهند وجاوه وغيرها

من الأقطار، ذكر فيه أمن الطريق، وفتح ثلاث من ثغور الحجاز لنزول الحجاج

فيها، القنفذة والليث في جنوب جدة ورابغ في شمالها، فطفق الأجانب يدسون

الدسائس ويثيرون الهواجس والوساوس؛ لتخويف المسلمين من سبيل الحج،

ويدَّعون أن جيوش الشريف على المحصور في جدة وأساطيله واقفة للحجاج

بالمرصاد، فهم على خطر أينما توجهوا من بر وبحر، وأن الحجاز ولا سيما مكة

المكرمة في مجاعة، فيخشى على من يجيئها من الحجاج أن يموتوا جوعًا إن هم

نجوا من جيوش الشريف علي (ملك الحجاز) وتجاوبت بمثل هذا البرقيات

الإنكليزية من جدة ولندن والهند، ولبعضها صفة رسمية بريطانية، كزعم قنصل

الإنكليز في جدة عدم صلاحية الثغور المذكورة لنزول الحجاج، وعدم وجود

الأقوات وغيرها مما يحتاجون إليه، فيها حتى نصحت الحكومة الهندية البريطانية

مسلمي الهند بأن لا يحج أحد منهم في هذا العام، فلم يقبلوا نصحها (وقد يستفيد

الظنة المتنصح) وتابعتها حكومة مصر فنصحت للمصريين بمثل ذلك، وزادت

أن فرضت على من يريد الحج دفع تأمين لها ضِعفَي ما كانت تأخذه من كل حاج

عاقبة ذلك على مثل هذه الإذاعات التي كانت تنشرها جريدة المقطم، المنشأة؛

لخدمة السياسة البريطانية والمنفردة بترويج الدعاية الحجازية، حتى إن أحد

محرريها قال لبعض الناس قبل نشر الحكومة لقرارها بأيام: إننا قد نجحنا في منع

الحج في هذا العام، ولا غرو فنفوذ الإنكليز بمصر في هذه الأيام، أقوى مما كان

في كل زمان، وإننا كنا طبعنا نداء سلطان نجد عند وصوله، ووزعنا منه نسخًا

كثيرة وهذا نصه:

نداء عام إلى جميع المسلمين في

مشارق الأرض ومغاربها.

مكة المكرمة 1 شعبان سنة 1343

25 فبراير سنة 1925.

من سلطان نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى كافة إخواننا

المسلمين في أقاصي الأرض وأدانيها.

نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله

وصحبه، ونستفتح بالذي هو خير، وبعد فلقد مَنَّ الله علينا وأمدنا بعنايته في دخول

هذه البلاد المقدسة، وتفضَّلَ علينا ومكننا من طرد الحسين وأولاده الفئة الباغية من

هذه الديار المطهرة، وبذلك زالت والحمد لله دولة الظلم والجبروت، وحلت

الشريعة السمحة محل الأغراض والأهواء، وتوزع العدل بين الناس سواء في ذلك

الصغير والكبير والشريف والوضيع، فسَادَ النظام في البلدة المطهرة وفي سائر

أنحاء البلاد، واستتبَّ الأمن وعمَّتْ السكينة والطمأنينة سائر الأرجاء بصورة لم

تعهد من قبل، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة:

54) ، وهذا مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من

أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) تبارك وتعالى.

هذه هي الحقيقة الراهنة في البلاد، ولكن الحسين وأولاده وأشياعهم قعدوا في

الخارج يخلقون الأراجيف، ويشيعون الأكاذيب عن الموقف الحربي في الحجاز

وعما يمكن أن يؤول موسم الحج في هذا العام تضليلاً للأفكار وتشويهًا للحقائق.

ولما كان من أجلِّ مقاصدنا خدمة الإسلام والعالم الإسلامي، وهو المبدأ الذي

اتخذناه عند الشروع في هذه القضية العظيمة الشأن، رأيت الواجب يدعوني لأبين

للمسلمين عامة ما يأتي:

(1)

أن جندنا قد حصر علي بن الحسين وجنده وقُواه في بلدة جدة التي

أحاطها بالأسلاك والحصون، وضيق عليه تضييقًا عظيمًا، وسيخرجه منها في

وقت قريب إن شاء الله تعالى.

(2)

أننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من كافة

المسلمين في موسم هذه السنة، ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم والمحافظة على

جميع حقوقهم، وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة من إحدى المواني التي

ينزلون إليها وهي رابغ أو (الليث) أو (القنفدة) وقد أحكم فيها النظام واستتب

الأمن استتبابًا تامًّا منذ دخلتها جيوشنا، وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز جميع

الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى.

(3)

أعلن لكافة إخواننا المسلمين أنه لم يبق أثر للمشاكل والعراقيل التي

كان يضعها الحسين ضد المشاريع الخيرية والاقتصادية، وأن أبواب الحجاز

مفتوحة لجميع من يريد القيام بأي عمل خيري أو اقتصادي، وأن الحكومة المحلية

مستعدة للقيام بجميع التسهيلات الممكنة؛ لتنشيط من يريد القيام بهذه المشاريع

الخيرية والاقتصادية.

هذا ما أردنا إعلانه للناس كافة؛ ليحيط الجميع علمًا به، سائلاً الله تعالى أن

يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، ويهدينا وإياكم إلى سبيل الرشاد، إنه ولي التوفيق،

نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

...

...

...

...

... سلطان نجد

... عبد العزيز عبد الرحمن

...

...

...

...

... الفيصل السعود

_________

ص: 156

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عاقبة الشريف حسين بن علي مع الإنكليز

كتبت في الرحلة الحجازية فصلاً في صفات هذا الرجل وشمائله، وكان ذلك

قبل اليأس من كل خير يُرجى منه لأمته وملته، والجزم بأنه لا يُتَوقع منه إلا الشر،

على أنني لم أكن حرًّا في التصريح برأيي كله فيه عند كتابته، ومع شدة

احتراسي من التصريح بانتقاد ما ينتقد منه، لأنني لم أكن أرى ذلك من المصلحة

ولا من الذوق والأدب، ولأن ذلك كان في عهد المراقبة على الصحف، ولا سيما

المنار، وقد أمرت المراقبة الإنكليزية بحذف بعض الجمل من ذلك الفصل لم تأمر

بحذفه المراقبة المصرية قبلها، وكان ما يكتب في المنار من مسائل الحرب والبلاد

العربية ونحوها يراقَب مراقبة مزدوجة.

وَصَفْتُه في ذلك الفصل بشدة الاستبداد والعناد بسوء الظن وعدم الثقة بأحد،

ولكن جعلت ذلك في معرض مظهره المدح ثم قلت: وقد وقفت منه على آراء

سيكون لها أعظم شأن في سياسته، منها يأسه من الدولة العثمانية، ومنها

(أن له ثقة بالدولة البريطانية وتقديرًا لقوتها وعظمتها لا حد لهما ولا سلطان لشيء

عليهما) وعنيت بهذا أنه لا يمكن تحويله عن شيء من ذلك ببرهان عقلي ولا

سياسي ولا ديني ولا بمراعاة مصلحة قومية إلخ.

ثم كان من مصداق هذا القول فيه أنه رضي لنفسه أن يكون موظفًا بريطانيًّا

في الحجاز، فكان إذا استاء من شيء يطلب من الحكومة الإنكليزية إقالته من ملك

الحجاز وتعيين غيره في مكانه، حتى إنه نشر خبر استقالته في جريدته (القبلة)

ونشر مرة صورة برقية، أرسلها إلى مدير جريدة التيمس، يرجوه فيها بأن يقنع

حكومته بقبول استقالته، ونصح له غيرنا وكنا نصحنا له كغيرنا وأنى يقبل نصيحة

أحد؟ .

فكان عاقبة جهله وغروره واستبداده برأيه أن خذله الإنكليز في كل شيء،

بعد أن نالوا منه ومن أولاده ما ثبت به لكل أحد مطلع على أمرهم وأمر العالم أنهم

خانوا أُمتهم، ونبذوا دينهم وشرفهم وراء ظهورهم في خدمتهم، تعددت أحداث

خذلانهم له هو، وبقي مصرًّا على الاتكال عليهم والثقة بحسياتهم النجيبة، وقد

طرده سلطان نجد من مكة فانهزم إلى العقبة آخر ثغور الحجاز الشمالية، وكان

الإنكليز خدعوه بأن يضم منطقة العقبة ومعان إلى إمارة ولده عبد الله (شرقي

الأردن) ففعل وهو يتخيل أنها من مملكته العربية، وأنه هو الذي ولى نجله

المحبوب عليها! !

ثم كان عاقبة هذه الجناية والخيانة أن أمره الإنكليز بالخروج من هذه المنطقة

والسفر إلى البصرة، حيث أعد له نجله فيصل قصرًا لائقًا بمقامه، فتمنع وقال:

إنه لا يخرج من أرض الحجاز مختارًا، فسررنا بذلك وعزمت على كتابة مقالة في

تأييده والدفاع عنه والاحتجاج على الإنكليز، وكاشفت بعض أصدقائي بذلك، ولكن

لم نلبث أن نُبِّئنا بأنه خضع وخنع عملاً برأي ولده عبد الله، وأبسل نفسه فأرسلوه

إلى جزيرة قبرص حيث أعدت له الحكومة الإنكليزية دارًا لائقة به؛ ليقيم في ظل

عَلمها الظليل، كما اقترح عليها من قبل مرارًا {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا

السُّوأَى} (الروم: 10) وإنما العاقبة الحسنى للمتقين، وسنعود إلى تفصيل

القول في هذه المسألة وبيان العبرة فيها.

ونختم هذه الكلمة هنا بإنذار الحكومة البريطانية أن لا تغتر بسوء حال

المسلمين وتواكلهم، فتضم شيئًا من أرض الحجاز إلى ما نسميه منطقة الانتداب،

فقد أصبح جميع الناس يعرفون معنى هذا الانتداب، وشروعها في الاستيلاء على

الحجاز، إن هي تجرأت عليه سيكون مبدأ زوال سلطانها من الشرق الإسلامي إن

شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 159

الكاتب: أحمد بن تيمية

مناظرة ابن تيمية العلنية

لدجاجلة البطائحية الرفاعية

كتبها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية -نفسه

رضي الله عنه

(2)

قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم

أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب،

والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلي مرة ثانية فبلغه أنَّا

في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة

وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في

حضورهم، فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع،

متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من

الأمراء، بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال: إنهم قالوا:

إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت: هذا من

البهتان.

وها أنا ذا أصف ما كان قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل

نارًا، ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء

يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما

الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير

المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا

على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماه وعلى أمير السلاح أجل

أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم، فذكرت تلبيسهم على

الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم

يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال

الغيب، فصنعوا خشبًا طوالاً، وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر

الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزّة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على

الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا منه مالاً كثيرًا، ثم انكشف له أمرهم.

قلت للأمير وولده: هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني

بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم أوهموه أن الموتى

تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي

بجبل لبنان، ولم يقربوه منه، بل من بعيد؛ لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب

منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها

هذا كله، وتقرب قفجق منه، وجذب الشعر؛ فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده

من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس،

وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا، وهو نائب السلطنة بحماه،

يخبره بصورة ما جرى.

وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا

نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة، وسألني عنه،

فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد

ذلك في المجلس العام كما سأذكره.

قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون

بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي

يعجز عنها أهل الشرع، فليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه

سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل

أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل

جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم

بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر البارنج وحجر الطلق، وغير ذلك

من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل

والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال:

أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقيَ في قلبي أن أفعله،

ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى

الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله،

والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا

أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه،

وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين

الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض

ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات.

وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم، أيد الله

موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم، فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء

على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر

أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر،

وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال: اليوم نرى

حربًا عظيمًا، ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.

وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه

القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى

مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر

والمولهين ونحو ذلك فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة،

وأن له فيهم ظنًّا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال فإنه ذكر لي ذلك.

وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق، فإنه من

أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه

وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون،

وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء،

والطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة

عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ

وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} (لقمان: 19) .

فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء

والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يُسمي نفسه خليفة

سيده أحمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك،

وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من

المسائلة، فأعطيته طِلْبته، ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا

خفي عليَّ تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى عليَّ تلبيس أحد، بل أدركه في

أول الأمر، فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك

الذي كان اجتمع بي قديمًا، فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد

يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.

فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح،

والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال

وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة (فقلت) أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى:

{غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ} (غافر: 3) هذه إلى جنب هذه، وقال

تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: 49-50) فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن

وهب بن منبه روى: أنه كان في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقًا في

حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت، (فقلت) لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا

بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر

ابن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من

التوراة فقال: (أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان

موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتمونني لضللتم) وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى

الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال:

(كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم) وأنزل

الله تعالى {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51)

فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا

خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة

والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ

وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة:

48) ، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تُعلم صحتها، وما

علينا من عباد بني إسرائيل {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا

تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 134) هات ما في القرآن وما في

الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.

فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة

والفقهاء، ونحن قوم شافعية (فقلت) له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد

من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال

الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته، وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟

فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة

فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك (وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة

محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر،

فإني تكلمت بكلام بعُد عهدي به.

فانتدب ذلك الشيخ عبد الله، ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور

باطنة، لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه مثل المجالس والمدارس

والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا

يقف [1] عليه أهل الظاهر، فلا ينكرونه علينا (فقلت) له ورفعت صوتي

وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق، كل هذا

مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن

كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من

الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم

طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه.

(فقال) ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة

كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها

(فقلت) ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى

مغربها:أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو

مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء

الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار

يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج وحجر الطلق، فضجَّ الناس

بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى

جسومنا بالكبريت (فقلت) : فقم، وأخذت أحرز [2] عليه في القيام إلى ذلك، فمد

يده يظهر خلع القميص (فقلت) : لا حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر

الوهم على عادتهم (فقال) : من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة

حطب، (فقلت) هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود، بل قنديل

يوقد، وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة

الله، أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك، تغير وذل وذكر لي أن وجهه أصفرَّ.

ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو

طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل

على صحة ما تدَّعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال

الأكبر يقول للسماء أمطري، فتُمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي

كنوزك فتخرُج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم

فيقوم [3] ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك،

فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.

وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي

على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي،

وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا يعني:

الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به، فقال

الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به،

وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند

الأمير في طلب الصلح، وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد

مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون

منهم، وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.

فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا

كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118-119) ،

وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته

ثلاثين درهمًا، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم، وذهب أنه ملبس، وكان قد

حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماه، ولما

فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة، وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم.

فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا

يشدون منهم أنهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما

بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة

عما مضى، وسألني الأمير عما يطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن

يعتقد [4] أنه لا يجب عليه اتباعهما أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك،

أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما ونحو ذلك من وجوه الخروج عن

الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال

الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه.

(فقالوا) : نحن ملتزمون بالكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟

نحن نخلعها (فقلت) : الأطواق وغير الأطواق ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما

المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه

وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم

الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا

التزامًا عامًّا، ومن خرج عنه ضربت عنقه - وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية

الميدان - وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًّا في حق جميع الناس، فإن هذا

مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان

والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور، أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت

عنقه.

(قلت) : ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله،

فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته؛ حتى إنهم بالأمس بعد أن

اشتكوا علي في عصر الجمعة، جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي

أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله، ودعاء لغيره في حال

مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)

وهذا قد فُعل بالأمس بحضرة شيخهم، فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون

بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة،

وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا، وهذا منكر يبطل الصلاة.

(فقال) : هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس (فقلت) : العطاس

من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا

الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني

بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود

والنصارى، مثل قول أحدهم: أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر: كذا وكذا

من الإمام ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكِر تركَ الصلاة

يصلون بالتوبة، وأنا أعلم أنهم متولين [5] شياطين وليسوا مغلوبين على ذلك كما

يُغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.

فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم

الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت) له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ (فقال) :

هذا من الله حال يَرِد عليهم (فقلت) : هذا من الشيطان الرجيم، لم يأمر الله به

ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله (فقال) : ما في

السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، (فقلت) له: هذا

من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو

بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان

وسخطه الرحمن.

(فقال) : فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ (فقلت) : بهذه السياط الشرعية،

فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال

الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط

الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله

صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام

وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يُقَرُّونَ ولا نُقَرُّ نحن؟ (فقلت) : اليهود

والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على

بدعته، فأُفحموا لذلك.

وحقيقة الأمر أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يُقَر على ذلك، فمن دعا

إلى بدعة وأظهرها لم يقر ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون

على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم، فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام

وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًّا فهو إما مرتد وإما مشرك، وإما زنديق

ظاهر الزندقة، وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن

محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى

الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي

هدي محمد وشر الأمور محدثاتها [6] ، وكل بدعة ضلالة) وفي السنن عن

العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها

العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول كأن هذه موعظة مودع، فماذا

تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى

اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا

بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل

بدعة ضلالة) وفي رواية [7](وكل ضلالة في النار)(فقال) لي: البدعة مثل

الزنا، وروى حديثًا في ذم الزنا (فقلت) : هذا حديث موضوع على رسول الله

صلى الله تعالى عليه وسلم، والزنا معصية والبدعة شر من المعصية، كما قال

سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها،

والبدعة لا يتاب منها، وكان قد (قال) بعضهم: نحن نتوِّب الناس (فقلت) :

مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، (فقلت) :

حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون

تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه أو ينوون التوبة،

فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما

يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم

عليها شر من المعاصي.

(قلت) مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري

في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر،

وكان يُضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي صلى الله

تعالى عليه وسلم جلده الحد، فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به

إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لا

تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) (قلت) : فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا

فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله، شهد له النبي صلى الله تعالى عليه

وسلم بذلك، ونهى عن لعنه.

وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي

سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أن النبي صلى الله

تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس،

بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يخرج

من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم

وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما

يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية (لو يعلم الذين

يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل) وفي رواية (شر قتلى تحت

أديم السماء خير قتلى من قتلوه) قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم

وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله تعالى

عليه وسلم؛ وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول

الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من

هذه الأهواء، فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة

وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني

والسارق وشارب الخمر.

أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعني

أتباع أحمد بن الرفاعي - فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب

العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعزبار والرزجنة [8] ، تريدون أن تبطلوا دين الله

ورسوله، (فقال) : يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، (فقلت) : مثل ما أحرقني

الرافضة لما قصدت الصعود إليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم،

ويقول أصحابهم: إن لهم سرًّا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء

الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسَّره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.

وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب - فإن فيهم من الغلو والشرك

والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب

ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب

الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب

من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ

لَا تُنظِرُونِ} (هود: 55) .

ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة

ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت

عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق

وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

هذا آخر ما جرى مع البطائحية لشيخ الإسلام

وإمام الأئمة الأعلام، الشيخ تقي الدين

أحمد الشهير بابن تيمية

قدس الله روحه

ونور ضريحه

ورضي عنه

(انتهى عن الأصل البغدادي كسابقه)

_________

(1)

وفي نسخة لا يقدر.

(2)

كذا في الأصل، ولعله أصر عليه في القيام.

(3)

كذا في الأصل، وفي رواية مسلم في حديث الدجال قال فيقول: أتؤمن بي قال فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به، فيؤشر بالمنشار من فرقه؛ حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين ، ثم يقول له: قم فيستوي قائمًا، قال ثم يقول له: أتؤمن بي، فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، قال: ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، الحديث اهـ من حاشية الأصل.

(4)

الأمثلة الثلاثة التي ذكرها هي لعدم متابعة الكتاب والسنة لا لمتابعتهما المطلوبة، فلعله قد سقط من هذا الموضوع جملة مضمونها: والرجوع عما يخالفها مثل كذا وكذا.

(5)

كذا في الأصل، ومقتضى الإعراب (متولون) إلا أن يكون حُذف من الكلام شيء فيه ناصب لقوله متولين.

(6)

المنار: لفظ مسلم: فإن خير الحديث كتاب الله إلخ.

(7)

هذه الزيادة شاذة ليست في السنن، فذِكر شيخ الإسلام وحافظ السنة لها غريب، وكأنه أراد بها زيادة الترهيب.

(8)

كذا في الأصل.

ص: 185

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أثارة من التاريخ

في حالة نجد قبل الشيخ محمد عبد الوهاب

وما قام به من التجديد والإصلاح

قال الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (تبرئة الشيخين) : قال أبو بكر حسين

بن غنام رحمه الله في تاريخه:

(وقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، والكل على تلك الأحوال مقيم،

وفي ذلك الوادي مسيم {حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} (التوبة:

48) ، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب، يأتون من الشرك بالعجاب، ينسلون

إليه من كل باب، ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب ، ويدعونه؛ لتفريج

الكرب بفصيح الخطاب، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب، {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ

اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، وكان ذلك في الجبيلة مشهورًا، بقضاء الحوائج مذكورًا، وكذلك

قرية في الدرعية، يزعمون أن فيها قبورًا، أصبح فيها بعض الصحابة مقبورًا،

فصار حظهم في عبادتها موفورًا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون {أَئِفْكاً

آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات: 86) ؟ وكان أهل تلك التربة أعظم في

صدورهم من الله خوفًا ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب

الحاجات بهم يبتدون {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) ، وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر، ما لا يعهد مثله،

ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان

مزور، مثله لهم إبليس وصور، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر

النخل المعروف بالفحال، يأتونه النساء والرجال، ويفدون عليه بالبكور والآصال،

ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبركون به ويعتقدون وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن

الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل أن

يحول الحول، هكذا صح عنهم القول:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 43) وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك

طوائف وفرق، ويعلقون فيها إذا ولدت المرأة ذَكرًا الخِرقَ لعلهم من الموت

يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل

لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله،

فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان الله تعالى لها من ذلك السوء مجير،

فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ

خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 95-96) .

ثم ذكر في جميع قرى نجد، من ذلك ما لا يحصى ولا يعد، وكذلك في

الحرمين وفي سواد العرق وبغداد والمجرة والموصل والشام ومصر والحجاز

واليمن ما هو معروف معلوم مذكور في التاريخ، وقد اشتهر ذلك وبلغ مشارق

الأرض ومغاربها، واستفاض ما كان عليه أهل نجد من الكفر بالله والشرك به قبل

دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته الخلق إلى توحيد

الله وعبادته وترك عبادة ما سواه؛ فاستجاب من استجاب لله رغبة في الحق،

وجاهد في الله من أبى الدخول في دين الإسلام؛ حتى دخلوا في دين الله أفواجًا،

وقد شهد بذلك الخاص والعام، وأقر به الموافق والمخالف، فالحق ما شهدت به

الأعداء.

وقد رأيت في حال تسويد هذا الجواب تاريخًا لبعض المؤرخين من النصارى

في سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف (قال فيه) ما نصه:

***

نجد بعد الرسالة

ومن بعد أن بعث الحكيم صلى الله عليه وسلم بالهدى والحق، وانتشر

الدين الإسلامي في هاتيك الربوع، عم بلاد نجد من جملة ما عم، فصار أهلها على

هذه الطريقة المثلى، بيد أن الحوادث التي طرأت على قادة الأمة من بعد أبي بكر

وعمر رضي الله عنهما شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فأهملوها، هذا من جهة

ومن الجهة الأخرى أن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت أهل نجد عن

الإمعان في حقائق دينهم، فمرت عليهم السنون الطويلة وهم يحْبُون [1] في الإيمان

والاعتقاد، إلى أن وصل الحال بهم إلى درجة أصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام

والخرافات والاعتقادات الباطلة بالشجر والحجر والنجم وعبادات القبور والعكوف

عليها، والاعتقاد بأهلها النفع والضر إلى غير ذلك مما لأهل العراق فيه اليوم

النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، رغمًا عن انتشار العلم فيه، وبقي أهل نجد في

هذه الحالة وليس لهم سوى الحرب والضرب والاعتقاد الضار بالإنسان دينًا ودنيا

وأخرى، وليس لهم من الدين الحق إلا الاسم وذلك إلى زمن الشيخ محمد بن عبد

الوهاب.

***

نجد في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

نشأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بلدة العينية في حضن والده

عبد الوهاب بن سليمان، فرباه أحسن تربية، ولقنه العلم هو بنفسه، وكان والده

حينئذ قاضيًّا في بلدة العينية من قبل حاكمها الأمير عبد الله بن محمد بن أحمد

المعمري، ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثير المطالعة والتدبر والتفكر

شديد الشوق إلى العلم وطلبه، حدثته نفسه بأن يسير في طلب العلم إلى بلاد أخرى،

فحج ثم سار إلى المدينة فاتصل بالشيخين عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب

(العذب الفائض في علم الفرائض) والشيخ محمد حياة السندي المدني، فأقام عندهما

مدة ثم رجع إلى نجد، ومن هناك سار إلى البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء

يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم، ثم حاول المسير إلى الشام

فمصر، ولكن صده عارض في الطريق، فرجع أدراجه إلى بلاده حاملاً من زاد

العلم ما لم يتيسر لأحد غيره في وقته، ثم ذهب لرؤية والده وكان يومئذ في حريملا،

وسبب تحول الوالد إلى هذه البلدة؛ هو أنه في غياب الشيخ محمد توفى الله

الأمير عبد الله وخلفه في الإمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ عبد الوهاب بن

سليمان عن القضاء، وأقام مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب ورحل عبد

الوهاب القاضي إلى حريملا، ولما ثبت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف

الخرافات والبدع والأضاليل، وشمر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين،

وأخذ ينشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

***

هرب الشيخ محمد رحمه الله من بلدة حريملا

كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع إلى أمير ولا إلى إمارة، بل كانت

كرة تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى، فاتفق يومًا أن الشيخ

زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة على سوء

الأخلاق، فعمد هؤلاء إلى إهانته بل إلى قتله، وأرادوا إتمام الأمر بالفعل، فساروا

إليه ليلاً وتسوروا الجدار، وبينما هم في هذا الفعل إذ صاح صائح في المحلة،

فظن هؤلاء المفسدون أن الصياح عليهم، فهربوا وكفاه الله شرهم، ولما أسفر

الصباح ورحل إلى بلدة العينية، وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض على زمام

الإمارة من بعده عثمان بن حمد بن معمر فتلقاه الأمير عثمان بالتحية والترحاب

والإكرام التام، وهناك أخذ يبث حقائق التوحيد، والأمير عثمان يتعاهده بحفظ

حياته ونصره على أعدائه.

(حكاية الشجرة والقبة) وقد طلب الشيخ من الأمير أن يقطع شجرةً كانت

تُعبد في البلدة، وأن يهدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه فتمنَّع الأمير

وبعد ذلك ألح الشيخ عليه وأقنعه، فأذن له في الآخر، ثم طلب إليه أن يسير هو

أيضًا معه، فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس، ولما وصلوا إلى المحل

المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة، وكانت قرب بلدة الجبيلة فكان ذلك العمل

من أخطر الأعمال التي أتاها الشيخ، فلما فعل الشيخ هذا الفعل الأول اشتهر أمره

ونبه ذكره فبلغ خبره أمير الإحساء سليمان بن محمد وكان ذا قوة وبأس شديد،

فبعث إلى عثمان بن حمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه إن لم يطرد

الشيخ من بلاده، فأذن حينئذ الشيخ عثمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يسافر

إلى حيث يريد، فاختار الشيخ الذهاب إلى بلدة الدرعية، فسار وسير الشيخ عثمان

معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل الدرعية فحل ضيفًا عند عبد الله بن

عبد الرحمن بن سويلم أحد أعيانها، ثم علم بعض كبار الدرعية فزاروه فلما اطلعوا

على مبدئه استحسنوه وأحبوه، ثم أرادوا أن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود؛

لينزله ضيفًا عنده فتخوفوا ففاوضوا بذلك أخاه ثنيان وزوجته وأخاه مشاري فاتفق

الجميع على تحقيق ما في الأمنية، فتم الأمر وذلك أن الأمير لما دخل قصره وقابل

زوجته اجتمع به أخواه فعرضا عليه الأمر مع زوجة الأمير، وأشاروا عليه بإكرامه

واحترامه، فسار إليه برجِله، ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به إلى

قصره، فاحتفى به أحسن الاحتفاء وأعزه وقام مؤيدًا لدعوته بكل قوته، فأخذ الناس

يفدون إلى الدرعية أفواجًا أفواجًا؛ فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع

يكاتب بلدان نجد وقراها، ويدعوها إلى طريق الحق، وما لبث أيامًا قلائل إلا

وأصغت له القبائل ودانت له أغلب البلدان، وما زالت الإمارة في امتداد واتساع

حتى أصبحت دولة بني سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة

زمامها في آخر أيامها إلى ثروة ومد نظر في السياسة، لغَدَت اليوم من أعظم الدول

الإسلامية قوة وسطوة ورهبة، ولامتدت أمراؤهم إلى بلاد شاسعة، إلا أنه دهمها ما لم

يدُر في خَلَد أصحابها، فإنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها؛ فاحتالوا على

الفتك بها فأوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين آل سعود وبين الحكومة العثمانية،

وللحال اتقدت تلك النار الحامية: نار الحروب والمضاغنات والزحفات المتكررة

فأضرت بالطرفين، ولا بد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد على القوم

الآخر في فرصة أخرى، والله ولي التوفيق، وهو نعم الرفيق، انتهى.

(المنار)

هذه نبذة صحيحة من تاريخ مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر محمد بن

عبد الوهاب، وقد اتفق الواقفون على تأثير ذلك الإصلاح من مؤرخي الشرق

والغرب على أنه يشبه نشأة الإسلام الأولى، وأنه لولا الموانع التي اعترضته لجدد

للإسلام مجده الديني والدنيوي معًا، وأعظم تلك الموانع مقاومة الدولة العثمانية له

ومساعدة محمد علي باشا لها على قتال الوهابيين وتدمير قوتهم، وكان المحرك

الخفي لهذه المقاومة دولة الدسائس الشيطانية، وعدوة الشرق ولا سيما الأمة

الإسلامية، التي لا تزال هي المقاوِمة لكل إصلاح إسلامي وترقٍّ شرقي، طمعًا في

استعباد الشرق كله، خذلها الله تعالى.

_________

(1)

كذا في الأصل، والحبو زحف الطفل أو المُقعد مثلاً على إسته أو على يديه وبطنه، والمراد به ضعف الدين.

ص: 200

الكاتب: شكيب أرسلان

‌السفور والحجاب

(كثر في هذه السنين خوض الكُتاب في مسألة حجاب النساء المسلمات

وسفورهن فأُلفت فيها الكتب، وأخذت مجالاً واسعًا من أبحاث الصحف المنتشرة،

فالمتفرنجون يدعون إلى هتك الحجاب على ما يلزمه من خلع جلباب الحياء والتبرج

والتهتك والفجور، وأهل الدين يدعون إلى المحافظة عليه أو على العرض والنسب

به، ولكن أكثر ما كتب في ذلك مباحث نظرية، وتخيلات شعرية، حتى عثرت

الجرائد في هذه الأيام على بحث علمي فيه لأمير البيان شكيب أرسلان فنشره الكثير

منها على اختلاف مشاربهم في المسألة، ورأينا نحن أن ننشره في المنار أيضًا؛

لما فيه من العبرة والبيان الذي لا يعارَض بالمراء والخلابة وهو:

منذ نحو ثلاث سنوات كانت المعيشة في ألمانيا في غاية الرخص، فكان

طالب العلم في إحدى الكليات يقدر أن يعيش بنحو جنيهين أو ثلاثة في الشهر،

فانتهزت هذه الفرصة لتذكير أبناء وطني سورية وفلسطين بكون المعيشة في ألمانيا

هي أرخص منها في نفس بلادنا، فالذين يعتذرون عن تقصيرهم في تعليم أولادهم

بقلة ذات اليد ليس عليهم إلا أن يرسلوهم إلى ألمانيا؛ فيتاح لهم أرقى تعليم عصري

بأخف ما يتصور العقل كلفة وأقرب منالاً، ونشرت ذلك في جريدة الصباح التي

كانت تصدر في القدس الشريف، فأقبل على إثر هذه الكتابة نحو أربعين طالبًا

عربيًّا يريدون مناهل العلم في برلين ولايبسيغ وكونستانز وغيرها، وإنما كثرت

علي الأسئلة يومئذ في موضوع التعليم في ألمانيا والمعاش في ألمانيا بصورة

وصلت إلى أدق الأمور التافهة إلى أن عجزت عن الجواب، وأحلت ذلك إلى لجنة

خاصة أشرت بتأليفها في برلين لهذا الغرض.

وكان من جملة من استفتاني في أمر التعليم بأوربا رجل من أعيان فلسطين،

كتب إلي أن له في ألمانيا ولدين ابنًا وابنة، فأما الصبي فهو في المدرسة المسماة

جمنازيوم وهو في الثامنة من العمر، وأما الفتاة فهي في مدرسة بنات قد بلغت

الثانية عشرة من العمر، وهو يلتمس رأيي في أمر تعليمهما هل يتركهما يكملان

التحصيل في ألمانيا أم يسحبهما إلى الوطن، ولا سيما البنت فإنها كادت تبلغ سن

الرشد وهذا محل شاهدنا في هذه القضية.

فأتذكر أنني جاوبته بأن الولد يمكنه أن يتم تعليمه هناك بشرط أن يتعلم اللغة

العربية، وبالفعل كل ولد عربي لا يتعلم لغة أهله منذ الصغر ولا يعرف نفسه

عربيًّا منذ الصغر، لو بلغ من العلم أعلى درجة لم يكن لنا أن ندعوه غصنًا مهذبًا

من أغصان هذه الشجرة بل نعده غصنًا اقتُطع منها وغُرس في حقل آخر، وهو قد

أصبح ليس منا ولا يفيدنا بشيء، وأما من جهة البنت فقد جاوبته أنني لا أدري ماذا

أقول لك؛ لأنني لا أعرف مشربك الخاص والمسألة هي بحسب مشربك، فيمكنك

أن تسحب بنتك من ألمانيا منذ الآن وتكمل تعليمها في القدس، وثق أنه يوجد في

القدس علوم تكفي ابنتك ولا تقصر عن شأو رغبتها، كما أنه يمكنك أن تُبقي ابنتك

في ألمانيا إلى أن تتم تحصيلها كأحسن بنت ألمانية، ولكن على الوجه الأول تتعلم

ابنتك مع بعض اللغات الأوربية والعلوم العصرية اللغة العربية والعقيدة الإسلامية

وتخرج مسلمة، وأما على الوجه الثاني فتتعلم بعض اللغات الأوربية والعلوم

العصرية، ولكنها تخرج مسلمة بالاسم فقط وعربية باللفظ العامي لا غير، وعلى

الوجه الأول تبقى ابنتك لك ولا تتزوج إلا مسلمًا، وعلى الوجه الثاني تبقي ابنتك

لك إذا هي شاءت وإن لم تشأ لم تقدر أن تعارض إرادتها في شيء، ولا ينبغي لك

أن تكون مبغوتًا إذا قيل لك: إن ابنتك أحبت شابًّا ألمانيًّا وأخذته - لا بل شابًّا

يهوديًّا واقترنت به، فاختر أنت لنفسك أحد الوجهين، فإنني لا أعرف مشربك

الخاص في هذه المسألة ولا أنا عليم بذات صدرك حتى أقول لك: إن أخذت بهذا

الوجه أو ذاك الوجه تتعب ويحصل لك كما يقال وجع رأس، وترى أني لست قائلاً

لك هذا الوجه أولى من هذا وإياك أن تعمل هذا، كلا. لم أقل لك شيئًا من هذا

المعنى بل قصارى ما قلت لك: إن كان يكرثك أن تلبس ابنتك البرنيطة، وتخاصر

أي شاب استلطفته في الطريق، وتقترن بمن تريد ولو غير مسلم وما أشبه ذلك مما

هو جديد في الإسلام [1] فأولى بك أن تسحب ابنتك من اليوم من ألمانيا قبل أن

يعسو عودها فإنك بعد ذلك لا تقدر على ردها عما تريد، ولا أقول لك: إنها

ستتزوج حتمًا بغير مسلم، وستخاصر حتمًا من شاءت من الشبان بدون إذن منك أو

من أمها، كلا وإنما أقول لك: إنه يجوز أن تفعل ذلك، وحينئذ لا تقدر أنت أن

تمنعها.

وأما إذا كنت أنت ترى أن ما وسع الألماني وما وسع الأوربي بأسره يسع

المسلم أيضًا وهم بشر ونحن بشر، وكما جاز للأوربية أن تتزوج مسلمًا برضا

والديها أو بدون رضاهما، يجوز للمسلمة أن تقترن بأوربي أو بيهودي أو بصيني

بوذي أو بهندي براهمي إلخ بدون رضا والديها؛ فعند ذلك أقول لك: دعها تكمل

تحصيلها في ألمانيا. فالمسألة مسألة وجهة ونظر، فالذي يرى هذه الوجهة فطريقه

هذا والذي يرى تلك الوجهة فطريقه هذا، فأما أن يرسل ابنته إلى أوربا ويخرجها

في مدارس لا تعلم لغة عربية ولا عقيدة إسلامية، أو يخرجها عند الراهبات

العذاريات أو عند راهبات الناصرة، ثم يطالبها بأن تبقى مسلمة دينًا وشرقية ذوقًا

ومشربًا وأن لا يعطيها واحدًا، وأن يحاسبها على عشرة، فهذا تكليف ما لا يطلق،

وأضم إلى هذا المثال مثالاً آخر:

عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 قال أحمد رضا بك من زعماء

أحرار الترك: (ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علنًا مع المرأة التركية

على جسر غلطه وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستورًا ولا حرية) فكانت

هذه المرحلة الأولى، وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب

فالح رفقي بك الذي كان كاتبًا عند جمال باشا في سورية كتب: أنه ما دامت الفتاة

التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت أيان شاءت ولو كان من غير المسلمين، بل

ما دامت لا تقدر أن تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلمًا أو غير

مسلم - فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياه) فهذه هي المرحلة الثانية.

فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور ولا هي بمجرد حرية المرأة

المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل

بعضها ببعض، لا بد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها، وإذا

كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة أن يقبلها بحذافيرها بدون تعنت ولا تثاقل، فإن

كان ممن يرى رأي فالح رفقي بك - إن كان كما بلغني؛ لأنني لم أقرأ كلامه وإنما

أرجح صحته - بهذه الصراحة التامة التي معناها أنه يجب لتمام الرقي أن تصير

الفتاة المسلمة قادرة أن تتزوج بمن شاءت نصرانيًّا أو يهوديًّا أو مجوسيًّا، بل أن

تخادن من شاءت كذلك ولا حرج عليها في قانون بلاها، فقد انحل المشكل وارتفع

النزاع، ولم يبق حاجة إلى أن نقول: السفور خير من الحجاب، أو الحجاب خير

من السفور، بل تنحصر المسألة في هل يجب أن نقبل هذه النتائج بحذافيرها أم لا؟

وأما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها، وأن نطلق لها الأمر تذهب

حيث أرادت، وتحادث من أرادت، وتضاحك من أرادت، وتغامز من أرادت، ثم

إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا، فذهبت وساكنته، وكان بينها وبينه ما

يكون بين الرجل وزوجته - أقمنا القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا ياللحمية وياللأنفة ويا

للغيرة على العرض! فهذا لا يكون وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون.

والنتيجة التي نريدها قد حصلت وهي أن سلوكنا مسلك الأوربيين حذو القذة

بالقذة في مسألة المرأة هذا، له توابع ولوازم لا بد أن نقبلها ولا يبقى معها محل

لكلمة: أعوذ بالله، كلا. لا يوجد هناك (أعوذ بالله) بل تلك مدنية وهذه مدنية،

تلك نظرية وهذه نظرية، فعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما

استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: أعوذ بالله.

إن الشاب المصري منطقي الحكم سريع الفهم، ما نطق بكلمة: أعوذ بالله.

عندما قال له الأستاذ الرافعي: أفتَرضَى أن تقعد أختك عند أوروبي بالإجازة؟ أو

بمعناه - ألا انتبه إلى كون تعوذه هذا مخالفًا للقاعدة التي زعم أن لا إصلاح إلا

بها.. . وهي حرية النساء المطلقة في العالم الإسلامي كما في العالم الأوروبي:

تأخذ المسلمة من تشتهيه نكاحًا أو سفاحًا ولا يُحرَّج عليها في ذلك، قاعدة فالح رفقي

بك الذي مر بنا قوله، قاعدة عبد الله جودت الذي أشار لأجل تجديد دم الأتراك

بتزويج التركيات من شبان الألمان والطليان والحصول على نسل جديد، وكتب

ذلك منذ أشهر، وامتعض من كلامه بعض فتيان الترك من أنصار الجمهورية،

ولكن لم يتحرروا من وساوس الغيرة على العرض فقام ورد عليه قائلاً:

نحن الأتراك دمنا أطهر من أن نصلحه بهذا الاختلاط الذي أشار به عبد الله

جودت، ولكن الحقيقة هي أن القاعدة ما قاله الدكتور عبد الله جودت وما قاله فالح

رفقي وما قاله الشاب المصري مخاطب الأستاذ الرافعي، هذه هي القاعدة لا غيرها،

ويأبى المنطق أن تكون هي القاعدة، وأن يقال على إثر قبولها: أعوذ بالله من

مفاعيلها، لذلك لم يلبث الشاب المصري الذكي أن قال: ما أنا وأمثالي إلا شذوذ،

والقاعدة يجب أن تبقى أبدًا قاعدة، وبعبارة أخرى يقول: أنا وأمثالي لا نزال تحت

سلطان الوهم، ونأبى أن ندع أخواتنا يؤجرن أنفسهن من الأوربيين، لا عملاً

بمقتضى الحكمة والعقل، ولا جريًا على سنن الطبيعة، ولا اتباعًا لمذاهب المدنية

العصرية، بل خضوعًا لأوهام ووساوس لم نتحرر بعد منها، فهو يعترف بصحة

القاعدة التي توجب هذه الإباحة، ولكنه لا يزال يخجل أن يعلن كونه يرضى

بمخادنة أخته لشاب تتفق معه فتؤجره نفسَها بدون عقد نكاح شرعي، نعم هو لا

يزال ينكص عن إعلان الرضا بمثل هذه الفضيحة، وإنما يرجو أن يكون ابنه أو

حفيده ممن يغضي النظر عليها، أو يشترك في سن قانونها في مجلس النواب

المصري سنة 1950 مثلاً.

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

...

_________

(1)

يعني بالإسلام عالم الإسلام: أي المسلمين لا دين الإسلام.

ص: 206

الكاتب: محمد أبو الفضل

‌النساء والتبرج والتمثيل

فتوى مشيخة الجامع الأزهر

وزعت مشيخة الجامع الأزهر على الصحف الاستفتاء الآتي وجوابه، وهو:

سأل سائل: ما حكم الشرع في المرأة المسلمة المتبرجة والمتبهرجة، وفي

مسئولية أبيها وزوجها أو أخيها، وفي المرأة المسلمة التي تظهر على مسارح

التمثيل كممثلة.

فنقول: التبرج قد نهى الله عنه بقوله سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا

تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) الخطاب في هذه الآية

الشريفة موجه إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الحكم عام ومعناه هو

المشي بتبختر وتكسُّر، أو أن تُلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري

قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، أو أن تبدي من محاسنها ما يجب

عليها ستره، أو أن تبدي محاسنها من وجهها وجسدها، أو أن تخرج من محاسنها

ما تستدعي به شهوة الرجال.

فما يشاهَد الآن من كشف المرأة عن ساقيها وذراعيها وصدرها ووجهها، وما

تتكلفه من زينة تكشف عنها، وما تفعله في غدوها ورواحها من تبختبر في مشيها

وتكسر في قولها وتخلُّع يستلفت الأنظار، ويقوي الأشرار - تبرج منهي عنه

بالإجماع لا تُقره الشريعة الإسلامية، ولا يتفق مع العفة والآداب، لما يؤدي إليه

من إثارة الشهوات وتلويث النفوس وإفساد الأخلاق وإطماع ذوي النفوس المريضة

وكثيرًا ما جر ذلك إلى الجنايات على الشرف والعفة والاستقامة، حتى اشتد الكرب،

وعم الخطب، وأصبحت البلاد ترزح تحت آثاره الضارة ونتائجه السيئة، ولا

حول ولا قوة إلا بالله، وقد أدب الله النساء بقوله:

{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ

إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ

آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ

بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ

الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ

مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) .

واشتغال المرأة المسلمة بمهنة التمثيل أولى بالحرمة من المتبرجة؛ لأن

التمثيل تبرج وتهتك، بل حضور النساء مجال التمثيل والرقص والحفلات التي

شأنها أن يختلط فيها الرجال بالنساء تحرمه الشريعة؛ سدًّا للذريعة.

وحيث كان الأمر كما ذُكر فالواجب على زوج المرأة وأولياء أمرها منعها من

ذلك، ويجب أيضًا على كل مسلم قدر على هذا، وقد آن للناس أن يتداركوا أمر

الأخلاق، فقد أوشك صرحها أن ينهار، وأن يقوِّموا منها ما اعوج، ويجددوا ما

درس قبل أن تصبح أثرًا بعد عين، والله ولي التوفيق.

...

...

...

...

شيخ الجامع الأزهر

...

...

...

...

محمد أبو الفضل

_________

ص: 210

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإسلام وأصول الحكم

كان صاحب هذه المجلة أول من قام بفريضة تفنيد ما أُودعَ في كتاب

(الإسلام وأصول الحكم) من الكفر والضلال، وتحليل الحرام وتحريم الحلال،

ومنع الحكم بما أنزل الله، وإباحة حكم الطاغوت، وكان أول من دعا علماء

الأزهر إلى رفع أصواتهم بالإنكار له والرد عليه، قبل أن تصل أيدي أكثرهم إليه،

ومن ذلك ما رآه القراء في مقالة الجزء الماضي، وكنا نشرناها قبله في جريدة

اللواء والأخبار، وقد أرسل إلينا طائفة منهم صورة عريضة في ذلك رفعوها إلى

فضيلة شيخ الأزهر وإلى بعض المقامات العالية، ووزعوا نسخًا منها على الصحف،

وهذا نصها:

عريضة مقدمة من علماء الأزهر

حضرة صاحب الفضيلة

السلام عليكم ورحمة الله

نحن الموقعين على هذا نرفع إلى فضيلتكم ما يأتي:

يا صاحب.. .، نص قانون الأزهر أن الغرض من وجود الأزهر وسائر

المعاهد العلمية الدينية هو حراسة الدين وتخريج رجال أكفاء يقومون بوظائف

الشريعة وإرشاد الأمة، ونص كذلك أن شيخ الأزهر الشريف هو صاحب الرياسة

العامة على كل المنتسبين إلى الدين من وجهة سيرهم الشخصي فيما يلائم صفتهم

الدينية.

ونص قانون الدولة أن دين الدولة المصرية هو الدين الإسلامي، واعترفت

سائر القوانين الأجنبية بحرمة الأديان ومعاقبة الطاعن عليها، هذا من الجهة

القانونية.

ثم من الوجهة الشرعية لا نعلم فائدة للعلم الديني، ولا لعلماء الدين، ولا

للأزهر الشريف منذ نشأته إلى الآن إلا القيام بحراسة الدين ودراسة العلوم النافعة

في تأييده، والدفاع عنه بكل الوسائل المشروعة، ونشر هدي الشريعة السمحة

الغراء بين المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الإلحاد

والزندقة وسوء الأخلاق والمعاملة، ودراسة الشبهات والرد عليها، وغير ذلك من كل

ما تقتضيه خدمة الإسلام، ويحبب إلى الناس الآخرين الانتظام في هداه، تلك هي

وظيفة العلماء منذ كان الإسلام، وذلك هو واجبهم الشرعي كالصلاة والصيام، الذي

لا يخرجون عند الله من عهدته ما لم يقوموا به حق القيام.

فهل يجوز ونحن الآن في عهد يوالي حضرة صاحب الجلالة الملكُ الأزهرَ

وعلماءه بما يتفق وكرامتهم، ويغنيهم عن الشغل بوسائل العيش؛ لأجل أن ينقطعوا

لواجبهم العلمي الديني.

وهل يجوز ونحن الآن من الكثرة بما لم يبلغه الأزهر في تاريخه من عدد

العلماء؟

وهل يجوز ونحن الآن من تيسير دواوين الشريعة وأمهات الكتب الدينية

وكثرتها بواسطة المطبوعات بما لم يبلغه عصر قبل؟

فهل يجوز مع هذه الاعتبارات أن يكون هذا العصر في الإلحاد والجهل

بالشريعة والمجاهرة بمحاربتها، وانتشار الدعاية كل يوم في الجرائد وسائر

المطبوعات ضدها، ممن هم من سلالة المسلمين أكثر من كل عصر مضى، ولا

يوجد من يدفع هذه الهجمات، ولا يذود عن بيضة الدين خصمًا واحدًا، بينما نحن

نتمتع باسم الدين بهذه الميزات الكبرى، وبينما نحن من الكثرة بحيث نملأ القرى

والبلدان؟ فماذا هو العذر لنا في ذلك أمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها،

وأمام حضرة صاحب الجلالة الملك الذي يوالي دائمًا إيقاظنا بجميع صنوف الرعاية؟

بل ماذا العذر لنا أمام الله سبحانه وتعالى وأمام رسوله صلى الله عليه وسلم

يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا ولد؟ فهل نعتذر بأن نظم الدراسة وشئون الطلبة

ومصلحة التعليم البحتة استغرقت أعمارنا، واستنفدت هممنا حتى صرفنا بها عما

وجدنا نحن ومعاهدنا من أجله؟

هل كان الأزهر قبل أربعين سنة من إهمال الدين وانصراف أهله عن نشره

في الأمة والدفاع عنه بهذه الدرجة التي نحن بها الآن؟ بينما كان أولئك في شغل

من العيش، ونحن في كفاية بفضل الدين وباسم الدين.

هل يجوز أن يطعن الدين كل يوم بين أيدينا طعنات قاتلة؟ ولا شيء يلهينا

عنه إلا نفس الرفاهية التي أغدقها علينا الدين؟ نعم في كل زمان وُجد إلحاد، ونجم

للدين أعداء، وظهرت مقالات سخيفة واعتراضات فاسدة، وتحريف وتبديل

ولكن كان العلماء على قلتهم وكدِّهم ممتطين هممهم العالية عند كل بادرة من ذلك

بدافع الشرع، منتضين عزمهم القوي وبراهينهم الساطعة، فلا تظهر شبهة إلا

كانوا أول من يقتلها بحثًا، ويقف على منشئها أكثر من صاحبها حتى يعود الحق

جليًّا والضال مهديًّا.

يشهد بذلك علم الكلام الذي ما تكوَّن إلا من ذلك، ويشهد بذلك تلك المصنفات

العديدة في رد الشبهات، ويشهد بذلك تاريخ علماء الإسلام ومناظراتهم التي كانوا

يقيمونها في كل زمان ومكان، ويشهد بذلك علم الخلاف والجدل وعلم آداب البحث

والمناظرة.

نقول هذا ونقدمه إلى فضيلتكم بمناسبة فشو دعاية الإلحاد في هذا الزمان،

والمجاهرة كل وقت بمحاربة الدين والقضاء على آدابه وأحكامه ممن لم يدرسوا منه

كلمة واحدة، ونحن من ذلك في سكوت عميق حتى اتخذوا من سكوتنا دليلاً قويًّا

على عجزنا، واستطرد منه الجاهلون إلى أن ذلك العجز إنما هو في نفس الدين،

فأصبحنا بذلك حجة على ديننا، وسدًّا بينه وبين الناس، شغلاً منا بمصلحة التعليم

البحتة عن نتيجة ذلك التعليم، ولم يقف التشكيك في الدين وتسريب الريب فيه إلى

المسلمين على أولئك الذين لم يدرسوه فحسب، حتى نجم اليوم ناجم، ونطق بعد

دهره ناطق، لم يشأ أن يباحث العلماء في خواطر نفسه قبل أن يفاجئ الناس بها،

وأخرج للناس كتابًا سماه (الإسلام وأصول الحكم) بصفة كونه عالمًا من علماء

الأزهر، وقاضيًا من القضاة الشرعيين ملأه بالشك والترديد، وأنكر أشياء لا نعلم

إلا أنها معلومة من الدين بالضرورة باتفاق العلماء.

أنكر الخلافة وأنها مقام إسلامي واجب بالشرع، وأفاض في النعاية على

معتقديها من عهد أبي بكر إلى الآن، ولم يُبالِ في ذلك بمس الصحابة أو الخلفاء

الراشدين، من أن عملهم عليها كان من قبيل المُلك لا من قبيل الدين! وهكذا

أنكر القضاء وسائر صنوف الحكومة، وأنها ليست من الدين في شيء.. . حاول

أكثر من ذلك في القسم الثاني من كتابه: أن النبي كان نبيًّا فحسب أم كان نبيًّا ملكًا؟

وأكثر من الترديد في ذلك، ومراودة العقول عليه، وبسط الاعتراضات وأوجز

الإجابة الواهية، ليَعبُر عابر من ذلك إلى أن سنة النبي صلى الله وآله وسلم التي

هي توأم الكتاب العزيز وبيانه، وديوان الشرع وأدلته التفصيلية إنما هي أحكام

محلية وقتية تنتهي بانتقاله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن نأخذ بها الآن، ولا

أن نقيمها في أي زمان أو مكان، بل نأخذ في كل شئوننا ومرافقنا بآخر ما أنتجته

العقول البشرية: أي (طبعًا من أمثال رجال أوربة وأمريكا المسيحيين) وكثير

من خصوم الدين من يتشدقون بذلك، فكيف يكون انتصارهم إذا رأوا بارقة تلوح

لهم بذلك من عالم من علماء المسلمين.

فنرغب إلى مقامكم السامي ورياستكم العظمى على تلك المصلحة الكبرى،

مصلحة الدين التي تتمتع بكل الصفات المرعية في مصالح الدولة، من قوانين

عالية، وإرادات سنية، ومقام لدى ولي الأمر لا يدانيه مقام، وكرامة في الأمة

دونها كل كرامة، ومسئولية عند الله تعالى دونها كل مسئولية، نرغب إليكم وأنتم

بهذه الصفة العالية أن تتخذوا الدفاع عن الدين وتأييده بالحجة والبرهان جميع وسائل

النفوذ المشروعة التي تخولها لكم القوانين؛ حتى تظفروا به على كل خصم،

وتنجلي آياته الباهرة رغم كل تشكيك، كما هو الشأن في حماية كل مصلحة من

مصالح الدولة.

كما أننا نرغب إلى فضيلتكم أن تساعدوا هذه الهيئة الدينية العظمى في النزول

إلى معترك الحياة العامة، ومشاركة الناس في مصالح الحياة؛ إعلانًا بأن الدين لا

ينافي الدنيا بل إنما جاء لصلاحها، والعمل على رفع الشر والظلم منها، وبث

العدل والأمن فيها، وأن يدرس رجال الدين كل ما يطرأ عند الناس من شبهة في

الدين؛ ليكشفوا عنها اللثام، ويعود الخلاف في الأمة وفاقًا، وتأمن الأمة شر

الانقسام، ونقوم بواجب الشرع خير قيام والسلام.

وهذه هي أرقام الصحائف التي تتضمن زيادة شذوذ وإغراب وتحريف:

ص 20 دعوى الوجوب الشرعي دعوى كبيرة، وليس كل حديث وإن صح

بصالح لموازنة تلك الدعوى.

ص 36 (فإنما كانت الخلافة - ولم تزل - نكبة على الإسلام والمسلمين،

وينبوع شر وفساد) .

ص53 (وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة فذلك لا

يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم

إلا أنه كان في سبيل المُلك، ولتكوين الحكومة الإسلامية - إلى أن قال: فذلك

عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه.

ص55 المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود

الرسالة.

ص57 القول بأن الإسلام سلطة دينية وسياسية قول لا نعرف سندًا له، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة.

ص92 بيعة أبي بكر بيعة سياسية على القوة والسيف.

ص96 اختراع لقب خليفة لأبي بكر ليأخذ الناس برهبة هذا اللقب.

ص97 حرب أبي بكر لمن سُموا مرتدين ليس للدين وإنما هو للسياسة.

ص 102 التصاق الخلافة بمباحث الدين من جناية الملوك.

ص 103 وهي آخر صحيفة قال فيها: (والحق أن الدين الإسلامي بريء

من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة

ورهبة ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا ولا القضاء

ولا غيرهما من وظائف الحكم) إلى آخر الصحيفة.

تحريرًا في يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة سنة 1343 (23 يونيو سنة 1925)

إمضاءات علماء الأزهر

حضرات المشايخ: يوسف حجازي، محمد مطاوع نصير، إبراهيم

عمارة، إسماعيل عبد الباقي، محمد علي شايب، إسماعيل علي، محمد علي

القاضي الطماوي، عتمان صبره، على جاويش، أحمد المكاري. إبراهيم

الدسوقي. حسب النبي محمود. علي شقير: عبد الحميد الهنامي. محمد خليل

بدوي. جاد عزام. بركات أحمد عواد علي. شمس الدين أحمد. محمد

مخلوف عيسى. معوض السخاوي. علي إبراهيم منيب. حسن حجازي. طه

البيباتي. رفاعي عصر. محمد حماد. سعيد حسن. أحمد أبو العينين كامل.

على الهنامي. أحمد عبد السلام. محمد علي الخولي. كمال القاوقجي. علي جاد

الله عبد الجليل. عيسى أبو النصر. عبد الرحيم البرديسي. خليفة راشد. محمود

عفيفي. حسن أبو عزب. علي أحمد صبره. عبد العزيز مهنا. محمد سامون.

عبد الحميد البجيرمي. مصطفى بدر زيد. عبد الحميد السرو. محمد العربي.

محمد عبد السلام القباني. سيد رضوان عثمان. محمد إبراهيم الحنبلي. قنديل

الفقي. سليمان البيلي. عبد الحافظ محمد عسل. سليمان الشيخ. إبراهيم

سليمان. محمد الشنواني: محمد البراوي. محمود زيد. توفيق البتشتي. محمد

العشري. عبد المقصود عبد الخالق، أحمد المرشدي، حسين البيومي، عبيد عبد

ربه، محمد مصطفى علي ناصر. عبد الفتاح قطب الملاح.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 212

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حرب الريف

أو الأندلس الجديدة

مساعدة منكوبيها وضروب من العبر فيها

ريف المغرب الأقصى بقعة صغيرة، اشتهر أهلها بعزة النفس، وشدة البأس،

ورسخ فيهم حب الاستقلال أو غريزته، فلم يذلوا لفاتح ولا خنعوا لمقاتل، ولما

ظهر للعالم كله عجز دولة إسبانية عن قهرهم في هذا العصر، وأنها باءت في

جميع معاركها معهم بالخيبة والخسر، وذاع صيت أميرهم وقائدهم العظيم محمد

عبد الكريم في الغرب والشرق، خافت فرنسة أن يستفحل أمره؛ فيستولي على

فاس، ويفضي ذلك إلى تحيز جميع القبائل له؛ فيتجرأ أهل الجزائر فتونس على

الانتقاض عليها وإلقاء نير العبودية الثقيل عن أعناقهم، وقد يئسوا من إنصافها

إياهم إذ اشتد إعناتها وإرهاقها لهم بعد الحرب الكبرى التي سفكوا فيها دماءهم دفاعًا

عنها، نعم خافت ذلك؛ فبادرت إلى قتال الريفيين كما قلنا في الجزء الماضي.

قد كان ذلك ومن المعقول أن يكون ، ثم من المعهود المألوف أن تتهم فرنسة

الأمير محمد عبد الكريم وقومه بالبغي والعدوان ، وأن تتهمهم بالتعصب الإسلامي

الذي هو عند الأوربيين كراهة المسلمين لاستعباد أوربة لهم، وحبهم للاستقلال بأمر

أنفسهم ، ومن المعهود المألوف أن يرى صدى هذه التهمة في جميع ممالك أوربة ،

ومن المعهود المألوف أن تتفق دولها وساسة شعوبها على الدعوة إلى التنكيل بهم؛

لئلا يطمع المسلمون المستبعدون في سائر أفريقية وآسية في الحرية والاستقلال،

والتفصي مما وضع في أيديهم وأرجلهم من السلاسل والمقاطر والأغلال.

ولكن الأمر الذي لم يكن مثله معهودًا مألوفًا ولا منتظرًا عند أكثر الناس هو

أن تمتد هذه الدعوة الصليبية إلى الولايات المتحدة الأمريكانية؛ فترسل سربًا من

الطيارات إلى قتال أهل الريف انتصارًا لفرنسة وإسبانية، ومن تطوع للقتال معهما

من ممالك أوربة، فيا ليت شعري هل يعتقد هؤلاء الأمريكيون الأحرار المتساهلون

الذين يبرئهم نصارى الشرق من التعصب الديني المذموم، أن هؤلاء الشراذم من

الريفيين الفقراء يمكن أن يكسروا جيش الدولتين، وينقذوا بلاد المغرب الإسلامي

من العبودية، فعز عليهم ذلك فتطوعوا لوقاية هاتين الدولتين المسيحيتين أو

المدنيتين من هذه الخسارة الخطرة؟ أم نفروا لمساعدتهما؛ ابتغاء وجه الله تعالى

وطلبًا لرضوان يسوع المسيح يوم الدينونة بقتل أعدائه بقذائف الطيارات التي لا

تفرق بين المحارب وغيره، فلا ترحم طفلاً ولا امرأة ولا حيوانًا، والرحمة لا

يستحقها مسلم عند إعياء أتباع رسول الرحمة والسلام والزهد الآمر بمحبة الأعداء

عليه الصلاة والسلام؟ ولعلهم يرون أنه لا يستحق الوجود أيضًا عملاً بنصائح

مبشرهم القس زويمر الأمريكاني الذي لا يزال يحرض الدول المسيحية وشعوبها

على مسلمي العالم كله؟ نعم ولكن هل يتدبر هذه المعاملة متفرنجة المسلمين؟ لا

لا.

وإن تعجب أيها المسلم فأعجب من هذا أن جمعية الهلال الأحمر المصرية قد

اهتمت بإرسال بعثة طبية إلى جدة؛ لمساعدة جيش الشريف علي بن حسين في

قتاله للنجديين والحجازيين المشايعين لهم بالفعل، وإن كانت لمساعدة الفريقين

بالقول، وساعدتها الحكومة المصرية على ذلك بجمع الإعانات من الأهالي، ولكنها

لم تتصد لإرسال بعثة طبية إلى الريف وهو أشد احتياجًا إليها من جنود الشريف

علي في جدة، وقد سعينا إلى ذلك كغيرنا وكلمنا بعض أعضاء الجمعية، فسمعنا

ممن ترجى منهم المساعدة جمجمة وغمغمة، واعتذارات مضطربة، لم نقنع بها

ولا نقدر على الطعن الصريح فيها.

وكنا اقترحنا في الاجتماع العام لجمعية الرابطة الشرقية أن تتصدى الجمعية

للسعي في إرسال بعثة طبية إلى الريف، فاستحسن الحفل المجتمع ذلك، وصفقوا

له، ثم أحيل الاقتراح على مجلس إدارتها؛ لينظر فيه فبحث فيه مرارًا، ولكنه

أرهقه صعودًا، وألفى عقبته كئودًا ومرامه بعيدًا، وكان الله على ذلك شهيدًا.

ثم انتدب لهذا الواجب شرعًا وعقلاً وإنسانية صاحب السمو والهمة السامية

الأمير (عمر باشا طوسون) ، فألف لجنة للنهوض به تحت رياسته، ونشرت

الدعوة إلى التبرع لها في الجرائد، ولكننا لم نر الإقبال عليها من الشعب كما يجب،

ولا كما يليق بصيت بلادنا هذه وبثروتها وبنجدتها، ولا كما يعهد من تاريخها،

فهي قد ساعدت الطليان في نكبات الزلازل والبراكين التي انتابت مسيني وغيرها،

وساعدت أهل طرابلس وبرقة عند إغارة الطليان عليهم بغيًا وعدوانًا، وفي تلك

الأثناء أسست جمعية الهلال الأحمر المصري.

وما لي لا أذكر مساعدة هذه الجمعية الإسلامية لجمعية الصليب الأحمر

المسيحية بألوف الجنيهات، ومساعدة البلاد المصرية كلها حتى علماء الأزهر

(لأيام) الإعانات الإنكليزية كذلك، على كون الإنكليز أعداء للبلاد باحتلالهم إياها،

ثم (إعلان الحماية عليها) - وعلى كونهم كانوا يحاربون دولة الخلافة صاحبة

السيادة عليها - وعلى إرهاقهم إياها، وتحكمهم في استخدام رجالها وجمالها

وحميرها وبغالها، كتحكمهم في أموال حكومتها ومرافقها ومبانيها وسككها.

(فإن قلت) : إن هذا قد كان بقوة الحكومة المحلية وإكراهها للأهالي على

ذلك، (قلت) : هذا بيت القصيد، والتعليل الأول لفتور الشعب في إعانة الريف،

فالحكومة في مصر هي التي كانت ولا تزال تفعل كل شيء، وما كان يفعل فيها

شيء مهم إلا بنفوذها أو برضاها وإقرارها على الأقل، ولا تستثن جمع الإعانات

للوفد المصري ومظاهرة الأمة له، وإن وقع في إثر ثورة وطنية كانت أول عهد

بجرأة الشعب على الإنكليز، ثم على الحكومة المصرية، فإن الوزارة كانت

مرتاحة إلى تأليف الوفد، ولما شرع مستشار الداخلية الإنكليزي في مقاومة أعمال

الوفد وأخذه وثائق التوكيل من وجهاء الأمة، صرح يومئذ رئيس الوزارة ووزير

داخليتها بأن المستشار إنما فعل ذلك من تلقاء نفسه، وقد بينا في مقالنا التاريخي

المبسوط في المسألة المصرية الذي نشرناه في المجلد 22 (سنة 1339 هـ 1919

م) ما كان من الشأن لمساعدة وزارة رشدي باشا في تكوين الوفد المصري، ثم ما

كان من الشأن لوزارة عدلي باشا في الاحتفال الأعظم الذي استقبلت البلاد به سعد

باشا عند عودته من أوربة، وقد صدقت الأيام بعد ذلك صحة رأينا على ما لا ينكر

من نهضة الأمة وعملها مرارًا بما يخالف رغبة الحكومة، وما ساعد على بعثة

جمعية الهلال الأحمر الأخيرة إلا كارهة أو مكرهة، إذ لا تجد باعثًا يرغبها فيه،

ولكن ما بالها لم تقبل على التبرع لجرحى الريف مع كثرة الدواعي والأواصر التي

تعطفها عليه، وتدعوها إلى تخفيف آلامه، من أخوة دينية، وآصرة عربية،

ووطنية إفريقية، ورابطة شرقية، وجامعة إنسانية، وتألم من تألب الشعوب

الأوربية، واعتبار بغيرتها الملية، إن لهذا الفتور موانع أكثرها فيما أرى سلبية من

عدم رغبة الحكومة وعطفها، ومن صد ملاحدة المتفرنجين عن مثل هذا العمل؛

لئلا يقوي الجامعة الإسلامية، ومن عدم تنظيم لجنة الإعانة للعمل واتخاذ الوسائل

المؤثرة لتعميمه، فعسى أن تعني اللجنة بذلك، وتنشر دعوتها في الجرائد المصرية

وغيرها، وتنشئ لها لجانًا فرعية، في كل محافظة ومديرية، فحينئذ يقبل عليها

المصريون الإقبال الذي يكونون به قدوة لغيرهم.

وأما مجلس جمعية الرابطة الشرقية فقد قرر استنجاد الشعوب الشرقية كافة

والشعب المصري خاصة، وحض الجميع على مساعدة لجنة الأمير طوسن باشا،

وتبرع بعض أعضائه وأعضاء الجمعية لذلك قبل نشر نداء الاستنجاد واستنداء

الأكف في الصحف، وتوزيع ألوف منه في المعاهد العامة والطرق، وهذا نصه:

***

نداء جمعية الرابطة الشرقية

لإعانة جرحى الريف في المغرب الأقصى

لئن كان من سيئات هذا العصر أن صارت نكبات الحروب وفتكها فيه أشد

مما كانت في جميع عصور التاريخ، فإن من حسناته كثرة الوسائل لتلافي شرور

هذه المصائب وتخفيف آلامها، ومنها - ولعلها أفضلها - تضامن الشعوب البشرية

بالعطف على المصابين والمنكوبين من جرحى الحرب وغيرها من النوازل العامة

بعاطفة الإنسانية الجامعة بين الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأوطانهم وحكوماتهم

وإننا نرى جميع هذه الشعوب قد أعرضت عن مد أيديها لمساعدة منكوبي الريف وجرحاهم في المغرب الأقصى، على ما يعلم الجميع من عدم وجود الأطباء

والجراحين والممرضين في تلك المنطقة، ومن فقد الأدوات الطبية التي لا بد منها

لمواساة الجرحى ومعالجتهم، فكأن هذا الشعب المنكوب ليس من البشر، فهو

يقاسي جميع نكبات الحرب منذ سنين، ولم يعطف عليه أحد من الشرقيين ولا من

الغربيين.

إذا كانت مساعدة منكوبي البشر حقًّا على جميع البشر للاشتراك العام في

الجامعة البشرية، فإن هنالك جامعات أخرى تجعل هذا الحق على بعض الناس آكد،

وتوجب أن يكون الشعور به أقوى، كالجامعة الشرقية والجامعة الجنسية والجامعة

اللغوية والجامعة الدينية، بداعية هذه الجامعات العامة والخاصة ارتفعت أصوات

كثير من الكتاب في الجرائد الشرقية من عربية وعجمية بطلب جمع التبرعات؛

لمساعدة جرحى الريف ومنكوبي الحرب فيه، وتجاوبت الجرائد فيه بين مصر

والهند.

وقد كانت الجمعية العامة للرابطة الشرقية استحسنت اقتراحًا عرض عليها

بجمع الإعانة لهؤلاء المنكوبين، وتبرع بعض أعضائها لذلك بالفعل، ثم نظر

مجلس إدارتها في تنفيذ ذلك، ولما لم يجد وسيلة أو طريقة لإرسال بعثة طبية لم

يتصد لذلك، ثم تألفت في هذه الأيام لجنة؛ للقيام بجمع التبرعات لهم برئاسة سمو

الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وعهدت بأمانة صندوقها إلى حضرة السيد أبي

بكر بك راتب، بناء على وقوف سموه على طريق مأمون لإرسالها إليهم، فعاد

مجلس إدارة الرابطة الشرقية إلى البحث في المسألة، وقرر استنهاض الهمم

واستنداء الأكف؛ لمساعدة هذه اللجنة في عملها هذا.

فالرابطة الشرقية تنادي كل شرقي كريم الخيم رقيق القلب سخي النفس من

مصري وسوري وعراقي وإيراني وهندي وجاري وتركي، وقوقاسي وياباني

وصيني قائلة: إن شعبًا صغيرًا من أكرم شعوبكم منبتًا، وأعزهم نفسًا، وأسوئهم

في الحياة حظًّا، يعاني على فقره وقلة ذات يده، حربًا عاتية يدافع فيها عن نفسه،

فتجندل أبطاله في حومة الوغى بقذائف الطيارات والمدافع والبنادق؛ فيكون أسعدهم

حظًّا من يلاقي حتفه لساعته، وأشقاهم وأشدهم بؤسًا أولئك الذين تفصل القذائف

الجهنمية أيديهم وأرجلهم من أبدانهم، أو يخترق الرصاص صدورهم فينفذ من

ظهورهم، أو يقطع أمعاءهم ويمزق أكبادهم، ويبقى مستكنًا في طيات أحشائهم،

ولا يجد طبيبًا ولا ممرضًا يأسو له قرحًا، أو يطهر له جرحًا، أو يحفظ له بقية دمه،

أو يخفف عنه بعض ألمه {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) .

أولئك أيها الشرقيون إخوانكم في الرابطة الشرقية، أولئك أيها العرب إخوانكم

في الوشيجة العربية، أولئك أيها الأفريقيون أشقاؤكم في القارة الأفريقية، أولئك

أيها المسلمون أخوتكم في الجامعة الإسلامية، أولئك أيها الناس أبناء أبيكم وأمكم في

الإنسانية، فليعطف عليهم كل واحد منكم بما يجده في قلبه من عطف الجامعة التي

تجمعه بهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وأما أنتم أيها المصريون الكرام فقد عرف الزمان لكم كل مكرمة، وحفظ لكم

مواقف بركم بالمنكوبين من الأمم المختلفة، ولو لم يكن لكم من آثار البر إلا إنشاء

جمعية الهلال الأحمر المصرية لكفى، فأنتم أجدر بأن تكونوا أسبق الشعوب إجابة

لنداء جمعية الرابطة الشرقية التي سبقتم إلى تأسيسها، ولا زلتم خير أهل للبر

والإحسان اهـ.

_________

ص: 217

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المطبوعات الحديثة

(كتاب حاضر العالم الإسلامي)

لو كان المسلمون يُعنون بمعرفة شئون أنفسهم، ويبحثون عن أسباب تغييرهم

لما كان بأنفسهم من عقائد وفضائل ومعارف، وما أعقبها من تغيير الله تعالى

ما كان بهم من نعم السيادة والسلطان والعزة والقوة كما يعنى بذلك علماء

الإفرنج - لما وصلوا إلى هذه الدركة من الضعف والهوان.

قد أتى على الشعوب الإسلامية قرون متتابعة وهم يتدهورون من قنة إلى هوة،

كما تتدهور الجلاميد من شماريخ الذرى، لا ندري من حطها من علٍ إلى أسفل،

وتتحول من عزة إلى ذلة، ولا تعلم لم تتحول.

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) فقد قيض بفضله للمسلمين من يوقظهم من سباتهم، ويرشدهم

إلى تغيير ما بأنفسهم الآن من أسباب التردي على علم وبصيرة، كما غيروا من

قبل ما كان بأنفسهم من أسباب الترقي عن جهل وغفلة، ولكن طرأت عليهم في

أثناء هذا الإيقاظ فتنة التفرنج فلبستهم شيعًا، وفرقتهم طرائق قددًا، فقد أفسد ساسة

الإفرنج وملاحدتهم جبلاً كثيرًا من أبناء المسلمين، كانوا أضر عليهم من سائر

أعدائهم في الدنيا والدين، فهم يضلون المسلمين ويخدعونهم عن دينهم ودنياهم، من

حيث يوجد في أحرار الإفرنج من يرشد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم،

بما يعنون به من تمحيص الحقائق في شؤونهم لذاتها، أو ليستفيد أقوامهم منها.

أمامنا الآن ونحن نكتب هذا كتابان يشغلان مسلمي مصر وسيشغلان سائر

البلاد الإسلامية التي يصلان إليها.

(أحدهما) كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي رأى القراء في الجزء

الماضي ويرون في هذا الجزء شيئًا من بيان مفاسده، وأنه لرجل متخرج في

الجامع الأزهر وقاضٍ شرعي في بعض المحاكم المصرية، هو أضر على

المسلمين من كل عدو.

(والثاني) كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وهو لعالم إفرنجي هو أنفع

للمسلمين من كثير من أفرادهم الناصحين، دع متفرنجتهم الملاحدة المفرقين، ألا

وهو العلامة البحاثة (مستر لوثروب ستودارد) الأمريكي الذي زاد به شهرة على

شهرته، ألفه بلغته الإنكليزية وسماه (العالم الإسلامي الجديد) فراج في أمريكة

وأوربة رواجًا عظيمًا، وطبع مرارًا متعددة، ونقل إلى أشهر اللغات الغربية

والشرقية، وقرظه كبار الكتاب، وأعجبوا بدقة بحثه وسعة اطلاع صاحبه.

ونقله إلى لغتنا العربية عجاج أفندي نويهض أحد أبنائها البررة المجيدين لها

وللُّغة الإنكليزية؛ ليُطلع هذه الأمة على أصح ما كتب في وصف حالها، أدق من

عرف من علماء الفرنجة بحثًا عنها، وأعد لهم حكمًا لها وعليها، وأصدقهم قولاً

فيها، وذكر أن المحققين من العلماء الغربيين شهدوا له بهذه الصفات عند تقريظ

كتابه هذا.

ترجم الكتاب وعرض ترجمته على كاتب العصر - كما قال بحق - الأمير

شكيب أرسلان الشهير، وطلب منه أن يكتب له مقدمة تليف به ففعل، بل أجاب

السائل بأكثر مما سأل، وله في ذلك أسوة حسنة [1] ولكنه أربى في الكرم، فوضع

على الكتاب حواشي وذيولاً يصح في وصفها قول العرب: على التمرة مثلها زبدًا،

بل تُربي على صحائف الأصل عدًّا، ولعلها مدت مادته بضعفيها مدًّا، فهي بطولها

واستطرادتها تضاهي الحواشي الأزهرية، ولا غرو فروح الأمير العلمية والأدبية،

أغلب عليه من روحه الاقتصادية والاجتماعية، فإنه لو جعل هذه الحواشي كتابًا

مستقلاً لكان أليق بمقامه وأجدر بإفادتها من جعله إياها تابعة لغيرها، ولكان له

منها ربح مالي يزيد على ربح الكتاب الأصلي، بل ربما زاد عليه موشى وموشحًا

بها أيضًا، فإن أكثرها موضوعات مستقلة بنفسها، وما فيها من إيضاح لبعض

غوامض الكتاب أو استدراك عليه هو أقلها، ولكنه على ما يظهر من معرفته لقدر

نفسه، وعلى ما يقول بعض حساده أو مكبري فضله من إعجابه بها، كثيرًا ما

يهضمها، ويضعها تواضعه دون ما رفع الله من قدرها، ومن ذلك ظنه أن جعل

هذه الحقائق الثمينة ذيولاً لترجمة هذا الكتاب أحرى باستمالة الناس إلى مطالعتها،

كأنه لم يشعر بأنه أشهر من صاحب الكتاب لدى قراء العربية، ولم يستشعر أن

الثقة به في شؤون الإسلام أقوى من الثقة بذاك عند جميع الشعوب الإسلامية،

وغيرهم من الشعوب الشرقية، وكثير من علماء البلاد الغربية وإننا نكتفي الآن

بذكر عناوين فصول الكتاب، وأهم عناوين الحواشي لتعريف قراء المنار

قيمتها.

- أما موضوع الكتاب ومواده فهي مودعة في مقدمة وتسعة فصول وخاتمة لا

يستغني مسلم يهمه أمر أمته وملته عن الاطلاع عليها.

المقدمة (في نشوء الإسلام وارتقائه وانحطاطه) وقد أنصف فيها الإسلام

بالثناء عليه، وبيان أصول الإصلاح والهدى المودعة فيه، فتكلم في ذلك كلام عليم

خبير منصف، وبين ما أصاب المسلمون بهدايته وما أصابهم بتركها وأسباب

الارتقاء وأسباب الانحطاط في الحالين بما تعطيه فلسفة التاريخ وأصول علم

الاجتماع للمطلع على تاريخ الإسلام القديم والحديث، والواقف على عقائده وآدابه

بالإجمال.

ولكن كلامه فيها لم يسلم من الخطأ في مسائل يتوقف تحقيق الحق فيها على

علم استقلالي واسع في العقائد الإسلامية والفرق المختلفة فيهم، فهو على إدراكه

لطهارة العقائد والآداب الإسلامية وموافقتها للفطرة البشرية والعقل السليم، ولعدالة

التشريع الإسلامي وإصلاحه اللذين جحدهما الشيخ علي عبد الرازق - ولكون

العرب كانوا أجدر الشعوب بفهم تلك المزايا لحريتهم وطباعهم السليمة غير

المضطربة بتقاليد الأديان التي كان قد أفسدها الزمان - وعلى جعله هذين الأمرين-

التعاليم الإسلامية والفطرة العربية - هما الأساس والعلة الأولى لنجاح الإسلام

ومدنيته ، وعلى إدراكه أن الأعاجم المبلبلة قلوبهم وعقولهم بالتقاليد الموروثة لم

يفهموا الإسلام كما فهمه العرب، وأن تغلبهم على الخلفاء وسلبهم لسلطان العرب

كان علة العلل للانحطاط الذي تلا ذلك بالارتقاء ، هو على إدراكه لكل ما ذكر - قد

اختلط عليه الأمر عند المقابلة بين أهل السنة ومتبعي النقل، والمعتزلة الذين

حكموا العقل.

علم أن الإسلام دين العقل والفطرة، فظن أن المعتزلة الذين أرجعوا كل شيء

في الدين إلى أصول العقل هم الذين استمسكوا بجوهر الإسلام ولبابه الصحيح،

وأن خصومهم المحافظين الذين ذهبوا إلى أن النقل والسنة مقياس كل شيء في

الدين، هم الذين جهلوا جوهر الإسلام، وظن أن الذين دخلوا في الإسلام، وقد

أشربوا في قلوبهم الدين البيزنطي القديم (وأمثالهم من الذين فهموا الإسلام بمرآة

أديانهم وتقاليدها؟) قد كانوا من زمرة أهل السنة والنقل؛ لما اعتادوا من التقليد،

وأنهم هم الذين أولوا القرآن والأحاديث النبوية تأويلات بعدت بها عن سهولتها

وبساطتها قال: (فنتج من ذلك أن أصيب الإسلام بمثل ما أصيبت به النصرانية

في الأجيال المظلمة، من تلبيس الدين عقائد غير عقائده، ونسبة الآراء الدينية

الجافة إليه وهو براء منها، فلا غرو إذا اشتد الخلاف واتسعت شقته وطال عهده

بين الذين اعتصموا بالسنة والنقل، فقاسوا عليهما، وبين الذين جعلوا العقل نفسه

مقياسًا لكل شيء) .

ثم زعم أن عقيدة السنة هي التي غلبت على العقل كما كان متوقعًا، وأن

تاريخ السنة والتقاليد إنما هو تاريخ السير نحو أدوار الاستبداد وعواقبه المشؤومة.

لم يفرق المؤلف بين السنة والنقل في الإسلام وبين التقاليد في الأديان الأخرى

وهي عبارة عن العقائد والشعائر الموروثة عن الآباء والرؤساء والمعلمين، والحق

الواقع أن كل ما ذكر من الفساد في الإسلام إنما كان من بدع الذين حكموا عقولهم

أي آراءهم النظرية في الدين، وأنهم هم الذين حولوا الإسلام عن بساطته المعقولة

الموافقة للفطرة، وهم الذين كانوا السبب في إدخال البدع وضلالات الأديان القديمة

وسخافاتها وخرافات الوثنية في الإسلام بالشبهات النظرية التي سموها دلائل عقلية،

والأقيسة الشيطانية فيما لا مجال للقياس فيه من عقائد الدين التي لا مأخذ لها إلا

الوحي، ومن الأحكام الثابتة بالنص.

أهل السنة والجماعة هم الذين كانوا يجمعون قداسة الدين وسهولته من تطرق

بدع الأديان والآراء الفلسفية والشعرية إليها، لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم

أمته منها، فمنهم من منع القياس في أمور الدين مطلقًا، ومنهم من قال: إن القياس

جائز في غير الأمور الاعتقادية والتعبدية، وقصره بعضهم على الأحكام القضائية

والمدنية والسياسية.

وكان من بدع المعتزلة دعوتهم إلى القول بخلق القرآن، وحملهم بعض خلفاء

العباسيين الذين اتبعوا نحلتهم بحمل المسلمين على ذلك بالقهر والاضطهاد، وقد

آذوا به خلقًا كثيرًا من أهل السنة من أجلهم قدرًا إمام الأئمة أحمد بن حنبل - رضي

الله عنه - فقد ضربوه ضربًا مبرحًا، وداسوه بأرجلهم ليقول بقولهم، فامتنع أن

يقول: هو مخلوق أو غير مخلوق، احتجاجًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم

وأصحابه لم يأمروا بذلك ولم يقولوا به، فيسعنا ما وسعهم، ولا نعرف ديننا إلا

عنهم، ولو أجزنا مجاوزة نصوص الوحي وتفسير السنة له بآرائنا العقلية تزول

الوحدة ونتفرق شيعًا كما تفرق من حذرنا الله أن نكون مثلهم.

ومبتدعة الشيعة الفاطميين، بل زنادقة الباطنيين كانوا يعتمدون في ترويج

بدعهم على الفلسفة اليونانية، وهم الذين ابتدعوا في مصر احتفالات الموالد التي لا

تزال مشوهة للإسلام وسبة للمسلمين، والإسلام بريء منها، وملوك الأعاجم

وأمراؤهم هم الذين ابتدعوا جعل القبور مساجد، وكانوا سبب تقديس الجاهلين لها

بل عبادتهم إياها، كما فعل أهل الكتاب قبلنا، وحذرنا نبينا من فعلهم، إذ قالت

السيدة عائشة رضي الله عنها في سبب لعنه صلى الله عليه وسلم للذين اتخذوا

قبور أنبيائهم مساجد: يحذر ما صنعوا - كما في صحيح البخاري، ولا يزال

المدافعون عن هذه البدع يحتجون لها بنظريات يسمونها عقلية كوجود الأرواح،

وجواز قضائها أو حملها الخالق تعالى على قضاء الحاجات، ولا يوجد دليل نقلي

علي شيء من هذه البدع والخرافات.

من الأسف أن البدع التي يسمونها نظريات عقلية هي التي غلبت على السنة

حتى أفسدت على المسلمين دينهم ودنياهم خلافًا لما قاله المؤلف، ولو اتبع الناس

الإمام أحمد وأمثاله لما زادوا في الدين شيئًا ولا نقصوا منه شيئًا، ولصرفوا ذكاءهم

وجهدهم في العلوم والفنون الكسبية التي تفيدهم وترفع شأنهم، ولم يخلطوا بالدين ما

ليس منه.

ألم تر أن مؤلف الكتاب يعد الدعوة الوهابية إصلاحًا في الدين وإرجاعًا له إلى

أصله الطاهر، وهل الوهابية إلا الوقوف بالدين على صراطه المستقيم. الكتاب

والسنة الصحيحة - ورد جميع ما ابتدع فيه سواء استحسنته العقول أم لا، وهل

للعقول قاعدة أو حد تقف عنده في هذه الأمور؟ أليس لعباد الأوثان فلسفة دينية،

وشبهات نظرية يسمونها دلائل عقلية؟ بلى، ويكفينا هذا في بيان غلط المؤلف في

هذه المسألة.

ولنعد إلى موضوعات الكتاب فنقول:

الفصل الأول في اليقظة الإسلامية. وهو في الجزء الأول.

الفصل الثاني في الجامعة الإسلامية. وهو في الجزء الأول.

الفصل الثالث في سيطرة الغرب على الشرق. ج 2.

الفصل الرابع في التطور السياسي. وهو في الجزء الثاني.

الفصل الخامس في العصبية الجنسية. وهو في الجزء الثاني.

الفصل السادس في العصبية الجنسية في الهند. وهو في الجزء الثاني.

الفصل السابع في التطور الاقتصادي. وهو في الجزء الثاني.

الفصل الثامن في التطور الاجتماعي. وهو في الجزء الثاني.

الفصل التاسع مع الخاتمة في القلق الاجتماعي والبلشفية.

وأما موضوعات حواشي الأمير شكيب أرسلان فهي في بيان أحوال مسلمي

العصر العامة الحديثة وبعض القديمة، تكلم عن مسلمي الصين وجاوة وما جاورها

والهند ومسلمي الروسيا في عهد البلشفية الحاضر وشرقي أفريقية والحبشة

وماداغسكر وجزائر القومور وريف المغرب الأقصى والفلبين.

تكلم عن مسلمي هذه البلاد وغيرها بما يهم كل مسلم يهتم بأمر المسلمين أن

يعلمه، ولا سيما علاقتهم بأوربة ومن سيادتها عليهم ومحاولتها لتنصيرهم، وله في

أذيال الجزء الأول فصول تحت عنوان (الإسلام والجنود السوداء) منها (لمحة

على حالة الإسلام الحاضرة) ومنها فصل في (الإسلام الأسود) وفصل في

(الإسلام عند السنغاليين) ، ويلي ذلك (خلاصة) سياسية لهذه الفصول وما قبلها في

شؤون المسلمين وأوربة، فيها من الحقائق التاريخية والعبر السياسية ما يعز أن

يصدر مثله عن غير الأمير شكيب.

ويليها فصل في (الجنس الأسود والإسلامية) ، ففصل (في الإسلام في

أفريقية) وما يلاقيه من مهاجمة الاستعمار ودعوة النصرانية - ففصل في

(الرسالات البروتستانية في أفريقية) ، ففصل (في نهضة الإسلام في

أفريقية وأسبابها ووسائل دعوتها من سنة 1790-1900) .

ويلي ذلك الكلام في الطرق الصوفية في أفريقية: القادرية والشاذلية

والتيجانية والسنوسية، ويتبع الكلام في الأخيرة ترجمة بعض كبار شيوخها

وجدول في أسماء زواياها في ست صفحات بالحرف الصغير (جسم 12) .

ويلي ذلك فصل في (مجاري الدعوة الإسلامية في أفريقية) ففصل في

(الصراع بين الإسلام والنصرانية، وأيها الغالب في أمر المدنية) ويليه خلاصة لما

تقدم في هذا الموضوع كله.

ومن موضوعات هذه الحواشي والذيول فصول في الإصلاح والمصلحين،

وزعماء الإسلام المجددين، منها الكلام عن الوهابية وزعيمها العلمي الشيخ محمد

عبد الوهاب وزعمائها الأمراء آل سعود (ومنها ترجمة حكيم الإسلام وموقظ الشرق

السيد جمال الدين الأفغاني وشيء من ترجمة الأستاذ الإمام، وأشكر له حسن ظنه

أن قرن اسمي باسم أستاذنا) ومنها ترجمة بطل الإسلام والعرب في هذا العهد

(الأمير محمد عبد الكريم)، وتراجم زعماء جمعية الاتحاد والترقي التركية: أنور

باشا وطلعت باشا وجمال باشا إلخ.

وكلام عن بعض الفرق والطرق القديمة والحديثة كالمعتزلة والخوارج

والبكطشية والبابية والبهائية والاشتراكية والبلشفية والأحمدية القاديانية.

وجملة القول أن مؤلف هذا الكتاب من أعلم كتاب الفرنجة بشؤون المسلمين،

فإن لم يكن أعلمهم بها فهو أجدرهم بتحري الحقيقة وبيانها، وإن واضع الحواشي

والذيول التي هي كتاب آخر هو أجدر كتاب العرب بالجمع بين تاريخ الإسلام

والمسلمين وبين علاقة أوربة بهم وسياستها فيهم، وأقدرهم على بيان ذلك

وأحرصهم على النصح فيه، نعم إنه يوجد من يساويه ومن يفوقه في بعض فروع

هذا التاريخ وشعب هذه المسائل، ولكنا لا نعرف أحدًا يضاهئه في معرفة جملتها

وتفصيلها، ولا في مزية حسن البيان لها، وقد بلغنا أنه طالع وراجع عند كتابة هذه

الحواشي عشرات من الكتب الحديثة التي ألفت بأشهر اللغات الأوربية، ولم يعتمد

على حفظه واختباره، فقد اجتمعت في هذا الكتاب خلاصة معارف الغرب والشرق

الخاصة بحال المسلمين السياسية والدينية والاجتماعية الحاضرة والمستقبلة، فهو

يغني في بابه عن كثير من الكتب والجرائد والمجلات وهي لا تغني عنه، وسننقل

للقراء بعض النماذج منه.

طبع الكتاب بالمطبعة السلفية بمصر (سنة 1343) على ورق جيد بنوعين

من أصغر حروف الطبع، فالأصل بحرف 18 والحواشي والذيول بحرف 12،

فدخل في جزئين يزيد كل منهما على 400 صفحة، وثمن النسخة منهما مجلدة

بالقماش المتين 85 قرشًا من الورق الجيد، و60 من ورق دونه، وهو يطلب من

مكتبة المنار، ومن مكتبة المعارف بمصر، ومن طلب إرساله بالبريد فليرسل

أجرته وهي خمسة قروش صاغ.

***

(الإسلام وأصول الحكم، بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام)

كتاب جديد ألفه الشيخ علي عبد الرازق الحامل لشهادة العالمية من الجامع

الأزهر وأحد قضاة المحاكم الشرعية، حاول فيه أن يثبت أن الإسلام ليس له

حكومة ولا دولة ولا سياسة ولا قضاء، وأنه لا ينبغي أن يكون له ذلك، وأن ما

ورد في القرآن الحكيم والسنة النبوية من الأحكام القضائية، والمعاملات السياسية

والحربية كان تنفيذه والحكم به خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، من حيث إنه

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى لم يكلف المسلمين أن يلتزموا تلك

الأحكام من بعده، وليس لأحد من أمته أن يخلُفه في إقامة حدود الله وتنفيذ أحكام

شريعته، وانتحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه للقب خليفة رسول الله

صلى الله عليه وسلم كان باطلاً، وإن اتفق عليه العلماء وأهل الحل والعقد من

الصحابة رضي الله عنهم فإنهم ما فعلوا ذلك إلا خدعة سياسية؛ لإخضاع

العرب وغير العرب لملكهم، وأن حكومتهم كانت في الواقع ونفس الأمر لا دينية،

وأن كل ما قاله المسلمون في الخلافة الإسلامية والحكومة الدينية باطل لا يقوم عليه

دليل، وإنما يقوم الدليل على أنه لا بد للناس من حكومة مهما يكن شكلها ولو

اشتراكية بلشفية، وأن حكومة الخلافة كانت شرًّا وإذلالاً للمسلمين، وخلاصة

الكتاب أن المسلمين ليس لهم تشريع إسلامي سياسي ولا مدني ولا قضائي، وأن

الدين ترك لهم ذلك ليرجعوا فيه إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، فيباح لجميع

المسلمين ولكل شعب منهم أن يختار لنفسه ما شاء من أنواع الحكم إلا شكل الخلافة

والنيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة ما ورد في الكتاب والسنة، وما

جرى عليه الخلفاء الراشدون من الحكم الإسلامي.

فهذا الكتاب شر مما كتب جميع أعداء الإسلام لهدم الإسلام وتمزيق شمل

جامعته الدينية والدنيوية، يدعو المسلمين إلى الارتداد عن دينهم، ويبيح لهم

عصيان الله تعالى ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه، وتوعدا على عصيانه بعذاب

الله تعالى ، فهو مخالف لما لا يُحصى من النصوص القطعية المجمع عليها المعلومة

من الدين بالضرورة، ولا خلاف بين أحد من المسلمين في كفر من يجحد شيئًا من

ذلك، وقد كتبت أربع مقالات في التفنيد الإجمالي لهذا الكتاب، نشرت الأولى منهن

في الجزء الماضي، وهي ما كتبته قبل قراءة الكتاب كله، وضاق هذا الجزء عن

نشر شيء آخر منها.

يقول مؤلف هذا الكتاب أنه ألفه في مدة عشر سنين متقطعة لا متصلة؛

وذلك لأنه حاول إبطال الحق الصريح الذي هو أوضح من الشمس ببعض التخييل

الشعري والسفسطة، فتكلف كثرة التفكير في الشبهات التي تقيه ما هو متوقع له من

التكفير، وكان جل مادته فيه بعض كتب الإفرنج التي كتبوها في الخلافة، وكتاب

(خلافت وحاكميت ملية) الذي كتبه بعض علماء الترك لإقناع مسلميهم بما فعلته

حكومة أنقرة الجمهورية من إلغاء الخلافة والفصل بين الدين والحكومة، ومن

بعض كتب التاريخ والأدب والكلام، ومن العجيب أن يكون من مادته مع ما ذكر

مثل كتاب الأغاني وكتاب العقد الفريد، ولم يكن منها صحيح البخاري ولا صحيح

مسلم، ولا موطأ مالك، ولا مسند أحمد، ولا شيء من كتب السنن! وماذا يفعل

بالصحاح والسنن من يريد هدمها والاستغناء بكتب الإفرنج عنها؟

قامت قيامة علماء الأزهر وغيرهم من أهل الدين احتماء على المتجرئ على

هذه الضلالة والإهانة للإسلام والمسلمين كافة، وقام في تجاههم بعض الإفرنج

والملاحدة والمرتدين ينصرون داعيتهم ويناضلون دونه، وكان لسان حماة الإسلام

جريدة (اللواء والأخبار) الإسلامية، ولسان أنصاره وحماته جريدة (السياسة)

وبعض الجرائد الإفرنجية، والتزم بعض الجرائد العربية الحياد، واختار بعضها

الذبذبة والنفاق، وإنما تكأة أنصاره في الدفاع عنه ما يسمونه (حرية الرأي)

ولكنهم يحتكرون هذه الحرية له ولأنفسهم، ويحرمونها على رجال الدين،

فالمدافعون عن الإسلام والمبينون لحقيقته يتهمون عندهم بالاعتداء على حرية الرأي

المقدسة في القانون، وأما المهاجم للإسلام الداعي لهدم تشريعه، المهين لجميع

المسلمين من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فله عندهم أن

يقول ما يشاء فيهم، وليس لهم أن يقولوا فيه شيئًا! !

ولم أقرأ له ولأنصاره مقالة ولا عبارة في إثبات شيء من مقاصد الكتاب ولا

في تخطئة شيء مما فنده المنتقدون منها، لم يتجرأ أحد ممن قرأت كلامهم على ذلك

إلا محامٍ اسمه (أحمد مصطفى) قال أنه قرأ الكتاب كله، وأنه مؤمن بما فيه،

وبأنه {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) فهو عنده قد

سلب القرآن ما وصفه الله تعالى به من عصمته، ولا يمكن أن يريد أنه شاركه في

هذه الصفة؛ لأنه مخالف له وناقض لجميع أحكامه السياسية والمدنية والشخصية،

فإذا كان القرآن هو الحق المعصوم من الباطل كما وصفه الله تعالى فلا يمكن أن

يكون مخالفه - ككتاب الشيخ علي عبد الرازق - إلا باطلاً، فأيهما يختار ذلك

المحامي.

وقد طبع الكتاب سنة 1343 بمطبعة مصر على ورق جيد بشكل جميل في

صورته ووضعه بقدر ما هو قبيح في معناه وموضوعه، وبيعت النسخة منه بعشرة

قروش، والظاهر أن نسخه نفدت بكثرة الخوض فيه مع قلة المطبوع منه، فإنه

ألف نسخة فقط.

_________

(1)

هذه إشارة إلى ترجمة آخر أبواب كتاب العلم من صحيح البخاري (باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل) وهو النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 223

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الوثائق الرسمية في المسألة العربية

بلاغ سلطان نجد [*]

لمن في مكة وضواحيها من سكان الحجاز، الحاضر منهم والباد.

نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو رب هذا البيت العتيق، ونصلي ونسلم على

خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.

(أما بعد) فلم نقدم من ديارنا إليكم إلا انتصارًا لدين الله الذي انتهكت

محارمه، ودفعًا لشرور كان يكيدها لنا ولديارنا من استبد بالأمر فيكم قبلنا.

وقد شرحنا لكم غايتنا هذه من قبل، وها نحن أولاء بعد أن بلغنا حرم الله

نوضح لكم الخطة التي سنسير عليها في هذه الديار المقدسة؛ لتكون معلومة عند

الجميع فنقول:

(1)

سيكون أكبر همنا تطهير هذه الديار المقدسة من أعداء أنفسهم الذين

مقتهم العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بما اقترفوه من الآثام في هذه

الديار المباركة وهم (الحسين وأنجاله وأذنابهم) .

(2)

سنجعل الأمر في هذه البلاد المقدسة - بعد هذا - شورى بين المسلمين، وقد

أبرقنا لكافة المسلمين في سائر الأنحاء أن يرسلوا وفودهم؛ لعقد مؤتمر

إسلامي عام، يقرر شكل الحكومة التي يرونها صالحة لإنفاذ أحكام الله في هذه

البلاد المطهرة.

(3)

إن مصدر التشريع والأحكام لا يكون إلا من كتاب الله ومما جاء

عن رسوله عليه الصلاة والسلام، أو ما أقره علماء الإسلام الأعلام بطريق القياس

أو أجمعوا عليه مما ليس في كتاب ولا سنة، فلا يحل في هذه الديار غير ما أحله

الله ولا يحرم فيها غير ما حرمه.

(4)

كل من كان من العلماء في هذه الديار أو من موظفي الحرم الشريف

أو المطوفين ذا راتب معين فهو له على ما كان عليه من قبل، إن لم نزده فلا

ننقصه شيئًا، إلا رجلاً أقام الناس عليه الحجة أنه لا يصلح لما هو قائم عليه، فذلك

ممنوع مما كان له من قبل، وكذلك كل من كان له حق ثابت سابق في بيت مال

المسلمين أعطيناه حقه ولم ننقصه منه شيئًا.

(5)

لا كبير عندي إلا الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا ضعيف عندي

إلا الظالم حتى آخذ الحق منه، وليس عندي في إقامة حدود الله هوادة، ولا يقبل

فيها شفاعة، فمن التزم حدود الله ولم يتعدها فأولئك من الآمنين، ومن عصى

واعتدى فإنما إثمه على نفسه ولا يلومن إلا نفسه، والله على ما نقول وكيل وشهيد

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود

***

(بلاغ من علماء الحرم المكي الشريف)[**]

في اتفاقهم مع علماء نجد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

من علماء حرم الله الشريف وأئمته الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ

عمر باجنيد أبي بكر، والشيخ درويش عجيمي، والشيخ محمد مرزوقي، والشيخ

أحمد بن علي النجار، والشيخ جمال المالكي، والشيخ عباس المالكي، والشيخ

حسين بن سعيد، محمد بن سعيد عبد الغني، والشيخ حسين مفتي المالكية، والشيخ

عبد الله حمد، والشيخ عبد الستار، والشيخ سعد وقاص، والشيخ عمر بن صديق

خان، والشيخ عبد الرحمن الزواوي، إلى من يراه من علماء الحكومات الإسلامية

وملوكهم وأمرائهم.

(أما بعد) فقد اجتمعنا نحن المذكورين مع مشايخ نجد حين قدومهم إلى

الحرم الشريف مع الإمام عبد العزيز حفظه الله، وهم: الشيخ عبد الرحمن بن عبد

اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد الوهاب بن مزاحم، والشيخ عبد

الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ مبارك بن

عبد المحسن بن باز، والشيخ إبراهيم بن ناصر بن حسين.

فجرى بيننا وبين المذكورين المحترمين مباحثة، فعرضوا علينا عقيدة أهل

نجد وعرضنا عليهم عقيدتنا، فحصل الاجتماع بيننا وبينهم بعد البحث والمراجعة

في مسائل أصولية:

منها أن من أقر بالشهادتين وعمل بأركان الإسلام الخمسة ثم أتي بمكفر - ينقض

إسلامه - قولي أو فعلي أو اعتقادي، أنه يكون كافرًا بذلك يستتاب ثلاثًا فإن تاب

وإلا قتل.

(ومنها) من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم في

جلب نفع أو دفع ضر، ومن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أن

ذلك شرك، فإن الشفاعة ملك لله ولا تطلب إلا منه، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه

كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وهو لا

يأذن إلا فيمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وهو لا يرضى إلا التوحيد والإخلاص (ومنها) تحريم البناء

على القبور وإسراجها، وتحري الصلاة عندها، وأن ذلك بدعة محرمة في الشريعة،

(ومنها) أن من سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب حرامًا (ومنها)

أنه لا يجوز الحلف بغير الله لا الكعبة ولا الأمانة ولا النبي ولا غير ذلك؛ لقول

النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) .

فهذه المسائل كلها لما وقعت المباحثة فيها حصل الاتفاق بيننا وبين المذكورين،

ولم يحصل خلاف في شيء، فاتفقت بذلك العقيدة بيننا معاشر علماء الحرم

الشريف وبين إخواننا علماء أهل نجد - نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه

ويرضاه آمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

***

الإنذار البريطاني للملك حسين بن علي

هذا نص الإنذار الذي سلمه قائد المدرعة البريطانية فورن يوم 28 مارس إلى

الملك حسين كما نشر في المقطم:

(إلى جلالة الملك حسين من وكيل خارجية بريطانيا العظمى) :

تبلغت حكومة جلالة ملك بريطانيا أن عظمة سلطان نجد هيأ قوة لمهاجمة

(العقبة) ويفهم من هذا بأن الباعث هو جلالتكم وحكومة الحجاز التي جعلت مركز

معان والعقبة بحالة عسكرية ضد ابن السعود، ولا يخفى أن حكومة جلالة ملك

بريطانيا مسئولة عن الأمن العام بفلسطين وشرق الأردن مع معان التي قعد تحت

انتدابها، فعندما أتيتم إلى العقبة كلفت حكومة جلالة الملك علي والأمير عبد الله

بتعيين الحدود الفاصلة بين الحجاز والشرق العربي.

ومع ذلك رأت العظمة البريطانية بأن المثابرة على المذاكرة بمثل هذه الأوقات

الحرجة غير ممكنة بالنظر لحالة الحجاز الراهنة، وعليه فقد أجلت حكومة بريطانيا

المذاكرة في هذا الموضوع لفرصة أخرى.

ولكن هناك نقطة متخذة من قبل جلالة ملك بريطانيا، ولا يمكنه أن يتساهل

بها وهي: أن يبقى أو يسمح بصورة ما بدوام الحالة الحاضرة؛ ولذلك بدأت

بإظهار سلطة حكومة الشرق العربي في الأماكن التي هي مسئولة عنها أمام جمعية

الأمم، وهي تحتوي على معان والعقبة، وتدعوكم أيضًا لمغادرة العقبة؛ لكي لا

تكونوا سببًا لحصول مشاكل جديدة بين بريطانيا وسلطان نجد.

وفي هذه المناسبة تصر بإلحاح على وجوب مغادرتكم العقبة قائلة: لا يمكنها

أن تسمح لكم بالبقاء أكثر من ثلاثة أسابيع) اهـ.

وقد أجاب حسين عن هذا جوابًا طويلاً افتتحه بإثبات إخلاصه لحكومة

بريطانية كعادته، ولكنه زعم أنه لا يطيع الإنذار إلا بشروط، ثم أطاعه بغير شرط

فأرسلته إلى قبرص، ووقع عليه ما اختاره لنفسه حين طلب أن تختار له ولأولاده

بلدًا يقيمون فيه إذا كانت غير راضية عن عمله في الحجاز، كما بيناه مرارًا بالنقل

عن جريدة القبلة.

***

إلحاق منطقة العقبة ومعان الحجازية

بمنطقة شرق الأردن البريطانية

(صورة الإرادة من جلالة الملك علي المعظم ملك الحجاز بتاريخ 25 ذي

القعدة سنة 1343 إلى والي معان بخصوص تسليم العقبة ومعان إلي حكومة الشرق

العربي) .

تقرر بين جلالة الملك علي وسمو الأمير عبد الله ما يأتي:

أ - التصريح بسلامة الشرق العربي.

ب- عدم إزعاج جلالة الخليفة الأعظم (؟) نظرًا لمقامه في العالم العربي

والإسلامي: يعني لا يجري الاستلام إلا بعد تشريف جلالته لجدة.

ج- لا يجري التسليم إلا بعد أن تصدر الأوامر لموظفي ولاية معان بذلك.

د- عدم التعرض لمناقلات الحجاز الحربية مطلقًا.

هـ - عدم التعرض لمناقلات الخط الحجازي الحاضرة.

و إعطاء الحرية للحكومة بنقل جندها وممتلكاتها إلى أي محل تريد قبل

الاستلام وبعده.

وقد زاد جلالة الملك علي بعض مواد أيضًا، وأمر جلالته بأنه عند مجيء

سمو الأمير عبد الله إلى معان تعتمد أوامره، وتنفذ وإليك المواد المذكورة.

أ- تبقى جنود الخط الحجازي التابعون لمحافظة الخط والقطارات تحت قيادة

قائدهم، وتحت نظرة ناظر الخط الحجازي.

ب - تبقى لا سلكي معان بمعان؛ لأجل المخابرة مع الخط الذي تظل إدارته

على حكمها.

ج- على ناظر الخط الحجازي تقديم دفتر بموجود جند الخط الحجازي من

معان إلى مدائن صالح.

د- ترسل السيارات بالباخرة رضوى إلى جدة.

(المنار)

هذا ما نشرته جريدة المقتبس لمكاتبها في عمان تحت عنوان (وثيقة رسمية) ،

ونشر مثله في غيرها، ثم نشرت هذه الجريدة وغيرها ما ترتب على الاتفاق بما

نصه:

معان والعقبة - أصدر سمو الأمير عبد الله المعظم الإرادة الآتية:

نظرًا لتنسيب صاحب الجلالة الهاشمية الملك علي المعظم تلك البلاد المقدسة

الحجازية أيده الله وأدام نصره ضم ولاية معان والعقبة إلى إمارتنا اقتضى إصدار

إرادتنا إليكم - الخطاب لرئيس النظار - إعلامًا بذلك مع الشكر الدائم لجلالته

الملوكية الهاشمية منا ومن شعبنا وحكومتنا.

تشكيلات معان - سافر إلى معان قبل العيد سمو الأمير وبمعيته رئيس أركان

حرب الجيش العربي ورجال المعية وفئة الحرس، وسافر إلى معان حضرة رئيس

النظار وبعض الضباط والأركان والكتائب النظامية، وقد احتفل في معان بإعلان

انضمام ولاية معان إلى إمارة الشرق العربي، ورفع علم الإمارة الجليلة عليها، وقد

بوشر إجراء التشكيلات الجديدة فيها، وأبقى غالب باشا حاكمًا عليها اهـ.

(المنار)

ليعتبر العالم الإسلامي بأعمال هؤلاء الخونة المفتونين بلقب ملك وأمير! !

_________

(*) نشر هذا البلاغ عقب وصوله إلى مكة المكرمة، ونشر في العدد الأول من جريدة أم القرى

التي تصدر في مكة المكرمة.

(**) نشر في جريدة أم القرى أيضًا.

ص: 233

الكاتب: شكيب أرسلان

‌بمناسبة كتاب مفتوح [

1]

حضرة الأستاذ الثقة الحجة مفخر العالم الإسلامي السيد رشيد رضا نفع الله به.

سنة 1918 أي السنة الأخيرة من سني الحرب الكبرى بلغني إذ أنا في

الآستانة أن الأمير عليًا بن الملك الحسين بن علي أغار على أطراف حوران وجبل

الدروز واستجاش أهالي تلك الديار للقيام على الدولة العثمانية والالتحاق بالجيش

الحسيني العربي الذي كان يعمل يدًا واحدة مع الجيش البريطاني في جنوبي سورية،

وبلغني أيضًا أن الزعماء الذين استفزهم للثورة أجابوه يومئذ بأنهم يأبون أن يقبلوا

دعوة لم تكن لتفيد غير الأجنبي الطامح إلى الديار، والطامع في القضاء على ما

بقي من ملك الإسلام، وأنذروه بالحرب إن لم يعد من حيث أتى، فحررت كتابًا

مفتوحًا إلى الأمير علي بن الحسين أحذره فيه عاقبة هذه الغارات، وأنهاه عن

التضريب بين العرب خدمة لمصلحة العدو، وأقول له: أتقاتل العرب بالعرب أيها

الأمير حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنكلترة على جزيرة العرب

وفرنسة على سورية واليهود على فلسطين، وما أشبه ذلك مما ورد في مناركم في

الجزء التاسع من المجلد الخامس والعشرين.

إلا أنه بلغني فيما بعد أن الشريف الحجازي الذي ظهر يومئذ على ماء

الأزرق جنوبي جبل الدروز على مسافة يومين منه لم يكن الشريف علي بن الحسين،

بل شريفًا آخر اسمه علي من قواد الجيش الحجازي، وقد تبجحت بذلك (القبلة)

في أحد أعدادها الصادرة سنة 1913 في عرض مقالة ردت فيها على كتابي

المذكور بعد نشره بخمس سنوات؛ بمناسبة ظهوره في مجموعة أخبار ووثائق عن

الحرب لأديب مسيحي سوري، وقد جعلت (القبلة) المنحرفة في الواقع عن القبلة

الحجة القاطعة (! !) على عدم صحة ما كتبته في هذا الكتاب المفتوح من أوله إلى

آخره كون الأمير علي بن الحسين لم يذهب إلى الأزرق.

مع أن ذهاب علي بن الحسين أو علي آخر إلى الأزرق لا يقدم ولا يؤخر

شيئًا في جوهر الموضوع، فالموضوع هو نهي هؤلاء الجماعة الثائرين يومئذ على

الدولة عن التهور في مناصرة دولة أجنبية، كانوا يخدمونها ببذل دماء العرب؛

ليصلوا فيما بعد إلى غاية ليس منها شيء للعرب كما حققت ذلك الحوادث، ويا

للأسف من بعد الحرب، وعلى فرض أن الأمير علي بن الحسين لم يكن ذهب إلى

الأزرق قد ذهب أخٌ له من الأشراف إلى الأزرق، وكلهم كانوا في الثورة سواء

الذي ذهب إلى الأزرق والذي لم يذهب.

على أنني أنا كنت بعثت بالكتاب المفتوح المذكور إلى جريدة (الشرق) التي

كانت تطبع بالشام، وصادف أنني يوم ظهوره في تلك الجريدة كنت في برلين، فلم

أطلع على العدد الذي فيه هذا الخطاب من جريدة (الشرق) ، ويظهر أنه قد

سقطت فيه أغلاط كثيرة في الطبع، لا بل جرى تقديم وتأخير في بعض الجمل

وأهملت جمل برمتها، فجاء المجاور لها قلقًا غير مستو على وضين الأصل، ولم

أشعر بذلك في وقته؛ لأنني لم أطلع على (الشرق) إذ أنا في الغرب ومضت

الأيام والأعوام إلى السنة الماضية 1924 فإذا بجريدة أبابيل البيروتية، قامت تنشر

هذا المكتوب إما نقلاً عن جريدة (الشرق) أو عن مجموعة الأديب المار ذكره،

لست أعلم عن أي مصدر أخذته، وقصار ما أعلم أنني أول ما رأيته مطبوعًا في

جريدة أبابيل البيروتية أيضًا، والآن أراه في المنار منقولاً عن جريدة (الوطن)

الصادرة في البرازيل، والذي أريد أن أنبه عليه هو:

أولاً - إن المكتوب كان موجهًا لا إلى الملك حسين رأسًا بل إلى ولده علي.

ثانيًا - إنه يوجد في المكتوب إشارة لا إلى إنكلترة فقط بل إلى فرنسة أيضًا،

فالجرائد البيروتية التي نقلته حذفت ما تعلق بفرنسة، ونشرت ما يمس إنكلترة؛

خوفًا من قلم المراقبة.

ثالثًا - يوجد في المكتوب أغلاط كثيرة مطبعية وكلمات محرفة مثل (وبنوة

النبوة) جعلوها (بنور النبوة) وكلمات مثل (أو ذمامًا يحفظونه لك أو بسواك إذا

قضت سياستهم غير ذلك) فأطاحوا جملة (غير ذلك) ومثل (فيما لو قضت

عليهم سياستهم عن سلب إمارتك) وأصلها (بسلب إمارتك) كما لا يخفى ومثل

(وما إخالك تجهل التاريخ وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود

والمواثيق، إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى في جميع معاملاتهم

سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم) وأصلها (التواتر عمن شأنهم الإخلال

بالعهود والمواثيق إلى الحد الذي لا تقدر أن تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى) إلخ؛

ومثل (لا جرم أنك تقدر أن تدعي بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة

التي تكفل دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء

الخلق يرتاح إلى قبول هذه الدعوة) وهي جملة لا يخرج لها معنى وأصلها (لا

جرم أنك تقدر أن تدعي وجود بعض عشائر من العرب توفر لك القوة التي تكفل بها

دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء الخلق يرتاح

إلى قبول هذه الدعوى) ومثل (ولا سيما على الحجاز منذ أحتاب) وأصلها (ولا

سيما على الحجاز الذي هو نصب عينها منذ أحقاب) وأما جملة (وإذا كانوا لم

يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز فيمكنك أن تريح فكرك منها

منذ الآن، ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا وضعوا ضباطهم على

أبواب حجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ تفاديًّا من العجلة إلخ، فإن عبارة

(فيمكنك أن تريح فكرك منها منذ الآن) كانت فيما أتذكره موضوعة بين خطين

هكذا - فيمكنك منذ الآن أن تريح فكرك منها - وهي جملة معترضة، والجملة

الشرطية من عند قولي: (وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم) إلى قولي: (ولا

حاولوا إدخال عسكرهم) إلى قولي: (ولا وضعوا ضباطهم إلخ) جوابها (أفليس

عندك أنت بمكانك من الذكاء والفضل ومطالعة التواريخ) إلخ، وأما جملة (فما

يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها) فهي من سبق القلم، والمراد أن أقول: فما

يؤثر في الأمة العربية أو الإسلامية) بمعنى ما يؤثر بين الأمة أو في وسط

الأمة، والخلاصة لم أجد فيما نقل عني كتابًا تعاورته الأيدي بالحذف والطرح

والتقديم والتأخير، فضلاً عما أسقطه مرتبو الحروف مثل هذا الكتاب، فأرجو

نشر هذا التصحيح ولكم الفضل.

...

...

شكيب أرسلان

_________

(1)

يعني الكتاب الذي نشر بعضه في ج9 م25 بعنوان (من الأمير إلى الملك) .

ص: 238

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة

بسم الله الرحمن الرحيم

(مسألة) سُئلها الشيخ الإمام العالم العلامة، إمام الوقت، فريد الدهر،

جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان، مفتي الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين

أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة

مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه ونفع به آمين:

في جماعة يجتمعون في مجلس، ويُلبسون لشخص منهم لباس الفتوة، ويديرون

بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها، ويزعمون أن هذا من الدين،

ويذكرون في مجالسهم ألفاظًا لا تليق بالعقل والدين، فمنها أنهم يقولون: إن رسول

الله صلى الله عليه وسلم ألبس علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لباس

الفتوة، ثم أمره أن يلبسه من شاء، ويقولون: إن اللباس أنزل على النبي صلى الله

تعالى عليه وسلم في صندوق، ويستدلون عليه بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا

عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} (الأعراف: 26) الآية - فهل هو كما زعموا أم

كذب مختلق؟ وهل هو من الدين أم لا؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من

يفعل ذلك أو يعين عليه؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله أبي

عبد الجبار، ويزعم أن ذلك من الدين؛ فهل لذلك أصل أم لا؟ وهل الأسماء التي

يسمون بها بعضهم بعضًا من اسم الفتوة ورؤوس الأحزاب والزعماء، فهل لهذا

أصل أم لا؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة، ويقوم للقوم نقيب إلى

الشخص الذي يلبسونه؛ فينزعه اللباس الذي عليه بيده، ويلبسه اللباس الذي

يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائز أم لا؟ وإذا قيل: لا يجوز فعل ذلك

ولا الإعانة عليه فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك؟ وهل للفتوة أصل في

الشريعة أم لا؟ وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر

أن ينكر عليهم ويمنعهم من ذلك أم لا؟ مع إمكانه من الإنكار [1] ، وهل أحد من

الصحابة رضي الله تعالى عنهم أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه

الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا؟ وهل خلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من

النور أم خلق من الأربع عناصر أم من غير ذلك؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض

الناس: لولاك ما خلق الله عرشًا ولا كرسيًّا ولا أرضًا ولا سماء ولا شمسًا ولا قمرًا

ولا غير ذلك صحيح هو أم لا؟ وهل الأخوة التي يواخيها المشايخ بين الفقراء في

السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا؟ وهل آخى رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أم بين كل مهاجري وأنصاري؟ وهل

آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أم لا؟

بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة، وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطًا شافيًا

مأجورين أثابكم الله تعالى.

***

لباس خرقة الفتوة مبتدع

(الجواب) الحمد لله أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة السراويل أو غيره،

وإسقاء الملح والماء فهذا باطل لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من

التابعين لهم بإحسان: والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد

الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف ولا يجوز لمسلم أن

ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمرًا من

الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه،

فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه، وعلى

علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وما ذكروه من نزول هذا اللباس في

صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يواري السوءة

هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله تعالى هذه الآية؛

لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف

فيها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة،

وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه

فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه، وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من

زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش، فهذا أيضًا كذب باتفاق أهل المعرفة، فإن

النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف ولا سماع

دفوف وشبابات ولا رقص، ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك، ولا قسمه على

أصحابه وكل ما يروى من ذلك فهو كذب مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته.

***

فصل

(شروط لباس خرقة الفتوة)

والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله:

كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، ونصر

المظلوم، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم،

واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله، وأن يجتمعوا على السنة،

ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك، فهذه يؤمن بها كل مسلم

سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله

مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، إن كلا منهما يصادق صديق الآخر في

الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه

سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال،

وهي شروط ليست في كتاب الله [2] ، وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه وسلم

قال: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا

ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله

أوثق) رواه البخاري، وفي السنن عنه أنه قال: (المسلمون عند شروطهم إلا

شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً) وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل

والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين،

ما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله، فإنه يؤمر به كما أمر الله

به ورسوله، وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه كما نهى الله عنه

ورسوله، وليس لبني آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على

خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي

عهدها الله إلى بني آدم كما قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة:

40) ، وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر، أو يعقده الاثنان كعقد البيع

والإجارة والهبة وغيرهما، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف

والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئًا مما نهى الله عنه

ورسوله كان شرطه باطلاً.

وفي الصحيح عن عائشة - رضى الله عنها - عن النبي صلى الله تعالى

عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا

يعصه) . والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية،

وهي شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودًا أمروا فيها بما نهى

الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله، فهذا أصل عظيم يجب على

كل مسلم أن يتجنبه.

***

(فصل)

(الفتى والفتوة والزعيم والحزب

والدسكرة وما قالوه فيها)

وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} (الكهف: 13)، وقوله تعالى:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 60) ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (الكهف: 60) ، لكن

لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن

مكارم الأخلاق: كقول بعضهم طريقنا نتفتى وليس بتقوى (؟)، وقول بعضهم:

الفتوة أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك،

سماحة لا كظمًا، ومودة لا مضارة، وقول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى،

وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة سواء سميت

فتوة أو لم تسم، وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده

الله ورسوله من الأسماء: كلفظ الإحسان، والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم،

وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، والزكاة، والخير، ونحو ذلك من الأسماء الحسنة

التي تتضمن هذه المعاني، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة

كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله

مذمومين، كلفظ الكذب والخيانة والفجور والظلم والفاحشة، ونحو ذلك.

وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: {وَلِمَن

جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (يوسف: 72) فمن تكفل بأمر طائفة فإنه

يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًّا

كان مذمومًا على ذلك.

وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب: أي تصير حزبًا، فإن

كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون،

لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن

دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان

على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله

أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر

والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (مثل

المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له

سائر الجسد بالحمى والسهر) وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه

قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، وشبك بين أصابعه، وفي

الصحيح عنه أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله) ، وفي الصحيح

عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قيل يا

رسول الله: أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تمنعه من الظلم فذلك

نصرك إياه) ، وفي الصحيح عنه أنه قال: (خمس تجب للمسلم على المسلم:

يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه،

ويشيعه إذا مات) ، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:

(والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يجب لنفسه) .

فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين

بعضهم على بعض، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:

(لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا) ،

وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا

أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن

تناصحوا من ولاه الله أمركم) .

وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأفضل من

درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟) قالوا:

بلى يا رسول الله قال: (فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر

ولكن تحلق الدين) فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها.

وأما لفظ الدسكرة فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة، فيتعلق بها

حمد أو ذم، ولكن هي في عرف الناس يعبر عنها عن المجامع كما في حديث

هرقل أنه جمع الروم في دسكرة، ويقال للمجتمعين على شرب الخمر: أنهم في

دسكرة، فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب؛ لأن الغالب في

عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم، لكنه من فروض

الكفايات، فإن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر أو غيرهم، وإلا وجب

على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه.

***

(فصل)

(مم خُلق النبي صلى الله عليه وسلم؟

وبم تتفاضل المخلوقات؟)

والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خلق مما يخلق منه البشر، ولم يخلق أحد

من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

أنه قال: (إن الله خلق الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق

آدم مما وصف لكم) ، وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت

منه فقط، بل قد يخلق المؤمن من كافر والكافر من مؤمن، كابن نوح منه كإبراهيم

من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سواه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له

الملائكة وفضله عليهم؛ بتعليمه أسماء كل شيء، وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك،

فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة، وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين وهؤلاء

من نور، وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع، فإن فضل بني آدم هو

بأسباب يطول شرحها هنا، وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار {وَالْمَلائِكَةُ

يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد:

23-

24) والآدمي خلق من نطفة، ثم من مضغة، ثم من علقة، ثم انتقل من

صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله،

وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذي تشابه أول أمره وآخره،

ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء، حيث نظر إلى أحوال الأنبياء وهم

في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات

الكمال.

وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه

صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة، والله تعالى أظهر من عظيم قدرته

وعجيب حكمته من صالحي الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من

الملائكة، حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات، فخلق بدنه من الأرض وروحه

من الملأ الأعلى ولهذا يقال: هو العالم الصغير، وهو نسخة العالم (الكبير) .

ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الخلق وأكرمهم عليه، ومن هنا قال: من قال:

إن الله خلق من أجله العالم، أو أنه لولا هو لما خلق عرشًا ولا كرسيًّا، ولا سماء

ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا، لكن ليس هذا حديثًا عن النبي صلى الله تعالى عليه

وسلم لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي صلى

الله تعالى عليه وسلم، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدري قائله،

ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: {سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: 20) وقوله: [3] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ

لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا

تُحْصُوهَا} (إبراهيم: 32-34) ، وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق

المخلوقات لبني آدم، ومعلوم أن لله فيها حكمًا عظيمة غير ذلك وأعظم من ذلك،

ولكن يبين لبني آدم ما فيها من المنفعة وما أسبغ عليهم من النعمة، فإذا قيل: فعل

كذا لكذا ما خلق كذا لم يقتضِ ألا يكون فيه حكمة أخرى، وكذلك قول القائل:

لولا كذا ما خلق كذا لا يقتضي ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضي إذا

كان أفضل صالحي بني آدم وأفضلهم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة

بالغة مقصودة من غيره، وصار تمام الخلق، ونهاية الكمال به حصل لمحمد صلى

الله تعالى عليه وسلم، والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان

آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد

العصر في آخر يوم الجمعة، وسيد ولد آدم هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم

آدم فمن دونه تحت لوائه، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: (إني عند الله لمكتوب

خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته) أي: كُتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم

قبل نفخ الروح فيه كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد، إذا خلق

الجنين قبل نفخ الروح فيه، فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها، وهو

الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمد إنسان هذا العين،

وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما

ينكر أن يقال: إنه لأجله خلقت جميعها، وإنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام

ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة قبل ذلك.

وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض

المخلوقات في شيء من الربوبية كان ذلك مردودًا غير مقبول، فقد صح عنه صلى

الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم،

فإنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله) ، وقد قال تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا

تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ

اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا

خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النساء: 171) ، والله قد جعل له حقًّا لا يشركه

فيه مخلوق، فلا تصلح العبادة إلا له ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا

الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتي

بالحسنات إلا هو، ولا يذهب السيئات إلا هو ولا حول ولا قوة إلا به، {وَلَا تَنفَعُ

الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23)

{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) {إِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً *

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً} (مريم: 93-95) ،

وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} (النور: 52) ، فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده

وكذلك في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا

اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} (التوبة: 59) ، فالإيتاء لله

والرسول، وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الوجه أن يقال: تمكنه بدل إمكانه فلعله محرف.

(2)

سقط من الأصل أول الحديث من هنا إلى قوله: كتاب الله فقلنا.

(3)

سقط من الأصل آخر الآية السابقة وأول الآية اللاحقة.

ص: 265

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كلمة

في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير

يقول محمد رشيد رضا صاحب منار الإسلام:

كنت رأيت كلمة سلطان العلماء في عصره الشيخ عز الدين بن عبد السلام -

رحمه الله تعالى - في تفضيل كتابي المحلى لابن حزم والمغني للشيخ الموفق على

غيرهما من كتب الفقه الإسلامي قبل أن أراهما، فدعتني الرغبة في تعرف قيمة

هذه الشهادة إلى الاختلاف إلى خزانة الكتب الكبرى (المكتبة المصرية) مرارًا؛

للنظر في الكتابين، وقرأت عدة مسائل من كل منهما، رأيتها كافية في معرفة قيمة

الشهادة وصحة الحكم، وعلمت أن العلماء الذين قالوا: إن ابن عبد السلام وصل

إلى رتبة الاجتهاد المطلق، لم يقولوا إلا الحق.

فأما كتاب (المحلى) فهو كتاب اجتهاد مطلق، وصاحبه أبو محمد بن حزم إمام

الظاهرية في عصره، وهو صاحب القلم السيال واللسان الفصيح والحجة الناهضة،

والعارضة التي تأبى المعارضة، ولولا سلاطة لسانه في الرد على مخالفيه من

أئمة أصحاب الرأي وأهل القياس لاتسع نطاق مذهبه، وكثر الانتفاع بالمحلى

وغيره من كتبه، فهو يذكر المسألة ويستدل عليها ويرد على المخالفين فيها

على قواعد الظاهرية من الأخذ بالنصوص المأثورة، أو البراءة الأصلية، ولكنه لا

يكتفي بمقارعتهم بالدليل، بل يرميهم بالجهل والتضليل، غير هياب لعلو أقدارهم،

ولا وجل من كثرة أتباعهم وأنصارهم، وإذا أراد الله تعالى أن يتجدد فقه الإسلام فلا

بد أن يعرف المجددون له من قدر كتابه ما عرف العز بن عبد السلام، ولا بد أن

يطبعوه في يوم من الأيام.

وأما (المغني) فصاحبه الموفق فقيه حنبلي، وهو مع ذلك محدث أثري، وقد

ألف عدة كتب في فقه الحنابلة، وأراد أن يكون كتابه المغني في فقه المسلمين كافة،

فهو يذكر أقوال علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين، كالأئمة

المتبوعين، ويحكي أدلة كل منهم، وإذا رجح مذهب الحنابلة في كثير من المسائل

فهو لا ينتقص غيرهم، ولا يحمله التعصب على كتمان شيء من أدلتهم، ولا على

تكلف الطعن فيها، كما يفعل أهل الجمود من المقلدين، فالمزية الأولى لكتاب

المغني أنه لخص لنا مذاهب فقهاء المسلمين المجتهدين بأدلتها في أمهات الأحكام

ومهمات المسائل؛ فأغناها عن مراجعة كتب المذاهب الكثيرة فيما نحتاج إلى

الوقوف عليه منها، وعن مراجعة كتب السنن والآثار لمعرفة أدلتها ومذاهب

الصحابة والتابعين ومسائل الإجماع والخلاف، على أن المصنفات التي تتوسع في

رواية هذه الآثار لم تطبع، ونسخها الخطية قليلة الوجود: كمصنفات ابن أبي شيبة

وعبد الرزاق وابن المنذر.

ومن المعلوم أن كتب فقه المذاهب المتبعة والخلاف منها ما لا تذكر فيه الأدلة،

ومنها ما يذكر فيها ما يؤيد مذاهب مصنفيها ويضعف المذاهب المخالفة لها، ولو

بضروب من التأويل والتحريف وتضعيف الأحاديث التي لا توافق مذهب المؤلف

وإن كانت صحيحة أو حسنة إن أمكن، وتقوية الأحاديث التي توافقه وإن كانت

ضعيفة أو السكوت عن نقل الطعن فيها، وصاحب المغني لا يتعمد مثل هذا، فهو

يرجح ما يعتقد رجحانه من أدلة الحنابلة، ولا يتكلف الطعن في أدلة من خالفهم،

ولولا هذا وذاك لما فضله ابن عبد السلام على كتب الشافعية وكان من أجل

علمائهم، وهي التي يشهد لها من لم يعرف من مزايا تحريرها ما يعرفه هو بأنها

فاقت كتب سائر المذاهب في دقة التحرير والاستدلال، والجزم بالصحيح من

الأقوال، وكان يعتمد على مراجعته في الفتوى إذ صار يفتي بالدليل ويسلك سبيل

الاجتهاد.

عرفت المغني، فتمنيت لو يسخر الله تعالى من يطبعه؛ ليعم نفعه الذي هو

عندي فوق ما كان عند العز بن عبد السلام، وكان صديقنا حسن باشا عاصم خادم

الأمة والملة - رحمه الله تعالى - يقول: إذا يسر الله لنا طبع كتاب (المحكم لابن

سيده) فإنني أموت آمنًا على اللغة العربية أن تموت. ذلك لِمَا سمعه من إمام

اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي من الثناء على المحكم وعلى

النسخة الصحيحة الموجودة منه في المكتبة المصرية، وكان كلما قال لي هذه

الكلمة أقول له: وإذا يسر الله تعالى لكتاب (المغني) من يطبعه فأنا أموت آمنًا على

الفقه الإسلامي أن يموت، ثم ما زلت أفكر في السعي لطبعة إلى أن هداني الله

تعالى إلى تبليغ أمنيتي هذه إلى السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إمام

نجد وملحقاتها، فبُلِّغت عنه (أولاً) أنه أيد الله به العلم والدين، وأعز بسيفه

الإسلام والمسلمين، عازم على طبع هذا الكتاب مع كتب أخرى لإحياء العلم

وتوسيع نطاقه في بلاده - ثم خاطبني هو (آخرًا) في طبعه مع كتاب الشرح

الكبير، وطبع تفسيري ابن جرير وابن كثير، وكتب أخرى من كتب السنة والفقه،

وتلا ذلك إرساله المغني والشرح الكبير للمقنع؛ ليطبعا معًا. وكذا غيرهما مما

عزم على طبعه، وقد شرعنا في طبعهما، والمطبعة غير مستعدة لإنجاز مطبوعات

كبيرة كثيرة؛ فأخذنا في إعدادها لذلك، وسيحصل المراد عن قريب بفضل الله

تعالى وقوته، وإنا وقد نجز الجزء الأول من الكتابين نبين بالإيجاز فوائدهما للأمة

الإسلامية، وكونهما في الفقه الإسلامي العام لا فقه الحنابلة فنقول:

تمهيد في اختلاف الأمة وسيرة الأئمة

قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:

92) ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، ولم

يكن شيء أبغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ولو في الأمور العادية،

ولما كان الاختلاف في الفهم والرأي من طباع البشر {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ

مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) خصَّ الاختلاف المذموم في

الإسلام بما كان عن تفرق أو سببًا للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح

فحظروا فتح باب الآراء في العقائد وأصول الدين، وحتموا الاعتصام فيها بالمأثور

من غير تأويل، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية، ولا سيما المعاملات، وكان

بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهمه.

ثم إن كثيرًا من كبار العلماء حاولوا أن يجعلوا اختلاف العلماء في مسائل

الأحكام رحمة بهذه الأمة، وتحقيقًا ليسر دينها الذي ثبت بنصوص الكتاب والسنة،

ويتقوا ما حذر الله تعالى في كتابه من مضار التفرق والاختلاف الذي أفسد على

الأمم السابقة دينها ودنياها، وأنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا

بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) إلى قوله {وَلَا تَكُونُوا

كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل

عمران: 105) وقد وجد في بعض الكتب حديث مرفوع، اشتهر على الألسنة

وهو (اختلاف أمتي رحمة) ولما لم يوجد له سند في شيء من كتب السنة قال

بعضهم: لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا؛ احترامًا لمن ذكروه

في كتبهم بالقبول أو التسليم، وحرصًا على العمل بمعناه.

ولكن المتعصبين للمذاهب أبوا أن يكون الاختلاف رحمة، وشدد كل منهم في

تحتيم تقليد مذهبه، وعدم الترخيص للمنتمين إليه في تقليد غيره، ولو لحاجة أو

ضرورة، وكان من مناظراتهم في ذلك من طعن بعضهم في بعض ما هو معروف

في كتب التاريخ والتراجم وغيرها: كالإحياء للغزالي، وصار بعض المسلمين إذا

وجد في بلد يتعصب أهله لمذهب غير مذهبه: كالبعير الأجرب بينهم.

وقد وقع من الفتن بين المختلفين في الأصول وفي الفروع ما سود صحف

التاريخ، على أن الخلاف في الفروع أهون وأقل شرًّا، وقد ضعف في هذا الزمان

بضعف أسبابه في أكثر البلاد، ولكننا لا نزال نسمع بمنكرات قبيحة منه في أخرى،

من ذلك أن بعض الحنفية من الأفغانيين سمع رجلاً يقرأ الفاتحة وهو بجانبه في

الصف فضربه بمجموع يده على صدره ضربة وقع بها على ظهره فكاد يموت.

وبلغني أن بعضهم كسر سبابة مصلٍّ؛ لرفعه إياها في التشهد، وقد بلغ من إيذاء

بعض المتعصبين لبعض في طرابلس الشام في آخر القرن الماضي أن ذهب بعض

شيوخ الشافعية إلى المفتي، وهو رئيس العلماء وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين

الحنفية؛ فإن فلانًا من فقهائهم يعدنا كأهل الذمة بما ذاع في هذه الأيام من خلافهم

في تزوج الحنفي بالشافعية، وقول بعضهم: لا يصح لأنها تشك في إيمانها؛ لأن

الشافعية وغيرهم من الأشعرية يجوزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله،

وقول آخرين: بل يصح نكاحها قياسًا على الذمية.

فأين هذا التعصب والإيذاء والتفريق بين المسلمين بالآراء الاجتهادية من

تساهل السلف الصالح، وأخذهم بما أراده الرحمن من اليسر في الشرع وانتفاء

الحرج فيه، واتقائهم التفريق بين المسلمين بظنون اجتهادية، رجح بها كل ناظر ما

رآه أقرب إلى النصوص أو إلى حكمة الشارع، حتى كان أشهر الأئمة لا يستحلون

الجزم بالحكم فيها، فيقول أحدهم: أكره كذا، أو أستقبحه، أو أخشى أن يكون كذا

أو لا ينبغي ولا يصلح ولا يعجبني أو لا أحبه ولا أستحسنه، ويقول في مقابل ذلك:

يفعل السائل كذا احتياطًا أو أحب كذا أو يعجبني أو أعجب إليّ وهذا أحسن.

هكذا كان يقول الإمام أحمد في المسائل الاجتهادية أو فيما لا نص صحيح

صريح فيه من الكتاب أو السنة، ويؤثر نحوه عن غيره، ولكن مدوني المذهب جعلوا

هذه التقوى والورع في التشريع قواعد له في أحكام التكليف وطرق الاستنباط

والاستدلال، وصارت الحنابلة فرقة ذات مذهب مستقل في الفروع، بل صار

المتكلمون يعدونهم فرقة مستقلة في أصول العقائد أيضًا، وإنما كان الإمام أحمد -

رحمه الله تعالى إمامًا لجميع أهل السنة في الأصول والفروع؛ باستمساكه في

أصول الدين والعبادات بنصوص الكتاب والسنة، وما صح عن علماء الصحابة من

فهم وهدي وعمل مفسر لهما، ولكن أصحابه حرصوا على ما نقلوا عنه من فهم

واستنباط أن يضيع؛ فدونوه كما فعل سائل الأئمة وأصحابهم لا ليقلد لذاته بل لأجل

فتح أبواب العلم وتسهيله لطالبيه من الأفراد في العبادات ومن الحكام في الأمور

القضائية والدولية، وكانوا يقرنونه بأدلته؛ ليكون الدليل هو العمدة في العمل وفي

الترجيح بينه وبين غيره، ولم يقصد أحد منهم أن يكون شارعًا أو كالشارع في

كونه يتبع لذاته، فضلاً عن التزام طائفة من الأمة للتعصب له بمثل ما وقع، ولا

أن تفترق الطوائف المقلدة لكل منهم وتتعادى فتكون كمتبعي الشرائع المتعددة

المختلفة، هذه معاصٍ مجمع على تحريمها.

قال الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي في أول مختصره المشهور بعد

البسملة ما نصه: قال أبو إبراهيم بن يحيى المزني، رحمه الله: (اختصرت

هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله

لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه

ويحتاط لنفسه، وبالله التوفيق) اهـ.

وقال: ملا على القاريْ الحنفي المحدث في رسالته التي ألفها في إشارة

المُسبِّحة: وقد أغرب الكيداني حيث قال: (العاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة

كأهل الحديث) أي مثل جماعة يجمعهم العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم،

وهذا منه خطأ عظيم وجرم جسيم، منشؤه الجهل لقواعد الأصول ومراتب

الفروع من المنقول، ولولا حسن الظن به وتأويل كلامه بسبب، لكان كفره

صريحًا، وارتداده صريحًا، فهل لمؤمن أن يحرم ما ثبت فعله عنه صلى الله عليه

وسلم مما كاد نقله أن يكون متواترًا، ويمنع جواز ما عليه عامة العلماء كابرًا عن

كابر مكابرًا، والحال أن الإمام الأعظم والهمام الأقدم قال: لا يحل لأحد أن

يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس الجلي في

المسألة) إلخ ما قاله ليثبت به أن قاعدة أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في

الاتباع تقتضي رفع المُسبِّحة في التشهد؛ لثبوت الحديث به.

ولكن المتعصبين الذين يقطع بعضهم إصبع من رفع سبابته تقليدًا لمن حرمه

من أهل مذهبهم لا يعلمون أنهم هم الذين يرتكبون المحرم بالإجماع؛ عقابًا على

الواجب أو المندوب بالإجماع، أو بما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا

على مخالفة سنته صلى الله عليه وسلم كما سمعته بأذني من بعض طلاب العلم

الأفغانيين في مسجد لاهور الجامع في الهند، وقد سألتهم عن صحة ما نقل عن

بعض أهل بلادهم في ذلك، فقالوا: نعم وعللوه على مخالفة الرسول صلى الله عليه

وسلم وترك سنته: أي وعلى عداوة شرع الله تعالى واستحلال ما حرمه، إذ قال

بعض فقهاؤهم: بتحريم رفع الإصبع في التشهد، والتحريم في عرف أهل الأصول

خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا. وأين هذا الخطاب الإلهي القطعي؟ هل

هو قول مثل الكيداني المصرح بمخالفة أهل الحديث؟

إن الأحكام العملية التي هي موضوع الفقه منها ما ثبت بالدليل القطعي المجمع

عليه: كأركان الإسلام، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو ما يكون

باتباعه المؤمن به مسلمًا، وبجحده أو استحلال مخالفته كافرًا، وبمخالفته فاسقًا على

التفصيل المعروف، ومنها ما هو محل النظر والاجتهاد، وهو الذي وقع فيه

الخلاف بين علماء الأمة للاختلاف في رواية النصوص أو في دلالتها، أو لعدم

العلم بالنص والرجوع في الاستنباط إلى القواعد العامة أو القياس المختلف في

حجيته [1] ، وكانوا متفقين على أن من خالف مضمون نص لم يبلغه، أو معنى

نص غير قطعي الدلالة؛ لأنه لم يظهر له أو بذل جهده في استبانة مراد الشارع في

مسألة فترجح عنده فيها شيء فعمل به مخطئًا - فهو معذور، فهل يكون بمخالفته

اجتهاد غيره مأزورًا غير معذور؟ .

إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل قوله تعالى في الخمر والميسر:

{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) نصًّا في تحريمهما على جميع الأمة،

وإنما حرمهما به من فهم منه الدلالة على التحريم، فترك شرب الخمر والمقامرة -

وهو ما يقطع بمثله الفقهاء كافة - حتى إذا ما نزل فيهما وفي الأنصاب والأزلام أن

ذلك كله {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90) والأمر القطعي بالتحريم

وهو قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90) إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم

مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) أجمعوا على تركه، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم

تشريعًا عامًّا يخاطب به كل مؤمن، وأهرق جميع الصحابة الذين كانوا يشربون

الخمر ما كان عندهم منها؛ فأخذ علماء السلف من هذا أن التشريع العام ما كان بهذه

الدرجة من الصحة والصراحة القطعية في النصوص، وأن ما دونه مما فيه مجال

للاجتهاد في الرواية أو الدلالة محل سعة، لا يكلف كل مؤمن الأخذ به، وإنما

يكلفه من ثبت عنده أو وثق بعلم مفتيه به ودينه فقلده فيه، ولم يكونوا يبيحون أن

يكون مما يجبر عليه أحد أو تفرق كلمة المسلمين فيه، وقد كان النبي صلى الله

عليه وسلم يقر كلاًّ من المختلفين في الفهم على اجتهاده فيما هو محل الاجتهاد،

كمسألة نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة: أقر من أخذ منهم بمنطوق النهي فلم

يُصلِّها إلا في قريظة، ومن صلى أولاً ثم أدرك معه قريظة؛ لأنهم فهموا أن المراد

من النهي عدم التخلف عن الخروج وإدراك قريظة في الوقت المراد.

وبناءً على هذا لم يرض الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أن يحمل المنصور

العباسي جميع المسلمين على العمل بموطئه على ما كان من تحريه في روايته، ومن

مواطأة علماء دار الهجرة له عليه - وبناء عليه كان الإمام المجتهد منهم ينهى من

يستفتونه أن يتخذوا فتواه دينًا يتقلدونه، أو أن يجعلوه سببًا للتفرق - وبناء عليه

كان أحدهم يأخذ باجتهاد غيره؛ ترخصًا أو موافقة لجماعة المسلمين.

روي عن الإمام أحمد أنه كان يرى الوضوء من الجحامة والفصد، فسئل

عمن رأى الإمامَ احتجم وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ، أيصلي خلفه؟ فقال:

كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟ وفي رواية أنه قال للسائل: أأنهاك

أن تصلي مع فلان وفلان؟ وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج

الدم، ولكن أبا يوسف رأى هارون الرشيد احتجم وصلى ولم يتوضأ - وكان مالك

أفتاه بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم - فصلى أبو يوسف خلفه ولم يُعد الصلاة،

واغتسل أبو يوسف في الحمام وصلى الجمعة، ثم أُخبر بعد الصلاة أنه كان في بئر

الحمام فأرة ميتة فلم يُعد الصلاة، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل الحجاز: (إذا

بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ولم يكن هذا تقليدًا منه؛ لأنه يعرف دليله وهو

حديث القلتين الذي ذكره، ولكنه غير قطعي الرواية والدلالة، كما أنه ليس دون

قولهم في حد الماء الكثير.

ونقل أن الشافعي رحمه الله ترك القنوت في الصبح لما صلى مع جماعة

الحنفية في مسجد إمامهم (لعله في المكان المعروف اليوم بالأعظمية من ضواحي

بغداد) ، فقال الحنفية: إنه فعل ذلك أدبًا مع الإمام، وقال الشافعية: بل تغير

اجتهاده في ذلك الوقت، والظاهر مما تقدم أنه لم يرد أن يخالف جماعة من

المسلمين مخالفة عملية، في مسألة اجتماعية غير قطعية، فإن اختلاف الظواهر

من أسباب اختلاف البواطن، كما يؤخذ من حديث (عباد الله لتسون صفوفكم، أو

ليخالفن الله بين وجوهكم) رواه الجماعة من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا،

ولكن سقط من رواية البخاري كلمة (عباد الله) قال النووي في شرح مسلم بعد

ذكر حمل الوجوه على حقيقتها: والأظهر والله أعلم أن معناه يوقع بينكم العداوة

والبغضاء واختلاف القلوب كما تقول: تغير وجه فلان: أي ظهر لي من وجهه

كراهة؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر،

سبب لاختلاف البواطن اهـ، ويؤيده رواية أبي داود له بلفظ (أو ليخالفن الله بين

قلوبكم) ، ويؤيد المعنى من المعقول والتجارب ما ثبت من أن الاتفاق في العادات

واللباس من أسباب التآلف، والاختلاف فيها من أسباب التناكر والتنافر، فكيف إذا

كان الخلاف في الدين، وكان كل فريق يعتقد أن الآخر مخالف بمخالفته لله

ولرسوله؛ بدعواه أن ما عليه أهل مذهبه هو الحق، وما خالفهم فيه غيرهم باطل؟

ولكن المتعصبين للمذاهب لا يفقهون ما يفقهه مثل الشافعي من حكم الدين،

ومقاصده، فهم يتحرون مسائل الخلاف ويلتزمونها، من حيث يترك بعضهم العمل

بكثير من مسائل الاتفاق، وإن كانت مجمعًا عليها، ولهم أشد استمساكًا بخلاف

الذين يعيشون معهم، منهم بخلاف البعداء عنهم، فهم يقيمون في المسجد الواحد

جماعتين أو أكثر في وقت واحد، ويرسل بعضهم أيديهم ويقبضها بعض في الصف

الواحد.. . وبذلك جعلوا اختلاف الاجتهاد بين العلماء نقمة، على حين كان يعد

عند أولئك العلماء نعمة، وإنما سبب ذلك اتباع الأهواء، وتنازع الزعماء، الذين

ورد في وصفهم الأثر بأنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها، وما أغرى فقهاء

المذاهب المتبعة بالتعصب الذي أطال أبو حامد الغزالي نعيه عليهم في إحيائه إلا

حب الرياسة كما قال، بل ما أغراهم بالاشتغال بها دون غيرها، إلا ما بَيَّنَهُ

المقريزي المؤرخ الحكيم من وقف الأوقاف عليها والتزام بعض الملوك والأمراء؛

لتقليد بعضها والحكم به، ولولا ذلك لفعلوا بأقوال أئمة هذه المذاهب ما فعلوه بأقوال

غيرهم من علماء الصحابة والتابعين من المزج وعدم الإفراد بالتأليف والتدريس.

وجملة القول أن التفرق بين المسلمين باختلاف المذاهب والآراء، وتعصب

كل شيعة لمذهب منها في الأصول أو الفروع هو من أكبر الكبائر الثابتة بنصوص

الكتاب والسنة القطعية المجمع عليها، ولا شيء منها بقطعي مجمع عليه، فمن

مقتضى أصولهم كلهم وجوب ترك كل أسباب هذا التفرق والاختلاف حتى قال

الغزالي في القسطاس المستقيم: بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه، وعد المسائل

الظنية المختلف فيها كأن لم تكن.

ثم إن ما ترتب على التفرق من الضرر والفساد المدون في التاريخ، والذي

أفضى في هذه الأزمنة إلى ضعف المسلمين وذهاب ملكهم، وتمكين الأجانب من

الاستيلاء على بلادهم، وما زالوا ينفرون بعض المختلفين في المذاهب من بعض

كما هو واقع في اليمن ونجد مع غيرهما من بلاد العرب - كل ذلك مما يؤكد

وجوب تلافي شرور هذا التفرق، وجمع الكلمة ووحدة الأمة، وكان هذا الغرض

من أهم ما أنشأنا لأجله مجلتنا (المنار) وأول ما كتبناه من التفصيل في ذلك

(محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين 3 و4 أي من أكثر من ربع

قرن، ثم جمعت في كتاب مستقل منذ بضع عشرة سنة.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أنكر الظاهرية من أهل السنة وبعض المعتزلة حجية القياس مطلقًا، ومنعه بعض الأصوليين في أسباب الأحكام وفي الحدود والكفارات، وبعضهم في العبادات؛ لأنها هي المرادة بإكمال الله الدين، وخصها بعضهم بالأمور التعبدية ككل ما لا يعقل، ومذهب مالك الأخذ في العبادات بظواهر نصوص الكتاب والسنة، واعتبار المصالح والتوسع في الاجتهاد في الأحكام الدنيوية.

ص: 276

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رفيق العظم

وفاته وترجمته

في يوم عرفة (9 ذي الحجة سنة 1343 الموافق 30 حزيران يونيو)

سنة 1925 فجعت البلاد المصرية والسورية، بل الأمة العربية، برجل كان من

أعلى رجالها قدرًا، وأنبههم فيها ذكرًا، وأعظمهم لديها زخرًا، رجل الحسب

الشامخ، والأدب العالي، والفكر المنير، والوطنية الصادقة، العالم المؤرخ،

الكاتب الاجتماعي، العامل السياسي، صديقي الوفي (رفيق بك العظم) ابن

محمود بك خليل العظم من أسرة آل العظم السورية العريقة في المجد، ففقدت الأمة

بفقده زعيمًا كبيرًا، ونابغًا حكيمًا، وكاتبًا قديرًا، في زمن هي أحوج فيه إلى

الرجال المحنكين، والزعماء المخلصين منها إلى العافية للأبدان، والطمأنينة

للحيران، فرحمه الله تعالى.

***

نشأته الأولى

ولد الفقيد في دمشق سنة 1282هـ، ونشأ كما كان ينشأ أمثاله من أبناء

الوجهاء المترفين في ذلك العهد، فلم يُعن والده بتعليمه في مدارس العلم العربية؛

لأنها خاصة برجال الدين، ولا في مدارس الحكومة العثمانية الإعدادية والعالية؛

لعدم شعوره بالحاجة إلى تخريجه فيها، أو عدم رغبته بجعله من عمالها وموظفيها،

الذين لا تكنهم دار ولا يقر لهم بين أهلهم قرار، أو لمحض الإهمال، على أنه

هو لم يتعلم تعلمًا منظمًا وإنما أخذ بعض المبادئ عن بعض شيوخ عصره، وكان

يعاشر العلماء والأدباء والمتصوفة، ويطالع الكتب ودواوين الشعر لأجل التسلية،

فكان بذلك شاعرًا ومؤلفًا في الأدب والتصوف، وجاء فقيدنا وارثًا له في ذكائه

ونشأته؛ ولكنه فاقه في الجد والعلم النافع والعمل، أخذ التعليم الابتدائي في كتاب

أهلي، ثم أخذ شيئًا من مبادئ اللغة العربية عن الأستاذ الفاضل الشيخ توفيق أفندي

الأيوبي الشهير، وكان كل ما حصله بعد ذلك بمطالعاته الشخصية، فهل كان يدور

في خلد أحد أن مؤلف كتاب أشهر مشاهير الإسلام وغيره من الكتب والرسائل

والمقالات الكثيرة في كبرى الجرائد والمجلات المصرية لم يقرأ كتابًا حافلاً من كتب

النحو والصرف ولا من كتب المعاني والبيان، ولم يتلقَّ علمًا ولا فنًّا قديمًا ولا

حديثًا عن أستاذ؟ فما هذا الذكاء النادر الذي وضعه في مصاف العلماء المصنفين،

والكتاب المجيدين؟ وما تلك الهمة العالية التي رفعته إلى مقام الزعماء السياسيين،

ورجال الانقلاب المدبرين؟

كان رفيق ذكي الفؤاد ميالاً بفطرته إلى العلم والجد ومعالي الأمور، عزوفًا

عن سفاسفها وصغائرها، نبت به هذه الفطرة الزكية عن صرف أوقات صباه في

اللهو واللعب مع أمثاله من أبناء الموسرين، وجذبته إلى معاشرة أهل العلم والأدب

والأفكار في الأمور العامة: كالأستاذ المرحوم الشيخ طاهر الجزائري والأستاذ

الشيخ سليم البخاري والأستاذ الشيخ توفيق الأيوبي من كهول مشيخة الشام،

والأستاذ الشيخ محمد علي مسلم ومحمد أفندي كرد علي من الأتراب، وحُبب إليه

البحث ومطالعة كتب الأدب والتاريخ، وكانت نزعته العلمية وكذا الاجتماعية

إسلامية، حتى إن علماء الأقطار البعيدة الذين وصلت إليهم كتبه ورسائله بعد ذلك

كانوا يظنون أنه من علماء الدين.

***

اشتغاله بالسياسة وهجرته إلى مصر

ثم إنه كان يعاشر أحرار رجال الحكومة العثمانية من الترك وغيرهم أيضًا،

وتعلم اللغة التركية باجتهاده حتى صار يقرأ كتبها وجرائدها، وإذ كان ميالاً بطبعه

إلى السياسة والأمور العامة استماله بعضهم إلى الاشتغال معهم في جمعياتهم السرية،

فدخل أولاً في جمعية الدستور التي أسسها في الشام أسعد بك مدير البوليس فيها،

ثم في جمعية الاتحاد والترقي.

ولما اشتد السلطان عبد الحميد في مطاردة السياسيين العثمانيين طلاب

الدستور، وطفق ينكل بمن يتعذر استمالته منهم بالوظائف أو الرتب والنياشين؛

أزمع الفقيد الهجرة إلى مصر، ويقول شقيقه الكبير عثمان بك: إن ذلك كان سنة

1894م.

وبعد استقراره في مصر واتخاذها دار هجرة ومقامة، طفق ينشر المقالات

السياسية والاجتماعية في أشهر جرائدها اليومية: الأهرام، فالمقطم، فالمؤيد،

فاللواء، وفي أشهر مجلاتها: كالمقتطف، والهلال، والمنار، والموسوعات،

وكان يختلف إلى مجالس الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ولا سيما بعد تلاقينا

وتوادنا، وكان له بالشيخ على يوسف صاحب المؤيد صلة ود وثيقة، ثم كان من

أصدقاء الزعيمين السياسيين مصطفى كامل باشا ومحمد فريد بك منذ نشأتهما

السياسية الأولى، وظهورها في ميدان السياسة إلى آخر عمرهما حتى إنه رثى

محمد بك فريد حين علم بموته - طريد وطنيته - في أوربة بأبيات من الشعر

وجدهما شقيقه عثمان بك في أوراقه، وقد رثى قبله الأستاذ الشيخ طاهرًا، ولعل

هذين الرثائين آخر ما نظم، وليسا كل ما نظم، فقد كان رحمه الله ينظم

الشعر بما يجده من الداعية في نفسه لإرضاء نفسه، ولكنه لم يكن يحب أن ينشر

شيئًا من شعره في الجرائد ولا أن يظهره للناس، إما لأنه لم يكن يراه بالمنزلة

اللائقة بشهرته، أو لأنه لم يكن يحب أن يسمى شاعرًا، وإذ كان الشعر عنده أمرًا

ثانويًّا ذكرناه في ترجمته استطرادًا.

***

تلاقينا وتعاوننا على خدمة الأمة

في منتصف سنة 1315 (الموافق لخريف سنة 1897م) هاجر كاتب هذه

الترجمة إلى مصر، وفي الربع الأخير منها أنشأ (المنار) فكان سببًا للتعارف

والتآلف بينه وبين الفقيد، فالتعاون على الإصلاح السياسي والاجتماعي فالاشتراك

في الأحزاب والجمعيات السرية والجهرية.

وكانت أول جمعية سياسية أسسناها بمصر (جمعية الشورى العثمانية) وقد

اشترك في تأليفها معنا رجال من سائر الشعوب العثمانية الكبرى وفي مقدمتهم الترك

والجركس والأرمن، وكان من أعضائها المؤسسين الضابط صائب بك الذي كان

حاجبًا لصاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي، ومندوبًا لجمعية الاتحاد والترقي

بمصر، ثم ترك خدمة المندوب العثماني السامي؛ إيثارًا للسياسة التي تغضب

السلطان عليها، ومنهم الدكتور عبد الله جودت بك المشهور أحد مؤسسي جمعية

الاتحاد والترقي أول مرة، وكان هو (السكرتير التركي) لها، وكان الفقيد أمين

صندوقها وابن خاله حقي بك (سكرتيرها العربي) وكاتب هذه السطور رئيس

مجلس إدارتها.

كان تأسيس هذه الجمعية موافقًا لرأي صاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي

المندوب العثماني السامي بمصر، وأنا الذي استشرته في ذلك وطلبت منه أن

يمنحها رعايته، ويأذن لنجله محمود باشا بأن يكون الرئيس العام أو رئيس شرف

لها فيمدها بمساعدته، فقال: إن الإصلاح لا يأتي من الأعلى ومن رجال الدولة،

إنما يأتي من وسط الأمة ومن الطبقات الدنيا فيها، وأخبرني أن السلطان علم

بوجود الجمعية وهو أنه يرسل البرقيات إليه تترى في السؤال عنها وعن مؤسسيها،

ويسميها جمعية إفسادية، وأنه تجاهل في جوابه أولاً، ثم كتب إليه بأن لا إفساد

ولا ضرر منها، فإنها مؤلفة من بعض أهل العلم وأبناء الأسر الوجيهة المخلصة

للدولة.

ثم علمنا من شأن اهتمام السلطان بها ما هو فوق ذلك، فقد روى لنا حقي بك

عن خاله المرحوم صادق باشا المؤيد عن السلطان نفسه أن نبأ هذه الجمعية أقض

مضجعه؛ فبقي ثلاث ليالٍ لا تذوق عيناه النوم إلا غرارًا، ولم يقر له قرار حتى

عرف مؤسسيها من بعض جواسيسه بمصر (وهو رجل اسمه كامل بك) دخل

الجمعية بعد تأسيسها، وأظهر من الإخلاص لها والعناية بخدمتها ما كان محل

إعجاب جميع الأعضاء.

ولا غرو، فقد كان عمل الجمعية عظيمًا: تأسس لها فروع في الأقطار

المختلفة، وكانت تطبع المنشورات بالعربية وبالتركية وترسلها إلى فروعها في

البرد الأجنبية؛ فيوزعونها في الولايات التي يقيمون فيها وفيما جاورها، بل كان

يرسل بعض هذه المنشورات في البواخر الروسية مع بعض المسافرين

والمستخدمين فيها إلى ثغور البحر الأسود؛ فيأخذها هنالك منهم من يتولون إرسالها

إلى جميع بلاد الأناضول.

ثم أصدرت الجمعية (في فبراير سنة 907) جريدة باسمها (الشورى

العثمانية) استغنينا بها عن المنشورات، وكان الفقيد يحرر القسم العربي منها،

وحقي بك يحرر القسم التركي إما إنشاء وإما ترجمة لما يكتبه الفقيد أو غيره منها

بالعربية، وقلما كنا نساعدهما على ذلك، وكان ينشر فيها بعض المقالات باللغة

الفرنسية أيضًا.

وبلغ من عناية جمعية الاتحاد والترقي بالجمعية فوق ما كان من التعاون

والمراسلة بينهما من أوربة ومن المركز العام في سلانيك أن أحمد رضا بك الشهير

جاء من باريس إلى مصر لأجل السعي لتوحيد الجمعيتين، وقد قصد الفقيد أولاً

وكلمه في ذلك، فجاء به إليّ، فلما كلمني قلت له: إن جمعيتكم تركية وجمعيتنا

عثمانية عامة، فنحن لا نتفق معكم إلا في مقاومة الاستبداد والظلم والسعي لجعل

الحكم بالشورى النيابية، قال: ونحن جمعيتنا عثمانية لا يميز قانونها التركي على

غيره، قلت: هي عثمانية بالقانون تركية بالفعل، فليس في زعمائها أحد من غير

الترك، فقانونها كقوانين السلطان عبد الحميد ولو كان السلطان عبد الحميد ينفذ

قوانين الدولة على علاتها لما أبحت لنفسي ولا لغيري أن يسعى لتغيير شكل

الحكومة أو يقاوم نفوذه فيها.. . ثم اتفقنا على أن تعمل الجمعيتان بالتعاون مع بقاء

كل جمعية على حالها.

ثم إن جمعية الاتحاد والترقي عادت بعد إعلان الدستور، فكتبت إلى جمعيتنا

من المركز العام تدعوها إلى الحلول فيها والاتحاد بها، فاشترطنا في ذلك شروطًا لم

تقبلها، ولكن الفقيد وحقي بك دخلا في جمعيتهم عند زيارتهما للآستانة بعد الدستور،

وتفرق سائر الأعضاء الذين لم يجمعهم في مصر إلا الاضطهاد، فلم يبق لجمعية

الشورى عمل.

أطلت بعض الإطالة في ذكر هذه الجمعية؛ لأن عمل الفقيد فيها كان عظيمًا،

وقد أنفق من ماله في سبيلها ما لم ينفقه غيره، ولولا اغتراره بجمعية الاتحاد

والترقي لرضي بما ارتأيته من إبقاء فروع الجمعية وتكثيرها في البلاد العربية؛

لتكون قوة للعرب أمام تعصب الاتحاديين للترك، ولكنه قال لي بعد عودته من

الآستانة: إني عدت إلى جمعيتي الأصلية، وأن بقاء جمعيتنا تفريق غير جائز،

على أنه عاد من الآستانة غير راضٍ عن سير الاتحاديين رضاء تامًّا، ثم صار

يشاهد آنًا بعد آن من تعصبهم على العرب وهضمهم لحقوقهم ما حاول إن يتلافاه

بطرق الإقناع، فألف في ذلك رسالة طويلة يئس من فائدتها قبل أن يتمها، فلم

ينشرها وسيأتي الكلام عليها عند ذكر مؤلفاته وآثاره.

وكان آخر الجمعيات السرية التي اشتركنا في تأسيسها جمعية عربية أسست

للتأليف بين أمراء جزيرة العرب وللتعاون والاتفاق بين الجمعيات السياسية التي

أنشئت في الولايات العربية وفي الآستانة؛ لمقاومة تعصب الاتحاديين وضغطهم

على العرب، ولحفظ حقوق العرب في الدولة والعمل لمستقبلهم.

كان تأسيس هذه الجمعية ضروريًّا؛ لأن آفة العرب المفسدة لجميع مواهبهم

الفطرية هي التفرق والاختلاف، وكان الملجئ إليها انكسار الدولة العثمانية في

حرب البلقان، والخوف على البلاد العربية أن تتخطفها الدول المستعمرة، فرأى

المؤسسون أن قوة العرب في جزيرتهم، وأنها لا يمكن الانتفاع بها، إلا بتأسيس

اتحاد حلفي يجمع بين أمرائها، وكان قد سبق لهذا تمهيد من بعض المؤسسين، ثم

وضع له النظام الذي يرجى تنفيذه، وأما الجمعيات العربية فكانت مختلفة المقاصد،

وليس بينها من التعارف والاستعداد للاتحاد عند الحاجة ما يؤمن معه سوء المغبة،

ويرجى به حسن العاقبة، فوضعت الجمعية نظامًا لذلك، ولم يقنع المترجم

بضرورة هذه الجمعية إلا بعد أن رأى من انكسار الدولة في حرب البلقان ما أقنعه

بأنه ليس لها من القوة الذاتية ما يضمن بقاءها، وأنها عرضة للزوال فجأةً إذا

صدمتها صدمة أخرى.

***

الأحزاب الجهرية

وأما التي اشتركنا فيها فهي حزب اللامركزية، وكان الفقيد رئيسًا له،

وحزب الاتحاد السوري وأمرهما معروف للجمهور، فلا حاجة إلى شرح خدمة

المترجم لوطنه فيهما، وإنما أقول: إن حزب اللامركزية كان يراد به خدمة الدولة

والبلاد العربية معًا، وكان سبب تأسيسه ما ذكر آنفًا من سبب تأليف الجمعية

العربية، وهو ما أنذرت الحرب البلقانية العثمانية من توقع زوال الدولة، وقد كنا

نعتقد أن الدولة لا يمكن أن تعيش طويلاً إذا أصرت على شكل حكومتها المركزي

وتحكيم الترك في جميع شعوب الدولة، وكان المترجم - رحمه الله تعالى -

حريصًا على بقاء الدولة، وكان على هدى وبصيرة في ذلك، وكنا متفقين معًا على

هذا الرأي، وعلى أن العرب يحتاجون إلى زمن طويل؛ لترقية أنفسهم وجمع

كلمتهم واستغنائهم عن الدولة إن زالت أو بقيت، وكنا نرى أن الخروج على الدولة

ضار وخطره على العرب أشد من خطره على الترك، ولا أقول: إن كل أعضاء

الحزب كانوا على رأينا، وإنما كانوا متفقين على أن شكل الحكم اللامركزي خير

لبلادنا ولغيرها، وكان لبعضهم أهواء أخرى وشذوذ في الفكر وفي العمل، ولكن

الحزب نفسه لم ينحرف عن قانونه المستقيم.

وأما حزب الاتحاد السوري فأمره أظهر، لأن العهد به أقرب، وكان الفقيد

من المؤسسين له، ولكنه تركه منذ سنين واعتزل السياسة وغيرها من الأعمال،

لأن صحته ساءت، واشتد عليه مرض الربو، وضاعفه تصلب الشرايين فضعف

القلب، حتى أودى ذلك كله بحياته فجأة.

هذا وإننا لم نختلف في كل هذه المدة في مقصد من المقاصد، ولا في مهمات

الوسائل أيضًا، إلا ما كان في أيام حرب المدنية الكبرى، فقد اختلفنا في مسائل

مهمة لا يحسن في هذه الترجمة ذكرها، ونحمد الله تعالى أن كان اختلافنا محصورًا

في مناقشات جرت بيننا، لم تتجاوزنا إلى غيرنا.

***

آثاره القلمية

(1)

إن أجل تآليفه وأعظم آثاره العلمية هو تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام)

الذي طار به صيته في الأقطار، وإنما أتم منه أربعة أجزاء، طبعت مرارًا

ونفدت نسخها.

(2)

وكتاب (السوانح الفكرية في المباحث العلمية) وهو كتاب

اجتماعي أدبي جعله أربعة أقسام: (القسم الأول المدنية ودواعيها، وأسباب تقدمها

أو تلاشيها) ، وفيه 3 أبحاث (القسم الثاني التربية والأخلاق) وفيه 4 أبحاث،

(القسم الثالث الأدبيات) وفيها 4 أبحاث (القسم الرابع مباحث علمية مختلفة)

وفيه 5 أبحاث، خامسها (التفرنج) وقد أطال في ذمه، ووصف ضرره

وشره.

وهذا الكتاب مبيض بخطه في زهاء مائة صفحة من القطع الوسط، وإنما

صده عن طبعه -كما نظن- أنه أثنى في فاتحته على السلطان عبد الحميد، فأطراه

إطراء لم يلبث أن ظهر له أنه مخطئ فيه، بعد أن انخدع كغيره بما كانت تنشره

جميع الجرائد العربية والتركية من مدائحه المنثورة والمنظومة.

ويحسن بي أن أذكر عبارته في ذلك؛ لما فيها من الدلالة اللفظية والمعنوية،

على حال فقيدنا العزيز الفكرية والأدبية، قال:

(وإنني لما رأيت أبناء وطني قد تفتحت منهم الأذهان، وتنبهت بعد الرقدة

والفكر، وسرى سر الحمية في أمثالي من شبان هذا العصر، فأخذوا يتتبعون

أشتات العلوم والمعارف، ويتفيئون تحت ظلها الوارف، بوجود من لا تكلُّ عن

الثناء عليه ألسنة رعيته، وقد اتحدت القلوب تحت راية عدله وشوكته، السلطان

ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد، المحفوف من الله بالعز والتأييد، فقد

أحببت إتحافهم بكتاب يروق في عين كل لبيب، ويحتاج إليه كل أديب أريب،

وشحت بفرائد الفوائد طروسه، وأبرزت في دست الكمال عروسه، ليكون بهجة

للناظرين، ولذة للسامعين) .

وإنني لم أر له رحمه الله أسجاعًا كهذه في غير هذا الكتاب الذي كان من

أول ما كتب، وأول ما ألف على ما أعلم، بيد أنه لم يلتزم السجع إلا في خطبته

فقط، وهو لا يخلو من لحن فيما هو من ضروريات علم النحو، وهاك أسماء بقية

آثاره القلمية التامة:

(3)

(كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية) وكفاه تقريظًا له أن

الأستاذ الإمام قرر تدريسه في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية.

(4)

رسالة تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام.

(5)

(كيفية انتشار الأديان) .

(6)

(الجامعة الإسلامية وأوربة) .

وله خطب علمية ألفاها في بعض المحافل العلمية والمدارس العالية، نشر

بعضها في المنار وبعضها في مجلة دار العلوم، وهذه يسهل جمعها وطبعها كمقالاته

في المجلات، وأما مقالاته في الجرائد فهي كثيرة، وجمعها متعذر أو متعسر.

وأما الكتب التي شرع فيها ولم يتمها فهي اثنان:

(أحدهما) كتاب في (تاريخ السياسة الإسلامية) رسم له ثلاثة أقسام:

عصر الترقي الإسلامي، وعصر الوقوف، وعصر الانحطاط، وبدأ القسم الأول

بخلاصة السيرة النبوية، والخلافة والوزارة، والقضاء والولاية، وإمارة الجيش،

وكتابة الجيش والديوان والعطاء، والكتابة العامة والسفارة إلخ.

وكتب منه بعض الأبواب ثم وقف قلمه دون إتمامه وإتمام أشهر مشاهير

الإسلام وغيرهما، ولو أتمه على المنهج الذي وضعه له لكان أجل من تاريخ أشهر

مشاهير الإسلام، بل من أهم الكتب التي يحتاج إليها المسلمون على الإطلاق.

(ثانيهما) الرسالة التي سبقت الإشارة إليها في الخلاف بين الترك والعرب.

وقد كتبت منها 67 صفحة كبيرة، انتهى فيها إلى البحث فيما سماه (أرجوفة

الخلافة العربية) فبدأ به ولم يتمه، وهذه الرسالة حجة بينة على شدة إخلاصه

للدولة العثمانية وكراهته الشديدة للرابطة الجنسية وتنفيره عنها، وكان رجال

جمعيته الاتحادية يتهمونه مع ذلك بعداوتها، ويتمنون لو تصل إليه أيديهم؛ ليقتلوه

شر قتله، وهو لشدة إخلاصه في خدمته للدولة بحزب اللامركزية العثمانية الذي

كان رئيسًا له صدق الاتحاديين فيما ادعوه من الرغبة في الاتفاق مع العرب

وإعطائهم حقوقهم عقب مؤتمر أريس العربي، الذي عقد هنالك باسم حزب

اللامركزية، وانخدع كما انخدع رئيس ذلك المؤتمر أخونا الشهيد السعيد السيد عبد

الحميد الزهراوي - قدس الله روحه - الذي كان من اغتراره بخلابتهم أن دعاني

ودعا الفقيد إلى الذهاب إلى الآستانة؛ للاشتراك في توثيق روابط الإخاء والوحدة

بين العرب والترك، فأما الفقيد فقد انخدع، وزاد في اطمئنانه كتابة بعض أصدقائه

من رجال الترك الاتحاديين كجلال الدين بك عارف وأخيه نجم الدين بك، فأرسل

برقية إلى الآستانة، وعد فيها بإجابة الطلب والعزم على السفر، وذكر لي ذلك بعد

إرسالها فوقفت لإقناعه بالبقاء هنا، وقلت له: إنهم يريدون أن يجمعوا الزعماء

العاملين هنالك؛ لينتقموا منهم كلهم، ولئن أجبناهم ليحيطن بنا فلا ينجو منا أحد،

وإني لخائف على أخينا السيد عبد الحميد، ولكني أرجح أنهم لا يصيبونه بأذى

مادمنا في مصر؛ لأنهم يريدون أن يصيدونا به.

ثم كافأني الفقيد - أحسن الله إليه - على هذا إخلاصًا في المودة والنصح لا

بقصد المكافأة لما علم أنني سأعود من الهند إلى مصر عن طريق العراق (سنة

1330-

1912) ، فأرسل إليّ برقية بأن أعود في البحر؛ خوفًا علىّ من فتك أحمد

جمال باشا السفاك، إذ كان وقتئذ والي بغداد والقائد العام لجيش العراق، ولكن

الله سلم، على أن الفقيد لم ييأس من الدولة كل اليأس إلا في أثناء الحرب العامة

وما كان من جمال باشا فيها.

فهذه جملة سيرة فقيدنا السياسية، ولولا بعض آثاره العلمية لما كان له شيء

يؤثر عنه من وراء السياسة إلا أخلاقه العالية وآدابه السامية.

***

أخلاقه وآدابه

قد أوتي الفقيد حظًّا عظيمًا من الآداب الاجتماعية والفضائل النفسية والفواضل

العملية، كان نزيه اللسان طاهر القلب، منزهًا عن الحسد والحقد، وفيًّا لأصدقائه،

برًّا بأهله وصولاً لرحمه، متواضعًا في عزة نفس، ذا مروءة صادقة، ونفس

سخية، ويد مبسوطة، حسن الضيافة، كثير الصدقات والمساعدات للجمعيات

الخيرية، قليل التبجح والدعوى، ما عاشره أحد من قومه ولا من غيرهم من

الشعوب إلا وأحبه واحترمه، ومن آدابه التي يجب أن تذكر بالنص في هذه

الترجمة الوجيزة أنه تزوج ولم يرزق ولدًا، ولا كان مغتبطًا، ولم أسمع منه ولا

عنه منذ عقدت له عقد زواجه إلى أن توفاه الله تعالى كلمة تؤذن بحسرته على

الحرمان من الولد أو الميل إلى التزوج بامرأة أخرى مع زوجه أو بعد تطليقها،

فهذا من أعجب الوفاء، والصبر والقناعة آداب يقل نظيرها في هذا العصر وفي كل

عصر.

وكان معتدلاً في أمور معيشته، يقتصر على اللائق به من اللباس وجيد

الطعام، من غير اهتمام بالتطرز، ولا جنوح إلى التورن، ولا إنفاق في التنعم،

ولكنه كان شديد الولوع بدخان التبغ، وكثير الاختلاف إلى بعض المقاهي العامة

على قلة عنايته بالملاهي، وإنما كثر ذلك منه بعد أن ضعف جسمه، وصار يتعب

من الكتابة والمطالعة.

وجملة القول أننا قد فقدنا بفقد هذا الصديق الوفي المهذب، وأن الأمة

العربية قد فقدت بفقد الابن البار العامل رجلاً لا عزاء عنه إلا أنه قد انتهى إلى حال

من الضعف والأمراض، لا هناء له في الحياة معه، ولا رجاء في الانتفاع بشيء

من مواهبه وتجاربه، فرحمه الله تعالى، وعفا عنا وعنه، وأدخلنا وإياه برحمته

في عباده الصالحين.

_________

ص: 288

الكاتب: شكيب أرسلان

‌السفور والحجاب

تتمة من مقال الأمير شكيب أرسلان

(تنبيه من المنار)

(كنا رأينا مقال الأمير في عدد من جريدة البيان العربية النيويوركية فحفظناه

لأجل نقله منها، فلما نشرته بعض الصحف المصرية مجزءًا في عددين أو ثلاثة

أعداد، جمعه عمال مطبعتنا من بعضها، فإذا هي قد حذفت منه ما نقله فيه الأمير

عن الأديب الكبير صادق أفندي الرافعي من حوار دار بينه وبين شاب مصري من

المتفرنجين لم تنقله الجريدة؛ لأن رأي قلم التحرير فيها ورئيسه هو رأي الشاب

المتفرنج الذي سفه رأيه الرافعي وأقره الأمير شكيب، وكان من غفلة الجريدة أنها لم

تحذف من بقية المقالة ما قاله صاحبها في رأي الشاب المصري وذكره بحرف

التعريف والبحث في كلامه فلما وصلت عند تصحيح المقالة إلى هذا الموضع (في

ص209 ج3 الماضي) أمرت بالإمساك عن نشر بقية المقالة في الجزء الماضي

وطفقت أبحث عن نسخة جريدة البيان لنقل عبارة الرافعي، وهاكها بنصها، ومحلها

بعد السطر الحادي عشر منها، قال:

واقرأ النبذة الآتية للأستاذ حجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي أنقلها

لك عن كتاب حديث أخرجه آية من آيات البلاغة وهي قوله في شاب حصل العلم

في أوربا كان باحَثَه في هذا الموضوع.

(كان صاحبنا فتى تلمع عليه غرة الشباب، وقد رق حتى كاد يخالط حد

الأنوثة، ولان حتى قارب أن يفوت معنى الرجولة، وظرف حتى أوشك أن يكون

إنسانًا تتفتح في روحه معاني الزهر، ولكنك إذا كنت رجلاً صحيحًا أمررته على

عينيك كما تمر كتابًا لا تريد أن تقرأه، فقد تمدن في أوربة ولبث بعيدًا عن قومه ما

شاء الله، ثم رجع إليهم كأن أمه لم تلده، وكأن أباه جده الأعلى، فبينه وبين أبيه

هذا بضعة أجداد منهم المسيو والمستر أو السنيور أو الهر.. وأصبح يحس أن كل

شيء في هذا الاجتماع الشرقي مسلط على نفسه الرقيقة النحيلة بالغلظة

والجفاء والعنت والأذى، إلى أن قال:

(سألت هذا الفتى: تُرى أنت مصري؟ قال: ووطني صميم، قلت: أفترى

تصلح في علمك وتهذيبك أن تكون مثالاً يتأسى بك نشء بلادك؟ قال: إني لأرجو

ذلك، قلت: وأنت من القائلين بتحرير المرأة الشرقية ومساواتها بالرجل في الحرية

المطلقة وبعثها من هذه القبور التي تسمى المنازل؟ قال: ذلك مذهبي، قلت فكيف

ترى إذا اقتدى بك المصريون فأصهروا إلى الأوربين وخلطوا الشمل بالشمل؟ قال:

لعل ذلك خير الطب لبلادنا فلا معدل عنه في رأيي إذ يأتيها بالدم الجديد، ويدمج

في طباعها النظام والدقة، ويبني البيوت من داخلها.

قلت: أحسنت بارك الله عليك، فكيف ترى إذا سألناك التسوية وقلنا لك:

دع أختك تصبُ إلى رجل أوربي وتتزوج منه إجازة.. . وتأتِ به إلى مصر كما

أتيت أنت بصاحبة لك، ثم لتفعل كل امرأة مصرية فعلها؛ فيكون لكم أوربيات،

ويقوم عليهن أوربيون؟ قال: أعوذ بالله! قلت: فعل الله بك وفعل، أفبلغ من

غفلتك أن لا تعرف لعنة الله إلا إذا رأيتها ملء مملكة، ولا تعرف حق وطنك فيك إلا

حين تراه غريبًا منقطعًا لا حق له في واحد من أهله.

فقال (أي الشاب المصري) : فما أنا وأمثالي إلا شذوذ من القاعدة التي يجب

أن تبقى أبدًا قاعدة. قلت: فعليكم غضب القاعدة ومقتها وسخطها، والله لأن تفجع

البلاد فيكم جميعًا وتستركم بالقبور رمة بعد رمة خير من أن تتقلد منكم بلية الحياة

في اختلاط الأنساب، وارتداد الأسماء العربية عن دينها إلخ. فقال الشاب: فكم من

امرأة وطنية هي حمل على ظهر صاحبها، قلت: وكم من امرأة إفرنجية هي كَيَّة

على قفا صاحبها (هذه عند العرب كناية عن المرأة، يسكت الناس عنها أمام

زوجها، فإذا ولى عنهم قالوا في ظهره ما قالوا.. . وكووا قفاه) نكتفي بهذا القدر

من كلام حجة العربية الرافعي [1] .

ولا شك أن كثيرًا من قراء هذه المقالة سيفغرون أفواههم الآن، ويرفعون

عقائرهم قائلين: ما هذا الذي جئتنا به؟ فليس هذا من لوازم هذا، وقد يجوز أن

نطلق حرية المرأة، ونكون من أنصار العِرض والدين، وقد يصح أن ندعو إلى

السفور، وأن لا نترك أخواتنا يصرن حظايا للآخرين، وما نحسب الأمم التي تدين

بحرية المرأة ولا تعرف للحجاب معنى أقل منا شرف رجال وعفة نساء، ألا وإن

حرية المرأة لا تأتي إلا مع التعليم، ألا وإن المرأة إذا تعلمت وتهذبت كان لها

من عِلمها حجاب يحجبها عن الفاحشة - وغير ذلك من الأقوال التي كلنا نعلمها،

والتي تكررت كثيرًا بحيث قد عرفها العوام فضلاً عن الخواص، فأنا أقول لإخواني

هؤلاء: مهلاً مهلاً. لا تعجلوا عليَّ، ولا تخلطوا شيئًا بشيء، فالموضوع عريض

متشعب الأطراف، لا تكفيه مقالة ولا اثنتان ولا ثلاث، فأما السفور مع العفة

والصون وحفظ الأنساب ورعاية أحكام الدين فهو السفور الشرعي الذي يجيز للمرأة

أن تبرز وتتعاطى الأشغال، وتذهب وتجيء، ولا يوجب أن تسدل على وجهها ولا

أن تدفن نفسها في الحياة، وهذا سنكتب فيه مقالة تحت عنوان (وكذلك جعلناكم أمة

وسطًا) ولكن لا يجوز أن تنسوا أن هذا السفور لا يشمل إلى حد جواز المخادنة

الجهرية، ولا إلى زواج المسلمة بغير المسلم، وأنه إذا كانت المسألة مقصورة على

هذه الدرجة فليست في شيء من الرقي الذي يبغيه فالح رفقي وعبد الله جودت

والشاب المصري، وكثيرون غيرهم ممن نعرف أسماءهم وممن لم نعرف، فهذا

الرقي هو في عرفهم ليس بأن تمشي المرأة المسلمة في الأسواق سافرة عن وجهها

فحسب، فإن هذه الدرجة هم يعلمونها جائزة شرعًا، وطالما برزت النساء

المسلمات، وأخذن وأعطين في العهود الماضية، واشتركن في جلائل الأعمال مع

الرجال، ولم يمنع ذلك شرع ولا عرف، وما جاء من الإفراط في الحجاب وعدم

خروج النسوة من المنازل إلا في الندرى، إن هو إلا من التعصب الناشئ عن

فرط الغيرة، ولم يكن من الدين الإسلامي.

ولكن هذه الفئة لا ترى هذه الدرجة إلا أدنى درجات الرقي الذي يتطلبونه

للنساء المسلمات في هذا العصر، وهم في ترقية المرأة لا يقنعون بشيء دون حرية

الزواج بين المسلمين وغير المسلمين طردًا وعكسًا، لا بل حرية المسلمات أن

يخادنَّ من شئن على نسق الأوربيات بالتمام، فإن كان هذا الذي تطلبونه أنتم معاشر

الدعاة إلى السفور ولا سيما الذين ناشدوني إعطاء رأيي فيه، فينبغي أن تصرحوا

بكل جرأة وتقبلوه بمتمماته، ولا تقولوا كما قال الشاب المصري (أعوذ بالله) فإن

هذه النظرية هي نظرية مئات ملايين من العالم المتمدين، وحسبكم أن تكونوا مثلهم

في الهيئة الاجتماعية، وإن كنتم لم تصلوا بعد إلى تلك الدرجة من (الرقي) ،

وكان مرادكم إعطاء المرأة المسلمة الحرية المطلقة على شرط أن لا تخدن ولا

تتزوج بغير المسلم أجبناكم: إن هذين نقيضان لا يجتمعان، الحرية المطلقة من

جهة، والتقيد بزواج المسلم دون غيره، وبالزواج الشرعي دون غيره من جهة

أخرى، نعم تنطبق على الشريعة الحرية المقيدة التي إن كنتم بتبغونها فالشريعة

الإسلامية قد ضمنتها أحسن ضمان بدون أدنى مَنٍّ ولا تكلف، فأما الحرية النسوية

المطلقة التامة والإسلام فلا يجتمعان أبدًا، وعلى المتخير أن يختار أحدهما، وليس

الإسلام وحده غير مطابق للحرية النسوية المطلقة، بل النصرانية أيضًا هي غير

مطابقة لها؛ لأن النصرانية تمنع المخادنة أيضًا، وتحظر على الفتاة المسيحية

أن تقترن بغير مسيحي، وتزيد على الإسلام في التقييد في كون الإسلام قيد المسلمة

بزواج المسلم دون غيره، ولكنه أباح للمسلم الزواج بغير المسلمة ولو بقيت على

دينها، وأما النصرانية فإنها تمنع زواج المسيحية بغير المسيحي، وزواج

المسيحي بغير المسيحية، فالإسلام في هذا الموضوع أسمح وأوسع، ثم إن

النصرانية قيدت أبناءها في أمر الطلاق، بحيث لا تجيز للمرأة أن تطلق زوجها،

ولا للرجل أن يطلق امرأته، وإذا أقدما على ذلك لم تُجِز لهما أن يتزوجا فيما بعد لا

هو ولا هي، فأنت ترى أن حرية المرأة في الدين المسيحي هي أيضًا غير مطلقة

ولا تامة، وإذا كنا نرى الأوربيين والأمريكيين قد خالفوا هذه القواعد، فالذين

يخالفونها منهم ليسوا عاملين بمبادئ النصرانية، وإلى يومنا هذا كل من ينطبق

عمله في الحياة الدنيا على مبادئ الكنيسة لا يقول بحرية مطلقة للمرأة.

فأما كون الأمم التي ليس فيها حجاب لا تقل عن الأمم القائلة بالحجاب عفة

نساء وصون حلائل فليس بصحيح، إن بين الفريقين في هذا الموضوع فرقًا بعيدًا،

أما نصارى المشرق فإنهم مثلنا في العادات والأخلاق، وتقييد حرية المرأة في

الأمور التي يخشون منها على عفتها، ولذلك لا نقدر أن نتخذهم هنا مثالاً، وأما

العالم الغربي الذي أباح الحرية التامة للمرأة، وتركها تفعل ما تشاء بعد بلوغها سن

الرشد، فلا أحد يمكنه أن يقول: إن العفة والصون اللذين هما من شرائط الإسلام

والنصرانية متوافران فيه بالدرجة التي هما في العالم الإسلامي والعالم المسيحي

الشرقي، لعمري إن ما يحصل في باريس وحدها من الفسق والفجور يساوي كل ما

يحصل من هذا النوع في جميع العالم الإسلامي.

وأما كون التعليم برقي المرأة إلى سنام العفاف، ويجعلها في غنى عن

الحجاب وعن مراقبة بعلها، فمع كوننا لا ننكر أن التعليم يهذب كثيرًا من أخلاق

المرأة ويعصم من هواها، فلا نستطيع أن نقول: إنه كافٍ في هذا الموضوع ساد

مسد المراقبة الزوجية والقيود الشرعية، فالتعليم لا يقوم مقام الخوف ولا يصح

وحده وازعًا، وها نحن أولاء نعرف من الرجال الذين بلغوا الدرجة القصوى من

العلم، ولم يزدهم علمهم ولا فضلهم عفة مئزر ولا طهارة ذيل، فنقص الفسق

والفجور في العالم الشرقي عن مثله في العالم الغربي لا يقدر ولا يحصى، إنما هو

بقوة سيطرة الرجال على النساء، وينضم إليه كون الدين لا يزال في الشرق أرسخ

مما هو في الغرب، فتجد المرأة المسلمة والمسيحية الشرقية تخاف عقاب ربها

وعقاب زوجها، بخلاف كثير من الأوربيات اللائى أصبحن لا يخفن لا من الخالق

ولا من المخلوق.

بقي علينا اعتراض قد يقول به كثيرون من الذين يحبون أن يقال لهم:

(عصريون) محررون من الأوهام والعقائد، سائرون في طريق الرقي بعقول

علمية صرفة، وبصائر فنية محضة - وهو أن نفور المسلم من أن يرى أخته أو

بنته حليلة لرجل مسيحي أو يهودي أو وثني، ونفور المسيحي من رؤية أخته أو

بنته زوجة لرجل مسلم أو يهودي أو وثني، إنما هو من تأثير الأوهام ورسوخ

العقائد، لا بل من رسوخ الوساوس التي ليست من الحقائق في شيء، وكذلك يقال

في مخادنة المسلمة أو المسيحية العاملة بدينها لرجل تتفق معه على بدل معلوم تبيعه

به عرضها، فهذا هو أيضًا من عمل الأوهام والوساوس التي بمرور الأزمان وشدة

التكرار، انقلبت شرفًا وغيرة وحمية، حال كون العلم ينبغي أن يزيل هذه الأوهام

من الأذهان، وأن يصفيها للحقائق دون غيرها، وأن أهم مهمة يقوم بها العصر

الحاضر هو تبديد الأوهام وإزالة دولة الخرافات، فإن وقع هذا الاعتراض من أحد

فنكون رجعنا إلى قاعدة فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب الذي تحاور مع الرافعي،

ولسنا في هذه المقالة رامين إلى تفنيد هذا الزعم من حيث هو، وإنما نقول لهم:

إنهم كانوا يرون المدنية الأوروبية أرجح من الصون والطهر فلا بأس بقبول هذه

النظرية على علاتها، وإلا فإذا كانوا يلتزمون مبادئ العفة والطهارة والاحتياط التام

لأجل حصول الولد من صلب أبيه، فلا بد لهم من رفضها أو تقييدها على الأقل

وإنني أؤكد لهم أن الإنسان ما دام إنسانًا وما دام هذا تركيبه فلن يمكنه التحرز مما

نسميه بالأوهام والعقائد، ولن يعول على الحقيقة المجردة من كل عادة وتقليد إلا إذا

رضي بحالة تشبه حالة البهائم.

إننا إذا تأملنا بعين الحقيقة المجردة وجدنا النكاح والسفاح واحدًا لا فرق بينهما،

وأي فرق في العمل بين من يتزوج ومن يزني؟ فلماذا إذا خامرت الإنسان شبهة

في امرأته طلقها، وإذا وجد عندها رجلاً متمتعًا بعرضها جاز له قتله بدون أن

يقاص ولا يضار لا في الشريعة الإسلامية وحدها [1] ، بل في جميع الشرائع وفي

أحدث القوانين الديموقراطية العصرية الجمهورية؟ إذا قلنا جاء ذلك لتسلط

الزاني على امرأة غيره، أجبناك: إن هذا الزنا إنما وقع برضاها واختيارها فلماذا

جاز للزوج أن يقتل الزاني بامرأته ويذهب دم هذا هدرًا؟ ولماذا اتفق أكثر البشر

على كون هذه الكبيرة هي أعظم الكبائر، وإن معرتها أفظع المعرات، وإنه لا يهدم

الشرف والمجد في البيوت مثل دنس الوساد، ولا يرفع الرأس ويريح الوجدان

ويلحف الإنسان الشرف بمطرفيه مثل نقاء العرض وطهارة البيت. لماذا هذا كله؟

مع أنه بينما هو يعد أكبر الكبائر وأفضح المعرات بدون صورة شرعية، إذ هو

بمجرد شهادة اثنين أو بقصاصة ورق انقلب ناموسًا عظيمًا وعملاً شريفًا، وجاء

والد البنت نفسه يفرح بتهاليل ابنته، واجتمع أهل العروس يطبلون ويزمرون،

ويقبلون التهاني على هذا العمل الذي لولا قصاصة الورق تلك كان استوجب القتل

مما تجد فيه سر الحديث النبوي الشريف (جَدعَ الحلالُ أنفَ الغيرة)[2] .

(الجواب) أن الناس اصطلحوا من قديم الدهر على اعتبار هذا العمل

على إثر اتفاق شرعي حلالاً وعمرانًا للكون وداعيًا للفرح والتهنئة، وعلى عده

بدون هذه المعاملة الشرعية فضيحةً وجنايةً وإثمًا كبيرًا. وما هذا الذي رسخ

في الأذهان من هذين الاعتبارين سوى تواطؤ قديم بين البشر، واصطلاح ساروا

عليه منذ قرون لا يعلم بدؤها. وبالجملة فوهم ليس له علاقة بطبيعة العمل نفسه،

نعم هو وهم مقدس، ولكن كونه مقدسًا لا يخرجه عن كونه تواطؤًا واصطلاحًا

ووهمًا [2] ، إذ الإنسان لا يزال بعيدًا عن أن ينسخ أعماله عن الطبيعة رأسًا بدون

أوهام وعقائد، وما ينزل على حكم الطبيعة رأسًا بدون أوهام وخيالات سوى

الحيوانات.

...

...

...

...

... شكيب أرسلان

_________

(1)

بعد هذه الجملة يجيء ما بعد السطر الحادي عشر من ص 209 إلى آخر ما نشر من المقالة في ص 110 ويلي ذلك قوله.

(2)

كرر الكاتب لفظ الأوهام حكاية لأقوال الملاحدة على الطريقة الحديثة.

ص: 300

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من عذيري

الشكوى من صاحب المنار وشكواه أو عذره

رب لائم مليم، ورب ملوم بريء أو غير مسيء

في يوم السبت 28 ذي القعدة (20 مارس) جاءني كتاب في البريد

بإمضاء (عبد الغفار) يقول فيه: إنه تاجر هندي في مدينة لندن، وإنه جاء

القاهرة لكي يقابلني ويقابل بعض الذين يعرفون شيئًا عن السيد جمال الدين

الأفغاني لجمع ما لديهم من المعلومات عنه؛ لأنه يريد أن يكتب سيرة لهذا المجدد

الشهير، وأنه يحمل خطابًا من حضرة صديقي فؤاد بك سليم حجازي الشهير، وأنه

يلتمس أن أعين له وقتًا خاصًّا لذلك.

وبعد يوم أو يومين جاء دارنا رسول من قبله ولم أكن فيها؛ فترك لي كتاب

فؤاد بك سليم الذي يحمله من أوربة، وكتابًا آخر من حضرة صديقي إسماعيل بك

شيرين وكيل محافظة مصر مؤرخًا في 29 ذي القعدة (21 مارس) يقدمه فيه،

ويوصي بحسن قبوله، فعجبت من عنايته بطلب توصية بعد توصية فيما لا يحتاج

إلى توصية، ثم من إرساله لهما مع رسول يطلب له تعيين وقت معين للقائه وعدم

مجيئه هو، وحملت ذلك على حرصه على أوقاته وعلى وقتي أيضًا؛ لأنه يعلم

عقلاً أنني كثير العمل، ومن المعقول في هذه الحالة أن أعين له وقتًا يمكنني أن

أفرغ فيه لحديثه مدة طويلة، واطلاعه على ما عندي من المواد وليست بقليلة، وأنا

لا أملك مثل هذا الوقت إلا في بعض أيام الجمع، وإذ كان أول جمعة لا يزال بعيدًا،

رأيت أن أبلغه من أقرب الطرق - وهو طريق التليفون - أنني مستعد في كل

يوم بل في كل ساعة من ساعات كل يوم للقائه، وأنني على قلة خروجي من الدار

لا أخرج في وقت الصباح، وأنه لأجل الاحتياط يمكنه أن يسأل عني بالتليفون قبل

مجيئه، بلغناه هذا في الفندق الذي نزل فيه، ولم يكن فيه عند التبليغ، فعهدنا

أصحاب الفندق بتبليغه إياه المرة بعد المرة، ولو حضر لأخبرته بما عندي من

المواد في ترجمة السيد وبعض مقالاته وآثاره، واتفقنا معًا على الأوقات التي يطلع

فيها عليها، والطريقة التي يقتبس بها ما يريد اقتباسه منها - وهو لا يعرف العربية.

بيد أنه فاجأني عصر اليوم الثالث من ذي الحجة (24 يونيو) كتاب هذا

نصه:

كتاب وجيه هندي لصاحب المنار

24 يونيو سنة 1925

سيدي الأستاذ الجليل سلامًا واحترامًا. وبعد، فقد حملتني الرغبة الصادقة في

البحث عن كل ما يتعلق بحياة السيد جمال الدين الأفغاني - بمناسبة اعتزامي على

تأليف يشتمل على حياة هذا الفيلسوف الإسلامي الشهير - حملتني هذه الرغبة على

التقرب، ثم على التشرف بزيارتكم؛ لينالني تشرف الاستقاء عن علمكم الغزير،

فبادرت بإرسال جواب إلى فضيلتكم ساعة وصولي إلى القاهرة؛ لتتكرموا بتحديد

وقت أتمثل فيه بين أيديكم (!) ، فلما تأخر الرد كلفت صديقًا لي ليتفق مع

فضيلتكم على الوقت الذي ترضون فيه بمقابلتي (!) ، ولما لم يجدكم في البيت؛

ترك هناك كتابي التعرف من حضرة صاحبي العزة فؤاد بك سليم وشيرين بك،

لعلكم تتنازلون بهذه الوسيلة بزيارتي، وقد مكثت في القاهرة أنتظر الرد سبعة

أيام [1] ، وما جنيت يا للأسف من هذا الاتفاق إلا الخيبة والملل.

سيدي - الآن وقد عزمت الرحيل، من هذه الديار أرى من واجبي أن ألفتكم

إلى بعض ما يجول بخاطري بمناسبة هذا الفتور الذي لقيته منكم في هذه الديار،

وقد كنت أنتظر غير ما رأيت.

على أن هذا الفتور لو كان مصدره رجل عادي غيركم وموجهًا إلى شخصي

من حيث إنني بشر لا أكثر ولا أقل لما أتعبت نفسي بالشكوى إليكم، ولما رجوتكم

قراءة هذه السطور، ولكن الرتبة العلمية التي تمثلونها، والصفة الإسلامية التي

جعلتموها شعارًا لكم، والمسئوليات العظيمة التي تتحملونها بصفتكم من علماء

الدين وحامل لواء الشريعة - كل هذه الأمور تحتم علي أن أنبهكم إلى الخطر

العلمي والأخلاقي (!) الذي قد يجركم إليه مثل هذا الفتور، والإهمال غير اللائق

بمقامكم (!) .

شيء آخر يحملني على الإكثار من الشكوى إليكم، وقد اضطررت إلى ذكره

اضطرارًا سيدي، أظنكم لم تنسوا بعد ذلك الاحتفال المهيب بقدومكم إلى البلاد

الهندية، والمقابلات الحارة المخلصة التي استقبلكم بها الهنود، فكنتم موضع إجلال

واحترام من جميع الطبقات بلا استثناء - أما كان يصح في هذه الحالة أن ينتظر

أحد المحتفلين بكم من مكارمكم وتعطفاتكم ما يزيده إخلاصًا إليكم وحبًّا فيكم؟

ولكنني أقول والأسف يملأ قلبي: إن هذا الأمل كان في غير محله.

سيدي، اعتقدوا أنني حاولت كثيرًا أن أبرر عملكم هذا، فكانت هذه المحاولة

خائبة خيبة أملي بلقائكم.

ولست أدري كيف أفسر عملكم هذا عندما أقدم للجمهور مؤلفي، وأذكر ما لاقيت

في سبيل جمع مواده.

وعلى كل حال قد حصلت إقامتي هنا على معلومات بقدر ما تمكنت الحصول

عليها، وأغادر القاهرة اليوم وأنا كل اليقين (؟) والاعتقاد أنني سوف ألاقي في

أوربا وغيرها من بلاد الكفر والإلحاد (؟) من العلماء من هم أوسع صدرًا وأرحب

ساحة من علمائنا الكرام وأخيرًا تقبلوا سلامي.

...

...

...

...

... الخادم المخلص

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

محمد عبد الغفار

(المنار)

لقد بلوت من الناس غرائب كثيرة، ولم أر أغرب من حال هذا الرجل في

أمر سفره من لندن إلى مصر للبحث عن سيرة السيد جمال الدين، وجمع ما يمكن

جمعه منها؛ لأجل تأليف كتاب خاص في سيرته، وللقيام ببعض الأعمال

التجاريةأيضًا، ومكثه في القاهرة أسبوعًا واحدًا وعودته بسرعة، وهذه المدة لم تكن

كلها تتسع لأخذ ما عندي من المواد الخاصة بسيرة السيد رحمه الله

تعالى - لو لم يكن لنا شغل غيرها، ولا من حاله في أمر اهتمامه بمقابلتي بالتوسل

إليها بتوصيته مَن يعرف ومن لم يكن يعرف من الوجهاء، وبالكتابة وإرسال

الرسول؛ لأجل تعيين موعد خاص للمذاكرة في سيرة السيد، وأخذ المعلومات

المطلوبة، وعدم تفضله بالزيارة بدون سبق الموعد المطلوب، على كونه قد زار

بعض الناس بدون أخذ موعد معين منهم، كإسماعيل شيرين بك ونور الدين بك

مصطفى كما أخبراني بذلك، ثم إسراعه بالسفر بعد مجيء رسوله إلى مكتبة المنار

وسؤاله عني فيها بيومين ، وفي أمر كتابه الجامع بين التعظيم والتهكم والمن

والتهديد.

أما أنا فعلى شدة تعجبي من هذا الكتاب واستنباطي منه أن صاحبه شاذ في

عقله وأخلاقه، أسفت أسفًا شديدًا لما فهمته منه أن الفندق لم يبلغه ما عهدناه إليه من

الاستعداد للقائه في كل يوم، ولا سيما وقت الصباح على كونه وقت تزاحم الأعمال

عليَّ الذي به كان وجودي فيه بمكتبي حتمًا لازمًا، وقد حملني هذا الأسف على

الذهاب إلى محطة مصر قبل وقت سفر قطار المساء الحديدي إلى بورسعيد؛ لعلي

أجده مسافرًا فأعتذر له، وأتفق معه على طريقة لإيصال ما يطلبه من المواد في

سيرة حكيمنا الأكبر السيد جمال الدين رحمه الله تعالى.

ذهبت إلى المحطة قبل موعد دخول المسافرين في القطار، وطفقت أتوسم

وجوه ركاب الدرجة الأولى - وكذا الثانية احتياطًا - لعلي أجد سحنة هندية أتطفل

بالسؤال عن صاحبها فلم أجد، وإنما فعلت هذا؛ لأنني أعد للرجل عليَّ حقين لا

يبيح لي شذوذ كتابه هضمهما:

(أحدهما) أنه خاطبني بالوسائط، ولم يعلم أنني أجبته، ولم يلتمس لي

عذرًا على سعة باب التماس الأعذار الذي ضاق عليه.

(وثانيهما) أنه يريد تأليف كتاب في سيرة أستاذنا الأكبر موقظ الشرق

وحكيم الإسلام، وأنا أحرص الناس كما أعتقد على نشر سيرته الصحيحة والاعتبار

بها.

بعد هذا قصصت خبره على شابين هنديين نجيبين مشتغلين بطلب العلم

بمصر، فجزم كل منهما وحده برأي واحد، وهو أن هذا الشذوذ بالامتناع من

الزيارة أولاً وبالكتاب الجامع للغرائب ثانيًا، ليس من شأن هذا الرجل ولا من

المعهود من آدابه وأخلاقه، وإنما هو تأثير مؤثر خادع من الهنود الزائغين، كالذين

يبثون دعوة المسيح الدجال القادياني في مصر باسم الأحمدية، أو الملاحدة الذين

فتنوا بأفكار بعض الزنادقة اللادينيين هنا، وكلا الفريقين يمقت المنار وصاحبه؛

لأنه أشد خصم لهم في العالم الإسلامي، وجزم كل منهما بأن الرجل لا يعرف

العربية، وأن الذي كتب له هذا الكتاب الشاذ لم يخبره بكُنْه ما فيه، ولو أخبره لما

أمضاه.

ثم سألني عنه الزعيمان الهنديان الكبيران اللذان ألما بالقاهرة في هذه الأيام

الحكيم محمد أجمل خان والدكتور مختار أحمد الأنصاري، فذكرت لكل منهما نبأه،

وأطلعت كلاً منهما على كتابه، فوافقا الشابين بأن هذا ليس من دأبه ولا من آدابه،

وأنه خدع به.

***

اعتذار صاحب المنار عن تقصيره

ولما كان من شأن هذا الغش وسوء الفهم أن يقع كثيرًا رأيت أن لا تثنيني هذه

الشهادة من أربعة عدول، بما تقدم آنفًا عن ذكر بعض ما جال في خاطري، من

الآراء عند قراءة هذا الكتاب بالإيجاز، وإظهار عذري فيما عسى أن يكون قد وقع

أو قد يقع من سوء الفهم في مثل هذه المرة بيني وبين بعض الناس فأقول:

(أولاً) إنني رجل ضعيف، دخلت في سن الشيخوخة، وأشكو بعض

مبادئ الأمراض التي تهدد الناس في هذه السن، وأنا مع هذا مطالب بأعمال كثيرة

أذكر مجامعها:

(1)

القيام بشئون أسرة كبيرة وأطفال لا عائل ولا مربي لهم غيري.

(2)

القيام بتحرير مجلة دينية اجتماعية ليس لها محرر ولا مساعد غيري.

(3و4) إنني صاحب مكتبة ومطبعة لا بد لي من نظر ما في بعض أمر

إدارتهما، ولضيق وقتي عن إتقان ذلك يفوتني ربح كبير أنا محتاج إليه، بل

تحملت كثيرًا من الخسارات المالية والأدبية.

(5)

إنني أتولى تصحيح جميع مطبوعاتي من المنار وغيره بنفسي المرة

بعد المرة، وأنظر في تصحيح غيرها مما يطبع في المطبعة مع مصححها، وهذا

العمل يستغرق أكثر أوقاتي في هذه السنين، وقد جربت الاعتماد على المصححين

فرأيت كل ما يصصحونه كثير الغلط، حتى إنني اضطررت إلى مراجعة جداول

تصحيح الغلط الذي وضعوه لبعض الكتب على المطبوع والمخطوط كلمة كلمة،

بمعارضتها على عدة نسخ في خلال سنين متفرقة، وأخرت إرسال بعض الكتب

إلى أصحابها زمنًا طويلاً لأجل ذلك، فساءهم ذلك، وهم لا يعذرونني بأمانتي

العلمية الدينية، ولو فعلت كما يفعل سائر أصحاب المطابع لكان أرضى لهم وأربح

لي، ووضع لي بعض الأذكياء فهارس للمنار، فكان شغلي بتصحيحها أطول من

شغلي بوضع خير منها.

(6)

إنني أعمل في بضع جمعيات علمية واجتماعية وسياسية، كالمجمع

اللغوي والرابطة الشرقية، ومؤتمر الخلافة، ونقابة الصحافة، ولجنة المؤتمر

السوري الفلسطيني إلخ، وقد كنت في الأسبوع الذي زار فيه حضرة الأخ محمد

عبد الغفار القاهرة مكلفًا ثلاثة أعمال كتابية لبعض هذه الجماعات.

(7)

أنه تأتيني مكتوبات كثيرة من أقطار الشرق والغرب أقلها في شئون

المجلة والمطبعة والمكتبة التي يوجد عندي من يساعدني على ما يطلب منهن -

وأكثرها يتعلق بشؤون الأمة العامة أو بالشئون الأدبية العلمية والعملية أو السياسية

أو الشخصية، أما الشخصية فأكثرها استفتاءات خاصة شرعية من دينية ودنيوية،

غير ما يطلب نشره في المنار، وأقلها طلب مساعدات مالية أو شفاعات، وأما

العلمية فمثل طلب الأخ محمد عبد الغفار، وكلها مبنية مثل ما حملني من التبعة

والمسئولية بسبب الشهرة العلمية، ومن أغربها أن بعض المؤلفين المعاصرين

طلبوا مني قراءة ما ألفوا، والشهادة لها بأنها جديرة بأن تدرس في المدارس

الإسلامية لعامة المسلمين على أن بعضها لأهل السنة وبعضها للشيعة الميالين إلى

الوحدة الإسلامية مثلنا.

(8)

كثرة الزائرين المختلفي الأغراض من أصدقاء أولياء، ومن عفاة

وطلاب حاجات، ومن مستفتين ومشاورين في بعض الشؤون العامة أو الخاصة،

ومنهم من لا يذكر حاجته إلا بعد بَسْطِ أخبار ووقائع طويلة، ولو شرحت هذه

الحاجات لعجب جميع القراء من ذكر الناس لمثلها، ومن صبري عليهم.

(9)

النظر ولو إجمالاً في العشرات من الصحف السياسية والمجلات

العلمية التي ترد من الأقطار المختلفة للوقوف الإجمالي على حال العالم وسياسته،

وسير العلم والأدب والعمران، ويناسب هذا النوع ما يهدى إلى المجلة من الكتب

والرسائل التي تنشر في كل آن، ولا بد من النظر فيه بقدر ما تسمح به الفرص،

وأنا مقصر فيه لضيق وقتي.

(10)

ما أضطر إليه من نشر بعض المقالات في الصحف اليومية

كالمقالات التي نشرت في سياسة الملك حسين بن علي وأولاده، ومقالات الخلافة،

وما فعل الترك بخلافتهم وسلطتهم، ومقالات (الوهابيون والحجاز) ، والرد على

كتاب الإسلام وأصول الحكم.

إنني وايم الحق لعاجز عما يرضي الناس في الأمر السابع من هذه الأمور

العشرة، وهو الذي يظن أصحابه وغيرهم أنه أهونها، وأعني به الكتابة إلي في

الشؤون المختلفة، فإنه لتأتيني المكتوبات أحيانًا وأنا مشتغل بكتابة موضوع أو كثر

لأجل عمال المطبعة، وبتصحيح كراسة أو أكثر؛ ليشتغل بها مصححها، فأقرأ

بعضها وأرجئ قراءة بعض إلى فرصة لا تستلزم تعطيل عمل لا بد منه، وقد أعهد

إلى وكيل الإدارة بقراءتها وإخباري بما فيها عند فرصة فراغ من الضروريات إذا

كان خاصًّا بي، وإن هذا الإرجاء قد يفضي إلى اجتماع عشرات من هذه المكتوبات

أمامي، فتمر الأيام والأسابيع ولا أجد وقتًا لقراءتها، حتى إذا سنحت فرصة فراغ

من الضروريات، أكتب لصاحب الحق الأول فالأول موضوعًا أو زمنًا، وقد أكتب

إلى الرجل الواحد مرجوع كتاب له في الأمور العامة في بضعة قراطيس، ومن

هذه المكتوبات ما يرد بلغة لا أعرفها، وليس عندي من يترجمه لي، فيتأخر عندي

إلى أن أجد مترجمًا ثقة أمينًا، ومن ذلك ما كتبته إليَّ إدارة المدرسة الجامعة

الإسلامية في عليكره (الهند) في اختيار أستاذ للعربية فيها، كتبت إلىّ باللغة

الإنكليزية، وأرسلت مع كتابها نظام المدرسة ومنهج التعليم فيها، وكلاهما

بالإنكليزية ليعرضا عليَّ الأستاذ الذي اختاره لها، فالقيام بحقوق الناس في الرد

على مكتوباتهم لا يتم لي إلا بمساعدة كتاب ومترجمين موظفين، ولست قادرًا على

ذلك.

بعد هذا التمهيد العام أقول - عودًا على بدء -:

(ثانيًا) قد كان من المتعذر عليَّ أن أجيب طلب الأخ محمد عبد الغفار عقب

وصولِ كتابه لو كان صاحب الحق الأول ، فإنه طلب تعيين موعد خاص لاطلاعه

على ما عندي من سيرة السيد جمال الدين، ولم أكن أملك وقتًا يتّسع لذلك مع الأعمال

الضرورية اليومية التي لا يمكن تأخيرها. وأما الزيارة فهي عندي مباحة في عامة

أوقاتي لأنني أشتغل في حضرة الزائرين معتذرًا لهم، وأحدثهم في أثناء العمل ولو كان

تفسير القرآن الحكيم أو الإفتاء ولولا هذا لاضررت إلى ردِّ أكثر الزائرين، وهو لم

يكن يريد هذه الزيارة غير المقيدة بما طلبه ، وإلا لزاراني كما زار غيري من الرجال

الراسبين وغير الراسبين ، فزيارتي أسهل من زيارتهم.

(ثالثًا) لم يكن يخطر في بالي أن يكون وقت إقامته بمصر لمثل هذا العمل وغيره

من الأعمال التجارية أيامًا تُعَدُّ على الأصابع تتحكم فيها بوقت غيره المجهول عنده كما

يتحكم في عمَّاله وخدمه الواثق مِنِ استطاعتهم على طاعته متى شاء؛ بل ليس من

المعقول عندي أن يكفي مثل هذا الوقت لأخذِ موادٍ كافيةٍ لتأليفِهِ من معاهد العلم العامة؛

كخزانة الكتب المصرية مثلاً ، لذلك كُنْتُ أظن أننا لا بد أن نلتقي وأن تبليغه بالتلفون

الاستعداد لمقابلة كل يوم هو كل ما يجب عليَّ.

(رابعًا) إن مَنِّهِ عليَّ بحفاوة مسلمي الهند بي لم يكن لائقًا منه، وإنْ جعله حجةً

على أنه يجب عليَّ أن أقابل كل هندي مثلي، واتهامي تعريضًا بل تصريحًا بعدمِ

الوفاء ومقابلة الجميل بمثله بعيد عن اللياقة وعن الصواب جميعًا.

إنَّ جمعية ندوة العلماء دعتني إلى رياسة مؤتمرها السنوي رجاءَ أن يكون ذلك

سببًا لإقبال الجمهور على المؤتمر، وإنني أَجَبْتُ دعوتَها في وقتٍ كنت مشتغلاً فيه

بتأسيس مدرسة الدعوة والإرشاد التي أعتقد أنها أفضل عمل وضع لخدمة الإسلام في

هذا العصر ، ووافقني على اعتقادي هذا كل مَنْ وقف على كنهه من خواص مسلمي

العرب والعجم حتى في الهند والآستانة، كما أنني كنت عازمًا على الزواج، تركت

هذا وذاك إجابة لدعوة الندوة، وسافرت على نفقة نفسي لا على نفقتها كما هو المعتاد

في مثل هذه الدعوة وقد احتفى بي المسلمون في كل بلد زرته كما قال وفوق ما قال،

وما كان لذلك من سبب إلا اعتقادهم أنني أخدم الإسلام والمسلمين لوجه الله

تعالى، وكنت أعلنت أنني لا أقبل من أحد مساعدة ما ولو باسم الهدية

المسنونة، حتى إن آنية الشاي الفضية التي صاغتها الندوة تذكارًا لزيارتي، ونقشت

عليها اسمها واسمي لم أقبل أن آخذها منها، ولكنها أرسلتها إلى صديقي المحسن الكبير

الشيخ قاسم إبراهيم الشهير في بمبي، وهو أرسلها إلى مصر، احتفوا بي بداعية

الإخلاص كما أجبت دعوة ندوتهم بمحض الإخلاص، وأنفقت من المال والوقت في

هذه السبيل فوق ما أنفقت هي في الحفاوة بي، وهي جماعة وأنا فرد، وإنما سدى

ذلك ولحمته الإخلاص، فلا يليق بأحد منا أن يحيط هذا الإخلاص، ولا أن يشوهه

بالمن والأذى، ولا أن يوجب لنفسه على الآخر به حقًّا ويهدده بالتشهير العلني

والإهانة على التقصير فيه.

(خامسًا) إنني لست من عشاق التعظيم والحفاوة، ولا من المفتونين

بالشهرة؛ ولذلك لم أكتب، ولم أوعز إلى أحد من إخواني أو تلاميذي أن ينشر في

الجرائد أخبار تلك الاحتفالات العظيمة التي كنت أفر منها، حتى لم أكن أخبر من

تلقاء نفسي بلدة من البلاد بوقت وصولي إليها.

(سادسًا) إنني على هذا وذاك ما قصرت، ولن أقصر - إن شاء الله تعالى -

في الشكر والثناء الخالص على مسلمي الهند عامة، وعلى الذين تفضلوا بإكرامي

منهم خاصة؛ لإخلاصهم في تلك الحفاوة وفي عامة شؤونهم الملية، وغيرتهم

الدينية، ومازلت أفضل مسلمي الهند على سائر الشعوب الإسلامية في شعور

الجامعة الإسلامية، وبذل النفس والنفيس في سبيله، وأعترف بأنه لا يباريهم في

هذا غيرهم؛ على أن ضيافتي وتكريمي من قومي العرب في بمبي ومسقط

والكويت والعراق كانت أكبر مظاهر الكرم وبمحض الإخلاص أيضًا، وهل

أستطيع أن أكافئ جميع هؤلاء الناس بمثل ما يطالبني به هذا الفاضل

الهندي؟ .

(سابعًا) إنني لما ذكرت من رأيي في مسلمي الهند أراني أشد ارتياحًا

لزيارة فضلائهم لي من زيارة غيرهم، وقد زارني أعضاء الوفد الذي أرسلته

جمعية الخلافة إلى الحجاز قبل موسم الحج الأخير، في صبيحة الليلة التي وصلوا

فيها إلى مصر عائدين من جدة - ولكن بغير توسل بأحد، ولا بإرسال مكتوبات

ورسل، ولا بطلب تحديد موعد كتابي معين - وكنت في ذلك الوقت مشغولاً بالنقلة

من دار إلى دار: نقلة المتاع والماعون والمكتبة والمطبعة جميعًا، ولا يوجد عندي

من يقوم مقامي في الأمر بوضع كل شيء في موضعه من الدار الجديدة، فكنت

أترك الناقلين يلقون ما ينقلون بعضه فوق بعض، وأشغل الزمن الطويل مع أعضاء

الوفد، فتلف بذلك بعض الأثاث والماعون، وفقد بعض، وبقيت كتبي الخاصة

وأوراقي ملقاة على الأرض أكثر من أسبوعين لا يمكن تمييز بعضها من بعض،

بل عرضت نفسي لنزلة صدرية؛ بالذهاب معهم إلى أهرام الجيزة مساء بالسيارة

وأنا في ملابس خفيفة لا تقي تأثير تيار الهواء. ولما سافروا ودعتهم في محطة

السكة الحديدية، وأعترف مع هذا بأنني مقصر، إذ لم أقم بحق ضيافتهم؛ لأن

الدار لم تكن صالحة لذلك.

وليعلم الأخ الكريم محمد عبد الغفار أنه لو لم يكن من مسلمي الهند وممن

يعنون بتاريخ حكيمنا السيد جمال الدين، لما عنيت بالذهاب إلى محطة مصر

للاعتذار له بعد أن رأيت ما في كتابه من الشذوذ الأدبي والتهديد والوعيد اللذين لا

يبالي بهما مثلي ممن لا يخاف ولا يرجو غير الله تعالى، ولا يقابل أصحاب التهديد

والوعيد إلا بالإعراض.

ولست أبالي من رماني بريبة

إذا كنت عند الله غير مريب

(ثامنًا) إنني من أشد الناس مقتًا للمداهنة وتكلف المدح الكاذب والإطراء،

كما أنني من فضل الله عليّ من أقلهم مبالاة بالمدح والذم الشعريين، حتى إنني لا

أحفل بقراءة ذلك إذا قيل لي: إنه نشر في جريدة كذا مثلاً، ولكنني أبحث عن

عيوبي بعرض عملي على أهل النقد، وبسؤال أهل الصدق والإخلاص عما

ينكرونه علىّ أو مني؛ لأستعين بذلك على تربية نفسي، وإتقان عملي.

وإنني أعلم أن كراهتي للتملق والنفاق أسخطت علىّ كثيرًا من الناس، وأن

المداراة مطلوبة شرعًا وعقلاً، ولكن من الناس من لا يرضيهم إلا الكذب وقول

الزور، ويعدون من يتحامى الإطراء بالباطل مقصرًا في حقهم أو مهينًا لهم أو

متكبرًا عليهم، وأمثال هؤلاء لا حيلة لي في إرضاءهم، على أنني أبرأ إلى الله

تعالى أن أتعمد التحقير أو التقصير في حق أحد منهم أو من غيرهم.

ومن دون هذا الصنف صنف آخر خير منه، وأنا عاجز عن إرضاء أفراده

حتى المخلصين في المودة منهم، وأعني بهم أهل المساومة والمشاحة في المعاشرة

للربح أو المساواة: زيارة بزيارة، ودعوة بدعوة، وتهنئة بتهنئة، وتعزية بتعزية،

وكتاب بكتاب، كما قال الحريري:

وكلت للخل كما كال لي

علي وفاء الكيل أو بخسه

فأنا لا أعد هذه الطريقة من الخلة ولا الصداقة الخالصة، كما قلت في

المقصورة:

من كال للخل كما كال له

فتاجر ليس خليلاً يصطفى

فلا ألتزم تهنئة أصدقائي في الأعياد بزيارة قريب الديار ومكاتبة بعيدها، ولا

أطالبهم بذلك، ولا ألومهم على تركه، وإنما أزور وأكتب عند سنوح الفرص،

وأبني الصداقة على أساس الصدق والإخلاص وترك التكلف، وعدم الظنة، فلا

أتهم أحدًا بتعمد التقصير في حقي، كما أنني لا أتعمد التقصير في حق أحد، وأكره

أن يتهمني بذلك؛ لأنه ظلم، ولا أعاشر أحدًا لأجل أن أنتفع منه نفعًا ماديًّا،

ولكنني قد أزور من أرجو أن أستفيد من رأيه ومذاكرته، وإن لم يكن صديقًا لي.

وجملة القول أنني افترضت هذا التثريب والتأنيب من أحد إخواننا فضلاء

الهند (على قبول عذر من اعتذر عنه إن وافقهم عليه) لأبين حقيقة حالي لقراء

المنار البعيد منهم والقريب، فإنني أعلم أن بعض من لم يعرف هذه الحقيقة ينكرون

عليَّ ما لا أنكره من التقصير في مكاتبتهم أو زيارتهم، أو قضاء حاجتهم، وإنما

أنكر تعمد ذلك، وأعترف بالعجز، فما يطلب مني هو في الغالب فوق استطاعتي،

وكله يبنى على الأساس الذي بنى عليه هذا الوجيه الهندي: أي الشهرة بالعلم

وخدمة الإسلام، حتى إن الذين يطلبون مني المنار وتفسير المنار وغيره بنصف

ثمن أو بغير ثمن، وكذا الذين يطلبون المساعدات المالية يقولون ويكتبون إليَّ بأنها

واجبة عليَّ لما ذكر، ولكن لم يساعدني أحد من المسلمين مساعدة مالية أستعين بها

على خدمة الإسلام والمسلمين بمثل ما ذكر، ولا أنا صاحب عقار أنفق منه، بل لا

أملك دارًا أقيم بها، بل أكثر مشتركي المنار يمطلون بحقه مطلاً، ومنهم من

يهضمه هضمًا، وأنا أعلم أن هذا البيان غير معتاد ولا مألوف في العرف العام،

وقد ينتقده بعض الناس، ولكن أهل الصدق والإخلاص يعلمون أنه حق صادر عن

صدق وإخلاص، وإني ألخص عذري بهذه الكلمة:

إنني قد ابتليت بشهرة هي أكبر مني، ولم أوت من العلم ولا من المال ما

يسهل عليَّ القيام بأعبائها، وأنا أتحمل أثقالها بالرغم مني، كما قال لي أحد كبار

ضباط الإنكليز عندما رآني متبرمًا من تضييقهم عليَّ في الإذن بالسفر إلى سورية

بعد الحرب الكبرى: إن الشهرة الكبيرة تلزمها أثقال كبيرة لا بد من الصبر عليها،

فأنا ضعيف في كل شيء، وأطالب بما لا يقدر عليه إلا جماعة من الأقوياء ذات

إدارة غنية منظمة، لا أستطيع إجابة كل سائل، ولا مراسلة كل مراسل، ولا

سماع القصص والوقائع الشخصية من كل قائل، ولا رد زيارة كل زائر، ولكنني-

وأقسم بالله - لا أتعمد التقصير في حق أحد استهانة به أو تفضيلاً لنفسي عليه،

وإنني أرجح المصلحة العامة ومصالح بعض الناس أحيانًا على مصلحتي الشخصية،

ولولا ذلك لما تأخرت مجلة المنار عن موعدها يومًا واحدًا؛ على أنني لا أتهم

أحدًا بالتقصير في حقي، ولا أؤاخذه عليه بقول ولا عمل، وإنما أعاتب الإخوان

المخلصين تلذذًا بالعتاب، وأجتهد بقدر استطاعتي في مساعدة كل منهم على خدمته

الملة والأمة، وفي قضاء حاجته الشخصية أيضًا. وإذا كانوا يصفون بالإنصاف

قول الشاعر الذي ضربوا به المثل:

على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى

وأخلص منه لا عليَّ ولا ليا

فأنا أرضى بأن أحمله، وأخلص منه وعليَّ أكثر مما لي، فمن رضي بهذه

المعاملة فعلى الرحب والسعة، والمقابلة بالترحيب والترجيب، ومن لم يرض بذلك

وهو منتهى ما في الوسع بل فوقه، فما له عندي إلا قول بعض شيوخ الصوفية:

غنينا بنا عن كل من لا يزورنا

وإن كثرت أوصافه ونعوته

فمن جاءنا يا مرحبًا بقدومه

يجد عندنا ودًّا صحيحًا ثبوته

ومن صد عنا حسبه الصد والجفا

ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من ذنب التبجح والدعوى، ومن كل

ذنب، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

_________

(1)

المدة بين كتاب شيرين بك وبين كتابه هذا ثلاثة أيام فقط، وإذا كان قد وصل إليّ في مساء 21 مارس ففرصة الرد كانت يومين فقط.

ص: 307

الكاتب: عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود

‌منشور عام [

1]

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى إخواننا المسلمين في

مشارق الأرض ومغاربها.

الحمد لله الذي لا إله إلا هو: والصلاة والسلام على رسوله محمد الشفيع

المشفع يوم المحشر (وبعد) :

فقد تفاوضت أنا والوفد الهندي الموفد من جمعية الخلافة الهندية وجمعية

العلماء في المسائل التي يهم المسلمين الاطلاع عليها، والوقوف على حقيقة أفكارنا

تجاهها، وكان رائد الجميع الإخلاص في العمل، والصراحة في القول، والنصح

لله ولرسوله وللمسلمين، وإني أحمد الله على أن انتهى البحث في جميع المسائل

التي دارت المفاوضة فيها.

وإني دحضًا لما يفتريه أعداء الحق ونصراء الباطل ممن يستغلون التفرقة بين

المسلمين، ويحاولون أن يطفئوا نور الله بسعيهم الباطل للتمويه على قلوب السذج

من المسلمين الذين يجهلون حقيقة ما نحن عليه، أعلن ما يأتي {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ

عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) .

(1)

أشكر الشعوب التي وقفت تجاهنا موقف المدافع عن الحق، وأشكر

الشعب الهندي خصوصًا على موقفه تجاه العرب وقضيتهم في الوقت الذي اشتغل

العرب فيه بالمشاحنات والمخاصمات، ونسوا واجبهم نحو دينهم ووطنهم، وإني

أشكر أهل الهند؛ لأنهم كانوا أول من لبى الدعوة، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام

خير الجزاء.

(2)

إني لا أزال عند قولي فيما دعوت العالم الإسلامي إليه: من وجوب

عقد مؤتمر عام ينظر في الأمور التي تهم سائر المسلمين في الحجاز من إصلاح

الطرق وتأمينها، وتوفير وسائل الراحة لكل وافد، وتسهيل المواصلات بقدر ما

يمكن، وبذلك نتحمل نحن وإياهم مسئولية إدارة الحجاز، وستجدد الدعوة لهذا

المؤتمر الإسلامي متى تمهدت وسائل المواصلات.

(3)

إننا نحافظ على استقلال الحجاز الاستقلال التام محافظتنا على أرواحنا،

وإننا لا نسمح أن يكون لغير المسلمين أي نفوذ فيه، محافظة على ديننا وشرفنا.

(4)

إن الشريعة الإسلامية هي القانون العام الذي يجري العمل على وفقه

في البلاد المقدسة، وإن السلف الصالح وأئمة المذاهب الأربعة هم قدوتنا في السير

على الطريق القويم، وسيكون العلماء المحققون من جميع الأمصار هم المرجع لكل

المسائل التي تحتاج إلى تمحيص ونظر ثاقب.

(5)

إني أؤكد لكم القول: إن المدينة المنورة لا تزال حرمًا آمنًا لا يصح

أن يحدث فيه حدث من قتل أو سلب أو نهب، وصونًا لشرفها، اكتفيت بحصارها،

على ما في ذلك من طول وقت وخسائر مالية، وإني أستطيع بحول الله وقوته أن

أفتحها في ساعة واحدة، ولكني حريص على سلامة البلاد والعباد، وإني مشدد

الأوامر على الجنود ألا يهاجموا حرم المدينة بأي صورة، ولا يدخلوها حتى يستسلم

العدو، وأن ما فها من المباني والمآثر يكون العمل فيه على ما تقدم في المادة

السابقة.

إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول صلى

الله عليه وسلم، وحاشا أن تحدث نفس مسلم بذلك، إني أفتديها بنفسي وولدي

ومالي ورجالي، وإني لا أجد فرقًا بين ما حرم الله ورسوله من حرم مكة والمدينة،

فإنه صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها، كما حرم سيدنا إبراهيم حرم مكة -

وأسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، 28 ذي الحجة سنة 1343.

(المنار)

قد أجمع العارفون على أن النجديين لو واصلوا زحفهم بعد كسر جيوش الملك

حسين في الطائف والهدوكرا لاستولوا على مكة وجدة وسائر الحجاز بدون قتال؛

لأنه لم يبق وراء تلك القوة قوة فيه للملك حسين، ولاستولوا على كنوزه كلها،

ولكن السلطان عبد العزيز يكره سفك الدماء، ويتقي القتال في الحرم تدينًا، فأمر

بوقف جيشه فوقف حتى جاء بنفسه ودخل مكة مع جيشه محرمًا بالعمرة، ثم تأنى

حتى مكن حسينًا وأولاده من تحصين جدة، وترك الزحف على المدينة إلى هذا

العام، فأمر بحصر حامية الشريف علي فيها، وأصدر هذا المنشور؛ ليعلم العالم

الإسلامي بغرضه الشريف، وليحتاط لبهتان الشريف علي، ويتقي اتهامه بضرب

المدينة أو حرمها المنيع لو دخلها فاتحًا، بل يستحل علي وقواده فعل ذلك؛ ليتهموا

الوهابيين به، كما فعل والده إذ أمر بضرب الكعبة المشرفة بالنار، واتهم بذلك

الترك عندما قاتلهم بمكة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

نقل عن العدد 30 من جريدة أم القرى التي تصدر بمكة المكرمة.

ص: 319

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسرار البلاغة أو فلسفة البيان

تكلم بعض البلغاء من علماء العربية في طرق البيان وبلاغة الكلام وفصاحته

كلامًا إجماليًّا، حتى جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس، فوضع

القواعد والأصول لعلم البيان؛ بكتابه أسرار البلاغة ولعلم المعاني؛ بكتابه دلائل

الإعجاز، وسلك فيها مسلك الفلسفة العقلية وعلم النفس، فعلمنا من كتابيه أن

البلاغة عبارة عن إصابة موقع الإقناع من العقل، والتأثير من القلب، فإنه يثبت لك

بلاغة الكلام؛ بإرجاعك فيه إلى ما تجده في نفسك من تأثيره وروعته والارتياح

له، والتفرقة بينه وبين ما يؤدي معناه من غير البليغ، ويشرح لك ذلك حتى يقنع

به جنانك، ويطمئن به وجدانك، بعبارة فصيحة هي أظهر مصداق لقواعده ومثال

لفلسفته، فهو يفيدك العلم والعمل معًا بعبارته وأسلوبه.

ثم إن الذين أخذوا عنه هذا العلم زادوا عليه في القواعد والأحكام، وحكوه

فيما وضعوه من الحدود والرسوم لبلاغة الكلام، ولكن فاتتهم فلسفته، وعدتهم

بلاغة عبارته، فكانوا كما قال الشاعر:(لقد حكيت ولكن فاتك الشنب) ، فإنهم

جعلوا أحكام البيان مواضعات اصطلاحية، لأشكال التراكيب اللفظية، لا مرجع

لها من علم النفس، ولا مستند لها من حكم العقل، ولا من وجدان النفس، ككون

التمثيل - الاستعارة التمثيلية - عبارة عن تشبيه هيئة بهيئة تناسبها، كجملة ما لي

أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. وأما كون التمثيل أعلى مراتب البيان، وأبلغ ما

يفضل به الكلام الكلام، وسبب هذا وسره؛ فهو ما لم يعرضوا له، ولم يتبعوا

إمامهم في البحث عنه، ولا في سائر خصائص محاسن الكلام من التشبيه بأنواعه

الأخرى من صريح واستعارة، والتعريض والكناية، فكانت قواعد البلاغة وأحكام

البيان عندهم اصطلاحات لفظية جافة، تؤخذ بالإيمان والتسليم كأنها أخبار

الرسل عليهم السلام من عالم الغيب، وتطبق على كل قول، وإن كان له

من السخف أوفر نصيب.

لهذا لم تعد كتب علوم البلاغة تفيد قارئها البلاغة، ولا تساعده عليها، بل ربما

صارت صادة له عنها، وحائلة دونها، فكأين من مدارس قرأ أدق كتبها كشرحي

السعد للتلخيص مرارًا مع حواشيها الطويلة العريضة، وكان بعد ذلك كله

عاجزًا عن فهم كلام البلغاء، ووجه تفضيله على غيره، دع عجزه عن ارتجال

خطبة أو نظم قصيدة، أو كتابة رسالة، مما يصح أن يوصف بالبلاغة، إلا أن

يكون من وصف الجاهل الفاقد الذوق لكلامه أو كلام أمثاله بما يراه في مرآته أو من

التحكم في تطبيق كل كلام على تلك القواعد الاصطلاحية، التي لا يعرفون لها مدركًا

علميًّا ولا نفسيًّا، كتشبيه حسن فهمي أفندي أحد مشايخ الإسلام في الدولة

العثمانية للخد بالسفرجل تقليدًا لمن شبهوه بالتفاح بقوله:

وقلبي هام في خد سفرجل

وكقوله:

حمد البلابل في الأغصان سبحان

لذاك جاد على الناطور بستان

اقتبس علماء البيان الأولون من عبد القاهر كالسكاكي والخطيب، ثم فقد

كتاباه، ونسي ذكرهما مدة بضعة قرون؛ حتى إن بعض من ترجمه من

المؤرخين لم يذكرهما له، وأعيا طلبهما بعض كبار أمراء العلم والحكم: كالإمام

يحيى اليمني صاحب كتاب (الطراز في علوم الإعجاز) ، حتى هدانا الله تعالى إلى

بعث بعض نسخهما من مقابر خزانات الكتب الخاصة في هذا القرن، فطبعناهما،

وأحياهما شيخنا الأستاذ الإمام بتدريسهما في الجامع الأزهر؛ فكان ذلك سببًا

لارتقاء فنون البلاغة وملكتها، وارتقاء الآداب العربية من طور إلى طور في

القطر المصري عامة، وفي الأزهر خاصة، وإن خفي هذا السبب على الغافلين

الذين لا يشعرون بأسباب الأطوار، التي تطرأ على الأمم ومسبباتها، وارتباط

بعضها ببعض، فقد صار يوجد في الأزهر عشرات من الكتاب المجيدين، ولم

تكن تقدر أن تعد على أناملك أحدًا منهم غير القدماء من تلاميذ السيد جمال الدين

وتلاميذه الأستاذ الإمام في إبان النهضة الجمالية، ومن أشهر الكتاب الذين طار

ذكرهم ممن حضروا الكتابين على الأستاذ الإمام المرحوم السيد مصطفى المنفلوطي.

بل أقول: إن جميع الذين قرءوا الكتابين كليهما أو أحدهما حتى في بلاد

الأعاجم قد ارتقت ملكة البيان فيهم شعروا بذلك أم لا، وإنما يشعر بمثل هذا

أصحاب اللوذعية والعقل الفقيه، فقد كتب إليَّ صديقي أكتب الكتاب، وأخطب

خطباء مسلمي الهند الشيخ أبو الكلام أحمد المجدد الشهير، يذكر لي أول عهده

بمعرفتي قبل تلاقينا في الهند سنة 1330، من كتاب طويل كتبه إثر خروجه من

السجن بعد الحرب ما نصه.

(وماذا أستطيع أن أقول عن نفسي غير أن قلبي ممتلئ بالاعتراف لكم

بخدماتكم الجليلة العلمية والعملية، فإني أحبكم وأحب من يحبكم، ولا غرو فإني قد

عرفتكم في صباي لما كنت أقرأ شرح التلخيص للتفتازاني،،، فقرأت أسرار

البلاغة ومقدمتكم عليه؛ فانفتح علي باب المعرفة الصحيحة، وهذا أول عهدي بكم

(أتاني هواها إلخ) ، ثم ذكر اطلاعه على المنار، وما كان من تأثيره في نفسه مما

ليس من موضوعنا.

وأقول: إنني رأيت من قوة فهمه للغة العربية أنني كنت ألقي الخطبة في الهند

في ساعتين أو أكثر من الزمن؛ فيقوم هو فيعيدها باللغة الأوردية، لا يفوته

منها شيء.

كنت عند طبعي لأسرار البلاغة سنة 1319 نشرت نبذة منه على سبيل

النموذج، وقد رأيت أن أنشر عند إعادة طبعه الآن نموذجًا أطول من ذلك

النموذج؛ ليكون مثلاً لما وصفت، ودليلاً على ما قررت، قال مؤلفه

رحمه الله تعالى.

***

(فصل)

في مواقع التمثيل وتأثيره

واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو

برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها

أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في

تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة

وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا. فإن كان مدحًا كان أبهى

وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف، وأسرع للإلف، وأجلب

للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأفضى له بغرر

المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.

وإن كان ذمًّا كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده

أحد، وإن كان حجابًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر ، وإن كان

افتخارًا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألد [1] ، وإن كان اعتذارًا كان إلى

القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وفي عقد

العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث [2] ، وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر،

وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلي الغياية [3] ، ويبصر

الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل ، وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول

وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه [4] ، وإن أردت أن تعرف ذلك، وإن كان تقل

الحاجة فيه إلى التعريف، ويستغنى في الوقوف عليه عن التوقيف، فانظر إلى

نحو قول البحتري:

دانٍ على أيدي العفاة وشاسع

عن كل ند في الندى وضريب [5]

كالبدر أفرط في العلو وضوءه

للعصبة السارين جدُّ قريب [6]

وفكر في حالك وحال المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني،

ولم تتدبر نصرته إياه، وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه، ويؤدي إليه

ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بعد

ما بين حالتيك، وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك، وتحببه إليك، ونبله في

نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لي بالصدق فيما قلت، والحق فيما ادعيت [7] .

وكذلك فتعهد الفرق بين أن تقول: فلان يكد نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم

منها شيئًا، وتسكت، وبين أن تتلو الآية، وتنشد قول الشاعر:[8]

زوامل للأشعار لا علم عندهم

يجيدها إلا كعلم الأباعر [9]

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا

بأوسافه أو راح ما في الغرائر

والفصل بين أن تقول: (أرى قومًا لهم بهاء ومنظر، وليس هناك مخبر، بل

في الأخلاق دقة، وفي الكرم ضعف وقلة) ، وتقطع الكلام، وبين أن تتبعه نحو قول

الحكيم: أما البيت فحسن، وأما الساكن فرديء.

وقول ابن لَنْكك:

في شجر السرو منهم مثل

له رُواء وما له ثمر

وقول ابن الرومي:

فغدا كالخلاف يورق للعين

ويأبى الأثمار كل الإباء

وقول الآخر:

فإن طرة راقتك فانظر فربما

أمر [10] مذاق العود والعود أخضر

وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر، ويفتر ثغره

ويبسم، وكيف تشتار الأري من مذاقته [11]، كما ترى الحسن في شارته [12] وأنشد قول ابن لنكك:

إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجًا

رأيت صورته من أقبح الصور

وتبين المعنى، وأعرف مقداره، ثم أنشد البيت بعده:

وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا

نفر منها إذا مالت إلى الضرر

وانظر كيف يزيد شرفه عندك، وهكذا فتأمل بيت أبي تمام:[13]

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

مقطوعًا عن البيت الذي يليه، والتمثيل الذي يؤديه، واستقص في تعرَّف

قيمته، على وضوح معناه وحسن مزيته [14]، ثم أتبعه إياه:

لولا اشتعال النار فيما جاورتْ

ما كان يُعرف طيب عَرف العُود

وانظر هل نشر المعنى تمام حلته، وأظهر المكنون من حسنه وزينته،

وعطرك بعرف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من مطلع سعوده،

واستكمل فضله في النفس ونبله، واستحق التقديم كله، إلا بالبيت الأخير، وما

فيه من التمثيل والتصوير، وكذلك فرق في بيت المتنبي:

ومن يك ذا فم مريض

يجد مرًّا به الماء الزلالا

لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع

يتصور المعنى بغير صورته، ويخيل إليه في الصواب أنه خطأ. هل كنت

تجد هذه الروعة؟ وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه [15] وقمعه وردعه،

والتهجين له والكشف عن نقصه، ما بلغ التمثيل في البيت، وينتهي إلى

حيث انتهى وإن أردت [16] اعتبار ذلك في الفن الذي هو أكرم وأشرف؛ فقابل

بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره، - وتقتصر

عليه - وبين أن تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: (مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس

ويحرق نفسه) ، ويروى (مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها)[17] ، وكذا،

فوازن بين قولك للرجل وأنت تعظه: (إنك لا تجزى على السيئة حسنة، فلا تغر

نفسك) وتمسك، وبين أن تقول في إثره: (إنك لا تجني من الشوك العنب وإنما

تحصد ما تزرع) ، وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول: لا تكلم الجاهل بما لا يعرفه

ونحوه، وبين أن تقول: (لا تنثر الدر قدام الخنازير. أو لا تجعل الدر في أفواه

الكلاب) ، وتنشد نحو قول الشافعي رحمه الله (أأنثر درًّا بين سارحة الغنم)[18]

وكذا بين أن تقول: الدنيا لا تدوم ولا تبقى، وبين أن تقول: (هي ظل زائل؛

وعارية تسترد، ووديعة تسترجع) ، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من

في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة)

وتنشد قول لبيد:

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يومًا أن ترد الودائع

وقول الآخر:

إنما نعمة قوم متعة

وحياة المرء ثوب مستعار

فهذه جملة من القول تخبر عن صيغ التمثيل، وتخبر عن حال المعنى معه،

فأما القول في العلة والسبب: لم كان للتمثيل هذا التأثير؟ وبيان جهته ومعناه، وما

الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها. وإذا بحثنا عن ذلك وجدنا له أسبابًا وعللاً، كل

منها يقتضي أن يفخم المعنى بالتمثيل وينبل، ويشرف ويكمل، فأول ذلك وأظهره

أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد

مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به

في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر، إلى

ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها

من جهة الطبع، وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من وجهة النظر والفكر في

القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا: (ليس الخبر

كالمعاينة) [19]، ولا الظن كاليقين. فلهذا يحصل بهذا العلم هذا الأنس: أعني الأنس

من جهة الاستحكام والقوة، وضرب آخر من الأنس وهو ما يوجبه تقدم الألف كما

قيل:

ما الحب إلا للحبيب الأول

ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أولاً من طريق الحواس والطباع، ثم من

جهة النظر والروية، فهو إذن أمس بها رحمًا، وأقوى لديها ذممًا، وأقدم لها صحبة،

وآكد عندها حرمة، وإذا نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض،

وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس أو يعلم بالطبع، وعلى حد الضرورة،

فأنت كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم، فأنت

إذن مع الشاعر وغير الشاعر، إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثل ثم مثله، كمن

يخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب، ويقول: هاهو ذا،

فأبصره تجده على ما وصفت.

(فإن قلت) : إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر إنما يكون لزوال

الريب والشك في الأكثر، أفتقول: إن التمثيل إنما أنس به؛ لأنه يصحح المذكور

والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز ووجودها صحيح غير مستحيل، حتى لا

يكون تمثيل إلا كذلك؟ فالجواب: أن المعاني التي يجيء التمثيل في عقبها على

ضربين غريب بديع يمكن أن يخالف فيه، ويدعي امتناعه، واستحالة وجوده،

وذلك نحو قوله:

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم

مشابهة ومقاربة، بل صار كأنه أصل بنفسه، وجنس برأسه، وهذا أمر غريب،

وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصة به إلى أن يصير كأنه

ليس من ذلك الجنس، وبالمدعي له حاجة إلى أن يصحح دعواه في جواز وجوده

على الجملة، إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح، فإذا قال: (فإن المسك بعض

دم الغزال) ، فقد احتج لدعواه، وأبان أن لما ادعاه أصلاً في الوجود، وبرأ نفسه

من صفة الكذب، وباعدها من سفه المقدم على غير بصيرة، والمتوسع في الدعوة

من غير البينة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته حتى لا يعد في

جنسه إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه لا ما

قل ولا ما كثر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دمًا ألبتة.

(والضرب الثاني) أن لا يكون المعنى الممثل غريبًا نادرًا يحتاج في دعوى

كونه على الجملة إلى بينة وحجة وإثبات. نظير ذلك أن ينفي عن فعل من الأفعال

التي يفعلها الإنسان الفائدة ويدعي أنه لا يحصل منه على طائل، ثم يمثله في

ذلك بالقابض على الماء والراقم فيه، فالذي مثلت ليس بمنكر مستبدع، إذ لا ينكر

خطأ الإنسان في فعله أو ظنه وأمله وطلبه. ألا ترى أن المغزى من قوله [20] :

فأصبحت من ليلى الغداة كقابض

على الماء خانته فروج الأصابع

إنه قد خاب في ظنه أنه يتمتع بها ويسعد بوصلها، وليس بمنكر ولا عجيب

ولا ممتنع في الوجود، خارج من المعروف المعهود، أن يخيب ظن الإنسان في

أشباه هذا من الأمور، حتى يستشهد على إمكانه، وتقام البينة على صدق المدعي

لوجدانه.

وإذا ثبت أن المعاني الممثلة تكون على هذين الضربين فإن فائدة التمثيل

وسبب الأنس في الضرب الأول بَيِّن لائح، لأنه يفيد فيه الصحة وينفي الريب

والشك، ويؤمّن صاحبه من تكذيب المخالف وتهجم المنكر وتهكم المعترض،

وموازنته بحالة كشف الحجاب عن الموصوف المخبر عنه حتى يرى ويبصر،

ويعلم كونه على ما أثبته عليه موازنة ظاهرة صحيحة.

وأما الضرب الثاني فإن التمثيل وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة فهو

يفيد أمرًا آخر يجري مجراه وذلك أن الوصف كما يحتاج إلى إقامة الحجة على

صحة وجوده في نفسه، وزيادة التثبيت والتقرير في ذاته وأصله، فقد يحتاج إلى

بيان المقدار فيه، ووضع قياس من غيره يكشف عن حده، ومبلغه في القوة

والضعف والزيادة والنقصان، وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر أولاً إلى التشبيه

الصريح الذي ليس بتمثيل كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلاً (كحنك

الغراب) [21] تريد أن تعرف مقدار الشدة لا أن تعرف نفس السواد على الإطلاق.

وإذا تقرر هذا الأصل فإن الأوصاف التي ترد السامع فيها بالتمثيل من العقل

إلى العيان والحس، وهي في أنفسها معروفة مشهورة صحيحة، لا تحتاج إلى

الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودة أما لا؟ فإنها وإن غنيت من هذه الجهة عن

التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات، فإنها تفتقر إليه من جهة المقدار؛ لأن مقاديرها

في العقل تختلف وتتفاوت، فقد يقال في الفعل: إنه من حال الفائدة على حدود

مختلفة في المبالغة والتوسط، فإذا رجعت إلى ما تبصر وتحس عرفت ذلك بحقيقته

وكما يوزن بالقسطاس، فالشاعر لما قال: (كقابض على الماء خانته فروج

الأصابع) ، أراك رؤية لا تشك معها، ولا ترتاب أنه بلغ في خيبة ظنه وبوار

سعيه إلى أقصى المبالغ، وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يحظ لا بما قل ولا

ما كثر.

فهذا هو الجواب ونحن [22] بنوع من التسهيل والتسامح نقع على أن الأنس

الحاصل بانتقالك في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر ليس له

سبب سوى زوال الشك والريب.

فأما إذا رجعنا إلى التحقيق فأنا أعلم أن المشاهدة تؤثر في النفوس مع العلم

بصدق الخبر، كما أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله:

{قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260) ، والشواهد في ذلك كثيرة،

والأمر فيه ظاهر، ولولا أن الأمر كذلك لما كان لنحو قول أبي تمام:

وطول مقام المرء في الحي مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

معنى وذلك أن هذا التجدد لا معنى له إن كانت الرؤية لا تفيد أنسًا من حيث

هي رؤية، وكان الأنس لنفيها الشك والريب، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من

قبل، وإذا كان الأمر كذلك فأنت إذا قلت للرجل: أنت مضيع للحزم في سعيك

ومخطئ وجه الرشاد، وطالب لما لا تناله إذا كان الطلب على هذه الصفة ومن هذه

الجهة، ثم عقبته بقولك: (وهل يحصل في كف القابض على الماء شيء مما

يقبض عليه) ، فلو تركنا حديث تعريف المقدار في الشدة والمبالغة، ونفي الفائدة

من أصلها جانبًا، بقي لنا ما تقتضيه الرؤية للموصوف على ما وصف عليه من

الحالة المتجددة مع العلم بصدق الصفة. يبين ذلك أنه لو كان الرجل مثلاً على

طرف نهر في وقت مخاطبة صاحبه وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شيء،

فأدخل يده في الماء، وقال: انظر هل حصل في كفي من الماء شيء؟ فكذلك

أنت في أمرك؛ كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون

الفعل [23] .

ولو أن رجلاً أراد أن يضرب لك مثلاً في تنافي الشيئين فقال: هذا وذاك هل

يجتمعان؟ وأشار إلى ماء ونار حاضرين، وجدت لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا

أخبرك بالقول فقال: هل يجتمع الماء والنار؟ وذلك الذي تفعل المشاهدة من

التحريك للنفس، والذي يجب بها من تمكن المعنى في القلب، إذا كانت مستفادة من

العيان، ومتصرفة حيث تتصرف العينان، وإلا فلا حاجة بنا في أن الماء والنار لا

يجتمعان، إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة، واستيثاق بتجربة.

ومما يدلك على أن التمثيل بالمشاهدة يزيد أنسًا وإن لم يكن بك حاجة إلى

تصحيح المعنى، أو بيان لمقدار المبالغة فيه؛ أنك قد تعبر عن المعنى بالعبارة التي

تؤديه، وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس منزعًا نحو أن تقول وأنت تصف

اليوم بالطول: يوم كأطول ما يتوهم وكأنه لا آخر له. وما شاكل ذلك من نحو

قوله:

في ليل صول تناهى العرض والطول

كأنما ليله بالحشر موصول [24]

فلا تجد له من الأنس ما تجده لقوله:

ويوم كظل الرمح قصر طوله [25]

على أن عبارتك الأولى أشد وأقوى في المبالغة من هذا، فظل الرمح على كل

حال متناه، تدرك العين نهايته، وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخر له،

وكذلك تقول: يوم كأقصر ما يتصور وكأنه ساعة وكلمح البصر، و (كلا ولا) ،

فتجد هذا مع كونه تمثيلاً لا يؤنسك إيناس قولهم: أيام كإبراهيم القطا [26] ، وقول

ابن المعتز:

بدلت من يوم كظل حصاة

ليلاً كظل الرمح غير موات [27]

وقول آخر:

ظللنا عند باب أبي نعيم

بيوم مثل سالفة الذباب [28]

وكذا نقول: فلان إذا هم بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره وقلبه، وقصر

خواطره على إمضاء عزمه، ولم يشغله شيء عنه، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن،

ثم لا ترى في نفسك له هزة، ولا تصادف لما تسمعه أريحية، وإنما تسمع حديثًا

ساذجًا وخبرًا غفلاً [29] حتى إذا قلت:

إذا هَمَّ ألقى بين عينيه عزمه [30]

امتلأت نفسك سرورًا وأدركتك طربة - كما يقول القاضي أبو الحسن - لا

تملك دفعها عنك، ولا تقل: إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب شيئًا منه

فليس الأصل له، بل لأن أراك العزم واقفًا [31] بين العينين، وفتح إلى مكان

المعقول من قلبك بابًا من العين.

وههنا إذا تأملنا - مذهب آخر في بيان السبب الموجب؛ لذلك هو ألطف

مأخذًا، وأمكن في التحقيق، وأولى بأن يحيط بأطراف الباب، وهو أن لتصور

الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير محلته، واجتلابه

إليه من النيق البعيد [32] بابًا آخر من الظرف واللطف، ومذهبًا من مذاهب

الإحسان لا يخفى موضعه من العقل. وأحضر شاهدًا لك على هذا أن تنظر

إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات سواء كانت عامية مشتركة،

أم خاصية مقصورة على قائل دون قائل، تراها لا يقع بها اعتداد، ولا يكون لها

موقع من السامعين، ولا تهز ولا تحرك، حتى يكون الشبه مقررًا بين شيئين

مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنرجس عامي مشترك معروف في أجيال

الناس، صار في جميع العادات، وأنت تنظر إلى بعد ما بين العينين وبينه من

حيث الجنس، وتشبيه الثريا بما شبهت به من عنقود الكرم المنور، واللجام

المفضض، والوشاح [33] المفصل، وأشباه ذلك - خاصي، والتباين بين المشبه

والمشبه به في الجنس على ما لا يخفى.

وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد،

كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث

الأريحية أقرب، وذلك أن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف، والمثير للدفين

من الارتياح، والمتألف للنافر من المسرة، والمؤلف لأطراف البهجة، أنك ترى

بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء

والأرض، وفي خلقة الإنسان وخلال الروض، وهكذا طرائف تنثل عليك إذا

فصلت هذه الجملة، وتتبعت هذه اللمحة [34] ؛ ولذلك تجد تشبيه البنفسج في

قوله [35] :

ولازوردية تزهو بزرقتها

بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت

أغرب وأعجب، وأحق بالولوع وأجدر، من تشبيه النرجس بمداهن در

حشوهن عقيق، لأنه إذ ذاك مشبه لنبات غض يرف [36] ، وأوراق رطبة ترى

الماء منها يشف [37] ، بلهب نار مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف [38] ومبني

الطباع وموضوع الجبلة، على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه،

وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان بالشغف

منها أجدر، فسواء في إثارة التعجب، وإخراجك إلى روعة [39] المستغرب،

وجودك الشيء في مكان ليس من أمكنته، ووجود شيء لم يوجد ولم يعرف من

أصله في ذاته وصفته، ولو أنه شبه البنفسج ببعض النبات، أو صادف له شبهًا في

شيء من المتلونات، لم تجد له هذه الغرابة، ولم ينل من الحسن هذا الحظ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الشأو: السَّبْق والغاية والأمد. وقوله: أجد: أي أعظم، والألد الشديد الخصومة.

(2)

السخائم: الضغائن، وسلها نزعها واستخراجها، وغرب السيف حده، وفعل السيف ثلمه، والنفث في العقد هو النفخ فيها مع إلقاء شيء من الريق عليها؛ لأجل تسهيل حلها، ومنه نفث الراقي في العقدة التي يعقدها، ثم يحلها يوهم بذلك الناس أنه أبرم بعقدها رابطة المحبة بين فلان وفلانة، وبحلها أنه حل ذلك العقد وأبطل ذلك الارتباط بسحره، وإن الكلام البليغ ليفعل بحسن التمثيل في حل عقد العقود مالا يفعل السحر، وإن من البيان لسحرًا.

(3)

الغياية بيائين مثناتين كل ما أظلك من فوق رأسك، وقد ذكرنا لكل نوع مما ذكره المصنف من أنواع الكلام أمثلة من القرآن المجيد ومن كلام البشر.

(4)

يشير المصنف إلى سائر مناحي الكلام: كالغزل، والرثاء، والوصف، والشكوى، وهي مع الذي ذكره وشائج متشابكة، وأمشاج متمازجة وأعمها الوصف، فهو الطويل الذيل، المتدفق السيل، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى:[ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ](فصلت: 11)، ومثله قوله تعالى:[وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي](هود: 44) الآية، ومنها قوله تعالى:[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا](إبراهيم: 24-25) وقوله بعده: [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ](إبراهيم: 26)، وهكذا الحق يثبت والباطل يزهق ومن ذلك الرؤى فإنها تمثيل للواقع الذي تعبر عنه: كالرؤى المذكورة في سورة يوسف عليه السلام، ومثاله من الشعر قول ابن النبيه:

والليل تجري الدراري في مجرته

كالروض تطفو على نهر أزاهره

وقول بعضهم في وصف الكأس يعلوها الحباب والساقي (أو هذا من تعدد التشبيه) :

وكأنها وكأن حامل كأسها

إذ قام يجلوها على الندماء

شمس الضحى رقصت فنقط وجهها

بدر الدجى بكواكب الجوزاء

وفي وصف الأمير والجيش:

يهز الجيش حولك جانبيه

كما نقضت جناحيها العقاب

ومنه قولنا في المقصورة في وصف الوفاق:

لم نختلف في مبتدا مسألة

إلا وكان للوفاق المنتهى

كمن على المحيط من دائرة

أنى تفارقا فبعدُ ملتقى

وقولنا منها في وصف روضة:

والشمس تبدو من خلال دوحها

آونة تخفى وطورًا تجتلى

كغادة وضاحة قد أتلعت

من خلل السجوف ترنو والكوى

تلقي على الروض نثير عسجد

فتحسب الروض عروسًا تجتلى

وقولنا منها:

والباسقات رفعت أكفها

تستنزل الغيث وتطلب الندى

ثبت في العلوم الطبيعية أن الأشجار تكون سببًا لنزول المطر، فمثلت هنا بحال المستسقين يجاب دعاؤهم ويليه قولنا:

يمتلج الكربون من ضرع الهوا

تؤثرنا بالأكسجين المنتقى

ومعناه أن الأشجار الباسقة ترضع غاز الكربون وتمتصه من الهواء، تتغذي به وهو سام، لنا وتترك لنا أكسجين الهواء المطهر كالدم في أبداننا باستنشاقنا له في الهواء، فمثلت بحال حي عاقل ينتزع ما يضر الناس، ويؤثرهم بما ينفعهم وقول ابن دريد في وصف النوق:

يرسبن في بحر الدجى وفي الضحى

يطفون في الآل إذا الآل طفا

ومن أحسن ما يدخل من التمثيل في باب الغراميات قول المجنون:

وقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل

بي النقض والإبرام حتى علانيا

وقوله:

كأن القلب ليلة قيل يغدى

بليلى العامرية أو يراح

قطاة عزها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح

وقول بعضهم:

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت

وقع السهام ونزعهن أليم

وقول الآخر:

إني وإياك كالصادي رأى نهلاً

ودونه هوة يخشى بها التلفا

رأى بعينيه ماء عز مورده

وليس يملك دون الماء منصرفا

ومن الأمثال التي تدخل من باب الشكوى (ليس لها راع ولكن حلبة) حلبة بالتحريك جمع حالب، والمثل يضرب للأمة المظلومة، و (ولو كويت على داء لم أكره) يضرب لمن يعاقب على غير ذنب، (وسال بهم السيل وجاش بنا البحر) .

(5)

الضريب المثل والنظير.

(6)

أي بالغ الغاية في القرب.

(7)

مثال المدح ويتلوه مثال الذم.

(8)

الآية قوله تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا]

(الجمعة: 5) والشاعر مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة يهجو قومًا من رواة الشعر، رواه بن بري (ش) .

(9)

الزوامل جمع زاملة، وهي التي يحمل عليها من الإبل وغيرها والأباعر جمع بعير.

(10)

أمر صار مرًّا كمر الثلاثي.

(11)

الأري العسل واشتياره اجتناؤه.

(12)

تطلق الشارة على الهيئة واللباس.

(13)

شروع في مثال الحجاج.

(14)

وفي نسخة بزته.

(15)

وقم الرجل قهره وأذله ورده عن حاجته أقبح الرد، والوقذ الضرب القاتل بغير محدد يكون أطول ألمًا، وأشد تعذيبًا، ولأجله حرمت الموقوذة، ويسند إلى الكلام تجوزًا.

(16)

شروع في أمثلة الوعظ، ولم يمثل للافتخار والاعتذار.

(17)

بهذا اللفظ رواه الطبراني في معجمه الكبير عن أبي برزة بسند حسن.

(18)

المصراع الثاني (وأنثر منظومًا لراعية النعم) وهي أبيات قالها بمصر في إثر مجيئه إليها لما كلمه بعض أصحاب مالك وآخرها:

فمن منح الجهال علمًا أضاعه

ومن منع المستوجبين فقط ظلم.

(19)

هذه الجملة حديث نبوي رواه الطبراني في الأوسط والخطيب عن أبي هريرة ورويناه مسلسلاً بالإشراف عن شيخنا أبي المحاسن القاوقجي، ولا أذكر له رواية بزيادة ولا الظن كاليقين، ورواه أحمد والحاكم الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس بزيادة (أن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت) .

(20)

وفي نسخة المغزى في قوله.

(21)

حنك الغراب بالتحريك منقاره أو سواده، قالهما (ش) .

(22)

الجملة حالية.

(23)

جملة كان لذلك إلخ جواب (لو كان الرجل مثلاً) إلخ.

(24)

البيت لحندج (كقنفذ المري) وصول بالضم بلدة إبراهيم الصولي المشهور، والرواية الصحيحة في الشطر الثاني (كأنما ليلة بالليل موصول) : أي كأن لأنهار بين لياليه.

(25)

البيت لشبرمة بن الطفيل وتمامه (دم الزق عنا واصطفاق المزاهر) ، ويروى واصطكاك المزاهر، وشبرمة كقنفذة، والطفيل بكسر فسكون ففتح.

(26)

ويقال: أباهم أيضًا.

(27)

وأتاه يواتيه طاوعه فهو موات وأصله الهمز.

(28)

السالفة ناصية مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى قَلْت الترقوة، ومن الفرس هاديه: أي ما تقدم من عنقه، وقوله: قلت الترقوة القلت بالفتح النقرة في الجبل، والمراد هنا نقرة الترقوة (ش) .

(29)

الغفل بالضم يوصف به ما يخلو من سمات كماله وحسنه يقال: فلاة غفل: أي لا علم بها، ورجل غفل لم تسمه التجارب، ومصحف غفل إذا جرد عن العواشر ونحوها من المحسنات، وكتاب غفل لم يسم واضعه، والكلام الغفل هنا ما ليس فيه من الحسن ما يؤثر في النفس ويحرك الوجدان.

(30)

الشطر () .

(31)

(32)

النيق بالكسر أرفع موضع في الجبل.

(33)

الوشاح بالضم وبالكسر كرسان من لؤلؤ وجوهر، منظومان يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر - وأديم عريض، يرصع بالجواهر، تشده المرأة بين عاتقيها وكشحها، والمراد هنا الثاني (ش) .

(34)

اللمحة بالفتح إما واحدة اللمح وهو اختلاس النظر، وإما واحدة الملامح وهي محاسن الوجه.

(ش) .

(35)

أي ابن المعتز، ويروى البيتان هكذا:

بنفسج جمعت أوراقه فحكى

كحلاً تشرب دمعًا يوم تشتيت

كأنه وضعاف القضب تحمله

أوائل النار في أطراف كبريت

ويروى الشطر الثالث هكذا مع تأنيث الضميرين كما في الرواية الأولى.

(36)

رف لونه يرف بضم الراء وكسرها رفًا ورفيفًا يرق وتلالاً، ورف النبات اهتز واضطربت أغصانه.

(37)

إما من شف يشف شفوفًا، إذا رق فحكى ما تحته أو من شف يشف شفًا إذا تحرك (ش) .

(38)

الكلف بالتحريك لون بين السواد والحمرة، وحمرة كدرة تعلو الوجه.

(39)

الروعة بالفتح الفزعة والمسحة من الجمال (ش) .

ص: 345

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حكم هيئة كبار العلماء

في كتاب الإسلام وأصول الحكم

هيئة كبار العلماء المجتمعة بصفة تأديبية بمقتضى المادة الأولى بعد المائة من

قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية والإسلامية رقم 10 لسنة 1911 في

دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 (12 أغسطس

سنة 1925) ، برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي

الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين عالمًا من هيئة كبار

العلماء، وهم حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة:

الشيخ محمد حسنين، والشيخ دسوقي العربي، والشيخ أحمد نصر، والشيخ

محمد بخيت، والشيخ محمد شاكر، والشيخ محمد أحمد الطوخي، والشيخ

إبراهيم الحديدي، والشيخ محمد النجدي، والشيخ عبد المعطي الشرشيمي، والشيخ

يونس موسى العطافي، والشيخ عبد الرحمن قراعة، والشيخ عبد الغني محمود،

والشيخ محمد إبراهيم السمالوطي، والشيخ يوسف نصر الدجوي، والشيخ إبراهيم

بصيلة، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري، والشيخ مصطفى الههياوي. والشيخ

يوسف شلبي الشبرابخومي ، والشيخ محمد سبيع الذهبي ، والشيخ محمد حموده ،

والشيخ أحمد الدلبشاني، والشيخ حسين والي، والشيخ محمد الحلبي ، والشيخ

سيد علي المرصفي.

نظرت في التهم الموجهة إلى الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع

الأزهر، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية التي تضمنها

كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ، وأعلنت له في يوم الأربعاء 8 المحرم سنة

1344 (29 يولية سنة 1925) .

وقد قام بعمل السكرتارية لهذه الهيئة محمد قدري أفندي رئيس أقلام

السكرتارية العامة لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية، وعلي أحمد عزت

أفندي الكاتب الأول للجامع الأزهر، والمنتدب بالإدارة العامة للمعاهد الدينية.

***

الوقائع

نشر باسم الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي

الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية الكتاب المسمى (الإسلام وأصول

الحكم) ؛ فقدمت إلى مشيخة الجامع الأزهر عرائض وقع عليها جمع غفير من

العلماء في تواريخ 23 ذي القعدة وأول و8 ذي الحجة سنة 1343 (15 و23 و30

يونية سنة 1925) وقد تضمنت أن الكتاب المذكور يحوي أمورًا مخالفة للدين

ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة. منها:

1-

جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم

والتنفيذ في أمور الدنيا.

2-

وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل

الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.

3-

وأن نظام الملك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض

أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة.

4-

وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغًا للشريعة مجردًا عن

الحكم والتنفيذ.

5-

وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة

ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا.

6-

وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية.

7-

وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا

دينية.

وقرر حضرة صاحب الفضيلة الشيخ الأكبر محمد أبي الفضل شيخ الجامع

الأزهر، بناءً على ذلك اجتماع هيئة كبار العلماء بصفة تأديبية في يوم الأربعاء 15

المحرم سنة 1344 (5 أغسطس سنة 1925) الساعة العاشرة صباحًا في دار

الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 8

المحرم سنة 1344 (29 يولية سنة 1925) ، وكلف الحضور أمام

الهيئة المذكورة في التاريخ والمكان المذكورين.

وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ

الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور ثلاثة وعشرين عالمًا

من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً عدا فضيلة الأستاذ الشيخ

دسوقي العربي، ولم يحضر الشيخ علي عبد الرازق، وإنما أرسل خطابًا مؤرخًا

في 14 المحرم سنة 1344 يطلب فيه إعطاءه فرصة طويلة، تكفي لإعداد ما يلزم

للمناقشة، وقد عرض الكتاب على الهيئة في هذه الجلسة؛ فقررت تأجيل النظر في

الموضوع إلى يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925)

الساعة العاشرة صباحًا في دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ

علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 25 المحرم سنة 1344 (5 أغسطس سنة

1925) .

وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ

الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين

عالمًا من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً، وقد حضر الشيخ علي

عبد الرازق أمام هذه الهيئة، وسئل عن كتابه (الإسلام وأصول الحكم) المشار

إليه؟ فاعترف بصدوره منه، ثم تليت عليه التهم الموجهة إليه ومآخذها من كتابه،

وقبل إجابته عنها وجه دفعًا فرعيًّا، وهو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية،

وطلب ألا تعتبر الهيئة حضوره أمامها اعترافًا منه بأن لها حقًّا قانونيًّا.

فبعد المداولة القانونية في هذا الدفع قررت الهيئة رفضه؛ اعتمادًا على أنها

إنما تنفذ حقًّا خوله إياها القانون، وهي المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع

الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911.

ثم دعي الشيخ علي عبد الرازق أمام هذه الهيئة، فأعلن له حضرة صاحب

الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس رفض دفعه طبقًا للمادة المذكورة، فطلب الشيخ علي

عبد الرازق أن تسمع له الهيئة مذكرة أعدها للدفاع عن التهم الموجهة إليه، فأذن له

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس أن يتلوها فتلاها، وبعد الفراغ من

تلاوتها وتوقيعه على كل ورقة منها أخذت منه وحفظت في أضمامة الجلسة، ثم

انصرف.

***

هيئة كبار العلماء

بعد الاطلاع على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) المطبوع في مطبعة مصر

الطبعة الأولى سنة 1343 هـ الموافقة سنة 1925 م السابق الذكر والعلم بما

تضمنه من الأمور المخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية،

وإجماع الأمة، وسماع ما جاء في مذكرة دفاع الشيخ علي عبد الرازق عن التهم

الموجهة إليه.

وبعد الاطلاع على المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع الأزهر والمعاهد

الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911، وعلى المادة الرابعة من هذا

القانون.

وبعد المداولة القانونية:

من حيث إن الشيخ عليًّا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا

علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا، فقد قال في ص 78 و79: (والدنيا من

أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على

تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلمنا من

أسماء ومسميات، هي أهون عند الله من أن يبعث لها رسولاً، وأهون عند رسل

الله من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدبيرها) .

وقال في ص 85: (إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب

وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير.

وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا. وسيان أن يكون

منها للبشر مصلحة مدنية أم لا. فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر

إليه الرسول) .

الدين الإسلامي بإجماع المسلمين ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من

عقائد وعبادات ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة.

وإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلاهما مشتمل على

أحكام كثيرة في أمور الدنيا وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.

والشيخ علي في ص 78 و79 يزعم أن أمور الدنيا قد تركها الله ورسوله -

صلى الله عليه وسلم تتحكم فيها عواطف الناس وشهواتهم. وفي ص 85 زعم

أن ما جاء به الإسلام إنما هو المصلحة الأخروية لا غير، وأما المصلحة المدنية أو

المصلحة الدنيوية، فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه

الرسول.

وواضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت

لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط. أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية

وتدبير الشؤون العامة؛ فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها.

وهل في استطاعة الشيخ علي أن يشطر الدين الإسلامي شطرين، ويلغي منه

شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسوله

صلى الله عليه وسلم عرض الحائط؟ وقد قال الشيخ عليّ في دفاعه: إنه لم يقل

ذلك مطلقًا لا في الكتاب ولا في غير الكتاب، ولا قال قولاً يشبهه أو يدانيه.

وقد علمت أن ذلك واضح من كلامه الذي نقلناه لك ، وقد ذكر مثله في مذكرة دفاعه.

وقال في دفاعه أيضًا: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بقواعد وآداب

وشرائع عامة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة والأمم، فكان

فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش والجهاد، وللبيع والمداينة والرهن، ولآداب

الجلوس والمشي والحديث) . إلخ ص 84.

غير أنه قال عقب ذلك ص 84 أيضًا: ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما

شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في

شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم

إلى آخره.

فآخر كلامه في الصحفة المذكورة يهدم كلامه، ولا ينفعه ركونه إلى حديث:

(لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما متع الكافر منها بشربة ماء) .

وحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، لأن الحديث الأول ضعيف لا يصلح حجةً ،

وهو على فرض صحته وارد في معرض التزهيد في الدنيا وعدم الإفراط في طلبها،

وليس معناه كما يزعم الشيخ عليّ أن تترك الناس فوضى تتحكم فيهم العواطف

والشهوات ليس لهم حدود يقفون عندها، ولا معالم ينتهون إليها.

ولو لم يكن معناه كما ذكرنا؛ لهدم آيات الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، وصادم

آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ

الدُّنْيَا} (القصص: 77)، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ

لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (المائدة: 87) .

ولأن الحديث الثاني وارد في تأبير النخل وتلقيحه، ويجري فيما يشبه ذلك

من شؤون الزراعة وغيرها من الأمور التي لم تجئ الشريعة بتعليمها، وإنما

تجيء لبيان أحكامها من حل وحرمة، وصحة وفساد ونحو ذلك، يعلم ذلك من له

صلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهل يجترئ الشيخ علي أن يسلخ الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا من الدين،

ويترك الناس لأهوائهم ويقول: (إن ذلك من الأغراض الدنيوية التي أنكر النبي صلى

الله عليه وسلم أن يكون له فيها حكم وتدبير) ، ويدعي على النبي صلى الله

عليه وسلم هذه الدعوى.

وهل يرى الشيخ علي أن تدبير أمور الدنيا، وسياسة الناس أهون عند الله من

مشية يقول الله في شأنها: {وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} (الإسراء: 37) ،

وأهون عند الله من شيء من المال يقول الله في شأنه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: 5) ويقول أيضًا: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ

البَسْطِ} (الإسراء: 29) ، وأهون عند الله من صاع شعير أو رطل ملح، يقول

الله في شأنهما: {أَوْفُوا الكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ

المُسْتَقِيمِ} (الشعراء: 181-182) .

وماذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ

لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105)، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم

بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة: 49)

، وقوله تعالى: {إِنَّ

اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ

إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29) ، وقوله تعالى في شأن

الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا

إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) .

وماذا يعمل الشيخ علي في مثل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن

ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها، فاختصموا إلى النبي صلى

الله عليه وسلم، فأمر بالقصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أتقتص من فلانة؟

لا والله. فقال: (سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص) . ومثل ما رواه

البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما - أنه قال: قضى

رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود

وصرفت الطرق فلا شفعة. وما رواه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه

قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع. وما

رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى

الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه - وما رواه أيضًا عن ابن عباس -

رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.

(2)

ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه

وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.

فقد قال في ص 52: (وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة

إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله) .

ثم قال في ص 53: (وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة

والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين،

وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك) .

فالشيخ علي في كلامه هذا يقطع بأن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم

كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.

وفي كلامه الذي سنذكره زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاده - صلى الله

عليه وسلم - كان في سبيل الملك.

فقد قال في ص54: (قلنا: إن الجهاد كان آية من آيات الدولة الإسلامية،

ومثالاً من أمثلة الشؤون الملكية، وإليك مثلاً آخر: كان في زمن النبي - صلى الله

عليه وسلم - عمل كبير متعلق بالشؤون المالية من حيث الإيرادات والمصروفات،

ومن حيث جمع المال من جهاته العديدة (الزكاة والجزية والغنائم إلخ) ، ومن

حيث توزيع ذلك كله بين مصارفه، وكان له صلى الله عليه وسلم سعاة وجباة

يتولون ذلك له، ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي؛ بل هو من أهم مقومات

الحكومات) .

ثم قال في ص55: إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن

إلى الحكم بأنه صلى الله عليه وسلم كان رسولاً وملكًا، فسوف يعترضه حينئذ

بحث آخر جدير بالتفكير، فهل كان تأسيسه صلى الله عليه وسلم المملكة

الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب شيئًا خارجًا عن حدود رسالته صلى الله عليه

وسلم؟ أم كان جزءًا مما بعثه الله له، وأوحى به إليه؟ فأما أن المملكة النبوية عمل

منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في

مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك

رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا إلحادًا، وربما كان

محمولاً على هذا المذهب ما يراه بعض الفرق الإسلامية من إنكار الخلافة في

الإسلام مرة واحدة. ولا يهولنك أن تسمع أن للنبي صلى الله عليه وسلم عملاً

كهذا خارجًا عن وظيفة الرسالة، وأن ملكه الذي شيده هو من قبيل ذلك العمل

الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فذلك قول إن أنكرته الأذن - لأن التشدق به

غير مألوف في لغة المسلمين - فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة وروح التشريع

وتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه،

بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا، ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدًا) .

فعلم من كلامه هذا أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه

وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين،

وهذا أقل ما يؤخذ عليه في مجموعة نصوصه.

على أنه لم يقف عند هذا الحد، بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك،

ومن الشؤون الملكية جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم ونحو ذلك في سبيل

الملك أيضًا، وجعل كل ذلك على هذا خارجًا عن حدود رسالة النبي صلى الله عليه

وسلم، لم ينزل به وحي، ولم يأمر به الله تعالى.

ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله: (إننا قد استقصينا الكتاب أيضًا فلم

نجد ذلك القول فيه، وربما كان استنتاجًا لم نهتد إلى مقدماته) . غير صحيح؛ لأن

ما اتهم به نجده صريحًا في صحيفة 52 و53 و54. وفي ص55 حيث يقول:

(وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا

إلحادًا) ، وحيث يقول بعد ذلك: (فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة، وروح التشريع

وتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه،

بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا) .

ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله: (إنه رأي من الآراء لم نرض به،

ومذهب رفضنا آخر الأمر أن نذهب إليه) ، غير مطابق للواقع؛ لأنه قال: (وهو

على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه) إلى آخره، وقوله بعد ذلك: (ولكنه على

كل حال رأي نراه بعيدًا) لا ينفعه، فإنه مع قوله: وهو على ذلك رأي صالح لأن

يذهب إليه، إلى آخره - أسلوب تجويز لا أسلوب رفض، يعرف ذلك من له إلمام

بالمنطق وأساليب الكلام.

وقال الشيخ علي في دفاعه بعد ذلك: (بل نحن قررنا ضد ذلك على خط

مستقيم ص70 حيث قلنا

(وفي سبيل هذه الوحدة الإسلامية ناضل - عليه

السلام - بلسانه وسنانه) ، وقلنا في ص79: (لا يريبنك هذا الذي ترى أحيانًا في

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك

والدولة، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي

كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إليها تثبيتًا للدين وتأييدًا للدعوة، وليس

عجيبًا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل) .

ودفاعه هذا لا يجدي، فإنه زعم أن ما قاله هنا ضد لما اتهم به، والواقع أنه

ليس ضدًّا؛ لأنه ساقه محتملاً أن يكون نضاله وجهاده عليه الصلاة والسلام

مما خرج عن حدود رسالته صلى الله عليه وسلم، وأن يكون جزءًا مما بعثه الله له

وأوحى به إليه على الرأيين اللذين قررهما الشيخ علي، فالتهمة الموجهة إليه باقية.

والشيخ علي بذلك لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز فضلاً عن

صريح الأحاديث الصحيحة المعروفة، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين

بالضرورة.

قال الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 84)، وقال تعالى:

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} (النساء: 74) ،

وقال تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) ،

وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43)، وقال تعالى:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) ، وقال تعالى في

بيان مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ

قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} (التوبة: 60)، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ

وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى

يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29)، وقال تعالى: {َاعْلَمُوا

أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ

السَّبِيلِ} (الأنفال: 41) .

(3)

ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

كان موضع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة، فقد قال في

ص40: (لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم غامضة

ومبهمة من كل جانب) .

وقال في ص46: (كثيرًا كلما أمعنا في حال القضاء زمن النبي - صلى الله

عليه وسلم -، وفي حال غير القضاء أيضًا من أعمال الحكم وأنواع الولاية - وجدنا

إبهامًا في البحث يتزايد، وخفاءً في الأمر يشتد، ثم لا تزال حيرة الفكر تنقلنا من

لبس إلى لبس، وتردنا من بحث إلى بحث، إلى أن ينتهي النظر بنا إلى غاية ذلك

المجال المشتبه الحائر) .

وقال في ص57: (إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسس

دولة سياسية أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته إذًا من كثير من أركان الدولة

ودعائم الحكم،؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم

يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في

حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا ولماذا؟ نريد أن

نعرف منشأ ذاك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص أو ما شئت

فسمه، في بناء الحكومة أيام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كان ذلك وما

سره؟) .

وهذا تصريح من الشيخ علي بما يثبت التهمة.

وإذا كان قد اعترف ببعض أنظمة للحكم في الشريعة الإسلامية، فإنه نقض

الاعتراف، وقرر أن هذه الأنظمة ملحقة بالعدم.

قال في ص84: (ربما أمكن أن يقال: إن تلك القواعد والآداب والشرائع

التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم للأمم العربية ولغير الأمم العربية

أيضًا كانت كثيرة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم،

فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش وللجهاد وللبيع والمداينة والرهن، ولآداب

الجلوس والمشي والحديث وكثير غير ذلك) ، ثم قال: (ولكنك إذا تأملت وجدت

أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من

أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي،

ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما

يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين) .

ومن حيث إنه قال في دفاعه: إنه ساق ذلك مساق الاعتراض على من يقول:

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان صاحب حكومة. وإنه أخذ في رد

الاعتراض عقب توجيهه. ولكنه رد الاعتراض بجوابين لم يرتض واحدًا منهما

ص59 و63؛ فالتهمة باقية.

وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهبًا هو قوله: (إنما كانت ولاية محمد - صلى

الله عليه وسلم - على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم) - ص

80 -

وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها، وهي أنه جرد النبي - صلى

الله عليه وسلم - من الحكم، وقال:(رسالة لا حكم، ودين لا دولة) .

وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى:

{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) ،

وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) ، وقال

تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقال

تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ، ومعلوم أن الرد إلى

الله بالرجوع إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول بالرجوع إلى سنته صلى الله

عليه وسلم، وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، والدين عند المسلمين ما جاء به محمد - صلى

الله عليه وسلم - من عند الله في معاملة الخالق والمخلوق.

(4)

ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغًا

للشريعة مجردًا عن الحكم والتنفيذ، فقد قال الشيخ علي في ص71: (ظواهر

القرآن المجيد تؤيد القول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له شأن في

الملك السياسي، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ

المجرد من كل معاني السلطان) .

ثم عاد فأكد ذلك فقال في ص73: (القرآن كما رأيت صريح في أن

محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى

إلى الناس، وأنه لم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس

بما جاء به، ولا أن يحملهم عليه) .

ولو كان الأمر كما زعم هو لكان ذلك رفضًا لجميع آيات الأحكام الكثيرة في

القرآن الكريم. ودون ذلك خرط القتاد.

وقد قال الشيخ علي في دفاعه: (إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة

لا مواربة فيها أن للنبي صلى الله عليه وسلم سلطانًا عامًا، وأنه ناضل في

سبيل الدعوة بلسانه وسنانه) .

وهذا دفاع لا يجدي؛ إذ لو كان معنى ذلك الذي قرره في ص66 و70 كما

أشار إليه أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السماوي يتجاوز حد البلاغ

المجرد عن كل معاني السلطان، لما كان سائغًا أن يقول بعد ذلك في صفحة 71:

إن آيات الكتاب متضافرة، على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد

من كل معاني السلطان. وأن يقول بعد ذلك في صفحة 73: إن القرآن صريح في

أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى

الناس، ولم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به،

ولا أن يحملهم عليه.

والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو السلطان الروحي كما صرح به في

مذكرة دفاعه، حيث قال فيها: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستولي

على كل ذلك السلطان، لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن

الملوك والحكام، ولكن من طريق الإيمان به إيمانًا قلبيًّا والخضوع له خضوعًا

روحيًّا) فكان دفاعه إثباتًا للتهمة لا نفيًا لها.

على أنه قد نسب في ص65 و66 السلطان إلى عوامل أخرى من نحو: الكمال

الخلقي، والتميز الاجتماعي، لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم، كما أنه جعل

الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي صلى الله عليه وسلم

أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة، ولم ينسبه إلى وحي الله وأمره.

وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه،

ويثبت أن مهمته صلى الله عليه وسلم تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم

والتنفيذ، فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا

أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105)، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا

تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49) ،

وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى: 15)، وقال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103)، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ

كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39)، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ

الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29)، وقال تعالى:

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 84)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ

المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ} (الأنفال: 65)، وقال تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ

فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: 61)، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ

المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي

حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9) .

وكلام الشيخ علي مخالف أيضًا لصريح السنة الصحيحة، فقد روى البخاري

في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن

لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا

ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام) ، وروى عن أبي سلمة عن

أبي هريرة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد

شرب فقال: اضربوه. وروى عن عروة رضي الله عنه أن قريشًا أهمتهم

المرأة المخزومية التي سرقت، وقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام

فخطب، فقال: (يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف

تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد

سرقت لقطع محمد يدها) .

فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد صلى الله عليه وسلم: إن عمله

السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وإنه لم يكلف أن

يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه؟

وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم: إنه صريح في أنه صلى الله

عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس، وليس عليه أن

يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.

(5)

ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا

بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا، فقد قال في ص22: (أما دعوى

الإجماع في هذه المسألة - وجوب نصب الإمام - فلا نجد مساغًا لقبولها على أي

حال، ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل، على أننا مثبتون لك فيما يلي أن

دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة، سواء أرادوا بها إجماع الصحابة

وحدهم، أم الصحابة والتابعين، أم علماء المسلمين، أم المسلمين كلهم بعد

أن نمهد لهذا تمهيدًا) .

ادعى الشيخ علي في ذلك التمهيد أن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي

كان سيئًا، على الرغم من توافر الدواعي التي تحمل على البحث فيها، وأهمها أن

مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان غرضه للخارجين عليه، غير أن حركة

المعارضة كانت تضعف وتقوى. ثم ساق بعض أمثلة يؤديد بها ما يدعيه من أن

الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا.

ولو سلم للشيخ علي ذلك جدلاً لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة

على وجوب نصب إمام للمسلمين، فإن إجماعهم على ذلك شيء، وإجماعهم على

بيعة إمام معين شيء آخر. واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على

وجوب نصب الإمام، أي إمام كان، وقد ثبت إجماع المسلمين على امتناع خلو

الوقت من إمام، ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار.

وقد اعترف الشيخ علي عبد الرازق في دفاعه بأنه ينكر الإجماع على وجوب

نصب الإمام بالمعنى الذي ذكره الفقهاء، وقال عن نفسه: إنه يقف في ذلك في

صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة. (يعني بعض الخوارج ولا صم) ،

وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين، وحسبه في

بدعته أنه في صف الخوارج لا في صف جماهير المسلمين. وهل وقوفه في

صف الخوارج الذين خالفوا الإجماع بعد انعقاده يسوغ له أن يخرج على إجماع

المسلمين؟ قال في المواقف وشرحه: (تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام،

حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته المشهورة حين وفاته عليه

السلام: ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى

قبوله، ولم يقل أحد: لا حاجة إلى ذلك، بل اتفقوا عليه وقالوا: ننظر في هذا

الأمر. وبكروا إلى سقيفة بني ساعدة، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله

صلى الله عليه وسلم. واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك الاتفاق، ولم يزل

الناس على ذلك في كل عصر إلى زمننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر) .

وقد روى مسلم في صحيحه حديث حذيفة، وقد جاء فيه أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، قلت: فإن لم يكن لهم إمام،

قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك

الموت) وروى مسلم أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خلع يدًا

من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات

ميتة جاهلية) ، وروى مسلم أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي

وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم

حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم) ، وروى مسلم أيضًا عن النبي - صلى الله

عليه وسلم - أنه قال: (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى

الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه) .

(6)

ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية، فقد قال في ص103:

(والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا، ولا القضاء ولا غيرهما من

وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين

بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع

فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة) .

وكلام الشيخ علي في دفاعه يقضي بأن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة

شرعية جعلوه متفرعًا عن الخلافة، فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.

وكلامه غير صحيح؛ فالقضاء ثابت في الدين على كل تقدير تمسكًا بالأدلة

الشرعية التي لا يستطاع نقضها، وقد ذكرنا فيما تقدم كثيرًا من الآيات والأحاديث

في الحكم والقضاء، وسنذكر شيئًا من ذلك فيما يأتي: -

وقال الشيخ علي في دفاعه: (إن الذي أنكر أنه خطة شرعية إنما هو جعل

القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة، واتخاذه مقامًا ذا أنظمة

معينة وأساليب خاصة) .

وهو دفاع غير صحيح، فإن عبارته في صفحة 103 فيها إنكار أن القضاء

نفسه خطة دينية، وقد زعم أنه خطة سياسية صرفة لا شأن للدين فيها.

وقد نقل عن ميزان الشعراني في دفاعه (أن الإمام أحمد في أظهر رواياته

يرى أنه -أي: القضاء- ليس من فروض الكفايات، ولا يجب على من تعين له

الدخول فيه وإن لم يوجد غيره) .

وهذا دفاع عن القضاء نفسه. وبذلك يتبين أيضًا أنه قد أنكر أن القضاء نفسه

وظيفة شرعية، لا جعل القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة،

واتخاذه مقامًا ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة. فلزمته التهمة.

واستناده على ما نقله الشعراني في ميزانه عن الإمام أحمد استناد لا ينفعه،

فإن الذي حرر من ميزان الشعراني إنما هو إلى باب ما يحرم من النكاح، وقد ذكر

ذلك الشعراني نفسه في ص8 من الجزء الأول من الميزان، وكتاب الأقضية واقع

بعد ذلك بسبعة عشر كتابًا، فكتاب الأقضية في ميزان الشعراني لم يحرر حتى

يكون ما فيه مستندًا صحيحًا. وقال صاحب الإشاعة في أشراط الساعة: إن

الشعراني لم يحرر ميزانه في حياته، وإنه قال: لا أحل لأحد أن يروي هذا الكتاب

عني حتى نعرضه على علماء المسلمين ويجيزوا ما فيه. انتهى كلامه، والمعروف

في كتب الحنابلة أن القضاء من فروض الكفايات. راجع ص258 من الجزء الرابع

من المنتهى، وص968 من الإقناع، وص580 من المقنع، وقد ذكر محشيه عند

قوله: (وهو فرض كفاية) : إن ذلك هو المذهب. وذكر قولاً عن الإمام أحمد بأن

القضاء سنة. فإذا لم يكن القضاء فرض كفاية عند الإمام أحمد فهو سنة عنده

والمسنون من الخطط الشرعية، فما زعمه الشيخ علي من إنكار أن القضاء وظيفة

شرعية وخطة دينية باطل ومصادم لآيات الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {فَلَا

وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا

قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65)، وقال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ

اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ} (المائدة: 48)

، وقال تعالى:

{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) ،

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ

النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) .

(7)

ومن حيث إنه يزعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده - رضي

الله عنهم - كانت لا دينية [1] فقد قال في صفحة 90: (طبيعي ومعقول لي درجة

البداهة ألا توجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم زعامة دينية، وأما الذي يمكن

أن يتصور وجوده فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائمًا

على الدين، هو إذًا نوع لا ديني) .

وهذه جرأة لا دينية، فإن الطبيعي والمعقول عند المسلمين إلى درجة البداهة

أن زعامة أبي بكر رضي الله عنه كانت دينية، يعرف ذلك المسلمون سلفهم

وخلفهم جيلاً بعد جيل، ولقد كانت زعامته على أساس (أنه لا بد لهذا الدين ممن

يقوم به) ، وقد انعقد على ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين - كما

سبق.

ودفاع الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا

تستند إلى وحي ولا إلى رسالة مضحك موقع في الأسف، فإن أحدًا لا يتوهم أن أبا

بكر رضي الله عنه كان نبيًّا يوحى إليه، حتى يعنى الشيخ علي بدفع هذا

التوهم.

لقد بايع أبا بكر رضي الله عنه جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين

على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم

فقام بالأمر خير قيام، ومثله في هذا بقية الخلفاء الراشدين.

وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر رضي الله عنه من أن حكومته لا

دينية لم يقدم على مثله أحد من المسلمين ، فالله حسبه.

ولكن الذي يطعن في مقام النبوة يسهل عليه كثيرًا أن يطعن في مقام أبي بكر

وإخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.

ومن حيث إنه - علاوة على ما ذكر - يقف الشيخ علي في ص 34 و35 من

المسلمين موقف الطاعن على دليلهم الديني، والخارج على إجماعهم المتواتر الذي

انعقد على شكل حكومتهم الدينية، أو موقف المجيز للمسلمين إقامة حكومة بلشفية،

وكيف ذلك والدين الإسلامي في جملته وتفصيله يحارب البلشفية؛ لأن البلشفية فتنة

في الأرض وفساد كبير. لقد وضع الدين الإسلامي للمواريث أحكامًا يلجأ إليها

أحيانًا غير المسلمين لما فيها من الرحمة والعدل، وأوجب على المسلمين مقادير من

الصدقات، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وأمر بإقامة الحكومة الدينية التي

تحفظ لكل ذي حق حقه، ولكل عامل ثمرة عمله، وجعل الدماء والأعراض

والأموال حرمة لا يجوز انتهاكها، وضرب على أيدي المفسدين في الأرض،

وحسبنا في ذلك أن نقول: إن البلشفية تهدم نظام المجتمع الإنساني، وتضيع حكمة

الله في جعل الناس درجات ينتفع بعضهم من بعض، قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا

بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم

بَعْضاً سُخْرِياً} (الزخرف: 32) .

ومن حيث إن الشيخ عليًّا يقول في ص 103: (لا شيء في الدين يمنع

المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا

ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام

حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على

أنه خير أصول الحكم) ، ومعلوم أن أصول الحكم ومصادر التشريع عند المسلمين

إنما هي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين،

وليس هناك للمسلمين خير منها. والشيخ علي يطلب أن يهدموا ما بنوه على هذه

الأصول من نظام حكومتهم (العتيق) ، ويطلب إليهم أن يبنوا حكومتهم وشؤونهم

الدينية والدنيوية على أصول خير من أصولهم، يجدونها عند الأمم غير الإسلامية،

فكيف يبيح دين الإسلام للمسلمين أن يهدموه؟!

ومن حيث إنه يزعم في ص 83 و84 أن النبي صلى الله عليه وسلم لم

يغير شيئًا من أساليب الحكم عند أي أمة أو قبيلة في البلاد العربية، وإنما تركهم

وما لهم من فوضى أو نظام، وهذا طعن صريح على محمد صلى الله عليه وسلم

- بأنه لم يرسل لسعادة الناس في دينهم ودنياهم، وطعن صريح على كتاب الله

تعالى بأنه غير وافٍ بما يلزم في الشؤون الاجتماعية، وقد قال الله تعالى: {وَمَا

أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي

وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ *

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ

يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ

وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ

وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: 156-157) ،

وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ

دِيناً} (المائدة: 3) .

ومن حيث إنه تبين مما تقدم أن التهم الموجهة ضد الشيخ علي عبد الرازق

ثابتة عليه، وهي مما لا يناسب وصف العالمية وفاقًا للمادة (101) من القانون

رقم 10 لسنة 1911 ونصها:

(إذا وقع من أحد العلماء أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ما لا يناسب وصف

العالمية، يحكم عليه من شيخ الجامع الأزهر بإجماع تسعة عشر عالمًا معه من هيئة

كبار العلماء، المنصوص عليها في الباب السابع من هذا القانون بإخراجه من زمرة

العلماء، ولا يقبل الطعن في هذا الحكم.

ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع

الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة

كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية) .

فبناءً على هذه الأسباب:

حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالمًا معنا من هيئة

كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي

الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية، ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول

الحكم) من زمرة العلماء.

صدر هذا الحكم بدار الإدارة العامة للمعاهد الدينية في يوم الأربعاء 22

المحرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925) .

...

...

...

...

شيخ الجامع الأزهر

***

تنفيذ الحكم

(وهو النصر المبين، لأهل الدين على اللادينيين)

كان الشيخ علي عبد الرازق مغرورًا بأنصاره من الإفرنج والمتفرنجين،

وملاحدة اللادينيين، ظانًّا أنهم يرهبون - بما يكتبون في جريدة السياسة - كبار

علماء الدين، فلا يتجرؤون على الحكم عليه، ثم إنه كان متكلاً على الوزيرين

النافذي الرأي: إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية، وعبد العزيز فهمي باشا

وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري، واثقًا هو وأنصاره اللادينيون بأن

يبقى في وظيفته القضاء الشرعي، بالرغم من أنوف كبار العلماء إن هم حكموا

بإخراجه من جماعتهم - وبلغنا أن وزير الحقانية وعده ببقائه في منصب القضاء

الشرعي الذي أنكر هو كونه منصبًا شرعيًّا بالتبع لإنكار كون منصب الخلافة دينيًّا؛

أي: مقيدًا بأحكام الدين. كما علم واشتهر أن إسماعيل صدقي باشا لم يحفل بقرار

هيئة العلماء الذي بلغته إياه قبل المحاكمة، ولم يجب إلى ما طلبه بعضهم منه من

مصادرة الكتاب - وإننا لم نكن نعلم من هذا شيئًا حين كتبنا في إحدى مقالاتنا في الرد

على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) : إننا نعلم أن من أنصاره بعض الباشوات

والدكاترة، وغيرهم من الأكابر، وأنهم أقوياء، ولكن قوتهم تتضاءل أمام قوة ملك

البلاد. وقد عاقبتنا جريدة السياسة على القول بنشر تهمة غريبة تتهمنا فيها بأعمال

دينية سياسية تغضب علينا - لو صحت - جلالة الملك وحكومته، وتجعلنا

عرضة للعقاب، ولكن الحكومة كذبت التهمة، وقد أشير علينا يومئذ أن نقاضي جريدة

السياسة على تلك التهمة، فقلنا: إنه لا يليق بنا - معشر أرباب الصحف - أن

نتقاضى إلى الحكام، وقد صرف الله عنا شر التهمة الباطلة بسلام.

هذا الغرور والاتكال على الوزراء والأحزاب هو الذي جرأ الشيخ علي عبد

الرازق على تهديد هيئة كبار العلماء في مقال نشرته له السياسة في صدر عددها

الذي صدر في 20 ذي الحجة سنة 1343، نهاهم فيه أن تأخذهم العزة بالإثم،

وتقحم بهم في أودية ليس عليها دليل، وتهجم بهم على موارد لا يجدون عنها

مصدرًا، وتنتهي بهم إلى عواقب لا يحمدون عندها السرى، ثم قال: يا أيها

السادة لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، ولا تركبوا للانتقام مركبًا أخاف أن

يرديكم قبل أن يصل بكم إلى الانتقام.

إن شر ما ترجونه لنا لهو خير ما نرجو لأنفسنا، ولئن كنا غالبين أو

مغلوبين، فإن لنا في الحالتين، لإحدى الحسنيين، أما أنتم أيها السادة فخافوا على

أنفسكم شرين مالكم من أحدهما بد، شر الانتصار إن غَلَبْتُمْ، وشر الهزيمة إن غُلِبْتُمْ

أنا النذير لكم مني مجاهرة

كيلا ألام على نهجي وإنذاري

فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا

أن سوف تلفون خزيًا ظاهر العار

ثم كررت جريدة السياسة بلسانها وألسنة كتابها أمثال هذه النذر بما هو أشد

تهديدًا ووعيدًا وتقريعًا وتثريبًا، ولكن الحكم صدر ثم نفذ، ولقد امتنع عبد العزيز

باشا عن تنفيذه، فكان جزاؤه العزل من الوزارة، ثم كان جزاء حزبه الحر

الدستوري الخروج من الوزارة أيضًا، فقد استقال سائر وزراء الحزب حتى

إسماعيل باشا صدقي، فقبلت استقالتهم أجمعين، وكانوا يظنون أنها لا تقبل، وأن

الحكومة الشاذة المعطلة للدستور لا تقوم إلا بهم.

تنفيذ هذا الحكم من الجهة العامة منوط في القانون برئيس الوزراء، ومقتضى

التنفيذ طرد الشيخ علي عبد الرازق من منصب القضاء الشرعي التابع لوزارة

الحقانية، ورئيس الوزراة الآن في أوربة، ونائبه يحيى باشا إبراهيم وزير المالية،

وهو الذي بلغ وزير الحقانية الحكم مع توقيعه عليه بالتنفيذ، وكان الواجب على

وزير الحقانية إخراج الشيخ علي عبد الرازق بمقتضاه من القضاء من غير تريث،

ولكنه لم يفعل، بل أحاله على لجنة قسم القضايا في الوزارة مبينًا لها ما عنده من

الإشكال في تنفيذه لترى رأيها فيه. وهذا نص عبارته في ذلك نقلاً عن جريدتهم

(السياسة)

قال وزير الحقانية بعد الديباجة:

(وحيث إننا نتشكك كثيرًا (أولاً) : فيما إذا كان نص الفقرة الأولى من

المادة 101 من قانون الأزهر نمرة 10 سنة 1911 يقصر الموضوع الذي تختص

هيئة كبار العلماء بالنظر فيه على الأفعال الشائنة التي تمس كرامة العالم: كالفسق

وشرب الخمر، والميسر، والرقص، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالسلوك الشخصي،

أم هو يتعدى ذلك إلى الخطأ في الرأي في الأبحاث العلمية والدينية، من مثل ما

نسب للشيخ علي عبد الرازق، ووقعت المحاكمة فيه.

(ثانيًا) : على فرض أن اختصاص تلك الهيئة شامل - بمقتضى النص -

لجريمة الفعل الشائن، الماس بكرامة العالم، ولجريمة الرأي معًا، فهل هذا النص

مستمر النفاذ للآن فيما يتعلق بجريمة الرأي ولا تأثير لأحكام المواد 12 و14

و167 من الدستور فيها؟

(ثالثًا) : إن كان نص الفقرة المذكورة عامًّا يشمل الجريمتين، وكان لا

تأثير لشيء من أحكام الدستور فيه، وكان الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء

بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء صحيحًا، فهل الفقرة الأخيرة من

المادة 101 المذكورة - وهي المنصوص فيها على العقوبات التبعية - هي أيضًا

واجبة التنفيذ لم ينسخها شيء من أحكام مواد الدستور المذكورة أو غيرها من

أحكامه) .

(لذلك نرسل لجنابكم أوراق هذا الموضوع رجاء عرضها على لجنة قضايا

الحكومة مجتمعة لدراسته وموافاتنا برأيها فيه، والرجاء عند البحث ملاحظة سلطة

شيخ الجامع الأزهر المبينة بالمادة الرابعة من القانون المذكور، فإنها بالنسبة للعلماء

خاصة بالإشراف على سيرتهم الشخصية، وكأنه يظهر لنا أن الفقرة الأولى من

المادة 101 المذكورة هي الوازع في هذا الصدد، فقد يجوز أن يفسرها ذلك على ما

يظهر) .

...

...

... بولكلي في 5 سبتمبر سنة 1925

(المنار)

قد كان هذا الاستفتاء من عبد العزيز باشا فهمي مستنكرًا من جماهير الناس

وجميع الأحزاب - ما عدا حزبه طبعًا - واشتدت مؤاخذتهم إياه عليه حتى بما لا

يرضاه الأدب كسنة جريدة حزبه، ومن أقوى وجوه تلك المؤاخذة المنطقية التي

تعنينا أن الاستفتاء من وزير مسلم في حكم صدر من كبار علماء الإسلام في

موضوع متعلق بدين الإسلام، وأن اللجنة المستفتاة أكثر أعضائها غير مسلمين

وغير وطنيين - إن من وجوه الاستفتاء تفسير ما يسمى كرامة العالم الديني، هل

يشمل مثل الآراء التي نشرها المحكوم عليه في كتابه أم لا؟ وهل الحكم الصادر

من كبار هيئة العلماء صحيح أم لا؟

الحق أقول: إن استفتاء عبد العزيز فهمي باشا لهذه اللجنة غريب، فإذا كان

هو على علمه الإجمالي بالشريعة، ونشأته الإسلامية (يشك كثيرًا) في كون ما

فهمته هيئة كبار العلماء وغيرهم من علماء الشرع وسائر الطبقات المسلمة، من

كون تلك الآراء مشتملة على الطعن في القرآن وفي النبي عليه الصلاة والسلام،

وإهانة للمسلمين وللإسلام؛ أي: ردة: وخروجًا من الملة - إذا كان هو على علمه

وذكائه وإسلامه يشك كثيرًا في كون هذه الآراء تمس كرامة العالم المسلم: كالشرب أو

اللعب أو الرقص، فماذا ينتظر من موسيو فلان ومستر فلان، ولا سيما بعد إبداء

رأي الوزير المسلم ما بين شك وجزم؟ أيعقل أن يصدر عن مسلم عامي الشك في

كون إهانة الإسلام والمسلمين من عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن، والقول بجعل

حكومتهم لا دينية - أهون من الرقص الذي قد يكون مباحًا، وقد يكون

مكروهًا للتنزيه؟ وإنما يعد مخلاًّ بكرامة العالم الديني مروءة وعرفًا فقط.

يغلب على ظني أن عبد العزيز باشا فهمي لم يقرأ هذا الكتاب الرجس الذي

هو شر من كتب ابن الراوندي الزنديق المشهور، وأن جريدة السياسة قد خدعته

بزعمها أن ليس في الكتاب إلا آراء في شكل حكومات الخلفاء، ونظام القضاء،

وكونها ليست من أمور الدين التي تعبد الله بها المسلمين، ولم أروجها لحسن الظن

به أقوى من هذا.

***

عزل وزير الحقانية

لما علم رئيس مجلس الوزراء بالنيابة (يحيى باشا إبراهيم) بأن عبد العزيز

باشا فهمي امتنع من تنفيذ الحكم، وجعله موضعًا للاستفتاء والبحث، عرض الأمر

على جلالة الملك، فوافق على عزله من وزارة الحقانية، ونوط أمرها مؤقتًا بوزير

المعارف، وأصدر مرسومًا بذلك؛ فقامت قيامة (الحزب الحر الدستوري) لذلك،

وقرر عدم مساعدة الوزارة، واستقال سائر وزراء الحزب، وكانوا يظنون أن

استقالتهم لا تقبل لمكانتهم عند الإنكليز، ولأن الوزارة مؤلفة من حزبهم ومن حزب

الاتحاد الجديد - وهما متفقان على مقاومة سعد باشا زغلول وحزبه أو (الوفد

المصري) ، وأن حزب الاتحاد وحده لا يقوى على المقاومة، ولا يستطيع

النهوض بأعباء الوزارة - ولكن جلالة الملك لم يتلبث في قبول استقالتهم

واستقالة إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية، وأقوى خصوم سعد زغلول باشا

وهو منهم فعلاً لا رسمًا، وتألفت الوزارة من الاتحاديين وحدهم، واشتد طعن كل

من الحزبين وجرائدها في الآخر. ومن أنصار جريدة (الاتحاد) ، وحزبها علماء

الدين الذين يصفون محرري السياسة وأركان حزبها باللادينيين وبالملاحدة، وما

كنت لأذكر - هذا على اجتنابي الخوض في مسائل الأحزاب المصرية إلا للإشارة إلى

خيبة أمل الشيخ علي عبد الرازق، ومكانة انتصار أهل الدين على خصومهم في

أول معركة علنية، كان الفصل فيها بصفة رسمية، لهذا اشتغلت الجرائد منذ تقرر

تنفيذ الحكم برفع برقيات التهاني والثناء من هيئة كبار العلماء بالأزهر، ومن علماء

سائر المعاهد الدينية، ومن الطبقات الإسلامية المختلفة إلى جلالة الملك أولاً بالذات،

وإلى رئيس الوزراء بالنيابة، على تأييد الدين، وخذل (الإلحاد والملحدين) ،

ولا تزال تنشر المقالات الكثيرة في ذلك.

***

حكم المجلس المخصوص بوزارة الحقانية

بتنفيذ الحكم بالفعل وعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء

(بجلسة تأديب قضاة المحاكم الشرعية بوزارة الحقانية ببولكلي، في يوم

الخميس 17 سبتمبر سنة 1925- 29 صفر سنة 1344 الساعة العاشرة وثلث

صباحًا تحت رئاسة حضرة صاحب المعالي علي ماهر باشا وزير الحقانية بالنيابة،

وبحضور كل من حضرات: حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ

عبد الرحمن قراعة، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد العطار نائب المحكمة

العليا الشرعية، وحضرتي الشيخ محمد مخلوف رئيس التفتيش الشرعي، والشيخ

عبد الجليل عشوب مفتش المحاكم الشرعية أعضاء، وحضرة أحمد محمد حسن

أفندي مدير إدارة مكتب وزير الحقانية.

صدر الحكم الآتي في قضية تأديب الشيخ علي عبد الرازق.

***

المجلس

(بعد الإطلاع على قرار هيئة كبار العلماء الصادر بتاريخ 22 محرم سنة

1344 الموافق 12 أغسطس سنة 1925) .

(وعلى الخطاب المرسل من الشيخ علي عبد الرازق لمعالي وزير الحقانية

بتاريخ 5 سبتمبر سنة 1925 الذي يبين فيه أوجه دفاعه) .

(ومن حيث إن المتهم قد أعلن قانونًا بتاريخ 10 سبتمبر سنة 1925

للحضور أمام هذا المجلس ولم يحضر) .

(وبما أن فضيلة شيخ الجامع الأزهر ومعه أربعة وعشرون عالمًا من هيئة

كبار العلماء، قضوا بالإجماع في 22 محرم سنة 1344 الموافق 12 أغسطس سنة

1925 بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، بسبب ما أذاعه في كتابه

(الإسلام وأصول الحكم) .

(وبما أن المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم 10 سنة 1911 الخاص

بالجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية ترتب على هذا الحكم طرد

المحكوم عليه من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أية جهة كانت) .

(وبما أن مجلس تأديب القضاة الشرعيين (المنصوص عنه في قرار وزير

الحقانية الصادر في 18 أبريل سنة 1917) ، وهو الذي يملك عزل القضاة

الشرعيين بصفة نهائية، هو كذلك بطبيعة الحال الجهة المنوط بها تنفيذ مثل هذا

الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء) .

(وبما أنه يلزم البدء بتعرف وتحديد ماهية ما لمجلس التأديب من السلطة

حين ينعقد لتنفيذ الحكم الصادر تطبيقًا للمادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع

الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية، لمعرفة ما إذا كان مجلس التأديب

مختصًّا بالنظر في موضوع التهمة، وبالفصل فيما إذا كان الحكم الصادر فيها من

هيئة كبار العلماء صحيحًا أو غير صحيح، وفيما إذا كان العالم الذي حوكم قد

ارتكب بالفعل أمرًا يوقعه تحت طائلة القانون، أو أن هنالك تجاوزًا في التطبيق

القانوني) .

(وبما أنه من المسلم الذي لا ريب فيه أن مجلس التأديب لا يملك شيئًا مما

تقدم، إذ من المبادىء العامة المقررة أن الهيئات القضائية المختلفة تعتبر في

الدولة على حد سواء، وليس بينها في دوائر اختصاصها أي تفاوت في الاعتبار) .

(وبما أن الفقرة الثانية من المادة الأولى بعد المائة الآنف ذكرها تنص على

أن الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء لا يقبل الطعن، فيلزم من هذا أنه ليس لأية

سلطة قضائية أن تلغيه أو تبحث عن صحته، كما يلزم منه أن سلطة مجلس

التأديب مقصورة حتمًا على النظر فيما يترتب على حكم هيئة كبار العلماء من

النتائج القانونية) .

***

عن الاختصاص

(وبما أن الدفع بعدم اختصاص هيئة كبار العلماء بالنظر في موضوع كتاب

(الإسلام وأصول الحكم) مبناه أن عبارة (ما لا يناسب وصف العالمية) الواردة

في المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم 10 سنة 1911 لا تتناول إلا الأفعال

الشائنة التي تمس كرامة العالم: كالفسق، وشرب الخمر، والميسر، وما أشبه ذلك

مما يتعلق بالسلوك الشخصي، وأن هذه العبارة لا يمكن أن تتعدى ذلك إلى الخطأ

في الأبحاث العلمية الدينية) .

(وبما أن الدفع على فرض صحته وقبوله لا يطعن في اختصاص هيئة كبار

العلماء، وليس له من نتيجة سوى ما قد يفهم من أن حكم الهيئة أخطأ في تطبيق

القانون، أما اختصاص الهيئة فلا يطعن فيه؛ لأن الشيخ علي عبد الرازق كان من

العلماء، ولأن الفعل الذي حوكم من أجله مما قد يقع من العلماء ويتصل بهم، ولأن

القانون أجاز لهيئة كبار العلماء محاكمة العالم أيًّا كانت وظيفته أو مهنته) .

(وبما أنه على فرض وقوع خطأ في التطبيق القانوني، فليس من

اختصاص أية سلطة أخرى أن تنظر فيه) .

(على أنه ليس ثمة ما يدل على وقوع خطأ في تطبيق القانون؛ لأن عبارة

(ما لا يناسب وصف العالمية) جاءت عامة مطلقة من كل قيد بحيث لا يمكن

قصرها على السلوك الشخصي، فضلاً عن أن وصف العالمية يفترض بذاته فوق

السلوك الشخصي كفاية علمية خاصة، وعقيدة معينة. ولا شك أن هيئة كبار

العلماء هي المختصة دون غيرها بالفصل فيما إذا كانت هذه العقيدة مطابقة أو غير

مطابقة للدين، وفيما إذا كان صاحبها قد ارتكب أو لم يرتكب ما لا يناسب وصف

العالمية) .

(يؤيد ما تقدم أن هيئة كبار العلماء ليست هيئة مدنية، ولا مجرد هيئة

أخلاقية حتى يقصر عملها على مراقبة السلوك الشخصي للعلماء، وإنما هي قبل

كل شيء هيئة دينية، الغرض من تكوينها رعاية أصول الدين ومبادئه، وصيانتها

من كل عبث) .

(وبما أنه مسلم فوق ذلك أن لكل جماعة ناموسًا خاصًّا، وحقًّا مقررًا يجيز

لها أن تطرد من هيئتها كل عضو ترى أنه غير لائق بها، وهذا الحق الطبيعي

ثابت لها بدون احتياج إلى نص وضعي يقرره. ويبنى على ذلك أن هيئة كبار

العلماء يصح لها أن تخرج أي عالم من زمرة العلماء ولو لم يكن ثمة قانون ينص

على ذلك [2] ) .

وبما أنه لا معنى كذلك للاحتجاج بالمواد 12 و14 و167 من الدستور؛ لأن

المادة 12 التي تنص على أن (حرية الرأي مكفولة.. . في حدود القانون) لا تفيد

سوى أن لكل إنسان الحق في أن يعتنق الدين الذي يريده، أو يكون لنفسه الاعتقاد

الذي يرضاه، أو يعرب عن رأيه بالقول، أو الكتابة أو التصوير بدون أن يتعرض

للعقاب بسبب اعتناقه دينًا من الأديان، أو إبانته عن رأي من الآراء ما دام أنه لم

يخرج عن حدود القانون.

(وبعبارة أخرى: لا تفيد هاتان المادتان سوى أن كل إنسان له أن يتمتع

بحقوقه الوطنية، كحق الترشيح للانتخاب أو التصويت فيه مهما كان دينه أو مذهبه

أو رأيه، وهذا لا ينافي أن الحكومة مثلاً لها أن تفصل من خدمتها كل وطني

يرتكب أمورًا معينة، ولهذا قيدت المادة 14 من الدستور حرية الرأي بأنها الحرية

المستعملة في حدود القانون) .

(ويلزم مما تقدم أن الذي حظره الدستور إنما هو المحاكمة الجنائية، أو

الحرمان من الحقوق الوطنية؛ بسبب اعتناق دين أو عقيدة ما، أما صفة العالم أو

صفة الموظف فلا مانع من أن تكون محلاًّ لتقنين خاص، وهذا التقنين لا يتعارض

مع الدستور في شيء ما) .

(وبما أنه لا صحة للقول: بأن الفقرة الأخيرة من المادة الأولى بعد المائة،

وهي المادة السابق الإشارة إليها، والمنصوص فيها على العقوبات التبعية قد نسخها

الدستور؛ لأن الدستور قد نص في المادة 167 على استمرار العمل بالقوانين

والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات، ما دام نفاذها متفقًا مع المبادىء المقررة

فيه. وظاهر أن قانون الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية لا يوجد فيه ما

يخالف تلك المبادئ كما سبق بيانه) .

(وفوق ذلك فما دامت الوظيفة التي يشغلها الشيخ علي عبد الرازق من

وظائف العلماء؛ أي: وظيفة دينية، فهي لذلك لا تحل إلا لمن كان مقرًّا له بأنه من

رجال الدين) .

(وبما أن المجلس يرى أن يقرر إثبات عزل الشيخ علي عبد الرازق من

اليوم الذي صدر فيه قرار هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة العلماء) .

فلهذه الأسباب

(قرر المجلس بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق المذكور

من وظيفته اعتبارًا من يوم 22 محرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925) ،

مع مراعاة عدم حرمانه من حقه في المكافأة) اهـ.

...

...

...

الأعضاء

... رئيس المجلس

...

...

...

إمضاءات

إمضاء

***

تضمن الحكم على الشيخ علي عبد الرازق

الإفتاء بارتداده عن الإسلام

إن هذا الحكم له صفة قانونية يجب تنفيذها على الحكومة المصرية، وقد

فعلت. وله صفة الفتوى، وهي بيان الحكم الشرعي في هذا الكتاب ومؤلفه، وكل

من يعتقد اعتقاده في المسائل المخالفة لنصوص القرآن القطعية المعنى، وغير ذلك

من الأمور المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة - وهو الردة عن

الإسلام، والخروج من الملة الإسلامية، وهيئة كبار العلماء لا تملك الحكم بالردة

في هذه البلاد، وإنما تملك الفتوى ببيان الحكم الشرعي؛ إذ لا يحتاج هذا إلى تقريره

بنص قانوني، وهي لم تصرح بأن الشيخ علي عبد الرازق ارتد عن الإسلام بلفظ

الردة أو الارتداد، وإنما ذكرت بعض ما يدل على ذلك باتفاق المذاهب الأربعة

التي هم كبار علماؤها في الأزهر، بل بإجماع المسلمين أيضًا؛ لأجل أن يحتاط إلى

نفسه، ويرجع إلى دينه بالرجوع عن ذلك، ولئلا يغتر أحد من المسلمين بشيء من

ضلاله، وقد كان بعض الجاهلين بأحكام الشرع استنكر قول هيئة كبار العلماء قبل هذا

الحكم: إنه لا يصدر مثله عن مسلم فضلاً عن عالم، وهذا الحكم بما فيه من التفصيل

يبين لهم ذلك، وإن لم يجعل تفسيرًا لتلك الكلمة البليغة، على أنها ليست بنص في

الردة كأقوالهم في أسباب هذا الحكم.

ولكن صاحب هذا الكتاب ليس عنده من العلم ولا من الحجة إلا الخلابة

اللفظية، والتلبيس والتمويه والإفك اللفظي، ومن ذلك أنه كتب مقالة نشرتها له

نصيرته (جريدة السياسة) في صدر عددها الذي نشرت فيه صورة الحكم، وهو

المؤرخ في 16 صفر، زعم فيها أن كبار العلماء تراجعوا عن اتهامه بشيء (لا

يصدر من مسلم) ، بعد أن ذكر أنه كان خائفًا وجلاً أن يقرروا خروجه من زمرة

المسلمين، (وإن كان قد تبرأ منهم في كتابه مرارًا) ، وهو يعلم أنهم قرروا

خروجه من ملة الإسلام، وأراد أن يضل عن ذلك العوام، وإلا كان مثله كمثل من

قيل له: من أكل السمك وشرب العسل فدخل الحمام جنّ؛ فأراد أن يجرب ذلك

لضعف عقله ففعل فجن، فخرج من الحمام إلى السوق عاريًا، وطفق يقول للناس:

(يقول: من فعل كذا وكذا جن، وها أنا ذا فعلت ولم أجن! ! وإننا نذكر بعض

عباراتهم:

(1)

التصريح في الحيثية الأولى بأنه ألغى من الدين شطره، وهو الأحكام

المتعلقة بأمور الدنيا، وإن كان الكثير منها من المجمع عليه المعلوم من الدين

بالضرورة، أقول: وكل ما كان كذلك فجحده ردة لا خلاف فيها.

(2)

التصريح في الحيثية الثانية وغيرها بأن الشيخ علي عبد الرازق (لا

يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز، فضلاً عن صريح الأحاديث

الصحيحة المعروفة، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين بالضرورة (راجع ص

372 من المنار) .

(3)

في الحيثية السابعة بيان لما ذكر في غيرها من جعله الحكومة

الإسلامية لا دينية، لا تقوم أحكامها السياسية ولا القضائية على الدين، وتصريحه

بأن حكومة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الخلفاء الراشدين لا دينية،

وأنه لا يمنع المسلمين مانع من هدمها، واستبدال أي نوع من الحكم بها، ولو

الحكم البلشفي، وتلك إباحة لهدم أحكام القرآن، واستحلال لما هو محرم بالإجماع،

ومعلوم من الدين بالضرورة.

(4)

التصريح فيها بأن في كلامه في إجازة النبي صلى الله عليه وسلم

لما كان في قبائل الجاهلية من أحكام وفوضى ونظام (طعنًا صريحًا على النبي -

صلى الله عليه وسلم وعلى كتاب الله تعالى) ، (راجع أول ص382) ،

والطعن فيهما ردة صريحة بالإجماع.

هذا وإن البرقيات التي رفعها العلماء إلى الملك ورئيس الوزارة على عنايتهما

بتنفيذ الحكم صريحة فيما يعتقدون من اشتمال هذا الكتاب على الكفر والإلحاد،

وكتب بعضهم مقالات صرحوا فيها بالتكفير والردة: كالشيخ محمد شاكر، والشيخ

يوسف الدجوي، ونكتفي من البرقيات الكثيرة بواحدة وهي الرسمية الخاصة بالملك:

صاحب السعادة كبير الأمناء بالنيابة بالإسكندرية

أرجو أن ترفعوا إلى السدة العلية الملكية عني وعن هيئة كبار العلماء وسائر

العلماء فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء؛ على أن حفظ الدين في عهد جلالة

مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين، وحفظت كرامة العلم والعلماء،

وإننا جميعًا نبتهل إلى الله ونضرع إليه أن يديم جلالة مولانا الملك مؤيدًا للدين،

ورافعًا لشأن الإسلام والمسلمين، وأن يحرس بعين عنايته حضرة صاحب السمو

الأمير فاروق ولي عهد الدولة المصرية، إنه سميع مجيب.

...

...

...

...

شيخ الجامع الأزهر

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: إن الغرض الأول له من الكتاب إثبات أن الحكومة في الإسلام (لا دينية) بناءً على زعمه أن جميع الأحكام الواردة في الكتاب والسنة - وهو لا ينكرها - خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو رسول الله، وأنه ليس لأحد أن يخلفه فيها كالرسالة. وإنما نص على خلافة الراشدين؛ لأن قيامها على الدين أظهر، ودفاعه مبني على زعمه هذا لا رجوع عنه، فهو يريد أن الحكم الديني خاص يوحى إليه، وأبو بكر ليس كذلك فحكمه، فكان الظاهر أن يجعل هذا أول أسباب الحكم، وهو ردة صريحة؛ لأنه نفي للدين من شطر الشريعة - وهو الأحكام السياسية والقضائية - وتعطيل له كما أشير إليه في الحكم، وقد استغرب هو في مقال انتقد فيه الحكم جعله كالأمر الثانوي.

(2)

المنار: هذا الإطلاق في هذا السبب غير مسلم ولا حاجة إليه في تعليل صحة القرار، وإنما تطرد الجماعة من أفرادها من تجمعه بهم صفات وحقوق تميزهم من غيرهم، تتعلق بها أحكام شرعية ووضعية أعطتهم حق الجزاء على الإخلال بتلك الصفات والحقوق، كما فعل الشيخ علي عبد الرازق بإخلاله بالعقيدة الإسلامية وبإهانته للإسلام والمسلمين، وبإنكاره كون الحكم والقضاء في الإسلام مقيدًا بأحكام الدين، وهو لم يكن قاضيًا إلا بكونه مسلمًا وعالمًا أزهريًّا، ولكن ليس لكل هيئة طبية أن تطرد كل طبيب ترى أنه غير لائق بها، فالإطلاق فيه تسامح لعله لا يراد به العموم، وشرح المسألة لا محل له في هذه الحاشية.

ص: 363

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإنكليز والحجاز

لا يزال الساسة الإنكليز على افتضاح أمرهم وانتهاك سرائرهم، يعبثون

بالشعوب الإسلامية، ولا سيما في البلاد التي أفسدها نفوذهم فيها، وقد جرأتهم

غفلة هذه الشعوب وخيانة الكثير من أكابر مجرميها لها على الإسراع في القضاء

الأخير على الإسلام والمسلمين الذين يعتقدون أن لا يتم لهم إلا بالاستيلاء على

الحجاز، وقد بدؤوا السعي لذلك باصطناع الشريف حسين بن علي وأولاده،

فأطمعوهم بأن يجعلوهم خلفاء وملوكًا في البلاد العربية الحجاز وغيره تحت حمايتهم

وفي معدة إمبراطوريتهم المستعدة لهضم العالم كله، فرضوا وخدموهم بجد

وإخلاص حتى تم لهم احتلال البلاد العربية من البحر الأحمر إلى شط العرب فخليج

فارس، وكان نفوذهم في الحجاز نفسه أقوى منه في غيره؛ حتى كان الملك حسين

إذا استاء منهم يرفع استقالته إلى الحكومة البريطانية رسميًّا، وينشر ذلك في

جريدته (القبلة) كما نقلناه عنها مرارًا. ٍ

إن أولاد حسين صغار النفوس كبار الشهوات، همهم اللذة وحب الفخفخة

الظاهرة، لذلك رضي فيصل وعبد الله منهم بالملك والإمارة الصورية في خدمة

الإنكليز، وأما حسين فكبير النفس، عاشق للحكم والسلطان الاستبدادي، واسع

الطمع، زاهد في الشهوات البدنية، فلذلك لم يكن راضيًا من الإنكليز بحصرهم

سلطته في الحجاز، وظل يطالبهم بما وعدوه من تأسيس مملكة عربية واسعة تحت

حمايتهم حتى ملوا وسئموا منه، ولم يبالوا بإخراج الوهابية إياه من الحجاز بعد

علمهم بكره العالم الإسلامي له، وعدم طمعهم بخدمة جديدة يسديها إليهم.

ثم أرادوا أن يستفيدوا من التنازع على الحجاز، فساوموا سلطان نجد، فأبى

الدخول في المساومة معهم، ورد مندوبهم مستر (فلبي) بخفي حنين، وأعلن رأيه

الرسمي في الحجاز وهو تفويض أمر شكل الحكم فيه وإصلاحه إلى رأي مؤتمر

إسلامي عام، مع عدم السماح لأدنى نفوذ أجنبي أن يصل إليه.

وأما حسين وأولاده فتربصوا بهم الحاجة إلى المال والذخيرة، وساوموهم

على منطقة العقبة ومعان من شمالي الحجاز فرضوا ببيعها لهم باسم الانتداب،

وجعلها من إمارة عبد الله، فطلبوا خروج (الملك) حسين منها؛ إذ بقاؤه فيها يسوغ

للوهابيين مهاجمتها، فتمنع ظاهرًا أو باطنًا لعدم رضاه بمكان آخر يقيم فيه أو ظاهرًا

فقط - الله أعلم - ثم رضي بالخروج منها بعد إنذار حقيقي أو صوري - الله أعلم -

ثم خرج منقادًا كالجمل الأنف، ولو لم يخرج لما استطاعوا إخراجه إلا بحرب ولن

ترضى الحكومة البريطانية بأن تحاربه هنالك، وستكشف الأيام سر هذه المسألة.

وأما أولاده علي وعبد الله وكذا فيصل - وقد استشير - فكانوا كلهم راضين،

ولكن عليًّا اشترط بل اقترح أن يرجع والده إلى جدة؛ ليتمتع هو بأمواله ونفوذه فلم

يجب إلى اقتراحه، وقد أصدر (إرادته السنية) بفصل المنطقة من (مملكته)

الحجازية، وإلحاقها بمنطقة شرق الأردن، وذكر في نص الإرادة أن التسليم يكون

بعد خروج (الخليفة الأعظم) منها إلى جدة.

ثم أصدر الأمير عبد الله (إرادته السنية) بضم المنطقة الحجازية إلى

(إمارته) ، والاحتفال بذلك رسميًّا، ونشر نص الإرادتين في جريدة (الشرق

العربي الرسمية) وفي غيرها من الجرائد السورية، (وقد نقلناهما في جزء المنار

الثالث م26) .

تم بذلك للإنكليز الاستيلاء على أهم بقعة حربية برية بحرية من أرض

الحجاز المقدسة باسم الانتداب الجديد الذي كان من حقوقه عندهم إنشاء وطن قومي

لليهود في فلسطين، وصاروا على مقربة من المدينة المنورة، كل هذا والشعوب

الإسلامية وعلماء المسلمين لاهون غافلون، لم ترتفع أصواتهم بالاحتجاج على هذا

العدوان الإنكليزي على الإسلام، ناسين وصية نبيهم - عليه أفضل الصلاة

والسلام -، اللهم إلا صوتنا الضعيف في المنار وبعض الأصوات الشخصية

المشابهة له.

وأما أصحاب الأصوات العالية التي تتجاوب أصداؤها في الأقطار، وتطير

بها البرقيات كل مطار، لما لها من الصفة الرسمية أو شبه الرسمية؛ كالملوك،

والأمراء، ورؤساء الهيئات العلمية، والزعماء، فقد ظلوا صامتين - اللهم إلا

جمعية العلماء وجمعية الخلافة في الهند - كأن أمر اعتداء الإنكليز على الحجاز أمر

عادي لا يؤبه له.

ومن العجيب أن وجد في رجال الإنكليز المشهورين أنفسهم من أنكروا على

حكومتهم حق ضم شيء من أرض الحجاز إلى منطقة الانتداب، ولم يوجد من

أمراء المسلمين وحكوماتهم ولا من جماعاتهم الرسمية من فعل ذلك.

إن هؤلاء لا يجهلون أن وضع الإنكليز أقدامهم بقرب المدينة المنورة بحجة

حماية شرق الأردن من الوهابيين أو غيرهم سيحملهم على الاستيلاء على المدينة

المنورة نفسها لحماية العقبة ومعان، ثم الاستيلاء على مكة؛ لأجل حماية المدينة

المنورة، فأين أنتم أيها المسلمون وأين وصية رسولكم صلى الله عليه وسلم

في مرض موته؟

وأعجب من هذا السكوت والسكون أن الإنكليز مع هذا العدوان على الإسلام

يهيجون الشعوب الإسلامية على السلطان ابن السعود الذي أعلن رسميًّا أنه يمنع أي

نفوذ أجنبي أن ينفذ إلى الحجاز، ويحملونهم على الانتصار للشريف علي الذي

وهب لهم منطقة من الحجاز حربية بحرية برية، فأذاعوا في العالم أن الوهابيين

أطلقوا رصاصهم أو نارهم على قبة الحرم النبوي الشريف، وأنهم هدموا قبر

حمزة - رضي الله تعالى عنه -، وهي فرية افتراها سماسرة الشريف علي

بمصر، ونشروها في المقطم؛ فطارت بها البرقيات البريطانية، ودبر وفد الشريف

علي في بمبي (الهند) فتنة، هيجوا بها بعض الغوغاء في المسجد ببرقية مزورة من

القدس على الزعيم الكبير شوكت علي رئيس جمعية الخلافة؛ لمقاومته للاستبداد

الإنكليزي في الهند، والعدوان على الإسلام والمسلمين [1] .

وقد طيرت البرقيات البريطانية خبر هذه الفتنة المدبرة، فلم يبق قطر إسلامي

إلا ونشرته فيه، وقد أظهر شيخة الجرائد البريطانية تعجبها من سكوت المصريين

وعدم تهيجهم على ابن السعود، فعلم بهذا من لم يكن يعلم أن غرضها من ذلك هو

التهييج، ومساعدة الشريف علي على الوهابية بالدعاية الباطلة.

إن (التيمس) تعلم أن كذبها وكذب البرقيات الإنكليزية والسياسة البريطانية

نفسها قد صارت مضرب الأمثال عند المسلمين وغيرهم، ولا سيما إذا كانت في

الأمور الإسلامية، وآخرها زعمها أن الرأي الإسلامي العام بمصر مؤيد للشيخ علي

عبد الرازق في زعمه أن حكومة الإسلام لا دينية، وفي إهانته للإسلام والمسلمين المفيدة لسياستهم في الاستعمار، ودعوة مبشريهم إلى تنصير المسلمين.

ولم ينس المسلمون الأكاذيب الحجازية البريطانية التي أذيعت قبل موسم الحج

لصرف المسلمين عن أداء الفريضة، كقولهم: إن أساطيل الحجاز تمنع الحجاج من

النزول في ثغري رابغ والقنفذة، وأن جنود الحجاز تقطع عليهم الطريق إذا أمكنهم

النزول، وإنهم مع ذلك لا يجدون ماءً ولا قوتًا، ثم ظهر أن ذلك كذب صادر عن

سوء نية، فقد ذهب الألوف من أهل الهند الذين لم يصدقوا الإنكليز ولا دعاة

الشريف علي، ونزلوا في تلك الثغور، وأدوا الفريضة بأمان واطمئنان وراحة لم

يسبق لها نظير.

مع هذا كله اغتر بعض الناس بخبر المدينة المنورة؛ فانتدب جلالة مليكنا

العظيم بحكمته، وكشف للأمة الغطاء عن الحقيقة ببرقيته إلى السلطان ابن السعود،

وما جاءه من الجواب المكذب لتلك الفرية [2] فقطعت جهيزة قول كل خطيب،

وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون اهـ.

***

ما نشره الديوان الملكي في الجرائد

بعنوان بين الحجاز ومصر

ديوان جلالة الملك:

(1)

صورة البرقية المرسلة من حضرة صاحب الجلالة الملك إلى عظمة

السلطان عبد العزيز سلطان نجد في 11 صفر سنة 1344 -30 أغسطس سنة

1925.

عظمة السلطان عبد العزيز سلطان نجد:

إن الحرب القائمة حول المدينة المنورة قد أقلقت خواطر المسلمين قاطبة؛ لما

عساه يحدث من تأثيرها في الأماكن النبوية المقدسة التي نجهلها جميعًا؛ ونحافظ

على آثارها الكريمة، ولا يخفى على عظمتكم ما لهذه الأماكن من الحرمة التي

توجب أن تكون بعيدة عن كل أذى، رغم ما يقتضيه أي نزاع أو خلاف، ولكن ما

نعهده في شديد غيرتكم الدينية لما يطمئن قلوبنا والمسلمين عامة على صيانة الحرم

النبوي الشريف، وآثار السلف الصالح الدينية. والسلام عليكم ورحمة الله.

...

...

...

...

...

فؤاد

(2)

صورة البرقية الواردة من عظمة السلطان عبد العزيز سلطان نجد إلى

حضرة صاحب الجلالة الملك في 16 صفر سنة 1344 - 4 سبتمبر سنة 1925.

حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم الملك فؤاد دامت معاليه:

إني أشكركم من صميم فؤادي على غيرتكم الدينية، وإني أقدر ما شرحتموه

حق قدره - إن حرم المدينة كحرم مكة نفديه بأرواحنا وكل ما نملك، وإن ديننا

يحمينا من الإتيان بأي حدث في المدينة المنورة، وسنحافظ على آثار السلف وكل

ما هو في المدينة مما يهم كل مسلم المحافظة عليه - إن العدو يحاول أن يشوه

وجهة جهادنا بما يفتريه من الكذب والبهتان، يحاول أن ينال بالبهتان ما عجز عنه

بالسنان، ولكن الحق أبلج، والله مؤيد دينه، وآخذ بناصر أهله ولو كره المبطلون،

هذا وأرجو أن تقبلوا تحياتي واحتراماتي.

عبد العزيز بن عبد الرحمن السعود

(3)

صورة البرقية الواردة من جلالة الملك علي ملك الحجاز إلى حضرة

صاحب الجلالة الملك في 13 صفر سنة 1344 (أول سبتمبر سنة 1925) .

صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر المعظم:

أهدي لجلالتكم الملوكية أعظم الشكر على غيرتكم الإسلامية الجديرة بذاتكم

العلية ومقامكم السامي، فيما رغبتم فيه من تنزه البقاع المقدسة عن أن تكون ساحة

قتال، ولا يستكثر ذلك على سليل محمد علي الكبير الذي سبقت له خدمة هذه الديار

المباركة من قبل، وفي مثل هذه الكارثة نفسها مادة ومعنى، ونبرأ إلى الله أن يكون

أحد منا - نحن أبناء الحرمين الشريفين - أراد القتال أو أخذ على الاستمرار فيه،

سواء ذلك في مكة المشرفة أو المدينة المنورة، ونسجل على المتسبب مسؤولية ما

تهدم منها من آثار، وما لا يزال يصيبها من أذى كجعل القبة الخضراء النبوية هدفًا للرصاص، وسائر قبب وقبور أهل البيت في البقيع، وتخريب مسجد سيدنا

حمزة، وهدم ضريحه الشريف طبقًا للأساس الذي قام عليه المذهب الوهابي

المعلوم، وبهذه المناسبة نؤكد لجلالتكم أننا قائمون بالواجب الديني والوطني من بذل

النفس والنفيس في صيانة ما بقي من تلك الآثار، وترميم ما خرب منها؛ حتى يتم

إخراج المعتدي - بحول الله وقوته - من الوطن المقدس كله، ونثق أن العالم

الإسلامي يشد أزرنا في ذلك، وفي مقدمتهم جلالتكم الملوكية بصفتكم

أكبر ملوك المسلمين وأعزهم غيرة على الله والدين.

أدام الله جلالتكم مؤيدين بالتوفيق والنصر.

...

...

...

...

...

علي

(المنار)

نشر الديوان الملكي هذه البرقيات الثلاث في الجرائد بهذا الترتيب، وقد راب

المفكرين علم الشريف علي بالبرقية المرسلة إلى سلطان نجد قبل وصولها إليه

وجوابه عنها، وجعلها وسيلة للدعاية الهاشمية التي كانت أساس ما يدعيه من

امتلاك الحجاز الذي ترتب عليه بيعه منطقة من أعظم مناطقه البرية البحرية

للإنكليز؛ بجعلها تحت الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردن، كما كانت

أساس ادعاء أبيه الملك على جميع البلاد العربية والخلافة على الأمة الإسلامية.

ولا يزال الشريف علي هذا وأخوته متمسكين بخلافة أبيهم إذ نص في صك

بيعه منطقة العقبة ومعان للإنكليز، أنه يشترط أن يكون التسليم بعد (خروج

الخليفة الأعظم منها) ، وهو يحرض ملك مصر بهذه البرقية على مساعدته على

إخراج سلطان نجد من الحجاز، كما فعل جده محمد علي بإخراج سلف سلطان نجد

منه، ويدعي مع هذا أنه لا يريد الحرب في الحجاز (! !) ، وتحاول الدعاية

الهاشمية بث هذه الفتنة، وتخويف ابن سعود من مصر؛ ليقر الإنكليز على ما

أخذوا من الحجاز، كما فعلت بتخويف المسلمين من خطر الحج فمنعته الحكومة

المصرية.

وفات الشريف علي أن محمد علي وشرفاء مكة كانوا خاضعين لخلافة

السلطان العثماني الذي خلص له ملك الحجاز بإخراج الوهابية منه، والملك فؤاد

غير خاضع لخلافة حسين بن علي؛ فينقذ له الحجاز ويكون تابعًا لخلافته، بل هو

ملك دستوري لا يمكنه الإقدام على عمل كبير كهذا إلا بإقرار برلمان دولته عليه،

ولا يعقل ذلك إلا بمبايعة الملك والبرلمان وكبار العلماء والجند من المصريين

لحسين بالخلافة.

وأما إذا أراد الشريف علي بإنقاذ ملك مصر للحجاز، جعله تابعًا لمصر فما

عليه إلا أن يعلن هو ورجال حكومته ذلك، ويبايعوا ملك مصر، ويخرجوا من هذه

الورطة التي اضطرته إلى بيع جزء من الحجاز للأجانب، ولا يعلم إلى أي حد

تنتهي به، وهو لا يملك مالاً ولا جندًا بل يتكل على الأجانب؛ ليبقى ممتعًا بلقب

ملك الحجاز، وليعود والده خليفة في الحجاز، فما له ولملك مصر ولخداع المسلمين

بالمحافظة على الحجاز والآثار فيه؟

ومتى كان الشريف علي وأبوه وإخوته يعرفون الإسلام أو يعملون بما يعرفه

كل أحد منه؟ في أي كتاب من كتبه تعلموا أن الإسلام مبني على تعظيم القبور،

واستحلال بيع الأراضي المقدسة لغير المسلمين؟ هل أخذوه من وصية النبي صلى

الله عليه وسلم في مرض موته قبيل وفاته، بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان،

وبإخراج المشركين واليهود والنصارى منها؟ أم من لعنه صلى الله عليه وسلم للذين

اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (يحذر ما صنعوا) ، كما قالت عائشة راوية الحديث

في الصحيح؟ أم من لعنه صلى الله عليه وسلم لزائرات القبور والمتخذين عليها

المساجد والسرج كما رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم؟ أم من

حديث علي - كرم الله وجهه - في صحيح مسلم، وهو قوله لأبي هياج الأسدي:

ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا

طمسته، ولا قبرًا مشرفًا (أي: مرتفعًا) إلا سويته: (أي هدمته وسويته

بالتراب) ، وقال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى:

(أي: من القبور) قال النووي: ويؤيد الهدم قوله: (ولا قبرًا مشرفًا إلا

سويته) اهـ.

نعم إن الألوف من عوام المسلمين في بلاد كثيرة غير نجد يجهلون هذه

الأحاديث الصحيحة ويخالفون هديها، وفيهم تنفع دعاية علي بن حسين وتضليلهم،

ولكن لا تروج هذه الدعاية لدى ملك مصر الذي يحف بعرشه كبار علماء الأزهر،

ويعلم فوق ما يعلمون من سوء عاقبة جعل منطقة العقبة ومعان تحت الانتداب

البريطاني، ومن الخطر على سائر الحجاز وعلى شعائر الإسلام، ويعلم أن الأمير

عبد الله بن حسين ليس له من الحق في إمارة شرق الأردن الحقيرة عشر معشار ما

لدولة مصر من الحق في القطر السوداني العظيم، وقد طرد الإنكليز منه الجيش

المصري الذي فتحه بعد إكراه الإنكليز للحكومة المصرية على التخلي عنه، وهو

الذي عمره بأيديه وبملايين الخزينة المصرية! ! فكيف يطوف بعقل الشريف علي

أن ينصره ملك مصر على ابن السعود، الذي أعلن رسميًّا بأن يجعل أمر الحجاز

مفوضًا إلى العالم الإسلامي، ويخضع لما يقرره المؤتمر الذي يعقد لذلك؟ فهل يأبى

ملك مصر هذا ويرضى بأن يبقى بيده يبيع من أرضه للأجانب ما يشاء؟

إذا كان الوهابية قد هدموا بعض القبور أو الآثار كما قالوا، وقرر المؤتمر

الإسلامي إعادة بنائها، فلا يسع ابن السعود مخالفته، وأما استرجاع ما باعه

الشريف علي للإنكليز فليس رده بالسهل على المؤتمر الإسلامي ولا على غيره

{فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

علمنا بعد نشرنا لهذه المقالة في الأهرام أن مجلس إدارة الأمور الشرعية في القدس المسمى بالمجلس الإسلامي الأعلى أرسل إلى الهند برقية يؤكد بها الدعاية الهاشمية البريطانية في هذه المسألة جناياته الإسلامية، فأسفنا لغرور هذا المجلس بلقبه، وتدخله في مضايق هذه الفتن، وكانت أولى مبايعته لحسين بالخلافة، وهو مجلس إداري محلي ليس له من الصفات العلمية الدينية ولا غيرها من يوهمه اسمه، ولا ما يعطيه هذه الحقوق، وسنعود إلى بيان ذلك في الجزء التالي.

(2)

وقد أرسل السلطان برقية أخرى لنقابة الصحابة كذب بها دعوى إطلاق الرصاص على قبة الحرم الشريف تكذيبًا صريحًا.

ص: 394

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(س6-36) من صاحب الإمضاء في بيروت

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي

الأنام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فإني أرفع لفضيلتكم الأسئلة

الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني

عظيم الشكر.

(1)

هل رفع الحجاب عن وجوه المسلمات الحرائر، وإظهار أكفهن ظهرًا

وبطنًا إلى الكوعين [*] خارج الصلاة في الطرقات والأسواق والمجتمعات العامة،

جائز في الشريعة الإسلامية أم لا؟

(2)

وهل صوت المرأة الأجنبية المسلمة الحرة عورة، يحرم على الرجال

سماعه أم لا؟

(3-6) وهل التزيي بلبس القبعة (ما يسمونها بالبرنيطة) للرجل المسلم

حرام أو مكروه أم لا؟ فإذا قلتم: حرام أو مكروه. فما الدليل على الحرمة

أو الكراهة؟ وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البدلة الإفرنجية (ما يسمونها

بالسترة والبنطلون) أم لا؟ وهل تجوز صلاة الرجل المسلم وهو متزيٍّ بلبسها بلا

حرمة ولا كراهة، سواء كان إمامًا أو مأمومًا، أو منفردًا أو خطيبًا للجمعة

والعيدين أم لا؟ وهل للمسلمين من الرجال والنساء زي مخصوص يلبسونه أم لا؟

فإذا قلتم: إن لهم زيًّا مخصوصًا يلبسونه فما هو شكله وكيفيته؟ أرجو التفضل

ببيان ذلك.

(7-8) وهل السكروتة (ما يسمونها بالستكروزة) من الدودة أم من النبات؟

وهل يحرم لبسها كالحرير للرجال أم لا؟ وهل حرمة التحلي بلبس الحرير

للرجال من الكبائر أم من الصغائر؟

(9-13) وما هي الحرمة الكبيرة والصغيرة؟ وما كيفية عذابهما؟ وهل

يتفاوتان في العذاب أم لا؟ وهل عذاب القبر للروح والجسد معا أم هو للروح فقط ،

وهل يكون العذاب مستمرًا دائمًا أم منقطعًا؛ أي: يرتفع ويعود وهكذا أم لا؟

(14-16) وما قولكم دام فضلكم في رجل مسلم مؤمن بالغ عاقل حر قتل

نفسًا مسلمة مؤمنة بالغة عاقلة حرة عمدًا بغير حق، ولم يقاصص في الحياة الدنيا لا

بدفع الدية ولا بغيرها مطلقًا وعليه أيضًا ديون ومظالم وخيانات وسرقات وكذب

وغش لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا. ما حكمه في ذلك كله يوم القيامة؟

هل يعذب في قبره بسبب ذلك كله أم عذابه في الآخرة فقط؟ وهل إذا تاب إلى الله

تعالى في الحياة الدنيا من ذلك كله تقبل منه التوبة ولا يعذبه في قبره ولا في الآخرة

أم لا؟

(17)

وهل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين أم لا -

وما معناهما - وهما: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون

ويستغفرون الله فيغفر لهم) - رواه الإمام مسلم. (كل شيء يقدر حتى العجز

والكيس) ، رواه الإمامان مسلم وأحمد. أرجوكم أن لا تحيلونا على فتاوى سبقت

لكم في مجلدات مجلة المنار بهذا الخصوص، حيث إنه لم توجد لدينا مجلدات مجلة

المنار مطلقًا. تفضلوا بالجواب، ولكم الأجر والثواب.

(المنار)

إننا نجيب عن هذه المسائل بشيء من الإجمال لبعض مباحثها، ومن التكرار

لبعض معانيها، ولما سبق لنا من تفصيل القول في أكثرها.

***

كشف وجه الحرة وكفيها

نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره أن المسلمين قد أجمعوا على أن على المرأة

أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام، ومن المعلوم أن مدة الإحرام طويلة تبتدئ

من الميقات المعين، وتنتهي بأداء النسك من حج أو عمرة، وأن النساء كن ولا

يزلن يشاركن الرجال في أعمال فرائض النسك وواجباته، وأنهن كن يصلين مع

الرجال، ويتوضأن حيث يتوضؤون في باقي الأوقات والأحوال، فالستر الذي

فرض عليهن في أثناء الصلاة والنسك هو أكمل الستر وأتمه؛ لأنه يكون في أفضل

المجامع الدينية المشتركة بينهن وبين الرجال، ولا ينافي ذلك كونهن يصلين صلاة

الجماعة خلف الرجال، وأنهن قد يفرد لهن المطاف فيطفن وحدهن؛ إذ من المعلوم

بالضرورة أنهن يقبلن على المساجد في الحالة التي يصلين فيها أو يطفن، فيراهن

الرجال، وأنهن يتنقلن مع الرجال من مواقيت الإحرام إلى مكة، ومنها إلى عرفات

والمزدلفة ومنى.

ولا بأس بأن ننقل هنا ملخص مذاهب علماء الأمصار في المسألة في الصلاة

وخارجها عن كتاب المفتي للشيخ الموفق الحنبلي، فإنه كتاب في فقه الإسلام لا في

فقه الحنابلة وحدهم، قال (ص641ج1) :

لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس

لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان، واختلف أهل العلم، فأجمع

أكثرهم على أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه، وأجمع أهل العلم على أن للمرأة

الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن

عليها الإعادة، وقال أبو حنيفة: القدمان ليسا من العورة؛ لأنهما يظهران غالبًا فهما

كالوجه، وإن انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم

تبطل صلاتها. وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها

وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة؛ لأن ابن عباس قال في قوله تعالى:

{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) : الوجه والكفين. ولأن

النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرمة (أي بالحج أو العمرة) عن لبس

القفازين والنقاب. ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة

تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء، وقال بعض

أصحابنا: المرأة كلها عورة؛ لأنه قد روي في حديث عن النبي - صلى الله عليه

وسلم -: (المرأة كلها عورة) ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر

إليه لأجل الخطبة؛ لأنه مجمع المحاسن اهـ، ومثله في الشرح الكبير (ص

462ج1) .

وذكر الإمام الشوكاني في نيل الأوطار خلاف هذه المذاهب وغيرها، فقال:

(وقد اختلف في مقدار عورة الحرة، فقيل: جميع بدنها ما عدا الوجه

والكفين، وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد قوليه، والشافعي في أحد أقواله،

وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، ومالك. وقيل: والقدمين وموضع الخلخال:

(أي: كالوجه والكفين) ، وإلى ذلك ذهب القاسم في قول وأبو حنيفة في رواية عنه،

والثوري وأبو العباس، وقيل: بل جميعها إلا الوجه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل

وداود ، وقيل: جميعها بدون استثناء، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي،

وروى عن أحمد. وسبب اختلاف هذه الأقوال ما وقع من المفسرين من اختلاف في

تفسير قوله تعالى: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) اهـ.

أقول: بل هنالك أسباب أخرى كما تقدم عن المغني، وأقواها ما كان معروفًا

في الصدر الأول من معاملة النساء للرجال في البيع والشراء والشهادة، وخدمتهن

لجرحى الحرب، وإنما ورد النهي عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية وعن متابعة

نظر الشهوة. وفي حديث ابن عباس من صحيح البخاري وغيره أن النبي - صلى

الله عليه وسلم - أردف الفضل بن العباس خلفه في سفر حجة الوداع، فعرضت له

صلى الله عليه وسلم امرأة خثعمية جميلة تسأله، فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ

النبي صلى الله عليه وسلم بذقن الفضل يحول وجهه عن النظر إليها. وفي

رواية الترمذي للقصة أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لويت عنق

ابن عمك؟ فقال: (رأيت شابًّا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة) فالنبي - صلى الله

عليه وسلم - لم يأمر المرأة بستر وجهها، ولم يأمرها ولا أمر الفضل بعدم نظر كل

منهما إلى الآخر، إلا أنه حول وجه الفضل عنها؛ لما رآه يتعمد إطالة النظر إليها

فعلم أنه عن شهوة. ولذلك ورد أن النظرة الأولى للمرء والثانية عليه، وهذا بعد

نزول آية الحجاب بخمس سنين، وقد استدل به من السنة العملية، على أن

الحجاب المنصوص في سورة الأحزاب خاص بنساء النبي - صلى الله عليه

وسلم - كما هو صريح الآيات، ولا سيما قوله تعالى في أولها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ

لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} (الأحزاب: 32) إلخ.

وتعليلهم المتقدم لكون الوجه والكفين لا يجب سترهما بالحاجة إلى كشفهما

للبيع والشراء والأخذ والإعطاء، وبما في التغطية من المشقة؛ صريح في عدم

قصر كشفهما على حال الصلاة. ومن حرم كشف الوجه والكفين من الفقهاء

- كالنووي من الشافعية - عللوه بخوف الفتنة، وهو أمر عارض لا أصل ولا غالب

في النظر، فهو يراعى في الأحوال التي هي مظنة الفتنة، وليست دائمة ولا غالبة،

فإن البر والفاجر من جماهير الناس يرون أبرع النساء جمالاً في شوارع الأمصار

العامة، ولا يكاد يفتتن أحد منهم برؤيتهن، على أن الكثيرات منهن يخرجن

متبرجات بكل ما أباحته حرية الفسق من زينة وتهتك وإغراء، وإنما يفتتن بعض

الفجار الذين يبحثون عن الفواجر، فمن يريد التحري لدينه من رجل وامرأة فلا

يخفى عليه، ما كان مظنة الفتنة الواجب عليه اجتنابها والبعد عن مواقف الشبهة

ومواضع الريبة. ولم يكن الأمر بالستر في عصر التشريع إلا لأجل هذا، وقد أبيح

للإماء كشف رؤوسهن مع وجوههن، ومن العلماء من قال: إن عورة الأمة كعورة

الرجل، ما بين السرة والركبة، وربما كانت الفتنة فيهن أشد؛ لأن الوصول إليهن

أيسر، والعفة فيهن أقل وأضعف، ويجب عليهن ما يجب على الحرائر من صيانة

أعراضهن، ويحرم عليهن من الفجور ووسائله ما يحرم عليهن، ولا يقول فقيه

بإباحة تعرضهن للفتنة، فإذا وجدن في مكان يتعرض فيه الفجار لهن فعليهن أن

يسترن رؤوسهن ووجوههن أيضًا وإلا فلا.

وإنا لنعلم أن المتفرنجين من المسلمين يبغون برفع أدب الحجاب عن

المسلمات التوسل إلى مثل إباحة نساء الإفرنج كما فعل الترك، فليحذر المسلمون

الحريصون على دينهم وأعراضهم وأنسابهم ذلك، فإن الخوف من هذه العاقبة هو

الذي يحمل أهل الدين - من صنف العلماء وغيرهم - على إطلاق القول: بوجوب

كذا من الحجاب، وتحريم كذا من السفور مثلاً. والتحريم والتحليل الدينيان حق الرب

وحده على عباده فهو يتوقف على النص، والنص عام وخاص، ومطلق ومقيد،

وتطبيق النصوص على الوقائع والنوازل أعسر مسلكًا من معرفة النصوص وفهم

معانيها، ولذلك ورد في الحديث (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه

أحمد والدارمي وأبو يعلى من حديث وابصة مرفوعًا.

وأما صوت المرأة فليس بعورة فما زال النساء يكالمن الرجل في إفادة العلم

واستفادته، حتى نساء النبي صلى الله عليه وسلم وفي المحاكمات والشهادات

والمبايعات وغير ذلك من المعاملات: كخطبة النكاح، وكذا الخطب السياسية بغير

نكير. وقال الله لنساء نبيه في آيات الحجاب: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي

فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً} (الأحزاب: 32) .

***

مسائل اللباس والزي

قد حققنا هذه المسألة في كتابنا (الحكمة الشرعية) الذي هو أول مؤلفاتنا، ثم

عدنا إليه في المنار مرارًا، وصفوة القول فيه: إن الدين الإسلامي لم يفرض ولم

يحرم على المسلمين زيًّا مخصوصًا، بل ترك هذا وأمثاله من العادات إلى اختيار

الناس، والإسلام دين عام فرضه الله تعالى على جميع الناس كما تراه مفصلاً في

تفسير هذا الجزء، وما يصلح لهم من اللباس في بعض الأقطار لا يصلح في غيرها،

ولكن شرعه حرم عليهم الضرر والضرار، فليس لمسلم أن يرتكب ما يضر نفسه

ولا ما يضر غيره، فاجتناب الضرر والضرار قيد تقيد به جميع المباحات لذاتها

من أكل وشرب ولباس وصناعة وزراعة وغير ذلك، فمن علم بالتجربة أو بقول

الطبيب الصادق أن أكل الخبز أو شرب الماء يضره لمرض مثلاً حرم عليه،

ويقاس على هذا غيره، وما يضر الناس أفرادًا وجماعات أولى بالتحريم مما يضر

النفس، فليس لمسلم أن يضر أحدًا بعبادته فضلاً عن عادته.

فمن عرف هذا الأصل علم أن لبس السراويل المسمى بالبنطلون أو القلنسوة

المسماة بالبرنيطة ليس محرمًا لذاته بل مباحًا، فإن كان هذا اللباس بصفة تصده

عن الصلاة أو تحمله على تأخيرها عن وقتها لتعذر أدائها أو تعسره في حال لبسه،

ككون السراويل حازقًا؛ أي: ضاغطًا على البدن يمنع لشدة ضيقه من السجود،

وككون القلنسوة تمنع منه كذلك بشكلها.. . فإن ذلك يكون ضررًا دينيًّا مقتضيًا

للتحريم ما دام مانعًا، وكذلك إذا كان لبس الحاذق يضر البدن كما قالوه في المشد

الذي تشد النساء به خصورهن. وقد قال الدكتور سنوك المستشرق الهولاندي

المشهور الذي دخل في الإسلام، وجاور في مكة بضع سنين، وكان صديقنا السيد

عبد الله الزواوي مفتي مكة من شيوخه يعتقد صحة إسلامه- قال: إنه ثبت التجربة

الدقيقة في البلاد المختلفة أن المسلمين الذين يتركون زيهم ويلبسون الزي الإفرنجي

يترك أكثرهم الصلاة أو المحافظة عليها، مع العلم بأن أكثرهم يجعلها واسعة لا

يتعذر السجود ولا يتعسر في حال لبسها.

ونحن نزيد على هذا أننا رأينا بالاختبار في مصر أن الذين تركوا الزي

الوطني: الجبة والقباء (القفطان أو الغنباز) ، والعمامة حتى من غير المنسوبين

إلى طبقة رجال العلم والتعليم، واستبدلوا به الزي الإفرنجي، صار أكثرهم

يجلسون في الحانات، ويعاقرون الخمور على قارعة الطريق، ويختلفون إلى

معاهد الرقص والخلاعة ومواخير الزنا جهرًا، ومنهم من غير زيه؛ لأجل هذا

فكان عاصيًا لله تعالى به وسيلة ومقصدًا. وما كل من يلبسه كذلك ولا سيما الذين

اعتادوه من الصغر.

ثم إن هذا الزي قد صار - إذا استثنينا (البرنيطة) - من جملة الأزياء

الوطنية بمصر وبلاد أخرى، يلتزمه جميع رجال الحكومة ما عدا رجال الشرع

عنهم، فإذا أضيفت إليه البرنيطة التي لا تزال خاصة بالإفرنج ومقلديهم من الشعوب

غير الإسلامية، ولا يلبسها من المسلمين إلا الأفراد الذين يسافرون إلى بلاد الإفرنج؛

لأجل التنكر وإيهام أهل البلاد أنهم منهم، ويعتذرون عن هذا بأنهم إذا دخلوا البلاد

بزيهم الوطني يكونون مطمح أنظار الساخرين والمستهزئين، وقد يؤذون منهم.

وهذا اعتذار باطل كما جربنا بنفسنا، فقد زرنا أوربة بزينا الوطني الذي يعد زي

علماء الدين في بلادنا، ولم نلق أذًى من أحد باحتقار ولا غيره، نعم كانت تتوجه إلينا

الأنظار، وتلتفت نحونا الأعناق، ولا سيما إذا صلينا في بعض المتنزهات العامة،

ولكن كان يكون ذلك مع الأدب التام، بل كنا قد نحترم عند الذين يعرفوننا أكثر من

غيرنا.

وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الجبة الرومية والطيالسة الكسروية

لبيان الجواز، ولكنه أمر أمته بمخالفة الكفار في عادتهم وأزيائهم لا في أمورهم

الدينية فقط، ولما كان هو بمكة كان يخالف المشركين وإن وافق أهل الكتاب، فلما

صار في المدينة كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب لمجاورته لهم فيها، كما أمر بصبغ

الشيب؛ لأنهم لم يكونوا يصبغون، وروى أحمد وابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة

رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون،

فقال صلى الله عليه وسلم: (تسرولوا وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب) أي فأمر

بمخالفتهم بالجمع بين الأمرين، ولم يأمر بترك السراويل ألبتة لمخالفتهم؛ إذ الغرض

أن يكون للمسلمين مشخصات من العادات خاصة بهم، ولا يكونوا تابعين

لغيرهم؛ لأن الاستقلال في العادات وغيرها، مما يعد من مشخصات الأمم التي

تعرف بها، يزيد استقلال الأمة في مقوماتها الملية: كالدين واللغة والآداب، وما

يسمونه الثقافة القومية قوة ورسوخًا.

لهذه العلة أجاب عمر رضي الله عنه معاوية وغيره ممن طلبوا منه أن

يتجمل أمام أهل بلاد الشام؛ لأنهم اعتادوا أن يروا حكامهم من الروم في مظاهر

عظيمة من الزي وغيره - فقال ما معناه: جئنا لنعلمهم كيف نحكم لا لنتعلم منهم،

ولهذا الغرض نفسه كان يوصي قواده الفاتحين لبلاد الأعاجم وعماله فيها

بالمحافظة على عادات العرب وزيها، وينهاهم عن التشبه بالأعاجم.

روى مسلم في صحيحه عن أبي عثمان النهدي قال: كتب إلينا عمر ونحن

في أذربيجان: يا عتبة بن فرقد إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك،

فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل

الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس

الحرير إلا هكذا.. . ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعيه

الوسطى والسبابة وضمهما اهـ. وعتبة هذا كان قائد جيش عمر هنالك. قال النووي

في شرح مسلم: ومقصود عمر رضي الله عنه حثهم على خشونة العيش

وصلابتهم في ذلك، ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك، وقد جاء في هذا

الحديث زيادة في مسند أبي عوانة الإسفراييني وغيره بإسناد صحيح قال: أما بعد

فائتزروا، وارتدوا، وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل،

وإياكم والتنعم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا،

واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وابرزوا وارموا الأغراض اهـ.

فقد أمرهم بإلقاء الخفاف والسراويلات، وكانوا يلبسونها في عهد النبي -

صلى الله عليه وسلم بإذنه كما أمرهم بغير ذلك من لبوس العرب وعاداتهم،

ليحافظوا على مشخصاتهم فلا يندغموا في الأعاجم، ولولا ذلك لاندغموا في

الأعاجم بدلاً من تعريبهم لهم، والتمعدد التشبه بمعد بن عدنان، وكان شديد القوة

والبأس، يؤثر الخشونة في العيش على الترف والرخاوة ، وقوله: واقطعوا الركب

هو بضمتين جمع ركاب - ككتاب وكتب - أي: اقطعوا ركب شروجكم، فهذه

الأوامر والنواهي ليست دينية مفروضة على كل مسلم، بل هي من سياسة الإسلام

التي تطلب من جمهور الأمة في مثل هذه الأحوال، ولحكامهم أن يلزموهم إياها

شرعًا، وعليهم طاعتهم فيها إن كانت لتقوية بناء الأمة ورفعة شأن الملة.

وقد التزم هذه السياسة العربية الإسلامية في هذا العصر الشعب الإنكليزي،

ولا سيما في مستعمراته، فهو يتحرى أن يكون ممتازًا أو متبوعًا؛ ولذلك كان

أعز الشعوب نفسًا وأعلاهم همة وقدرًا. وقد رأيت السيد عليًّا ملاحظ أو وكيل

الشحنة (البوليس) في آغره من الهند يلبس قلنسوة (برنيطة) بريطانية،

فكلمته في لبسها وما فيه، وسألته: هل هو شرط رسمي في عمله؟ فقال: إن

الإنكليز يمنعون أهل الهند رسميًّا من لبس هذه البرانيط؛ لئلا يتشبهوا بهم فلا

يلبسها أحد إلا بإذن خاص، ولا يعطى هذا الإذن لكل أحد، وقد أعطيته بعد

أن طلبته؛ لأن التجوال في الشمس عامة النهار يؤذي رأسي.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) المنار: المراد بالكوعين الكوع والكرسوع على التغليب، فالكوع طرف عظم الساعد أو الزند

من جهة إبهام اليد، والكرسوع الطرف الآخر الذي يلي الخنصر، وما بينهما يسمى الرسغ بالضم.

ص: 416

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مواد المنار

تتزاحم المواد على المنار بتزاحم الأحداث والجوائب في العالم الإسلامي،

فتضيق صحائفه بها وبمواده الثابتة، فنضطر إلى ترك بعض ما بدأنا قبل إتمامه أو

تأخيره، كنا شرعنا في كتابة بحث طويل في مسألة ترجمة القرآن المجيد؛ لإقدام

الحكومة التركية على تنفيذ ما اقترحه بعض ملاحدتهم اللادينيين في أواخر عهد

الدولة العثمانية التي قضوا عليها، فما عتم أن فاجأنا اللادينيون في مصر بكتاب

(الإسلام وأصول الحكم) ، فصرفنا فضل وقتنا إلى السعي؛ لدمغ باطله، وإبطال

ضلالته، وإظهار ما انطوى عليه من الكفر الخفي والجلي، وتأليب علماء المسلمين

وعامتهم عليه، فكتبنا في ذلك عدة مقالات ضاق عنها المنار؛ فنشر بعضها في

جريدة اللواء وبعضها لما ينشر، كما عقدنا مجالس لذلك حضرها بعض علماء

الأزهر، وأساتذة المدارس العليا وغيرهم، ونشرنا صورة حكم هيئة كبار العلماء

على مؤلفه بطرده من علماء الأزهر، وما ترتب عليه من حكم الحكومة بطرده من

المحاكم الشرعية، وسنعود إلى ما تركنا بحسب الحاجة.

_________

ص: 424

الكاتب: محمد رشيد رضا

أسرار البلاغة أو فلسفة البيان

(تابع لما نشر في الجزء الخامس)

وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما

يحرك قوي الاستحسان، ويثير الكامن من الاستظراف، فإن التمثيل أخص شيء

بهذا الشان، وأسبق جار في هذا الرهان، وهذا الصنيع صناعته التي هو الإمام

فيها، والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمره في ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه

وعد محاسنه في هذا المعنى، والبدع التي يخترعها بحذقه، والتأليفات التي يصل

إليها برفقه، ازدحمت عليك، وغمرت جانبيك، فلم تدر أيها تذكر، ولا عن أيها

تعبر، كما قال:

إذا أتاها طالب يستامها

تكاثرت في عينه كرامها

وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما

بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق [1] ، وهو يريك للمعاني

الممثلة بالأوهام شبهًا في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرس،

ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد،

فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح:

هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماءً ومن أخرى نارًا

كما قال:

أنا نار في مرتقى نظر الحا

سد ماء جارٍ مع الإخوان

وكما يجعل الشيء حلوًا مرًّا، وصابًا عسلاً، وقبيحًا حسنًا، كما قال:

حسن في عيون أعدائه أقـ

ـبح من ضيفه رأته السوام [2]

ويجعل الشيء أسود أبيض في حال كنحو قوله:

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع [3]

ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضده كما قال:

غرة بهمة ألا إنما كنـ

ت أغرًّا أيام كنت بهيمًا [4]

ويجعل الشيء قريبًا بعيدًا معًا كقوله:

دانٍ على أيدي العفاة وشاسع

وحاضرًا وغائبًا كما قال:

أيا غائبًا حاضرًا في الفؤاد

سلام على الحاضر الغائب

ومشرقًا مغربًا كقوله:

له إليكم نفس مشرقة

إن غاب عنكم مغربًا بدنه

وسائرًا مقيمًا كما يجيء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة،

وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن:

وجوابة الأفق موقوفة

تسير ولم تبرح الحضرة

وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتوفيقه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة

الرجل في الحجة وحسن تخليصه للكلام، وقد مُثلت تارة بالهناء ومعالجة الإبل

الجربى به [5] ، وأخرى بحز القصاب اللحم، وإعماله السكين في تقطيعه وتفريقه في

قولهم: (يضع الهناء مواضع النُقب (وهو الجرب) ، ويطبق المفصل) [6] ،

فانظر هل ترى مزيدًا في التناكر والتنافر على ما بين طلاء القطران، وجنس

القول والبيان، ثم كرر النظر، وتأمل كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء من جمع

أحدهما إلى الآخر ما يأنس إليه العقل ويحمده الطبع، حتى إنك لربما وجدت لهذا

المثل إذا أورد عليك [7] في أثناء الفصول، وحين تبين الفاضل في البيان من

المفضول، قبولاً، ولا ما تجد عند فوح المسك ونشر الغالية [8] ، وقد وقع ذكر الحز

والتطبيق منك موقع ما ينفي الحزازات عن القلب، ويزيل أطباق الوحشة عن

النفس، وتكلف القول في أن للتمثيل في هذا المعنى المدى الذي لا يجارى إليه،

والباع الذي لا يطاول فيه، كالاحتجاج للضرورات، وكفى دليلاً على تصرفه فيه

باليد الصناع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يريك العدم وجودًا والوجود عدمًا،

والميت حيًّا والحي ميتًا، أعني: جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد

موته كأنه لم يمت، وجعل الذكر حياة له كما قال:(ذكرة [9] الفتى عمره الثاني) ،

وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت، وتصييرهم إياه - حين

لم يكن ما يؤثر عنه، ويعرف به - كأنه خارج عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم

يدخل في الوجود.

ولطيفة أخرى له في هذا المعنى هي - إذا نظرت - أعجب، والتعجب بها أحق

ومنها أوجب، وذلك جعل الموت نفسه حياة مستأنفة، حتى يقال: إنه بالموت

استكمل الحياة في قولهم: (فلان عاش حين مات) يراد: الرجل تحمله

النفس الأبية وكرم النفس والأنفة من العار على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس،

ففعل ما فعل كعب بن مامة [10] في الإتيان على نفسه، أو ما يفعله الشجاع

المذكور من القتال دون حريمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال

الأعداء، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر، وحديث يعاد على مر الدهور ويُشهر،

كما قال ابن نباتة:

بأبي وأمي كل ذي

نفس تعاف الضيم حرهْ

يرضى بأن يرد الردى

فيميتها ويعيش ذكره

وإنه ليأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة، ويشتق من الأصل الواحد أغصانًا

في كل غصن ثمر على حدة، نحو أن الزند بإيرائه [11] يعطيك شبه الجواد،

والذكي الفطن وشبه النجح في الأمور والظفر بالمراد وبإصلاده [12] شبه البخيل

الذي لا يعطيك شيئًا، والبليد الذي لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى،

وشبه من يخيب سعيه ونحو ذلك. ويعطيك [13] من القمر الشهرة في

الرجل والنباهة والعز والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان والنقصان بعد

الكمال، كقولهم:(هلال نما فعاد بدرًا) يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي

يشبه أصله من الفضل والعقل وسائر معاني الشرف كما قال أبو تمام:

لهفي على تلك الشواهد منهما

لو أمهلت حتى تصير شمائلا

لغدا سكونهما حجًى وصباهما

كرمًا وتلك الأريحية نائلا [14]

إن الهلال إذا رأيت نموه

أيقنت أن سيصير بدرًا كاملا

وعلى هذا المثل بعينه يضرب مثلاً في ارتفاع الرجل في الشرف والعز من

طبقة إلى أعلى منها كما قال البحتري:

شرف تزيَّد بالعراق إلى الذي

عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا [15]

مثل الهلال بدا فلم يبرح به

صوغ الليالي فيه حتى أقمرا

ويعطيك شبه الإنسان في نشأته ونمائه إلى أن يبلغ حد التمام، ثم تراجعه إذا

انقضت مدة الشباب، كما قال:

المرء مثل هلال حين تبصره

يبدو ضئيلاً ضعيفًا ثم يتسق [16]

يزداد حتى إذا ما تم أعقبه

كر الجديدين نقصًا ثم ينمحق

وكذلك يتفرع من حالتي تمامه ونقصانه فروع لطيفة، فمن ذلك قول ابن بابك:

وأعرت شطر الملك شطر كماله

والبدر في شطر المسافة يكمل [17]

قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخر الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا

العباس الضبي، وخلع عليهما [18] . وقول أبي بكر الخوارزمي:

أراك إذا أيسرت خيمت عندنا

مقيمًا وإن عسرت زرت لماما [19]

فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه

أغب وإن زاد الضياء أقاما

المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يحب، فإن

الإغباب أن يتخلل وقتي الحضور وقت يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر

إذا نقص نوره لم يوالِ الطلوع كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي ويمتنع من

الظهور في بعض، وليس الأمر كذلك؛ لأنه على نقصانه يظهر كل ليلة حتى يكون

السرار. وقال ابن بابك في نحوه:

كذا البدر يسفر في تمه

فإن خاف نقص المحاق انتقب

وهكذا ينظر إلى مقابلته الشمس واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سبب

زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاف، وحصوله في المحاق، وتفاوت حاله

في ذلك، فيصاغ منه أمثال ويبين أشباه ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة:

قد سمعنا بالغر من آل ساسا

ن ويونان في العصور الخوالي

والملوك الأولى إذا ضاع ذكر

وُجدوا في سوائر الأمثال

مكرمات إذا البليغ تعاطى

وصفها لم يجده في الأقوال

وإذا نحن لم نضفها إلى مد

حك كانت نهاية في الكمال

إن جمعناهما أضر بها الجمـ

ـع وضاعت فيه ضياع المحال

فهو [19] كالشمس بُعدها يملأ البـ

ـدر وفي قربها محاق الهلال

وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشبه من بعده وارتفاعه [20] ،

وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري: (دان على أيدي

العفاة) البيتين. ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع كقوله:

كالبدر من حيث التفت رأيته

يهدي إلى عينيك نورًا ساطعا

في أمثال كذلك تكثر، ولم أعرض لما يشبه به من حيث المنظر، وما تدركه

العين نحو تشبيه الشيء بتقويس الهلال ودقته، والوجه بنوره وبهجته، فأنا في

ذكر ما كان تمثيلاً، وكان الشبه فيه منويًّا.

***

فصل آخر

وإن كان مما مضى إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثلاً فهو

في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له والهمة

في طلبه، وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه

أشد.

ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه،

ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل

وألطف، وكانت به أضن وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد

الماء على الظمأ كما قال:

وهن ينبذن [21] من قول يصبن به

مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به،

فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية، وتعمد ما يكسب المعنى

غموضًا مشرفًا له وزائدًا في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا:

إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك، أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب: إني لم

أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في قوله:

فإن المسك بعض دم الغزال

وقوله:

وما التأنيث لاسم الشمس عيب

ولا التذكير فخر للهلال

وقوله:

رأيتك في الذين أرى ملوكًا

كأنك مستقيم في محال

وقول النابغة:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وقوله: [22]

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

وقول البحتري:

ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم

وللسيف حد حين يسطو ورونق

وقول امرئ القيس:

بمنجرد قيد الأوابد هيكل [23]

وقوله:

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الأقدام [24]

فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا

يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه؛

ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في

الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة،

كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له وكان:

من النفر البيض الذين إذا اعتزوا

وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا [25]

أو كما قال:

تفتح أبواب الملوك لوجهه

بغير حجاب دونه أو تملق

وأما التعقيد فإنما كان مذمومًا؛ لأجل أن اللفظ لم يرتب الترتيب الذي بمثله

تحصل الدلالة على الغرض، حتى احتاج السامع أن يطلب المعنى بالحيلة،

ويسعى إليه من غير الطريق كقوله:

وكذا اسم أغطية العيون جفونها

من أنها عمل السيوف عوامل

وإنما ذم هذا الجنس؛ لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في

مثله [26] وكدك بسوء الدلالة، وأودع المعنى لك في قالب غير مستو ولا مملس،

بل خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه منك عسر عليك، وإذا خرج خرج

مشوه الصورة ناقص الحسن.

هذا ، وإنما يزيد الطلب فرحًا بالمعنى وأنسًا به وسرورًا بالوقوف عليه إذا

كان لذلك أهلاً، فأما إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة،

ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضد مما بدأت به؛ ولذلك كان أحق

أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك ثم لا يجدي عليك، ويؤرقك ثم لا يروق لك، وما

سبيله إلا سبيل البخيل الذي يدعوه لؤم في نفسه، وفساد في حسه، إلى أن لا

يرضى بضعته في بخله، وحرمان فضله، حتى يأبى التواضع ولين القول؛ فيتيه

ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرض له بابًا ثانيًا من الاحتمال تناهيًا في سخفه، أو

كالذي لا يؤيسك من خيره في أول الأمر فتستريح إلى اليأس، ولكنه يطمعك

ويسحب على المواعيد الكاذبة، حتى إذا طال العناء، وكثر الجهد تكشف عن غير

طائل، وحصلت منه على ندم لتعبك في غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام

من تعسفه في اللفظ، وذهابه به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه،

وإغراب في الترتيب يعمى الإعراب في طريقه، ويضل في تعريفه.

كقوله:

ثانيه في كبد السماء ولم يكن

لاثنين ثانٍ إذ هما في الغار [27]

وقوله:

يدي لمن شاء رهن من يذق جرعًا

من راحتيك درى ما الصاب والعسل [28]

ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة، ويعد في وسائط

العقود [29] لا يحوجك إلى الفكر، ولا يحرك من حرصك على طلبه بمنع جانبه،

وببعض الإدلال عليك، وإعطائك الوصل بعد الصد، والقرب بعد البعد، لكان

(باقلَّى حارّ) ، وبيت معنى هو عين القلادة وواسطة العقد، واحدًا [30] ،

ولسقط تفاضل السامعين في الفهم والتصور والتبيين، وكان كل من روى الشعر

عالمًا به، وكل من حفظه - إذا كان يعرف اللغة على الجملة - ناقدًا في تمييز جيده

من رديئه، وكان قول من قال:

زوامل للأشعار لا علم عندهم

يجيدها إلا كعلم الأباعر

وكقول ابن الرومي:

قلت لمن قال لي عرضت على الأخـ

ـفش ما قلته فما حمده [31]

قصرت بالشعر حين تعرضه

على مبين العمى إذا انتقده

ما قال شعرًا ولا رواه فلا

ثعلبه كان لا ولا أسده

فإن يقل إنني رويت فكالدفـ

ـتر جهلاً بكل ما اعتقده

وما أشبه ذلك دعوى [32] غير مسموعة ولا مؤهلة للقبول، فإنما أراد بقولهم:

(ما كان معناه إلى قلبك، أسبق من لفظه إلى سمعك) أن يجتهد المتكلم في

ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخل بالدلالة، وعاق دون الإبانة، ولم

يريدوا أن خير الكلام ما كان غفلاً مثل ما يتراجعه الصبيان، ويتكلم به العامة في

السوق.

هذا ، وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح

أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفًا، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بد فيها

من بناء ثانٍ على أول، ورد تالٍ إلى سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على

الغرض من قوله: (كالبدر أفرط في العلو) إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصور

حقيقة المراد منه ووجه المجاز في كونه دانيًا شاسعًا، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود

إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين

بالأخرى، وترد البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط؛

ليشاكل قوله: (شاسع) ؛ لأن الشسوع هو الشديد من البعد، ثم قابله بما لا

يشاكله من مراعاة التناهي في القرب، فقال:(جد قريب) . فهذا هو الذي أردت

بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه

واجتهاد في نيله.

هذا ، وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل

تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك، ونشر بزه لديك، قد تحمل فيه المشقة

الشديدة، وقطع إليه الشقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دره حتى غاص، وأنه لم ينل

المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص؟ ومعلوم أن الشيء إذا علم أنه لم ينل

في أصله إلا بعد التعب، ولم يدرك إلا باحتمال النصب، كان للعلم بذلك من أمره

من الدعاء إلى تعظيمه، وأخذ الناس بتفخيمه، ما يكون لمباشرة الجهد فيه،

وملاقاة الكرب دونه، وإذا عثرت بالهوينا على كنز من الذهب لم تخرجك سهولة

وجوده إلى أن تنسى جملة أنه الذي كد الطالب، وحمل المتاعب، حتى إن لم تكن

فيك طبيعة من الجود تتحكم عليك، ومحبة للثناء تستخرج النفيس من يديك، كان

من أقوى حجج الضن الذي يخامر الإنسان أن تقول: (إن لم يكدني فقد كد

غيري) ، كما يقول الوارث للمال المجموع عفوًا إذا ليم على بخله به، وفرط

شحه عليه: إن لم يكن كسبي وكدي، فهو كسب والدي وجدي، ولئن لم ألق فيه

عناء لقد عانى سلفي فيه الشدائد، ولقوا في جمعه الأمرين [33] أفأضيع ما ثمروه،

وأفرق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أنفقت الأعمار في بنائه، والمبيد لما قصرت

الهمم على إنمائه.

وإنك لا تكاد تجد شاعرًا يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب،

ورد البعيد الغريب إلى المألوف القريب - ما يعطي البحتري ويبلغ في هذا مبلغه.

فإنه ليروض لك المهر الأرن رياضة الماهر [34] حتى يعنق من تحتك إعناق القارح

المذلل [35] ، وينزع من شماس الصعب الجامح، حتى يلين لك لين المنقاد المطيع،

ثم لا يمكن ادعاء أن جميع شعره في قلة الحاجة إلى الفكر، والغنى عن فضل

النظر، كقوله:

فؤادي منك ملآن

وسري فيك إعلان

وقوله:

عن أي ثغر تبتسم

وهل ثقل على المتوكل قصائده الجياد حتى قل نشاطه لها واعتناؤه بها؛ إلا

لأنه لم يفهم معانيها كما فهم معاني النوع النازل الذي انحط له إليه؟ أتراك تستجيز

أن تقول: إن قوله: منى النفس في أسماء لو تستطيعها [36] من جنس المعقد

الذي لا يحمد، وإن هذه الضعيفة الأسر [37] الواصلة إلى القلوب من غير فكر،

أولى بالحمد وأحق بالفضل.

هذا، والمعقد من الشعر والكلام لم يذم؛ لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر

على الجملة، بل لأن صاحبه يعثر فكرك في متصرفه [38] ، ويشيك طريقك إلى

المعنى [39] ، ويوعر مذهبك نحوه، بل ربما قسم فكرك، وشعب ظنك [40] حتى لا

تدري من أين تتوصل وكيف تطلب.

وأما الملخص فيفتح لفكرتك الطريق المستوي ويمهده، وإن كان فيه تعاطف

أقام عليه المنار، وأوقد فيه الأنوار، حتى تسلكه سلوك المتبين لوجهته، وتقطعه

قطع الواثق بالنجح في طيته [41] ، فترد الشريعة [42] زرقاء، والروضة غناء [43]

فتنال الري، وتقطف الزهر الجني، [44] وهل شيء أحلى من الفكرة إذا استمرت

وصادفت نهجًا مستقيمًا، ومذهبًا قويًّا، وطريقة تنقاد، وتبينت لها الغاية [45] فيما

ترتاد، فقد قيل: قرة العين وسعة الصدر، وروح القلب وطيب النفس، من أربعة

أمور: الاستبانة للحجة، والأنس بالأحبة، والثقة بالعدة، والمعاينة للغاية. وقال

الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر من الفضيلة: (وأين تقع لذة

البهيمة بالعلوفة [46] ، ولذة السبع بلطع الدم [47] ، وأكل اللحم؛ من سرور الظفر

بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبعد فإذا أعدت الحلبات [48] ؛

لجري الجياد، ونصبت الأهداف ليعرف فضل الرماة في الأبعاد والسداد، فرهان

العقول التي تستبق، ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية

والقياس والاستنباط) .

ولن يبعد المدى في ذلك، ولا يدق المرمى إلا بما تقدم من تقرير الشبه بين

الأشياء المختلفة، فإن الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقة في النوع، تستغني

بثبوت الشبه بينها، وقيام الاتفاق فيها عن تعمل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبيته

فيها، وإنها لصنعة تستدعي، جودة القريحة والحذق، الذي يلطف ويدق، في أن

يجمع أعناق المتنافرات المتباينات في ربقة [49] ، ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب

وشبكة [50] ، وما شرفت صنعة ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتاجان من دقة

الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من

زاولهما والطالب لهما في هذا المعنى [51] ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك

إلا من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات، وذلك بين لك فيما تراه من الصناعات

وسائر الأعمال التي تنسب إلى الدقة، فإنك تجد الصورة المعمولة فيها كلما كانت

أجزاؤها أشد اختلافًا في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتم،

والائتلاف أبين، كان شأنها أعجب، والحذق لمصورها أوجب.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المشئم: من أتى الشام، والمعرق: من أتى العراق.

(2)

وفي نسختنا: وجوه أعدائه، ولكن قال شيخنا: إن الرواية الصحيحة عيون أعدائه، وإن

قوله حسن؛ خبر لمحذوف هو الممدوح، وفي (عيون) صفة لأقبح الذي هو خبر ثان، والسوام: الماشية.

(3)

الأسفع: الأسود المشرب بحمرة، والاسم: السفعة بالضم.

(4)

يصف الشيب بأنه غرة شديدة، وإنما كان أغر في الوقت الذي كان فيه بهيمًا؛ أي: أسود الشعر، وفي رواية أبي هلال: مرة بدل بهمة. هذا ما كتبته على البيت في حاشية الطبعة الأولى، وأجازه شيخنا، إلا أنه علق على نسخة الدرس بإزاء قوله: غرة بهمة: أراد من الشدة أنها صعبة الاحتمال

اهـ؛ ولم يظهر لي الآن وجه تفسير البهمة بالشديدة، ومن المعلوم أن الغرة في الأصل البياض في جبهة الفرس فوق قدر الدرهم، ومنه: فرس أغر ، والبهمة كالظلمة وزنًا ومعنى، والبهيم: الذي لا شية فيه من غير لونه، ومنه ليل بهيم لا ضوء فيه، ويطلق الأغر على الحسن والأبيض من كل شيء، وعلى السيد الكريم، فإذا كان يصف شيبه فهو يقول: إنه - وإن لمته - غرة كالظلمة في قبحها وكراهته هو أو كراهة الحسان لها، وإنه إنما كان رجلاً أغر في الوقت الذي كان شعره أسود بهيمًا.

(5)

الهناء بالكسر: القطران والنقب ، كصرد الجرب قال عبد الباقي:

وما الهنا منكم بمشف نقبًا

وطالما أشفى الهناء النقبا.

(6)

يقال: طبق السيف إذا أصاب المفصل، قال الشاعر في وصف سيف:

يصمم أحيانًا وحينًا يطبق

ويقال للبليغ: قد طبق المفصل ويقال أيضًا:

يضع الهناء مواضع النقب

يعنون أنه ماهر مصيب.

(7)

وفي نسخة: إذا ورد عليك.

(8)

النشر: الرائحة الطيبة، والغالية: طيب معروف.

(9)

الذكرة بالضم: الصيت.

(10)

الظاهر أن يقال: فيفعل كما فعل كعب بن مامة، قال شيخنا: هو الإيادي المشهور، آثر رفيقه السعدي بالماء حتى مات عطشًا، ونجا السعدي وله يقول حبيب:

يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وقال له ولحاتم الطائي:

كعب وحاتم اللذان تقسما خطط العلى من طارف وتليد

هذا الذي خلف السحاب ومات ذا

في الجهد ميتة خضرم صنديد

إلا يكن فيها الشهيد فقومه لا يسمحون له بألف شهيد.

(11)

يقال: ورى الزند (كوعد) وأورى: إذا أخرج ناره، ويقال: أصلد: إذا صوت ولم تخرج منه النار.

(12)

عطف على قوله: يأتيك من الشيء الواحد إلخ.

(13)

يروى حلمًا بدل كرمًا، وقبل البيت الأخير

ولا عقب النجم المرذ بديمة

ولعاد ذاك الطل جودًا وابلا

والرثاء لولدين لعبد الله بن طاهر ماتا في يوم أحدهما هوى من سطح، والآخر تردى في بئر.

(14)

في كتاب المسالك:

عهدوه في خمليج أو ببلنجرا

وخمليج وبلنجر والبيضاء: مدن الخزز اهـ ، وقوله: تزيد بالعراق؛ أي: ابتدأت زيادته فيه، ثم لا زال يمتد إلى أن وصل إلى الذي عهدوه إلخ، والبيتان من قصيدة قالها في مدح إسحاق بن كنداج

الخزري القائد الكبير عندما توج وقلد السيفين.

(15)

اتسق الأمر: انتظم، والقمر كمل وتم نوره.

(16)

يروى: ثوب كماله.

(17)

وأبا العباس الضبي عطف على ضمير (استوزره) وهو أحمد بن إبراهيم الضبي ولاه الوزارة فخر الدولة أولاً ولقب بالرئيس، ثم ولى بعده الأستاذ أبا علي الجليل، وهجاهما أحد الشعراء من بيت المنجم فقال:

والله والله لا أفلحتم أبدًا

بعد الوزير ابن عباد ابن عباس

إن جاء منكم جليل فاجلبوا أجلي

أو جاء منكم رئيس فاقطعوا رأسى

(18)

لمامًا بالكسر ، أي: غبا.

(19)

قوله فهو: أي (مدحك) ، والخطاب للممدوح.

(20)

أي: القمر.

(21)

النبذ: الطرح وإلقاء الشيء، وفعله من باب ضرب.

(22)

أي: الشاعر المجهول ، لا النابغة.

(23)

المنجرد من الخيل: الأجرد، وهو قصير شعر الجلد، وذلك ممدوح فيها، والأوابد: جمع آبدة للوحوش والطيور التي تقيم في مكان واحد لا تظعن صيفًا ولا شتاء، ويستعار لفظ (قيد الأوابد) للفرس الجواد كأنه لسرعة عدوه وإدراكه لها قيد يمنعها الفرار حتى كأنها مقيدة به.

(24)

الجذع بالتحريك: الحدث ، والشاب الذي استكمل قوته، وأصله في الأنعام والدواب، وتختلف السن فيها، وجمعه: جذاع ، وجذعان بضم الجيم وكسرها، والقارح من ذي الحافر كالبازل من الإبل ما قرح نابه: أي طلع، وهو الذي بلغ نهاية السن التي ليس بعدها سن تسمى، ويكون في التاسعة وما بعدها، وإذا استعمل اللفظان في الناس يراد بالجذع: الحدث النشيط ، وبالقارح: العاقل المجرب قال الحريري:

وبرز فيها الجذع على القارح

(25)

قعقعوا: أي حركوا الحلقة التي هابها غيرهم؛ ليسمع صوت قعقعتها، فيفتح لهم كدأبهم وعادتهم.

(26)

مثله بغير تعقيد قول عبد الحميد بك الرافعي الطرابلسي:

بين السيوف وعينيها مناسبة بياض من أجلها قيل للأغماد أجفان.

(27)

البيت من قصيدة في مدح المعتصم، وقيل: المأمون، وفي رواية:(لاثنين ثاني)، ورواية أخرى:(ثانيًا) بالنصب مع تسهيل همزة (إذ)، والرواية الرابعة:(لاثنين ثالثًا)، وقبل البيت قوله: واعلم بأنك إنما تلقيهم

في بعض ما حفروا من الآبار

ولو لم يكد للسامري قبيله

ما خار عجلهم بغير خوار

وثمود لو لم يدهنوا في ربهم

لم ترم ناقته بسهم قدار

ولقد شفا الأحشاء من برحائها

أن صار بابك جار مازيار

وبعده البيت، والبرحاء: شدة الأذى، وبابك ومازيار: علمان لرجلين.

(28)

البيت من قصيدة يمدح بها المعتصم أيضًا، وقبل البيت:

كان أمواله والبذل يمحقها

نهب تعسفه التبذير والنفل

شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا

فأنت لا شك فيه السهل والجبل

وفي الديوان المطبوع: (تقسمه التبذير أو نفل)، والنفل بالتحريك: الغنيمة ، والهبة والزيادة، وفيه أيضًا:(فيك السهل والجبل) بكاف الخطاب.

(29)

الوسائط: جمع واسطة ما كان من الجوهر في وسط العقد ، وهو أجوده.

(30)

الباقلى بتشديد اللام والقصر ويمد الفول ، أي: لكان نداء بائع الفول السخن بهذه الكلمة (باقلي حار) ، وبيت شعر هو بحيث وصفه من الحسن متساويين لا تفاضل بينهما.

(31)

يريد علي بن سليم الأخفش ، والأبيات من قصيدة طويلة مطلعها:

رقاب أهل الحلوم معتمدة

مقصودة بالهوان معتمدة.

(32)

كلمة دعوى: خبر قوله: وكان قول من قال إلخ.

(33)

لقي منه الأمرين ، ونزل به الأمران: مثل يضرب في لقاء الشر وعظائم الأمور، والأمران: الهرم والمرض أو الفقر والهرم.

(34)

الأرن: البطر المرح معنًى ووزنًا وفعلاً.

(35)

أعنق الفرس: أسرع وسار العنق وهو بالتحريك سير فسيح واسع للإبل والدواب، والقارح: ما قرح نابه ، أي: طلع.

(36)

مطلع قصيدة من غرر قصائده في مدح المتوكل قال:

منى النفس في أسماء لو تستطيعها

بها وجدها من غادة وولوعها

وقد راعني منها الصدود وإنما

تصد لشيب في عذاري يروعها

ومنها في المدح:

ولما رعى سرب الرعية ذادها

عن الجدب مخضرّ التلاع مريعها

علمت يقينًا مذ توكل جعفر

على الله فيها أنه لا يضيعها

التلاع بالكسر: جمع كلمة تلعة بالفتح، وهي مسيل الماء، وما اتسع من فوهة الوادي والقطعة المرتفعة من الصحراء، والمريع كالخصيب وزنًا ومعنى، ومنها فيه:

وفرسان هيجاء تجيش صدورها

بأحقادها حتى تضيق دروعها

تقتل من وتر أعز نفوسها

عليها بأيد ما تكاد تطيعها

إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

شواجر أرماح تقطع بينهم

شواجر أرحام ملوم قطوعها

فلولا أمير المؤمنين وطوله

لعادت جيوب والدماء دروعها

والقصيدة كلها محاسن ولكن ينقل عن المتوكل أنه قال: مازال يقول: (عها عها) حتى كدنا نقيء، وهذا هو مراد المصنف بقوله: لأنه لم يفهم معانيها إلخ.

(37)

الأسر: إحكام الخلقة ومنه: [نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ](الإِنسان: 28) .

(38)

عثّره بالتشديد ، وأعثره: جعله يعثر.

(39)

أشاك الطريق: أدخل الشوك فيه.

(40)

من شعب الشيء: إذا فرقه.

(41)

الطية بالكسر: اسم هيئة من طوى الأرض في سفره، قال شيخنا في طيته: فيما طوى قصده عليه، أقول وفي الأساس: مضى لطيته ، وأين طيتك وأمتك (بالفتح أي ما نؤمه ونقصده) ، وبعدت عنا طيته، وهي الجهة التي إليها يطوي البلاد.

(42)

الشريعة: مورد الشاربة من النهر.

(43)

الغنَّاء بالتشديد: كثيرة الشجر، يقال: غنَّ الوادي يغَنُّ بفتح الغين: إذا كثر شجره.

(44)

هو ما جني من ساعته فهو غض ليس بذابل.

(45)

الغاية: فاعل تبينت.

(46)

العلوفة بالفتح: ما تأكله الدابة، وجمعه علف بضمتين ، والعليفة والعلوفة: الناقة تعلفها ولا ترسلها إلى المرعى (ش) وفي المصباح: العلوفة وزان حلوبة وركوبة: ما يعلف من الغنم وغيرها، يطلق بلفظ واحد على الواحدة والجمع، وهو من علف الدابة علفًا، من باب ضرب، واسم المعلوف علف بفتحتين ، وجمعه: علاف كجبل وجبال.

(47)

لطع الدم من باب فتح: شربه أو لحسه.

(48)

الحلبات: جمع حلبة بالفتح وهي مجال الخيل للسباق، ويقال للخيل التي تأتي من كل أوب حلبة (أساس) .

(49)

الربق بالكسر: وزان حمل، حبل فيه عدة عرى تشد به إليهم، وكل عروة من العرا التي فيه تسمى ربقةً، ويجمع أيضًا على رباق. وربقت الشاة (من باب قتل) ، أدخلت عنقها في الربقة فهي ربيقة ومربوقة ومن المجاز، ربقته في الأمر. وفي الحديث (خلع ربقة الإسلام من عنقه) .

(50)

الشبكة بالضم: نسب القرابة ولحمتها.

(51)

أي: دقة الفكر ولطف النظر.

ص: 425

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كلمة

في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير

(تابع ما قبله)

بعد هذا التمهيد أقول: إن للمسلمين في هذين الكتابين (المغني والشرح

الكبير للمقنع) بضع فوائد:

(إحداها) : أنهم باطلاعهم على أدلة الأحكام يكونون على حظ من البصيرة

في دينهم، كما وصف الله تعالى رسوله وأتباعه بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى

اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) .

(ثانيتها) : أن المتلقي لأحكام دينه من فقه أي مذهب من المذاهب المدونة

يخرج باطلاعه على أدلتها في الكتابين من ربقة الجمود على التقليد المحض المذموم

في القرآن، إلى الاتباع المقرون بالبصيرة الذي اشترطه الأئمة فيمن يتلقى العلم

عنهم كما تقدم.

(ثالثتها) : أن من اطلع على أقوال أئمة السلف وعلماء الأمصار أصحاب

المذاهب المختلفة وأدلتهم عليها، بالطريقة التي جرى عليها صاحب المغني وتلميذه

صاحب الشرح الكبير من احترام الجميع، وتقديم الأقدم في التاريخ على غيره في

الذكر غالبًا يكون جديرًا باحترام جميع العلماء وجميع المذاهب، وعدم جعل المسائل

الخلافية سببًا للتفرق أو التعادي بين المسلمين، ولا للتفاضل المفضي إلى ذلك،

فإن المقلد لأي واحد منهم ينبغي أن يقتدي به في سيرته وهديه.

(رابعتها) أن يعلم أن من أدلتهم ومداركهم ما هو مستند إلى نصوص

الكتاب والسنة القطعية أو الظنية، وما مستنده القياس أو الاستنباط من القواعد

العامة أو الخاصة بمذهب دون مذهب: كالمصالح عند المالكية وغيرهم،

والاستحسان عند الحنفية، وبهذا يعلم غلط من زعم أن المسلمين استمدوا أحكام

المعاملات من القوانين الرومانية، ومن زعم أن جميع ما يذكر في كتب الفقه هو

من شرع الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم حتى رتب عليه بعضهم

أن من أنكر شيئًا منه أو اعترض عليه يكون مرتدًّا عن الإسلام، وفي بعض هذه

الكتب أن من عمل عملاً يعد في العرف إهانة لشيء من هذه الكتب أو لورقة فتوى

عالم يحكم بردته، ويقتل إذا لم يتب، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر

المسلمين ولا يرثه أولاده؛ لأنه أهان شرع الله، ويلزم منه كذا وكذا! ! بل قال:

إن إهانة العالم كفر؛ لأنها إهانة للشرع إلخ، فهذه تشديدات ردها المحققون.

والحق أن أكثر ما في كتب الفقه مسائل اجتهادية، وآراء ظنية مستنبط بعضها

من أقوال فقهائهم، أو من علل دقيقة من علل القياس ينكر مثلها أكثر علماء السلف

الصالح، فهي تحترم كما يحترم ما يخالفها في المذاهب الأخر على سواء، من باب

احترام العلم واستقلال الرأي، وعدم جعل الخلاف ذريعة للعداوة والبغضاء في

الأمة الواحدة المأمورة بالاتفاق والاعتصام. ولكن لا يتخذ شيء منها من قواعد

الإيمان، ولا يعد مخالفه كافرًا ولا عاصيًا لله تعالى، سواء كان مستدلاًّ أو مقلدًا

لغيره في مخالفتها، ولا يجعل ضعف شيء منها مطعنًا في أصل الشريعة، كما

يفعل ذلك بعض أعداء الإسلام، بل يستعان بمجموعها على التيسير على الناس.

كان كبار علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من مجتهدي السلف يتحامون أن

يسموا ظنونهم الاجتهادية حكم الله وشرع الله، بل كان أعظمهم قدرًا وأوسعهم علمًا

يقول: هذا مبلغ علمي واجتهادي، فإن كان صوابًا فمن الله وله الفضل، وإن كان

خطأً فمني ومن الشيطان، وكان مما يوصي به النبي صلى الله عليه وسلم

أمير الجيش أو السرية قوله: (وإذا حاصرت حصنًا فأرادوك أن تنزلهم على حكم

الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم

الله فيهم أم لا) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، وقال ابن القيم في أعلام

الموقعين: لا يجوز للمفتي والحاكم أن يقول: هذا حكم الله أو أحل الله أو حرم الله؛

لما يجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده ، وذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية حضر

مجلسًا ذكرت فيه قضية، وقيل: حكم فيها بحكم الله، فقال: بل حكم فيها برأي

زفر بن الهذيل. هذا في عصور التقليد المحض، ولقد صرنا إلى عصر كثر فيه

استقلال الفهم والرأي مع قلة الإلمام بعلوم الدين، فصارت دعوى كون كل ما في

تلك الكتب الفقهية من دين الله وأحكامه التي خاطب بها عباده ، منفرة عن دين الله

تعالى، وسببًا للارتداد والإلحاد، فينبغي أن يقال: إنها مستندة إلى الشرع؛

باشتمالها على نصوصه، وجعلها هي الأصل، وببناء الاجتهاد فيها على أصول ثبتت

فيه، ولكن كل اجتهاد يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب.

(خامستها) أن الذي يقرأ الكتابين أو يراجع المسائل فيهما يقف على

مسائل الإجماع، وهي الواجبة قطعًا على جميع المسلمين، فلا يسع أحدًا منهم ترك

شيء منها إلا بعذر شرعي، والواجب أن تراعى في فريضة الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر بين المسلمين كافة على الإطلاق، وأما المسائل الخلافية فإنما

يؤمر بالواجب أو المندوب، وينهى عن المحرم أو المكروه منها، من يعلم أن

المأمور أو المنهي موافق له في اعتقاده، سواء كانت الموافقة عن دليل أو عن اتباع

مذهب من المذاهب، أو كان يرجو قبول قوله فيه أو دليله عليه، وقد صرحوا بأنه

ليس للشافعي أن يأمر الحنفي بالوضوء من لمس المرأة، أو أن ينكر عليه الصلاة

إذا لم يتوضأ منه، وما أشبه ذلك ، ومنها وهو المراد مما قبله أنها هي الجامعة بين

المسلمين، والمناط للاتفاق والوحدة التي تقتضيها أخوة الإيمان، وهو أهم ما نقصد

إليه من كتابتنا هذه.

(سادستها) أنه يعلم من أدلة المذاهب أن جل الأحاديث التي يحتج بها

أهل الحديث على أهل الرأي وعلى القياسيين من علماء الرواية هي من أحاديث

الآحاد، التي لم تكن مستفيضة في العصر الأول أو نقل عن الصحابة والتابعين

خلاف في موضوعها، فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام الذي جرى عليه

عمل النبي وأصحابه، وليست مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ

الشاهد فيه الغائب، بل كانت مما يرد كثيرًا في استفتاء مستفتٍ عرضت له المسألة

فسأل عنها فأجيب، ولعله لو لم يسأل لكان في سعة من العمل باجتهاده فيها، ولكان

خيرًا له وللناس، إذ لو كانت من مهمات الدين التي أراد الله تكليف عباده إياها

لبينها لهم من غير سؤال، فإنه تعالى أعلم بما هو خير لهم، وقد كان النبي -

صلى الله عليه وآله وسلم يكره كثرة السؤال ونهى عنها؛ لئلا تكون سببًا لكثرة

التكاليف؛ فتعجز الأمة عن القيام بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوني

ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا

نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه الشيخان

من حديث أبي هريرة، ورواه الدارقطني من وجه آخر، وقال: فنزل قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)

الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تعتدوها، وحد

حدودًا فلا تقربوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من

غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا حسنه

الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه والنووي في الأربعين، وله شواهد في مسند

البزار ومستدرك الحاكم وصححه وغيرهما.

وفوق كل هذا قول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، ومن الجهل الفاضح والجناية على

الدين أن نهدم هذه القواعد والأصول القطعية بأقيسة من ظنون الرأي والقياس، وقد

ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب كل مستفت بما يناسب حاله،

وأن بعض فتاواه كانت رخصًا خاصة أو عامة، ومن ذلك أنه رخص لعقبة بن

عامر ولأبي بردة بن نيار بأن يضحي بالجذع (أو العتود) من المعز، وهو ما

رعى وقوي وأتى عليه حول، وقال الجوهري: وخيره ما بلغ سنة. والحديث

متفق عليه والجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، يمنعون التضحية بالجذع من المعز،

ومنه على قول حديث طلق بن علي: إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم

الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: (إنما هو بضعة

منك) رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، والدارقطني، وصححه بعضهم،

واختلفوا في التصحيح والترجيح بينه وبين حديث بسرة عند الخمسة أيضًا (من

مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ) ، والمحققون من أهل الحديث على ترجيح

حديث بسرة، وأما العمل فقد روي الخلاف فيه عن بعض كبار الصحابة والتابعين

وأهل البيت وعلماء الأمصار.

وحمل الشيخ عبد الوهاب الشعراني الحديثين في ميزانه على مرتبتي التخفيف

والتشديد: أي العزيمة والرخصة كما فعل في جميع مسائل الخلاف، وعلل ذلك

بعلل بعضها معقول، وبعضها لا يعرف مثله إلا عن جماعته الصوفية: ككون سؤر

الكلب يقسي قلب من شربه، أو شرب من الإناء الذي ولغ فيه قبل غسله سبع

مرات إحداهن بالتراب، وقد وافقه علماء عصره في مصر على قاعدته في إرجاع

جميع مسائل الخلاف إلى المرتبتين، وكون أصلها كلها مستمدة من عين الشريعة

على ما في توجيه الكثير منها من البعد، ولعله لرضاهم عن بناء ذلك على

الاعتراف بأن جميع الأئمة المجتهدين على هدى من ربهم؛ وهذا حق من حيث إن

المجتهد إذا أصاب كان له أجران، وإذا أخطأ كان له أجر واحد كما ورد في

الحديث الصحيح، ولكن لا يمكن أن يكون كل اجتهاد صوابًا وهدى، وكل قول قاله

مجتهد حقًّا، وأما العزائم والرخص في الشريعة فحق لا ريب فيه، وفي الحديث

المرفوع (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد

وابن حبان والبيهقي وصححوه، وهو عام، وليست العزائم للخواص والرخص

للعوام، إلا من حيث الخلق والطبع، لا الشرع، وأظهر المسائل في قاعدة

الشعراني ما يدخل في أبواب الطهارة، فإن القطعي منها في القرآن أن الماء مطهر

وطهور، وأن الله يحب المتطهرين، وأن طهارتي الوضوء والغسل فرضان

وشرطان للصلاة، وقوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4) ، وقوله في

القرآن {لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) ، وأن التيمم واجب عند تعذر

استعمال الماء لفقده أو للمرض.

وأما السنة فلم يرد فيها تفصيل قطعي لأعيان النجاسات وأنواع المطهرات،

وكان الأعرابي يجيء من البادية؛ فيسلم، فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم

بنفسه أو يأمر أصحابه بتعليمه ما أوجب الله عليه من الوضوء والغسل والتيمم

وأركان الإسلام، وحديث الأعرابي الذي هو عمدة الفقهاء في تحديد أركان الإسلام

مشهور.

ولو كان هنالك نجاسات حكمية تطهيرها تعبدي تتوقف معرفتها على نصوص

تفصيلية خاصة؛ لنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تلقينها للأعرابي

وأمثاله، كسائر قواعد العبادة التي كان يتعلمها كل من أسلم، ويبلغه الشاهد الغائب،

كما كانوا يعلمونهم الوضوء والغسل والصلاة مثلاً، ولم تترك النصوص المجملة

الواردة في الطهارة وطلب النظافة بغير بيان تفصيلي، والذي يفهمه أهل لغة

الشرع من ذلك الإطلاق هو طلب التنزه عن جميع الأقذار، والتطهر مما يصيب

البدن أو الثوب أو المكان منها؛ ليكون المؤمن نظيف الظاهر بقدر ما يتيسر له

حسب حاله واجتهاده، كما يجعله الإيمان نظيف الباطن - فالنجس في اللغة هو

المستقذر الذي تنفر منه الطباع، ولفظ النجس لم يرد في القرآن إلا في قوله

تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} (التوبة: 28) ،

الآية والمراد به: النجاسة المعنوية لا الحسية، إلا في قول للشيعة، وورد لفظ

الرجس في تسع آيات أكثرها قطعي في الرجس المعنوي، واحتمال الحسي في

موضعين: أحدهما قوي وهو قوله تعالى: {قُلْ لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً

عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام: 145) : أي الخنزير أو كل ما ذكر. وثانيهما ضعيف جدًّا وهو قوله

تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90) ، أما قوة الأول في الخنزير؛ فلأنه كثير التتبع لأكل الأقذار

دائمًا، فهو تعليل لتحريم أكله دائمًا كتحريم الجلالة ما دامت تأكل القذر لا دائمًا،

وأما ضعف الثاني فلأن لفظ رجس خبر عن الخمر وما عطف عليها، وهو لا

يوصف بالنجاسة قطعًا، ولتفسيره في الآية بأنه من عمل الشيطان يوقع به العداوة

والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الخمر غير مستقذرة عند

العرب ولا غيرهم.

وأما أخبار النبي صلى الله عليه وسلم فقد ورد فيها هذان اللفظان في

الاستعاذة، وفي لحم الحمر الأهلية، وفي وصف الروث بأنه رجس، وفي رواية

ركس وهو تعليل لكونه لا يصلح للاستنجاء به، وورد أن المسلم لا ينجس حيًّا ولا

ميتًا، وأن الماء طهور لا ينجسه شيء. صححه أحمد، وقيده الجمهور بعدم التغير

بالنجاسة، وبعضهم بحديث (إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث) وسئل صلى الله عليه

وسلم عن دم الحيض فأمر بحته وقرصه ونضحه أو رشه بالماء، وهذا حديث متفق

عليه، وفي حديث آخر غسل الثوب منه بماء وسدر، وورد أن طهور النعلين من

الخبث دلكهما بالأرض، وأن طهور كل أديم (جلد) دباغه، وقال صلى الله عليه

وسلم في الميتة: (إنما حرم أكلها) رواه الجماعة عن ابن عباس مرفوعًا إلا ابن

ماجه، واستدل به من لا يقول بنجاستها، وورد غسل الثوب من المني الرطب،

وتنحيته بإذخرة أو غيرها، وفركه إذا جف، واستدل بهما من قال بطهارته. وفي

حديث أم سلمة: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقال لها صلى

الله عليه وسلم: (يطهره ما بعده) رواه الأربعة، وصح الاستنجاء من البول

والغائط بالحجارة وما في معناها، وهي لا تزيل العين كلها ولا الأثر، والأمر

بغسل العضو من المذي لمن سأل عنه، وينضح الثوب بالماء من بول الغلام الذي

لم يأكل الطعام.

ولما لم يجد العلماء نصوصًا قطعية في أعيان النجاسات والمطهرات غير

أمثال هذه الأخبار الآحادية، اختلف اجتهادهم في فهمها بما نلخص أهمه بالإجمال.

***

المذاهب في النجاسات والمطهرات

قال الإمام ابن رشد الحفيد الأندلسي في (بداية المجتهد) ما نصه:

وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان

ذي الدم (السائل) الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب

حياته ، وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت،

إذا كان مسفوحًا أعني: كثيرًا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه وأكثرهم على نجاسة

الخمر، وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين [1] ، واختلفوا في غير ذلك اهـ؛

وقد حصر الإمام الشوكاني النجاسات في الروضة الندية بقوله:

(والنجاسات هي غائط الإنسان مطلقًا وبوله - إلا الذكر الرضيع - ولعاب

كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل

الطهارة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) اهـ؛

وقد علم منه الخلاف في الميتة والدم المسفوح وفي بعض ما ذكره هو خلاف

أيضًا: كلعاب الكلب، وممن قال بطهارته عكرمة ومالك.

واختلف المجتهدون في المطهرات أيضًا فمنهم من يحصر التطهير في الماء

المطلق كالشافعية والحنابلة إلا ما ورد من الاستنجاء بالحجارة ونحوها، وطهارة

جلود الميتة بالدباغ، وطهارة الخمر بتخللها بنفسها، والماء المقيد كماء الورد لا

يطهر عندهم، ويجب عندهم في التطهير إزالة عين النجاسة وصفاتها إلا ما عسر

من لون وريح، وشرطه أن يكون الماء واردًا على المتنجس لا مورودًا إذا كان

قليلاً: أي دون القلتين، وهم أشد الفقهاء توسعًا في النجاسات، ومن مذهبهم أن من

خرج من بين أسنانه دم ولم يطهره بالماء المطلق بقي فمه نجسًا، وكانت صلاته

وصومه باطلين، وإن طال الزمن، مع القطع بزوال النجاسة وأثرها، ولو كان

الصحابة يتطهرون من الدم لتواتر عنهم إذ كانوا في حروب متصلة ولم يكن

لأكثرهم إلا ثوب واحد، وقال الشافعية بالعفو عن النجاسة التي لا يدركها الطرف

كأثر رجل الذبابة، فقالت الحنابلة: بل لا بد من غسل ما تقع عليه وإن لم ير أثره.

وذهب الحنفية إلى أن كل ما يزيل النجاسة من المائعات مطهر، وكذا صقل

الجسم الصقيل: كالسيف والزجاج، وكذا الشمس والهواء والنار، وما يسمونه

انقلاب العين: كالصابون من الزيت النجس - على خلاف في بعض الفروع -

وهؤلاء نظروا إلى مراد الشارع من الطهارة وهو يحصل بذلك، قال في بداية

المجتهد: إن المسلمين اتفقوا على أن الماء الطهور يزيل النجاسة وعلى الاستنجاء

بالحجارة (واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها، فذهب قوم

إلى أن ما كان طاهرًا (فهو) يزيل عين النجاسة مائعًا كان أو جامدًا في أي موضع

كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه،) ، ثم ذكر ما وقع من الجدال بين الحنفية

والشافعية في المسألة، وكون إزالة النجاسة تعبديًّا أو معقول المعنى، واضطرار

الشافعية إلى القول: بأن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في

غيره وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين، وأن المقصود إنما هو إزالة

ذلك الحكم الذي اختص به الماء لا ذهاب عين النجاسة، بل قد تذهب العين ويبقى

الحكم، (قال) : (فباعدوا المقصد، وقد كانوا اتفقوا مع الحنفيين على أن طهارة

النجاسة ليست حكمية؛ أعني: شرعية؛ ولذلك لم تحتج إلى نية - إلى أن قال في

هذا المعنى - وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول: عبادة. إذا ضاق عليه المسلك مع

الخصم فتأمل ذلك، فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع. اهـ؛ أقول: ومن

الغريب أن الذين قالوا: بأن أحكام النجاسة وإزالتها تعبدية أدخلوا فيها القياس

كقياسهم بدن الكلب وشعره على لعابه، وقياس الخنزير على الكلب في كونه يغسل

مما أصابه سبع مرات إحداهن بالتراب.

وكان الحامل لهم على هذا التشديد في أمر النجاسة القول بوجوب إزالتها،

وجعله شرطًا لصحة الصلاة، وهذا محل خلاف أيضًا. (قال) في بداية المجتهد:

وأما الطهارة من النجاسة فمن قال: إنها سنة مؤكدة فيبعد أن يقول: إنها فرض في

الصلاة، ويجوز أن لا يقول ذلك، وحكى عبد الوهاب عن المذهب (أي: مذهب

مالك) قولين: أحدهما: أن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة في حال القدرة

والذكر، والقول الآخر: أنها ليست شرطًا، والذي حكاه من أنها شرط لا يتخرج

على مشهور المذهب من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة إلخ.

وقد استقصى الشوكاني في نيل الأوطار كل ما استدلوا به على اشتراط

الطهارة من النجاسة في صحة الصلاة وبين أنه ليس فيه شيء يدل على الشرطية،

ولكن قد يدل بعضها على وجوب إزالتها، قال: وكون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده

مذهب ضعيف، وبين مطلق الوجوب والشرطية بون بعيد. اهـ.

وجملة القول: إن القطعي المجمع عليه هو أن الطهارة مطلوبة شرعًا، وأن

المفروض منها هو الوضوء، والغسل من الجنابة والحيض والنفاس بالماء والتيمم

عنهما عند فقد الماء أو التضرر باستعماله، وأن مراد الشارع منها النظافة مع

مراعاة اليسر، وعدم الحرج كما قال تعالى بعد آية المائدة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ

عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة: 6) ، وإزالة النجاسة أولى

بهذا؛ ولذلك ترك تفصيل أمرها لاجتهاد الأمة، فاختلف اجتهاد علمائها بما ذكرنا

المهم منه مجملاً. فنظر بعضهم إلى أكمل ما يحصل به مراد الشارع: كالشافعية،

والحنابلة، وبالغوا فيه، ونظر بعضهم إلى أدنى ما كلفته الأمة، وأيسر ما يطلب

من بدوها وحضرها وغنيها وفقيرها؛ كالمالكية وتوسط بعضهم فشددوا في بعض

الفروع وتساهلوا في بعض: كالحنفية.

وقد تقدم أن الأئمة لم يكونوا يعدون اجتهادهم تشريعًا عامًا تكلفه الأمة كما تكلف

العمل بنصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة، ولا سببًا للتفرق في

الدين، وأن بعض مقلدتهم شددوا، وعسروا، وجعلوا اختلافهم نقمة لا رحمة؛ حتى

قال بعض متفقهة هذا العصر: بنجاسة كل ما دخلت فيه مادة الغول - (الكحول أو

السبرتو) - من أعطار، وطيوب، وأدهان، وأدوية، وهي كثيرة جدًّا عمت بها

البلوى في الصيدليات، والطب، والصناعات، وشبهتهم أن هذه المادة هي المؤثرة

في الخمور المحرمة، وفاتهم أنها هي المؤثرة في كل المختمرات المحللة بالإجماع

كخميرة العجين أيضًا، على أن هذه المادة أقوى من الماء في التطهير

وإزالة عين النجاسة وصفاتها كما شرحناه في مواضع من المنار.

وإنما غرضنا هنا أن نبين أن يسر الشريعة وحكمة التشريع وكون الاجتهاد

رحمة للأمة إنما يعرف من مجموع كلام المجتهدين، ويفوت من قصر نظره على

مذهب واحد من مذاهبهم، وأن طلاب الإصلاح للأمة الإسلامية ما زالوا يقترحون

تأليف جمعية من علماء المذاهب المتبعة كلها، تضع للأمة كتبًا في العبادات

والمعاملات، تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، ومن اجتهاد جميع المجتهدين،

يراعى فيها اليسر، ورفع الحرج، ودرء المفاسد، ومراعاة المصالح، ومراعاة

العرف، وغير ذلك من القواعد العامة، وهذان الكتابان من أعظم الوسائل لذلك فهو

الفائدة السابعة لما تقدم من فوائدهما، وما وضعناه عليهما من التعليقات فبهذه النية،

ونسأله تعالى أن يعيد لهذه الأمة وحدتها وهدايتها وعزتها، ولن يصلح آخرها إلا ما

صلح به أولها، والحمد لله أولاً وآخرًا.

_________

(1)

أي: والفقهاء، ومنهم الإمام ربيعة شيخ مالك، والإمام داود، ومن المتأخرين الإمام الشوكاني.

ص: 442

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الخطر على الحجاز وعلى الإسلام

(1)

في أوائل هذا الصيف ألمَّ بالقاهرة رجل سوري كان يشغل عملاً مهمًّا في

حكومة الشريف علي بجدة، فشرح لنا ما وصلت الحال هنالك من القلة والعسرة

واليأس من كل شيء إلا من الإنكليز، وقال: إنه علم أن الشريف علي بن الحسين

استغاث بالمعتمد الإنكليزي، وعرض عليه أن يطلب من دولته مساعدته على

سلطان نجد، على أن يكون الحجاز كله تحت الحماية الإنكليزية.. . وأن المعتمد

وعده بالكتابة إلى حكومته بذلك، وكتب بالفعل، قال الراوي: وقد سافرت قبل

مجيء الجواب، فإن جاء بعدم القبول فلا شك عندي في أن الملك عليًّا يفر من جدة

مبحرًا إلى حيث يعلم الله تعالى، وتسقط في أيدي الوهابيين، وإن جاء بالقبول

تدخل المسألة في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.

وأقول: قد سبق للشريف علي مثل هذا العرض كما علمنا من الوفد الهندي

الذي كان عنده في جدة في العام الماضي، ولكن المعتمد قال له يومئذ: إن حكومته

على الحياد.

ثم حدثني رجل آخر من الثقات أنه سمع من لسان الشيخ عبد الملك الخطيب

في الإسكندرية يوم أَلمَّ بها الملك فيصل، أن وزارة الداخلية المصرية بلغته أنها

قررت إلغاء الحجز على الذخائر الحربية الهاشمية المحجوزة في السويس، وأن

الحجز عليها كان بإيعاز من الإنكليز لوزير الداخلية إسماعيل صدقي باشا (كان) ،

فعلمت أن هذه الحكومة الماكرة عادت إلى التدخل في أمر الحجاز بمساعدة صنائعها

وملوكها حسين بن علي وأولاده على سلطان نجد، بل على الشعب العربي والأمة

الإسلامية.

وأما السبب في هذا فليس رضا الشريف علي بجعل الحجاز تحت الحماية

الإنكليزية على قواعد والده حسين التي سماها (مقررات النهضة) فقط، بل

السبب الأول المباشر هو بيعه للإنكليز أهم منطقة حجازية حربية، وهي منطقة

العقبة ومعان المجاورة للمدينة المنورة مع اليأس من سلطان نجد أن يسمح بأن

يكون لهم أدنى نفوذ في الحجاز أو غيره من بلاد العرب، وهذا أمر قد أصبح قطعيًّا؛

إذ صرح به السلطان عبد العزيز آل سعود في منشوراته الرسمية، ومنها المنشور

الذي صدر بمكة المكرمة في آخر ذي الحجة الحرام الماضي، ونشر في جريدة أم

القرى، ونقلته عنها أكثر الجرائد المصرية، وناهيك بتصريحه فيه وفيما سبقه بأن

حكومة الحجاز تدار بالنظام الشرعي الذي يقرره المؤتمر الإسلامي العام، الذي

اقترحه هو منذ تصديه لإنقاذ الحجاز من سلطة حسين الشخصية التي عرف فسادها

العالم كله، حتى إن ولي عهده الشريف عليًّا وأنصاره القليلين الذين بايعوه تقربوا

إلى العالم الإسلامي بزعمهم (أنهم خلعوا حسينًا ونصبوا عليًّا ملكًا دستوريًّا على

الحجاز) . وهم كاذبون ومخادعون في دعوى الخلع وفي دعوى الحكومة الدستورية.

لم يكتف الإنكليز بالعود إلى مساعدة هذا البيت المسخر لهم بالمال والسلاح

كما بدؤوا في زمن الحرب الكبرى، بل أنشؤوا يساعدونه على الدعاية الإفسادية في

العالم الإسلامي؛ لتنفيره من الوهابية، وعطفه على البيت الحجازي الذي استولوا

بمساعدته على القدس الشريف والعراق، وأنشبوا براثنهم في قلب الجزيرة العربية،

وبدؤوا يلتهمون الحجاز لقمة بعد لقمة.

أعلن ابن السعود بأنه أرسل جيشًا إلى المدينة المنورة؛ لإخراج الحامية

الهاشمية التي فيها بالحصر دون القتال، ولما كان يعلم أن خصومه يتهمون جيشه

بأنهم إذا استولوا على المدينة المنورة يهدمون الروضة المشرفة وقبة الحرم المعظم،

سبق إلى نفي هذه التهمة والتبرؤ منها، فقال في آخر منشوره الرسمي الذي نشره،

عند إرسال الجيش المذكور ما نصه:

(إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول

صلى الله عليه وسلم، وحاشا أن تحدث نفس مسلم بذلك، إنني أفتديها بنفسي

وولدي ومالي ورجالي) إلخ.

ولكن هذا الاحتياط لا يزيد خصومه إلا جرأة على الكذب والاختلاق، فكما

أنهم اخترعوا للنجديين عقائد يتبرؤون منها، كذلك يختلقون لهم أعمالاً يتبرؤون منها،

ولذلك قلت في تعليقي على هذا المنشور في منار آخر شهر المحرم: وأصدر هذا

المنشور؛ ليعلم العالم الإسلامي بغرضه الشريف، وليحتاط لبهتان دعاية الشريف

علي، ويتقي اتهامه بضرب المدينة أو حرمها المنيع لو دخلها فاتحًا، وقد يكون هذا

الاحتياط مغريًا لا مانعًا من التهمة، بل يستحل علي وقواده فعل ذلك؛ ليتهموا

الوهابيين به كما فعل والده (حسين) ؛ إذ أمر بضرب الكعبة المشرفة بالنار، واتهم

بذلك الترك اهـ.

إنني لست أريد بهذا المقال الانتصار لسلطان نجد على الشريف علي ولا

الطعن بهذا والدفاع عن ذاك، بل أريد تنبيه العالم الإسلامي إلى الخطر الأكبر وهو

استيلاء الأجنبي على مهد دينهم وقبلته ومشاعره وحرم الله ورسوله، واستعانته

على ذلك بعوام المسلمين وبعض خواصهم الدنيويين المسخرين لخدمته، والذين

لولا أمثالهم لم يستول على الهند، ولا على مصر، ولا على القدس والشام

والعراق. وإني لأعرِّض نفسي بهذا التنبيه والتذكير لبلاء عظيم على ضعف أملي

باستفادة جماهير المسلمين من نصحي وتذكيري كما يجب، فالعامة قتلها الجهل،

والخرافات كعبادة القبور، ومعظم خاصة أهل الدنيا قتلهم جهل شر من جهل العامة،

وفساد شر من فسادها، فأصبحوا آلات بأيدي الأجانب يسخرونهم؛ لهدم مجد

دينهم ودنياهم، كما سخروا أمراء الهند وملوكهم في فتحها لهم، ثم سخروا بعض

كبراء المصريين في احتلال مصر وشركتها في السودان، وفي استمرار هذا

الاحتلال والاستئثار بالسودان، ثم سخروا الملك حسينًا والملك فيصلاً والملك عليًّا

والأمير عبد الله، ولا يزالون يسخرونهم في سبيل امتلاكهم للبلاد العربية، وكما

تسخر فرنسة سلطان مراكش اليوم في هدم قوة أبناء جلدته ووطنه ودينه الريفيين،

وهي ما فتحت سلطنته إلا بمسلمي الجزائر، وما فتحت الجزائر من قبل إلا

بمساعدة سلفه الصالحين من سلاطين مراكش.

إن لدى سلطان نجد جندًا يفوق جند الريف المغربي أضعافًا مضاعفة في العدد،

ولا يقل عنه في الشجاعة والصبر عن القتال، بل ربما يفوقه فيهما أيضًا، وإنما

ينقصه النظام الحديث والأسلحة العصرية، وما هما عن متناوله ببعيد لو فطن

سلطانه لذلك وأقدم عليه، وهذا هو الذي يخشاه الإنكليز الطامعون في امتلاك

جزيرة العرب بعد استيلائهم على ما جاورها من البلاد العربية الخصبة؛ ليقتلوا

الإسلام وقوم محمد عليه الصلاة والسلام في عقر دارهم ومهد دينهم، وقد

أعياهم استخدام سلطان نجد وإمام اليمن في هذه السبيل، كما استخدموا الشريف

حسينًا وأولاده، فهم يكيدون لهما المكايد.

وقد كان آخر خدمة عملية خدمهم بها البيت الهاشمي جعله هذه المنطقة

الحربية من أرض الحجاز (العقبة ومعان) تابعة لما يسمونه الانتداب البريطاني،

وآخر دعوة لهم إلى التدخل في أمر الحجاز ما كتبه الشريف حسين من قبرص إلى

الحكومة الإنكليزية يطالبها بالتدخل الفعلي في أمر الحجاز وإخراج النجديين منه وفاءً

بوعدها له - كما لخصته جريدة كوكب الشرق في هذا الأسبوع عن بعض الصحف

الإنكليزية - فأي مسلم يؤمن بالله ورسوله، ويغار على قبلته وشعائر دينه يرضى

أن يكون لأحد من أهل هذا البيت أدنى سلطة في الحجاز؟

قلت: إن الإنكليز عادوا إلى مساعدة البيت الهاشمي حتى في نشر الدعاية

لخداع العالم الإسلامي. وقد بدئت هذه الدعاية بفرية نشرها وكيل الشريف علي

بمصر في المقطم، وهي أن الوهابيين قد جعلوا قبة الحرم النبوي الشريف

والروضة الطاهرة هدفًا للرصاص، ولم تقل هذه الدعاية على ما نعهد من إسرافها

في الكذب: إنهم رموها بالمدافع ولا أنهم أصابوها بسوء.

وقد ثبت رسميًّا أنه ليس معهم مدافع، ومن المعقول ما قاله لنا ضابط مغربي

كان في مدفعية الجيش الهاشمي بالمدينة وهو أن رصاص بنادق الوهابية يستحيل

أن يصل إلى قبة الحرم الشريف؛ لأنهم يعسكرون في مكان بعيد عن العمران؛ لئلا

تصيبهم مدافع حصون المدينة، على أنهم مأمورون رسميًّا بعدم إطلاق النار على

شيء منها، ويعلمون أن رميها يضرهم ولا ينفعهم.

ولكن شركة روتر البريطانية نشرت هذه الفرية في العالم الإسلامي كله

وكبرتها تكبيرًا، وكان سماسرة الإنكليز في كل قطر يشرحونها ويثيرون بها الفتن،

فيصدقهم كثير من المسلمين الغافلين الجاهلين، فأوهموهم أن الوهابيين يريدون

تدمير الحرم النبوي بمدافعهم، بل أذاعوا في بعض الأقطار البعيدة كإيران أنهم

دمروه بالفعل.

فقد علمنا مما جاء من أخبار الهند العامة في جرائدها، والخاصة بنا وببعض

معارفنا أن وفد الشريف علي الذي كان أرسله؛ لبث الدعاية في الهند قد اتفق مع

جماعة أغاخان رئيس الإسماعيلية وغيرهم من الشيعة الباطنية والظاهرية كالخوجة

والبهرة.. . على إثارة الفتنة في المساجد، واستخدموا بالدراهم بعض المعدين

لذلك في كل مكان، فأعدوا لها الخطب والأدعية والاستغاثات، وساعدهم بعض

الوجهاء المناوئين لجمعية الخلافة كأمين صندوقها السابق الذي أكل مئات الألوف

من أموالها، وصار بعد ذلك عدوًّا لها، وتربص بها الدوائر؛ للطعن في رئيسها

وأعضائها، وتشويه سمعتهم كما شوهوا سمعته بخيانته لها.

فقد كتب إلينا أديب سائح من (بمباي) أنه تعجب من وجود هؤلاء الباطنية

في المسجد، ومشاركتهم للمسلمين في الصلاة والدعاء على الوهابية، مع أنهم لا

يصلون صلاتنا، ولا يتوجهون إلى قبلتنا، ولا يحجون، ولا يزورون قبر الرسول-

صلى الله عليه وسلم مع عبادتهم لمن يزعمون عصمتهم وألوهيتهم من آل بيته؛

ولكن لا عجب فإذا كان معبود هؤلاء (آغاخان) عبدًا للإنكليز قضى حياته في

خدمتهم، فكيف يكون عبيد العبد؟!

ومما يدل على أن الفتنة إنكليزية ما نشره أحد دعاة الشريف علي في المقطم

عن تأثير الدعاية في عدن وما حولها من تهامة اليمن، واحتجاج السلاطين

البريطانيين هنالك، فقد قال الكاتب في أول رسالته: إن الأخبار التي وصلت عن

أحوال بلدة نبينا صلى الله عليه وسلم قد تركت إخواننا في عدن اليمن، وفي

هياج عظيم، فقد احتج عظمة سلطان لحج (؟) ، والشيخ فضل بن عبد الله

سلطان العقارب (؟) ، وسلطان الحواشب (؟) ، وسلاطين يافع والعوالق (؟) -

ما أكثر أسماء السلاطين عند الإنكليز! - وجميع أمراء العرب على الفعل الشنيع

الذي ارتكبه رجال ابن سعود في حصارهم المدينة المنورة، ولا عبرة بتكذيب

وكيل ابن سعود، بل إن هذه عقيدتهم إلخ.

نقول: أين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام والملوك الفخام عندما

انتهك الشريف حسين حرمة حرم الله عز وجل وقاتل الترك في بطن بكة مع

قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة (إنها أحلت له ساعة

من نهار ولن تحل لأحد من بعده) أظن أن خدمته الإنكليز بذلك نسخت هذا

الحديث عندهم.

وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما حاصر الشريف حسين

وأولاده المدينة المنورة والترك فيها، كما يحاصرها الوهابيون اليوم؟ أيحلون له

ذلك؛ لأنه كان يحارب الترك بأمر الإنكليز وسلاحهم ومالهم؟ ويحرمونه على ابن

السعود؛ لأنه يريد أن تكون هي وسائر الحجاز بمنجاة من النفوذ الإنكليزي تحت

رعاية العالم الإسلامي؟

وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما هدد الشريف علي كل

من يقصد أداء فريضة الحج في الموسم الأخير بالقتل، وزعم أن أساطيله بالمرصاد

لكل سفينة تحمل الحجاج إلى ثغور الحجاز الخاضعة للوهابيين: القنفذة والليث

ورابغ؟!

فهل كان المنع من أداء فريضة الحج وإقامة ركن الإسلام مباحًا في دينهم، فلم

يحتجوا على منعه أم مرضاة الإنكليز الذين سعوا لمنع الحج، مرجحة عندهم على

مرضاة الله تعالى؟

وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما أصدر الشريف علي

(إرادته السنية) من عهد قريب بجعل أعظم منطقة حربية من الحجاز تحت

الانتداب الإنكليزي؟ لماذا لم يحتجوا على هذا ولا ذاك؟ أم يريد هؤلاء السلاطين

العظام أن تكون المدينة المنورة ومكة المكرمة تحت الحماية الإنكليزية مثلهم؟

وإذا كان الأمر كذلك فما لهم وللإسلام ولاسم الإسلام؟

إنهم يدعون اتباع مذهب الشافعي رضي الله عنه، فما لهم لا يهتمون من أمر

الحجاز إلا بهدم بعض القبور المشيدة المشرفة التي تعبد من دون الله تعالى، وتؤتى

عندها المعاصي المجمع عليها؟ وقد ذكر الإمام الشافعي في كتابه الأم ما نقله عنه

عمدة الشافعية الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أن أئمة مكة كانوا يهدمون في

عصره ما رفع من القبور عملاً بحديث علي - كرم الله وجهه - (أن لا تدع تمثالاً

إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) أي: بالتراب، فهل كان الشافعي وأولئك

الأئمة من الوهابية؟ أم الوهابية هم المقتدون بهم، والمعتصمون بسنة الرسول

مثلهم، وأنتم وسادتكم من أمراء مكة الذين يتقربون إليكم بتعظيم القبور، وما

يقترف حولها من أعمال الوثنية أعداء السنة والمخالفون لجميع الأئمة؟

لو لم يكن من فتنة جهال المسلمين بقبور الصالحين التي اتبعوا فيها سنن من

قبلهم الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتخاذ قبور أنبيائهم

وصلحائهم مساجد، وعلى اتخاذ السرج والمساجد عليها إلا جعلهم اتباع السلف

الصالح بهدم بعضها أهم من منع فريضة الحج، وبيع أرض الحجاز للإنكليز؛ لكفى

ذلك موجبًا لهدمها؛ لإزالة هذا الاعتقاد الفاسد، فقد كان علماء الصحابة يتركون

بعض السنن المتفق عليها؛ لئلا يظن العوام بالتزامهم إياها وجوبها، كما روي عن

ابن عباس رضي الله عنه في ترك التضحية في عيد النحر، على كونه كان

يذبح الذبائح كل يوم لإطعام الناس، ولذلك نظائر فصل القول فيها الإمام الشاطبي

في كتابه (الاعتصام) فما القول: في بدعة مخالفة للسنة الصحيحة ترتب عليها

من الضلالات والمعاصي والشرك ما هو معروف: كتشيد القبور وتشريفها، وبناء

المساجد وإيقاد السرج عليها، وقد صح لعن النبي صلى الله عليه وسلم لمن

فعل ذلك قبل حدوث افتتان الناس بالطواف بها، ودعاء أصحابها من دون الله تعالى؛

لكشف الضر وقضاء الحاجات ورفع المصائب، ونذر النذور لهم، وذبح القرابين

بأسمائهم، والحلف بهم- إلى غير ذلك من أنواع العبادة - وقد بلغ من شركهم أن

صاروا يصلون لهم لا إلى قبورهم فقط، كما حدثني الشريف محمد شرف عدنان

باشا قال: رأيت رجلاً توجه إلى قبر ابن عباس رضي الله عنه في الطائف،

وشرع في الصلاة، فظننت أنه أعمى، فأردت تحويله إلى القبلة فامتنع، ورأيت أنه

بصير، وأنه يتعمد الصلاة إلى القبر مستقبلاً له دون القبلة؛ لأنه يصلي لابن

عباس لا لله تعالى، فقلت للخدم: أخرجوا هذا المشرك من هنا بالقوة؛ ففعلوا.

صرح بعض فقهاء الحنابلة وغيرهم من أهل السنة بوجوب هدم القبور

المشرفة التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم من شيدوها وعظموها، وذلك

قبل وجود الوهابية بعدة قرون، كما كان يفعل الأئمة بمكة في زمن الإمام الشافعي،

وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقلع الشجرة التي بايع النبي - صلى

الله عليه وسلم - أصحابه تحتها؛ لأنه علم أن بعض الناس يزورونها، فقلعت

وعفي أثرها، وذلك قبل أن تصل فتنة المسلمين بمثل هذه الآثار إلى عشر معشار

ما وصلت إليه الآن، فهل كان عمر رضي الله عنه وهابيًّا؟

وقد فصلنا القول في هذه البدع من قبل، وليس من غرضنا إعادته الآن، بل

غرضنا أهم من ذلك وهو بيان الخطر على الحجاز من الإنكليز، الذين سعوا لمنع

إدخال السلاح إلى بلاد العرب كلها؛ تمهيدًا للاستيلاء عليها، وأكبر أعوانهم على

ذلك بيت الشريف حسين بن علي، فهو الذي قرر جعل الحجاز وسائر البلاد

العربية تحت الحماية البريطانية، وجرى هو وأولاده على هذا بالفعل، وآخر

جناياتهم إعطاء أعظم منطقة حربية من أرض الحجاز للإنكليز وهي منطقة

(العقبة - معان) التي تمكنهم من الاستيلاء على بقية الحجاز، أو جعله بحيث لا

يقدر أهله أن يعيشوا فيه إلا تابعين للإنكليز؛ لإحاطتهم بهم من البر والبحر،

وسنبين في الفصل التالي من هذا المقال حال الحجاز بين سلطان نجد والشريف

علي، وما يجب على المسلمين من درء الخطر عن مهد دينهم ومشاعره العظام؛

وكون بقاء سلطة بيت الشريف حسين على الحجاز مفضيًا إلى جعله تابعًا

للإمبراطورية البريطانية حتمًا، وكل من يسعى إلى بقاء سلطتهم فيه فهو يخدم

الإنكليز ويحارب الله ورسوله والمسلمين قصد ذلك أم لا، وقد أعذر من أنذر.

***

(2)

الموازنة بين سلطان نجد والبيت الهاشمي

لما زحف جيش ابن السعود؛ لإنقاذ الحجاز من سلطة الشريف حسين كان

ضلع الرأي الإسلامي العام معه، فلم ينتدب شعب من شعوبه، ولا جماعة من

جماعاته، ولا فرد من كبار رجاله للدفاع عنه، بل صرح المعروفون من رجاله

بظلمه وفساد سياسته، وزعموا أنهم خلعوه خلعًا، وكذلك فعلت الجرائد التي كانت

تمدحه وتدافع عنه كالمقطم، واتخذوا ذلك وسيلة لإقناع سلطان نجد بإمكان الاتفاق

بينه وبين ولده الشريف علي الذي سموه ملكًا دستوريًّا، ولو أن سلطان نجد بادر

في ذلك الوقت إلى الاستيلاء على جدة والمدينة المنورة لغنم كنوز الملك حسين

واستعان بها على إصلاح الحجاز، ولعقد المؤتمر الإسلامي، وتقرر فيه نظام الحكم

في الحجاز بما يرضي جميع المسلمين، ولكنه قاس الحجاز على إمارة ابن الرشيد

التي استولى عليها بالحصار الطويل دون المناجزة اختيارًا لخسارة المال على

خسارة الأنفس، فأعطى البيت الحسيني فرصة طويلة للاستعداد الحربي وللدعاية

الإفسادية، ولما هو شر من ذلك وهو العود إلى إقناع الإنكليز بأنه قادر على تمكينهم

من سائر بلاد العرب، فعادوا إلى مساعدته بالمال والدعاية كما تقدم في الفصل

الأول من هذا المقال، فطفقوا يهيجون العالم الإسلامي على الوهابية وسلطانهم،

فوجب أن نقيم الوزن بالقسط بين الفريقين.

***

سيئات جند ابن السعود في الحجاز

إن ما نسب إلى جند ابن السعود من السيئات في الحجاز كان ينحصر في

أمرين:

(أحدهما) : أنهم قتلوا في الطائف بعض الأهالي غير المقاتلين.

(ثانيهما) : أنهم هدموا بعض المباني الأثرية التي يتبرك بها الناس؛ فكل

الدعاية الهاشمية في الطعن فيهم لا تعدو هذين إلا إلى ما يذكر في هذه الأيام من ذم

الإدارة في الحجاز، ولم يثبت من ذلك إلا منع شرب الدخان: كمنع الخمر

والحشيش وأمثال ذلك مما كان يلوث به الحرم الشريف، ولا نبحث في هذا فإنه لا

يتعلق بما نقصد من السياسة العامة ومستقبل الحجاز والإسلام.

فأما الأول فيقع مثله في كل حرب، وفي الغالب يكون خطأ وقد يكون بعضه

لضغائن وأسباب شخصية، فإذا كان قد وقع من الوهابية، فقد وقع قبلهم من خير

جنود البرية، وهم الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البخاري في صحيحه

وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم

بعث خالد بن الوليد إلى بني خذيمة (داعيًّا لا مقاتلاً) ، فدعاهم إلى الإسلام فلم

يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم

ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل منا

أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا

على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه له فرفع النبي صلى الله عليه وسلم

يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) - مرتين.

وهذا ذنب مضى لا يضر البلاد ولا الأمة وإثمه على من فعله لا نبرئهم منه،

وأما الثاني: فإذا عقد المؤتمر الإسلامي الذي يدعو إليه السلطان ابن السعود، وقرر

أنه خطأ أمكن إعادة تلك المباني أو الأثري منها، بشرط مراعاة أحكام الشرع في

اجتناب كل منكر يتعلق بها، والمنع منه بالقوة المنفذة للشرع.

***

سيئات البيت الهاشمي

وأما سيئات الشريف حسين وأولاده فلا تُعَدُّ وقد ألفنا كتابًا في ذكر بعض

سيئات الأول، جعلناه خطابًا للعالم الإسلامي، وفيه شيء من ظلم ولي عهده،

والشريف علي بالمدينة، ولكننا لا نذكر هنا إلا ما هو خطر على الحجاز وحصنه

من جزيرة العرب وهو:

(1)

وضع الشريف حسين عند شروعه في الثورة بإغواء الإنكليز صورة

اتفاق معهم سماها (مقررات النهضة) ، صرح فيها بأنهم الذين هم يؤسسون

الحكومة العربية، وتكون البلاد تحت حمايتهم في داخلها وخارجها، وأعطاهم فيها

حق إشغال ولاية البصرة إلخ، ويؤكد إصراره على ذلك أنه رفع استقالته من الملك

مكررة إلى الحكومة البريطانية في لندن، ونشر ذلك في جريدته التي كانت تسمى

(القبلة) ، وقد عاد الآن إلى مخاطبة الحكومة الإنكليزية بإنجاز وعدها له، وإخراج

ابن السعود من الحجاز، كما أشرنا إليه في الفصل الأول.

(2)

لا يزال ولده الشريف فيصل يمهد لهم سبيل امتلاك العراق بالصور

والأساليب التي يأمرونه بها، وكان قد اتفق مع فرنسة على وصايتها الانتدابية على

سورية وعجز عن تنفيذ ذلك.

(3)

مهد لهم ولده الشريف عبد الله سبيل امتلاك شرق الأردن، وإخضاع

قبائله وعشائره وما جاورها، فأسسوا فيها حظيرة للطيارات الحربية، وجعلوها

برضاه تابعة لفلسطين في الانتداب، وكانت مستقلة، وأعطاهم وثيقة رسمية بحق

إدارة سكة الحديد الحجازية التي تمر منها، وباسمه وسعيه أخذوا المنطقة الحجازية،

يريدون أخذ منطقة الجوف النجدية باسمه أيضًا، وهم إذا شاؤوا إخراجه في أي

وقت، فإنهم يخرجونه كما أخرجوا والده طوعًا أو كرهًا.

(4)

الشريف علي هو الذي أعطاهم المنطقة الحربية الأخيرة من أرض

الحجاز بمحض إرادته (التي يصفها بالسنية تقليدًا لسلاطين آل عثمان) كما تقدم.

ومن المعلوم بالضرورة أن أهل هذا البيت متضامنون في خدمة الإنكليز،

وممالكهم الصورية يعدونها منحة من الإنكليز، ويعلمون أن الشعب الحجازي يمقتهم،

وأنه لا سبيل إلى تمتعهم بعظمة الإمارة والملك إلا بحماية الإنكليز بل في ظلمهم،

فإذا ظلوا متمتعين، بها فلا تمضي إلا سنين قليلة، ويستولي الإنكليز بالفعل على

بلاد العرب وفي مقدمتها الحجاز.

وقد علم من أعمالهم الرسمية أنه لا يردعهم عن ارتكاب أعظم الجنايات

الموبقة - ولا سيما خدمة الإنكليز -خوف من الله ولا حياء من قومهم ولا من أهل

الدين الذي ينتسبون إليه، حتى إن الذي سمى نفسه ملكًا دستوريًّا - وهو علي -

يعطي بعض أرض الحجاز المقدسة للإنكليز بمقتضى (إرادته السنية) ، فأين

الحكومة الدستورية التي ادعاها؟ وأين الحزب الوطني الذي بايعه عليها بعد

ادعاء خلع الملك حسين لاستبداده.. .؟

***

الدعاية الهاشمية

ليس هنالك أحزاب حجازية، ولا مبايعة شعبية دستورية، ولا خلع لمن

ادعى الخلافة الإسلامية، وسمى نفسه ملك البلاد العربية، وإنما هنالك أفراد رباهم

حسين لنفسه قاموا ولا يزالون يقومون بهذه الدعاية التي يعتمد عليها حسين وأولاده،

كما يعتمدون على الإنكليز، ولا يقيمون لغيرهما من العلم والعمل ولا من الناس

وزنًا، منهم عبد الرؤوف أفندي الصبان الملقب بمندوب الحزب الوطني الحجازي

بمصر، وحسين أفندي الصبان مدير جريدة القبلة، وكل ما ينشر في مصر من

الدعاية فهو منهما، ومن الشيخ عبد الملك الخطيب الملقب بوكيل الحكومة العربية.

ومنهم الوفد الذي أرسل إلى الهند فأحدث فيها فتنة لا يستهان بها، وزعيماه

محمد طاهر الدباغ والطيب الساسي، وهما من المغاربة المقيمين بالحجاز،

وثانيهما كان مستخدمًا في إدارة جريدة القبلة الحسينية.

ونرى هؤلاء الدعاة ينفقون الأموال بألوف الجنيهات على الجرائد وغيرها من

حيث تواترت الأخبار بعجز ملكهم الشريف علي عن أداء رواتب الجنود التي

استأجرها من فلسطين وسورية وغيرهما؛ لإقامة ملكه حتى انفض أكثرها من حوله،

وعادت إلى بلادها، ومن أخبار الهند الخاصة أن وفد الهند بذل للشيخ أبي الكلام

أحمد الزعيم الشهير عشرة آلاف جنيه؛ ليبث دعوتهم، ويلقي خطبة في الطعن في

الوهابية، فكان ذلك دليلاً عنده على كذبهم.. . وما هو ممن يعبد المال مثلهم،

فلذلك رد طلبهم، وقد أنشأ هذا الوفد جريدة أسبوعية في بمبي هي أسفه من جريدة

القبلة قليلاً، وأضل سبيلاً، فاغتر بهذه الدعاية كثيرون، وأخذ الزعماء العارفون

بالحقائق على غرة، فتريثوا في الرد على هذه الدعاية حتى خاطبوا ابن السعود في

الأمر بلسان البرق كما فعل ملك مصر، ولما وقفوا على الحقيقة، وأن جيش الإخوان

لم يضرب قبة المسجد النبوي بقنبلة ولا رصاصة، حملوا حملة عظيمة على

دعاية وفد الشريف علي حتى اضطر إلى مغادرة الهند.

***

افتراض الإنكليز للفتنة

في أثناء هذه الضجة أمر الإنكليز حكومة العراق بمطالبة سلطان نجد بإعادة

عقد المؤتمر الذي كان قد اجتمع في الكويت؛ لوضع الحدود بين العراق ونجد

وشرق الأردن والحجاز، وأرسلوا هم من قبلهم وفدًا إلى الحجاز لمفاوضة سلطان

نجد في هذه المسألة، وجل ما يبغونه منه أن يعترف لهم بالحدود الجديدة لمنطقة

شرق الأردن بعد أن ضموا إليها من بلاد الحجاز ما علمنا، وأن يضموا إليها

(الجوف) الذي كان تابعًا لإمارة ابن الرشيد، وصار بعد ذلك جزءًا من سلطنة

نجد.

وإنهم يتوسلون إلى إقناعه بما يخوفونه الآن من تأليب العالم الإسلامي عليه،

وإغراء مصر وإيران وغيرهما من الأقطار الإسلامية به، حتى الهند التي كانت

مشايعة له، فأصبح كثير من أهلها عليه كالإسماعيلية وفرق الشيعة، وبعض عوام

أهل السنة، بحيث إذا عقد المؤتمر الإسلامي الذي يطلبه يسعون بنفوذهم السياسي

والمالي، وخداعهم إلى جعل الأكثرية الساحقة فيه عليه لا له، ومؤيدين لخصمه

الشريف علي عليه. وذلك أن أكثر مسلمي الأرض خاضعون لسلطانهم وسلطان

حليفتهم فرنسة بالفعل، بل يوهمونه أنه يسهل عليهم خداع سائر الشعوب الإسلامية

بموافقة مندوبي هؤلاء، بدليل أنهم هيجوا بعضها بالفعل كالشعب الإيراني، ولكنهم

لا يصرحون بهذه الإيهامات.

فإن هو خاف من ذلك، واعترف لهم بهذه الحدود يكون كمن شحذ مديته

وبخع بها نفسه بيده، ويكون كل هؤلاء المسلمين الذين هاجوا عليه، وطفقت

جرائدهم تطعن في جنده، شركاء له في هذه الجناية على الحجاز وعلى الإسلام،

نعم إن الإنكليز ربما يكافئونه على اعترافهم له بهذه الحدود مكافأة سلبية خادعة، وهي

ما لا يزالون يدعونه من التزامهم موقف الحياد في التنازع بينه وبين الشريف علي،

وماذا يفعل بعد ذلك وهو محاط به من البر والبحر، ولا سيما بعد مد الإنكليز لسكة

الحديد الحربية من فلسطين إلى العراق مارة بأرض الحجاز ونجد؟

الواجب على السلطان عبد العزيز شرعًا وعقلاً وسياسة أن لا يخاف من تهديد

الجنرال كليتن وخداعه، ولا يبالي بوعده ولا بوعيده، فإن دولته المرسلة له لا

تقدر الآن على إيذاء نجد وغيرها من بلاد العرب بأكثر مما فعلت من الدسائس،

ومن مساعدة الحجازيين بما أجملناه في هذا المقال، أعني: إنها لا يمكن أن تسوق

عليه جيوشًا بريطانية تقاتله بها، فإن فرضنا أنها يمكنها أن تحمل دولة إسلامية

على قتاله؛ لإخراجه من الحجاز - وما ذلك بالأمر السهل - فعاقبة ذلك خير له من

السماح للإنكليز بشبر من أرض الحجاز أو من أرض نجد، يأخذونها باختياره ثم لا

تكون عاقبة أمرها إلا القضاء على كل من الحجاز ونجد بعد زمن قليل، ولأن

يضيع الحجاز بيد غيره أشرف له وأسلم من خزي الدنيا والآخرة من أن يضيع بيده.

إذا أحدث الإنكليزي فتنة حربية في الحجاز بأيدي دولة إسلامية فلا ينتظر من

ابن السعود إلا أن يترك الحجاز لهذه الدولة الإسلامية، ويحملها تبعة حفظه أمام الله

والمسلمين، ويزحف بكل قوته على شرق الأردن وفلسطين والعراق، فهو إن فعل

ذلك يجد الترك قد انتهزوا هذه الفرصة وزحفوا على الموصل، وإذا أنقذ العراق

وقلب جزيرة العرب من الإنكليز ذهب تسعة أعشار الخوف على الحجاز ونجد،

ولن ترضى الأمة البريطانية من حكومتها الماكرة أن تحملها أعباء حرب جديدة في

بلاد العرب تضحي فيها مئات الألوف من الإنكليز، وتغتال مئات الملايين من

ذهبهم، بعد أن كادت الديون وبطالة العمال وكساد التجارة تقضي على ثروتهم.

ولئن كانت الحكومة الهندية تظن أنها يمكنها الاعتماد على مسلمي الهند في

إيقاد نيران الحرب في الحجاز؛ بإيهام عوامهم أنها تنقذ بذلك القبور والقباب من

الوهابية، فهي لا تأمن لهم ولا للهندوس في إيقاد نيران الحرب في بلاد العرب

لقتال العرب والترك دفاعًا عن تاج فيصل وعقال أخيه عبد الله، بل هي لا تأمن

عاقبة إرسالهم إلى الحجاز أيضًا؛ لأن العارفين بكيدها للحجاز من ضباطهم وجندهم

كثيرون.

إن الدولة البريطانية لا تثير حربًا جديدةً قط، وما لديها إلا الخداع، فلا

يكونن سلطان نجد من المخدوعين.

لا يتوهمن أحد من ذكرنا لزحف الترك على الموصل أننا نعتقد أن لهم الحق

في ذلك، أو أننا نفضل جعل هذه الولاية تركية على جعلها عربية، كلا، وإنما

نعتقد أن طمع الترك قد يقف عند حد الموصل من بلاد العرب، وأما طمع الإنكليز

فلا يقف عند حد، وهم عازمون قطعًا على امتلاك جميع البلاد العربية، وإزالة

سلطان الإسلام وشريعته من الأرض، فإذا ظفروا بقوة ابن سعود وهي أكبر قوة

عربية في الجزيرة فقل: على العرب وعلى الإسلام السلام، ونعتقد أن ابن سعود إذا

زحف لإنقاذ العراق لأهله يقوم معه معظم العرب، وإقناع العراقيين بذلك سهل.

***

(3)

دسيسة الصلح بين الحجاز ونجد

نحن من المصدقين بأن سلطان نجد كان ولا يزال قادرًا على أخذ جدة والمدينة

المنورة عنوة كما حكي عنه، ثم صرّح به هو رسميًّا. ومن المصدقين بأنه اختار

الحصر بالمطاولة على المناجزة، كراهة لسفك الدماء، وتخريب العمران، ويعتقد

مع هذا أن هذا الاجتهاد كان خطأً، ضرره على سياسة السلطان وعلى الحجاز أكبر

من نفعه، فلو أنه بعد أن علم بما كان من تحصين جدة أعد للهجوم عليه عدته،

وأخذها عنوة لانتهت المسألة الحجازية، وأقبل الحجاج على مكة من جميع الآفاق؛

فاتسع الرزق على أهل الحجاز، وشاهد وفود مسلمي الأرض كلها الفرق العظيم

بين عدل ابن السعود، وتأمينه للبلاد، ومنعه للظلم والإلحاد، وتعففه عن أموال

الحجاج، وإقامته لأحكام الشريعة، وبين بظلم حسين بن علي وإلحاده في حرم الله،

ولعقد المؤتمر الإسلامي العام، وقرر شكل حكومة الحجاز وما يجب من الإصلاح

الديني والعمراني فيه (كما تقدم آنفًا) ، واستراح المسلمون عامة والعرب خاصة،

واطمأنوا بذلك على حرمهم وقبلتهم ومشاعر دينهم، وروضة نبيهم صلى الله عليه

وآله وسلم، وأمنوا نفوذ الأجنبي أن يفسد عليهم أمر دينهم، ويذلهم حيث أعزهم

الله تعالى.

لقد آن للسلطان الذكي العاقل أن يدرك الفرق العظيم بين حصره لابن الرشيد

في جبل شمر، وبين حصره للشريف علي صنيعة الإنكليز وابن صنيعتهم في ثغر

بحري، يتصل فيه بهم وبمن شاؤوا وشاء من العالم، وقد علم بعض ما في ذلك من

الضرر، ومنه أن رجال العرب وكثيرًا من زعماء الإسلام الأعاجم؛ وكثيرًا من

الأجانب كانوا يقدرون قوته الحربية قدرها، وينتظرون أن تتضاعف هذه القوة

بإدخال النظام العصري فيها، وتسليحها بالأسلحة الجديدة التي كانت فاقدة لها،

وكانوا ينتظرون أن تتجدد بذلك دولة عربية قوية، تحفظ بالاتحاد مع قوة الإمام

يحيى مهد الإسلام وجزيرة العرب من النفوذ الأجنبي، وتجدد شباب هذه الأمة.

فلما مرت سنة كاملة، بل قبل أن تنتهي هذه السنة على حصار جدة التي

يحميها أوشاب من متطوعة بلاد كثيرة، استؤجروا للدفاع عنها بحشو بطونهم من

لماج العيش (اللماج بالفتح أدنى ما يؤكل) ، ظن الأكثرون أن هذه قوة يدوية لا

غناء فيها ولا استعداد، ولا قابلية فيه لمناجزة أضعف الجنود المنظمة، مهما يكن

نظامها ناقصًا وضعيفًا، وذهبت بهذا الظن هيبة الوهابيين من أنفس أولئك الظانين،

وانقطع حبل الرجاء بكثير من أولئك الراجين، وزالت مهابة الخوف من كثير من

الخائفين، وصار لطلاب الصلح بين المتحاربين أنصار كثيرون حتى من العارفين

بفساد بيت حسين وظلمهم وكونهم صنيعة الإنكليز، وشبهتهم على هذا، أن القوتين

متكافئتان، لا يرجى حقن الدماء وأمن البلاد وحرية الحج إلا بالصلح بينهما.

ولم يكن ينطق بكلمة الصلح بينهم وبين سلطان نجد قبل هذه الأيام إلا

صنائعهم ودعاة فتنتهم، ولم تردد هذه الكلمة إلا الصحف القليلة التي تنشر دعايتهم

وفي مقدمتها المقطم، فهي التي ما زالت تنشر هذه الدعوة إلى الصلح حكاية عن

بعض دعاة الشريف علي وباسم بعض محرري المقطم، وزعمت أن الوفد المصري

الذي سافر إلى جدة فمكة بأمر جلالة ملك مصر المعظم برئاسة الأستاذ الكبير الشيخ

محمد مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا لم يذهب إلا للوساطة بعقد

الصلح بين الشريف علي وسلطان نجد؛ لما كان من استغاثة الشريف علي بجلالة

الملك في البرقية المشهورة التي نشرت في الصحف المصرية، ونشرناها نحن في

الجزء الخامس من المنار، وإنما يقول المقطم هذا رأيًا لا رواية، ونحن نخالفه في

هذا الرأي، ونرجح أن الوفد أرسل لاختبار حالة الفريقين لا للتدخل في شؤونهما

بالفعل، إذ لا يعقل إقدام هذا المقام الجليل على مثل هذا التدخل إلا بعد العلم

باستعداد الفريقين لقبول وساطته، والعلم بأن الصلح بينهما على قاعدة بقاء الحكم

في الحجاز للشريف علي موافق للمصلحة الإسلامية العامة، وأي مصلحة للإسلام

في توطيد السلطة في الحجاز لمن يدعون أن البلاد ملك لهم، وأنه يباح لهم

التصرف فيها حتى ببيع ما شاؤوا منها للأجانب كما وقع بالفعل؟ ولهذا نعتقد أن

دعاة الفتنة الذين يحرضون الدولة المصرية على قتال الوهابيين، وفتك هذه البقية

الضعيفة من قوى المسلمين بعضها ببعض، لا تثمر لهم دعوتهم إلا الخزي في

الدنيا والآخرة.

إننا نعتقد بما لنا من الاختبار الواسع أن عقد الصلح بين الشريف علي

وسلطان نجد على قاعدة جعل الأول ملكًا في الحجاز يفضي إلى المفاسد الآتية:

(1)

عودة الشريف حسين إلى مكة مدعيًا للخلافة الإسلامية تحت حماية

الإنكليز عملاً بمقررات النهضة، فقد علمنا علم اليقين أن أولاده الملوك

البريطانيون على العراق وشرق الأردن والحجاز لا يزالون متمسكين بخلافته، وقد

صرح ولي عهده الشريف علي في (الإرادة السنية) التي أصدرها بجعل منطقة

العقبة وشرق الأردن الحجازية تابعة لشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني

بالتعبير عن والده بالخليقة الأعظم، وإذا هو عاد إلى مكة يعود إليها الظلم والإلحاد

والإفساد والشقاق بين الحجاز وسائر حكومات الجزيرة، ولا سيما نجد، إذ يعود

هو إلى مطالبة سلطنة نجد وإمام اليمن بوجوب اتباعه من حيث هو خليفة الرسول

وأمير المؤمنين، وإلى التصدي لتنفيذ ما وضعه من النظام لوحدة البلاد العربية التي

يسميها (الممالك الهاشمية) ، ومنها أن تكون كلها تابعة له في السياسة والحرب

والإدارة العامة، وحينئذ يسمح لأمرائها بالاستقلال الإداري بشرط رد إمارة ابن

الرشيد وإمارة أولاد عايض اللتين استولى عليها سلطان نجد! ! (راجع: خطاب

عام إلى العالم الإسلامي) فأي إصلاح وخير يرجو الداعون إلى صلح هذه أولى

نتائجه؟

(2)

إن الشريف حسينًا صرح بالقول والكتابة والنشر بكفر الوهابية، وأنه

يجب على ولي أمر المسلمين إقامة شرع الله فيهم؛ أي: بقتالهم إلى أن يعودوا إلى

الإسلام الذي يدعيه هو كما يفهمه أو ينقرضوا، وقد اتهم هو الوهابية بمثل هذه

التهمة بالتبع لاتهام سلفه الشريف غالب لسلفهم عند مبدأ ظهورهم، وثبت أنه كاذب

كسلفه وخلفه، فقد استولوا على بلاد الحسا التي كانت سلطة الدولة العثمانية، ولم

يعاملوا الشيعة من أهلها معاملة الكفار في شيء، مع أن الخلاف بين الوهابية

المتعصبين للسنة وبين الشيعة شديد جدًّا، ولذلك نجد شيعة إيران والهند والعراق

وسورية أشد الناس تحاملاً عليهم، حتى إن صديقنا السيد هبة الدين الشهرستاني

الذي كنا نعده من دعاة الجامعة الإسلامية ومن المعتدلين في التشيع ألف رسالة في

صد المسلمين عن الحج، مع وجود الوهابية في الحجاز، وأما أهل الحجاز فقد

اجتمع علماؤهم بعلماء نجد عقب احتلال ابن السعود لها، وقرروا بعد المذاكرة أنه

لا خلاف بينهم في العقيدة، وأنهم كلهم على السنة، كما جرى مثل ذلك عند احتلال

الأمير سعود لمكة المكرمة منذ قرن وسنين حذو القذة بالقذة، فأي مصلحة في عقد

صلح يفضي إلى إعادة تكفير من يدعي الخلافة لأقوى شعوب الجزيرة دينًا ونجدة

وقتاله لهم إن قدر، ولو بمساعدة الإنكليز؛ لأجل إكراههم على ترك السنة وعبادة

القبور؟

(3)

إن الشريف حسينًا وأولاده ليس لهم قوة ولا عصبية في بلاد الحجاز

ولا في غيرها من بلاد العرب كما كنا نقول، وثبت قولنا بالفعل بما علمه القاصي

والداني من كون جميع قبائل الحجاز القوية مشايعة لسلطان نجد عليهم، ولولا ذلك

لم يستطع الوهابيون البقاء في الحجاز، ومن كون الجند الذي يدافع عن جدة قد جمعه

الشريف علي وأعوانه من فقراء اليمن وفلسطين وسورية المحتاجين إلى القوت

الضروري؛ ولأجل هذا بنى الشريف حسين ثورته وما سماه (مقررات النهضة)

العربية على تأسيس الإنكليز للمملكة العربية وحمايتها لها من الداخل والخارج،

وكان أول من نشر هذه المقررات الأمير فيصل في سورية، ومن المعلوم

بالضرورة أن الشريف حسينًا وأولاده متكافلون متعاونون في سياستهم، وأن الحجاز

لا يستغني عن مساعدة حكومتي شرق الأردن والعراق، مع عداوته الراسخة لنجد،

وطمعه في إخضاعها هي واليمن وتهامة كما تقدم، ومن المعلوم بالضرورة أن

هاتين الحكومتين بريطانيتان، فلن تكون حينئذ الحجاز غير بريطانية.

***

غرض الإنكليز حماية الحجاز

وجملة القول وخلاصته أن الدولة البريطانية طامعة في ضم جزيرة العرب

إلى الإمبراطورية البريطانية المرنة، وفي القضاء على الإسلام، وعلى سلطان

المسلمين فيها كغيرها من أقطار الأرض، وقد كانت طريقتها في الفتح والاستعمار

خفية، فأصبحت ظاهرة جلية، فهي تصطنع الزعماء ورؤساء الأمم بالمال

والإغواء والإغراء، وتضرب بعضهم ببعض كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود، بل

مثلها كمثل جنة الأدواء (الميكروبات) في إفساد الأجسام، وجنة [1] الشياطين في

إفساد الأرواح، من حيث لا يشعر أولئك ولا هؤلاء، وإنما العالمون بأمر تلك

الجنة أطباء الأجساد النطاسيون، وبأمر هذه الجنة أطباء الاجتماع السياسيون،

وأكثر المسلمين لا يزالون يعتمدون على أطباء الخرافات الدجالين.

وهي لم تحدث هذه الجلبة والضوضاء في تخويف الشيعة وجهلاء المنتسبين

إلى السنة من قوة الوهابيين، التي هي مع قوة إمام اليمن حصنان منيعان في وجه

طمعها في جزيرة العرب إلا لتهون على العالم الإسلامي ما تبغي من التصريح

بحماية الحجاز، فالشيعة يساعدونها على حد المثل (لا حبًّا في علي، ولكن بغضًا

في معاوية) ، وجهلاء المبتدعة من المنتسبين إلى السنة يوافقونها لاعتقادهم أنها

تحمي لهم القبور والآثار التي صارت معبودات لهم، وهنالك آخرون مستذلون

تحت حمايتها يوافقونها على كل شيء جبنًا وجهلاً ونفاقًا، ووالله أنها لشر على

الجميع وخطر على دينهم ودنياهم كلهم، ووالله إن قضاءها على قوة العرب في

جزيرتهم، وجعل مهد دينهم وقبلته وشعائره تحت حمايتها لقضاء على الإسلام كله

مؤذن بزواله وإذلال جميع أهله، ووالله إنه لا يرجى بعد ذلك أن يبقى لإيران ولا

لمصر ولا لغيرهما استقلال، وقد عرف المصريون عاقبة حماية عرش أميرهم من

العرابيين كيف كانت.

إن من الممكن السهل التناول إنشاء قوة عسكرية في جزيرة العرب؛ تحفظ

استقلالها ومجد الإسلام فيها، والإنكليز يحاولون التعجيل بالاستيلاء على الجزيرة

كلها قبل أن يعقل العالم الإسلامي هذا الأمر ويسعى لمساعدة ابن السعود وإمام اليمن

عليه، ولذلك حملت ربيبتها جمعية الأمم على تقرير منع السلاح عنها، فإن تم لهم

ذلك وصار البحر الأحمر إنكليزيًّا محضًا، وصار للإنكليز قوة برية في فلسطين

ممتدة إلى العراق لا تجاورها قوة تحسب لها أدنى حساب، فأي مصري أو إيراني

يسفه نفسه ويخلع عقله، فيزعم أن بلاده يمكن أن تستقل وقد أحاط بها الإنكليز من

البر والبحر؟

وقد ظهر كالشمس في رابعة النهار أن الشريف حسينًا وأولاده هم أكبر أنصار

الإنكليز على الاستيلاء على بلاد العرب ما تم منه وما لم يتم، ولما كان المصريون

يعلمون من هذه الحقيقة ما لا يعلم شيعة إيران والهند لم تؤثر فيهم الدعاية الهاشمية

البريطانية الأخيرة، حتى صرحت جريدة التيمس بالتعجب من ذلك (!) ، وقد آن

للإيرانيين أن يفقهوا هذا، ويتركوا التعصب الضار الذي لم يعد له عذر في هذا

العصر، وقد عرف عقلاء الشيعة في العراق كنه الملك فيصل البريطاني،

وليرجعوا إلى منشآت السيد جمال الدين موقظ مصر وإيران والشرق، ويتدبروا ما

كتبه في الإنكليز.

***

علاوة مؤيدة لما تقدم

كنت بدأت بكتابة هذا المقال لجزء المنار الخامس الذي صدر بتاريخ سلخ

صفر، فلما لم يتسع له أرجأت إتمامه، وقد جاءني بعد نشر بعضه في الجرائد

والمنار وقبل ختامه كتاب من قلب الهند، أكد عندي كل ما رأيته وكتبته من

الأراجيف التي ذاعت في الهند بسعي وفد طاهر الدباغ ودسائس الإنكليز، ومما

جاء فيه (فتأثر كثير من الناس بهذه الأراجيف، وأخذوا يشتمون ابن سعود، بل

بعض من أصحاب الأغراض أخذ يقول: يجب أن تتدخل الدولة البريطانية في

الأمر؛ فتخرج ابن سعود بقوتها العسكرية) ، تأملوا تأملوا، هذا بيت القصيد،

وهو أعظم خيانة صدرت من أحد يدعي الإسلام.

وجاء فيه أيضًا أن الشيخ عبد الباري الفرنج محلي اللكهنوي (وهو نصير

الإنكليز والبيت الهاشمي والمبايع الوحيد من علماء الهند الغافلين لحسين بن علي

بالخلافة) ، ومجتهدي الشيعة وحزب الحكومة الإنكليزية قد أجمعوا أمرهم وعقدوا

في لكهنو مجلسًا كبيرًا؛ لكيد النجديين، فعارضهم في مبادئهم اثنان من أفاضل أهل

السنة العارفين بدسائس الحكومة ومقاصدها السيئة في الحجاز، وجادلاهم بالحجة

فلم يكن لهم عليهم من سلطان إلا السب والضرب، وإخراجهما جرًّا على الأرض،

وقد ذكر ذلك في أكثر الجرائد الهندية.

(ثم بشرنا الكاتب بانتشار الحركة الإصلاحية بعد هذه الدعاية بسرعة (قال) :

حتى إن عباد القبور والقبب يرجعون إلى التوحيد الخالص بمئات الألوف) ،

ورأينا جرائد المسلمين الكبرى في الهند تنشر الأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء

في بدع القبور ووجوب هدم المشيدة المعظمة منها.

نقول: يا حسرة على المسلمين لا يزال يوجد فيهم ألوف وملايين يتصرف

فيهم أعداؤهم، ويسخرونهم كالأنعام، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم كما

وصف الله أهل الكتاب في عصر التنزيل، ومنهم بعض المعممين الجامدين النفعيين

(كالشيخ عبد الباري) ، يسير هؤلاء العلماء في الطريق التي يسوقهم فيها أعداء

دينهم ودنياهم، وهم لا يشعرون بخطره وسوء عاقبته.

***

ما يجب على المسلمين للحجاز

فالواجب على أهل الغيرة والإخلاص والوقوف على الحقائق من المسلمين أن

يتداركوا هذه الفتنة الإنكليزية، ويحولوا بينها وبين حرم الله وحرم رسوله،

وسياجهما من جزيرة العرب، مادامت قوة سلطان نجد مائلة مانعة للنفوذ الإنكليزي

أن يستحوذ عليها. وليتذكروا وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في

مرض موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وقوله: (إن الإسلام بدأ غريبًا

وسيعود كما بدأ، ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم عن

ابن عمر، وللترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني مرفوعًا (إن الدين ليأرز

إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى حجرها وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية [2]

من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين

يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي) ، فليعقل المسلمون كافة وأهل السنة

خاصة هذه الأحاديث، وليفقهوا حكمتها، ويعملوا بمراد نبيهم - صلى الله عليه

وسلم - منها، ويتعاونوا على إبعاد الإنكليز عن الحجاز تنفيذًا لهذه الوصية،

وليعلموا أن كل من يقربهم من الحجاز فهو عدو لله ورسوله والمسلمين، وفي مقدمة

هؤلاء الأعداء حسين بن علي وأولاده وأنصارهم أجمعون أكتعون أبتعون أبصعون.

يجب على المسلمين المخلصين المعتصمين بكتاب الله وسنة رسوله - صلى

الله عليه وسلم - أن يبادروا إلى عقد المؤتمر الذي دعا إليه سلطان نجد، ويقرروا

إبعاد الإنكليز عن الحجاز وانتزاع منطقة العقبة - معان وسكة الحجاز منهم ومن

فرنسة، ووضع نظام لحكومة الحجاز من قواعده أن لا يكون لغير المسلين أدنى

نفوذ فيه ولا وجود بأي اسم من الأسماء، وليعلموا أنه لا يتم لهم عقد المؤتمر إلا

بقوة سلطان نجد الذي أقام الحجة عليهم بتفويض أمر حكم الحجاز وحفظه إليهم،

فلم يبق لأحد منهم عذر لا للشيعة ولا لمبتدعة القبور ولا لغيرهم، فمهما يكن أمر

هذا السلطان في نفسه وأمر قومه في أنفسهم فهو يعلن رسميًّا أن الحرمين الشريفين

ليسا له ولا لحسين بن علي وأولاده، بل يجب تفويض أمرهما إلى زعماء المسلمين

كافة، فمن يرغب عن هذه الخطة إلى جعلها مملكة موروثة في بيت الشريف حسين

يتصرفون فيه كما شاؤوا، حتى يجعلها تحت حماية أعداء الإسلام والطامعين فيه،

ويبيعون ما شاؤوا من أرضهما، فهم أعدى أعداء الإسلام، ويجب أن يظهر نفاقهم

لجميع المسلمين.

ونقترح على سلطان نجد أن يجدد الدعوة إلى عقد المؤتمر لذلك بصفة رسمية؛

بالكتابة إلى ملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم المستقلة ومنها دولة إيران، وإلى

جماعات الشعوب الإسلامية المعروفة بخدمتها للإسلام، وأن يذكر في كتاب الدعوة

الموضوع الذي يبحث فيه المؤتمر بالتفصيل، وأهمه أن لا يكون لأجنبي مُلك ولا

نفوذ ولا مقام في الحجاز، وأن تكون حكومته حكومة شورى شرعية، ولا يتسع

هذا المقال لبيان رأينا التفصيلي فيه، وسنشرحه عند الحاجة إليه إن شاء الله.

أيها المسلمون، الأمر جدٌّ، والخطب إدٌّ، وليس بعد اليوم كوفة، فإذا استولى

الأجنبي الطامع على مهد دينكم، واستعبد قوم رسولكم، وهم أعرق شعوب الأرض

في الحرية والاستقلال، فماذا يبقى لكم؟ وإذا لم تظهروا الغيرة على حرم ربكم

وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم فأي شعور يحترم الطامع لكم؟ وأي مقاومة

يخشى منكم؟

لا تسمعوا كلمة لدعاة حسين وعلي وعبد الله وفيصل، فقد ثبتت خيانتهم

للإسلام وللعرب بالفعل، ولم يتجرأ أحد منهم على تكذيبنا في جعل ملكهم على

منطقة عظيمة من الحجاز تحت الانتداب الإنكليزي؛ لأن جريدة شرق الأردن

الرسمية نشرت الخبر كما نشرته صحف سورية والعراق.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ

تَعْلَمُونَ *} (الأنفال: 27-28) .

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الجنة (بكسر الجيم) : النسم الخفية.

(2)

الأروية (بضم الهمزة وتشديد الياء) كالأثفية: الوعل.

ص: 454

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحوال العالم الإسلامي

ابن سعود وإنكلترة

(تأخر نشرها)

ترجمت جريدة ألف با الدمشقية عن جريدة (لاسيري) الإفرنسية أن السلطان

ابن سعود كتب إلى إنكلترة طالبًا التصديق على المطالب الآتية:

(أ) أن تترك إنكلترة ابن السعود ينهي أمره بأسرع ما يمكن مع الملك علي

وجدة.

(ب) أن تعترف بصورة رسمية بسيادته على الحجاز واستقلال نجد

استقلالاً تامًّا، ذاك الاستقلال الذي حذف بعض مواده في الاتفاق الذي عقده مع

إنكلترة عام 1915.

(ج) أن تقبل إنكلترة بوضع الحجاز تحت سلطته بعد انتصاره التام على

الملك علي، ويتعهد لقاء ذلك أن يشكل بصورة دائمة في مكة حكومة وطنية

تعترف إنكلترة باستقلالها التام، ويكون لابن السعود السلطة التامة في تعيين من يشاء

لمكة، أما فيما يتعلق بدستور الحجاز الإداري والديني فإنه يترك أمر تقريره إلى

ممثلي الدول الإسلامية، الذين ينتخبون لجنة يعهد إليها أمر تطبيق الدستور المذكور.

(د) أن تترك إنكلترة له حق تعيين ممثلي حكومة لوندرة في العراق

وشرقي الأردن وفلسطين والبصرة والكويت.

(هـ) أن تعترف له بإطلاق لقب الجلالة عليه نظير اعترافها بلقب أمير

الأفغان والملك فيصل.

(و) أن تضع حدًّا لنشر الدعاية ضده في الهند والعراق والبلاد الأخرى

الواقعة تحت النفوذ الإنكليزي، والتي تمثل الوهابيين كزنادقة.

فردت عليه إنكلترة مقدمة له المطالب التالية: -

(أ) بقاء الحالة على ما هي عليه في شبه جزيرة العرب وتبذل جهودها في

الحصول عليه خلا ما يتعلق بالحجاز طبعًا، ويتعهد ابن السعود أن لا يقسم شبه

جزيرة العرب إلى منطقتي نفوذ، يختص المنطقة الشمالية بنفسه والمنطقة الثانية

بصديقه الإمام يحيى إمام اليمن، وأن لا يعقد مع الإمام يحيى محالفة ما، بل يجب

عليه بالعكس أن يعقد محالفة مع خصم الإمام يحيى؛ أي: مع سعيد بن علي

الإدريسي إمام العسير، وأن يدعمه عند الحاجة.

(ب) أن يعدها ابن سعود بأن لا يهاجم شرق الأردن ولا معان والعقبة

وتبوك، وهي الأراضي التي انضمت مؤخرًا إلى شرقي الأردن؛ أي: أن يحترم

البلاد الواقعة تحت الانتداب الإنكليزي.

(ج) أن يحترم وأن يحمي السكة الحديدية التي تصل شرقي الأردن بالمدينة

ليؤمن طريق الحج.

(د) أن لا يقوم بأي حركة عدائية على حدود العراق الجنوبية.

(هـ) أن لا يهتم مطلقًا بالمسائل المتعلقة بإمارات خليج فارس، وبنوع

خاص إمارتي الكويت والبحرين.

(المنار)

نقل هذا الخبر بعض الصحف السورية والمصرية بما فيه من تحريف وغلط،

فالتحريف كالتعبير عن الكويت بالكوفة، والغلط كالتعبير عن الإدريسي وإمارته

بسعيد ابن علي إمام العسير، والصواب السيد علي بن محمد علي أمير تهامة اليمن،

فإن منطقة عسير تابعة لسلطنة نجد بمقتضى اتفاق سابق مع المرحوم السيد محمد

علي الإدريسي وسلطان نجد، ومنها مطالب حرف (د) والظاهر أن المراد منه أن

يكون لنجد ممثلون في تلك البلاد.

وقد ارتابت بعض الجرائد في صحة هذا الخبر، ولكن المطالب المعزوة إلى

الفريقين هي التي تتبادر إلى الأذهان، وإن أعلن سلطان نجد لا يبغي ضم الحجاز

إلى بلاده، فالظاهر أن الكاتب الفرنسي صورها بما ذكر إذا لم يكن للخبر أصل،

وقد بينا في مقال آخر ما يبغي الإنكليز من سلطان نجد، ونزيد على ذلك موافقة

الكاتب على أنهم يودون لو يعادي إمام اليمن؛ لتتمكن إنكلترة من تهديد كل منهما

بالآخر أو حملهما على القتال لتفني هذه القوة الباقية في جزيرة العرب بأيدي أهلها،

وقد قيل: إن دسائسهم فعلت هذه المرة فعلتها في إمام اليمن، فأغرته بالتحرش

بسلطان نجد، بعد أن عجزت عن إغراء هذا به، وإنه تصدى هذا بدسائسها

للتدخل في مسألة الحجاز وفاقًا لما كان يزعم المقطم من قبل، فإن صح هذا ولا

نخاله صحيحًا يكون الإمام يحيى قد فقد أكبر فضيلة له عند العالم الإسلامي، وهي

عجز إنكلترة عن خداعه، وجعله آلة لمطامعها في جزيرة العرب، وطالما صرح

المقطم بأنه صارح سلطان نجد بالعداء، وأنه سيرسل جنوده لمساعدة الشريف علي

على إخراج الوهابيين من الحجاز، وكنا وما زلنا نسخر من هذه الدعاية لما عندنا من

الأدلة على كذبها، وكونها ليست من مصلحة الإمام في شيء، فإن من أُسس سياسة

الملك حسين جعل اليمن تابعة له كما صرح به في جريدة القبلة، وسلطان نجد لا

يطلب الحجاز ولا اليمن نفسه، وهو أقدر على مهاجمة اليمن من جهة عسير وجهة

الطائف من مهاجمة الإمام له في الحجاز التي لا فائدة له من تركها له، وأما

مشاركة الإمام لغيره من حكام المسلمين وزعمائهم في تقرير أمر الحجاز وفاقًا لما

دعا إليه سلطان نجد فمعقول، ولا بد للإمام من إرسال وفد؛ لحضور مؤتمر مكة،

وقد كان كتب إلينا بعزمه على ذلك، فهذا أمر يقيني عندنا لا نصدق غيره عنه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 475

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌زيارة زعماء الهند لمصر

ابتهجت مصر في صيف هذا العام بزيارة بعض أكابر زعماء الهند لها، كما

ابتهجت في الشتاء الماضي بإلمام وفد الهند الحجازي بها، وأسفت لعدم تمكنه من

إطالة المقام فيها، وكان لصاحب هذه المجلة الحظ الأوفر من تلك الإلمامة، تمتع

فيها بلقاء صديقه العلامة السيد سليمان الندوي ورفيقيه الكريمين مولانا الشيخ عبد

الماجد العبدايوني والشيخ عبد القادر القصور.

وأما ضيوفها في هذا الصيف فهم الحكيم محمد أجمل خان الدهلوي الملقب

بمسيح الملك، والنواب أمير الدين حاكم ولاية لاري المستقلة في إدارتها،

والدكتور أحمد مختار الأنصاري، وكانوا قد سافروا من الهند إلى أوربة، ثم

افترقوا فيها؛ فجاء الحكيم محمد أجمل خان والنواب أمير الدين بمصر فأقاما فيها

أيامًا، ثم سافر النواب إلى الهند، والحكيم إلى سورية الجنوبية (فلسطين) ،

فالشمالية، فأقام فيها مدة متنقلاً بين مدنها وفي بعض قرى جبل لبنان ذات الهواء

النقي والماء العذب الصافي، وأما الدكتور أحمد مختار الأنصاري فذهب من أوربة

إلى بلاد الترك، ومنها إلى سورية، فمصر، فالهند، وبعد سفره من مصر عاد

إليها الحكيم محمد أجمل خان، فأقام فيها بضعة أيام ثم عاد إلى الهند.

وقد رحبت مصر بهؤلاء الضيوف الكرام، والزعماء الأعلام، ولا سيما

الجماعات والأحزاب التي تخدم الشرق والإسلام، وفي مقدمة المرحبين المرجبين

مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية ومجلس إدارة

مؤتمر الخلافة العام، ومولانا الأستاذ العلامة مفتي الديار المصرية، والأستاذ

العلامة الشيخ حسين والي السكرتير العام للأزهر والمعاهد الدينية ولمؤتمر الخلافة،

وغيرهم من كبار العلماء الأعلام، ويلي جماعة العلماء جمعية الرابطة الشرقية،

فقد قام رئيسها صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري الصديقي (شيخ مشايخ

الصوفية) ، ووكيلها صاحب السعادة أحمد شفيق باشا بما يجب من الحفاوة والإكرام،

ومن الأحزاب السياسية الحزب الوطني، وهو الحزب المصري الذي يعنى بشؤون

العالم الإسلامي، ولا سيما مسلمي الهند دون غيره من الأحزاب المصرية.

كل جماعة من هذه الجماعات قد رحبت بالزعماء الكرام، وأقام كبراؤها لهم

المآدب الحافلة، ودارت بينهم المحاورات في شؤون الإسلام والمسلمين، ومسألة

الخلافة، وغير ذلك من المسائل الدينية والسياسية والاجتماعية، وكذلك كان

شأن هؤلاء الزعماء المخلصين في سائر البلاد الإسلامية التي زاروها في هذه

الرحلة المباركة: أي البحث مع العقلاء من رجال الدين والمتمرسين بالسياسة في حاضر الإسلام ومستقبله.

وأهم المسائل التي كانت موضوع أبحاث الزعماء مسألة استقلال جزيرة

العرب، وحفظها من كل نفوذ أجنبي ولا سيما الحجاز، ومسألة الخلافة، ومسألة

فشو الإلحاد بين النابتة الإسلامية المتفرنجة، ومسألة تغلب العصبية الجنسية على

الوحدة الإسلامية.

وقد كان لكاتب هذه السطور شرف تعريف العلماء وغيرهم بمكانتهم، وحظ

خاص من لقائهم، والبحث معهم والتكريم لهم لأسباب:

(أحدها) : العلاقة القديمة الراسخة بينه وبين مسلمي الهند عامة، والصداقة

الشخصية بينه وبين بعض الزعماء (ولا سيما الحكيم محمد أجمل خان) ، تلك

العلاقة التي كانت سبب دعوة جمعية ندوة العلماء إيانا سنة 132 هـ 1912م،

إلى تولي الصدارة والرياسة لمؤتمر الندوة العام.

(وثانيها) : أنه منذ بضع وعشرين سنة يبحث في هذه المسائل التي اشتد

اهتمام زعماء مسلمي الهند بها في هذه الأيام، وله فيها المقالات والمباحث الكثيرة

في 16 مجلدًا من المنار، وكان لهذه المباحث شأن عند الزعماء وجمهور المفكرين

في الهند نشكره لهم، وله مؤلف مستقل، في مسألة الخلافة قد وعى كل ما يحتاج

المسلمون إليه في أمرها وكل ما يتعلق به.

(وثالثها) : أنه في مصر عضو عامل في الجماعات التي تشتغل بهذه

المباحث الإسلامية: كمؤتمر الخلافة، وجمعية الرابطة الشرقية وغيرهما، أقول:

فلهذه الأسباب كان حظي من لقاء الزعماء مما أشكره لهما أمام قراء المنار في العالم

كله، وإن كنت مع هذا قد عاتبتهم بإدلال المحبة على قلة حظي منهم، وأقنعتهم

بمقتضى المصلحة بالحاجة إلى زمن أوسع لتفصيل بعض المسائل لهم وتمحيصها

معهم.

_________

ص: 478

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإسلام في جاوه

!!

نقلت جريدة الوفاق العربية عن جريدة (هندياباروا) التي تصدر في (بتاوي)

عاصمة جاوه الهولندية بلغة البلاد نبأً غريبًا مغزاه: أن الحكومة الهولندية قد بلغ

من اضطهادها للمسلمين أن تراقبهم في صلاتهم، وتجعلها متوقفة على إذنها، ذلك

أن (ألاسستين رصدين) حاكم مدينة جكجه، دعا إليه الزعيم المسلم الحاج فخر

الدين رئيس الجمعية المحمدية وبعض أعضائها، وناقشهم الحساب على إقامتهم

لصلاة العيد وخطبته في زكاة الفطر، وقال لهم: إنه كان يجب عليهم أن يطلبوا

رخصة من الحكومة بالاجتماع للصلاة وإلقاء الخطبة، وقد ذكرت الجريدة المحاورة

التي دارت بين الحاكم ورئيس الجمعية بالتفصيل، ثم علقت عليها تعليقًا قالت فيه:

لماذا لا تعارض الحكومة المبشرين المنتشرين في البلاد والشوارع، وهم يعنون

بدعوة التبشير؛ لتنصير المسلمين، ويخطبون حيث شاؤوا، وطالما أغووا العامة،

وأدخلوا المئات من المسلمين في النصرانية.

ثم قالت (الوفاق) : إيه أيها الإخوان إنني أشاطركم الحزن بصفتي مسلم،

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) ، ولا أظن أن مثل

هذه الحادثة جرت في عموم الأقطار الإسلامية حتى في أوربا، بل لا تستطيع

الدول الغربية منع المسلمين الصلاة، أو تشترط عليهم طلب الرخصة بها، لما

يترتب على ذلك من غليان شعور المسلمين والتأثر بعاطفة الدين، ومقابلة

الدول الحرة الإسلامية ذلك بالمثل، والتداخل في أمور دينهم بالقوة.. . إلخ.

وأما (المنار) فيقول: إن دول أوربا لا تحسب للدول الإسلامية حسابًا، ولا

تخاف لصلاة أحد من المسلمين في البلاد الأوربية عاقبة ولا مآبًا، فإن أصحاب

المستعمرات الإسلامية منهن متواطئات على السعي لإرجاع المسلمين عن الإسلام

بالتبشير والتعليم، وبالظلم والاضطهاد، ومن رفع رأسه وشكا من سوء معاملتهم

فليس له جزاء إلا السيف والنار، وخراب الديار، ولكن بعضهم يختار في ذلك

سياسة التحذير والخداع، فهل يعتبر المسلمون بذلك، ويتداركوا الخطر بالعلم

والعمل والتعارف والاتحاد، قبل أن يخرج من أيديهم كل ما بقي فيها إلى الآن؟!

_________

ص: 480

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتوى المنار

في حظر ترجمة القرآن

نشرت في ص268 - 274 م11 ج4 منه المؤرخ 29 ربيع الآخر سنة

1326

(س1) من الشيخ أحسن شاه أفندي أحمد (من روسيا)

حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا

نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المهمة: والحج والزكاة، والعمل

بكتب فقه الأئمة الأربعة التي وصفها بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وزعم

أن العمل بها غير جائز، ثم قال في صفات (قوم جديد) ما نصه:

(وأما القوم الجديد فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة، بل

استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية:

(1)

العقل.

(2)

كلمة الشهادة.

(3)

الأخلاق الحسنة.

(4)

الجهاد مالاً وبدنًا والحرب.

(5)

السعي لإعداد لوازم الحرب.. . إلخ.

ثم بسطنا هذه المسائل من وسائل ومقاصد في المجلد التاسع عشر، وقد صدق

كل ما قلناه وارتأيناه من مقاصد ملاحدة الترك ما فعلته الحكومة الكمالية من إلغاء

الأحكام الشرعية كلها، وجعل جميع سياستها وأحكامها حتى الشخصية مدنية أوربية،

وإلغاء المحاكم الشرعية، والأوقاف الإسلامية، والمدارس الدينية، دع إلغاء ما

عمل باسم الدين من المبتدعات كتكايا أصحاب الطرق مقلدة المتصوفة إلخ، صدقوا

بالفعل كل ما قلناه من مقاصدهم، وكان بعض المسلمين الجاهلين بحال الدولة

التركية وتأثير التفرنج فيها ينكرون علينا ما نقوله عن علم وخبرة وغيرة على

الإسلام، ظنًّا منهم أنه إضعاف للدولة حامية الإسلام، وإنما كان حرصًا على تقوية

الدولة بالإسلام وتقوية الإسلام بالدولة؛ لأننا نعلم ما لا يعلمون من إفضاء هذه

الضلالات والعصبية الجنسية إلى إضاعة هؤلاء المتعصبين المفتونين للإسلام

وللدولة معًا؛ وكذلك كان.

وقد كان بعض الترك الروسيين استفتانا في مسألة الترجمة قبل أن نعلم بهذا

الغرض الفاسد فأفتيناه فيها لذاتها، إذ لم يكن يخطر ببالنا أن أحدًا من المسلمين

يتوسل بذلك إلى إخراج شعب إسلامي من الإسلام - وهذا نص السؤال والجواب:

ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه (بشائر

صدق نبوت) ما ترجمته:

إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين، وجميع المباحثات التي دارت

بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة، وذلك لوجوه:

(الأول) : أن ترجمته بالتمام غير ممكنة لإعجازه من جهة البلاغة.

(والوجه الثاني) : أن فيه كثيرًا من الكلمات لا يوجد لها مقابل في اللغة

التي يترجم إليها، فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير،

ثم إذا نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضًا وَهَلُمَّ

جَرًّا، فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره.

(الوجه الثالث) : أن كلمات الكتب السماوية يستخرج منها بعض إشارات

وأحكام بطريق الحساب، فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق، مثال ذلك أن سعدي

جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت

الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن، وسورة الناس التي هي

آخر سورة، تكون الحروف الباقية ثلاثة وعشرين قال: وفي ذلك إشارة إلى مدة

سني النبوة المحمدية، فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه الفوائد التي

هي من جملة معجزاته، انتهى، (من بشائر صدق نبوت) .

أما أدباؤنا معشر الترك الروسيين، فإنهم مصرون على ترجمته ويقولون: لا

معنى للقول: بأنه لا تجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم، فلذا يذهبون

إلى وجوب ترجمته، وهو الآن يترجم في مدينة قزان، وتطبع ترجمته تدريجًا،

وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية

القفقاز، فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة.

...

...

...

...

حرره الإمام الحقير

...

...

...

...

أحسن شاه أحمد

...

...

...

... الكاتب الديني السماوي

(جواب المنار له)

إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم أن لا يبينوا معاني القرآن لأهل كل

لغة بلغتهم، ولو بترجمة بعضه [1] ، لأجل دعوة من ليس من أهله إليه، وإرشاد

من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة، وإن من زلزال المسلمين في دينهم أن

يتفرقوا إلى أمم، تكون رابطة كل أمة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية،

ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله، المعجز بأسلوبه وبلاغته

وهدايته، المتعبد بتلاوته، اكتفاء بأفراد من كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بحسب

ما يفهم المترجم.

هذا الزلزال أثر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين، زين لنا أن

نتفرق وننقسم إلى أجناس، ظانًّا كل جنس منا أن في ذلك حياته، وما ذلك إلا موت

للجميع، ولا نطيل في هذه المسألة هنا، ولكننا نذكر شيئًا مما يخطر في البال من

مفاسد هجر المسلمين للقرآن المنزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) -

استغناءً عنه بترجمة أعجمية يغنيهم عنها تفسيره بلغتهم، مع المحافظة على نصه

المتواتر، المحفوظ من التحريف والتبديل - مع مراعاة الاختصار فنقول:

(1)

إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية تطابق الأصل متعذرة كما يعلم من

المسائل الآتية، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن، أو فهم من

عساه يعتمد هوعلى فهمه من المفسرين، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن،

وإنما هي فهم رجل للقرآن يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود

المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره.

(2)

إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي، بل هو الدين كله؛ إذ السنة

ليست دينًا إلا من حيث إنها مبينة له. فالذين يأخذون بترجمته يكون دينهم ما فهمه

مترجم القرآن لهم، لا نفس القرآن المنزل من الله تعالى على رسوله محمد - صلى

الله عليه وسلم - والاجتهاد بالقياس إنما هو فرع عن النص، والترجمة ليست نصًّا

من الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بد أن يكون له مستند والترجمة ليست

مستندًا. فعلى هذا لا يسلم لمن يجعلون ترجمة القرآن قرآنًا شيء من أصول

الإسلام.

(3)

إن القرآن منع التقليد في الدين، وشنع على المقلدين فأخذ الدين من

ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه، فهو إذًا خروج عن هداية القرآن لا اتباع لها.

(4)

يلزم من هذا حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به

المؤمنين في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي

وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)

، وأمثالها من الآيات

التي تجعل من مزايا المسلم استعمال عقله وفهمه فيما أنزل الله [2] .

(5)

كما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية يلزم منع الاجتهاد

والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم.

(6)

أن من عرف لغة القرآن، وما يحتاج إليه في فهمه كالسنة النبوية

وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورًا بالعمل بما يفهمه من

القرآن وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له، كما

يعلم ذلك من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فيما فهموه من كيفية

التيممم، إذ عذر المختلفين في فهمها والعمل بها، ومثله معاملته لهم فيما فهموه من

نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة، ولذلك شواهد أخرى، ولا أخال مسلمًا

يجعل لعبارة مترجم القرآن هذه المزية.

(7)

إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية لا تخلق جدته، ولا تفتأ

تتجدد هدايته ، وتفيض للقارئ على حسب استعداده حكمته ، فربما ظهر للمتأخر

من حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله، تصديقًا لعموم حديث (فرُب مبلغ أوعى

من سامع) ، وترجمته تبطل هذه المزية، إذا تقيد القارئ بالمعنى الذي صوره

المترجم بحسب فهمه، مثال ذلك أن المترجم قد يجعل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا

الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) من المجاز بالاستعارة؛ أي: إن اتصال الريح

بالسحاب، وحدوث المطر عقب ذلك يشبه تلقيح الذكر للأنثى وحدوث الولد بعد ذلك

كما فهم بعض المفسرين، فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة

التي يترجم بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أطلق،

فإن القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة

فيه، وهو كون الرياح لواقح بالفعل، إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى

إناثه، فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمة حرفية، فإن

هناك أمثلة أخرى، وحسبنا أن يكون هذا موضحًا، والترجمة تقف بنا عند حد من

الفهم، يعوزنا معه الترقي المطلوب.

(8)

ذكر الغزالي في كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) أن ترجمة آيات

الصفات الإلهية غير جائزة، واستدل على ذلك بما هو واضح جدًّا، وقد ذكرنا

عبارته في تفسير {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ

وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) ، وبين أن الخطأ في ذلك مدرجة للكفر [3] .

(9)

ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدم أن من الألفاظ العربية ما لا

يوجد لها فارسية تطابقها - أي: ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله

المترجم في مثل هذه الألفاظ، وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يوقع قارئ

ترجمته في اعتقاد ما لم يرده القرآن؟

(10)

قد ذكر في ذلك أيضًا أن من الألفاظ العربية مالها فارسية تطابقها

(لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها

لها) ، فإذا أطلق المترجم اللفظ الفارسي يكون هنا مؤديًا المعنى الحقيقي للفظ

العربي؟ وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من

الأعاجم، وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل

وصفاته وأفعاله.

(11)

ذكر أيضًا في هذا المقام: أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركًا في

العربية، ولا يكون في العجمية كذلك، فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنيي

المشترك، ولا يخفى ما فيه، وقد مر نظيره آنفًا.

(12)

من المقرر عند العلماء أنه إذا ظهر دليل قطعي على امتناع ظاهر

آية من آيات القرآن فإنه يجب تأويلها حتى تتفق مع ذلك الدليل، والفرق بين تأويل

ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل، لا سيما في الآيات

المتشابهة والألفاظ المشتركة.

(13)

إن لنظم القرآن وأسلوبه تأثيرًا خاصًّا في نفس السامع لا يمكن أن

ينقل بالترجمة، وإذا فات يفوت بفوته خير كثير، فيا طالما كان جاذبًا إلى الإسلام،

حتى قال أحد فلاسفة أوربا وهو فرنسي نسيت اسمه: إن محمدًا كان يقرأ القرآن

بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به، فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن

غيره من الأنبياء من المعجزات، وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرة الاحتفال

السنوي لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة

آيات من القرآن، فقال لي الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في

النفس، ثم لما كتب خبر الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك، فإذا كان لتلاوة

القرآن هذا التأثير حتى في نفس غير المؤمن به، فكيف نحرم منها المسلمين

بترجمة القرآن لهم.

(14)

إذا ترجم القرآن التركي والفارسي والهندي والصيني إلخ، فلا بد أن

يكون بين هذه التراجم من الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد

الجديد عند النصارى [4] ، وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من

الخلافات التي كنا نقرؤها، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها، فكيف

نختارها بعد ذلك لأنفسنا؟

(15)

إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،

بل هو الآية الباقية من آيات النبيين، وإنما يظهر كونه آية باقية محفوظة من

التغيير والتبديل، والتحريف والتصحيف، بالنص الذي نقلناه عمن جاء به من عند

الله، والترجمة ليست كذلك.

هذا ما تراءى لنا من الوجوه المانعة من ترجمته للمسلمين؛ ليكون لهم قرآن

أعجمي بدل القرآن العربي، وإذا كان بعض هذه الوجوه مما يمكن إدخاله في

البعض - وإنما ذكر هكذا لزيادة الإيضاح - فإن هناك وجوهًا أخرى يمكن

استنباطها لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن، بل منها ما تركناه

مع تذكره.

وأما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أن عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب

بقائه غير مفهوم فهي ممنوعة، فإننا نقول: إن فهمه سهل، ولكن ليس لأحد أن

يجعل فهمه حجة على غيره فكيف يجعله دينًا لشعب برمته، وإن لاهتداء المسلم

الأعجمي بالقرآن درجتين: درجة دنيا خاصة بالعوام الذين لا يتيسر لهم طلب العلم

فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ لأجل قراءتها في الصلاة، ويترجم لهم

تفسيرها، وتقرأ أمامهم في مجالس الوعظ بعض الآيات، ويذكر لهم تفسيرها، بلغتهم

كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين، ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم،

وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته، ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير مقلدين

لأحد منهم.

إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام على أيدي الصحابة الكرام قد فهموا أن

للإسلام لغة خاصة به، لا بد أن تكون عامة بين أهله؛ ليفهموا كتابه الذي يدينون

به ويهتدون بهديه، ويعبدون الله بتلاوته، ولتتحقق بينهم الوحدة المشار إليها بقوله

فيه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) ، ويكونوا جديرين بأن

يعتصموا به، وهو حبل الله فلا يتفرقوا، ولتكمل فيهم أخوة الإسلام التي حتمها

عليهم بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ؛ ولذلك انتشرت اللغة

العربية في البلاد التي فتحها الصحابة بسرعة غريبة مع عدم وجود مدارس ولا

كتب ولا أساتذة للتعليم، واستمرت الحال على ذلك في زمن الأمويين في الشرق

والمغرب، وفي أول مدة العباسيين حتى صارت العربية لغة الملايين من الأوربيين

والبربر والقبط والروم والفرس وغيرهم في ممالك تمتد من القاموس المحيط الغربي

(الأتلانتيك) إلى بلاد الهند، فهل كان هذا إلا خيرًا عظيمًا تآخت فيه شعوب كثيرة،

وتعاونت على مدنية كانت زينة للأرض، وضياءً ونورًا لأهلها؟

ثم هفا المأمون في الشرق هفوة سياسية، حركت العصبية الجنسية في الفرس؛

فأنشئوا يتراجعون إلى لغتهم، ويعودون إلى جنسيتهم، وجاء الأتراك ففعلوا

بالعصبية الجنسية ما فعلوا، فسقط مقام الخلافة، وتمزق شمل الإسلام بقوة ملوك

الطوائف، ولكن لم تصل الفتنة بالناس إلى إيجاد قرآن أعجمي للأعاجم وإبقاء

القرآن العربي المنزل خاصًّا بالعرب، بل بقي الدين والعلم عربيين وراء إمامهما

الذي هو القرآن.

فالواجب على دعاة الإصلاح في الإسلام الآن أن يجتهدوا في إعادة الوحدة

الإسلامية إلى ما كانت عليه في الصدر الأول خير قرون الإسلام، وأن يستعينوا

على ذلك بالطرق الصناعية في التعليم، فيجعلوا تعلم العربية إجباريًّا في جميع

مدارس المسلمين، ويحيوا العلم بالإسلام بطريقة استقلالية، لا يتقيدون فيها بآراء

المؤلفين في القرون الماضية المخالفة لطبيعة هذا العصر في أحوالها المدنية

والسياسية، ولكننا نرى بعض المفتونين منا بسياسة أوربا يعاونونها على تقطيع بقية

ما ترك الزمان من الروابط الإسلامية بتقوية العصبيات الجنسية، حتى صار

بعضهم يحاول إغناء بعض شعوبهم عن القرآن المنزل! ألا إنها فتنة في الأرض

وفساد كبير، وقى الله المسلمين شره، فهذا ما أقوله الآن في ترجمة القرآن

للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إمامًا لهم، ودون ترجمته لدعوة غيرهم به

إلى الإسلام، مع أن المترجم بين المعنى الذي يفهمه هو. انتهت الفتوى.

وملخص هذه الفتوى: إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية متعذر، ويترتب

عليه مفاسد كثيرة، فهو محظور لا يبيحه الإسلام؛ لأنه جناية عليه وعلى أهله،

ولا يجوز أن تسمى الترجمة قرآنًا ولا كتاب الله، ولا أن يسند شيء منها إليه تعالى

فيقال: قال الله كذا؛ لأن كتاب الله وقرآنه عربي بالنص القطعي والإجماع الشرعي،

من سلف أهل الملة كلهم وخلفها لا الإجماع الأصولي المختلف فيه، ولأنها ليس لها

شيء من خصائص القرآن اللفظية ولا المعنوية كالإعجاز، وهي لا بد أن تكون

مخالفة له في المعنى كمخالفتها في اللفظ، فإسنادها إليه تعالى كذب عليه وكفر

بكتابه، بل أجمع المسلمون على أنه لا يجوز إبدال لفظ من ألفاظ المصحف بلفظ

آخر يرادفه من اللغة العربية: ككلمتي شك وريب في قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ

لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) ، وأما الترجمة المعنوية التي هي عبارة عن تفسير ما

يحتاج إلى تفسيره منه بلغة أخرى فغير محرم، وإنما تتبع فيه المصلحة الشرعية

بقدرها.

***

أقوال الفقهاء في المسألة

ترجمة القرآن وقراءته وكتابته بغير اللغة العربية [*]

المعوَّل عليه عند الأئمة وسائر العلماء أنه لا يجوز كتابة القرآن ولا قراءته

ولا ترجمته بغير العربية مطلقًا، إلا فيما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من جواز

قراءة القرآن بالفارسية في خصوص الصلاة، وإليك بعض النصوص في ذلك:

قال شيخ الإسلام أبو حسن المرغيناني الحنفي في التجنيس: ويمنع من كتابة

القرآن بالفارسية بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى الإخلال بحفظ القرآن، لأنا أمرنا بحفظ

اللفظ والمعنى فإنه دلالة على النبوة، ولأنه يؤدي إلى التهاون بأمر القرآن اهـ.

وقال في معراج الدراية: من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو

مجنون أو زنديق، والمجنون يداوى، والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر

محمد بن الفضل البخاري اهـ.

وفي الدراية: إن القرآن اسم للنظم والمعنى جميعًا بالإجماع، وقد أنزل حجة

على النبوة، وعلمًا على الهدى، والهدى بمعناه، والحجة بنظمه. وكما أن الإخلال

بالمعنى يسقط حكم القراءة، كذلك الإخلال بالنظم، ولأن حفظ القرآن واجب في

الجملة؛ ليكون حجة على الحكم، ولا قراءة تجب إلا في الصلاة، فعلم أنها متعلقة

بعين ما أنزل ليقع الحفظ بها اهـ.

وروي عن الإمام أبي حنيفة كما في الهداية وغيرها: جواز قراءة القرآن

بالفارسية في الصلاة مطلقًا، وعن الصاحبين: إذا كان لا يحسن العربية، أما إذا

كان يحسنها فلا يجوز، وتفسد صلاته إذا قرأ بغير العربية.

وروى أبو بكر الرازي رجوع الإمام إلى قولهما وعليه الاعتماد ، وقال

الإمام الزاهدي في الجامع الصغير: إن ما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من أن

القراءة بالفارسية تفسد الصلاة؛ لمن قدر على العربية، أما عند العجز فلا فساد

(محله) إذا قرأ بالفارسية كل لفظ بما هو في معناه من غير أن يزيد فيه شيئًا، أما

إذا قرأ على سبيل التفسير فتفسد صلاته بالإجماع اهـ.

وهو تفييد حسن؛ لأنه حينئذ يكون متكلمًا بكلام غير القرآن من كلام الناس

وهو مفسد للصلاة.

وأصل الاختلاف في ذلك كما بدائع الصنائع وأحكام القرآن لحجة الإسلام

الجصاص قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20) ، حيث

أمر بالقراءة، والأمر للوجوب، ولا موضع لوجوب القراءة غير الصلاة، فوجب

أن يكون المراد القراءة في الصلاة، فذهب الصاحبان إلى أنه إذا قرأ بالفارسية وهو

يحسن العربية، فقد قرأ ما ليس بقرآن، فقد خرج عن عهدة الأمر؛ لأن الفارسي

ليس قرآنًا، والقرآن هو المنزل بلغة العرب، قال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (يوسف: 2) ، وأيضًا فالقرآن هو المعجز، والإعجاز من جهة اللفظ يزول

بزوال النظم العربي، فلا يكون الفارسي قرآنًا لانعدام الإعجاز، ولهذا لم تحرم

قراءته على الجنب والحائض، غير أنه إذا كان لا يحسن العربية، فقد عجز عن

مراعاة لفظه فيجب عليه مراعاة معناه؛ ليكون التكليف بحسب الإمكان اهـ؛

والمراد مطلق المعنى، وإلا فمعنى النظم المعجز لا تؤديه الترجمة كما هو ظاهر.

ولا يعنينا الآن بيان وجه استدلال الإمام بالآية على ما ذهب إليه بعد أن صح

رجوعه إلى قول الصاحبين.

فظهر أن قول الثلاثة بجواز قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة لمن لا

يحسنها ليس مبناه أن الترجمة تصير قرآنًا عند العجز عن أدائه بالعربية، فيفرض

عليه ذلك في هذه الحالة، بل المفروض عليه حينئذ تعلم العربي؛ لأنه القرآن

المأمور به في الصلاة، وإنما هو مبني على الاكتفاء بالمعنى في حقه لعجزه،

ولأنه الميسور له من معنى القرآن الذي هو مجموع النظم والمعنى المأمور به في

الصلاة، ولما كان أداء المفروض موقوفًا على النظم العربي، وليس ذلك ميسورًا

له أتى بالترجمة بدلاً عنه لتقوم مقامه في أداء المعنى المفروض، مع أنها ليست

قرآنًا، لأن القرآن هو كلام الله، المنزل بلغة العرب، والترجمة ليست كذلك،

وفي الدراية: قراءة غير العربي تسمى قرآنًا مجازًا، ألا ترى أنه يصح نفي القرآن

عنه فيقال: ليس بقرآن وإنما هو ترجمته، وإنما جوزناه للعاجز إذا لم يخل بالمعنى؛

لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك

مطلقًا؛ إذ التكليف بحسب الوسع اهـ.

وظاهر أن مسألة القراءة في الصلاة شيء، ومسألة ترجمة القرآن وقراءته

بغير اللغة العربية مطلقًا شيء آخر، والكلام في الثاني دون الأول، ولا يلزم من

جواز الأول - على فرض تسليمه - جواز الثاني، حتى ينسب إلى الإمام وصاحبيه

القول بجواز ترجمة القرآن وقراءته خارج الصلاة، وكتابته بغير اللغة العربية،

وكيف ذلك وقد أجمعت كتبهم على أن الخلاف في خصوص الصلاة، وأصله أن

الأمر بالقراءة إنما هو في الصلاة دون غيرها كما أطبقوا على أنه المراد في قوله

تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20) ، والقرآن المعروف هو

اللفظ المنزل بلغة العرب خاصة.

وفي شرح أصول البزدوي للإمام عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي:

والقرآن اسم للنظم والمعنى جميعًا في قول عامة العلماء، وهو الصحيح من قول

أبي حنيفة، إلا أنه لم يجعل النظم ركنًا لازمًا في جواز الصلاة خاصة، وإنما هو

لازم فيما سواه من الأحكام الأخرى، كوجوب الاعتقاد، وحرمة كتابة المصحف

بالفارسية، وحرمة المداومة والاعتياد على القراءة بها اهـ.

وقد نقل أن الإمام رجع عن هذا القول في الصلاة أيضًا إلى القول بعدم

جواز الصلاة بالفارسية مطلقًا، فيكون النظم ركنًا لازمًا عنده في كل حالة كما ذكره

العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} (الشعراء:

196) ، بناءً على عود الضمير إلى القرآن باعتبار معناه، وفي رواية عنه

تخصيص الجواز بالفارسية؛ لأنها أشرف اللغات بعد العربية، وفي أخرى إنها إنما

تجوز بالفارسية في الصلاة للعاجز عن العربية، وقد صحح رجوعه عن القول

بجواز القراءة بغير العربية مطلقًا جمع من الثقات المحققين لضعف الاستدلال بهذه

الآية عليه كما لا يخفى، فإن الظاهر عود الضمير في الآية على القرآن بتقدير

مضاف؛ أي: وإن ذكر القرآن في الكتب المتقدمة، وهذا كما يقال: إن فلانًا في

دفتر الأمير اهـ؛ ملخصًا.

ومن هذا يعلم ما في استدلال بعضهم بقول الإمام على جواز ترجمة القرآن

بأي لغة خارج الصلاة وداخلها للقادر والعاجز؛ لأنه على رواية التخصيص

بالفارسية لا تجوز بغيرها مطلقًا، وعلى رواية رجوعه إلى قول صاحبيه لا تجوز

خارج الصلاة مطلقًا، ولا للقادر في الصلاة، وعلى رواية الثقات عنه تجوز

مطلقًا بغير العربية في الصلاة وغيرها للقادر والعاجز، والمعول عليه رأيه الأخير

الذي صح رجوعه إليه كما هو رأي الجماعة، فكيف يصح الاستدلال بقوله على

جواز ترجمة القرآن مطلقًا؟ اهـ. (ص31- 36) .

(للبحث بقية)

_________

(1)

بالترجمة هنا: المعنوية التفسيرية لا اللفظية الحرفية.

(2)

أعني: كقوله تعالى في أول سورة الأعراف: [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ](الأعراف: 3) ، والمنزل إلينا من ربنا هو القرآن العربي كما صرحت به الآيات، فاتباع الترجمة مخالف لكل من الأمر والنهي في هذه الآية.

(3)

راجع ص 728 م9 أو 214 من الجزء الثالث من التفسير.

(4)

بل يكون الخلاف عندنا أشد لعجز جميع البشر عن ترجمة القرآن دون التوراة والإنجيل.

(*) نقلنا هذا الفصل من رسالة للأستاذ الشيخ محمد حسنين العدوي أحد كبار علماء الأزهر.

ص: 481

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تتمة فتوى اللباس والزي

وفد نشرت إحدى جرائد مصر مقالاً لكاتب ألماني كبير، يخطئ فيه مصطفى

كمال باشا في إكراهه لقومه الترك على تغيير زيهم الوطني، وخاصة ترك القبلق،

واستبدال البرنيطة به، وإنما خطأه تخطئة صديق ناصح، لا عدو كاشح، وقال:

إن هذا ينافي غرضه وهو تكوين القومية التركية، معللاً له بالقاعدة التي بيناها آنفًا،

وشرحناها من قبل مرارًا، ومما قاله: إن القلبق يفوق البرنيطة جمالاً ومهابة..

ونحن نظن أن مصطفى كمال باشا - وإن لم يكن من علماء الاجتماع

والأخلاق وطبائع الشعوب - لا يجهل أن المحافظة على المشخصات القومية مما

يقوي تكوين الأمة، وأن تقليد شعب لآخر يراه أرقى منه يضعف قيمة المقلد في

نظر نفسه، ويحقرها في قلوب أهلها، ويرفع منزلة الشعب الذي قلده بقدر ذلك،

ونعتقد أنه يتعمد هدم جميع مقومات الشعب التركي ومشخصاته، ما عدا اللغة؛

لأنها إسلامية، أو مستندة إلى الإسلام، وهو يريد أن يسله من الإسلام كما تسل

الشعرة من العجين إن أمكن، وإلا انتزعهم منه كما ينتزع الحسك ذو الأضلاع من

الصوف، أو انتزعه منهم كما تنتزع الروح من الجسد، وقد بحث الذين بثوا هذه

الدعوة في الترك من ملاحدة الروسيين وغيرهم عن مقومات ومشخصات تركية أو

تورانية يستبدلونها بالإسلام، حتى عبادة الذئب الأبيض الذي عبده سلفهم من همج

الوثنيين، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، فاختاروا التشبه بالإفرنج، ولا سيما أفسدهم

دينًا وآدبًا كاللاتين بحجة الحضارة والترقي العصري، وسموه التمغرب، ونحن

نسميه التفرنج، حتى إن بعضهم يستحسن استبضاع نسائهم من الإفرنج بالحلال

وبالحرام لإدخال دمهم (الشريف المدني) في دم الشعب التركي (الفاسد)

لإصلاحه.

فظهر بمجموع ذلك أن هؤلاء الزعماء الدخلاء يريدون إفساد هذا الشعب

التركي بكل نوع من أنواع الفساد الجسمي والعقلي والنفسي، وتكوين شعب آخر

في بلاده مذبذب بين أمشاج الشعوب، روحه غير روحه، ودمه غير دمه،

وأخلاقه غير أخلاقه، وعقائده غير عقائده، فيكون كلغته التي يسمونها التركية،

هي لغة هذبها الإسلام كما هذب أهلها بما دخل في مادتها من الأسماء والأفعال

العربية، وكذا الفارسية. وهم يريدون الآن أن يفعلوا بها ما يفعلون بأهلها، وإن لم

يبق فيها من لغة قدماء الترك بعد أن تتفرنج وتتمغرب معهم، وتكتب بالحروف

اللاتينية كما هو مقرر عندهم إلا قليل، وما يدرينا بعد ذلك لعلهم يغيرون اسمها

أيضًا؟

ومن الثابت في سنن الاجتماع أن تغيير القوانين والنظم والأزياء لا يغير

طبائع الأمم - كما يقول الدكتور غوستاف لوبون - فإن اللاتين الجمهوريين

كاللاتين الملكيين في تشابه حكومتهم وطباعهم، حتى إن الذين مرقوا من الدين منهم

لا تزال التربية الكاثوليكية الموروثة هي الحاكمة على قلوبهم وأرواحهم بعصبيتها،

وإنما فقدوا من الدين فضائله فقط، وكذلك السكسونيون تشابهت حكومتهم الملكية في

بريطانية، وحكومتهم الجمهورية في الولايات المتحدة كما تشابه أهلهما. فالترك

يفقدون بهذا التفرنج اللاتيني ما بقي فيهم من فضائل الإسلام ورابطته الملية، وما

كان لهم من الزعامة في مئات الملايين من البشر، ثم لا يقدرون على التفصي من

الوراثة القومية التي طبعتها الأجيال والقرون في أنفسهم.

فالغرض الأول لهم الآن التفصي من الإسلام بحجة الترقي العصري، وما

في الإسلام شيء مانع من الترقي الذي يطلبونه، وأساسه القوة العسكرية والثروة

والنظام، بل الإسلام يهدي إلى ذلك، ولولاه لم ينل العرب عقب اهتدائهم به من

القوة والحضارة ما فاقوا به جميع الأمم، وظلوا كذلك إلى أن سلبهم الأعاجم

سلطانهم بالقوة الهمجية، ونال الترك وغيرهم به حضارة وملكًا لم يكن لسلفهم مثلها،

ولا ما يدانيها، ولو أنهم فهموا الإسلام فهمًا استقلاليًّا بإتقان لغته، والاجتهاد في

شريعته، لملكوا به الغرب مع الشرق، ولسبقوا جميع شعوب الإفرنج إلى العلوم

والفنون والصناعات، وسائر أسباب القوة والسلطان كما فعل العرب من قبلهم،

وهذا ما يطلبونه الآن بترك ما بقي لهم من تقاليد الإسلام، ويتوسلون إليه بتقليد

الإفرنج في زيهم وفجورهم، قبل إتقان شيء ما من علومهم وفنونهم، والوصول

إلى مثل قوتهم وثروتهم.

أما الزي فقد علمت مما بيناه في أول هذه الفتوى أن ما ورد في السنة وعمل

السلف فيه هو الذي اتبع المسلمين فيه أرقى أمم أوربة، وأما إباحة الفسق والفجور

فهي التي أهلكت جميع أمم الحضارات السابقة، وستهلك أوربة به أيضا كما يتشاءم

جميع حكمائها وعقلائها، وسيعلم العالم مصير الترك بمحاولة مصطفى كمال جعلهم

خلقًا جديدًا بهذه الطرق التي سلكها، ونسأل الله تعالى أن يقيهم سوء عاقبتها.

وجملة القول في لبس البرنيطة وغيرها من أزياء الإفرنج: إنه مباح لذاته،

وإنما يحرم بما يكون وسيلة له من ضعف الرابطة الملية، وتفضيل مشخصات

خصوم الأمة الطامعين فيها على مشخصاتها كما يقصده المتفرنجون في بلاد الترك

وأمثالها كسورية ومصر، وإذا قصد به ما يقصده ملاحدة الترك مما شرحناه في هذه

الفتوى من التوسل به إلى الكفر كان كفرًا.

جواب س 6 السكروتة:

اختلف أكثر الناس في هذا النسيج الذي يرد من الشرق الأقصى ما أصله؟

كما أشير إليه في السؤال، وقد سألت عنه في العام الماضي السيد محمد بن عقيل،

إذ كان ممن اتجر به، فأجابني بأنه رديء الحرير وخشنه، وظاهره أن دوده عين

دود الحرير المعروف عندنا، فإن كان له دود آخر كما روي عن آخرين من تجاره،

ففي جعله من الحرير نظر؛ لأن الديدان والحشرات التي تبني لأنفسها بيوتًا من

لعابها كثيرة، ومنها العنكبوت، وقد اتخذ الإفرنج من بيوتها قفازًا لليدين كما روي

لنا، على أنني كنت عازمًا قبل سؤال ابن عقيل عنه على استجداد ثياب منه؛ إذ

كنت ألبسها في الصيف لخفتها في الحر، ثم تركت ذلك بعد جوابه بما ذكر.

وإنني بعد كتابة ما تقدم وقبل نشره جاءني كتاب من الأخ المحب في الغيب

خادم الإسلام الأمين، ومدير المعارف في الصين (سعيد سليمان) ، ذكر فيه أنه

مرسل إليَّ قليلاً من الحرير الصيني هدية مودة، ثم جاءت الهدية فإذا هي من هذا

النسيج الذي نسميه (السكروتة) ، فعلمنا قطعًا أنهم يسمونه حريرًا.

(ج7و8) حكم التحلي بلبس الرجال الحرير:

قد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، والوعيد عليه

بعدم لبسه في الآخرة، كما في حديث الصحيحين عن عمر وأنس (رضي الله

عنهما) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا (إنما يلبس الحرير في

الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) ، وما ثبت من لبس النبي صلى الله عليه وسلم

- له محمول على أنه كان قبل النهي عنه، وما قاله أبو داود من أنه لبس الحرير

عشرون نفسًا من الصحابة أو أكثر، منهم أنس (الذي روى خبر الوعيد) ،

فيحتمل أن بعضهم لم يبلغه النهي، أو أنهم حملوه على الكراهة، كما قال به بعض

العلماء، وقووه بأنه لو كان حرامًا لم يلبسه مثل هذا العدد الكثير، ولا سيما مثل

أنس رضي الله عنه ، ولأنكره عليهم باقي الصحابة، ولم ينقل ذلك، وحديث

التحريم فيه من العلل ما يمنع الاحتجاج به، والجمهور على أن الخالص منه حرام

على الرجال، وكذا ما أكثره حرير خلافًا للإمامية، وعلى حل ما أكثره قطن أو

صوف مثلاً وكذا المتساوي، واختلفوا هل هو من الكبائر أو الصغائر؟ فجمهور

الشافعية على أنه من الصغائر، وناهيك بتشددهم، وقال بعضهم: بل هو من

الكبائر، ورجحه ابن حجر المكي في الزواجر بناءً على ما اعتمده مؤلف أصله من

تفسير الكبيرة الذي جعل به الكبائر 467 كبيرة، وقد عد منها ما هو مكروه عند

الجمهور تنزيهًا، وقد علمت أن بعض العلماء قال بحله، وبعضهم قال بكراهته،

وأما لبسه لحاجة كحكة فقد صح الإذن به.

(ج9و10) الكبائر والصغائر وعذابهما:

اختلف العلماء في تعريف الكبيرة والصغيرة من الذنوب فقيل: إن الذنب

الواحد يكون كبيرة في بعض الأحوال وصغيرة في بعض؛ إذ من الناس من يرتكب

المعصية بجهالة من غلبة غضب أو شهوة وهو خائف وجل، ولا يلبث أن يتوب

ويصلح عملاً، ومنهم من يرتكبها بغير مبالاة بالدين، ولا خوف من الله، فالكبر

والصغر يرجع إلى حال العاصي لا إلى الذنب في نفسه، وقيل: إن مناط الكبر

والصغر ما يترتب على الذنب من الضرر الذي حرم لأجله، وقيل: إن الكبيرة ما

ورد في الكتاب أو السنة وعيد شديد عليه، وهو ما اعتمده صاحب كتاب الزواجر.

والتحقيق أن من المعاصي ما هو كبيرة في نفسه كالتي وردت بها النصوص في

الصحاح، ومنها ما يختلف باختلاف حال فاعله، ويراجع التفصيل في الزواجر.

وأما كون العقاب على الكبيرة أشد من العقاب على الصغيرة فهو ضروري.

(ج11-13) مسائل عذاب القبر:

المشهور عن جمهور أهل السنة أن عذاب القبر على الروح والجسد معًا،

والمراد بعذاب القبر ما يسمونه عذاب البرزخ؛ أي: مابين الموت والحشر يوم القيامة

سواء دفن الإنسان في قبر أم لا، ففي هذه المدة يشعر الأخيار بنوع من النعيم

والأشرار بنوع من العذاب، ويقول الجمهور: إن النفس وإن كانت هي التي تشعر

بالألم وباللذة لا مانع يمنع أن يكون لها نوع اتصال بالبدن، يصحح كون العذاب

واقعًا عليهما معًا ما دام البدن موجودًا، ومن المعلوم أن الراجح عند متكلمي

الأشاعرة أن الجسم ينعدم فلا يبقى منه شيء، أو إلا عجب الذنب كما قال في

الجوهرة:

وقل يعاد الجسم بالتحقيق

عن عدم وقيل عن تفريق

ونقل السفاريني في شرح عقيدته عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض أهل

السنة يقولون كالمعتزلة: إن البرزخ على الروح فقط، وإنما يكون العذاب على

الروح والجسد معًا بعد البعث، قال: وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل

الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة (قال) : وليس هذا من

الأقوال الشاذة، بل هو مضاف إلى من يقر بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت

معاد الأبدان والأرواح إلخ (ص22ج2)

ثم نقل السفاريني (في ص24 منه) أدلة ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل

والنحل) على امتناع حياة الإنسان بعد موته قبل يوم القيامة، وتعقبها بما لابن القيم

فيها من التفصيل والتحقيق الذي يؤيد به جمهور أهل السنة.

وأما كون ذلك العذاب مستمرًّا دائمًا أو منقطعًا فظواهر بعض النصوص تدل

على أنه غير دائم، منها قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ

وَعَشِياًّ} (غافر: 46) ، قالوا هي في عذاب البرزخ بدليل ما بعدها وما ورد من

دوام عذاب جهنم، ومنها ما جاء في الصحيحين من خبر اللذين يعذبان في قبورهما،

وإن وضع النبي صلى الله عليه وسلم جريدة خضراء شقها وغرزها على

كل قبر منهما مما يرجى أن يكون سبب التخفيف عنهما، وهذا من أمور الغيب التي

لا تعرف إلا بنص من الشارع، وأقرب منه ما ورد من الأمر بالاستغفار للميت، والدعاء له بالتثبيت عند دفنه؛ إذ هو داخل فيما صح من نفع الدعاء عند الله تعالى.

ورد في بعض الأحاديث أن بعض الأعمال الصالحة في الدنيا تنجي فاعلها

من فتنة القبر وعذاب القبر: كالرباط في سبيل الله، وقراءة سورة {تَبَارَكَ الَّذِي

بِيَدِهِ المُلْكُ} (الملك: 1) رواهما الترمذي، وقد أوجزنا في هذه المسائل؛ لأن ما

صح من أخبار عالم الغيب لا ينبغي البحث في صفته وكيفيته ولا الزيادة فيه على

الوارد، ولا يجوز قياسه على المعهود لنا في حياتنا الدنيا، وقد ضرب أبو حامد

الغزالي لمنكري عذاب القبر مثلاً ما يراه النائم أحيانًا من ألم يمسه أو ثعبان يلسعه

ولا يرى عليه أثر للألم بحيث يعرفه من في حضرته.

(ج أسئلة 14- 16) العقاب على حقوق العباد:

من مات وعليه حقوق للعباد من قتل عمد، وديون، ومظالم، وخيانات،

وسرقات، وكذب، وغش لأناس لم يسامحوه بها في الدنيا؛ يعاقبه الله تعالى عليها

في الآخرة، وإن عذبه في البرزخ فإن عذاب الآخرة هو الجزاء الأوفى الذي يكون

بعد الحساب، وأما عذاب البرزخ فهو دون ذلك، ولعله مبني على ما تشعر به

النفس من دنسها وخبثها وسوء تأثير الشرور والفساد والعصيان فيها، والتوبة قد

تسقط عن التائب حقوق الله عز وجل ولكنها لا تسقط حقوق العباد، والعقاب

على حقوق العباد نوعان بَيَّنَهُمَا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (المفلس

من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا،

وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته

وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم

فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.

(ج17) تفسير حديثين:

أما حديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله

فيغفر لهم) ، فقد رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة بزيادة القسم في أوله

(والذي نفسي بيده) ، ورواه من حديث أبي أيوب الأنصاري بلفظ (لولا أنكم

تذنبون؛ لخلق الله خلقًا يذنبون يغفر لهم) ، وبلفظ (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب

يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها الله لهم) ، وكان أبو أيوب - رضي

الله تعالى عنه - يكتم هذا الحديث طول حياته؛ خوفًا من تهاون بعض الناس

بالذنوب اتكالاً على المغفرة، ثم حدث به حين حضرته الوفاة؛ لئلا يكون كاتمًا للعلم.

والمراد من الحديث ترغيب المذنبين في الرجوع إلى الله وطلب المغفرة منه،

وعدم اليأس من رحمته، فهو دواء لمن يغلب عليه الخوف من عقاب الله تعالى

حتى يخشى عليه القنوط من رحمته تعالى، ومعناه أن المغفرة من صفات الأفعال لله

عز وجل، ومن أسمائه الغافر والغفار والغفور، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود مذنب

يغفر ذنبه، كما أن من شأن الإنسان أن يذنب جاهلاً أو ناسيًا أو مغلوبًا لغضبه أو

شهوته، ومن شأن المؤمن أن يندم إذا أذنب، ويستغفر ويكفر عن ذنبه، ومن

شأن الرب الغفور الرحيم أن يقبل التوبة، ويستجيب للمستغفرين، قال تعالى:

{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) ، وقال عز

وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ

مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِل} (آل عمران: 135- 136) .

ويقابل ذلك أن من أسمائه تعالى المنتقم؛ أي: المجازي بالحق والعدل، ويجمع

بين الأمرين قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ

العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: 49-50) ، ومن عقائد أهل السنة الإيمان بوعد الله

ووعيده، وأن الوعد لا يتخلف جملة ولا تفصيلاً، وأن الوعيد ينفذ في الكافرين،

وفي طائفة من عصاة المؤمنين، وهم الذين لا تدركهم المغفرة، وأنه يجب على

المؤمن الخوف من الله والرجاء في الله؛ إذ لا يعلم المغفور لهم إلا الله، ولأبي

الحسن الشاذلي - من أئمة الصوفية - كلمة جامعة في ذلك، وهي: (وقد أبهمت

الأمر علينا؛ لنرجو ونخاف، فأمن خوفنا، ولا تخيب رجائنا) .

وأما حديث (كل شيء بقدر [1] حتى العجز والكيس)، أو قال: (الكيس

والعجز) ، فقد رواه أحمد ومسلم، كما قال، فهو صحيح السند، والكيس بوزن

البيع: مصدر كاس يكيس، وهو الحذق وحسن التصرف في الأمور، ويقابله

العجز عن حسن التصرف والقيام بالواجب، ومنه حديث (الكيس من دان نفسه،

وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) ،

رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححوه. ومعنى الحديث المسؤول

عنه أن الغرائز والصفات النفسية للبشر مخلوقة بقدر الله تعالى الذي أقام به نظام

الكون، وليست من المصادفات أو من الجزاف، وذلك أن القدر هو النظام الذي سبق

في علم الله تعالى لخلق الأشياء، فلم يقع شيء في العالم إلا بخلقه تعالى وتقديره

السابق في علمه، ومنكرو القدر يزعمون أن الله تعالى يخلق الأشياء جزافًا، كما يريد

عند خلقها لا بحسب ما قدره ودبره، وسبق به علمه الأزلي، وهو ما يعبرون عنه

بقوله: (الأمر أُنف) ؛ أي: جديد مستأنف، ولفظ القدر ينافي هذا المعنى، وهو

ثابت بنص القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) ،

وقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر:

21) ، وقد فصلنا هذه المسائل من قبل مرارًا.

_________

(1)

كان من غلط الطبع في السؤال أن جعلت الباء الموحدة ياء مثناة هكذا (يقدر) .

ص: 496

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنبيه مهم

يظن الكماليون أنهم بارتدادهم عن الإسلام يعاملهم الأوربيون كأنفسهم،

وسيعلمون أنهم إنما يكرهون منهم الإسلام؛ لأنه قوة لهم، ولن يعاملوهم معاملة الأكفاء

وإن تنصروا كما يريد بعضهم. ولكن ماذا يطلب اللادينيون في مصر وسورية من

تقليد الترك فيما يفعلون؟ أيظنون كما يظن الكماليون؟ أم لا يدرون مغبة ما

يصنعون؟

_________

ص: 504

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسرار البلاغة أو فلسفة البيان

(تابع لما نشر بالجزء السادس)

وإذا كان هذا ثابتًا موجودًا، ومعلومًا معهودًا، من حال الصور المصنوعة،

والأشكال المؤلفة، فاعلم أنها القضية في التمثيل واعمل عليها، واعتقد صحة ما

ذكرت لك من أخذ الشبه للشيء مما يخالفه في الجنس، وينفصل عنه من حيث

ظاهر الحال، حتى يكون [1] هذا شخصيًّا يملأ المكان، وذاك معنى لا يتعدى

الأفهام والأذهان، وحتى إن هذا إنسان يعقل، وذاك جماد أو موات لا يتصف بأنه

يعلم أو يجهل، وهذا نور شمس يبدو في السماء ويطلع، وذاك معنى كلام يوعى

ويسمع، وهذا روح يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمة تؤثر وتحمد، كما قال:

إن المكارم أرواح يكون لها

آل المهلب دون الناس أجسادًا

وهذا مقال متعصب منكر للفضل حسود، وذاك نار تلتهب في عود، وهذا

مخلاف، وذاك ورق خلاف [2] كما قال ابن الرومي:

بذل الوعد للأخلاء سمحًا

وأبى بعد ذاك بذل العطاء

فغدا كالخلاف يورق للعين

ويأبى الإثمار كل الإباء

وهذا رجل يروم العدو تصغيره والازراء به، فيأبى فضله إلا ظهورًا، وقدره إلا

سموًّا، وذاك شهاب من نار تصوب وهي تعلو، وتخفض وهي ترتفع، كما

قال أيضا:

ثم حاولت بالمثيقيل تصغيري

فما زدتني سوى التعظيم

كالذي طأطأ الشهاب ليخفى

وهو أدنى له إلى التضريم

وأخذ هذا المعنى من كلام في حكم الهند، وهو أن الرجل ذا المروءة والفضل

ليكون خامل المنزلة غامض الأمر فما تبرح به مروءته وعقله حتى يستبين ويعرف

كالشعلة من النار التي يصوبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعًا.

هذا هو الموجب للفضيلة والداعي إلى الاستحسان، والشفيع الذي أحظى

التمثيل عند السامعين، واستدعى له الشغف والولوع من قلوب العقلاء الراجحين،

ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للمتمثل، ولم تتصادف [3] هذه الأشياء المتعادية

على حكم المشبه، إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين، ولكن ما يستحضر العقل،

ولم يعن بما تنال الرؤية، بل بما تعلق الرويَّة [4] ، ولم ينظر إلى الأشياء من حيث

توعى، فتحويها الأمكنة، بل من حيث تعيها القلوب الفطنة، ثم على حسب دقة

المسلك، إلى ما استخرج من الشبه ولطف المذهب، وبعد التصعد إلى ما حصل

من الوفاق استحق مدرك [5] ذلك المدح، واستوجب التقديم، واقتضاك العقل أن

تنوه بذكره، وتقضي بالجنى في نتائج فكره [6] نعم وعلى حسب المراتب في ذلك،

وأعطيته في بعض منزلة الحاذق الصنع [7] والملهم المؤيد، والألمعي المحدث [8]

الذي سبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إمامًا، ويكون من بعده تبعًا له

وعيالاً عليه، وحتى تعرف تلك الصنعة بالنسبة إليه، فيقال: صنعة فلان وعمل

فلان. ووضعته في بعض موضع المتعلم الذكي والمقتدي المعيب في اقتدائه، الذي

يحسن التشبه بمن أخذ عنه، ويجيد حكاية العمل الذي استفاده، ويجتهد أن يزداد.

واعلم أني لست أقول لك: إنك متى ألفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على

الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرط، وهو أن تصيب

بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهًا صحيحًا معقولاً، وتجد للملائمة

والتأليف السوي بينهما مذهبًا وإليهما سبيلاً، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب

تشبيهك [9] من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحس،

فأما أن تستكره الوصف وتروم أن تصوره حيث لا يتصور فلا؛ لأنك تكرن في

ذلك بمنزلة الصانع الأخرق، يضع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه

ولا يقبلانه، حتى تخرج الصورة مضطربة، وتجيء فيها نتوٌّ [10] ، ويكون للعين

عنها من تفاوتها نبو، وإنما قيل شبهت ولا تعني في كونك مشبهًا أن تذكر حرف

التشبيه أو تستعير، إنما تكون مشبهًا بالحقيقة بأن ترى الشبه وتبينه، ولا يمكنك

بيان ما لا يكون، وتمثيل ما لا تتمثله الأوهام والظنون.

ولم أرد بقولي: إن الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك

تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أن هناك

مشابهات خفية يدق المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد استحققت الفضل.

ولذلك يشبه المدقق في المعاني كالغائص [11] على الدر. ووزان ذلك أن القطع التي

يجيء من مجموعها صورة الشنف [12] والخاتم أو غيرهما من الصور المركبة من

أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسب - أمكن ذلك التناسب أن يلائم بينها

الملائمة المخصوصة، ويوصل الوصل الخاص - لم يكن ليحصل لك من

تأليفها الصورة المقصودة.

ألا ترى أنك لو جئت بأجزاء مخالفة لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير

إلى الصورة التي كانت من تلك الأول طلبت ما يستحيل، فإنما استحققت الأجرة

على الغوص وإخراج الدر، لا أن الدر كان بك، واكتسى شرفه من جهتك، ولكن

لما كان الوصول إليه صعبًا، وطلبه عسيرًا، ثم رزقت ذلك وجب أن يجزل لك

ويكبر صنيعك.

ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم

لطف وحسن لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتفاق كان ثابتًا بين المشبه

والمشبه به من الجهة التي بها شبهت، إلا أنه كان خفيًّا لا ينجلي إلا بعد التأنق في

استحضار الصور وتذكرها وعرض بعضها على بعض، والتقاط النكتة المقصودة

منها، وتجريدها من سائر ما يتصل بها. نحو أن يشبه الشيء بالشيء في هيئة

الحركة فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة، والهيئةُ مجردة من الجسم وسائر ما فيه من

اللون وغيره من الأوصاف، كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق حيث قال:

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقًا مرة وانفتاحا

لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له

عن انبساط يعقبه انقباض، وانتشار يتلوه انضمام، ثم فكر في نفسه عن هيآت

الحركات؛ لينظر أيها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة

الخاصة في المصحف إذا جعل يفتحه مرة ويطبقه أخرى، ولم يكن إعجاب هذا

التشبيه لك وإيناسه إياك؛ لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشد الاختلاف فقط، بل

لأن حصل بإزاء الاختلاف اتفاق كأحسن ما يكون، وأتمه، فبمجموع الأمرين- شدة

ائتلاف في شدة اختلاف - حلا وحسن، وراق وفتن.

ويدخل في هذا الموضع الحكاية المعروفة في حديث عدي بن الرقاع، قال

جرير: أنشدني عدي: *عرف الديار توهمًا فاعتادها* [13] فلما بلغ إلى قوله:

(تزجي أغن كأن إبرة روقه)[14] رحمته وقلت: قد وقع، ما عساه يقول: وهو

أعرابي جلف جاف؟ فلما قال: *قلم أصاب من الدواة مدادها* استحالت الرحمة

حسدًا [15] ، فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح

التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من

محل الظن شبه [16] ، وحين أتم التشبيه وأداه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد

موصوف، وعثر على خبيء مكانه غير معروف، وعلى ذلك استحسنوا قول

الخليل، في انقباض كف البخيل.

كفاك لم تخلقا للندى

ولم يك بخلهما بدعه

فكفٌّ عن الخير مقبوضة

كما نقصت مائة سبعه

وكف ثلاثة آلافها

وتسع مئيها لها منعه [17]

وذلك أنه أراك شكلاً واحدًا في اليدين مع اختلاف العددين، ومع اختلاف

المرتبتين في العدد أيضًا؛ لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد والآخر من

مرتبة المئين والألوف، فلما حصل الاتفاق كأشد ما يكون في شكل اليد مع

الاختلاف كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد كان التشبيه بديعًا، قال

المرزباني: وهذا مما أبدع فيه الخليل؛ لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من

الحساب مختلفين في العدد متشاكلين في الصورة. وقوله هذا إجمال ما فصلته.

ومما ينظر إلى هذا الفصل ويداخله ويرجع إليه حين تحصيله الجنس [18]

الذي يراد فيه كون الشيء من الأفعال سببًا لضده كقولنا: أحسن من حيث قصد

الإساءة، ونفع من حيث أراد الضر. إذا لم يقنع التشاغل بالعبارة الظاهرة،

والطريقة المعروفة، وصور في نفس الإساءة الإحسان، وفي البخل الجود، وفي

المنع العطاء، وفي موجب الذم موجب الحمد، وفي الحالة التي حقها أن تعد على

الرجل حكم ما يعتد له، والفعل الذي هو بصفة ما يعاب وينكر، صفة ما يقبل المنة

ويشكر، فيدل ذلك بما يكون فيه من الوفاق الحسن مع الخلاف البين على حذق

شاعره، وعلى جودة طبعه وحدة خاطره، وعلو مصعده وبعد غوصه، إذا لم يفسده

بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيق في تلخيص الدلالة، وكشف تمام الكشف عن

سرو المعنى وسره [19] بحسن البيان وسحره. مثال ما كان من الشعر بهذه الصفة

قول أبي العتاهية:

جُزيَ البخيل على صالحة

عني لخفته على ظهري

أعلى وأكرم عن يديه يدي

فعلت ونزه قدره قدري

ورزقت من جدواه عافية

أن لا يضيق لشكره صدري

وغنيت خِلوًا من تفضله

أحنو عليه بأحسن العذر

ما فاتني خير امرئ وضعت

عني يداه مؤنة الشكر

ومن اللطيف مما يشبه هذا قول الآخر:

أعتقني سوء ما صنعت من الرمـ

ـق فيا بردها على كبدي

فصرت عبدًا للسوء فيك وما

أحسن سوء قبلي إلى أحد

_________

(1)

قوله حتى يكون: غاية في الانفصال (ش) .

(2)

الخلاف بالكسر: شجر الصفصاف.

(3)

تتلاقى.

(4)

الروية: النظر والتفكر. وتعلق (بفتح التاء والعين وتشديد اللام) أصله تتعلق: أي تهوى، ويقال: علق بالمرأة (كتعب) ، وتعلقها إذا هَوِيَها.

(5)

ضبطه شيخنا بصيغة اسم المفعول من أدرك.

(6)

الجنى بالفتح: مصدر جنى الثمرة، والثمرة نفسها وكل ما يجنى ما دام غضًّا.

(7)

يقال: صنع اليدين وصنعهما بكسر النون، وبالتحريك: أي حاذق ماهر.

(8)

الألمعي: الذكي المتوقد، والمحدث (بالفتح والتثقيل) الصادق الحدس كأنما حدث بما ظن، والمحدثون بالفتح: الملهمون وكان عمر بن الخطاب منهم كما صح في الحديث.

(9)

يوجب التشبيه: يكون منشأ له والاعتبار الذي سوغه (ش) .

(10)

قوله: (فيها نتو) حال من ضمير تجيء، وهو بتشديد الواو وأصله بالهمزة نتوء.

(11)

كالغائص حكاية للتشبيه، ولعل أصله بالغائص؛ لأنه لا يحتاج إلى التقدير.

(12)

الشنف بالفتح القرط الأعلى ج شنوف.

(13)

تمام البيت: (من بعد ما شمل البلى إبلادها) ، والإبلاد قطع الأرض عامرة أوغامرة أو الآثار في قول بعضهم. والقصيدة في مدح الوليد بن عبد الملك، ومنها:

... ولقد أراد الله إذ ولاكها

من أمة إصلاحها ورشادها

(ومنها)

تأتيه أسلاب الأعزة عنوة

قسرًا ويجمع للحروب عتادها

وعلمت حتى ما أسائل عالمًا

عن علم واحدة لكي أزدادها.

(14)

الإزجاء: السوق، والأغن: ذو الغنة، وهي صوت يتردد بين اللهاة، والأنف كنون (منك) ، وكذلك صوت الظبي، ولذلك غلب عليه لقب الأغن، والروق: القرن، وإبرته: رأسه، وتكون

سوداء.

(15)

يقال: إن الفرزدق كان حاضرًا إنشاد القصيدة، وإنه عندما بلغ عدي قوله: تزجي أغن إلخ، قال (أي: الفرزدق لجرير) : ما تراه يستلب بهذا تشبيهًا؟ فقال جرير: (قلم أصاب من الدواة

مدادها) ، قال: فما رجع الجواب حتى قال عدي ذلك، فقال: ويحك لكأن سمعك في فؤاده مخبوء! فقال جرير: اسكت فقد شغلني سبك عن جيد الكلام (ش) .

(16)

شبه فاعل يحضر.

(17)

الأبيات من المتقارب، وفي الأول الخرم ومعناها أنه قابض كلتا يديه، وبيانه في حل مسألة العقد، وهي أن اليمنى التي يعقدون بها للآحاد والعشرات إذا أردت أن تعقد بها 93 وهي المائة تنقصها سبعة تقبض الخنصر والبنصر والوسطى، بحيث تكون الأظافر في باطن الكف، وهي عقدة الثلاثة، وتقبض السبابة، وتجعل ظفرها ظاهرًا؛ (لأن ظهور الأظافر للعشرات وإخفاءها للآحاد، وتضع الإبهام على ظهرها، وهي عقدة التسعين فتلك 93 ما حصلت إلا من قبض الكف، وأما اليسرى التي يعقد بها للمئين والألوف فتكون مقبوضة بعقد 3900، وذلك أن تقبض الخنصر والبنصر والوسطى، وهي عقدة 3000، وتقبض السبابة، وتحلق عليها بالإبهام (كعقدة 90 في اليمني) ، وهي عقدة 900، فتلك 3900 حصلت بقبض اليد اليسرى أيضًا.

(18)

الجنس: مبتدأ، وقوله قبله: ومما ينظر إلى هذا الفصل خبره.

(19)

السرو: الفضل.

ص: 505

الكاتب: رفيق بك العظم

‌الحكومة الإسلامية

كان رفيق بك العظم المؤرخ المشهور (رحمه الله تعالى) شرع في تأليف كتاب

باسم (تاريخ السياسة الإسلامية) ، لم يكتب منه إلا مقدمته، وهي في ملخص

السيرة النبوية، وقد طبعت في هذه الأيام مع بعض رسائله وخطبه، فرأينا أن نقتبس

منها هذا الفصل بمناسبة نشر الكتاب السخيف الذي نشر في هذا العام، في

الطعن في حكومة الإسلام، وهو:

ذكر شيء مما كان على عهده صلى الله عليه وسلم

أو نصت عليه شريعته، وترتب عليه نظام السلطنة الإسلامية

اعلم أن ما ظهرت آثاره في الإسلام من ترتيب الدول، وتنظيم شؤون

الحكومة، واتخاذ شعائر الارتقاء، إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه

وسلم، وما لم يكن في عهده فمنصوص عليه في شريعته الطاهرة، وسنته الباهرة،

وذلك: كالإمامة، والوزارة، والولاية، وإمارة الجيش، والقضاء، والخطابة،

والكتابة، والسفارة، والترجمة، والحسبة، والمعاهدات، والأعطيات - أي:

مرتبات الجند - والحجابة، والحراسة، وإمارة الحج، والرسائل، والإقطاع

والديوان، والزمام، وكتابة الجيش، والعقود، والفرائض؛ أي: قسمة المواريث،

وغير ذلك من آثار الفضل في ترتيب الحكومات الإسلامية، مما كان على عهده

صلى الله عليه وسلم، واقتفى أثره به الخلفاء الراشدون، ثم أخذ يتوسع به من

بعدهم من الخلفاء والسلاطين، ويقررونه على أوجه مضبوطة، وقيود وتراتيب لا تخرج عن صفة ما سبق إلا بنوع الترتيب، أو بما فيه الاستزادة من أبهة الملك

وسطوة السلطان. ولكن لما بلغت دول الإسلام أقصى غايات الرفاه، واختلطت

على الخلفاء والسلاطين الأمور باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام؛ أخذت تتحول

تلك الأنظمة والتراتيب إلى أعجمية تارة، وهمجية أخرى، حتى اختل بسبب ذلك

نظام الملك، واستحال حال الدول في بعض العصور إلى ما يشبه ضلال الساري في

ليلة مظلمة، يود سلوك الطريق المنجية فلا يجدها، والعاقبة للمتقين.

وها نحن (أولاء) نورد لك طرفًا من تلك الوظائف والتراتيب بوجه إجمالي،

معززًا بما يؤيده من الكتاب والسنة، ونبدأ من ذلك بالإمامة؛ لأنها المنصب

النبوي المهم فنقولك:

الإمامة

الإمامة هي رئاسة عامة في الدين والدنيا، تنتهي إلى صاحبها خلافة النبوة

في حراسة الدين وسياسة الدنيا، بدليل أن رسول الله - صلى عليه وسلم - لما ثقل

عليه المرض وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وصلى أبو بكر - رضي

الله تعالى عنه - بالناس نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذها

الصحابة دليلاً على استنابة أبي بكر في الخلافة العامة، فأقاموه خليفة عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر الحكم في الخلافة هكذا، حتى إذا استغرق

الخلفاء بالترف، واستكانوا وراء الحجب، واستثقلوا الظهور للناس والاختلاط

بعامتهم، استنابوا عنهم بالصلاة أولي الكفاءة من أئمة الدين، واكتفوا بمباشرة أمور

السياسة. وقد ثبت أن نصب الإمام واجب على الأمة بالشرع وجوبًا كفائيًّا؛ أي: هو

فرض كفاية إذا قام به البعض - وهم أهل الحل والعقد - سقط عن الباقين.

وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: تنعقد البيعة للإمام بمن حضرها

من أهل الحل والعقد.

ومنهم من قال: لا تنعقد إلا برضا عامة الناس. ولهم بهذا الصدد أبحاث

طويلة ليس هذا موضع ذكرها، فليرجع إليها في كتب العقائد (وكتاب الأحكام

السلطانية) للماوردي [*]

...

ومما لا اختلاف فيه وجوب الطاعة للإمام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، فإن طاعة

الإمام العادل واجبة؛ ليتمكن من الأخذ بمقتضى العدل في تنفيذ الأحكام، وتوزيع

الضرائب، وفصل الخصومات، وإقامة الحدود، وتجهيز الجيوش، وسد الثغور،

وقهر المتغلبة، وبالجملة سائر ما يعود على المجتمع الإسلامي بالخير والمصلحة.

قالوا: ومتى استقرت الخلافة العامة لمن هو لها أهل، فلا بد من استنابته في

بعض الوظائف الموكولة إليه أناسًا ذوي كفاءة وعلم ودين: كالوزارة، والإمارة،

والجباية والقضاء، وغير ذلك من الوظائف التي لا يمكن مباشرة جميعها بنفسه،

والاستنابة فيها أصح في التدبير، وأدفع للخلل، وأجمع للنظام. وأهم الوظائف

التي يستنيب فيها هي الوزارة.

الوزارة

اعلم أن الوزارة مرتبة جليلة من مراتب الدولة التي ينتظم بها الملك، وتشاد

عليها دعائم الدولة؛ لهذا اشترط العلماء في الوزارة ما اشترطوه في الخلافة من

الأحكام الجامعة لأوصاف العدل: كالأهلية، والكفاءة، والعلم، والصحة، والعقل.

وروي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره،

وإن ذكر أعانه. وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره،

وإذا ذكر لم يعنه) ، وقالوا: إن الوزارة على ضربين، وزارة تفويض (للحكومات

المعتدلة) ووزارة تنفيذ (للحكومات المطلقة) .

فأما وزارة التفويض فهي: أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور

برأيه وإمضاءها على اجتهاده. وهذه بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة في

الحكومات المعتدلة؛ لأن للوزير فيها - متى استكملت فيه الشروط المعتبرة في

وزارة التفويض - أن يحكم بنفسه، وأن يقلد الحكام، وأن ينظر في المظالم أو

يستنيب فيها، وأن يتولى الجهاد بنفسه، وأن يقلد من يتولاه، وأن يباشر الأمور

التي دبرها أو يستنيب فيها [1] .

وبالجملة فقد قالوا في هذه الوزارة: إن كل ما صح عن الإمام صح عن

الوزير إلا ثلاثة أشياء: (أحدها) ولاية العهد، (والثاني) أن للإمام أن يستعفي

الأمة من الإمامة، وليس ذلك للوزير، (والثالث) أن للإمام أن يعزل من قلده

الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام. وما سوى هذه الثلاثة فحكم

التفويض إليه يقتضي جواز فعله، على شرط أن يطالع الإمام بما أمضاه من تدبير

وأنفذه من ولاية؛ لئلا يستبد بالأمر دون الإمام، وللإمام أن يتصفح ما يعرضه عليه

الوزير؛ ليقر منه ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه، إلا الحكم في حق فإنه

ينفذ على وجهه، أو في مال وضع في حقه، فإنه ليس للإمام استرجاعه.

ووجه جواز هذه الوزارة في الإسلام، مأخوذ من قوله تعالى في القرآن حكاية

عن موسى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *

وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32) فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فإنها

في الخلافة أولى.

وأما وزارة التنفيذ فإن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، بحيث

يكون الوزير كالواسطة بين الإمام والرعية، ينقل إليه ما وقع، ويؤدي عنه ما أمر،

ويمضي عنه ما حكم، وينفذ ما ذكر. وهذه الوزارة بمثابة ما يسمونه الآن

الوزارة المقيدة في الحكومات المطلقة، ومعنى تقييدها رجوعها في كل عمل إلى

رأي السلطان وأمره فيما يراه، ويشترط في هذه الوزارة أوصاف الأمانة والصدق

والفطنة كي لا يكذب فيما يبلغ، ولا يخون فيما يؤدي، ولا يدلس عليه، ولا يبعد

الصواب عنه، وينسب التساهل في أمور الناس إليه.

وقد رأيت كيف أن موسى الكليم عليه السلام طلب أن يجعل الله له

وزيرًا من أهله وهو أخوه هرون، وأما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد أشار

إلى فضل الوزارة وما فيها من الموازرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (وزيراي من

أهل السماء جبريل ومكائيل، ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر) [2] :

أي أن الملائكة توازره بالوحي من السماء، وأبو بكر وعمر يوازرانه في الرض.

وأما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان أبو بكر يرجع في المشورة

إلى عمر وعلي وأكابر الصحابة رضوان الله عليهم. ولما كانت الحكومة الإسلامية

في صدر الإسلام أشبه بالحكومة الديموقراطية حذا حذو أبي بكر - في الرجوع إلى

استشارة أهل العلم والرأي من أكابر سائر المسلمين - الخلفاء الراشدين، ومن أتى

بعدهم من الخلفاء الأمويين، دون اتخاذ وزير مخصوص يسمى بهذا الاسم، أو

يعطى شارة الوزارة، حتى قيام الدولة العباسية، وكان أول خليفة منهم السفاح،

فاتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن سليمان، فكان أول من لقب بالوزير في دولة

الإسلام، ومن ثم أصبحت الوزارة من الرتب الخاصة التي تجري عليها القوانين،

وتدون لها الدواوين، على أشكال شتى كانت تترقى بترقي الدول الإسلامية، وتتدنى

بتدنيها.

***

القضاء

إن ولاية القضاء خطة سامية، تتلو الوزارة في الأهمية، ولها في الشريعة

الإسلامية شروط وأحكام، أفردت لها أبواب مخصوصة في كتب الفقه، لا مجال

لإيرادها في هذا المختصر، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه،

وقلد القضاء لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله

تعالى عنهم. وقد مر في هذه المقدمة ذكر الحديث الوارد بتقليد معاذ القضاء، ولم

يرد في شريعة من الشرائع ما ورد في الشريعة الإسلامية من البيان بشأن القضاء

وشروطه، وآدابه وأحكامه وحدوده، لهذا كان الخلفاء الراشدون يجلسون للقضاء

بأنفسهم ويستنيبون أحيانًا من عرف بالعلم والنزاهة، وتحققت فيه الأهلية والكفاءة،

وكذا من جاء بعدهم من الخلفاء الأمويين، وبعض الخلفاء العباسيين.

ولما كانت المنازعات في صدر الإسلام، إنما تنشأ عن أمور مشتبهة، يترافع

فيها الخصمان إلى القضاء ليوضحها الحكم، وتتعين فيها جهة الحق، فقد اقتصر

خلفاء السلف على فصل المنازعات، والتشاجر بين الناس بالحكم والقضاء، لالتزام

الناس جهة الحق، وانقيادهم إليه، ولما تجاهر الناس بالظلم، وتغالبت النفوس،

وتغلبت الأهواء، واحتيج في رد الحق وتنفيذ الأحكام إلى القوة الإجرائية؛ تفرعت

عن القضاء ولاية المظالم، فكان الخلفاء من بني أمية، منهم من جلس لرد المظالم

بنفسه، كعمر بن عبد العزيز، ومنهم من أفرد وقتًا مخصوصًا للنظر في رقاع

المتظلمين، ومنهم عبد الملك بن مروان، وهو أول من أفرد يومًا للنظر في

الظلامات، وتصفح قصص المتظلمين، فما احتاج فيه إلى حل مشكل أو حكم منفذ

رده إلى قاضيه أبي إدريس الأزدي، فكان هذا المباشر، وعبد الملك الآمر، ثم مع

التمادي والتدريج، احتاج الخلفاء إلى جعل ولاية المظالم ولاية خاصة تتفرغ عن

ولاية القضاء [3] ، فكانوا يختارون لها ذوي الهيبة وأهل السياسة، لتنفذ بواسطتهم

قوانين العدل، وتستقيم طرق التناصف، وكان آخر من جلس بنفسه لرد المظالم

من الخلفاء العباسيين المأمون، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

نظر في المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام - رضي الله تعالى

عنه - ورجل من الأنصار، وحضره صلى الله عليه وسلم بنفسه.

***

الولاية وإمارة الحرب واللواء والجيش

قد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإمارة كثيرين، منهم

عتاب بن أُسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، استعمله على مكة أميرًا سنة

ثماني من الهجرة وولاة إمارة الموسم والحج بالمسلمين، وذكر الزمخشري في

الكشاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أُسيد على أهل

مكة وقال: (انطلق فقد استعملتك على أهل بيت الله) ، فكان شديدًا على المريب،

لينًا على المؤمن، ومنهم باذان استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على

اليمن، وكان أميرًا عليها من قبل ملوك الفرس، وذكر المؤرخون أن باذان أول

أمير أسلم من العجم، وأول أمير في الإسلام على اليمن.

***

مطلب إمارة الجيش

وأما إمارة الجيش فقد استعمل لها النبي صلى الله عليه وسلم كثيرين

أيضًا في سراياه التي كان يبعث بها لقتال المشركين، وأولها في السنة الأولى من

الهجرة سرية عبد الله بن جحش، فقد ذكر المؤرخون وأرباب السير أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو، فلما أراد

المسير بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مكانه عبد الله بن

جحش وآخرها جيش أسامة الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم

للمسير إلى الشام وعليه مولاه أسامة بن زيد، وتوفي صلى الله عليه وسلم قبل

مسير الجيش، فسيره بعده أبو بكر رضي الله تعالى عنه.

***

مطلب اللواء

وأما اللواء فقد قال أرباب السير: إن أول راية عقدت في الإسلام عقدها

رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن قصي

في ستين أو ثمانين راكبًا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وممن حمل

راية النبي عليه الصلاة والسلام ليقاتل بها أبو بكر وعمر وعلي، وحمل رايته

عليه الصلاة والسلام عام الفتح الزبير بن العوام. وذكر أهل السير في أخبار غزوة

بدر الكبرى أنه كان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان

إحداهما مع علي بن أبي طالب، والأخرى - وهي راية الأنصار - كانت مع سعد

بن معاذ، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم الخصوصية سوداء تسمى

العقاب، وكان يحملها بعد النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فلم

يحضر بها حربًا إلا وكان الظافر فيها.

***

مطلب تقسيم الجيش

وأما الجيش فقد كان على عهده صلى الله عليه وسلم يقسم إلى خمسة أقسام:

المقدمة، والمجنبتان اليمنى واليسرى، والقلب والساقة، وكان لكل قسم رئيس

يسمى صاحبًا، كصاحب المقدمة، وصاحب الساقى إلخ، فقد تولى الساقة بين يدي

رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أبو عبيدة بن الجراح، ويوم

حُنين خالد بن الوليد، وتولى بقية الأقسام غيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله

عليهم، وكان في وقت المصاف يقدم على الفرسان رئيسًا، وعلى الرماة وعلى

المشاة رئيسًا، فمن ذلك ما رواه البخاري أن عبد الله بن جبير كان في غزوة أحد

المقدم على الرماة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انضح الخيل عنا

بالنبل [4] لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من

قبلك) .

***

مطلب الحرس

كان يتولى جيشه عليه الصلاة والسلام في الليل بعض الحرس، فمن ذلك ما

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بلغه أن رجلاً من

المشركين أصيبت امرأته فحلف ليتبعن أثر الجيش؛ ليهريق دمًا من المسلمين،

فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فقال: (من يكلؤنا ليلتنا؟ فانتدب

رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر) .

***

مطلب حرسه الخصوصي صلى الله عليه وسلم

وكان له صلى الله عليه وسلم حرس خصوصي يحرسونه إذا نام أو كان في

الغزو، وكان من حرسه سعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ وذكوان بن عبد الله

وهذان حرساه يوم بدر على باب العريش الذي بني له يومئذ، ويوم أُحد حرسه

محمد بن مسلمة الأنصاري، ويوم الخندق حرسه الزبير بن العوام وسعد بن أبي

وقاص وعباد بن بشر، وحرسه غيرهم من الصحابة، فلما نزل قوله تعالى:

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) ترك الحرس.

***

مطلب العرفاء

وكان عند العرب عرفاء للأجناد، وهم دون الرؤساء، بهم يتعرفون أحوال

الجيش، واستمر ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت

ذلك من حديث طويل رواه البخاري، وذلك في قصة وفد هوازن حين جاؤوه

مسلمين.

وقد كان للجيش في عهده صلى الله عليه وسلم عيون تأتي بأخبار العدو،

وطلائع تمهد له الطريق، وحملة سلاح، وغير ذلك من متعلقات الجيوش مما لا

يسع هذا الموجز بسطه، فليراجع في كتب السير والحديث.

***

كتابة الجيش والديوان والعطاء

قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكتب الناس، وجرى

العمل بذلك في عصره صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري بسنده عن حذيفة

بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لي من يلفظ

بالإسلام من الناس) ، فكتبنا له ألفًا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف

وخمسمائة، فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف.

وأما العطاء فقد وردت في ثبوته أحاديث كثيرة، فمنها ما رواه أبو داود عن

عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب حظًّا،

فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار، فدعيت فأعطاني حظين، وكان لي أهل، ثم دعا

بعمي عمار بن ياسر فأعطي حظًّا واحدًا. فثبت مما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم

أمر بكتابة الناس في الجيش، وأنه كان يعطي العطاء ويقسم الفيء.

وأن نوع الديوان كان موجودًا على عهده صلى الله عليه وسلم، وهذا لا

يخالف ما أطبق عليه أهل الأثر من أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -

أول من دون الدواوين، ورتب الأعطيات في الإسلام، فإنما كانت كتابة الناس في

عصر النبي صلى الله عليه وسلم بإحصاء من تعين منهم في بعث البعوث،

ولم تكن في وقت معين ولا بمقدار معين، حيث لم يكثر الناس كثرتهم أيام عمر،

ولا جبيت الأموال، ولا تأكدت الحاجة إلى ضبطهم، وأما عمر فقد رتب الناس في

الدواوين، وقدر لهم الأعطيات، وأجرى عليهم الأرزاق على حدود معينة،

وتراتيب مقررة، بعد أن نصب الكتاب، ومسح البلاد والسواد، ونظم أصول

الجباية، لاتساع الحاجة باتساع الفتوح على الإسلام.

***

الكتابة والرسل

والسفارة والترجمة

كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان

وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فإن غابا كتب أبي بن كعب وزيد بن

ثابت، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة كتب من حضر من الكتاب وهم

معاوية بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد والعلاء

الحضرمي وحنظلة بن الربيع، وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب الوحي

أيضًا فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فلما فتحت مكة استأمن له عثمان بن

عفان وكان أخاه من الرضاعة، فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن

إسلامه.

وأما كتاب الرسائل والأقطاع فزيد بن ثابت وأبي عبد الله بن الأرقم الزهري،

وهذا كان مواظبًا على كتابة رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك.

وأما العهود والمصالحات فكان يكتبها له صلى الله عليه وسلم علي بن أبي

طالب رضي الله تعالى عنه.

***

الرسل والسفارة

كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى

الإسلام، فمن أرسله دحية الكلبي أرسله إلى قيصر، وكتب له كتابًا يدعوه فيه إلى

الإسلام كما رواه البخاري، وأرسل حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس،

وغيرهما لغير هؤلاء الملوك أيضًا، وبعث رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - رسولاً إلى ملك الحبشة ليبعث من عنده في بلده من المسلمين.

وأما تراجمة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر أرباب السير: أن زيد

بن ثابت الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - كان يكتب للملوك، ويجيب بحضرة

النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية،

تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وذكر ابن هشام في البهجة نحوًا منه.

وكانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بالسيريانية، فأمر

زيد بن ثابت بتعلمها فتعلمها في بضعة عشر يومًا، وخرج الترمذي عن زيد بن

ثابت - رضي الله تعالى عنه - قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم

أن أتعلم كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب قال: فما مر بي نصف

شهر حتى تعلمته له قال: فلما تعلمت كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا

كتبوا إليه قرأت له كتابهم.

وفي هذا دليل على وجوب تعلم اللغات إذا كان في تعلمها فائدة للمسلمين.

هذا ما أردنا إيراده في هذا الفصل ملخصًا من (كتاب الإيجاز في سيرة ساكن

الحجاز) للعلامة المرحوم رفاعة بك المصري، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي،

وقد رغبنا حب الاختصار في هذا الموجز بالاكتفاء بما تقدم، وترك ذكر أشياء

كثيرة كانت على عهده صلى الله عليه وسلم: كالحجابة، والخطابة، والمحاسبة،

والجباية، والحسبة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من

وسائل الترقي في الإسلام، فليرجع إليها في كتب السير والحديث اهـ.

_________

(*) المنار: إن كتابنا (الإمامة أو الخلافة العظمى) هو أجمع ما كتب فيها، وفيما يتعلق بها من

المسائل والمباحث الشرعية السياسية والتاريخية وغيرها، وما يجب على المسلمين في هذا العصر

على اختلاف حكوماتهم وشعوبهم.

(1)

هذا الحكم في الوزارة جارٍ الآن عند دولتنا العثمانية، فإن الخليفة - أيده الله - يعين الوزير الأول الملقب بالصدر، وهذا يستنيب في الوظائف الوزارية: كالحربية، والداخلية، والمالية، وغيرهم من شاء، وهذه القاعدة أيضًا في جميع الوزارات عند الحكومة الأوربية الآن.

(2)

خرج هذا الحديث أبو بكر العربي اهـ، من حاشية الأصل.

(3)

وهي تشبه الآن مأمورية الضابطة القضائية اهـ، من حاشية الأصل.

(4)

هذا اللفظ عزاه شراح البخاري إلى ابن اسحاق، والوصية في رواية البخاري للرماة كلهم وأولها (لا تبرحوا) إلخ، وكتبه مصححه.

ص: 512

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة

(تابع لما في الجزء الرابع ص 265)

فصل

وأما المؤاخاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين

والأنصار لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء وبين

عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى

أنزل الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (الأنفال:

75) ، فصاروا يتوارثون بالقرابة، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ

أَيْمَانُكُمْ فَآتُوَهُمْ نَصِيبَهُمْ} (النساء: 33) ، وهذا هو المحالفة، واختلف العلماء

هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين:

(أحدهما) : أن ذلك منسوخ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر

الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: (لا حلف في الإسلام،

وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة)

(والثاني) : أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية

الأخرى عنه.

وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال: إنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه

آخى عليًّا ونحو ذلك فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة،

وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف: إما منقطع وإما بإسناد ضعيف،

والذي في الصحيح هو ما تقدم من تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة

تيقن أن ذلك كذب.

وأما عقد الأخوة بين الناس في زمامنا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة

الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: ( {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم

لا يسلمه ولا يظلمه) ، وقوله: (لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم

أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه) ، وقوله: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم

حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه) ، ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي

تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة

التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما

أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما

عقد مؤاخاة. وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين

والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان بناءً على أن ذلك منسوخ أم لا، فمن قال:

إنه منسوخ - كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه - قال: إن ذلك غير مشروع،

ومن قال: إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال:

إنه مشروع.

وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول

على المشاركة في الحسنات: وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه. ونحو ذلك،

فهذه كلها شروط باطلة، فإن الأمر يومئذ لله، هو {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} (الانفطار: 19) ، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ

مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ

فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94) .

وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها، وما أعلم أحدًا

ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها، بل هو

كلام يقولونه عند غلبة الحال، لا حقيقة له في المآل. وأسعد الناس من قام بما أوجبه

الله ورسوله فضلاً عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك، وهذه المسائل قد

بسطت في غير هذا الموضع، والله أعلم.

قاله

...

...

...

... أحمد بن تيمية الحراني

...

***

كتاب ابن تيمية إلى الشيخ

نصر المنبجي الصوفي

(قال الراوي) : كتاب كتبه الشيخ الإمام وحيد دهره، وفريد عصره،

علامة زمانه، ناصر السنة، مؤيد الشريعة، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو

العباس أحمد بن تيمية الحراني، فسح الله تعالى في مدته، وأعاد علينا من بركته،

إلى الشيخ القدوة أبي الفتح نصر المنبجي سنة أربع وسبعمائة:

بسم الله الرحمن الرحيم

من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر،

فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين

الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته،

وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر

للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين

الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته.

(أما بعد) : فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة

وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوًّا في

الأرض ولا فسادًا منزلة علية، ومودة إليه لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة

والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى والعبادة، وقد بعث الله محمد -

صلى الله عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله

- التي هي أصل الأعمال المحبةَ التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ

لِّلَّهِ} (البقرة: 165)، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا

أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) .

ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني كما في

الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من

كن فيه، وجد حلاوة الإيمان في قلبه، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،

ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن

أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) ، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة

الإيمان معلقًا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله وبكراهة ضد

الإيمان.

وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً) ،

فجعل ذوق طعم الإيمان معلقًا بالرضى بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقًا بالمحبة؛

ليفرق صلى الله عليه وسلم بين الذوق والوجد - الذي هو أصل الأعمال

الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة - وبين ما أمر الله به ورسوله، وبين غيره، كما قال

سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل؛ إذ كان

كل من أحب شيئًا فله ذوق بحسب محبته.

ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي

يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31) قال الحسن البصري: ادعى

قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله؛ فطالبهم بهذه الآية،

فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة

الرب عبده. وقد ذكر نعت المحبين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ

وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ

لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) ، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال - الذي

نعت الله به رسوله - الجامع بين منى الجلال والجمال المفرق في الملتين، قلنا: وهو

الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله، ولهذا يوجد

كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق كما قال فيه كبير من كبرائهم:

مشرد عن الوطن

مبعد عن السكن

يبكي الطلول والدمن

يهوى ولا يدري لمن؟

فالشيخ - أحسن الله إليه - قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل

المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة عن المجملة

المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضًا في التوحيد، قال الله تعالى

في أم الكتاب التي هي مفروضة على العبد، وواجبة في كل صلاة أن يقول:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن

الله يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي

ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) قال

الله: حمدني عبدي، وإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) قال الله:

أثنى علي عبدي، وإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4)، قال: مجدني

عبدي، أو قال: فوض إلي عبدي، وإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا

قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7)، قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل) .

ولهذا روي أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في القرآن،

ومعاني القرآن في المفصل، ومعاني المفصل في أم الكتاب، ومعاني أم الكتاب في

هاتين الكلمتين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وهذا المعنى قد ثناه

الله في مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123)، وفي مثل قوله:

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88)، وقوله:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في نسكه: (اللهم

هذا منك وإليك) ، فهو سبحانه مستحق التوحيد الذي هو دعاؤه، وإخلاص الدين له

دعاء العباد بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء، ونحو

ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة، والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء

إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه

الأول والآخر والباطن والظاهر.

ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب،

فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،

وكلمات الأذان، الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك.

وفي السؤال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) ، {رَبِّ اغْفِرْ لِي

وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: 28){رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلمجرمين} (القصص: 17)، {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) ،

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} (آل عمران: 147) ،

{رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون: 118) ونحو ذلك.

وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية والقيومية الكاملة الشاملة

لكل مخلوق من الأعيان والصفات، وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية

التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها، فيقول: (أعوذ بكلمات الله

التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما

ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن

شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن) فيغيب

ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضًا، ومطلوبه وهو محبوب الحق

ومرضيه من التوحيد الإلهي الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة

رسوله، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، والحب فيه، والبغض فيه، ومن

أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول، فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا: {لَوْ

شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (الأنعام: 148) ، ومن أخذ بالثاني دون الأول

فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد ولا شاء جميع

الكائنات كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في (كلام) كثير من المتكلمة

والمتفقهة. والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي،

وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة

الخارجين عن الشريعة خفو العدو (؟) وغيرهم، فإن لهم زهادات وعبادات فيها

ما هو غير مأمور به فيفيدهم أحوالاً فيها ما هو فاسد يشبهون من بعض الوجوه

الرهبان وعباد البدود [1] .

ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: كثير من الرجال إذا دخلوا إلى

القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق

للحق، والولي من يكون منازعًا للقدر لا من يكون موافقًا له، وهذا الذي قاله الشيخ

تكلم به على لسان المحمدية [2] ؛ أي: إن المسلم مأمور بأن يفعل ما أمر الله به،

ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع قدر الله بقدر الله كما

جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي - صلى الله تعالى

عليه وسلم -: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض) ، وفي الترمذي

قيل: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها ورُقًى نسترقي بها وتقىً نتقيها هل

ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: (هن من قدر الله)[3] وإلى هذين المعنيين أشار

الحديث الذي رواه الطبراني أيضًا عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه

قال: (يقول الله: يا ابن آدم إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك: وواحدة بيني

وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي؟ فأما التي لي: فتبعدني لا تشرك بي شيئًا، وأما

التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك فمنك

الدعاء وَعَلَيَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأتِ إلى الناس بما تحب أن يؤتوه

إليك) .

ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الإلوهية والربوبية أو توحيد أحدهما للعبد فيه

ثلاث مقامات: (أحدها) مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات

والمأمورات ، (والثاني) مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده،

وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن

حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى، وهو فناء القاصرين.

وأما الفناء الكامل المحمدي فهو الفناء عن عبادة السوى والاستعانة بالسوى

وإرادة وجه السوى، وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع،

والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته،

ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه

رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره ولا نافع ولا ضار

ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضًا فعل المأمورات

مع كثرتها وترك الشبهات [4] مع كثرتها لله وحده لا شريك له.

وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، والإسلام العام

والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم

مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى

وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) وبقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ

أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:

45) ، وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا

الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) ؛ ولهذا ترجم البخاري عليه (باب ما جاء أن دين

الأنبياء واحد) .

وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ

آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ

يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) ، فجمع في الملل الأربع {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

وَعَمِلَ صَالِحاً} (البقرة: 62) ، وذلك قبل النسخ والتبديل، وخص في أول الآية

المؤمنين وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً

وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) ، والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة، والدين

الجامع هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة

المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين.

فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد - صلى الله تعالى عليه

وسلم - {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) ، وبها أنزلت السور

المدنية؛ إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع، وسنت السنن، ونزلت الأحكام

والفرائض والحدود.

فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإليه تشير

مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال

الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز، فقد يقول في تلك

الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن

أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء. وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا

تؤدى، إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه.

فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا، لا فرق في ذاك بين

السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس

بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات. وفي مثل هذا الحال غلط من غلط بدعوى

الاتحاد والحلول العيني في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في

علي وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر

أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي.

فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله

تعالى وسلم - قال: (يقول الله: عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف

أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته

لوجدتني عنده. عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: ربي كيف أطعمك وأنت رب

العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) ،

ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أن جوع عبده ومحبوبه لقوله: (لوجدت ذلك

عندي) ، ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله:(لوجدتني عنده)، ولم يقل:

لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه؛ بحيث يرضى أحدهما بما

يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى

عما ينهى عنه.

وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق

في هؤلاء محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولهذا قال تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ

يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10)، وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن

يُرْضُوهُ} (التوبة: 62)، وقال:{مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) .

وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح

قالها فهذا معناها كقوله: (أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي) ، ونحو ذلك

بها ضلت النصارى، حيث اتبعوا المتشابه كما ذكر الله عنهم في القرآن، لما قدم وفد

نجران على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ناظروه في المسيح.

وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال

رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: (من عادى لي وليًّا فقد بارزني

بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي

يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي

يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، في يسمع، وبي يبصر،

وبي يبطش، وبي يمشي) ، فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه

العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه.

وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل، وأن قرب الفرائض أن يكون هو

إياه، فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فهذا القرب يجمع الفرائض

والنوافل. فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية

أتباع الأنبياء والمرسلين.

وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية،

وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتابًا اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة

لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد به والله واحدًا بعينه، وإنما الشيخ هو

مجمع المؤمنين فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به، وأما هؤلاء

الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم.

وقد كتبت في ذلك كتابًا ربما يرسل إلى الشيخ، وقد كتب سيدنا الشيخ عماد

الدين في ذلك رسائل والله تعالى يعلم وكفى به عليمًا. لولا أني أرى دفع ضرر

هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات - وهو شبيه

بدفع التتار عن المؤمنين - لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكتشف

أسرار الطريق وتهتك أستارها، ولكن الشيخ - أحسن الله تعالى إليه - يعلم أن

مقصود الدعوة النبوية بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن

يكون الدين كله لله، هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ

شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (الأحزاب: 45-

46) ، وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ

اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *

صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 52-53) ، وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى

به الكتب، وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيدًا، وحقيقته تعطيل الصانع

وجحود الخالق، وإنما كنت قديمًا ممن يحسن الظن بابن عربي، ويعظمه لما

رأيت في كتبه من الفوائد: مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكنة، والمحكم

المربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على

حقيقة مقصودة، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله

نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب

علينا، فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية

والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء وجب البيان، وكذلك كتب إلينا من أطراف

الشام رجال سالكون، أهل صدق وطلب، أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم،

والشيخ - أيده الله تعالى بنور قلبه، وذكاء نفسه، وحق قصده من نصحه للإسلام

وأهله ولإخوانه السالكين - يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه، ومغفرته

في الدنيا والآخرة.

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الظاهر أن البدود جمع بد بالضم، وذكروا أن جمعه بددة وأبداد وبوت بالفارسية الصنم.

(2)

كذا ولعل أصله الشريعة المحمدية.

(3)

ومنه أثر عمر في الطاعون: نفر من قدر الله إلى قدر الله.

(4)

لعلها المغبهات فإنها أعم.

ص: 523

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشرق والغرب

رأي الشيخ محمد عبده أيام المجاورة بالأزهر

في المسألة الشرقية ودسائس أوربة في الشرق

قد أدرك الأستاذ الإمام في بدايته منذ كان مجاورًا في الأزهر من حقائق

السياسة ودسائس الإفرنج في بلادنا من طريق الدين والسياسة، وتفرق كلمتنا،

وتعصبنا الديني - ما لم يدركه بعد نصف قرن أو أكثر إلا الأفراد من المتمرسين

بالسياسة في الشرق، فقد كتب في آخر سنة 1293 هـ الموافق لآخر سنة 1876 م

مقالاً طويلاً في أعداد من السنة الأولى لجريدة الأهرام الأسبوعية، جاء فيه بعد

كلام في فضائل الأوربيين ومزاياهم ما نصه:

(إلا أن منهم من يتخذ هذه الفضائل اسمًا، ويتقلدها رسمًا، لتكون آلة

لأعمالهم، وسلمًا لسوء آمالهم، خصوصًا الملك الكبير ذا الأرض الواسعة،

والأقطار الشاسعة، الذي قد منح أهل مملكته تمام الحرية، حتى إنه لا يبيح لهم أن

تدرس العلوم الفلسفية في مدارسهم الرسمية، بل الأهلية، بل إن أراد أحدهم أن

يتبصر، اتخذ له كمينًا وتستر، وأولى أهل ملته من مقتضيات الحنو والشفقة، ما

تنفطر منه قلوب أهل الرأفة والرقة، خصوصًا أهل دينه الكاثوليك الذين مزقهم كل

ممزق، ونفى كثيرًا منهم إلى حيث لا يخاف ولا يفرق، وما ترك وسيلة إلى

الاسترقاق إلا أقامها، ولا ذريعة إلى استعباد غيره إلا قص قصصها، كيف لا وقد

تقلد رتبة البطركية التي هي مقدمة ركب الألوهية، فقام بمأموريته المقدسة ليؤدي

بعض ما أسسه، وكتبه على نفسه من القيام بحقوق الإنسانية والتهافت على تقويم

الحق على الوجه الأحق الأليق، فأوقد نيران الفتنة في بيوت أهل دينه الفقراء

المحتاجين إلى رعاية دولتهم؛ ليجردهم من ذل الشوكة والقوة، ويلبسهم عز الضعف

والمهنة، وينقذهم من ربقة الحرية التي قد نالوها حيث هم على حفظ عهودهم

عاكفون، وعلى إصلاح أحوالهم الداخلية متألبون، يتدللون على دولتهم تدلل

المعشوق على العاشق، وينالون منها ما ينال الولد من والده، أو الحبيب من محبه

الصادق، وليستخلصهم من كل ذلك إلى فضاء عدله الذي قد بسط غطاءه على

أنفاس أهل مملكته، وبحبوحة الحرية التي قد استعبد بها أبناء ملته، وقد صادقه

على ذلك جل الممالك القاسطة، لما لكل واحد منهم من ساقطة ينتظر بها الالتقاط،

وبذلك الملك المقدس في نيلها يكون الارتباط، وهم في ذلك ينادون ياللإنسانية،

وياللحقوق المدنية، وتترنم منهم الخطباء على منابر الظلم والإجحاف بتلاوة آيات

الإقلاع عن الإلحاد واقتناء شرف الإنصاف.

(وإني لست الآن معهم في ميدان المحاكمة حتى أنبئهم أنه قد فعل ذلك بأبناء

دينهم بل أبناء أوطانهم، وهم بمرأى من ذلك ومسمع، ما لا يصح في مثل هذه

الأيام أن يسمع، وقد سودت بذلك وجوه الصحف، ومع ذلك لم يتحرك فيهم عرق

الحماسة، ولا فتحوا في ذلك سجلات السياسة، وإن أمثال أولئك الكل لا يليق بهم

مع هذه الدعوى التي بها منعوا بيع الرقيق قضاءً لحق المساواة، أن يجعلوا تلك

الرأفة والرقة خاصة ببعض المقاطعات، أو منحصرة في جهة من الجهات، بل

كان من الواجب أن ينظروا من وراء حجاب إلى خيوه وخوقند، كما نظروا جهارًا

إلى الصرب والجبل الأسود، فإني لو تكلمت في هذا يطول، أو يجيبني مجيب

بأنهم إلى الآن لم يبلغوا حد الكمال، حتى يفعلوا أفعال الرجال، ولا يتحرشون

تحرش المغتال، وللإنسان كمال سوى ما هم فيه، وتلك التي تتوسم فيها العظم

مباديه.

ولكن أعجب لجعل المسألة شرقية وغربية، فإن العاقل يتفرس في ذلك

أسرارًا خفية، تنبئنا عنها التواريخ القديمة والحديثة، وتحكي ما كانت تفعله

القياصرة بالأكاسرة، والأكاسرة بالقياصرة، حيث كل من الشرقيين والغربيين -

مع سعة أوطانه - ينتهز الفرصة للوثوب على الآخر، فهذا حقد بالميراث جدير

بالاكتراث، إلا أنه لما جمعت الشوكة أسبابها وتوجهت نحو المغرب، وتركت

الشرقيين بحمى يثرب، قويت من الغربيين المهاجمة، وبطلت من الشرقيين آثار

رغبات عدو بلا معادي، ومبارز لا تصده الدواعي والعوادي، فخفي الأمر على

غير بصير، وذهب على غير خبير.

وما أوصل الشرقيين إلى هذا الحد سوى تفرق الآراء، واختلاف الأهواء،

حتى إن بعض الناس ممن لا يُبالى بهم، يتهللون بسوء أحوالهم، ويبتهجون إذا

بشروا بتسلط أعدائهم، وما ذاك إلا من تداني الهمم، وتراكم الظلم، والوقوع في

حفرة الحيوانية، والانحطاط عن درجة الإنسانية، حيث فقدت منهم الغيرة والحمية،

وذلك بدل أن ينبذوا في مثل هذه الأوقات جميع التعصبات الدينية، والاختلافات

المذهبية لحماية أوطانهم ووقايتها من وطأة أعدائهم، الذين لا يرومون من

الاستيلاء علينا معاشر الشرقيين إلا توسعة ممالكهم، والتمكن من استعبادنا بالدخول

تحت حوزتهم، لنكون لهم خزينة عند الافتقار، وترسًا يقون به أوطانهم ورجالهم

مما عسى يبرزه الاستقبال، وبعد ذلك يكون عارًا علينا أي عار، يذهب بهاؤكم،

يتشفى منكم عدوكم، وينهدم بناؤكم، وينقطع من العزة رجاؤكم، أنتم يا معشر

الشرقيين أبناء وطن واحد، تتشاركون في المنافع والمضار وسائر المقاصد، لا

يمس أحدكم خير إلا نال الآخر منه مثل ما نال صاحبه، ولا توجه إليه خير إلا

وهو إلى الآخر يتعاقبه، فما لهممكم تضاءلت، وخطباؤكم تمثلت.

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قَرَّ عينًا بالإياب المسافر

ولم تخاطبوا عدوكم من صميم فؤادكم

محا السيف أسطار البلاغة وانتحى

إليك ليوث الغاب من كل جانب

واذكروا إذ تسطر أحوالكم في صحف الرجال، ويستقبل بها ما يأتي من

الأجيال، فإن أنتم أبرزتم حميتكم، ورعيتم حق وطنكم الذي منه ابتدئتم، وفيه

سكنتم، ودافعتم عنه ببذل الأرواح فضلاً عن حسن المقال، وبالجملة سلكتم مسالك

الرجال لا تهوس الأطفال، فتلك مآثر إنسانية تنالون بها مجدكم وفخاركم، وتمتلكون

سعدكم، وحلية يختال فيها من تعقبونه بعدكم، وإلا فالعار والشنار لاحق بكم وليس

إلا أن يحثى تراب الذل في وجوه أعقابكم، وانظروا إلى أحوال سلفكم؛ لتكون

مرآة لأحوالكم، فإن قال قائل:

إن الديانات ألقت بيننا إحنًا

وأودعتنا أفانين العداوات

فكل واحد منا يتوقد من صاحبه؛ لمخالفته له في مذهبه، ومناوأته إياه في

مشربه، فكيف تميل تلك القلوب لرفع الشقاق، وجمع كلمة الاتفاق، والتخلص من

خسة النفاق؟ فنجيبه: إن مثلنا في ذلك مثل أخوين تولدا من بطن واحد وأصل

واحد، قد يقع بينهما بعض المنازعات المنزلية والمناوشات المعاشية، فيأخذ كلاًّ

منهم ما شاء من الغيرة والحمية، ويكاد أن يفتك كل بالآخر، ومع كل ذلك إنهما

عند اقتراح أجنبي على أحدهما يقوم الآخر بنصرته، ولا يحجم عن رد تبعته،

فتلك العداوات الجزئية لا يصح لدى العاقل أن تضر بمصالحنا الكلية، وعلى

فرض أن لو عدت تلك المزاحمات شيئًا يذكر، وأمرًا يصح إليه النظر، فما أشنع

حال من ينتقم بيد الغير، ويلحق نفسه وعقبه عار السفاهة والضير، أين أنتم من

(تيمستكليس) اليوناني الذي بعدما صنع المكايد مع (دارا) وهزمه، وجاهد ما

جاهد في حماية وطنه، أقصاه اليونانيون وطردوه، وأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه،

فالتجأ إلى (دارا) يستنجده مما اعتراه، فأعظم منزلته، وأكرم مثواه، ثم إن

(دارا) طلب منه أن يحشد جيشًا على اليونانيين، فقال: وجهني إلى أي مكان

قاصٍ أو دانٍ سوى بلاد اليونان، فإنها وطني ومقر تربيتي، لا ترضى همتي

بأن أقدمها لغير أمتي، وإنه وإن كان أهل اليونان طردوني، ولكن تراب اليونان ما

صنع معي قبيحًا، فلما أغلظ عليه (دارا) في الطلب نادته هواتف الإنسانية إن

ذلك من الموت أصعب، فاختار الموت على الحياة، وتناول السم ومات. ألا

فانتبهوا من سنة الغفلة، واتخذوا لكم من الإنسانية ظلة، ومن الفضائل خلة

واحذروا، وبالحمية الوطنية اتقوا واعتصموا. اهـ.

(المنار)

ليتأمل القراء وخاصة أهل سورية ولبنان آراء هذا الرجل التي كتبها منذ

ستين سنة وهو مجاور الأزهر، يجدها عين ما انتهى إليه بحث المحققين من

عقلاء الشرقيين بعد مكابدة الأحداث واختبار أوربة، ولا يزال الكثيرون من أهل

بلادنا مخدوعين وراضين بأن يكونوا آلات بأيدي الأجانب.

_________

ص: 536

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العالم الإسلامي

الدعوة الرسمية إلى مؤتمر الحجاز

قد جدد السلطان عبد العزيز آل سعود الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة،

ولكن بصورة رسمية لا في الجرائد كما فعل أول مرة، فأرسل مكتوبات باسمه

مختومة بختمه إلى الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات الإسلامية: كمصر وإيران

والترك والأفغان واليمن وتونس، وإلى أشهر الجماعات العلمية الإسلامية في الهند

وسورية وفلسطين، وعبارة هذه المكتوبات واحدة لا فرق فيها إلا عناوين المرسلة

إليهم، وإننا ننشر نص ما أرسله إلى إمام اليمن تخطئة للمقطم الذي زعم -

تأييدًا لهواه - أن هذه الدعوة لم ترسل إليه، وهذا نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلطنة النجدية وملحقاتها

مكة المكرمة 8 ربيع الآخر سنة 1344 هجرية عدد 221

من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة الحسيب

النسيب الأخ المكرم الإمام يحيى حميد الدين حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإننا نرجو لكم ولشعبكم النبيل كل

خير وسعادة ويمن وتقدم، وإني لسعيد أن أمد يدي ليدكم الكريمة بالتعاون على

خدمة الإسلام والمسلمين والبلاد الطاهرة، وإني مملوء ثقة أنه بتعاوننا على الخير

سيكون السبيل السعيد لجميع الشعوب الإسلامية.

يا صاحب الشهامة إني لست من المحبين للحرب وشرورها، وليس لدي

شيء أحب من السلم والسكون والصفاء والهناء والتفرغ للإصلاح، ولكن جيراننا

الأشراف أجبروني على امتشاق الحسام، وخوض غمرات الحرب خمس عشرة

سنة لا في سبيل شيء سوى الطمع على ما بأيدينا، لقد صدونا عن سبيل الله

والمسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، ودنسوا البيت الطاهر

بكل نوع من الموبقات مما لا يتحمله مسلم.

لقد رفعنا علم الجهاد؛ لتطهير بلد الله الحرام وسائر بلاد الله المقدسة [1] من

هذه العائلة التي لم تترك سبيلاً لحسن التفاهم وحسن النية، ولما اقترفت من

الشرور والآثام، وإني - والذي نفسي بيده - لم أرد التسلط على الحجاز ولا تملكه،

وإنما الحجاز وديعة في يدي إلى الوقت الذي يختار الحجازيون لبلادهم واليًا منهم

يكون خاضعًا للعالم الإسلامي، وتحت إشراف الأمم الإسلامية، والشعوب التي

أبدت غيرة تذكر كالهنود.

إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي، التي لا نزال نحارب من أجلها

مجملة فيما يلي:

(1)

إن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم، وللعالم الإسلامي من جهة

الحقوق التي لهم في هذه البلاد.

(2)

سنجري الاستفتاء التام لاختيار حاكم الحجاز تحت إشراف مندوبي

العالم الإسلامي، ويحدد الوقت اللازم لذلك فيما بعد، وسنسلم الوديعة التي بأيدينا

لهذا الحاكم على الأسس الآتية:

(1)

يجب أن يكون السلطان الأول، والمرجع للناس كافة هو الشريعة

الإسلامية المطهرة.

(2)

حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها، ولكن لا يصح لها

أن تعلن الحرب على أحد، ويجب أن يوضع لها النظام الذي لا يمكنها من ذلك إذا

أرادت.

(3)

لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أية دولة كانت.

(4)

لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات اقتصادية مع دولة غير إسلامية.

(5)

تحديد الحدود الحجازية، ووضع النظم المالية والقضائية والإدارية

للحجاز موكول للمندوبين المختارين من الأمم الإسلامية، وسيحدد عددهم باعتبار

المركز الذي تشغله كل دولة في العالم الإسلامي والعربي، وسيضم لهؤلاء ثلاثة

مندوبين من جمعية الخلافة وجماعة أهل الحديث وجمعية العلماء في الهند.

هذا ما نويناه لهذه البلاد، وما سنسير عليه في المستقبل إن شاء الله تعالى،

وإنا لنا الأمل العظيم في أن تسرعوا في إرسال مندوبيكم، وإخبارنا عن الوقت

المناسب لعقد هذا المؤتمر، هذا ما لزم بيانه، وفي الختام تقبلوا ما يليق من

التحيات والاحترام.

...

...

...

...

(ختم السلطان)

***

خطبة الحكيم محمد أجمل خان في الهند

فيما استفاده في رحلته الأخيرة

قالت جريدة الخلافة الهندية الغراء:

(انعقد في عاصمة الهند (دهلي) اجتماع عظيم حضره آلاف مؤلفة من

علية القوم، وأهل العلم والفضل من الزعماء والرؤساء وقواد الأمة وساستها

ورجال الأمة ومديري شؤونها، لسماع كلمات الزعيم الجليل مسيح الملك الحكيم

محمد أجمل خان بعد عودته من سياحته التي استغرقت ستة أشهر كاملة) .

وهذه ترجمة ما ألقاه عليهم:

(قال) : إنني بعد أن قضيت عدة أشهر ستة في زيارة بلاد العرب، ومعظم

الممالك الشرقية، عدت الآن بفضله تعالى إلى وطني ووطنكم المقدس.

إن قلبي لمفعم بما رأيته أثناء رحلتي في بلاد تتطلعون دائمًا إلى معرفة

شؤونها، والإحاطة بأفكار أبنائها، وآراء زعمائها السياسيين، ورؤسائها الدينيين،

وما يتكنفهم من الأحوال والأهوال، وما هم عليه من الرقي والانحطاط، ولكن

ضيق الوقت يحملني على طرق باب الاختصار، فأكتفي ببيان استنتاجي مما

سمعته ورأيته في رحلتي هذه، وأما تفصيل الرحلة بأكملها فيذهب بأوقاتنا العزيزة

سدىً، ونحن أحوج الناس إلى الوقت لتصريف أمورنا.

زرت كثيرًا من الممالك الغربية، وألممت بأفكار عربية، ثم عدت إلى البلاد

الشرقية المحبوبة كالشام ومصر وفلسطين وغيرها، قابلت أبناء هذه البلاد

واختلطت بهم، ومكثت بين ظهرانيهم مدة نتبادل الآراء والأفكار، متجاذبين

أطراف الأحاديث في مختلف الشؤون، فإذا روح النهضة القومية منتشرة فيهم،

وإذا الشعوب الشرقية المهضومة يكادون يعرفون ما لهم وما عليهم من الحقوق

والواجبات، وإن في العالم الإسلامي اليوم حركة عظيمة جدية، تنبئ بتحقيق

النتيجة المنشودة، وتخليص الشرق يومًا من الأيام من براثن الغرب، فتنال كل

مملكة من ممالكه، وكل شعب من شعوبه حريته، ويسترد استقلاله، ولكن أيها

السادة لا يمكنني تحديد ذلك اليوم المنشود، وإنما هو موقوف على مجهوداتكم

الصادقة، وتضحياتكم واستهدافكم لأشد مما ذقتموه من العذاب والآلام في هذه

السبيل، والله يحرسكم بعين عنايته إذا أخلصتم النية وصدقتم العزيمة.

أيها السادة: إني رأيت ولاحظت في رحلتي هذه -ويالهول ما شهدت ورأيت-

رأيت منظرًا مريعًا، ومشهدًا فظيعًا، وسيشاركني كل ذي غيرة على قومه ودينه

في الأسف على هذا المصاب الأليم، مصاب الطبقة المتعلمة، رجال المستقبل

المعقودة عليهم آمالنا والذين سينوبون عنا في الجهاد الديني والوطني، وسيتولون

قيادة شعوبهم وصون كرامتهم وحفظ كيانهم، هذه الطبقة أخذت تنبذ الدين وراء

ظهرها، وتترك صراط الله العزيز الحميد، أخذت تنحو نحو اللادينيين، وتميل إلى

التفرنج أكثر مما تميل إلى عوائد قومهم واتباع سنن من قبلهم، فإذا استمر أفراد هذه

الطبقة على هذه الحالة، وتمادوا في تجرع كأس اللادينية وإساغته، فعلى الوطن

والوطنية والدين والمستقبل السلام. فويل للأمة، ثم ويل لها إذا تركت أبناءها في

ظلمات الجهل بالدين وديجور الإلحاد. فالدين هو أمضى سلاح في يد الشعوب

والأمم، يمكنهم أن يشقوا به غمام الظلم، ويثلوا به عرش الاستبداد والاستعباد، ومن

الأسف الشديد أن هذه الحالة أخذت تنمو بسرعة شديدة في شبان الترك ومصر

ومتعلمي البلاد العربية، وإبادة هذه الجرثومة القتالة في جسم الشرق المحبوب هينة في المبدأ، ففرض علينا منع تيارها الجارف، ويجب أن نقيم أمامه سدًّا منيعًا

من التعليم الديني الحقيقي حتى لا ترتفع رايتها السوداء فتكتسح البقية الباقية.

إن مسلمي العالم الإسلامي يكادون يكونون كتلة واحدة، وتتحد كلمتهم في

مسألة الخلافة وضرورة مقامها؛ لإصلاح أمورهم الدينية والسياسية، وخير وسيلة

لديهم لنيل مطلوبهم هذا انعقاد مؤتمر إسلامي عام، يجمع مندوبي العالم الإسلامي،

فيبحثون فيما ينفعهم وما يضرهم، ويمهدون طريق سعادتهم الدنيوية والأخروية،

إن أكثر الشعوب الإسلامية يرجحون عقد هذا المؤتمر في مكة المكرمة، وإن

خالفهم بعض آخر في رأيهم هذا.

ومما اطلعت عليه أثناء رحلتي أن الشعوب الإسلامية تعترف بما للهند من

الخدمات البريئة عن الهوى، وتمتاز الأمة المسلمة الهندية في هذا الميدان بنزاهة

أفرادها في الأغراض، وبراءة مجهوداتهم من المقاصد الخبيثة الذاتية، وأيضًا بما

يتحملونه من أنواع المصائب وصنوف التضحية، وبذل النفس والنفيس في سبيل

الإصلاح.

فقد سمعتم الآن أيها السادة أخباركم وسيرتكم من أفواه إخوانكم الشرقيين

إخوانكم في الدين والوطن، الآن علمتم فيمكنكم تقدير أعمالكم، يمكنكم بكل سهولة

أن تستنبطوا منها أن صدوركم الواجفة بأنواع العذاب وضروب الآلام، وأن أيديكم

البيضاء وغيرتكم الشماء على الدين والوطن، ومساعدتكم لإخوانكم، كل هذه قد

أنتجت ثمرة، وستجنون ثمرها بقلب مطمئن وإيمان ثابت، والفضل في ذلك يرجع

إلى التفافكم حول جمعية الخلافة التي لا تألو جهدًا في الوصول إلى نيل مقاصدها

الشريفة، وحقوقها الشرعية، وكفانا برهانًا على خدمات هذه الجمعية، واعتراف

الشعوب الإسلامية بخدماتها العظيمة، أنهم بدؤوا يقتفون أثر مناهجها، ويختارون

مبادئها، ويترسمون خطاها.

أيها السادة:

إننا لا يمكننا يومًا من الأيام التخلص من براثن أعدائنا، أعداء ديننا ووطننا،

أعداء الإنسانية الحرة، أنصار الظلم والاستبداد، أنصار الاستعباد والاستعمار، إلا

إذا أصلحنا حال تعليم أبنائنا وربيناهم تربية صحيحة، وجعلنا محور التربية التعليم

الديني، فإذا هم عرفوا الدين الحقيقي عرفوا الوطن وحقوقه وواجباته، فاسترخصوا

كل تضحية دونه، وصانوا عرضه، وحفظوا بيضته، وإني ليسرني جدًّا أن هذه

الفكرة سائدة في جميع الممالك الإسلامية، إلا أن التنفيذ لا يزال في حيز العدم)

ثم ختم الخطيب كلامه بالثناء على الجامعة الملية الكبرى في دهلي وعلى

أساتذتها، وبالدعاء بالنجاح والفلاح.

***

خطبتان لعالم سوري في الهند

أرسل إلينا صديقنا ووطنينا الأستاذ الفاضل الشيخ محمد عارف سلهب

الطرابلسي هاتين الخطبتين اللتين ألقاهما في عليكره بالهند؛ فننشرهما إجابة لطلبه.

***

الخطبة الأولى - ألقاها بعد قصة المولد

أيها الإخوان:

سعادة الدارين تكون بامتثال الأوامر الإلهية، وبحسن إيفاء الوظائف

الاجتماعية، وتقديم المنافع العمومية على المنافع الذاتية، وبإنشاء المستشفيات

والمدارس العلمية، وببث النصائح والحكم، وببيان أسباب تقدم الأمم، وبالاحتراز

والتوقي مما يعوق التقدم والترقي، فالعلوم الرياضية وعلم الكيمياء والحكمة

الطبيعية لا تخالف الحقائق الدينية، بل لها نفع عظيم في الاطلاع على الحقائق

العلوية والأسرار الربانية، فإن الديانة الإسلامية كافلة لأنواع الاحتياجات

البشرية، ومتكفلة ببقاء انتظام الهيئة الاجتماعية، وقد جاءت بالمصالح الدنيوية

والأخروية، فمن تمسك بها نال السعادة العظمى، والشرف الأسمى.

أيها الإخوان:

من أراد سعادة الدارين فليتق الله فيما أمر، ولينته عما نهى عنه وزجر،

وليشمر عن ساعد الجد والاجتهاد لنشر العلوم وإسعاد العباد، فيا سعادة من استعمر

الأرض، وقام بالواجب والفرض، ونال حياة طيبة وشكر مولاه على ما أولاه،

وجعل دنياه مزرعة لعقباه، ويا خسارة من كانت بضاعته كاسدة، وأخلاقه فاسدة،

محرومًا من النعم الوافرة الفاخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

جاء في الرواية عن الإمام زوج البتول، وابن عم الرسول، باب مدينة العلم

والمواهب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وكرم الله

وجهه - أنه قال: الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر. يعني أن الدعاء بلا سعي

ولا اجتهاد لا ينفع العباد، وجاء في الحديث الشريف عن النبي ذي القدر

المنيف، صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، أنه قال: (خيركم من لم يترك

آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته) [2] يعني: لا ينبغي ترك الآخرة لأجل الدنيا، ولا

ترك الدنيا لأجل الآخرة، بل يلزم السعي للدنيا وللآخرة. وقال الله تعالى في كتابه

المكنون: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) أي،

ليعرفوني فيمتثلوا أوامري، يعنى ما خلق الله الجن والإنس إلا لإيفاء

الوظائف الاجتماعية والدينية.

***

الخطبة الثانية

قال بعد الحمدلة: أيها الإخوان:

إن الله جلت حكمته، وعلت قدرته، أمر برفع أعلام التمدن [3] في أقطار

الأرض في طولها والعرض، فمن حسنت ديانته، طابت مدنيته، التدين هو عين

التمدن، كل شخص متدين فهو متمدن، وبالحض على التعاون الاجتماعي وبذل

الهمم والمساعي جاءت الأحاديث النبوية، والآيات الجليلة القرآنية، لا سيما

احترام العلوم النافعة، والمعارف الجليلة الرافعة، قال عليه الصلاة والسلام:

(ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: ما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس

العلم) ، وقال عليه السلام: (إذا لقيتم شجرة من أشجار الجنة فاقعدوا في ظلالها

وكلوا من ثمارها، قالوا: وكيف يمكن هذا في دار دنيانا يا رسول الله؟ فقال عليه

الصلاة والسلام: إذا لقيتم صاحب العلم فكأنما لقيتم شجرة من أشجار

الجنة) [4]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها

أخذها) [5] المراد من الحكمة كل علم مفيد، وكل صنعة مفيدة.

فالمدنية الإسلامية استنادها على العلوم النافعة، والأعمال الجليلة الرافعة،

ومدارها على التقوى وعلى اكتساب الكمالات والتزين بالصفات العاليات، فهي درة

تاج المدنيات، قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ

أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: 97) الحياة الطيبة، وما أدراكم

ما الحياة الطيبة؟ هي المعيشة في المدنية، بحالة مرضية، طوبى لمن كانت نعم الله عليهم وافرة، وديارهم بالعلوم والآثار النفيسة عامرة، طوبى لمن كانت

مساعيهم عند الهيئة الاجتماعية مشكورة، وسيرهم الحسنة في صحف التاريخ

مسطورة

_________

(1)

وفي بعض المكتوبات البقاع المقدسة.

(2)

المنار: تتمته (ولم يكن كلاًّ على الناس) رواه الخطيب من حديث أنس وأشار في الجامع الصغير إلى صحته، وقال ابن الجوزي لا يصح في إسناده نعيم بن سالم، قال ابن حبان كان يضع الحديث

اهـ والمشهور أنه ضعيف متروك ورواه ابن عساكر عنه بلفظ (ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعًا، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلاًّ على الناس) ، أشار السيوطي في الجامع الصغير إلى ضعفه، ولكن الشيخ محمد الحوت قال في كتاب ضعاف الجامع: إن المصنف سكت عليه.

(3)

المنار: أراد بالتمدن فيما يظهر الحضارة الإسلامية التي يصفها بعد بقوله (فالمدنية) .

(4)

لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في شيء من دواوين السنة ولا غيرها، والذي نعرفه من رواية الحديث (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)، ولما سألوه عنها قال:(حلق الذكر) رواه أحمد

والترمذي عن أنس بسند حسن، وقال السيوطي: صحيح، وعند الترمذي عن أبي هريرة أنه قال:(المساجد)، وقال: إنه حديث غريب، وعند البيهقي عن ابن عباس أنه قال:(مجالس العلم) وفي سنده رجل لم يسم.

(5)

رواه الترمذي عن أبي هريرة بلفظ: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) .

ص: 540

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اللادينيون في تونس ومصر

وكتاب علي عبد الرازق

ما فتئت جريدة السياسة مصرة على ضلالها في التنويه بهذا الكتاب والثناء

عليه وعلى مؤلفه، فذكرت أخيرًا أنها جاءها من مراسلها الخاص بتونس أنه كان

للضجة التي قامت حولهما بمصر رنة استياء بين طبقات الأحرار والأدباء

والمفكرين (أي: اللادينيين) ، وكذلك كان لموقف حزب الأحرار الدستوريين

وجريدة (السياسة) الذي وقفاه انتصارًا لحرية الرأي وحرية النقد العلمي النزيه أثر

حسن ووقع جميل لدى الطبقات التي عدته تسلية عما أصاب الإسلام خاصة والشرق

عامة من آثار الموقف الأول المحزن، وعما يلحق الدين القيم دين التسامح من هذه

النظرة الخاطئة التي سينظر إليه بها الغرب بعد تلك الضجة.

(قال المراسل) : لكن بعض الجامدين من علماء وطلبة جامع الزيتونة،

ومن الذين يتبعون خطة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) قد نظروا

إلى المسألة من وجه آخر، واستصوبوا خطة زملائهم الأزهريين، وكان كتاب

(الإسلام وأصول الحكم) حديث نواديهم طول هذه المدة، بل إن بعضهم قد عزم على

الكتابة في الموضوع، وكان أول من بدأ منهم الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور

كبير علماء المالكية ورئيس مجلسهم الشرعي (محكمة الاستئناف الشرعية) ، فنشر

سلسلة مقالات في جريدة (النهضة) اليومية، لم تتم إلى اليوم، رد فيها ردًّا مطولاً

على تفصيلات ما جاء في الكتاب، وستنشر (النهضة) - على ما اتصل بي من

بعض محرريها - سلسلة مقالات أخرى بهذا المعنى للأستاذ الشيخ محمد بن

يوسف وكيل المجلس الشرعي الحنفي ووكيل كبير علماء الحنفية أيضًا.

وقد نشرت جريدة (الصواب) في أحد أعدادها كلمة ننقلها لقراء (السياسة)

لأنها تعبر عن الرأي المستنير (؟) في قضية هذا الكتاب. قالت الرصيفة:

برز أخيرًا بمصر كتاب ألفه أحد علماء الدين وسماه (الإسلام وأصول الحكم) .

بحث فيه صاحبه بحثًا فلسلفيًّا، ونظر لما بين يديه من الحجج فاستخدمها

بحرية وصراحة تامة، وقد تعرض فيما حبر إلى مسألة الخلافة، وصرح بأنها

ليست من الدين في شيء، فقامت قيامة رجال الأزهر، وحاكمت مشيخة هذا المعهد

الديني الشيخ المذكور، وبعد مرافعات ومناضلات جردته من رتبته العلمية ورفتته

من كافة الوظائف التي كان يشغلها بدعوى أنه مرق من الدين، ولم يقولوا في حقه

حسب العادة: إنه اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) . ا. هـ

هذا وقد منيت مصر بكثير من الحوادث على شاكلة كتاب (الإسلام وأصول

الحكم) وظهرت فيها أفكار شتى من هذا القبيل، وناهيك بما وقع للشيخ محمد

عبده رحمه الله وما اتهم به من مخالفة روح الدين الإسلامي بمناسبة فتوى

البرنيطة (القبعة) والتذكية بالبلط وشركة جرشام الإنكليزية لتأمين الحياة،

ومسألة حمل المطلق على المقيد في آيات الربا، ومع ذلك فقد اقتصر المعترضون

على نقد ما قيل، وتتبعه بالرد إن مخطئًا وإن مصيبًا.

وعلى هذا يظهر أن مصر قد سارت إلى الوراء ليس في الحرية السياسية فقط

بل حتى في حرية القول في الشؤون الدينية التي هي ملك مشاع بين المسلمين،

بشرط أن يكون ذلك ضمن دائرة المعقول، وبمقتضى منطوق ومفهوم النصوص

الواردة على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه.

أما سر هذه المصاولة والمقاومة العنيفة والتحامل من مشايخ الأزهر على ما

يشاع، فإنما هو نيل رضا نواح معينة ذات مطامع في تَبْويء منصب الخلافة.

وسواء كان ذلك حقيقة لا ريب فيها أو هو من باب اللغط والإرجاف الذي كان

وما زال شنشنة العامة والبسطاء، فالذي يسوؤنا في هذه الحادثة بنوع خاص إنما

هو تدخل أحد أعيان علمائنا في الأمر ووقوفه موقف الخصم العنود لهذا الشيخ الذي

أراد - وإن أخطأ - خدمة الإسلام، وتخليصه من وصمات طالما ألصقها به

الغربيون، ولله في خلقه شؤون) اهـ.

(المنار)

إن لجريدة السياسة غرضين في الانتصار لهذا الكتاب وصاحبه:

(أحدهما) : سياسي، وهو ما أشار إليه مراسلها بتونس - الناطق بلسانها -

في طعنه بإخلاص علماء مصر، وتعريضه بذلك المقام العالي، وهو ما يتجنب

المنار الخوض فيه.

(وثانيهما) : ديني اجتماعي، وهو أنها لسان حال اللادينيين في مصر،

وأكبر مفاسد هذا الكتاب أنه يحاول هدم الشريعة الإسلامية من طريق الدين

الإسلامي، فهي لهذا تنصره ولم تجد من مخازيه أهون من مسألة الخلافة، فجعلت

جل خوضها فيها. وجميع اللادينيين في مصر وتونس على رأي أمثالهم من الترك

يرون أن الخلافة سياج للشريعة مهما يكن حال المتولي لأمرها، فلا يسهل هدم

الإسلام مع وجودها ولو بصفة ضعيفة.

ونرى مراسل هذه الجريدة قد شايعها على المغالطة في التحزب له بدعوى

المدافعة عن حرية الرأي، فزعم أن مصر رجعت فيها القهقرى، والصواب أنها

زادت فيها قوة بل غلوًّا، فجريدة السياسة طعنت في الدين وفي كبار علماء الإسلام،

ولم ينلها عقاب ولا حجز.

وقد أخطأ المراسل في تسمية الطعن في الدين، وإنكار المجمع عليه من

أحكامه وأصوله - اجتهادًا فيه، وتبع في هذا جريدة الصواب، وكان كل منهما أفضل

من جريدة السياسة باعترافهما أن صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أخطأ في

اجتهاده، ولكن ما ذكره المراسل من شروط حرية الرأي في الإسلام ينافي كون

الرجل اجتهد فأخطأ؛ لأنه خالف النصوص القطعية والإجماع الصحيح والمعقول،

ولم يدفع شيئًا من شبه أعداء الإسلام عنه، بل كان طعنه فيه أقبح من طعنهم،

ولذلك أثنوا عليه ونوهوا به.

ومن أغرب ما تجرأ عليه هؤلاء اللادينيون بمصر وقلدهم فيه مراسل

جريدتهم في تونس _ تشبيه شر الجناة على الإسلام بخير أنصاره في هذا العصر

الأستاذ الإمام قدس الله روحه، ولم يخجلوا من جعل أنفسهم أولى بالأستاذ الإمام من

أشهر مريديه وأنصاره بمصر وتونس، حتى في المسألة التي ذكروا إنكار بعض

الحامدين على الإمام فيها، وهي الفتوى في ذبائح أهل الكتاب ولبس البرنيطة -

فكما أن صاحب المنار كان أول مريدي الأستاذ الإمام الذين قاموا بنصره وتأييد

فتواه في مصر - كذلك كان العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، فقد

كتب في ذلك رسالة نفيسة أرسلها إِلَيَّ في وقتها، ونوهت بها ولا تزال عندي بخطه.

ولا يخجل اللادينيون اليوم من جعل مراسل السياسة المجهول وصاحب جريدة

الصواب بتونس أولى بالأستاذ الإمام من صاحب المنار ومن العلامة المذكور

والعلامة الشيخ محمد يوسف، وهما أشهر علماء المالكية والحنفية العارفين بحال

العصر، القادرين على خدمة الإسلام في تونس، فإذا كان هذان الأستاذان العصريان

يطعنان في كتاب الشيخ علي عبد الرازق فما القول في سائر علماء تونس الجامدين

المتعصبين لكل ما في كتب الفقه والكلام، ورد كل ما خالف فقهاء مذاهبهم من غير

نظر في الأدلة.

وكأني بجريدة السياسة تقرن بهما قرينهما في العلم والفضل ومعرفة شؤون

العصر العلامة الشيخ محمد الخضر بن الحسين نزيل مصر؛ لأنه ألف كتابًا من

أنفس الكتب في إظهار جهل الشيخ علي عبد الرازق بالإسلام وجنايته عليه، سماه

(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) .

فليهنأ الشيخ علي عبد الرازق وجريدة السياسة بانتصار جريدة الصواب لهما

على هؤلاء العلماء الأعلام، وهي كأمثالها من الجرائد الأسبوعية في مصر ليست

مما يعتد بفهمها ورأيها في مثل هذا الكتاب، ولعل صاحبها لو قرأه لما اغتر بخلابة

ألفاظه وشعريَّاته، ولعلم أنه جان على الإسلام متعمد للتنفير عنه لا مخطئ في

اجتهاده مع إرادته تخليصه مما ألصقه به الغربيون من الوصمات، والظاهر لنا أنه

اغتر بكلام جريدة السياسة فكتب ما كتب، ولكنه على عدم قراءته للكتاب لم يتهور

كما تهورت جريدة السياسة، فكانت جريدته أرقى منها.

_________

ص: 548

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تفسير المنار

تقريظ للأستاذ الفاضل الشيخ محمد أحمد العدوي من علماء الأزهر

تفسير المنار فيما أعلم هو أمثل تفسير يتناسب مع روح العصر الحاضر:

يتجلى فيه للقارئ عظمة التشريع الإسلامي بأسلوب جذاب، يفيض على قارئه

هداية، ويبعث فيه روح الحياة العملية، ويعده لأن يكون عالمًا دينيًّا، وباحثًا

اجتماعيًّا، وأستاذًا أخلاقيًّا، يريه أسباب تفرق الأئمة، ثم يعرفه كيف يجتمع شملها،

ويبين له ما أدخله أعداء الدين عليه من البدع والمحدثات، ثم يرسم له طريق

تطهيره منها.

زد على ذلك ما يصدر به الآية من عقد صلة بينها وبين ما سبقها من الآيات،

وبحث مستفيض في بيان لغة الآية واشتقاق كلماتها، ناقلاً له عن مصادر اللغة

الموثوق بها.

إذا تكلم على آية من آي الأحكام استوفى ما يتعلق بها من أصول، وما يرتبط

بها من آيات وآثار، ويوفق بينها وبين ما عساه أن يتعارض معها من أدلة، ثم

يتكلم على مآخذ الفقهاء بقلم ممتع، ويتخلص منها بما يتفق والآيات الواردة في

موضوعها وترضاه السنة الصحيحة، ويتناسب مع سوقها العربي.

وإذا تعرض لآية من آيات الاجتماع وجدته أعجب وأغرب، تراه قد بنى

فلسفته على سنة الله في الكون، ونواميسه في الخليقة، ونظامه في الأمم والشعوب،

فيصدقه في نظرياته، ويسلمه من العطب في منطقه شأن كل كاتب يعول على

أساس صحيح وحجة ناهضة.

وإذا مرت به آية من آيات الأصول والعقائد بينها على وجه يؤيده سلف الأمة

الصالح، والدليل الراجح، وتشهد له القرون الأولى، ووقف عند ما رسمه الله له،

فلا يخوض في أمور غيبية إلا بإذن من الله تعالى، ويرى في ذلك السلامة للدين،

والبعد عن مواطن الشبه.

وإذا تكلم في تاريخ الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم، وما كان من قومهم

معهم أبان للقارئ أن سنة الله تعالى مع كل من عصاه أن يصب عليه سوط غضبه،

ويحل به عاقبة انتقامه، وسنة من أطاع ربه ونصر داعيه أن يستخلفه في أرضه،

ويبدل ضعفه قوة، وذله عزًّا.

وإذا كتب في آية من آيات الأخلاق ترى منه الوجدان الصادق والناقد البصير،

يرغب في الفضيلة، وينفر من الرذيلة، يوازن بين الخُلق الإسلامي والخُلق

العصري (الغربي) بما لا يدع للشك مجالاً، وللريبة موضعًا، ويُرِي القارئ أن

الخُلق الصحيح إنما هو الخُلق الإسلامي الذي أتى به القرآن الكريم، وبينه الرسول

الصادق صلى الله عليه وسلم. ولعل القارئ لو قرأ كما قرأت، لوجد من مزاياه

أكثر مما وجدت.

وحسبه إنه على طريقة شيخه الأستاذ الإمام في التفسير الذي كان يلقيه على

تلاميذه بالأزهر، جزاه الله وجزى تلميذه عن الدين خير الجزاء.

_________

ص: 552

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌القضايا الدينية في المحاكم

ونتائج الحرية

إن ما أحدث في مصر منذ عهد إسماعيل باشا من الحرية في الاعتقاد والقول

والعمل قد كان سببًا لمفاسد كثيرة ومصالح قليلة، استباح الكثيرون به الفسق

والفجور، وراجت أسواق البدع، وتجرأ المنافقون على إظهار الكفر والطعن في

الدين، وجبن علماء الدين وقبعوا في كسور بيوتهم وزوايا مدارسهم ومساجدهم، فلم

يبرزوا للإنكار على الفاسقين، ولا لنضال المرتدين؛ لأن الحرية ومخازيها جاءت

من قبل الأمراء والحكام، وقد كان أول صوت سمع في الإنكار على مفاسد الحرية

التي يجب أن تتقى، وفي بيان منافعها التي يجب أن تجتنى، شيخنا الأستاذ الإمام

الشيخ محمد عبده في إثر توليته إدارة المطبوعات ورياسة تحرير جريدة الحكومة

الرسمية (الوقائع المصرية) إذ دخلت البلاد في عصر جديد من الإصلاح في أول

عهد إمارة توفيق باشا بتولي رجل مصر الأكبر مصطفى باشا رياض للوزارة، كان

الأستاذ الإمام وإخوانه ومريدوه خطباء منبره، وفرسان حلبته، حتى إذا قضت

الثورة العرابية على ذلك العهد المسعود، وانتهت بالاحتلال البريطاني المنحوس،

وصلت حرية الفساد والشر إلى آخر حدود الإسراف، ولم تكن حرية الصلاح

والإصلاح محظورة، ولكن الاستبداد السابق، والفساد اللاحق، أضعفا الاستعداد،

وقَلَّلا أهل الرشاد والإرشاد، حتى إذا ما انتهت مدة نفي الأستاذ الإمام وعاد إلى

مصر، طفق يطرق أبواب الإصلاح في جميع المصالح الرسمية وغير الرسمية،

فلم يجد على شيء منها أعوانًا حتى قال لي: إن هذه الحرية المطلقة للأمة (دون

الحكومة) في القول والعمل الشخصي والاجتماعي كانت كافية لإصلاح البلاد

والنهوض بها إلى ذروة الفلاح والاستقلال، لولا فساد الأخلاق الذي بذرت بذوره

في عهد إسماعيل باشا.

ولما شرعنا في الإصلاح الديني والاجتماعي بإنشاء المنار وجدنا من كثير من

العلماء الجامدين وشيوخ الطريق الخرافيين، مقاومة عنيفة، ودسائس كثيرة،

ومن أمير البلاد وأحزابه تحريضًا شديدًا، سببه تنويه المنار بالأستاذ الإمام، وثناؤه

عليه ودفاعه عنه. ولكن لم تستطع تلك الدسائس والتحريضات أن تسكت المنار،

ولا أن تقطع عليه طريق الإصلاح، فانتشرت الدعوة حتى في الأزهر بالرغم من

عصبية العلماء الجامدين، أعداء أنفسهم، وأعداء الكتاب والسنة، الذين يعذرون

أنفسهم بالمحافظة على فقه الأئمة، وهم لم يستطيعوا بهذا الفقه الذي لا يعرفون منه

إلا أماني من كتب المتأخرين والمقلدين أن يدفعوا عن الإسلام شبهة، ولا أن يميتوا

به بدعة، ولا أن يحيوا به سنة، ولا أن يحيوه هو أيضًا، فهو يموت بين أيديهم

وأيدي حكامهم، فيدفنونه ويهيلون عليه تراب القوانين وآخرها قانون الأحكام

الشخصية الذي ساعد الحكومة عليه بعضهم وسكت الباقون، بل لم يمنعهم من نصر

البدع والطعن في دين المنكرين على أهلها ونبزهم بالألقاب، ثم السعي لحكم الحاكم

عليهم إما بالعقاب وإما بالكفر، وما يترتب على الردة من الأحكام كالتفريق بين

المرء وزوجه.

وقد رفعت عدة قضايا للمحاكم الشرعية والأهلية في قضايا تتعلق بالردة عن

الإسلام، وبمخالفة تعاليمه وإهانة شعائره بعضها حق وبعضها باطل (أهمها)

قضية رجل انتحل دين البابية البهائية، وزعم أنه لا ينافي الإسلام، فحكمت

المحاكم الشرعية ابتداءً واستئنافًا بردته، والتفريق بينه وبين امرأته. وحكمها هذا

حق ووددنا لو اطلعنا على صورته وأسبابه لننشرها في المنار، وقد ذكرنا من قبل

حكم محكمة دمنهور الشرعية بردة الشيخ محمد أبي زيد بالباطل وتبرئة محكمة

الاستئناف له بالحق.

قضية الشيخ عبد الظاهر:

(ومنها) قضية بعض أنصار البدع والخرافات على الشيخ عبد الظاهر

محمد أبي السمح أحد دعاة السنة وأعداء البدع، فإنهم بعد ضروب من التهم والإيذاء

له ونبزه بلقب الوهابي، أي: المتبع للسلف، حملوا النيابة العمومية على مقاضاته

على ما اتهموه به، فرفعت عليه قضية في محكمة العطارين بالإسكندرية فحكمت

ببراءته، ولدى استئناف الحكم حكمت محكمة الاستئناف بتأييده، وهذا نص حيثياته:

حيث إن النيابة العمومية اتهمت المذكور بأنه في سنة 923 وما قبلها بدائرة

قسم الرمل دنس رموزًا لها حرمة بإحدى المساجد، بأن صعد المنبر وأخذ

البراقين [1] ، وألقى بهما في الأرض، وبأنه أيضًا في الزمان والمكان المذكورين

تعدى على الدين الإسلامي، وعرض بصاحب الشرع بأنه كان يخطب في

المساجد والمجتمعات، وينشر تعاليم مهينة لآداب المذهب ومناقضة لتعليماته

المعروفة، وطلبت عقابه بمقتضى المادتين 138 و139 عقوبات، والمتهم حضر

أمام الجلسة، وأنكر التهمة، وأجاب بما هو مدون بالمحضر.

وحيث إن التهمة المنسوبة هي إلقاؤه البراقين في المسجد وتعديه على الدين

الإسلامي، وحيث إنه بالنسبة لإلقائه براقين في المسجد، ففضلاً عما هو ثابت من

أن هذا العمل حصل من مدة تزيد عن الأربع سنوات، فإن إلقاءها لا عقاب عليه قانونًا إلا إذا كان قصد المتهم من إلقائها إهانة الدين، وثابت من أقوال المتهم أن

قصده كان بعيدًا عن هذه الإهانة؛ إذ علل إلقاءه لهذين البراقين بنفي نسبتهما إلى

السلف الصالح، وعليه فيتعين براءته من هذه التهمة.

وحيث إنه بالنسبة لتعدي المتهم على الدين الإسلامي، وتعريضه بصاحب

الشرع بنشر تعاليم مهينة ومناقضة للدين، قدم المتهم مذكرة بدفاعه عنها تاريخها

26 يناير سنة 1924.

وحيث إن المحكمة ترى من الاطلاع على هذه المذكرة ما يؤخذ منها صراحة

أن المتهم ما كان يطعن ولا يقصد التعريض بالدين، بل إنه كان يفسر القرآن

والأحاديث بما يراه ويعتقده صحيحًا، وحيث إن المحكمة لا تثق بما جاء عن لسان

الشهود مما زاد عما جاء بهذه المذكرة؛ إذ لو كان لأقوال هؤلاء الشهود صحة

لانفض من حوله من يستمعون لدروسه، الذين شهدوا أن المتهم لم يحصل منه طعن

في الدين.

وحيث إنه لذلك تكون التهمة المنسوبة إلى المتهم غير صحيحة، ويتعين

براءته منها عملاً بالمادة 172 ج.

فلهذه الأسباب

وبعد رؤية المادة السالفة الذكر حكمت المحكمة حضوريًّا ببراءة المتهم مما

أُسند إليه وأعفته من المصاريف.

هذا الحكم حكمت به المحكمة بجلستها العلنية المنعقدة في يوم 12 أغسطس

سنة 1924 و11 محرم 1343.

وبعد أن صدر هذا الحكم بالبراءة استأنفته النيابة يوم صدوره.

وبجلسة 6 ديسمبر سنة 1924 و9 جمادى الأولى سنة 1343 نظرته محكمة

الاستئناف الأهلية، وأيدته تحت رياسة حضرة حسن بك زكي محمد القاضي

وبحضور حضرتي محمد بك حسن عزت وحليم بك برسوم القاضيين وحضور

حضرة حسن أفندي لطفي وكيل النيابة وأحمد زكي أفندي السيسي كاتب المحكمة

وهذا نص حيثيات الحكم:

المحكمة: بعد سماع التقرير الذي تلاه حضرة محمد بك حسن عزت وطلبات

النيابة العمومية وبعد الاطلاع على الأوراق والمداولة قانونًا.

حيث إن الاستئناف مقدم في الميعاد القانوني فهو مقبول شكلاً، وحيث إن

الحكم المستأنف في محله للأسباب الواردة به والتي تأخذ بها هذه المحكمة فيتعين

تأييده.

فلهذه الأسباب

وبعد رؤية المادة 172 ج حكمت المحكمة حضوريًّا بقبول الاستئناف شكلاً،

وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف بلا مصاريف.

_________

(1)

المراد بالبراقين: العلمان اللذان جرت العادة بوضعهما على جانبي المنبر.

ص: 553

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الحديثة

(مجموع أدبي تاريخي [*] )

(1)

رواية آخر بني سراج.

(2)

(خلاصة تاريخ الأندلس) إلى سقوط غرناطة.

(3)

كتاب أخبار العصر، في انقضاء دولة بني نصر.

(4)

أثارة تاريخية، في أربعة مرسومات سلطانية أندلسية.

نشر في هذه الأيام مجموع مطبوع مشتمل على هذه الآثار التاريخية الأربعة

المتعلقة بتاريخ الأندلس، ذلك الفردوس الأرضي الذي كان أبدع مظهر للحضارة

الإسلامية والثقافة العربية، والموازنة بينهما وبين ما يقابلهما وما قاومهما من

الحضارة الأوربية التي وسموها بالمسيحية، ولم تكن قبل ولا هي الآن من المسيحية

في شيء.

فأما الرواية فهي تاريخية غرامية أدبية، ألفها بالفرنسية الفيكونت

دوشاتوبريان الكاتب الفرنسي الشهير فأجاد، وراعى فيها حق العرب والمسلمين

وشعور الأسبانيين على سواء، بما أورده من تنازع سلطان الغرام في كل من

العاشقين العربي المسلم والأسبانية المسيحية، وسلطان الدين والنفرة الجنسية، فلم

يأت بشيء نستنكره نحن، ولا بشيء يستنكره الآخرون.

وقد ترجمها باللغة العربية الأمير شكيب أرسلان الشهير في أول عهده

بالترجمة والتأليف، وطبعت الطبعة الأولى في مطبعة الأهرام سنة 1897 م،

وترجمتها تشهد له بالإجادة ومتانة الإنشاء وسعة المادة اللغوية منذ عرفت أنامله

الأقلام.

وموضوعها سياحة شاب من بقايا آل سراج من سروات الغرناطيين في

الأندلس حَنَّ إلى ذلك الوطن الذي عمره آباؤه وملكه قومه بضعة قرون، فشد رحاله

من تونس إلى غرناطة، قال المترجم: (وبينما هو يجول في غرناطة مسكن أهله

قبل الجلاء الأخير، ثمالة ما كان بقي في يد الإسلام من ذلك النعيم والملك الكبير،

كانت منه لفتة وقع بصره فيها على فتاة من سريات الأسبانيول فعلقت بقلبه،

ووقع نظرها منه على مثلها؛ فتعاشقا وتوزعت القصة بين حبها وحبه، وحال دون

اقترانهما إعجاب كل منهما بدينه وإخلاصه لربه، ثم ما تبين لابن سراج بعد طول

العشرة من كون معشوقته سلالة من آل بيفار الفاتكين - لدن الجلاء - بآبائه، فرأى

اختلاط دم القاتل بدم المقتول غير خليق بآبائه، ولا ممتزج بشيمة وفائه، بل

مضى كل من العاشقين بحبيبه صبًّا، قد اختلطت مهجتاهما حبًّا، ولم يفرق بينهما

إلا الدين وإلا المودة في القربى) .

ثم ذكر من أسباب ترجمته إياها: ما تضمنته من آداب المحبين، وما فيها من

وصف مكارم الأخلاق، ومزايا الأشراف من الفرسان، والاطلاع على كثير من

الصفات الملكية متزحزحة عن أفق الملأ العلوي إلى عالم الإنسان، استدلالاً على

بديع صنع الله حين يجمع بين الحسن والإحسان، ثم ذكر منها التلذذ بذكرى السلف،

والاستقراء لآثار العرب.

وهذا السبب الأخير وهو الاجتماعي التاريخي، له الشأن الأعلى في قلب كل

مسلم وكل عربي؛ لأن لحضارة الأندلس وآدابها من شعور اللذة المعنوية في هذه

القلوب ما لا يقل عن شعور آدم عليه السلام بذكرى جنته، ثم إن لنكبة

الأندلس وما كان من تعصب الأسبانيين وإكراههم المسلمين على التنصر وقسوتهم

في استئصالهم من الأندلس - آلامًا في هذه القلوب كبارًا، لا يزال جرحها نغارًا.

***

(خلاصة تاريخ الأندلس)

وأما خلاصة تاريخ الأندلس فهو من تأليف الأمير، قصد أولاً أن يكون ذيلاً

وجيزًا لهذه الرواية تفهم منه وقائعها، وتظهر مقاصدها، فما زال يسيل مداد القلم

بما يمده به ذلك العلم الواسع بالتاريخ، حتى كان مؤلفًا حافلاً لا يوجد له باللغة

العربية نظير، وقد راجع فيه أشهر ما كتب مؤرخو الأمم الأوربية في هذا

الموضوع، ولم يكتف بما لخصه صاحب نفح الطيب من أخبار سقوط غرناطة،

وأسباب زوال ملك العرب من الأندلس، فإنه قليل ووجيز، على أنه من أهم ما

يجب تدوينه من وقائع التاريخ لما فيه من العبرة للمتأخر بسيرة من قبله، ولا

سيما أسباب قيام الدول وسقوطها، وارتفاع الأمم وهبوطها، فعرب الأندلس يهم كل

عربي وكل مسلم أن يعرف كيف كان آخر عهدهم بتلك المملكة الأوربية التي أسسوا

حضارتها، وكانوا أساتيد أوربة بها.

وقد نشرنا في الجزء الثاني من هذا المجلد (26) نموذجًا من هذا التاريخ

وهو معاهدة صلح غرناطة بين مسلمي العرب ونصارى الأسبانيول، وما كان من

نقض هؤلاء للمعاهدة عروة عروة، وإكراههم المسلمين على التنصر أو الجلاء عن

البلاد، حتى لم يبق منهم أحد، وفي الكتاب من أخبار المعارك واستبسال المقاتلين

ما هو من غرائب التاريخ، كما أن فيه من غرر القصائد ووصف المعاهد ما يعد

من ألطف الآثار الأدبية الأندلسية.

وأما كتاب أخبار العصر فهو تاريخ وجيز لآخر عهد المسلمين بتلك الديار

لمؤلف شهد المعارك بنفسه، ولم يذكر في الكتاب اسمه.

وأما الأثارة التاريخية في المراسيم السلطانية الأندلسية، فهو نموذج تاريخي

أدبي من إنشاء ذلك الوقت، وفي الحالة السياسية الروحية التي حملت السلطان

الأندلسي على كتابة تلك المراسيم لبعض قواد الأسبانيين.

زادت صفحات هذا المجموع على أربعمائة صفحة من قطع المنار، قد طبع

الطبعة الثانية بمطبعة المنار على صنفين من الورق، وجعل ثمن النسخة من

الورق الجيد 20 قرشًا مصريًّا صحيحًا، ومن الورق المتوسط 15 قرشًا، وأجرة

البريد 3 قروش في مصر و4 قروش في الخارج.

***

(الدعاية إلى سبيل المؤمنين)

الأستاذ الشيخ أبو اسحاق إبراهيم آل يوسف أطفيش الجزائري من علماء

المسلمين العصريين الذين يلقبهم المنار بحزب الإصلاح المعتدل، أي: الذين يدعون

إلى الجمع بين هداية الدين الحق اعتقادًا وأدبًا وعملاً وبين ما يتفق معها من مدنية

العصر المبنية على قواعد السيادة والاستقلال والقوة العسكرية والثروة، وإن بين

هذا الفريق من عقلاء الأمة الإسلامية وبين مقلدة الجامدين من (حملة العمائم وسكنة

الأثواب العباعب) نزاعًا مستمرًا، وقتالاً مستحرًا، ميدانه الطروس وأسفه الأقلام،

وإن كتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين) وهو أول أثر من أثار هذا الأستاذ

الغيور في هذا الجهاد - أبرزته المطابع لنا بعد هجرته إلى مصر وإلقائه عصا السير

فيها، رد فيه على رسالة لأحد المتطفلين على التأليف من أولئك الجامدين، الذين

أصبحوا فتنة للكافرين، وحجة على الدين الذي يدعون من علمائه بغير حق، فهم

يعارضون المصلحين في كل قطر، لحثهم المسلمين على العلوم والفنون

والصناعات التي تتوقف عليها القوة والسيادة في هذا العصر، وقد كان هؤلاء سبب

ارتداد أكثر من ارتد عن الإسلام في هذا الزمان من الترك والعرب والفرس

وغيرهم. ولم يذكر المصنف اسم هذه الرسالة ولا اسم مؤلفها ولا بلده؛ لئلا يكون

دالاًّ على الضلالة للمستعد لها، وقد وصلت إلينا رسائل من قبيلها لبعض خطباء

الفتنة في الشام، ومدعي الغيرة على الدين عند العوام، فأرجأنا الرد عليها إلى

فرصة نقرؤها فيها.

وقد لخص صديقنا المؤلف مسائل تلك الرسالة التي رد عليها في عشر (منها)

ذم الفلسفة، والعلوم العصرية، والأسلوب العصري، والتعليم، والفصاحة،

والبلاغة، ومدح الخمول، والذل، والاستكانة! !

وقد استطرد المصنف في الرد إلى مسائل إصلاحية كثيرة تقتضيها حالة

العصر، وترجمة بعض علماء الإباضية - وهو منهم - في الشرق والغرب، وقد

بلغت صفحات كتابه هذا 176 من قطع رسالة التوحيد والإسلام والنصرانية، وطبع

في المطبعة السلفية في سنة 1342 على ورق جيد وثمن النسخة منه.

***

(أسرار البلاغة)

نبشر طلاب علوم البلاغة وآداب اللغة العربية بأننا قد أعدنا طبع هذا الكتاب

المنقطع النظير في هذا الباب بإلحاح وزارة المعارف بطلبه في كل عام مصححًا

على نسخة الأستاذ الإمام التي قرأها للعلماء والطلاب في الجامع الأزهر، وأودعنا

حواشيه جميع تعليقاته عليها، وجعلنا ثمن النسخة منه على حسن ورقها وزيادة

مادتها 25 قرشًا بدلاً من 35.

_________

(*) كتب هذا التقريظ منذ أربعة أشهر.

ص: 557

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الثورة السورية والحكومة الفرنسية

والتنازع بين الشرق والغرب

حدثت في أوائل الصيف من هذا العام الشمسي (1925م) ثورة في سورية

لم يسبق لها نظير، اقتدح زنادها زعماء دروز حوران، وتولى القيادة العامة لها

سلطان باشا الأطرش الشهير، وقد سبق لهم ثورة أخرى كان هو قائدها أيضًا،

ولكنها كانت ثورة صغيرة موضعية، وأما الثورة الأخيرة فهي ثورة سورية كبيرة،

لا يزال يمتد لهيبها ويتطاير شررها، ولم تكن قسوة السلطة العسكرية الفرنسية

وشدتها في مقاومتها إلا كمحاولة إطفاء النار بزيت البترول والبنزين والبارود، أي

لم تزدها إلا قوة واشتعالاً، وقد أسرفت السلطة في القسوة حتى إنها دمرت المئات

من القرى والمزارع على رؤوس أهلها، وأطلقت المدافع وقذائف الطيارات على

الأحياء الإسلامية خاصة من دمشق، فتبَّرت أهمَّ أحياء المدينة عمرانًا وثروة وآثارًا

قديمة، وقتلت عددًا كثيرًا من النساء والرجال والأطفال، وخرج كثير من

المخدرات من بيوتهن مع أطفالهن ما بين حافيات وناعلات هائمات على وجوههن،

وأجهض كثير من الحوامل، وَجُنَّ مَنْ جُنَّ مِنَ العقائل، وفعلت السلطة نحوًا من

ذلك في مدينة حماة التاريخية أيضًا، فقتلت من قتلت، ثم عذبت من عذبت من

الأبرياء كما ثبت بمحاكمتهم في محكمة عسكرية فرنسية.

ليس من موضوع المنار استقصاء الحوادث التاريخية، ولا من دأبه الوصف

الشعري ولا المبالغة في تصوير حقوق أمته ومصالح قومه، أو هضم حقوق

خصومهم، ولا سيما إذا كان بالباطل، وإنما موضوعه الذي يعنى به قبل كل شيء

بيان الحقائق وفلسفتها ووجوه العبرة فيها، وبذل النصح لكل مستعد لقبوله، وتقرير

المعروف للترغيب فيه، وإنكار المنكر للزجر عنه، وإنني أذكر هنا من الحقائق ما

يعترف به المنصف وإن كان من خصومنا أنفسهم.

***

جناية رجال فرنسة على سورية وعليها

(1)

إن ما عمله رجال فرنسة في سورية في بضع سنين قد حمَّل حكومتهم

نفقات باهظة تقدر ببضعة ألوف الملايين من الفرنكات، قيل: إنها لو قسمت على

هذه السنين لأصاب كل سنة قرابة ألف مليون، وخسرت به صيتها الأدبي وسمعتها

السياسية والإدارية، حتى إن أشد الناس كرهًا للترك وطعنًا فيهم صار يرفعهم فوق

الفرنسيس درجات كثيرة.

وقد كان ما نشر من أنباء موبقاتهم في هذه المسألة من المقالات في الجرائد

وما نظم فيها من القصائد، مُشَوِّهًا لسيرة فرنسة في المشارق والمغارب، وهادم لما

شيدته لنفسها من حسن الصيت في عدة أجيال، أو من عهد ثورتها الكبرى إلى الآن،

تلك الثورة التي ثل شعبها فيه عرش ملوكهم الظالمين، وينكرون ما دونها على

السوريين، فهم يفخرون بمقاومة الفرنسي للظالم له ولو من قومه، ويذمون مقاومة

السوري لظالمه الأجنبي عنه! !

ولو كان ما فعلوه في سورية خيرًا لهم وموافقًا لمصلحتهم، لما كان لنا أن

نتكلم فيه معهم، ولكن ثبت به أن احتلال فرنسة لسورية كان شرًّا لسورية، وشرًّا

لحكومة فرنسة وشعبها جميعًا، وأن حكومة فرنسا هي الظالمة لشعبها بما تحمّله من

أعباء هذه النفقات الثقيلة في هذه السنين النحسات، وهي أحوج إليها في عسرتها

الحاضرة، وبما تحمله على سفك دمه فيما ليس له منه فائدة مادية ولا أدبية، بل

فيما فيه ضياع الفائدتين معًا، وأما الظالم للحكومة الفرنسية نفسها في هذا وأمثاله فهم

الرجال الذين توليهم أمر البلاد، وتطلق لهم فيها العنان، فيعيثون فيها فسادًا،

ويسمُّون إفسادهم إصلاحًا، ويتخذون لهم شهداء من أنفسهم ومن صنائعهم وعمالهم

في البلاد، ومن المشاركين لهم في غنائمهم من أرباب رؤوس الأموال وأصحاب

الصحف ورجال الأحزاب في فرنسة، يكذبون على الحكومة، ويرونها الباطل حقًّا،

والمفسدة مصلحة، ويطعنون لها في الأحرار الصادقين، إذا تظلموا أو احتجوا

عليهم، ويوهمونها أن ما يتظلمون منه ما هو بظلم، بل هو عين العدل والفضل،

ولكنهم ينكرون الجميل ويغمضون الحق، إما لبغضهم لفرنسة لخبث طباعهم أو

تعصبهم، وإما لمطامع لهم باطلة لم يجدوا مع العدل الفرنسي وسيلة إليها، وإما

خدمة لدولة أخرى أجنبية يعملون لها.

***

تفسير الانتداب الفعلي والقولي

(2)

كل هذا التقتيل والتعذيب، والتخريب والتتبيب، والتدمير والتتبير،

وما يتبعه من المغارم والمآثم، وموبقات الفضائح والمحارم، كله تفسير وتنفيذ

بالفعل لكلمة جديدة وضعت في معاهدة الصلح بعد حرب المدنية في قاموس السياسة،

وهي كلمة (الانتداب) .

وضعت هذه الكلمة دولُ الحلف البريطاني الفرنسي الذين كانوا يسمون قتالهم

للتحالف الجرماني بقتال الحق والعدل والحرية والحضارة، وليس كذلك بل هو

للباطل والجور والهمجية واستعباد الأمم، وفسروه بأنه عبارة عن مساعدة

الشعوب المحررة من العبودية الجديرة بالاستقلال على النهوض بأعباء استقلالها، إلى أن يزول ما يحول دونه من فقرها وضعفها، وتصبح قادرة على السير وحدها،

وزعموا أن الباعث عليه الرأفة والرحمة، لا مجرد العدل، والمكافأة على مساعدتهم

في تلك الحرب، وأن النادب لهم والداعي إلى هذه المكرمة الإنسانية والضامن للدول

المنتدبة الرقيب عليها في تنفيذها كما فسرت إنما هو جمعية الأمم المؤلفة من مسين

أمة ونيف، فهل يجوز إذًا في شرع الرحمة والمحبة أن تترك الدولة المنتدبة هذه

الفضائل الإنسانية كلها، وتخفر عهد هذه الأمم والدول كلها، لأن بعض الشعوب التي

تبذل لها هذه المساعدة لتنتفع بما نالت من الحرية والاستقلال تتألم منها، تأبى

أن تقوى من ضعف، وتغنى من فقر، وتعز بعد ذل، وتتحرر بعد رق؟ فإين

الفضائل الإنسانية؟ وأين العهود الدولية؟

تلك إشارة إلى مسافة الخلف من أقوال منفذي الانتداب وأفعالهم، ثم إنهم

يطلبون منا أن نصدق وعودهم، ونثق بعهودهم، وهم يعلمون أن هذا غير مستطاع،

ولكنهم يريدون إكراهنا بالقوة على أن نحمد مساوئهم، أو نسكت عنها؛ لئلا تجد

الأحزاب المعارضة في مجلسي نوابهم وشيوخهم حجة يسلبون بها منهم هذا السلطان

الاستبدادي المطلق الذي هو أعظم اللذات التي فتن بها البشر، فهم لا يبالون بما

نعتقد نحن فيهم، وإنما يبالون بمن يقول الحق ويطالب بالعدل في بلادهم، وقليل ما

هم.

***

الفرق بين الشرق والعرب في احترام القوة

(3)

إن شعوب أوربة شعوب دموية ما زالت تعتمد في جميع شؤونها على

القتال وسفك الدماء حتى صار غريزة فيها، فكل اعتمادهم على القوة المادية

الحربية، بل لما صار ذم القتال وسفك الدماء مما يذم عندهم بالكلام، ويتبرؤون منه

برياء القول، ويدعون أن ما ينفقونه في كل عام من قناطير الذهب المقنطرة التي

تجتاح معظم كسب شعوبهم على الاستعدادات الحربية من برية وبحرية وجوية لا

يراد به إلا السلم، على أن هذه الدعوى على ما فيها من كذب ورياء حجة قطعية

على أنهم لا يمكن أن يرتدعوا عن ذلك إلا بالخوف من القتال؛ لأجل هذا يقيسون

طباع الشرقيين على طباعهم، بل قلبوا الحقيقة وعكسوا القضية فصاروا يزعمون

أن الشرقيين لا يخضعون إلا للقوة، ولا يطيعون الأوامر إلا بالإذلال والإهانة،

ونتيجة هذا أنهم لا يقبلون ما يُسْدونه إليهم من نعم الحماية والوصاية والانتداب إلا

إذا حمل إليهم وحُمِلوا عليه بقوة الحديد والنار، وأقنعوا به بلغة قذائف المدافع

والطيارات، وتدمير السيارات والدبابات، فهم يكررون هذه الأقوال كلما صالوا

على شعب شرقي فدافع عن نفسه ولو بالحجج القولية المنطقية، فيكف إذا حَمل

السيف مستبسلاً لتحميله ما لا يطيق يائسًا من إنصافه، كما يقولون اليوم في قضية

ريف المغرب وفي قضية سورية.

والحق الذي يشاهد اليوم ويحفظه التاريخ من قبل أن الشرقيين يخضعون

للدلائل العقلية، وللوجدانات القلبية، وينقادون بالمسَّلمات المثالية والتخيلات

الشعرية، فتغلب عليه المعنويات، كما استحوذت على الأوربيين الماديات، وأن

المبالغة في الأمرين، مما يعد من عيوب الفريقين.

وقد كان مما انتهى إليه فساد ضعف الشرقيين الاجتماعي والسياسي واستذلال

الاستبداد لهم أن تحول عشقهم للفضائل والكمالات والمجد الصحيح إلى الرضا منها

بالمجد الكاذب والكمال الصوري أو الوهمي، وقد نبه بعض عشاق فرنسة من

وجهاء الموازنة بعض مندوبيها السامين إلى هذا النقص، ونصحوا لهم بأن يراعوه

في إدارة البلاد؛ ليتم لهم أمر السيادة فيها بسهولة وتكون راضية عنهم.

حدثني حبيب باشا السعد المشهور عن نفسه أنه قال للجنرال غورو: إننا

نحن الشرقيين نحب المجد الكاذب، فولونا أعمال البلاد الرسمية، واكتفوا بوضع

مستشارين ومراقبين منكم معنا، يرشدون رؤساء الموظفين إلى ما تريدون منا،

ونحن ننفذه لكم بأحسن ما تنفذونه لأنفسكم، وقد نصح لهم بمثل هذا صديقهم عبد الله

باشا صفير وهو مؤسس الحزب السوري الفرنسي بمصر، وأقام لهم الدليل عليه

بسياسة الإنكليز بمصر التي نجح فيها لورد كرومر أتم النجاح، وقد ذهل سعادة

الباشا عند إسداء هذه النصيحة قولاً وكتابة عما بين الفرنسيس والإنكليز من التباين

في الأخلاق والغرائز وأساليب الاستعمار، وهي لا تخفى على مثله، وقد بينها

الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتبه التي وضعها لمباحث علم الاجتماع،

على أن الإنكليز لم يَسلَموا من شذوذ الغرور بالقوة، وقسوة العظمة، واحتقار

الشرق وأهله كما فعلوا في (حادثة دنشواي) وفي العراق والهند أخيرًا، ولكنهم لم

يبلغوا فيه عشر معشار الفظائع الفرنسية في سورية، وقد أيقنوا أنهم كانوا فيه من

الخاطئين المخطئين، وما رجع بعض كتابهم في هذه الأثناء قول الفرنسيين: إن

أهل الشرق لا يدينون ولا يخضعون إلا لقوة النار والحديد إلا خداعًا وتغريرًا لهم

ليتمادوا في بغيهم.

***

عظمة فرنسة وقوتها الحربية

(4)

مما يعتذر به الفرنسيس عن أعمال القسوة، والإمعان في التخريب

والتدمير، والتصميم على حل مشكلة الثورة السورية بقوة الجند، واشتراط تسليم

الثائرين سلاحهم بلا شرط ولا قيد - أن كل ما عدا هذه الطريقة من إدارة البلاد

ومعاملة أهلها يذهب بكرامة فرنسة، ويزيل مهابتها من القلوب، ويوهم أهل البلاد

أن الثوار أقوى منها، وهذا الاعتذار خطأ محض مبني على النظرية التي بيَّنا

فسادها آنفًا، وهي أن هؤلاء الناس أنفسهم لا يعترفون بفضيلة ولا كرامة للدول

والأمم إلا للقوة والقدرة على التقتيل والتخريب، والحق الواقع يفند رأيهم ويؤيد

رأينا، فإنهم كلما اشتدوا في القسوة اشتدت مقاومة الثائرين واستبسلوا في القتال،

واستهانوا بالموت، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يقاتلون مختارين، فقتالهم أدل

على أخلاقهم وما في أنفسهم من قتال الجند الفرنسي وكل جند نظامي، فإن الجند

النظامي إنما يقاتل مكرهًا ومضطرًّا، إذ هو يعلم أن الفارَّ من الزحف جزاؤه القتل

قطعًا، وأن الذي يثبت يجوز أن يبقى وأن ينال مكافأة على ظفره، وقد كان موقدو

نار هذه الثورة خاضعين لفرنسة قبل إهانتهم واحتقارهم وهضم حقوقهم، ومغترين

بوعود رجالها، ولم يبق أحد يصدق لهم قولاً ولا يثق منهم بوعد.

وإنا لنعلم أنه لا يوجد أحد من قواد الثورة ولا من مساعديهم يعتقد أن الثوار

أقوى من فرنسة وأقدر على الحرب، ولا أن سورية كلها تساوي فرنسة أو تقاربها

في القوة الحربية، وإنما يحاربونها لأن رجالها ألجأوهم إلى القتال إلجاءً،

واضطروهم إليه اضطرارًا، إذ أقنعوهم فعلاً بأن سلطتها لا تطاق ولا تحتمل، وأن

القتل الشريف في سبيل الاستقلال، أفضل من الحياة في الذل والفقر والنكال،

ولأن في السوريين من لا يزالون يظنون أن في فرنسة فضيلة غير فضيلة القتل

والقتال يرجى أن تنتصر عليها - وأعني فضيلة الحق والعدل والعمران - وأن

الثورة هي التي يمكن أن توصل إلى محبي الحق والعدل والعمران صوتَ سورية

الذي عجز عن إيصاله إليهم أحرار السوريين بالحجج والبراهين التي يُدلون بها كل

عام، وعند كل حادثة عظيمة وخطب فادح بما يخاطبون به جمعية الأمم وكبريات

الدول وفي مقدمتهم فرنسة، وما ينشرونه في جرائد العالم؛ فيتصدى لتكذيبهم

والطعن فيهم أنصار الأحزاب المالية والعسكرية والجزويتية الذين يستغلون سورية

بما قدمنا أنه ضار بفرنسة حكومتها وأمتها لا بالسوريين وحدهم، ويظنون أن

هؤلاء يمكن أن يؤلفوا مع طلاب الاقتصاد والأحزاب المعارضة قوة في مجلسي

النواب تجبر الحكومة الفرنسية على إنصاف سورية، والاعتراف بحقها في الحرية

والاستقلال، فإن صدق ظنهم هذا أمكن أن تستعيد فرنسة بعض ما فقدت من حسن

صيتها السابق، وكان خيرًا للشعب الفرنسي ولحكومة الجمهورية الفرنسية من

اعتقاد سورية أن فرنسة فقدت كل فضيلة إنسانية، وصارت كالوحوش المفترسة،

ليس لها صفة تفخر بها إلا القتال والتخريب ولو فقدت به ثروتها وشرفها الأدبي.

***

حظ الإنكليز من ثورة سورية

(5)

قيل: إن الثورة السورية الحاضرة هي من دسائس الإنكليز، وإنهم

هم المحركون لها، والممدون لنارها بالوقود، ولثوارها بالسلاح والنقود، وقد

خاضت في هذه التهمة بعض الجرائد الفرنسية والمصرية، وهي تهمة باطلة سببها

اعتقاد جميع الشعوب أن الإنكليز هم شياطين الإنس، لا تقع فتنة إلا بدسائسهم

ووساوسهم، وهم يستفيدون من هذه التهمة لأن فرنسة تضطر بتصديقها لذلك إلى

استعتابهم واسترضائهم بمساعدة تبذلها لهم، أو مصلحة لها تنزل لهم عنها، كما

نزلت لهم عن الموصل حتى لا يعارضوها في احتلال دمشق، وما يدرينا أنهم

يحتاجون الآن إلى مساعدتها على الترك في مسألة الموصل أيضًا، وأنها ستبذل لهم

هذه المساعدة كما بذلت لهم الموصل نفسها، وكانت من نصيبها في معاهدة سايكس

بيكو.

إن الإنكليز لا يمكن أن يساعدوا الدروز ولا غيرهم من السوريين على قتال

فرنسة؛ لأنهم يعلمون أن الذي يتجرأ على قتال فرنسة يتجرأ على قتال إنكلترة،

فإنها ليست أعظم من فرنسة قوة عسكرية بل دونها، وكيف يساعدونهم على ذلك

وهم يطمعون في أخذ بلادهم كما قال أحد كبار رجالهم لعربي يثق بإخلاصه لهم وقد

سأله: كيف تتركون سورية لفرنسة وهي بين فلسطين والعراق، فقال له: هل

رأيت إنكليزيًّا يلبس ثوبًا مرقعًا؟ قال: لا، قال: فافهم.

أنا أؤمن بأن الإنكليز يعتقدون أن مآل سورية لهم، كما أؤمن بأنهم ليسوا هم

المحركين للثورة السورية وأنهم لم يساعدوها، وأنهم لا يرون من مصلحتهم ظفر

الثوار بفرنسة، ولا أن يتفقوا معها، وأنهم يتمنون لو تقلل عدد المسلمين والدروز

في سورية، ولا يكرهون أن تستبدل الأرمن بالدروز في حوران ثم لبنان، كما

تفعل هي في تغليب اليهود على العرب في فلسطين، وأؤمن مع هذا بأن الثورة

تمهد لهم السبيل لما يعتقدون من المآل الذي ذكرناه، ولما هو أبعد منه؛ لأنه يورث

العداوة ويورث الحقد بين فرنسة والسوريين وكذا سائر العرب والمسلمين، فإذا

يئس السوريون من الاستقلال الصحيح فإنهم لا يرون بدًّا من توطين أنفسهم على

الانضمام إلى العراق وفلسطين لما في ذلك من الفوائد الاقتصادية والأدبية والقومية،

فإذا اتحدت سورية الكبرى مع العراق يكون المجموع دولة عربية غنية، فأي

سوري أبله يفضل على ذلك ما تفعله فرنسة من جعل سورية الصغرى عدة شعوب،

لكل شعب منها حكومة تسمى دولة، وهي سخرية لا يجهل عوام الحراث والعمال

سببها والغرض منها.

إن للإنكليز حزبًا في سورية يستطيعون دفعه للعمل في كل وقت، ولا يوجد

أقوى منه في البلاد إلا حزب الاستقلال المطلق، وهم لا يدفعونه إلى العمل إلا عند

ارتفاع المانع ووقوع المقتضي، وهم مشهورون بانتظار الفرص والوثوب عليها

عند سنوحها، وفرنسة تقرب لهم الزمن، وتمهد لهم السبيل، وما هذه بالأولى لها

في ذلك ولا بالثانية ولا بالثالثة ولا بالرابعة.

كنت مرة أتكلم مع أحد فضلاء المصريين منذ بضع عشرة سنة في خداع

الإنكليز للفرنسيس فقال لي: كان يعلمنا التاريخ في المدرسة الخديوية عالم فرنسي

باللغة الفرنسية قبل تحويل التعليم إلى الإنكليزية، فذكر مرة مسألة تاريخية من هذا

القبيل، وقال عقب ذكرها: قد خدعنا الإنكليز في ذلك فانخدعنا، ثم ذكر في سنة

أخرى مسألة مثلها وقال هذا القول، فذكرته بالمسألة الأولى وقلت له: وكيف

انخدعتم لهم ثانية وقد علمتم أولاً أنهم خدعوكم؟ قال: وهل وقف الأمر عند هذا

الحد؟ كلا، إنهم سيخدعوننا أيضًا فننخدع.

لا يحسبن أحد أنني أقول هذا للإيقاع بين الدولتين كما هو دأب كتاب السياسة،

إنني لست مغرورًا بنفسي إلى هذا الحد، إنما أنا أكتب ما أعتقد، ولست أستنبط

اعتقادي هذا من الثورة السورية الحاضرة، بل أنا أعتقده منذ علمت بنبأ معاهدة

(سايكس بيكو) في اقتسام الدولتين لبلادنا، وقد قلته لكثيرين أذكر منهم شاهدين

سوريين وشاهدًا فرنسيًّا:

إنني عقب هدنة الحرب الكبرى وبعد احتلال فرنسة لسواحل سورية ابتعت

طائفة من الأقمشة لإرسالها إلى أهل بلادنا (القلمون) بجوار طرابلس الشام؛

لكسوة من تركتهم الحرب فيه عراة لا يجدون ما يكتسبون به، فقيل لي: إن فرنسة

تمنع ذلك، ولا بد من إذنها، فذهبت إلى دار معتمدها السياسي لطلب الإذن، فلقيت

عند السكرتير الشرقي للمعتمد (وهو فرنسي يعرف العربية) حقي بك العظم

وخليل أفندي زينية المشهورين، فجرى بيننا حديث في موضوع سورية أفضى

إلى أن قلت للثلاثة: إنكم تعلمون أنني داعية استقلال لوطني، لا أرضى بحماية

ولا وصاية من فرنسة ولا إنكلترة، وأقول لكم الآن: إنني أعتقد اعتقادًا مبنيًّا

على طول التفكر والتروي أرجو أن تسمعوه وتكتبوه في مذكراتكم، وتدَعوه

للزمان يصدقه أو يكذبه، وهو أن سورية لن تكون في المستقبل لفرنسة، بل هي

ستكون مستقلة خالصة لأهلها إن شاء الله، أو لإنكلترة لا سمح الله.

ولا يستطيع أحد من الفرنسيس ولا من أشياعهم أن يتهمني بأنني من حزب

الإنكليز أو أبث الدعوة لهم، فإنهم جميعًا يعلمون أنني خلفت أستاذنا الأكبر السيد

جمال الدين في الجهر بمعارضة السياسة البريطانية في المسألة العربية والمسألة

الإسلامية بما يعلمون من الشدة، وأنني ما اشتددت في معارضة سياسة الشريف

حسين وأولاده لجهلهم وظلمهم وسوء تصرفهم فقط، بل ذنبهم الأكبر أنهم صنيعة

الإنكليز ويعملون لهم، وقد صرحت لكل من كلمته في هذه المسألة من كبار رجال

فرنسة كغيرهم بأننا نعلم كغيرنا من الواقفين على أحوال الدول والأمم أن إنكلترة

ألين ملمسًا وأحسن سيرة في الاستعمار من فرنسة، كما يشهد بذلك الدكتور

غوستاف لوبون أكبر فلاسفة الاجتماع والتاريخ في فرنسة نفسها، وكنا نعلم هذا

قبل أن نقرأ كتب هذا العالم الكبير، وقبل أن نرى في بلادنا شرًّا مما كنا نسمع

ونقرأ من أخبار مستعمراتها الإفريقية، فماذا نقول اليوم؟ وقد عملوا في الشام ما لم

يسمع بشر منه في تاريخ الشعوب الهمجية كلها إلا أن تكون فظائع التتار، ولقد ثار

أهل العراق وأهل مصر في وجوه الإنكليز، وقتل العراقيون في ثورتهم من الجنود

البريطانية أكثر مما قتل السوريون من الجنود الفرنسية أضعافًا، ولم تفعل جنود

إنكلترة في القاهرة ولا في بغداد مثل ما فعلت جنود فرنسة في دمشق وحماه، دع

تدميرها لقرى الفلاحين على رؤوس أطفالهم، نعم إن الإنكليز فعلوا نحوًا من هذا

في الهند، ولكنهم لم يبلغوا شأو الفرنسيس ولا قاربوا.

وجملة القول في هذه المسألة أن فرنسة تمهد لإنكلترة في سورية اليوم كما

مهدت لها في مصر من قبل بطبعها لا بطوعها، وإنها لن تستطيع أن تبقى في

سورية إلا تحت رحمة الإنكليز ولهذه الرحمة أجل وغاية، وإنها لا بد أن تؤدي لهم

على سكوتهم عنها إلى منتهى ذلك الأجل أجرًا أو جعلاً أو مكافأة كلما أرادوا ذلك

منها (أو كلما دق الكوز بالجرة) وأن ما أشير عليها به من الاقتداء بعمل الإنكليز

في العراق لن يجعلها إن فعلته مساوية للإنكليز في نظر السوريين بحيث يفضلون

بقاءها في سورية على اتحاد سورية الكبرى بالعراق، ولو تحت وصاية الإنكليز أو

رعايتهم، وإنما الذي يمكن أن يفضلها به السوريون ويتبعهم فيه جميع العرب وكذا

جميع المسلمين هو شيء آخر معقول عندنا، ويمكن أن يعقله الفرنسي في فرنسة لا

في سورية، فإن الفرنسي إذا جاء سورية تبدل عقله وشعوره؛ لأنه يصير ملكًا

مطلقًا يتمتع بجميع ما يشتهي في هذه الأرض فينسى مصلحة فرنسة لا مصلحة

سورية فقط، وقد ذكرته لأحد كبار رجالهم في مصر فوافقني عليه، ولكن أمر

تنفيذه ليس إليه، الذي يرضون به هو الاستقلال الحق المطلق مع مساعدة

كالمساعدة التي بذلوها لمحمد علي باشا، وهم يبذلون لفرنسة من الجزاء المادي

والأدبي عليه ما هو خير لها من هذا التحكم الجائر بسلطانهم القومي والتصرف

القاسي، الذي يتلذذ به موظفوها المعددون، وتخسر هي من أموالها ورجالها

وصيتها الأدبي ما ذكرناه في أوائل هذا المقال.

(للمقال بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 585

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌انحطاط المسلمين

وسكونهم وسبب ذلك [

1]

] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا [[2]

إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون

بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض،

ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم

كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم

أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي

في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع

الأرض عالمًا كان أو جاهلاً أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر ومن أي

جنس صبا عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف، يلهج

بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به، بل

وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها

قارئهم بعد مئين من السنين لا يتمالك قلبه من الاضطراب، ودمه من الغليان،

ويستفزه الغضب، ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدث عن غريب، أو يحكي عن

عجيب.

المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة

على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم

وبعيدهم ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل

واحد منهم إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام. ومن

فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل

صعب، واقتحام كل خطر، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من

الأحوال حتى ينالوا الولاية خالصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب

السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره،

لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية

يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل

زمان.

المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه

به الشريعة، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات

دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يُلِم

بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون

حركات الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم، ولا يجيش لهم جاش ولا تكون

لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنكليز في بلاد فارس،

ولا يضجرون ولا يتململون، وأن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية

ذهابًا وإيابًا وتفتك، ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم،

بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم، الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين

أيديهم وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.

تمسُّك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة

التي هم عليها _ مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة، ويسبق إلى بيان السبب،

فخذ مجملاً منه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات

والوجدانيات النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها تصدر بتقدير

العزيز العليم، لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها،

حتى يصير ما يعبر عنه بالملكة والخلق، وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.

نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من

مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل

فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى

الفكر، ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار، ما دامت الأرواح في

الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد.

إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل ولا أثر لها في الاعتصاب

والالتحام لولا ما تبعث عليه الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، عن تعاون

الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور

الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثار بقية

الأجل، ويكون انبساط النفس لعون القريب، وغضاضة القلب لما يصيبه من ضيم

أو نكبة، جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش والري

والشبع، بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب

بعد ثبوتها والعلم بها، ولم تدعُ ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما

يمكِّن تلك الصلة ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه أو

ألجأته ضرورة إلى ذلك - ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة

في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما

ذكرنا في رابطة النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر

الاعتقادات التي لها أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض إذا

لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه

الجارحة وتمرن عليه، ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلاً

من أشكالها، فلن يكون مُنْشِئًا لآثاره، وإنما يعد في الصور العلمية له رسم

يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه كما قدمنا.

بعد تدبر هذه الأصول البينة والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب

في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن

نصرة إخوانهم وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين المسلمين

في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع التعارف بينهم،

وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، فالعلماء وهم القائمون على حفظ العقائد

وهداية الناس إليها لا تواصل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في غيبة عن حال

العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن شؤون العالم

الأفغاني وهكذا، بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا صلة تجعلهم،

إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر،

أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر إلى نفسه ولا

يتجاوزها كأنه كون برأسه.

كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك

والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش

ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب أن تكون للدولة العثمانية صلات

صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في الشرق؟

هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح أن

يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم ولا بلد وبلد إلا طفيف من الإحساس بأن بعض

الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع أقطارهم

بالصدفة إذا التقى بعضهم ببعض في موسم الحجيج العام، وهذا النوع من الإحساس

هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد

أجنبي عن ملته، لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته، كانت الملة كجسم

عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين

أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة

الجسم.

بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة

العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة، دون أن

يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان

الراشدون رضي الله عنهم. كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن

الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة

الخلافة، فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر

والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة، وانشقت عصاها،

وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك، فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج

طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة، ولا يرعون جانب

الخلافة.

وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،

وتيمور لنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم

فتفرق الشمل بالكلية، وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد

كل بشأنه، وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا،

كل فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو

إلى الوحدة، وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية

تحويها مخازن الخيال وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من

المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل

المصائب ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على

طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت، كما يكون على

الأموات من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة، ولا دفع الغائلة.

وكان من الواجب على العلماء قيامًا بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان

الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في

الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم

ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير كل

واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف

الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم

ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شؤون وحدتهم

ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعون أطراف

الوشائج إلى مقعد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله

الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام

بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من

شأنها، ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن

إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع

أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس

بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع

ما يغشاها من النوازل.

ألا إنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين

إلى هذه الوسيلة، وهي أقرب الوسائل وإن التفت إليها في هذه الأيام طائفة من

أرباب الغيرة. ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن

يؤيدوا هذا الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم

التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد

عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما

يعود على دينهم وملتهم بفائدة أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل

الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة، وإلى الله

المصير.

_________

(1)

نشرت في العدد الخامس من جريدة العروة الوثقى الذي صدر بباريس في 14 جمادى الآخرة

سنة 1301، و10 إبريل 1884، ونشرناه الآن لتجدد الحاجة إليه كيوم نُشر، ومنه بيان رأي

حكيمي الأمة السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده في مقام الخلافة الإسلامية الناقض لرأي الشيخ

علي عبد الرازق السخيف، وإنما خدم الحكيمان برأيهما الإسلام والمسلمين، وخدم الشيخ علي عبد

الرازق أعداء الإسلام المستعمرين.

(2)

(آل عمران: 103) .

ص: 595

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تربية أمراء العرب قبل الإسلام

وكيف نستفيد منها في هذه الأيام

(وجدت هذه الرسالة فيما لديَّ من أوراق شيخنا الأستاذ الإمام، فرجوت أن

يكون الانتفاع بنشرها الآن أعظم مما كان في عهد من كتبها، وهو كما أظن أستاذ

التربية والتعليم البصير حسن أفندي توفيق المصري رحمه الله وهذا نصها) :

السؤال

ما الذي كانت عليه أمراء العرب قبيل الإسلام، حسبما تفيده أوصافهم المشروحة

في قول الحطيئة:

يسوسون أحلامًا بعيدًا أنّاتها

وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدُّ

أقلُّوا عليهم لا أبًا لأبيكم

مَن اللوم أو سُدوا المكان الذي سَدُّوا

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

وإن كانت النعماء فيهم جزَوْا بها

وإن أنعموا لا كدَّروها ولا كدُّوا

مطاعين للهيجا مكاشيف للدُّجى

بنى لهم آباؤهم وبنى الجدُّ

ويعذلني أبناء سعد عليهم

وما قلت إلا بالذي علمتْ سَعْدُ

وكيف يستفاد من هذه الأبيات أنواع التربية؟ وما هي الطرق العمومية لأجل

الوصول إلى مثل هذه التربية وتكميلها في أمتنا بواسطة المدارس خصوصًا.

***

الجواب

كانت تربية أمراء العرب قبل الإسلام كما ترشد إليه أبيات الحطيئة على أن

يتخرج أولئك الأمراء متوفرة فيهم الشروط التي تؤهلهم إلى سد الأمكنة التي

يشغلونها من المجتمع الإنساني في عصرهم.

وتلك الشروط أوجبتها حالة اجتماع القبائل الذي كان قد أخذ يتقدم تقدمًا عظيمًا

في ذلك الوقت، وذلك لأن من شأن المجتمعات لما تكبر أنها تكون موجهة لجملة

أمور:

(الأول) كما تكون ذريعة لاتساع الحضارة والعمران، تكون سببًا لازدياد

العلوم وانتشار المعارف، ضرورة تبادل الأفكار بين أفراد الجمعية، وتجدد الأمور

التي يقتضيها الترقي في المدنية، ومن المعلوم أنه لا يتم نظام جمعية قلَّت أو

كثرت، إلا إذا كان على رأسها سادة يرجع إليهم الأمر في الحل والعقد، والنقض

والإبرام، وأنه لا يتهيأ لها نجاح في أمورها إذا تولى رئاستها من لا علم لديه.

لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا

فاقتضت حالة الاجتماع التي كانت عليها العرب قرب الإسلام أن يكون

لجماعتها المتنوعة رؤساء يقومون بالمصالح العامة، وأن يكون أولئك الرؤساء

لديهم كفاية من المعلومات يتنورون بها في تصرفاتهم، ويهتدون بها في سائر

أحوالهم.

ومن أجل ذلك لزمت تربيتهم تربية فكرية، لائقة بمنزلتهم بين أبناء جنسهم،

ومناسبة للمعروف الجميل في عصرهم.

(الثاني) لما كانت الكبيرة مسببة لعظم الاختلاط بين الناس، وداعية إلى

كثرة العلاقات بينهم، وتتولد عنها الفرص العديدة التي يتمكن فيها الإنسان - إذا

أُهمِل وطبيعته - من الاسترسال في الأهواء المستبدة، والشهوات المهلكة، ومن

التستر على أحواله الخارجة عن حدود الاعتدال، وكان ذلك من دواعي الاختلال

في نظام الاجتماعات - وجب اتباعًا للحكمة ورفقًا للمصلحة، أن يُعود أفراد

الجمعيات على محاسن الأعمال، وخصائص الأخلاق.

ولما كانت الخاصة أسوة العامة في السلوك الإنساني، وكان رؤساء كل

جماعة أول مُطالب باستئصال عروق الشر والفساد، وتمكين أسباب الخير

والصلاح - اقتضت حالة الاجتماع العربي قبيل الإسلام أن يتصف أمراء القبائل

بأكمل ما يرام من الآداب التي يستحقون بها أن يكونوا قدوة لمرؤوسيهم، وأن يكون

لديهم ما يتمكنون به من حمل أقوامهم على الانتظام في الأمور، وحسن السير في

المعاملة، ومن ثم كانوا يرون من المتحتم عليهم أن يكونوا متربين (تربية أدبية)

لائقة بمقامهم، وموافقة لمألوفات قومهم.

(الثالث) عظم المجتمعات ينشأ عنه زيادة حاجات المعيشة، وبسبب تعاون

الأيدي واشتراكها في تحصيل المنافع، تكثر الخيرات وتتوفر أمتعة الحياة،

ويتضح من ذلك أن أهل الدعة والمحبين لأنفسهم، الساعين في منافعهم الشخصية،

يأخذون في تسخير الناس لقضاء حوائجهم من غير أن ينفعوهم بشيء، وأن

الأقوياء والماكرين يطمحون بأطماعهم إلى ما في أيدي الناس واغتصابه منهم بالقوة

إذا أمكن، أو انتزاعه منهم بالحيلة، ومُمانعتهم عنه بكل ما يمكنهم من الطرق؛

ولهذا كان من الضروري للعائش بين قوم أن يكون صحيح الجسم، قوى البدن، ذا

بأس شديد، حتى يتأتى له أن يعمل ما ينفع وينتفع به، ولكي إذا اضطرته الحالة

يمكنه المدافعة عن نفسه ونفيسه ممن يتعدى عليه، وكان من أقصى الواجبات على

من يرصدون أنفسهم لتولي أمور الجمهور أن يتخذوا الوسائل التي يكونون بها من

الأصحاء الأقوياء الأشداء، ليقوموا بواجب حماية الضعفاء ونصر المظلومين،

وحفظ حقوق الناس، ومنع أسباب التعدي من بينهم، وقد علم أمراء العرب

بالتجارب هذه الغاية، فأوجبوا على أنفسهم (تربية جسمية) تعدُّهم لحماية أقوامهم،

وتمكين الأمن بينهم.

فذلك ما كانت عليه تربية أمراء العرب قبيل الإسلام حسبما ترشد إليه

أبيات الحطيئة.

فكانت إذن على أنواع ثلاثة:

(1)

تربية فكرية.

(2)

تربية أدبية.

(3)

تربية جسمية.

فأما التربية الفكرية

فقد جلى نورها في قوله:

(مكاشيف للدجى)

إذ هو عبارة عن أنهم عارفون بالأمور معرفة تامة، مبينون لها تبينًا كاملاً،

فالواحد منهم فضلاً [1] عن أنه نير في نفسه منور لغيره.

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بملتقطات لا ترى بينها فصلاً

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جدًّا ولا هزلاً

لأن العلم المتمكن أشبه بالضوء الساطع الذي يشرق على الأشياء فيجعلها في

غاية الظهور حتى للضرير، والجهل المطبق أشبه بالظلام الذي يتراكم عليها

فيصيَّرها في نهاية الخفاء حتى على البصير، كما قيل:

العلم نور، والجهل عمى

وقد لخص خلاصتها في قوله:

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

حيث هو عبارة عن أنهم لا يشرعون في أمر من الأمور إلا أحكموه تمام

الإحكام، فإن الأمر المحكم الذي لا يقبل النقض مدى الأزمان، كالبناء المتقن الذي

لا يتهدم على توالي الأيام، ولا شك أن إبرام الأمور على أحكم نظام يحتاج إلى

علم راسخ وتبصر تام.

***

وأما التربية الأدبية

فقد أودع ثمرتها في قوله:

يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتها

وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد

وفي قوله:

وإن كانت النعماء فيهم جروا بها

وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا

حيث أفاد أنهم يسلكون مع الناس على مقتضى العقل، ويعاملونهم بالحلم،

ولا يغضبون عليهم إلا في الجد، ويثمر فيهم المعروف، ويحلو منهم الجميل.

تخالهم للحلم صمًّا عن الخنا

وخرسًا عن الفحشاء عند التهاتر

ومرضى إذا لاقوا حياء ومنة

وعند الحروب كالليوث الكواسر [2]

لهم عزُّ إنصاف وذل تواضع

بهم ولهم ذلّت رقاب العشائر

كأن بهم وصمًا يخافون ثاره

وليس بهم إلا اتقاء المعاثر [3]

أليست هذه مكارم الأخلاق وخصائص الآداب؟

وأما التربية الجسمية

فقد أجمل أثرها في قوله: (مطاعين للهيجا) لأنه لا يجيد الطعان عند

احتدام القتال إلا مَنْ كان له جسم شديد، وقلب من حديد.

وترى الفوارس من مهابة رمحه

مثل البُغاث خشين وقع الأجدل

الطريقة

التي كانت متخذة في التربية العربية

كانت طريقة تربية العربي طبيعية عملية، بمعنى أن العرب بنوها على

مقتضى طبيعة الإنسان، وطبيعة الأشياء التي يمكنه أن يعلمها، وسنأتي على

تفصيل هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى.

وكانت تلك الطريقة متبعة في جميع أنواع التربية.

***

أما في التربية الفكرية

فكان العربي يدرس على نفس الأشياء، تتمثل له بذاتها، ويتصورها بنفسه،

ويحكم فيها بعقله، ويجربها بشخصه، فيصفها عن مشاهدة، ويقضي فيها على

بصيرة، ويستعملها عن تجربة.

وكان يمشي في طول الأرض وعرضها، فيصعد الجبال والآكام، ويجوب

البراري والقفار، يعبر الأنهار، ويشرف على البحار، وينزل في القرى

والأمصار، فكان يعرف البلاد في مواضعها، ويطلع على الأراضي في مواقعها.

وكان يحضر النوادي، ويسمع فيها أخبار الأولين وسير الماضين، من

أفواه المعمرين والعالمين بأيام الناس، ويشاركهم برأيه في استحسانها أو استقباحها.

وكان يُحصي عدة الأشياء بعقله، ويحسبها جمعًا وتفريقًا في نفسه، وكان

يرسم أشكال الأشياء في ذهنه، ويقدَّر الأبعاد والمسافات بنظره.

وكان يتلقى اللغة حية صحيحة عن أهلها، فكان يسمع الكلمات بأُذنه،

ومعانيها حاضرة لحواسه أو متمثلة لعقله، وكانت تصور له الأشياء البعيدة عن

حسه، أو الغريبة عن عقله، بمشابهاتها المحسوسة له أو المعروفة لديه، وتطرق

مسامعه الأساليب الكلامية البديعة، التي يرى تأثيرها في الناس ولطف مأخذها

بقلوبهم، وحسن مدخلها على أفهامهم، فكان يتلقن اللسان العربي المبين عن أرباب

البلاغة العظيمة، فيحاكيهم في البيان، ويجادلهم في القول، ويسابقهم إلى الإبداع

والاختراع.

***

وأما في التربية الأدبية

فكان يتأدب بآداب القوم الذين يعيش بين ظهرانيهم على وجه التأسي بهم،

فكان يرى القناعة غالبة عليهم فيتخلق بها، ويجد العفة سائدة فيهم فيتحلى بها،

وينظر إلى الكرم وهو منتشر فيهم فيتخذه شيمة له، وهكذا في سائر الأخلاق والشيم،

كان يوجبها على نفسه اقتداءً بأفعالهم وأحوالهم، واتباعًا لما يصدر عنهم من

الحكم الساطعة، وعملاً بما يضربونه من الأمثال السائرة.

***

وأما في التربية الجسمية

فكان نفس إقليم العرب وأحوال معايشهم حاملة للناشئ بينهم على مباشرة

الأعمال التي تُكسبه قوة الجسم، وصلابة الأعضاء، وخفة الحركات، ما بين

انتجاع للمرعى، وارتياد للماء، وسفر لمبادلة المنافع، وما يقتضيه الحل والترحال،

من تحميل الأثقال وتنزيلها، ونصب البيوت وتقويضها، وسلوك السهول

والأوعار في برد الليل وحر النهار، ولا يخفاك ما يلزم من البأس الشديد لمن

يعيش بين الحيوانات الضارية والسباع الكاسرة، ومن يكون عرضة في كل وقت

للإغارات التي تسوقها الأطماع؛ ولذلك كان العربي دائمًا في التمرن على المجالدة

أو المصارعة أو المجاراة أو المطاردة، أو الفروسية وركوب الخيل، أو غير

ذلك من الأعمال التي تجعل الجسم كالحديد، والأعضاء في حركاتها أسرع من

الريح الشديد ، ثم إنه كانت تتربى له من كثرة مشاهدة الحروب، وطول مجاورة

الليوث، جراءة وبسالة وقوة نفس، لا يخاف معها لا من مخالب الأسود ولا من

أسلحة الصناديد.

***

الطريقة التي كانت متبعة

في التربية العربية

وبيان أنها طبيعية عملية

من نظر في طبيعة الإنسان ومعلوماته، وكان له معرفة بالتجارب الإنسانية

يجد بين ذلك وبين الطريقة التي كانت مستعملة في التربية العربية تمام الموافقة.

أما في تربية العقول

فلأن الإنسان بالطبع إنما يحصل على المعارف الأولية من طريق الحواسّ،

وعقله دائمًا في احتياج إلى التغذي بالمعلومات التي تصل إليه بواسطتها.

فكلما كانت حواس المرء أكثر تناولاً للأشياء وأعظم تمييزًا لأوصافها

وأسرع وصولاً إلى دقائقها - كان المرء أوسع علمًا وأحدَّ ذهنًا، وأكمل نباهة.

ومن أجل ذلك كان العربي يطّلع بقدر استطاعته على الأشياء بذاتها، ويتمرن على

اكتشاف أسرارها بنفسه، فكان ينشأ غزير المعرفة قوي التصور شديد الفطنة.

ومن (القواعد المقررة) أنه كلما كان العقل أكثر عملاً بنفسه في تصور

الأمور والحكم عليها، كان أقوى حصولاً على المعارف وأمضى نظرًا في

المعلومات، وأقرب إصابة للحقائق. وهذه هي الحكمة في اتخاذ العرب طريقة

الإرشاد في تربية أفكارهم، فكان العربي يقدر على استعمال عقله دائمًا في كل ما

يريد معرفته، وبسبب هذه العادة كان ينفر عن تلقي المسائل تلقينًا صرفًا وقضايا

مُسلَّمة. وإذا مشى مع آراء الناس فلحد ما يعرف سيرها وغايتها، فإن وجدها

مصيبة، وإلا اتبع الصواب. ولذلك كان ينشأ متوقد القريحة، ثاقب الفكر، صائب

الرأي، وزيادة على ذلك أنه لما كان يشغل عقله كان يجد سرورًا من وقوفه بنفسه

على الحقائق، ولذا كان عظيم الشوق إلى المعارف.

(وخلاصة الكلام) أنه لما كان من طبيعة العقل الإنساني العمل بنفسه،

واكتساب المعلومات، إما بواسطة الحواس، وإما بشغله الذاتي، وقد علم بالتجربة

أنه يقوى بالتمرن والتدرب - رأى العرب من الواجب أن تكون الطريقة في تربية

عقولهم إِطْلاعها على الأشياء، وإرشادها إلى كيفية العمل في الحصول على

المعارف، وتمرينها ما أمكن على الشغل بنفسها. وبما أن اللغة بطبيعتها عبارة عن

ألفاظ موضوعة بالاصطلاح للدلالة على المعاني التي يمكن أن تتناولها الأفكار؛

فمن الضروري لمن يريد التكلم بإحدى اللغات أن يقف على أنواع ألفاظها المفردة

والمركبة، وما تدل عليه من المعاني المتنوعة، وبالطبع لا يحصل المرء على

النجاح في اللغة إلا بثلاثة شروط.

(الأول) أن يُلقن مبانيها على وجه الصحة والصواب ليجتنب الأغلاط

اللسانية.

(الثاني) أن يُلقن ألفاظها عند قيام معانيها بذهنه، حتى يكون عنده الارتباط

محكمًا بين الدوالّ والمدلولات، فيأمن اللبس الناشئ عن استعمال المفردات أو

التراكيب في غير ما تُستعمل فيه.

(الثالث) أن يتمرن كثيرًا على محاكاة ما تلَّقاه لتتربى له ملكة النطق على

الهيئة المعروفة فيها، وأن يتعود اختراع الأساليب الكلامية ليكون محاكيًا للغة

بعقل، متصرفًا فيها بفهم، غير محتاج إلى تلقين مستمر.

(فالطريقة) إذن في تعليم اللغة هي التلقين الصحيح، والتعويد على المحاكاة

التعقلية، وعليها جرى العرب.

***

وأما في تربية الآداب

فقد دَلَّ النظر في طبيعة الإنسان على أنه - خصوصًا في ابتداء نشأته - يتَّبع

أكثر مما يبتدع، وتقليداته أكثر من عندياته، وذلك لقلة معرفته بالأمور، وقصور

عقله عن التمييز بين محاسن الأشياء ومساويها. وأفادت التجارب أن طول التعود على الشيء يلحقه بالطبائع؛ فرأى العرب من الحكمة في تربية الأدب أن يكون

للناشئ بينهم أسوة حسنة فيهم، حتى يتعود من صغره على مكارم الأخلاق، فإذا شب

وكبر عقله وجد فيما تعود عليه مثالاً واضحًا للنصائح الأدبية التي تتناثر عليه حينئذ

من أفواه قومه.

***

وأما في تربية الأجسام

فقد رأوا أنه لا طريق لنماء الأبدان وصحتها غير سياسة البطون، ولا سبيل

إلى القوة وشدة البأس غير رياضة الأجسام، ولا وسيلة إلى إشعار القلوب بالجراءة

إلا اقتحام الأخطار، فعملوا على مقتضى ما علموا.

فقد تبين أن الطرق التي كانت تستعملها العرب في التربية طبيعية عملية،

وهذه الطريقة هي التي يؤيدها العقل وتشهد بصحتها التجارب،وقد تكفلت بالنجاح

لكل من يستعملها. ومن يبغي الوقوف على نتيجة اتباعها في تربية الأخلاق

والأجسام، فليطّلع على حال العرب وسِيَرهم، ومن يحب أن يعرف نتيجة اتباعها في

تربية العقول، فليطالع المنشآت العربية شعرًا ونثرًا، ويتفهمها جيدًا، فإنه يجد فيها كثيرًا من العلوم العالية، التي لا يصل إليها إلا فحول أهل المعرفة والدراية.

ولنسُق مثالاً لهذا الأمر الأخير بعض أبيات الشعر الذي هو موضوع كلامنا،

وننظر إلى الأفكار التي يتضمنها والأساليب التي صيغت عليها معانيها، فإليك

أول بيت منه وهو:

يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتها

وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد

عَبَّرَ فيه عن ثلاث صفات للقوم وهي: الحلم المصلح، والغضب الجد،

والعقاب المؤلم، فالصنفان الأولان من المعاني التصورية التي يعرفها الإنسان (في

نفسه) بالوجدان، ويفهمها (من غيره) بالعلامات التي تدل عليها، فعلامة الحلم

السكينة والرزانة مع قيام أسباب الاستفزاز، ومع القدرة على تعجيل الإيقاع

والانتقام، ولا بد من تكرر الأحوال التي تظهر فيها هذه العلامة حتى يصل العقل

بنظره الاستقرائي إلى أن ما وراءها هو الحلم لا العجز، وعلامة الغضب تتبين في

الحركات وتظهر على الوجه، وبالأخص في العينين، ويفهمها الإنسان من أول

وهلة، ومن غير نظر ولا تروٍّ، غير أنه لا بد من التأمل في أسباب الغضب في

كل مرة يحدث فيه، حتى يستنتج أنه إنما يحصل للجد والحق لا للأهواء

والشهوات.

وأما العقاب المؤلم، فهو من المعاني العقلية الصرفة باعتبار أنه من قبيل

الفعل الغامز المقابل لبقية الأغراض، فإذا اعتبر فعلاً خاصًّا فتارة يكون معقولاً

كحرمان المعاقَب من الرضا مثلاً، وتارة يكون محسوسًا كضربه بالسوط مثلاً.

فتلخص أن المعاني الأصلية التي أودعها الحطيئة في ذلك البيت ثلاثة، وأن

طرق إدراكها مختلفة بين الوجدان وبين الفهم مع التعقل، وبين الحس أو العقل

الصرف غير أن المعنى الأول وهو حلم القوم صاغه الشاعر في قالب تخيلي

اختراعي، حيث صور بهيئة الحكم الحملي الإيجابي، وحالة القوم المالكين لنفوسهم،

الموطنين لها على تحمل آلام التعدي أو المخالفات والصبر عليها أزمانًا طوالاً [1]

رغبة في السرور الذي تناله بإرجاع المخالفين إلى الحسنى - بحالة الرائضين للخيل،

الصابرين على حرانها، طلبًا للذة تذليلها والانتفاع بها، أو بحالة السائسين للرعايا،

المتحملين لتعللاتها، انتظارًا للفرح بسلوكها الجادة القويمة. ولا يخفى ما دخل

في تركيب ذلك التخيل الاختراعي من المعاني وهي (السياسة) و (الأشخاص)

التي نسبت إليهم و (العقول) المسوسة و (طول التأني) الموصوفة به العقول،

فالأشخاص إدراكها حسي، وما عداها فعقلي.

ثم إن المعنى الثالث [2] وهو عقاب القوم المؤلم أفاده ضمنًا في قوله: (جاء

الحفيظة والجد) حيث جعل غضبهم هو الغضب الحقيقي والجد الذي لا هزل معه،

وهذا يستلزم استتباع حفيظتهم للنكال، وتلك هي الحكمة في صوغ المعنى الثاني

في صيغة الحكم الشرطي الإيجابي، والبيت الثاني وهو:

أقلوا عليهم لا أبًا لأبيكم

من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

وضّح فيه مطلوبه من اللائمين وما يتمناه فيهم، فتمنى فيهم - ونعوذ بالله -

الخذلان وعدم الناصر، وهو معنى متصوَّر له عقلاً وتمنيه معروف له بالوجدان،

وطلب منهم أحد أمرين: إما ترك لوم الممدوحين، وإما القيام مقامهم، وكل منهما

معنى متصور عقلاً، وكلٌّ من رغبة الأول وكراهة الثاني - لو أمكن حصوله

وجدانية - وطلب حصول المعنى الثاني مبين بصورة اختراعية يتناولها الحس في

البناء، والبيت الثالث وهو:

أولئك قوم إن بنَوْا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

أسفر فيه عن ثلاث صفات: إحكام الأعمال، والوفاء بالمعاهدات، والدوام

على صفاء المحالفات، أما الصفة الأولى فهي معنى عقلي قامت لدى الشاعر

الدلائل الحسية والمعنوية على اتصاف القوم به، فصوره بصورة تخيلية اختراعية

ضمنها الحكم الشرطي الإيجابي المحتوي على معنى البناء الحسي ومعنى الإحسان

المعنوي المنسوب إلى الأشخاص المدركة بالحس، وكل من الصنفين الآخرين

معنى وجداني معبر عنه بصيغة الحكم الشرطي الثبوتي، وكلتاهما تحتاج إلى نظر

ودليل في ثبوتهما للقوم، والصفة الأخيرة وبينها الشاعر على أسلوب تخيلي لا

تخفى المعاني التي تكون منها.. . إلخ.

ومن يتفهم باقي هذا الشعر كغيره من كلام العرب نظمًا ونثرًا على الكيفية

التي شرحنا بها معاني الأبيات السابقة يتضح له أن عقول العرب كانت نيرة،

مدربة على ملاحظة الأمور، متفطنة لدقائقها، ماضية في استحضار المعاني

ومقارنتها، مصيبة في النظر بين أطرافها، وتقرير النِّسب بينها، قادرة على كشف

خفاياها وإبراز المعقول منها في صورة المحسوس، ولا يخفى أن ذلك نتيجة

تربيتها الفكرية على الطريقة الطبيعية العملية.

***

بيان الطرق العمومية

(لأجل الوصول إلى مثل التربية العربية وتكميلها في أمتنا بواسطة المدارس

خصوصًا)

لا شك أن الطريقة التي كانت مستعملة في التربية العربية جديرة بأن نعمل

بها، غير أن مقتضيات الأحوال في زماننا الحاضر ومكاننا الخاص توجب علينا

اتباع تلك الطريقة بعد أن نُدخل فيها من التكميلات ما تكون به موافقة لحالتنا الحالية،

وهذه التكميلات تنتظم في سلك جملة أنواع:

(الأول) لما كان النوع الإنساني في العصر الحالي بالغًا مبلغًا عظيمًا في

المدنية المحتاجة إلى سعة المعارف وإتقان ضبط الأمور - لزم أن تكون الطريقة في

تربية الناشئة هي تعليمهم باللسان والقلم معًا، ليكون الفهم منها ذا أذنين، والكلام ذا

لسانين، ومن أجل ذلك كان من أصول التربية المتحتمة في أيامنا هذه تعليم كل

إنسان القراءة والكتابة؛ لأن محاربة الأمية في عصرنا هي الجهاد الأكبر،

واستئصالها هو فتح الفتوح.

(الثاني) بما أن أحوال الوقت الحالي أوجبت أن يكون الطرف الأعظم من

التربية حاصلاً في (المدارس) تعين بسبب الاجتماع المدرسي أن يكون كل نوع

من أنواع التربية التي شرحناها آنفًا على كيفية خاصة كافلة بالنجاح.

***

الكيفية التي يجب أن تكون

عليها التربية الفكرية

في المدارس

هذه الكيفية لا بد في حصولها من جملة أمور.

(الأول) أن تقسم التلامذة فرقًا على حسب درجات عقولهم ومقدار معارفهم،

وأن يخصص لكل فرقة المكان المناسب لها المستوفي للشروط الصحية، وأن

يُنتخب لها من يليق من المربين والمعلمين الذين تحلَّوا بصفات الكمال.

(الثاني) أن يُعطى لكل فرقة في زمن محدد مقدار من العلوم أو الفنون

مناسب لمداركها، ولائق بذلك الزمن بحيث يمكن تقريره في مدته تقريرًا تامًّا.

(الثالث) أن يُعين لكل علم أو فن الوقت المناسب له من اليوم والأسبوع

على حسب أهميته ومقدار منفعته.

(الرابع) أن تعتبر القراءة والكتابة أساس التعليم، فتضمن الأصول التي

تتفرع منها العلوم والفنون.

(الخامس) أن يكون التعليم على الطريقة العربية التي شرحناها بحيث

يبتدئ بالمحسوسات، ثم يعقب بالمعنويات، ويُقَّدم السهل على الصعب، والمعلوم

قبل المجهول، ويكون في جميع الأحوال إرشادًا جميلاً عربيًّا لجميع القوى العقلية

باعثًا للشوق إلى المعارف.

(السادس) أن يكون درس الأشياء على نفس الأشياء بقدر الإمكان بحيث لا

يعين على صورها أو وصفها وتمثيلها بالكلام إلا إذا تعذر إحضارها، وأن يتوجه

بالتلامذة حينًا فحينًا إلى الأماكن التي يطَّلعون فيها على ذوات الأشياء الطبيعية

والصناعية.

(السابع) أن يكون في مقدمات التعليم تنوير عقول التلامذة بنور الدين

الحنيفي وتغذيتها بالحكم العربية.

_________

(1)

فضلاً عن كذا: يستعمل في سياق - كقولك: لا يملك الدرهم فضلاً عن الدينار - النفي ويستغنى عنه هنا بمثل: نير في نفسه وهو على ذلك منور لغيره.

(2)

وفي نسخة: ويوم الوغي مثل الليوث الكواسر.

(3)

المعاثر: أنواع العثار أو مواضعه، ويجوز أن تكون محرفة عن المعاير من العار.

(4)

في الأصل طويلاً أزمانًا، ولعله من سهو النسخ.

(5)

قوله: المعنى الثالث يريد يه الثالث من الصفات المودعة في البيت التي ذكرها عقب ذكره، وهي الحلم والغضب والعقاب، لا للمعاني التخيلية التي للأول منها.

ص: 600

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌كتاب ابن تيمية

إلى الشيخ ناصر المنبجي

هؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يُعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة

التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين، وذلك أن القسمة رباعية، فإن كل

واحد من الاتحاد والحلول إما معين في شخص وإما مطلق، أما الاتحاد والحلول

المعين كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة، وفي المشايخ من جهال

الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معنى إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن، وهو

قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط، وإما بالحلول وهو قول

النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية.

(وأما الحلول المطلق) وهو أن الله تعالى بذاته حالٌّ في كل شيء، فهذا

تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك.

وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحدًا سبقهم إليه إلا من أنكر

وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين

وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض

هي نفس وجود المخلوقات، فلا يُتَصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا

أنه رب العالمين ولا أنه غني وما سواه فقير، لكن تفرقوا على ثلاث طرق، وأكثر

من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم؛ لأنه أمر مبهم.

(الأول) أن يقولوا: إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها، أبدية

أزلية حتى ذوات الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات، وأن وجود الحق

فاض على تلك الذوات، فوجودها وجود الحق، وذواتها ليست ذوات الحق.

ويفرقون بين الوجود والثبوت، فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك،

ويقولون: إن الله سبحانه لم يعطِ أحدًا شيئًا، ولا أغنى أحدًا ولا أسعده ولا أشقاه،

وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك، ويقولون: إن

هذا هو سر القدرة، وإن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في

العدم خارجًا عن نفسه المقدسة، ويقولون: إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من

العالم، وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه، فيكون علمهم وعلم

الله تعالى من معدن واحد، وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه؛

لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به للرسل، ويقولون:

إنهم لم يعبدوا غير الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى، وأن عباد الأصنام

ما عبدوا إلا الله سبحانه، وأن قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 23) معنى حكم لا معنى أمر، فما عبد غير الله في كل معبود، فإن الله

تعالى ما قضى بشيء إلا وقع، ويقولون: إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو،

فإنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، وأن قوم نوح قالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ

وَلَا تَذَرُنَّ وَداًّ وَلَا سُوَاعاً} (نوح: 23) لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر

ما تركوا منهم؛ لأن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من عرفه وينكره من أنكره،

وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في

الصورة الروحانية، وأن العارف منهم يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى

عبد، فإن الجاهل يقول: هذا حجر وشجر، والعارف يقول: هذا محل إلهي ينبغي

تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وأن عباد الأصنام

ما أخطأوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء، والله يعبد أيضًا كل شيء؛ لأن الأشياء غذاؤها بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها

بالوجود، وهو فقير إليها، وهي فقيرة إليه، وهو خليل كل شيء بهذا

المعنى، ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة وإضافة بين الوجود والثبوت

وليست أمورًا عدمية، ويقولون: (من أسمائه الحسنى العلي عن ماذا وما ثم إلا

هو؟ وعلى ماذا وما ثم غيره؟ فالمسمى محدثات وهي العلية لذاتها وليست إلا هو،

وما نكح سوى نفسه، وما ذبح سوى نفسه، والمتكلم هو عين المستمع) وأن

موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل؛ لضيقه وعدم اتساعه،

وأن موسى كان أوسع في العلم، فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وأن أعلى ما عبد

الهوى، وأن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله. وفرعون كان عندهم من

أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في قوله: أنا ربكم الأعلى، وفي قوله: ما

علمت لكم من إله غيري.

وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول: إن حقيقة

أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض

عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون: نحن على قول فرعون [1] ، وهذه

المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه،

والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياءُ منهم

والأموات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ

لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .

والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص المضاف إلى النبي - صلى

الله تعالى عليه وسلم - أنه جاء به وهو ما إذا فهم المسلم بالاضطرار [2] أن جميع

الأنبياء والمرسلين وجميع الأولياء والصالحين، بل جميع عوام أهل الملل من

اليهود والنصارى والصابئين يبرأون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه

كله، ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع

الخالق البارئ المصور- الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور -

ربهم ورب آبائهم الأولين، رب المشرق والمغرب. ولا يقول أحد منهم: إنه عين

المخلوقات ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى إنهم يقولون: لو زالت

السموات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين:

(أحدهما) أن المعدوم شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة

والرافضة، وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب والسنة والإجماع. وكثير من

متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر كفَّر من يقول بهذا، وإنما غلط هؤلاء من

حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب في

اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله تعالى، فإن مذهب المسلمين

أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق

قبل أن يخلقها، فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي.

ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - سورة

{اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي

عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5)

فذكر المراتب الأربع، وهي الوجود العيني الذي خلقه، والوجود الرسمي

المطابق للَّفظي الدالّ على العلمي، وبين أن الله تعالى عَلِمه؛ ولهذا ذكر التعليم

بالقلم، فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة. وهذا القول - أعني قول من يقول: إن المعدوم

شيء ثابت في نفسه خارج عن علم الله تعالى - وإن كان باطلاً ودلالته

واضحة، لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة، وابن العربي وافق

أصحابه، وهو أحد أصلي مذهبه الذي في الفصوص.

(والأصل الثاني) أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق

ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من

المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن العربي أقربهم إلى الإسلام

وأحسن كلامًا في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقر الأمر

والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من

الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم؛ فينتفعون

بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله.

(وأما) صاحبه الصدر الرومي فإنه كان متفلسفًا، فهو أبعد عن الشريعة

والإسلام، ولهذا كان الفاجر التلمساني المُلقَّب بالعفيف يقول: كان شيخي القديم

متروحنًا متفلسفًا، والآخر فيلسوفًا متروحنًا - يعني الصدر الرومي - فإنه كان قد

أخذ عنه، ولم يدرك ابن عربي في كتاب مفتاح غيب الجمع والوجود [3] وغيره

يقول: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين، كما يفرق بين الحيوان المطلق

والحيوان المعين، والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في

الخارج مطلقًا، لا يوجد إلا في الأعيان الخارجة، فحقيقة قوله: إنه ليس لله

سبحانه وجود أصلاً ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات، ولهذا

يقول هو وشيخه: إن الله تعالى لا يرى أصلاً، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا

صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجوده، تعالى

الله عما يقولون.

(وأما) الفاجر التلمساني فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر؛ فإنه لا يفرق

بين الوجود والثبوت كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين كما

يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وأن العبد إنما

يشهد السوى ما دام محجوبًا، فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر؛

ولهذا كان يستحل جميع المحرمات حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول: البنت

والأم والأجنبية شيء واحد ليس في ذلك حرام علينا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا:

حرام، فقلنا: حرام عليكم، وكان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما

التوحيد في كلامنا،وكان يقول: أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول:

القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشَرَح الأسماء الحسنى

على هذا الأصل الذي له، وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء، وشعره في صناعة

الشعر جيد، ولكنه كما قيل: لحم خنزير في طبق صيني، وصنف للنصيرية عقيدة،

وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه.

(وأما) ابن سبعين فإنه في (البدو والإحاطة) يقول أيضًا بوحدة الوجود،

وأنه ما ثم غير، وكذلك ابن الفارض في آخر نظم السلوك، لكن لم يصرح هل

يقول بمثل قول التلمساني أو قول الرومي أو قول ابن العربي، وهم إلى كلام

التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي ما كفره أحد قط مثل

التلمساني، وآخر يقال له البلباني من مشايخ شيراز ومن شعره:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه عينه

وأيضًا:

وما أنت غير الكون بل أنت عينه

ويفهم هذا السر من هو ذائقه

وأيضًا:

وتلتذ أن مرت على جسدي يدي

لأني في التحقيق لست سواكم

وأيضًا:

ما بال عينك لا يقر قرارها

وإلام ظلك لايني متنقلاً

فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن

إلا إليك إذا بلغت المنزلا

وأيضًا:

ما الأمر إلا نسق واحد

ما فيه من حمد ولا ذم

وإنما العادة قد خصصت

والطبع والشارع في الحكم

وأيضًا:

يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني

والوجد أصدق نهَّاء وأَمَّار

فإن أطعك وأعص الوجد عُدت عمي

عن العيان إلى أوهام أخبار

فعين ما أنت تدعوني إليه إذا

حققته تره المنهيَّ يا جاري

وأيضًا:

وما البحر إلا الموج لا شيء غيره

وإن فرقته كثرة المتعدد

إلى أمثال هذه الأشعار، وفي النثر ما لا يحصى، ويوهمون الجهال أنهم

مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة مثل:

سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس

والأوزاعي وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري والفضيل بن عياض

ومعروف الكرخي والشافعي وأبي سليمان وأحمد بن حنبل وبشر الحافي

وعبد الله بن المبارك وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة، إلى مثل المتأخرين

مثل: الجنيد بن محمد القواريري وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان

المكي ومن بعدهم، إلى أبي طالب المكي إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني

والشيخ عدي والشيخ أبي البيان والشيخ أبي مدين والشيخ عقيل والشيخ أبي

الوفاء والشيخ رسلان والشيخ عبد الرحيم والشيخ عبد الله اليونيني والشيخ

القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق ومصر

والمغرب وخراسان من الأولين والآخرين.

كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء ومن هو أرجح منهم، وأن الله سبحانه

ليس هو خلقه ولا جزءًا من خلقه ولا صفة لخلقه، بل هو سبحانه وتعالى مميز

بنفسه المقدسة، بائن بذاته المعظمة عن مخلوقاته، وبذلك جاءت الكتب الأربعة

الإلهية من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وعليه فطر الله تعالى عباده وعلى ذلك

دلت العقول.

وكثيرًا ما كنت أظن أن ظهور مثل هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار،

واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب الذي يزعم أنه

هو الله، فإن هؤلاء عندهم كل شيء هو الله، ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض

وأعظم، وأما على رأي صاحب الفصوص فإن بعض المظاهر والمستجليات يكون

أعظم لعظم ذاته الثابتة في العدم، وأما على رأي الرومي فإن بعض المتعينات

يكون أكبر، فإن بعض جزئيات الكلي أكبر من بعض، وأما على البقية فالكل

أجزاء منه، وبعض الجزء أكبر من بعض، فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من

كبار العارفين، وأكبر من الرسل بعد نبينا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم -

وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فموسى قاتل فرعون الذي يدعي

الربوبية، ويسلط الله تعالى مسيح الهدى الذي قيل فيه: إنه الله تعالى، وهو بريء

من ذلك على مسيح الضلالة الذي قال إنه الله.

ولهذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -

قال: (إنه أعور)[4]، وكونه قال: (واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى

يموت) وابن الخطيب أنكر أن يكون النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال

هذا؛ لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال أبين من أن يستدل عليه بأنه

أعور، فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية، وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى

والحلولية ظهر سبب دلالة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأمته بهذه العلامة،

فإنه بعث رحمة للعالمين، فإذا كان كثير من الخلق يُجوِّز ظهور الرب في البشر

أو يقول: إنه هو البشر - كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلاً على انتفاء الإلهية

عنه.

وقد خاطبني قديمًا شخص من خيار أصحابنا كان يميل إلى الاتحاد، ثم تاب

منه وذكر هذا الحديث، فبينت له وجهه، وجاء إلينا شخص كان يقول: أنه خاتم

الأولياء، فزعم أن الحلاج لما قال: أنا الحق. كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه

كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من

النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان من هذا الباب، فبينت له فساد هذا،

وأنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة موسى بن عمران، وكان من خاطبه هؤلاء

أعظم من موسى؛ لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة، وهؤلاء يسمعون من

الجن الناطق، وهذا يقوله قوم من الاتحادية، لكن أكثرهم جهال لا يفرقون بين

الاتحاد العام المطلق الذي يذهب إليه الفاجر التلمساني وذووه وبين الاتحاد المعين

الذي يذهب إليه النصارى والغالية.

وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود

كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحًا،

وَقَلَّ أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان.

وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث من أولئك الجهمية، ولكن السلف والأئمة

أعلم بالإسلام وحقائقه فإن كثيرًا من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة، حتى

يتدبرها ويرزق نور. الهدى فلما اطّلع السلف على سر القول نفروا منه، وهذا كما

قال بعض الناس: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل

شيء، وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه تأله ولا تعبد، فهو يصف ربه بصفات

العدم والموات.

وأما المتعبد ففي قلبه تأله وتعبد والقلب لا يقصد إلا موجودًا لا معدومًا،

فيحتاج أن يعبد المخلوقات إما الوجود المطلق وإما بعض المظاهر: كالشمس

والقمر والبشر والأوثان وغير ذلك، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم،

وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى، وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين

المخلوقات، فهم بربهم يعدلون؛ ولهذا حدث الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب

إلى الهند وقال: إن أرض الإسلام لا تسعه. لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء

حتى النبات والحيوان.

وهذا حقيقة قول الاتحادية، وأعرف ناسًا لهم اشتغال بالفلسفة والكلام، وقد

تألهوا على طريق هؤلاء الاتحادية، فإذا أخذوا يصفون الرب سبحانه بالكلام قالوا:

ليس بكذا ليس بكذا، ووصفوه بأنه ليس هو المخلوقات كما يقوله المسلمون، لكن

يجحدون صفات الخالق التي جاءت بها الرسل عليهم السلام، وإذا صار لأحدهم

ذوق ووجد تأله وسلك طريق الاتحادية، وقال: إنه هو الموجودات كلها، فإذا

قيل له: أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟ قال: ذلك وجدى، وهذا ذوقي، فيقال

لهذا الضال: كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد، فأحدهما أو كلاهما باطل، وإنما

الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات، فإن علم القلب وحاله متلازمان

فعلى قدر العلم والمعرفة يكون الوجد والمحبة والحال، ولو سلك هؤلاء طريق

الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له،

ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، واتبعوا طريق السابقين

الأولين - لسلكوا طريق الهدى، ووجدوا برد اليقين وقرة العين، فإن الأمر كما قال

بعض الناس: إن الرسل جاؤوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، والصابئة المعطلة

جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فالقرآن مملوء من قوله تعالى في الإثبات:

{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التوبة: 115){عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:

20) وأنه {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج: 61){وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: 7) وفي النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً

أَحَدٌ} (الإِخلاص: 4){هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) {سُبْحَانَ رَبِّكَ

رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ} (الصافات: 180-181) .

وهذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ - أيده الله تعالى بالإسلام،

ونفع المسلمين ببركة أنفاسه وحسن مقاصده ونور قلبه - فإن ما فيه نكت

مختصرة، فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب، ولكن ذكرت للشيخ - أحسن الله

تعالى إليه - ما اقتضى الحال أن أذكره، وحامل الكتاب مستوفز عجلان، وأنا

أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين عامتهم وخاصتهم، ويهديهم إلى ما يقربهم،

وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير الذين قال الله سبحانه فيهم: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ

يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) انتهى.

_________

(1)

كذا في الأصل، ويراجع في رسالة إبطال وحدة الوجود (ص117) من مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام.

(2)

كذا في الأصل، وفيه ما ترى، والمعنى أن ما في كتاب الفصوص من أمثال ما ذكر يفهم كل مسلم أنه مخالف لدين الله على ألسنة جميع رسله، وأنه مما يتبرأ منه عوام جميع الملل.

(3)

قوله: في كتاب إلخ القطع غير متجه، وكتاب مفتاح غيب الجمع والوجود لصدر الدين الرومي القونوي هذا من شيخ الإسلام نقل مشاهد من كتابه هذا على ضلالته.

(4)

تتمة الحديث (وإن الله ليس بأعور) رواه الشيخان من حديث ابن عمر، وهذا لفظ البخاري، وهذه الجملة هي محل التعجب الذي حمل ابن الخطيب وهو الفخر الرازي على إنكار الحديث.

ص: 613

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية

كتب إليّ الأستاذ أبو الحسنات الهندي أحد أعضاء دار المصنفين في

(أعظمكده - الهند) رحمه الله تعالى، الكتاب الآتي بعد اطّلاعه على قانون

جمعية الرابطة الشرقية في المنار، وهو من دعاة الجامعة الإسلامية.

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى حضرة المفضال مولانا رشيد رضا صاحب المنار، سلامًا سلامًا.

لقد سرني ما قرأت في صفحات الجرائد الأردوية: أن عصبة من أصحاب

النعرة والغيرة على الشرق من أهل مصر قامت بإصلاح شؤونه وترقية شعوبه،

وإخراج أهله من الذل والانحطاط الذي وصلت هذه الأمم الشرقية إلى غايته،

وألَّفتْ جمعية موسومة بجمعية الرابطة الشرقية، تكون مصر مركزًا لها، وتكون

للجمعية شُعب في كل قطر من الأقطار الشرقية، وزاد فرحي إذ رأيت اسمكم

الشريف من جملة بانيها ومؤسسيها، وكان هذا الفرح والسرور بما أني أحسن الظن

بكم، فإنكم لستم كعامة علماء زماننا هذا، لا يفرقون القشر من اللباب، والماء من

السراب.

بينما كنت في هذا الفرح والسرور إذ وصلتني الأجزاء (الأول والثاني

والثالث) لمجلة المنار الغراء من مجلدها الثالث والعشرين، وقرأت في فاتحة هذا

المجلد ما نصه:

(جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوحدة، وجمع كلمة

الأمة، بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن.. .. ألا وإنه قد أتى الأوان للعمل بما

أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان أهل هذا الزمان، من أهل مصر

والسودان، وسائر العرب والهند والترك والفرس والأفغان) .

فازددت فرحًا على فرح، وبشّرتُ نفسي كما حررتم في هذه الفاتحة (بأن

ليل الذل والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس) ولكن يالخيبة

الأمل إما كان أقصر زمن فرحي وسروري؛ لما طالعت في الجزء الثالث مقاصد

الجمعية وأغراضها، ووجدت الصراحة فيها بأن (غرض الجمعية نشر المعارف

والآداب والفنون الشرقية وتعميمها، وتوسيع نطاقها، وتوثيق روابط التعارف

والتضامن بين الأمم الشرقية على اختلاف أجناسها وأديانها) .

فالألفاظ الأخيرة وإن كانت متشابهة بألفاظ السيد جمال الدين الأفغاني طاب

ثراه، ولكن غرضكم الحقيقي من هذه الجمعية ليس ما كان غرض السيد المرحوم

كما لا يخفى على الناظر في مقاصد جمعيتكم بأول النظر.

أيها الحبر الأعظم: إن مقصد السيد المرحوم الذي قد وجه إليه أفكاره، وبذل

في سبيل جهده قواه، وكتب على نفسه السعي إليه مدة حياته، وأصابه ما أصابه

من البلاء في سبيله - هو إنهاض ما بقي من الدول الإسلامية من ضعفها، وتنبيهها

للقيام على شؤونها تحت ظل الخلافة العظمى، حتى تصير الأمة الإسلامية من

الأمم العزيزة، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجد كان له في الأيام

السالفة [1] ، ولما كان النجاح بهذا العمل الجسيم موقوفًا على تقليص ظل الدول

الغربية عمومًا عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وعلى تنكيس الدولة البريطانية،

خصوصًا في الأقطار الشرقية، بدأ السيد المرحوم هذا الجهاد الأكبر بإصلاح

ذات بين الشرقيين عمومًا، والمسلمين خصوصًا، وبتقوية الصلات العمومية بين

الأمم، وتمكين الألفة في أفرادها، وتأييد المنافع المشتركة بينها، وبالتنبيه على أن

التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة، هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية،

وبالتنقيب عن المسالك الدقيقة التي يسري بها الطامعون في دياجر الغفلات [2] .

أيها العلامة المفضال، هكذا كان سير السيد المرحوم وطريق عمله، وترونه

كما أراه في صفحات مجلته (العروة الوثقى) وهي المجلة التي نفخ السيد المرحوم

بها الروح العالية: روح الحياة، وروح النهضة، التي نرى ذراتها متحركة

وسارية يومًا بعد يوم في الطبقة الراقية من أبناء الشرق، فأين يا مولانا مقاصده العلى

من مقاصد جمعيتكم التي دعوتم إليها أرباب العلم والقلم من أبناء الشرق؟ هل

الجهل فقط هو داء الشرق، ونشر العلوم وتوسيع نطاق المعارف فيه دواؤه؟ هل

تجزمون بأن التعارف العلمي والتضامن الأدبي يؤول على أبناء الشرق بالسعادة

الدنيوية والدينية (التي) تسعد بها الأمم؟ وهل تظنون أن قلوب أبناء الشرق تكون

لها الطمأنينة، وقريحتهم تكون لها السكينة، ويد الأجانب عاملة في شؤونهم تدبر الأمر كيفما تشاء؟ لا والله لا.

نعم ربما يظن قوم في هذه الأزمان أيضًا - مع أن التجارب تعرض عنه

والشواهد تنكره - أن نشر الجرائد، وتأسيس المدارس، وبث العلوم، وتوسيع

نطاق المعارف، أدوية تعالج بها أمراض الأمم المصابة، وأنها هي أسباب تكفل

إنهاض الأمم، وتنبيه أفكارها، وتقويم أخلاقها، ولكن الحق أنه ليس الأمر كذلك.

المدارس في الشرق كثيرة، والجرائد تزداد فيه أعدادها يومًا بعد يوم، وللعلوم

والمعارف دور كثيرة في كل قطر من الأقطار، فمع هذه كلها ما هذا الذل والفقر

والعبودية؟ هل صارت بوجود هذه الأسباب التي يظن سعادة الأمم نتيجة لها أحسن

حالاًً مما كانت عليه قبل زماننا هذا؟ هل استنقذت أنفسها من أنياب الفقر والعسرة؟

هل نجت بها من ورطات الذل والعبودية؟ هل أحكمت الحصون، وسدت الثغور؟

هل نالت بها المنعة والمُنَّة [3] التي تدفع بها غارة الأعداء؟ لا والله لا.

فمع هذا كله إلى أي شيء تدعون الأمم الشرقية عمومًا والمسلمين خصوصًا،

وإلى أي سبيل مسيركم؟

واعلموا يا مولانا أن أول أمر يجب الاهتمام به هو معرفة أصل الداء وأسبابه

الحقيقية، أيمكن لطبيب يعالج مريضًا أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف

ما عرض له من المرض، وما هو سببه؟ كلا ثم كلا، نعم يمكن أن يكون هذا

سير من ليس له الحظ الأوفى من الحذق والكمال، ويكون متطببًا لا طبيبًا، فعلى

الطبيب الحاذق أن يهتم قبل كل شيء بمعرفة أصل الداء وأسبابه، ثم بطريق

علاجه وتعيين دوائه؛ لكي لا يكون الداء أصعب والدواء أعز، فإن معالجة

المرض قبل تعيين أسبابه لا تزيد إلا شدة في المرض، وصعوبة على المريض،

بل ربما تفضي به إلى الموت، فأقول (وهذا قولي في مسألة الأمة المسلمة

خاصة، وأما مسألة الأمم الشرقية فلست الآن بصددها، ويمكن أن أجرد لها فصلاًً

آخر إن ساعدتني الفرصة) .

إن أول مرض لحق الأمة المسلمة هو تشتت أهوائها، وتخالف أميالها، الذي

فرق جمعها وبدَّد شملها، حتى ذهب كل واحد منها إلى ما قاده إليه هواه من غير أن

يراعي جانب الأمة، ويستحفظ فوائدها، أو أن يلتفت إلى ما يمسها، ويهتم بالدفاع

عنها.

انظروا أيها الفاضل الجليل كيف كان بدء الانحلال والضعف في روابط الملة

الإسلامية من جهة دينها ودنياها عندما انفصلت الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة على

عهد العباسية، حيث قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يستجمعوا شرف

العلم والتفقه في الدين، فكثرت بذلك المذاهب، وانفصلت فيها المسالك، ووقع في

الدين الإسلامي تشعب لا مثيل له في دين من الأديان، وكان هذا في مستهل القرن

الثالث من الهجرة النبوية، وبعد ذلك عمت هذه السيول، واندفعت على كل قطر

من أقطار العالم الإسلامي، حتى ما بقي موضع ليسكن فيه الاثنان من المسلمين إلا

وهما المختلفان في المذهب، هذا من جهة دينهم، وأما من جهة دنياهم فاشتد ذلك

الخلاف، وزاد بظهور المغول الذين أوقعوا بالمسلمين قتلاًً وإذلالاًً، حتى أذهلت

الأمة عن أنفسها، وتقطعت الوشائج وانفصمت عرى الاتصال بينهما، فتفرق

الشمل بالكلية، وافترق الناس فرقًا وشيعًا [4] .

هذه هي الداهمة التي دهمت الأمة المسلمة، وطوحتها في غيابة الذل والهوان

وقعر الخمول والسَّكَران [5] ، وما انتبهت وصَحَتْ إلى يومنا هذا انتباهًا صحيحًا

وصحوًا كاملاًً، فالأمر واضح، والطريق ليس بملتبس على من يريد أن يسلك في

سبيل إيقاظها وإنهاضها طريقًا مستقيمًا غير معوج، وما هو إلا السعي في سبيل

توحيد كلمتها، وتشديد ارتباط بعضها مع بعض، هذه كلمة صدق قلتها لكم، وأريد

أن أقولها مرة بعد أخرى، فإن قلبي قد ملئ بها إذعانًا وإيقانًا، وخاصة في زماننا

هذا، خير الأمور التي تستحق أن يجهد في سبيله من يريد الجهاد في سبيل الأمة

وسبيل الدين، بل وفي سبيل الله، هو أن يجاهد في جمع الكلمة المتفرقة لمسلمي

العالم حيثما يمسون، وفي أي قطر يصبحون؛ لأن التشتت والتفرق فقط هو

(أدوى) داء حل بهم، وأهبطهم في هاوية، وما أدراكم ماهيه، إنها هي كون

المسلمين عبيدًا للأجانب حتى في أوطانهم، بعد ما كانوا مولى العالم في الشرق

والغرب.

وها هي (ذي) حقيقة ثابتة لا يسعها الخلاف، جديرة بأن تنظروا إليها. إن

الأمة المسلمة قوية الرجاء بين الأمم، لا تقنط قنوطًا يحكم عليها بالهبوط الثابت،

وبالسبات الدائم، بل كلما قامت لها قيامة رقدت من نوم غفلتها، وانتبهت فقامت

وسارت سير التقدم والرقي، ألا ترون أنها بعدما صدمت بصدمات غارات التتر

والحروب الصليبية جمعت بعد زمن يسير تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية،

وساقت الجيوش إلى أنحاء العالم، ودوخت البلاد، وأرغمت أنوف السلاطين،

حتى دانت لها الدول الإفرنجية، ونفذت أوامرها في الشرق والغرب؟ لا ريب في

أن هذه الأيام كانت للأمة المسلمة أيامًا بيضاء حسانًا، كأنما رجع لها الدهر بأيام

الخلافة العباسية التي لا نظير لها في تاريخ الأمة، ثم بعد ذلك بحكم {وَتِلْكَ الأَيَّامُ

نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) قلب لها الدهر ظهر المجن، فأخذت

تنزل من منزلتها الرفيعة، ودست لها الدول الإفرنجية الدسائس، فتفرقت كلمتها،

وتمزقت جمعيتها، حتى ما بقيت دار من دور المسلمين إلا فيها الأمر والحكم

للأجانب إلا ما شاء الله.

ومع هذا كله ارجعوا البصر إلى ما وقع في زماننا هذا من انتصار الجيوش

الإسلامية القاهرة تحت قيادة سيف الله المسلول، آية من آياته الكاملة، الغازي

مصطفى كمال باشا أيده الله بنصر مزيد، فإنها لما سمعت انتصاره على اليونان،

وانتزاعه الدولة العلية من مخالب الأعداء، فاهتزت لها نفوسها، وأحدث هذا الفوز

حركة قوية في طباعها، حتى خافت عواقبها الدولة التي هي أقوى دول العالم

وأعدى عدى الإسلام والمسلمين، وجعل يسعى أربابها في تسكين جأشهم بقولهم

الزور أن نعوذ بالله أن نكون من أعداء الإسلام والمسلمين (والله يعلم ما يسرون

وما يعلنون) .

نعم قلت: إن الأمة المسلمة هي قوية الرجاء، ولها ميل شديد إلى الوحدة كما

هي اجتمعت بعد الانتشار تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية، فقويت بها

شوكتها، وارتقت ارتقاءً نهائيًّا، مع هذا كله نقول: مما لا ريب فيه أنه كان ما

كان لها من جهة دنياها لا من جهة دينها، والحق أن سر ضعفها الحقيقي كان

مضمرًا في دينها؛ ولأجل ذلك ما مضت من أيام شوكتها أيام تذكر، حتى حصل

السبات ونامت، فكأنما كان لها ذاك الحراك تحولاًً من شق إلى شق آخر في نومها

فأقول لكم يا مولانا قول خبير بصير: إنه لا نجاح لمن يريد خدمة الأمة المسلمة إلا

بدعوتها إلى الاعتصام بحبل دينها، والاقتداء بأحكام شريعتها، فإن لدين هذه الأمة

وشريعتها سلطانًا على أنفسها لا يماثله سلطان الحمية الوطنية والنعرة الجنسية،

فكلما دعيت إليها تحركت لها جؤوشها، واهتزت لها نفوسها، ولبَّتْ واجتمعت،

فحينئذ تتنزل الملائكة عليها، ويؤيدها الله بروح منه، ويتحقق معنى الآية المباركة

{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) .

فالشريعة مورد هذه الأمة ومصدرها، والمسلمون كلهم بحكم شريعتهم

ونصوصها الصريحة مجبولون على الوحدة، والجبلة لا تزول، وإن كانت الجبال

عن مقامها تزول، وكيف يمكن هذا والقرآن يتلى بينهم، فيتلون منه صباحًا ومساء

الآيات المحرضة على الوحدة والوفاق {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103){وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ، وأمثالها كثيرة لا حاجة إلى سردها هنا.

فإن قال قائل: [6] مع تلك الآيات البينات المحكمات المحرضات على الوحدة

والوفاق، ما في المسلمين من التشتت والافتراق، وهم هم في شدتهم في الدين،

والتمسك بعقائدهم الدينية، والإحساس بداعية الحق في نفوسهم فأقول:

إن الأعمال وإن يكن منشؤها العقائد والأفكار، ولكن يكون صدورها موقوفًا

على ضرورة وداعية تدعو الإنسان إلى إصدارها، فلا يمكن الارتياب في هذا أن

عقيدة المسلمين بالأخوة الدينية، ثابتة موجودة في نفوسهم، وما طلعت الشمس

عليهم يومًا واحدًا وهم عنها غافلون، وأما العلل الحقيقية في تباطؤهم عن ارتباط

بعضهم مع بعض، ونصرة إخوانهم في الدين فهي عديدة:

(منها) زوال كل جامعة بين المسلمين في الأغلب ما عدا العقيدة الدينية

المجردة عما يتبعها من الأعمال، فهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، وانقطع

التواصل، وانعدم التعارف بينهم، فمسلمو الهند في غيبة عن أحوال مسلمي المملكة

العربية والتركية، ومسلمو العرب وفارس في غفلة عن شؤون مسلمي الجزائر

ومراكش.

(ومنها) إيقاد الأعداء نار التشتت والتخالف في المسلمين وإغرائهم بعضهم

على بعض بالحقد والضغينة، حتى كاشفت الأمة الأفغانية بعداوة الأمة الفارسية،

وبارزت الأمة العربية مبارزة للأمة التركية، وهكذا جاهرت القبائل منهم مجاهرة

ضد قبائل أخرى.

فزاد الويل والعويل، وعقب خطب بعد خطب، وحدث كرب بعد كرب،

بإغفال أولي الأمر والرأي من المسلمين عن تأدية ما كلفهم الله تعالى من توحيد

كلمتهم حينما يقع التشتت فيها، وتوثيق روابطهم حينما تنفصم عروتها، حتى

قضى الدهر على المسلمين بالذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، فأصبحوا

حقراء بعد ما كانوا أجلاء، وأمسوا فقراء بعد ما كانوا أغنياء، ولا سبيل إلى

تخلص الأمة من هذه الرزايا التي حلت بها إلا بتوحيد كلمتها، وجمع شتاتها ونظم

شملها، ولم شعثها، فهذا ما عندي من الحق واليقين، وأظن أن لا يرتاب فيه

العقلاء وأرباب الفكر السليم من المسلمين.

واعلموا يا مولانا أن أكثر ما كتبت إليكم في هذا الكتاب هو من آراء السيد

المرحوم الأفغاني تغمده الله برحمة منه، وإن كانت الألفاظ في شيء من العبارات

مترادفة أو متخالفة متباينة، ففي خاتمة الكتاب مع الإطالة فيه لا يحسنني [7] أن

أختمه، ولا أسألكم إرجاع النظر إلى عبارة واضحة حسنة كتبها السيد المرحوم فيما

نحن بصدده، فخذوا هذا نصها:

(فيا أيتها الأمة المرحومة هذه حياتكم فاحفظوها، ودماؤكم فلا تريقوها،

وأرواحكم فلا تزهقوها، وسعادتكم فلا تبيعوها بثمن دون الموت، هذه هي

روابطكم الدينية، فلا تغرنكم الوساوس، ولا تستهويكم الترهات، ولا تدهشكم

زخارف الباطل، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم، واعتصموا بحبال الرابطة

الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي، والفارسي بالهندي،

والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة النسبية، حتى إن الرجل منهم ليألم

لما يصيب أخاه من عاديات الدهر، وإن تناءت دياره، وتقاصت أقطاره، هذه

صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم، وفيها عزكم ومنعتكم، وسلطانكم وسيادتكم

فلا توهنوها.

ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل، فالعدل أساس الكون وبه

قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم، وعليكم أن تتقوا الله وتلزموا أوامره

في حفظ الذمم، ومعرفة الحقوق لأربابها، وحسن المعاملة وإحكام الألفة في المنافع

الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم، وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة، فإن

مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم، كما لا تقوم مصالحهم إلا بمصالحكم، وعليكم أن

لا تجعلوا عصبة الدين وسيلة للعدوان، وذريعة لانتهاك الحقوق، فإن دينكم ينهاكم

عن ذلك، ويوعدكم عليه بأشد العقاب، هذا ولا تجعلوا عصبتكم قاصرة على مجرد

ميل بعضكم لبعض، بل تضافروا بها على مباراة الأمم في القوة والمنعة، والشوكة

والسلطان، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة، والفضائل والكمالات الإنسانية،

اجعلوا عصبتكم سبيلاًً لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد أخيه؛

ليرفعه من هوة النقص إلى شاهق الكمال {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا

عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .

وفي رسالة أخرى سأعجلكم ببيان جامعة بين المسلمين وطريق القيام بها

والدعوة إليها، فإن كتابي هذا قد طال، فتقبلوا مني في الختام أحسن التحية والسلام

أنا العاجز أبو الحسنات الندوي أحد رفقاء دار المصنفين

...

...

...

...

شبلي نزل

...

...

...

...

...

...

... أعظمكده (الهند)

(المنار)

كتبت إلى هذا العالم المصلح الغيور في مرجوع كتابه هذا بيانًا للفرق بين

الجامعتين الشرقية والإسلامية، وكون إحداهما تعزز الأخرى ولا تنافيها، وقد دعا

موقظ الشرق السيد جمال الدين إليهما معًا، ونبهته لاغترار إخواننا مسلمي الهند

بالكماليين بعد اغترارهم بالاتحاديين إثر غرورهم بالسلطان عبد الحميد، وسوغ

لي هذا ما بدأ به مصطفى كمال باشا من التمهيد لإلغاء الخلافة بالفعل، من جعلها

روحية لا سلطان لصاحبها ولا حكم، فرد على كتابي هذا بالكتاب الثاني، وسننشره

في الجزء الآتي.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا الغرض مقتبس من ترجمة الأستاذ الإمام للسيد المنشور في أول ترجمته لرسالة السيد في الرد على الدهريين بتصرف.

(2)

هذا مأخوذ من منهج العروة الوثقى بتصرف ما (راجع ص222 من الطبعة الثانية للجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام (المنشآت) .

(3)

المنة بالضم كالقوة لفظًا ومعنى، وهذه المسألة مأخوذة بالمعنى من مقالة العروة الوثقى التي نشرناها بعنوان (ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها) .

(4)

اقتبس الكاتب العبارة في بدء الانحلال والضعف من مقالة العروة الوثقى التي نشرناها في تاريخ الأستاذ الإمام (ج2) بعنوان (انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك) .

(5)

السكران بالتحريك: مصدر سكر كالسكر بالضم والسكون.

(6)

قوله: مع تلك الآيات إلخ مضطرب، ومراده منه الظاهر والسؤال والجواب مقتبسان من مقالة العروة الوثقى التي أشرنا إليها في الحاشية السابقة، ولكن بسوء تصرف وزيادة ونقص.

(7)

يريد أن يقول: إنني على إطالة هذا الكتاب لا يحسن مني أن أختمه قبل أن أسألكم رجع البصر إلى عبارة للسيد الأفغاني واضحة في مقصدي وهذا نصها، وأقول: إن هذه العبارة هي آخر مقالة للتعصب من مقالات العروة الوثقى.

ص: 625

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية منكوبي الإعانة السورية

أُلِّفَتْ في القاهرة جمعية لتنظيم جمع الإعانات لمنكوبي سورية على إثر

الدعوة التي أذاعها الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، وافتتح باب التبرع لها هو

وأهل بينه وأعضاء الوفد المصري، وكان المؤسسون للجمعية قد ارتأوا أن تكون

تحت رعاية عالية ورياسة سامية، فطرقوا أبواب بعض كبار الأمراء، فألفوا

آذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وقد آن للناس أن يعرضوا عن ضخامة الألقاب وسمو

الأنساب، ولا يعولوا إلا على أولي الألباب، فإن قيمة النسب الصحيحة لا تعدو

حسن تأثير الوراثة في لب الإنسان وجوهره وهو العقل والقلب، على أن الجمعية

قد أُلِّفَتْ من خيار البيوت المصرية والسورية حسبًا وأدبًا وأمًّا وأبًا، وقد أظهر

الأعضاء السوريون لإخوانهم المصريين رغبتهم في إسناد رياسة الجمعية إلى واحد

منهم، فقال صاحب المعالي فتح الله باشا بركات: بل الأولى أن تختاروا واحدًا

منكم؛ لأن المصاب واقع على شعبكم، وإن كنا نحن والسوريون أمة واحدة باعتبار

آخر، وليس المقام هنا مقام مباراة في رياسة، بل مقام تعاون على تخفيف آلام

نكبة نشعر بها كلنا، وأنا مستعد للعمل معكم تحت رياسة أصغركم سنًّا، فحبذ قوله

هذا أصحاب السماحة والسعادة والعزة عبد الحميد البكري وأحمد شفيق باشا وعبد

الحميد بك سعيد، فلم يسعنا معشر السوريين إلا اتباع إجماعهم، فاعتزلنا الجلسة

وانتخبنا الأمير ميشيل لطف الله لما له من السابقة الحسنة في أمثال هذه الجمعيات

الخيرية سعيًا وإدارة ومساعدة.

هذا وإن شاعر مصر أحمد شوقي بك الملقب بأمير الشعراء بغير منازع

وشاعر الشام خير الدين أفندي الزركلي قد نظم كل منهما قصيدة في كارثة دمشق

وثورة سورية، أنشدتا في حفلة حافلة لجمعية الإعانة، فرأينا أن ننشرهما في

المنار وهذا نص الأولى:

سلام من صبا (بَرَدَى) أرق

ودمعٌ لا يكفكف يا دمشقُ

ومعذرةُ اليراعة والقوافي

جلال الرزء عن وصف يدق

وذكرى عن خواطرها،لقلبي

إليك تَلَفُّتٌ أبدًا وخفقُ

وبي مما رَمَتْكِ به الليالي

جراحات لها في القلب عمق

دخلتُكِ والأصيل له ائتلاقٌ

ووجهكِ ضاحك القَسَمات طلق

وتحت جنانكِ الأنهار تجري

وملء رُباكِ أوراقٌ ووُرْق

وحولي فتيةٌ غرٌّ صِباحٌ

لهم في الفضل غاياتٌ وسبْقُ

على لَهَوَاتِهم شعراءُ لُسنٌ

وفي أعطافهم خطباء شُدق

رواةُ قصائدي فأعجب لشعر

بكلِّ محلة يروية خَلْقٌ

غمزت إباءهم حتى تلظت

أنوف الأسد واضطرم المدق

وضج من الشكيمة كل حرٍّ

أبيٍّ من أمية فيهِ عِتق

***

لحاها الله أنباءً توالت

على سمع الولي بما يَشُقُّ

يفصِّلها إلى الدنيا بريدٌ

ويُجملها إلى الآفاق برْقُ

تكاد لرَوْعةِ الأحداثِ فيها

تُخالُ من الخرافةِ وهي صدقٌ

وقيل معالم التاريخ دُكَّت

وقيل أصابها تَلفٌ وحرقُ

ألستِ دمشق للإسلام ظئرًا

ومرضعةُ الأبوَّة لا تُعقُ

صلاح الدين تاجك لم يُجمَّلْ

ولم يُوسَم بأزين منه فرْقُ

وكل حضارة في الأرض طالت

لها من سرحك العلويِّ عرق

سماؤك من حلى الماضي كتابٌ

وأرضكِ من حلى التاريخ رَقٌّ

بنيتِ الدُّولة الكبرى وملكًا

غبارُ حضارتيه لا يُشقُّ

له بالشام أعلامٌ وعرسٌ

بشائرهُ بأندلس تدق

***

رباع الخلد ويحك ما دهاها

أحقٌّ أنها دَرَست أحقُّ

وهل غرف الجنان منضَّداتٌ

وهل لنعيمهنَّ كأمس نسقُ

وأين دُمى المقاصر من حجال

مُهتكة وأستار تُشَقُّ

برزْن وفي نواحي الأَيْكِ نارٌ

وخلف الأَيْكِ أَفْراخٌ تُزَقُّ

إذا رُمنَ السلامة من طريقٍ

أتتْ من دونه للموت طرقُ

ليلٌ للقذائف والمنايا

وراء سمائه خطفٌ وصعقُ

إذا عصف الحديد احمرَّ أفقٌ

على جنباته واسودَّ أفقُ

على من راع غيدك بعد وهن

أبين فؤاده والصخر فرق

وللمستعمرين وإن ألانوا

قلوب كالحجارة لا تَرقُّ

رماكِ بطيشه ورمى فرنسا

أخو حرب به صلفٌ وحمقٌ

إذا ما جاءه طلابُ حقٍّ

يقول عصابة خرجوا وشقوا

***

دمُ الثوار تعرفه فرنسا

وتعلم أنه نورٌ وحقُّ

جرى في أرضها فيه حياةٌ

كمنهل السماء وفيه رزقُ

بلادٌ مات فتيتها لتحيا

وزالوا دون قومهم ليبقوا

وحُرِّرتِ الشعوب على قناها

فكيف على قناها تُسترقُّ

***

بني سورية أطَّرحوا الأماني

وألقوا عنكم الأحلام ألقوا

فمن خِدَعِ السياسة أن تغروا

بألقاب الإمارة وهي رقٌّ

وكم صَيَدٍ بَدَا لك من ذليل

كما مالت من المصلوب عنقُ

فتوقُ الملكِ تحدُثًُ ثم تمضي

ولا يمضي لمختلفين فتقُ

نصحتُ ونحن مختلفون دارًا

ولكن كلنا في الهمِّ شرقُ

ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌ

بيانٌ غير عطف ونطقُ

وقفتم بين مَوْتٍ أو حياةٍ

فإن رُمْتمْ نَعيم الدَّهرِ فاشقوا

وللأوطان في دم كل حرٍّ

يدٌ سَلَفَتْ ودَينٌ مستحقٌ

ومن يَسفي ويشربُ بالمنايا

إذا الأحرار لمْ يُسقَوْا وَيسقوا؟

ولا يَبني الممالكَ كالضحايا

ولا يُدني الحقوقَ ولا يحقُّ

ففي القتلى لأجيال حياة

وفي الأسرى فدى لهمو وعتق

وللحرية الحمراء بابٌ

بكل يد مضرجة يُدَقُّ

جزاكم ذو الجلال بني دمشق

وعز الشرق أوله دمشق

نصرتم يوم محنته أخاكم

وكلُّ أخ بنصر أخيه حقُّ

وما كان الدروزُ قبيلَ شرٍّ

وإن أُخذوا بما لَمْ يَستحقُّوا

ولكن ذادةٌُ وقراةُ ضيف

كينبوع الصفا خَشنوا ورَقُّوا

لهم جبلٌ أَشَمٌّ له شِعافٌ

مواردُ في السحابِ الجونِ بُلْقُ

لكلِّ لبوءة ولكلِّ شِبل

نِضال دون غابتهِ ورَشقُ

كأن من السموأل فيه شيئًا

فكلُّ جهاتهِ شرفٌ وخُلُقُ

_________

ص: 634

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجمعية العلمية للمعارف الإسلامية

أسس بعض المستشرقين من علماء الألمان الأعلام جمعية بهذا الاسم في

(برلين) عاصمة السلطنة الألمانية العامة، وقد كان هؤلاء العلماء يبحثون قبل

تأسيس هذه الجمعية في العلوم الإسلامية، كما أن جماعات أخرى منهم تبحث في

جميع العلوم والفنون وشؤون الأمم، بدقتهم التي فاقوا فيها جميع علماء الشعوب

الأخرى، ولكن هذه الجمعية لها شأن لم يكن لغيرها من جماعات العلماء يرجى أن

يكون فاتحة خير عظيم، وإننا لم نطَّلع على قانونها، وإنما أحدث هذا الرجاء في

أنفسنا ما نشروه من الدعوة إلى التعاون مع علماء المسلمين في مصر وغيرها، وقد

أرسلوا إلينا نسخة من الدعوة العربية المبينة لأغراض الجمعية، وهذا نصها:

***

دعوة الألمان إلى علماء الإسلام

أي سادة العلماء:

لدراسة تعاليم دين الإسلام وتعقب أحوال المسلمين العامة فيما يتعلق بجنسيتهم

ومدنيتهم، وما هم عليه من حالة اقتصادية وعمرانية أسست جمعيتنا التي لا تتداخل

في السياسة قط.

وعملُنا في هذه الجمعية كما يُرى من أغراضها ليس بالأمر الهيِّن إلا أنه

يصير سهلاً زلالاً لو أن إخواننا علماء الدين الإسلامي بسطوا أكفهم للتعاون معنا في

مسعانا تعاونًا علميًّا حتى نحقق أغراضنا (التي) هي إحدى آمال الأمم الإسلامية

الناهضة.

ولما كانت في طليعة تلك الأمم الناهضة مصر: مصر ذلك البلد الذي بقي

حتى اليوم يمد العالم الإسلامي بنور تعاليم تلك الديانة الحنيفة، فإننا نعتقد فيما بيننا

أن أول من يلبي دعوتنا هذه لا شك علماء مصر الأماجد، فهم أكثر منا تشبعًا

بوجوب العمل لتأييد ما نسعى إليه.

نعم إن من نتائج هذا التفاهم العلمي أن تنقشع - قريبًا كان أم بعيدًا - تلك

الضبابة الكثيفة التي مازالت حتى الساعة تحجب الشرق عن أعين الغربيين، وهو

السر الوحيد فيما نراه من بقاء اختلاف كانت له نتائج وخيمة وقاسية، لم تتخلص

منها الأقطار الشرقية والغربية على السواء.

إلا أن ساعة الخلاص تقرب كلما ثبت للغرب شيئًا فشيئًا وجوب الاهتداء

بنور التعاليم الحقة لدين الإسلام، ولن يتهيأ للغرب ذلك حتى يُمدَّ بمساعدة علمية

محضة، وهذا ميدان عمل فسيح لنا ولكم يا حضرات أعلام الإسلام (ولن يضيع

الله أجر من أحسن عملاً) والسلام

...

... رئيس الجمعية الألمانية للمعارف الإسلامية

...

...

...

الأستاذ المستشرق

...

...

...

...

...

كامفماير

...

...

العنوان:

Prof. Dr. G. Kampffmeier

Werderstr. 10

Berlin - Dahlem Germani

(المنار)

نرجب ونرحب بهؤلاء الأعلام وبجمعيتهم، ونشكر لهم عملهم باللسان والقلم،

والعلم والعمل، وإنا لما يدعوننا لمستجيبون في كل ما نحن عليه قادرون،

وننصح لمشيخة الأزهر أن تجيب دعوتهم، وتطلب الوقوف على جميع أعمالهم

وأبحاثهم، وأن يمد إليهم يد المساعدة في كل ما يطلبون منها، وبذلك تخدم الإسلام

خدمة هي أحق بها من غيرها، ونحث سائر علماء الإسلام في الشرق والغرب على

ذلك أيضًا.

***

المجموعة المباركة في

الصلوات المأثورة

جاءنا من مشيخة الجامع الأزهر الشريف ما يأتي لينشر في المجلة:

أرسل حضرة محمود شفيق البكري التاجر بميت غمر لمشيخة الجامع الأزهر

الشريف مجموعة تدعى (بالمجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال

المبرورة تأليف عبده محمد بابا) لإبداء رأيها نحو ما تضمنته تلك المجموعة من

الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم.

والمشيخة تعلن أن ما جاء في هذه المجموعة من أحاديث الجزاء ظاهرة

الوضع والاختلاق، سيما ما سماه مؤلفها حديث عبد الله بن السلطان، وفيه إغراء

للعوام على اقتراف المآثم وترك الواجبات، وعدم المبالاة بها اتكالاً على كلمة

استغفار أو دعاء يقولها مرتكب ذلك ليخلص من شر ما اقترف، وأن هذه المجموعة

وأمثالها لا يضعها إلا جاهل أعماه جهله عن الطريق السوي ، أو ضال مضل قصد

أن يصرف العوام عن أحكام الشرع الشريف، ويجعلهم في حل من عدم الوقوف

عند حدوده من طريق شبه شرعي اهـ.

...

...

...

... شيخ الجامع الأزهر

...

...

...

...

(الختم)

(المنار)

دعاء عبد الله بن سلطان أو حديثه خرافة مضلة للعامة، كان قد طبعها من

زهاء ثلاثين سنة دجال من الدجاجلة اسمه عبد الله القباج، وبينّا ما فيه من

الإضلال وهدم الدين في العدد 40 من المنار الذي صدر في شعبان سنة 1346،

ثم أعاد طبعه دجال آخر، فعدنا إلى التحذير منه بعد سنين.

_________

ص: 637

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الحديثة

(الذهب الخالص، المنوه بالعلم القالص)

كتاب في أصول الإيمان والإسلام من العقائد والعبادات والآداب، من تصانيف

أكبر علماء الإباضية وأشهرهم في هذا العصر الشيخ محمد بن يوسف

إطفيش الجزائري رحمه الله تعالى، وقد طبعه في العام الماضي، وعلق عليه

بعض الحواشي تلميذه وحفيد أخيه الأستاذ الشيخ أبو إسحق إبراهيم إطفيش صاحب

كتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين) ومباحث الكتاب مؤلفة من سبعة أركان

(الأول) معرفة الله تعالى وسائر المسائل الاعتقادية، ومنها الفرز بين كبائر الشرك

والنفاق والخوف والرجاء إلخ، وأحكام الولاية والبراءة والوقوف بينهما، والملل

الست وأحكامها (الركن الثاني) في النجاسة والطهارة والصلاة (الركن 3 و4

و5 و6) في الزكاة والصيام والحج والعمرة (الركن السابع) في الحقوق.

فنحث كبار العلماء الرسميين وجميع العلماء المستقلين على الاطلاع على هذا الكتاب

وهو مطبوع بالمطبعة السلفية 1443، على ورق جيد وصفحاته 340 من قطع

المنار، وثمن النسخة منه 25 قرشًا.

***

(المنهاج)

مجلة علمية أدبية إسلامية لمنشئها الأستاذ الشيخ أبي إسحق إبراهيم إطفيش

الجزائري نزيل مصر، وقد صدر منها جزآن حافلان بالمسائل الدينية والأدبية

والتاريخية، وكان من بواكر ثمراتها الرد على كتاب الشيخ علي عبد الرازق

راوندي هذا العصر في محاربة الإسلام، ونصر الإفرنج على المسلمين، ومؤيد

دعاية الملاحدة اللادينيين بشبهات الدين، وإذا كان منشئ هذه المجلة من كبار علماء

الإباضية وخليفة أشهر علمائهم في العصر علمًا وبيتًا، فالمرجو أن تكون مجلته من

أسباب التأليف والوحدة بينهم وبين أهل السنة والشيعة، والخلاف بينهم وبين

الشيعة أشد، وقد كان هو الذي بادر إلى الرد على بعض الكتب التي نشرها بعض

دعاة التشيع في هذه السنين للطعن في أئمة حفاظ السنة ونبذهم بلقب النصب

وكان ردًّا معتدلاً، فعسى أن تنال ما يكافئ اجتهاد منشئها الغيور على الأمة والملة

من الرواج والانتشار، وقيمة الاشتراك فيها 100 قرش.

_________

ص: 640