المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ربيع الأول - 1348ه - مجلة المنار - جـ ٣٠

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (30)

- ‌المحرم - 1348ه

- ‌فاتحة المجلد الثلاثين

- ‌العيد الذهبيلشيخ الشعراء ونادرة الأدباء ونابغة الفيحاءعبد الحميد بك الرافعي

- ‌مسألة قتل اليهود الأنبياء بغير حقوطريقة الأزهريين في المناقشات والفهم

- ‌اعتذار عن قلة مباحث هذا الجزء

- ‌تعزية في مصاب زميل كريم

- ‌صفر - 1348ه

- ‌أسئلة في إهداء قراءة القرآن للموتى بالأجرة

- ‌فتاوى المنار

- ‌حكم من تبرأ منهن النبي صلى الله عليه وسلمكالنائحات، ومدة الحداد

- ‌الجمع بين مسألة الذكران والإناث في المدارس

- ‌تاريخ حروف الكتابة ومكان العربية منها

- ‌الفريدة العصماء

- ‌ميزانية الأزهر

- ‌الحالة السياسية العامة في مصر

- ‌تطور الإصلاح في الحجاز

- ‌أداء الأمير شكيب لفريضة الحج

- ‌ربيع الأول - 1348ه

- ‌أسئلة من الشيخ محمد علي اليماني

- ‌أسئلة أخرى من صاحب الإمضاء في بيروت

- ‌هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم

- ‌ماذا يقال عن الإسلام في أوربة(2)

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌الرحيق المختوم

- ‌مشروع الاتفاق الجديدبين إنكلترة ومصر

- ‌ربيع الآخر - 1348ه

- ‌مسألة انشقاق القمر

- ‌الاستفتاء في حقيقة الربا

- ‌هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم

- ‌بيان إلى العالم الإسلاميمن جمعية حراسة المسجد الأقصى

- ‌منشور المندوب السامي في فلسطين

- ‌الآراء في مشروع الاتفاق الجديد

- ‌الأزهر الأزهر والدين في هذا العصر

- ‌جمادى الأولى - 1348ه

- ‌بقية الكلام في أحاديث انشقاق القمر

- ‌ترجمة جديدة للقرآن الكريم

- ‌قواعد الصحة في الإسلام منذ 1348 سنة

- ‌الفتنة في نجد - أسبابها ونتائجها

- ‌جمادى الآخرة - 1348ه

- ‌الاستفتاء في حقيقة الربا

- ‌ملاحظات على كتاب المسيو درمانغامالمُعَنْوَن بحياة محمد

- ‌السيد عبد الباسط فتح اللهوفاته وملخص ترجمته

- ‌فريضة الحجودعاية ملاحدة السياسة الشريفية لتركهابفتاوى يفترونها

- ‌إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شعبان - 1348ه

- ‌جوابنا عن أسئلة الربا في الفتوى الهندية

- ‌أسئلة مختلفة من بيروت

- ‌فتاوى المنار

- ‌السيرة النبويةبقلم المسيو مونته المستشرق السويسري

- ‌مناظرةفي مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

- ‌مُلك اليهود وهيكلهمومسيحهم والمسيح الحق

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌المجمع المصري للثقافة العلمية

- ‌رمضان - 1348ه

- ‌الاستفتاء في حقيقةالربا

- ‌نظرية داروين والإسلام

- ‌الانتداب في البلدان العربية

- ‌مناظرةفي مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

- ‌تفسير الشيخ طنطاوي

- ‌عيد الجلوس لملك الحجاز ونجد

- ‌فتنة نجد - عاقبتها

- ‌الاتفاق العربيبين مملكة الحجاز ونجد ومملكة العراق

- ‌كلمة شيخ الأزهر السابقفي حوادث فلسطين

- ‌تهنئة المنار لجريدة الفطرة الإسلامية

- ‌ذو القعدة - 1348ه

- ‌تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن

- ‌تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها

- ‌مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

- ‌مشروع فرنسي عظيم الشأن في الحجاز

- ‌مصر والحجازومفسدة عالم جريدة الأهرام

- ‌الكتابة بالحروف اللاتينية في جاوة

- ‌ذو الحجة - 1348ه

- ‌تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن

- ‌مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

- ‌تقاريظ للجزء التاسع من التفسير

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌أهم حوادث الشرق في هذا العام

- ‌خاتمة المجلد الثلاثين

الفصل: ‌ربيع الأول - 1348ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، الذي ختم به النبيين،

وأكمل به الدين، وأرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه

الهادين المهديين، ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن العدد الأول من مجلتنا هذه قد صدر في العشر الأخير من شوال

سنة 1315 الموافق لشهر مارس (آذار) سنة 1898 ميلادية، بشكل صحيفة

أسبوعية ذات ثماني صفحات كبيرة، وفي السنة الثانية جعلناها مجلة أسبوعية

بشكلها الذي هي عليه الآن، وأصدرنا أول جزء من السنة الخامسة في أول المحرم

سنة 1320 - 10 أبريل (نيسان) سنة 1902 - واستمر ذلك إلى السنة السابعة

عشرة ، فقد صدر الجزء الثاني عشر منها بتاريخ ذي الحجة سنة 1332 (نوفمبر

سنة 1914) وكانت قد أُضرمت نار الحرب المدنية الكبرى، فاختل في أثنائها نظام

صدور المنار في أوائل سنيه وأواخرها، وجعلنا أجزاء السنة عشرة؛ لأن الورق

والحبر غلا سعرهما حتى تضاعف أضعافًا، وامتنع وصول الصحف المصرية إلى

كثير من الممالك والأقطار، وساءت معاملات الناس، ومن سنة 1333 إلى سنة

1347 لم يصدر من المنار إلا 12 مجلدًا في 15 سنة، فنقص من مجلداته ثلاثة

أُدْمِجَتْ أو أُدْغِمَتْ في هذه السنين، ولولا ذلك لوجب أن يكون المجلد الذي نفتتحه

اليوم المجلد الثالث والثلاثين.

ولكننا إذا اعتبرنا في تاريخه السنين الشمسية يكون هذا المجلد هو الحادي

والثلاثين، فالذي نقص من مجلدات المنار عن سنيه القمرية ثلاثة، وعن سنيه

الشمسية اثنان فقط، ونحمد الله تعالى أن قَدَّرَنَا على استمرار إصداره في تلك

السنين النحسات، فمن المعلوم أن أكثر قرائه المؤدين لحقوقه هم خيار المسلمين

المستنيرين، الذين يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حال أمتهم بالجمع بين سعادة

الدنيا وهداية الدين، وهم قليلون ومتفرقون، والموسرون منهم هم الأقلون، ومن

عداهم لا يؤدي الحق إلا ما دمت عليه قائمًا وكان المتقاضي له مُلازمًا {وَالْبَلَدُ

الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً} (الأعراف: 58) .

ونرجو من فضل الله تعالى أن نَثْبُت على هذا التاريخ في إصداره ما دمنا

متمتعين بالصحة، بعد أن مَنَّ علينا بدار صالحة للسكنى وللمطبعة، وقد تأخر

صدور بعض أجزاء المجلد الماضي لما عرض لنا من المرض في أول عامه والنقلة

في آخره.

وأما الذي نُذَكِّر به القراء في فاتحة المجلد الثلاثين من الشؤون الإسلامية على

عادتنا في هذه الفواتح، فهو أن الحملة على الإسلام قد اشتدت في هذا العهد من

خصومه في الداخل والخارج، أعني من قِبَل دول الاستعمار ودعاة النصرانية،

وهم طلائعها وحُداتها، ومن أعوانهم وأنصارهم وتلاميذهم في البلاد الإسلامية

نفسها، ولست أعني بهؤلاء من يستخدمهم المبشرون من نصارى القبط والسوريين

والأرمن وغيرهم، بل أعني من هم أشر منهم وأضر، وأدهى وأمر، من ملاحدة

المسلمين، من الترك والإيرانيين والأفغانيين، ودعاتهم وأخدانهم من المصريين،

وأشباههم من السوريين والعراقيين، ومن الهنود والأفريقيين، وسائر الشعوب

الإسلامية، الذين سممتهم التربية الإفرنجية، وأفسدتهم الآراء المادية، وخنثهم

الإسراف في الشهوات البدنية، ونحن نطلق لقب الإلحاد على كل من يسمي خطة

هؤلاء الكماليين في نبذ الشريعة الإسلامية برمتها من حكومتهم، والتمهيد لمحو

عقائد الإسلام وآدابه وعباداته من نابتة شعبهم، بمنع اللغة العربية من جميع بلادهم،

وترجمة القرآن بما لا يؤدي حقائق معانيه من لغتهم، وكتابته كغيره بالحروف

اللاتينية، للإجهاز على ألفاظه وأساليبه المعجزة، بل كل من يسمي هذه الخطة

إصلاحًا ويحسنها ويدعو إليها، فهو عدو للإسلام وولي لأعدائه، وعداوة الإسلام

أعم من الارتداد عنه والكفر به، فإن كان مع هذا زنديقًا يدَّعي الإسلام ويخفي

الكفر، فإفساده أعم وأكبر من إفساد الكافر الأصلي والمرتد، لأن الجاهلين بحقائق

الإسلام من المسلمين يغترون بكلامه، فيفتنهم عن دينهم أو يشككهم فيه.

وإننا نرى ملاحدة بلدنا هذا طبقات بددًا، تسلك طرائق قددًا:

(الطبقة الأولى) :

المجاهرون بالكفر والصد عن الدين، والطعن في عقائده، وإلقاء الشكوك

والشبهات فيها، بما يكتبون في الجرائد والمجلات المختلفة، ومنهم صاحب مجلة

ومطبعة في مصر معروف، وفي حلب مجلة حديثة مثلها يظهر أن صاحبها مقلد

ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم،

ويثني عليهم وينوه بآرائهم، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به

بإمضائه.

ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين، الذي كتب مقالات في تقبيح

النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام،

وطلب أن تكون حكومة معطلة (لا دينية) ومقالات في سن قانون مدني للأحوال

الشخصية، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الإسلامية، وقد كان من أركان محرري

السياسة، ويقال: إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود. وأفراد هذه الطبقة لا

يدّعون التدين ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل، بل منهم من يفتخر بذلك.

(الطبقة الثانية) :

الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويمتعضون إذا وُصفوا بالزيغ والإلحاد،

وهم مع ذلك يطعنون في أصوله، ويجحدون بعض ما هو مجمع عليه ومعلوم

بالضرورة منه، ويشككون في بعض آيات القرآن، وهم لأفراد من الطبقة الأولى

إخوان وأخدان وأعوان، ويسمون الترك الكماليين ومقلدتهم: مصلحين، ويدافعون

عنهم بألسنتهم وأقلامهم، أو أقلام أفراد الطبقة الأولى.

ورأي هؤلاء في الدين أنه رابطة اجتماعية سياسية يجب أن يكفي في

الاعتراف لأهلها به موافقتهم للجمهور في بعض الشعائر والمشخصات العامة،

كالتجمل والزيارات في الأعياد، وإن لم يصل صاحبها صلاة العيد، واحتفال

الجنائز ومآتمها، وقراءة القرآن فيها، وإن اشتمل ذلك على أعمال كثيرة يحرِّمها

الدين، وكزيارات ليالي رمضان وطواف المسحرين فيها، ولكن الصيام نفسه ليس

ركنًا من هذه الشعيرة، ولا شرطًا لها، وكذلك الصلوات الخمس - حتى الجمعة -

والزكاة لا يدخلان في هذا الدين الرسمي من باب ولا طاق، فإنهما عندهم من

الأمور الشخصية، وتُعَدُّ كاستباحة السُّكر والقمار وغيرهما من المنكرات والفواحش

مما تتناوله الحرية الذاتية، كما أن ما تقدم من الطعن في الدين وخلفائه وأئمته مما

تتناوله حرية الأفكار، ويباح الخوض فيه للألسنة والأقلام، ونشره في الكتب

والرسائل، والمجلات والجرائد. قال بعضهم ما معناه: إذا تكلمتُ بلسان الدين أقول:

إن ما في القرآن من كذا وكذا، صحيح مسلَّم، وإذا تكلمت بلسان العلم والعقل أقول:

إنه غير صحيح وغير مسلَّم، يعني أن هذا الذي يثبته القرآن صحيح في اعتقاد

المسلمين، صحيح ومسلَّم عندهم بمحض التقليد، ولكنه غير صحيح ولا ثابت بدليل

عقلي ولا علمي، بل ربما يبطله الدليل.

ولولا أن قائل هذا زنديق ذو لسانين يُسِر الكفر بوحي الله، وإن قال أحيانًا:

قال الله، قال رسول الله - لما استباح التشكيك فيه بمثل هذا من قوله، بل لكان إثبات

كتاب الله تعالى للشيء أقوى برهان عنده على ثبوته في نفسه، وإن لم يثبته أحد

من خلقه بنظريات فكره وما وصلت إليه مباحث علمه، فإن علم الله محيط بكل

شيء من خلقه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بإذنه، أي بما وهبهم من أسباب

كسبه من الحس والعقل، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل ما ثبت عند البشر

من هذين الطريقين الكسبيين لهم، كان مجهولاً قبل ذلك عندهم، وذلك لا يقتضي

عدم ثبوته في نفسه ولو لم يثبته الوحي الصحيح، فكيف إذا أثبته.

(الطبقة الثالثة) :

الغماليج الإِمعون من مرضى القلوب المقلدين، الذين يشايعون المؤمنين إذا

كانوا معهم، ويجارون الملحدين إذا وُجدوا بينهم، فلا يُعرف لهم رأي ثابت مستقر

ينصرونه ويردون ما خالفه، وأما سيرتهم في العمل فهي تابعة لتربيتهم في بيوتهم،

وحال عشرائهم من لداتهم وأترابهم، ورفاقهم في المدارس وجيرانهم، فتراهم

يجمعون بين الكفر والإسلام، ومنهم من يصلي الصلوات الخمس لأنه تربى على

ذلك، ثم يقر ما هو كفر بإجماع المسلمين، وينصر الملاحدة القائلين به، فإسلامهم

تقليدي، وإلحادهم تقليدي، والغالب على أمرهم من يكون أكثر معاشرة وارتباطًا

بهم، ومساعدة لهم على أهوائهم ورغائبهم، ومنهم منهوم المال، ومفتون الجاه.

وثَم طبقات أخرى مدغم بعضها في بعض، فيعسر الحكم عليها بالقطع، على

تفاوت الأفراد فيها في العمل والفكر.

وطالما ضربت مثلاً لمسلمي الأمصار المتفرنجة وطبقات الملاحدة: اختلاط

الماء الحلو بالماء الملح، في مثل شط العرب من جهة البصرة، وساحلي رشيد

ودمياط من مصر، فما كان بين العذب الفرات والملح الأجاج من المائين يتفاوت

على نسبة القرب والبعد من كل منهما، وهكذا نرى بعض المسلمين المتفرنجين،

منهم ما غلب عليه أجاج الكفر، فصار من أهله مُسرًّا له أو معلنًا، ومنهم المزُّ بين

عذوبة الإيمان وملوحة الإلحاد، والمزازة فيه على درجات، بعضها مقطوب لا

تكاد تشربه إلا مقطِّبًا، وبعضها مغلوب إذا تجرعته لا تكاد تسيغه إلا متهوعًا.

ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض، والخُبْر الطويل العريض، أن من أفراد

أولئك الملاحدة دعاة الكفر، وسعاة للصد عن الإسلام، وأن منهم من يأخذ على ذلك

جعلاً من جميعات التبشير بالنصرانية، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض

جماعات اليهود البلشفية والصهيونية، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ

أجره منها، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها،

ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتَّابهم الأحرار، والحظوة

عندهم، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا

لهم على أقوامهم، ألم تر إلى المستعمرين والمبشرين من السكسون واللاتينيين،

كيف نوَّهوا وينوِّهون بعلي عبد الرازق وكتابه المعلوم كما رأيت في البرقيات العامة

في إبان ظهوره، وكما ترى في المقال الأول من مقالات هذا الجزء مترجمًا عن

كتاب فرنسي جديد، أُلِّف للإغراء بهدم الإسلام وتنصير المسلمين.

كان المرحوم الأستاذ الشيخ محمد مهدي وكيل مدرسة القضاء الشرعي أول

من أنبأني بأنه وجد في مصر جماعة تتعاون على الصد عن الإسلام، بالطعن في

شريعته، وفي حكومته، وفي لغته، وفي أئمته، وفي كل من نوَّه بهم التاريخ من

الخلفاء، وكبار العلماء والأدباء، وفي جمهور سلفه في أرقى العصور، ثم ظهرت

آثارهم الخفية في بعض الصحف العامة، وفيما نشروا من المصنفات الخاصة،

وكان تعاونهم بمقتضى تعارفهم وتوادهم، وانتماء بعضهم إلى حزب سياسي

ينصرهم.

ألم تر أن الوزارة الائتلافية كادت تسقط ويتمزق نسيج وحدة الأمة بانتصار

أعظم أركانها لمؤلف ذلك الكتاب الرجس الذي جهر ملفقه بالطعن في القرآن،

ترجيعًا لأصوات بعض أعدائه من المبشرين بالإنجيل.

وقد أخبرنا من خبر حالهم، وعاشر رجالهم، بطرق الدعوة التي يفتنون بها

الشبان عن دينهم، ولا سيما الأذكياء الفصحاء منهم، وسنبينها في مقال آخر، ومما

بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد ثم وضعوه.

وقد علم الجمهور أنه كان قد تألف في مصر حزب لحرية الفكر، كان

الملاحدة هم المؤسسين له بالطبع، من حيث لا يدري كثير ممن انتظم في سلكه،

أو جعل نوتيًّا لتسيير فلكه ولكن بعضهم تجرَّأ فيه على كلام ساء بعض من حضره

من النصارى، فانتصروا لدينهم بالفعل، وكان ما كان من التشاجر الذي أفضى إلى

القضاء على ذلك الحزب.

وقد نشرت جريدة السياسة الأسبوعية في مارس سنة 1928 مقالاً لأحد

أركانهم صرَّح فيه بأنه يوجد في مصر تعصب ديني (إسلامي) ضار، وأن

جماعة كانوا ألَّفوا حزبًا لمقاومته وتوطيد دعائم الحرية، وهذه الجماعة لا تزال

تعمل لهذه الغاية.

ولما أُلِّفت في مصر جمعية الشبان المسلمين، عارضوها بتأليف (جمعية

الشبان المصريين) لأجل القضاء عليها بدعاية الوطنية، قبل أن تشب عن الطوق،

وتشب نارها، فلا يكون لهم بها طوق؛ ولكنهم لم يقاوموا جمعية الشبان

المسيحيين بقول ولا عمل، بل وُجد فيها من يكبر شأنها، ويلقي المحاضرات في

ناديها.

وليس الإلحاد في مصر بحديث العهد، بل نبت قرنه مع التفرنج منذ أكثر من

قرن، ومازال يرتفع ويقوى حتى طمع أهله بإطفاء نور الدين، وقد استباحه مَنْ

استباحه باسم الحرية، وفنَّد الأستاذ الإمام جهالتهم ببعض مقالاته في الوقائع

المصرية. كان غربيًّا غريبًا، فأصبح شرقيًّا قريبًا، أو كان سيلاً أتيًّا، فأمسى

ينبوعًا وطنيًا، وكان شر مظاهره وأشدها خطرًا ما فاه به بعض ملاحدة المسلمين

في مجلس النواب، من الطعن في الشرع وفي نفس القرآن، إذ فاه فض الله فاه،

وسلَّ لسانه من قفاه، ولا رحمه ولا رحم مجلسه الموؤد، بتلك الكلمة التي تقشعر منها

الجلود،: أنه لا يحترم - أو قال: يحتقر - كتابًا يبيح تعدد الزوجات. ولكن ذلك

الملحد الإباحي لا يحتقر قانونًا يبيح الزنا للرجال والنسوان، وتعدد البغايا والأخدان،

دع اعتراض آخر منهم على من طلب وقف الجلسة بعض دقائق لأجل فريضة

المغرب، وتصريحه بأنهم لا يبغون الصلاة مطلقًا أو في ذلك المجلس، ووافقه

الجمهور على ذلك، فكان الأفراد الذين يحافظون على الصلاة على قلتهم يتسللون من

الجلسات فيصلون فُرادى ويعودون إليها.

وإنما الحديث عندنا هو تأليف الأحزاب وتعاون الجماعات على بث الدعوة

إلى الإباحة والإلحاد، ونشر الجرائد والمجلات لمقالاتهم المسمومة، وإلقاء

المحاضرات في ذلك ونشر الكتب الملعونة، حتى إنني كتبت في المنار أنه لا فرق

بين ملاحدة الترك الكماليين، وملاحدة هذه البلاد المفتونين والمقلدين، إلا أن أولئك

أولو قوة عسكرية، فينفذون إلحادهم بالقوة القهرية، ولا سلاح هنا إلا بيد السلطة

الأجنبية، ولقد كان بمجلس النواب في الآستانة مسجد خاص يصلي فيه الأعضاء

وتقام فيه الجماعة، كما كان يوجد في دور الحكومة مساجد يصلي فيها أهلها جميع

الصلوات التي تدركهم فيها.

تجديد ملاحدتنا وتجديد الإفرنج:

إن ما فعله ملاحدة الترك من هدم معالم الإسلام من حكومتهم، وما ظهر في

حكومتي الأفغان والإيران من بوادر الاقتداء بهم، وما ذكرنا القارئ به مما حدث

في مصر، بل سرت عدواه إلى كل قطر، هو الذي أطمع المستعمرين ودعاة

النصرانية في أوربة بالإجهاز على الإسلام، والتذفيف على ما بقي من مظاهر

الحكم الإسلامي في جميع بلاد الإسلام، وتجديد النصرانية وتعزيزها في الغرب

والشرق، وهاك إشارة إلى بعض ما فعلوا في تجديد دينهم مما يعد أكثره ذريعة

للتعدي على ديننا:

(1)

عقد دعاة البروتستانتية من الإنكليز وغيرهم مؤتمرًا بعد آخر في

القدس مهد النصرانية للتشاور في تعميم تنصير المسلمين، ونشرت جمعية لهم في

لندن بيانًا ذكرت فيه أنه لم يبق للإسلام رسوخ ولا ثبات إلا في جزيرة العرب،

وأنها تحتاج إلى مائة مبشر من المجاهدين لنشر النصرانية في هذه الجزيرة

والقضاء عليه في مهده الأول، ومعقله ومأرزه الأخير.

(2)

أعادت الدولة الفرنسية للجمعيات الكاثوليكية ما كانت صادرته من

أموالها وأوقافها تنشيطًا لها على نشر النصرانية في مستعمراتها الأفريقية وسورية.

(3)

أُلِّفت كتب جديدة باللغة الفرنسية وغيرها في الطعن على الإسلام،

والحث على تنصير المسلمين ولو بالقهر والإكراه، وقد نشرنا فصول بعض هذه

الكتب في هذا الجزء وفيما قبله، وسننشر بعضها فيما بعده.

(4)

صالحت الدولة الإيطالية دولة الفاتيكان الكاثوليكية، وأعادت للبابا

سلطانه السياسي في دائرته ومئات الملايين مما كانت اختانته من أموال دولته،

فتجدد للكنيسة الرومانية بعض سيادتها وسياستها، وهذا بدء انقلاب جديد في تجديد

النصرانية في الشرق والغرب، وذلك لا يضيرنا إلا إذا اعتدوا علينا، وهو أهون

من التعطيل والإلحاد عندنا.

(5)

نشطت الجمعيات التي تدعو إلى توحيد كنائس المذاهب النصرانية في

الشرق والغرب وسارت في سعيها خطوات إلى الأمام.

(6)

إن حركة تجديد الدين في إنكلترة تلي في العناية حركة إيطالية، وقد

اشتهر ما كان من اقتراح تعديل كتاب الصلاة المتبع في الكنيسة الرسمية ورد مجلس

الأمة (البرلمان) له المرة بعد المرة. وقد أُلِّفتْ جمعيات أخرى للبحث في العقائد

المسيحية، وتقاليد الكنيسة، وتقريب ذلك من العلم، واستعداد العصر.

(7)

تبارت الأمتان الإيطالية والإنكليزية في الرجوع إلى آداب الدين في

أزياء النساء وعاداتهن، ومقاومة ما أحدثن من الإسراف في التبرج والخلاعة،

المفضية إلى الإباحة، فكتب بعض كبار الكتاب من الإنكليز في ذلك مقالات نشرت

بعضها الجرائد المصرية.

وأما إيطالية فقد منع رجلها المجدد ووزيرها الأكبر كثيرًا من هذا الإسراف في

الأزياء والرقص والسباحة تجديدًا للدين والأخلاق لتجديد قوة الأمة وعظمتها، وذلك

مما يحمده كل فاضل له ولها.

العبرة في تجديد أوربة وتجديد ملاحدتنا:

وأما ملاحدة بلادنا ودعاة الكفر والإباحة فيها، فالتجديد الذي يدعون إليه هو

هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها، ويجمع كلمتها، ويهذب أخلاقها، من روابط

الدين والمحافظة على العرض، ويسمون الكفر والفجور وإباحة الأعراض تجديدًا

طريفًا، ومدنية وتقدمًا وترقيًا، ويسمون ما يقابل ذلك من التقوى والعفة والصيانة

قديمًا باليًا، وقد استشرى عيثهم وفسادهم، وعظم خطرهم بكثرة الجرائد والمجلات

التي ينفثون فيها سمومهم، على صغر شأنهم، وسوء سيرتهم الشافّ عن خبث

سريرتهم، فإنه لا مزية لأحد منهم في علم نافع، ولا عمل صالح، وإنما هي خلابة

الألفاظ التي وافقوا فيها أهواء كبار الفساق وصغار الأحداث، وإن أهل الرأي

والبصيرة عندنا يجزمون بأن جُل زعزعة العقائد وفساد الأعراض وإباحة النساء،

يناط بفساد أكثر الجرائد والمجلات، فيا حسرتا على جريدتي المؤيد واللواء،

ويا حسرتا على شعب يُعَدُّ من أرقى شعوب الشرق ثروة وحضارة وعلمًا ووطنية،

تعجز الأكثرية الساحقة فيه عن إيجاد جريدة يومية، تدافع عن عقائده وشريعته وآدابه

الملية، على حين نرى لكل الأقليات الملية المتعددة فيه جرائد متعددة تقوم بهذه

الوظيفة حق القيام! وهذه الأقليات بجملتها لا تبلغ عُشْر هذه الأكثرية الساحقة لها،

وإنما تفوقها في ثروتها النسبية وجامعتها.

خطر إباحة النساء أو تحريرهن:

إن مسألة فوضى النساء التي يعبر عن دعايتها بتحرير المرأة، وتفضيل

تهتكها - المعبَّر عنه بالسفور - على صيانتها وعفتها المعبر عنهما بالحجاب، قد

هبطت بالقطر المصري وغيره من شعوب الشرق المتفرنجة إلى مهواة من أشد

المهاوي خطرًا على أعراضها وتكوين بيوتها (عائلاتها) وعلى ثروتها وصحتها،

وإن سمى المفسدون دعاة الإباحة والدياثة هذا الخطر تجديدًا وتمدينًا، فقد صار النساء

من ربات البيوت والأمهات، ومن العذارى المتعلمات، يمشين في الشوارع بالليل

والنهار، مخاصرات للرجال، ويغشين الملاهي والمتنزهات، وهن كاسيات عاريات

، مائلات مميلات، ومنهم من يسبحن في البحر حيث يسبح الرجال أو معهم، وحيث

يراهن المارون بقرب الشواطئ منهم، ومنهن من يختلفن إلى المراقص المشتركة

فيرقصن معهم، وهن أشد من الأجنبيات عريًا وتهتكًا وخلاعة ومجونًا ورقاعة،

ومنهن من يدخلن في خلوات الحلاقين حيث يقصون لهن شعورهن ويحلقون لهن

أقفيتهن، ويزينون لهن نحورهن وصدورهن، وهنالك يلتقين بأخدانهن، ولا تسل عن

حديثهما جهرًا، وتواعدهما سرًّا، دع ذكر تعدد المواخير السرية، على كثرة الجهرية،

ومن المخادنات الشخصية، والجرائد والمجلات الكثيرة تغري بهذا أو تذكر من

وقائعه ما يجرئهن عليه.

وكان أول ما أعقبه هذا الفساد من الخطر قلة الزواج، المهدد للأمة بالوقوف

عن النماء، فالانقراض والفناء.

إن خصوم الإسلام القاعدين له كل مرصد يضحكون سرورًا مما أصابه من

الخزي بأهله، الذين يمهدون لهم السبل لاستعبادهم، والاستعمار لسائر بلادهم،

ويرقبون كل نبأة للإصلاح تخرج من فم أحد حكمائهم، أو حركة للتجديد الحق

يختلج بها بعض أعضائهم، فيبادرون إلى تحذير دولهم منها، وحضهم على تلافي

ما يخشى من تأثيرها، ثم إنهم يطعنون فيمن صدرت عنه لصد المسلمين الغافلين

عنها، كما ترى في مقال (ما يقال عن الإسلام في أوربة) من هذا الجزء نقلاً عن

(جول سيكار) العسكري الفرنسي (والأب لامنس) القس الجزويتي، والدكتور

(سنوك) السياسي الهولندي، من كلامهم في الأستاذ الإمام وصاحب المنار، وما

قاما به من دعوة الإصلاح، ورأيهم في المجلة وتفسيرها، ورسالة التوحيد وتحقيقها،

وتعزية أنفسهم بأن حركة التفرنج العصرية، قد أخذت تنتقص الأصول الدينية،

وبأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان لها المجال

الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم الجامدين، قالوا

(ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم، لقلة

عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) .

بشائر الإصلاح:

وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون بالإسلام والمسلمين،

معتمدين على مساعدة الملاحدة المتفرنجين بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها

على رؤوس المصلحين، وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام،

ونوابغ مريديه الأعلام، وهو الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ

الجامع الأزهر، وقد لقي من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة، بقدر ما كان

يلقى الشيخ محمد عبده نفسه من المناهضة والمعارضة، فصارت ميزانية الأزهر

تبلغ مئات الألوف من الجنيهات، وصار للمتخرجين فيه نصيب من مصالح

الحكومة، فنكس الجامدون على رؤوسهم، وارتكست فتنتهم بين جراثيم شيوخهم،

وانطلقت في المعاهد الدينية ألسنة العلماء المستقلين، وصارت رسالة التوحيد تُدَرَّس

في الأزهر للقسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي

التفسير فيه، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية متغلغلة في أحنائه ومناحيه، بل صارت

مرجعًا للفتاوى الرسمية، وأخذ ببعضها في إصلاح الأحكام الشخصية للمحاكم

الشرعية.

هذا وإن مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، معدود

من هؤلاء المريدين، وكذلك رئيس المجلس الإسلامي الذي أنشئ أخيرًا في بيروت.

وهنالك بشارة أخرى في تحول الأحوال، ونصر حزب الله على أحزاب

الشيطان، من الشيوخ الجامدين، والمتصوفة الخرافيين، والمتفرنجين الملحدين

الفاسقين، وهو تأليف جمعية الشبان المسلمين، وتعدد فروعها في الأقطار العربية

من شرقية وغربية، وفوق ذلك كله يقظة الأمة العربية في جزيرتها، وشروعها في

تنظيم قوتها، واتفاق إماميها في الجنوب والشمال على شد أواخي وحدتها باليمين

والشمال، والأمم إذا عرفت نفسها وتعارفت شعوبها، تعذر على غيرها القضاء

عليها والاستبداد فيها، فلا يستعجلن سيكار الفرنسي وسنوك الهولندي وأمثالهما

بإغراء دولهما بسرعة القضاء على المسلمين، فربما كان هذا الاستعجال قضاء

على سلطان مجترحيه فيهم لا عليهم ولو بعد حين، وربما كانت محاسنتهم،

والتوسعة عليهم في حرية دينهم، ومساعدتهم على تنمية ثروتهم، أقرب إلى طول

العهد على الاستفادة منهم.

وليعلموا أن المنار ليس عدوًّا لدولة من الدول، ولا خصمًا لشعب من الشعوب،

ولا لعلوم الغرب وفنونه المنزهة عن فسقه ومجونه، كما يقول سيكار وأمثاله؛

وإنما هو صديق لأمته ولمن يصدق في ودها، وليسأل إن شاء مسيو (روبير

دوكيه) أشد خصم للمسلمين في سورية وأقوى داعية إلى استعمارها، عما نصحت

به له ودللته عليه في سنة 1920 عن الطريق المعقول لكسب فرنسة مودة المسلمين

عامة والعرب خاصة، وسورية بالأخص بما يُعلي نفوذها الأدبي والاقتصادي في

الشرق كله، وعن قوله لي أن هذا مشروع معقول لا خيالي، وأنه يمكن تنفيذه إذا

وُجد منا ومنكم من يقول به.

ثم ليسأل مسيو (هانوتو) عما كتبته إليه بهذا المعنى في جنيف سنة 1921،

فإذا علم هذا وعقله حكم بأنه يوجد فيمن يعدونهم أعداء لفرنسة من هم خير لها من

بعض ضباطها وقسوس جزويتها، الذين يسخرون نفوذها لمنافعهم دون مصلحتها.

والعاقبة للتقوى، والسلام عن من اتبع الهدى.

هذا وإننا على ما عهد قراء المنار منا وهو ما عاهدناهم عليه منذ سنته الأولى

من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهم أول من يتلقاها

منهم، ويدخل في ذلك الدفاع بيان حقائق التنزيل، وما بيَّنه من سنة الرسول،

ومقاومة البدع والخرافات، وإبطال شبهات الزندقة والإلحاد والتحذير من أخطار

الاستعمار، والدمدمة على ضلالات المبشرين، وفضيحة مخازي المتفرنجين.

وتزييف مغالطات الماديين، وتأييد حرب الإصلاح والمصلحين والإصغاء لانتقاد

المخلصين، ونرجو من أهل الغيرة على الأمة والحرص على إحياء مجد الملة من

إخواننا العلماء، وسائر أفراد القراءة أن يشدوا أزرنا، ويؤدوا لنا حقنا، فقد آن لهم

أن يعتبروا بتعاون الملحدين والمفسدين على باطلهم، وتظاهرهم على من يَرُدّ على

أحد منهم، بل آن لحزب الإصلاح - الوسط بين حزب الجمود والتقليد، وحزب

التفرنج الملقب بالتجديد - أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا شتيتهم، ويتعارف شرقيهم

بغربيهم، وجنوبيهم بشماليهم، فإن يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم

القاصية، وأرجو أن يكون آخر المنار خيرًا من أوله، وأن يزيده الله توفيقًا

بإحسانه وفضله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

_________

ص: 1

الكاتب: شكيب أرسلان

ماذا يقال عن الإسلام في أوربة

ووجوب إطلاع المسلمين عليه

لأمير البيان، ومدرة سلائل عدنان وقحطان

الأمير شكيب أرسلان

(1)

سبق لنا مقالة في المنار عن بعض الكتب التي أُخْرِجَتْ حديثًا في أوربة بشأن

الإسلام والمسلمين، ومن جملتها كتاب لرجل يقال له (جول سيكار) من كبار

تراجمة الجيش الفرنسي في المستعمرات الفرنسية سماه (العالم الإسلامي في

المستملكات الفرنسوية) .

وقد رددنا على شيء مما تضمنه هذا الكتاب، ووعدنا بإكمال البحث ونشر ما

قاله المؤلف المذكور عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، وعن خلفه

الأستاذ الحجة صاحب المنار أمتع الله ببقائه.

قال في الصفحة 73 تحت عنوان (الطور الديني الجديد) ما يأتي:

(إن المسلمين الحاضرين هم من حيث السواد الأعظم على مذهب السنة

والجماعة، إلا أن روح الحرية والنزوع إلى المبادئ العصرية قد ظهر في أكثر من

نقطة واحدة في العالم الإسلامي.

وقد كان مبدأ هذه الحركة في الهند ثم في فارس ومنها سرت إلى مصر وإلى

السلطنة (العثمانية) المنحلة. وسواءً أكان هناك أم هنا يجتهد المسلمون الأحرار

أن يثبتوا الوئام الواقع بين الإسلام والترقي، وبين العقيدة القرآنية والمقتضيات

العصرية، ومن سمع كلامهم خال أنه ليس ثمة إلا سوء فهم أدى إلى التناقض،

وأنه من الخطأ البيِّن الاهتمام ببعض جزئيات ليست لها إلا مكانة ثانوية، وأن يظن

أن بعض الأصول التي أولدها الاحتياج في وقت معين تعد قواعد سرمدية، وأن

يغفل عن سنة التحول التي عليها مدار الاجتماع البشري.

وهؤلاء العصريون Modernists الذين يليق بهم اسم (المعتزلة الجدد)

ينتقدون انتقادًا لا غبار عليه شدة جمود المقلدين وعماية هؤلاء، ويحاولون تخليص

قواعد الإسلام الأساسية وتطبيقها على مقتضيات الحياة والعلم الحديث، وقد امتاز

في هذا المشرب رجلان أحدهما (أمير علي) في الهند، والآخر - وهو الأهم -

الشيخ محمد عبده الطائر الصيت في جميع شمالي أفريقية مؤلف رسالة التوحيد.

فالشيخ محمد عبده (1849-1905) مفتي مصر الأكبر هو أنبغ تلاميذ

المحرك الأفغاني جمال الدين (1897-1939) باعث فكرة الجامعة الإسلامية،

وله طريقة خاصة به في تحقيق مصدر العقيدة وهي طريقة صارمة في ذاتها كما

يقر هو بذلك؛ لأنه لا يسلِّم بصحة شيء من مصادر الدين (إلا ما كان في القرآن

مع عدد قليل من الأحاديث المتعلقة بحياة الرسول) وخلاصة مذهبه وجوب التسامح

بين جميع مذاهب الإسلام المختلفة.

وأما فلسفته الأدبية فمستمدة من المذاهب الحرة لا سيما مذهب الغزالي المتكلم

الكبير المتوفى سنة 1277 (مسيحية) الذي له أكثر اليد في التسامح بين مذاهب

الإسلام المختلفة، وهذه الفلسفة مشتقة من الاعتزال الذي هو وليد المحاكمة العقلية

في علم الكلام الإسلامي، والذي يقول بالاختيار المطلق، لكنه مذهب اضمحل أخيرًا

على إثر المصارعة الهائلة التي وقعت بين حزب المفكرين وبين الجماعة المتشددة

التي كان لها الغلبة في نهاية الأمر.

(والشيخ محمد عبده كان أبصر الخطر الذي أحدق بعقيدة المسلمين من جراء

زحف العلوم الغربية (نقل المؤلف هذه العبارة بنصها من الأب لامنيس المستشرق

اليسوعي) فنشط إلى إجراء تمييز ينقذ به مذهب السنة والجماعة وشرع بإلقاء

دروس في الأزهر استجلبت الأنظار أولاً إلا أنه توقف عنها على إثر مقاومة العلماء

الجامدين، فعند ذلك أسس بمساعدة تلميذه المقدم السوري السيد محمد رشيد رضا

طريقة إصلاحية لسان حالها مجلة شهرية اسمها (المنار) ومنزع هذه الطريقة في

الدين هو تجديد المذهب الوهابي الذي لا يزال رشيد رضا يؤيده بمعارفه بالسنة،

وأما في السياسة فهي مبنية على الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، وبالحريّ:

على عداوة الأجانب، ولك أن تقول: على مقاومة الغرب.

وهي تميل إلى فكرة العصريين بتعديل الشريعة الإسلامية على ما يوافق

ضرورات الوقت؛ ولكنها تنشد أعتادها في مسلحة الوهابيين، وتستمد من مذهبهم

حججها على (المتفرنسين) فمن الوهابيين تأخذ مقاومة الخرافات الحشوية والتدمير

على المعتقدين بتأثير الأولياء، وعلى الطرق الصوفية، والمنار تطبع وتعيد طبع

تآليف ابن تيمية التي كانت منسية والتي هي أشد الكتب تهييجًا، هذا ورشيد رضا

هو سيد، أي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو نفسه يعلن كونه عربيًّا قرشيًّا.

والمنار في استمساكه بالجامعة العربية مقيم على إيجاب إعادة الخلافة، كما

أنه في مخالفته للمنازع القومية التي تخالف برنامجه الإسلامي العربي يشير بتوحيد

مذاهب الفقه الأربعة في مذهب واحد، وضم شتات الفرق الإسلامية إلى جماعة

كبرى يمكنها أن تقاوم أوربة، وأن تقاتل ثقافتها المتقدمة.

وهو يعترف بانحطاط الإسلام؛ لكنه يزعم معالجة دائه بالرجوع إلى عقيدته

الأصلية على أن يفهمها الناس حق الفهم مستمدة من الكتاب والسنة، ويقول: لماذا

نلجأ إلى علم الغرب الموجب للشبهات؟ فكل شيء هو في القرآن، والمنار ينشر

تفسيرًا لا بأس به، فيقول - مثلاً - عندما يشير كتاب الله إلى الصاعقة: يلزم أن

نفهم منها الكهربائية، كذلك المنار يشير بالاهتداء بأشعة (رونتجن) لتقوم مقام

(العِدة) وهي مدة الثلاثة الأشهر التي يأمر بها القرآن أن تكون فاصلة بين طلاق

المرأة وزواجها من غير زوجها الأول (هذا غير صحيح) ولما كانت العلوم العصرية

لا تستغني عن التصوير اللازم في التعليم وفي إدارة الجيش وفي إدارة الأمن العام،

فالمنار يستنتج جواز ذلك للمسلمين، وهو يوجب على الطرق الصوفية الاشتغال

بالمصالح العامة من مؤاساة وتعليم

إلخ.

وبهذه الأفكار الجريئة الشاذة (تأمل أيها القارئ) تزعم مجلة القاهرة (أي

المنار) متابعة طريقة المصلح الذي هو الشيخ محمد عبده، وصرف النظر عن

تعصبها الوهابي وشنآنها للأجانب، فهذا هو التجديد بالمقلوب (تأمل أيضًا) .

فالإسلام إذًا هو على ملتقى الطرق، ونراه غير شاعر كثيرًا بأنه أصبح

مضطرًّا أن يطرح من وسقه لينجو.

فأما ما كان من أمر الخلافة فالذي ألحظه أن التضحية بها تمت بدون ضوضاء،

ومثل ذلك تم العدول عما كان الهنود المسلمون يطالبون به من الأمور المتعلقة بهذه

الفكرة الجبروتية.

بقيت الأحوال الشخصية (تعدد الزوجات والميراث والعقود) فهذه هي التي

تمنع المسلمين في البلدان غير الإسلامية من الاستفادة من المساواة التامة المفروضة

عليهم، فكتاب الشيخ المصري علي عبد الرازق يشير عليهم بأن يتقدموا براحة

وجدان إلى قبول تشريع جديد بناء على كون النبي لم يلحظ جميع الأمكنة ولا جميع

الأزمنة، وهذا هو رأي كثير من مفكري الإسلام، فهل يتغلب رأي هذه الطبقة

المفكرة فيجر معه جماهير الإسلام، أم يبقى دون بلوغ الغاية؟ الجواب أن أوربة

تخطئ بعدم مراقبة سير هذه الحركة عن كثب، وقد تجد أوربة في هذا الرأي ما

يساعدها على سياسة إسلامية ذات فائدة حقيقية، ولو لم يكن منها سوى الاستغناء

عن سن قوانين مأخوذة من شريعة الإسلام لكفى، وهي المسألة التي تورطت فيها

فرنسة في أفريقية، ونشبت منها منشب سوء) انتهى ما نقله سيكار عن المستشرق

اليسوعي لامنيس.

ولنذكر هنا رأي المستشرق الشهير سنوك هور كرونجه الهولندي [1] الذي قال

في هذه المسألة قوله الفصل.

(إن الشريعة الإسلامية سواء من جهة النص أو من جهة الروح تعتمد على

القهر والإكراه في نشر العقيدة (تأمل أيها القارئ) لأن هذا الدين يُعِدُّ كل الناس

غير المؤمنين أعداء لله، ويوجد اليوم عصابة صغيرة من المسلمين تحاول تطبيق

الإسلام على الأفكار العصرية؛ لكن هؤلاء النفر تمثيلهم للدين الذي ولدوا فيه لا

يزيد على تمثيل (المجددين) Modernists للدين الكاثولوليكي، والحقيقة أنه لا

يوجد فرق في هذا الموضوع بين فقهاء المذاهب المختلفة) .

***

ماهية إصلاحيات الشيخ محمد عبده

يقول أحد مادحيه: إن المزية التي اشتهر بها الأستاذ هو الدقة النادرة التي يميز

بها بين ما هو في الديانة جوهري وما هو عرضي أو طارئ على الدين، وهو في

أشد اقتراحاته جرأة لم يتعرض بشيء للقسم الجوهري من العقيدة، ولا ترك نفسه

يهاجم أركان الدين الأساسية نظير كبار مصلحي القرن التاسع عشر كميرزا علي

محمد الباب المولود في فارس سنة 1821 مؤسس البابية، وبهاء الله مؤسس

البهائية في تركيا الذي صلبته الحكومة الفارسية سنة 1850 (هذا خلط عظيم،

فالذي صلبته الحكومية الفارسية هو الباب لا بهاء الله، وهذا قد توفي حتف أنفه في

عكا منذ نحو أربعين سنة) أو ميرزا غلام أحمد في الهند. بل الشيخ محمد عبده

بقي دائمًا ضمن حظيرة الإسلام بل ضمن مذهب السنة والجماعة [2] ؛ وإنما كان

عمله الوعظ والحث على التسامح الديني، والدفاع عن حقوق العقل، وإحياء

فضائل الدين، وتطبيق الإسلام على العلم الحديث.

ومما لا جدال فيه أن الشيخ محمد عبده قد دافع عن الإسلام دفاعًا شديدًا ذاهبًا

إلى حد ترجيحه على النصرانية، فهو ينتقد ما في النصرانية من الحث على الغلو

في حب القريب، وإماتة الحواس والزهد في الدنيا، غافلة عن طبيعة الإنسان

والغرائز التي هو مفطور عليها.

وهو يقول: (إنه لما جاء الإسلام خاطب العقل والإدراك، وأشركهما في

العواطف والحواس آخذًا بيد الإنسان إلى سعادة الدنيا والأخرى) .

ولكن الشجرة تعرف بثمارها، وهذه الجملة تكفي في هذا المختصر على الأقل

لتفنيد انتقادات الشيخ محمد عبده، فهل مآثر الإسلام تتحمل القياس مع مآثر

النصرانية، لا شك أن التاريخ الذي لا ضلع له يجاوب جوابًا فصيحًا على هذه

المسألة، وإن أراد القراء المسلمون الأدلة والوثائق فما عليهم إلا أن يختاروا، فإن

الكتب الحديثة المنوهة بمآثر النصرانية جديرة بالاعتبار.

(وذكر المؤلف سيكار في الحاشية اسم كتاب في تاريخ الأديان، وكتاب آخر

في بيان فضائل الدين الكاثوليكي؛ ولكن الجواب عن هذه القضية وهي أن الشجرة

تعرف بثمارها والتي معناها عزو تقدم أوربة إلى النصرانية، وعزو تأخر المسلمين

إلى الإسلام هذا الجواب سهل علينا وسنذكره بعد الانتهاء من ترجمة هذا الفصل،

وهما قد رأيا فيه حجج الأستاذ الإمام) .

ولم يغب عن الشيخ أن حالة المسلمين الحاضرة هي بعيدة جدًّا عن الصورة

التي يعطيها هو عن الإسلام، وفي الفصل الذي عنوانه (إيراد سهل لا يراد) تجد

منه أمرّ انتقاد لهذه الحالة إلا أنه يعزو هذا الانحطاط إلى انحراف المسلمين عن

جادة دينهم ويقول: إنهم طيلة ما كانوا سائرين بمقتضاه كما يجب كانت جيوشهم لا

تعرف إلا الغلبة والظفر، وكان سلطانهم فائقًا في اللمعان كل ما تَقَدَّمه من المدنيات،

وكان مفكروهم في مقدمة الحركة الفكرية التي كانت في عصرهم.

***

صدى الحركة العصرية في شمالي أفريقية

إن الحركة العصرية قد أخذت تنتقص المبادئ الدينية؛ ولكن انتقاصًا محدودًا

وبمقدار مختلف بين تونس والجزائر ومراكش، فأفكار الشيخ عبده تغلغلت في

عقول المفكرين ووجدت مجالاً واسعًا لدى الشبان على حين نرى أرباب العمائم

منكرين لها أشد الإنكار، ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن

يجهروا بأفكارهم نظرًا لقلة عددهم ولشدة مقاومة الجامدين لهم (لكن نفوذهم هو

الغالب حتى غلب على الأزهر ولله الحمد) .

وهؤلاء الجامدون [3] بعداوتهم لكل ما ليس به نص صريح في القرآن ينقمون

أشد النقمة على أتباع الطرق الصوفية تقديس الأولياء والطواف حول قبورهم،

وكل مقصدهم هو تطهير الدين من جميع الخرافات، ومن جميع الشعائر التي

يعدونها نصف وثنية، والتي قد شوهت عقيدة الإسلام الأصلية، وهي التي نجاحها

قد كان بسبب شدة تنزيهها الباري تعالى عن مشابهة مخلوقاته، فالشيخ محمد عبده

يقول: إنه إذا كان لا يجوز لمسلم أن يتشكك في النبوءة والمعجزات التي ثبت

وقوعها على يد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حر أن يعتقد أو أن لا يعتقد كرامات

الأولياء.

ثم إنه يضاف إلى ما تقدم من الملاحظات كون مسلمي شمالي أفريقية لا

يبرحون أمناء للإسلام، وإن كان بعض الفتور قد بدأ يظهر في عقيدتهم نفسها،

وهذا الفتور إن هو لم يخالط العقيدة فقد ظهر في الشعائر، مثل ذلك صوم رمضان

الذي كان يتمسك به أقلهم تحمسًا بالدين قد مالت اليوم حباله إلى الارتخاء.

ثم إن سيكار صاحب الكتاب عقد فصلاً نحو صفحتين لخص فيه كتاب الشيخ

علي عبد الرازق في أصول الحكم والخلافة، ولما كان هذا الكتاب معروفًا عند

القراء لم نجد حاجة إلى ترجمة كلامه. ثم انتقل إلى موضع آخر أهم من كل ما

تقدم وهو تنصير المسلمين، وهل هو مستحب أم لا؟ وهل هو ممكن أم لا؟ وقد

كانت النتيجة التي وصل إليها بعد مباحث أخذت 15 صفحة أن تنصير المسلمين

مستحب، وفيه من الفوائد الدينية والسياسية ما لا يخفى، كما أنه ممكن أيضًا خلافًا

لما يذهب إليه بعضهم من استحالته، وإن كان في حد نفسه أصعب من تنصير

الوثني، وفي كلامه لوم ظاهر للحكومة الفرنسوية التي لم توجه إلى هذا الأمر

الجلل العناية الكافية بزعمه.

هذا ما ذكره هذا الضابط الفرنساوي المسمى جول سيكار المترجم الكبير في

الجيش الفرنسي في أفريقية الذي ليس بقس ولا راهب، بل هو من مأموري حكومة

تعلن أنها لا دينية أو (لاييكية)

فتأمل.

وسنرسل الفصل المتعلق بتنصير المسلمين إلى المنار لأجل البحث فيما

تضمنه لأنه يحتوي مباحث كلامية، أو على رأيهم لاهوتية، صاحب المنار أولى

بالحكم فيها، أما أنا فإني أعلق على الفصل الذي ترجمته الملاحظات الآتية:

أولاً: ليس لسيكار، وبخاصة ليس للراهب لامنس اليسوعي أن يتكلم عن

قضية جمود الإسلام، ولا عن مخالفة نصوص كتابه للعلم الحديث، فليس في

القرآن ولا في الشريعة ما يخالف العلم الحديث، بل القرآن ملآن بالحث على العلم

مطلقًا لا يختص به نوعًا من الأنواع، وليس في الدنيا كتاب دعا إلى النظر والسير

وتدبر أسرار الكون ما دعا إليه القرآن، فهل يقدر أن يقول لامنس اليسوعي

والضابط سيكار شيئًا من ذلك عن الكتب المقدسة عندهما؟ وهي التي ألَّف علماء

من المسيحيين مؤلفات ذات أجلاد ضخمة على تناقض نصوصها وقواعدها مع

قواعد العلم الطبيعي الحديث؟ أيريان القذى في أعين غيرهما ولا يريان الخشبة

التي في أعينهما؟ أيتكلمان في الجمود وينسيان كل ما أورده المسيحيون من تاريخ

الكنيسة في محاربة العلم؟ لم نكن نود التعرض إلى هذا الموضوع لو لم يحرجانا

فيخرجانا إليه لأن الذي يقرع الباب يسمع الجواب.

ثانيًا: قضية أن (الشجرة تُعرف من ثمارها) لا تنطبق على ما نحن فيه،

فنحن لا يخطر لنا على بال أن ننكر ما في الإنجيل الشريف من مبادئ سامية وفضائل

بمثلها يرتفع قدر الإنسانية، وأن المسلمين يجب عليهم دينًا أن يقدسوا الإنجيل المنزَّل

ومبادئه الثابتة، ويؤمنوا بصاحبه صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بمحمد وإبراهيم

وموسى ونوح صلوات الله عليهم جميعًا، ولكن نسبة تقدم أوربة وتفوقها على غيرها

في الأعصر الأخيرة إلى ثمرات الدين المسيحي ونسبة انحطاط العالم الإسلامي

الحاضر إلى ثمرات التعليم الإسلامي كلاهما محض خطأ، فلو كان ذلك كذلك للزم أن

تتقدم أوربة وتترقى منذ دانت بالنصرانية، والحال أنه كان مضى عليها ألف

وخمسمائة سنة - مدة نظنها كافية للتأثر والتأثير - وهي دائنة بالدين المسيحي،

وكانت لا تزال متأخرة متقهقرة، لا بل قسم منها كان يعد متوحشًا فأين كانت ثمار تلك

الشجرة طيلة ألف وخمسمائة سنة؟ ومن الغريب أن أوربة لم تبدأ بالترقي - وهو

رقي لا يعدو في الحقيقة المادة والصناعة - إلا بعد أن تراخت فيها حبال العقيدة

المسيحية بخلاف الإسلام الذي كان راقيًا فائزًا يوم كان أهله شديدي الاعتصام به،

وأصبح متقهقرًا ضعيفًا عندما قعد أهله عن القيام بعزائمه، ثم إن المدنية اليونانية قبل

النصرانية كانت أعلى جدًّا من المدنية اليونانية بعد أن تنصر اليونان، فهل يريد

سيكار ولامنس أن ينسبا ذلك إلى تأثير الديانة؟ إذًا تكون الميتولوجيا اليونانية أعلى

من النصرانية! وهذا غير معقول، وأن مدنية رومة كانت لعهد وثنيتها أرقى جدًّا من

مدنيتها بعد أن تنصرت، لا بل كان دخول رومة في النصرانية موافقًا عهد بداية

انحطاطها، أفنقول كما قال بعض مفكري أوربة، ومنهم أتاتول فرانس: إن ظهور

النصرانية كان وَقفًا لسير المدنية في العالم، وأن بوار الدولة الرومانية كان من آثار

ديانتها الجديدة؟ نحن لا نعتقد ذلك، بل نذهب إلى أن لانقراض الدولة الرومانية

عوامل أخرى، كما أن انحطاط المدنية الأوربية في القرون الوسطى لم يكن المسئول

عنه الإنجيل، وكما أن انحطاط الإسلام الحالي ليس بالمسئول عنه القرآن، بل هناك

عوامل كثيرة، وأن نسبة درجة رقي الأمم إلى تأثير الديانة تفضي بنا إلى القول بأن

ترقي اليابان الحالي هو من ثمرات مذهب شينتو، هذا ما عدا المدنيات القديمة كمدنية

الصين والهند والمدنيات البائدة نظير مدنية بابل ونينوي والنبط والفينيقيين، وكل

هؤلاء كانوا وثنيين، فهل نجعل الوثنية مصدر هذه الثمرات؟ إذًا لم يبق فضل

للنصرانية على الوثنية.

إذًا البرهان على انحطاط الإسلام من جهة انحطاط المسلمين اليوم هو برهان

ساقط بأدنى تأمل، وليس الإسلام بمسئول في القرون الأخيرة عن انحطاط

المسلمين أكثر مما كانت النصرانية مسئولة عن سقوط رومة وانحطاط الأوروبيين

في القرون الوسطى، ولو عمل المسيحيون حق العمل بمقتضى مبادئ الإنجيل،

ولو عمل المسلمون حق العمل بأوامر القرآن ونواهيه لأفلحت كل من الأمتين في

الدنيا والعقبى، ونالتا سعادتي المادة والمعنى.

(ثالثًا) : الكلام المنسوب إلى (سنوك هور كرونجه) المستشرق الهولندي،

مستغرب من جهة الزعم بأن الإسلام يعتمد في نشر عقيدته على الإكراه، وذلك أن

قاعدة الإسلام النظرية والتي جرى العمل بها من صدر الإسلام هي {لَا إِكْرَاهَ فِي

الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) نعم قاتل النبي صلى الله عليه

وسلم لأول الأمر المشركين لأنه نهاهم عن الشرك بالله، وعن عبادة الأصنام فلم

ينتهوا منها، وكان دعاهم إلى ذلك بالحسنى والقول اللين فلم يستمعوا له، بل ثاروا

به وقاتلوه فاضطر أخيرًا أن يقاتلهم بالسيف دفاعًا، وأن يحطم أصنامهم بالسيف

حتى يكون الدين كله لله، ومن المصائب أن بعض الناس يقرءون القرآن فتمر بهم

آيات لا يفهمون معناها أو يؤولونها بغير معناها الحقيقي إما عن ضعف ملكتهم

بالعربية - وهي ملكة لابد منها لمن أراد أن يفهم القرآن العزيز - أو لعدم اطلاعهم

على أسباب النزول والوقائع التي من أجلها وقع الوحي، وهذه المعرفة ضرورية

لمن أراد أن يفهم كتاب الله حق الفهم، فينشأ من جهل هؤلاء بهذين الأمرين خلط

كثير رأيناه في أكثر التآليف التي صنفها غير المسلمين في أمر القرآن.

أما المستشرق الهولندي سنوك هور كرونجه فهو من أعرف الأوربيين بالكلام

العربي والشرع الإسلامي، فإذا كان صدر كلام كهذا عنه فهو عن تجاهل لا عن

جهل، وعن تمام عن الحقيقة لا عن عماية، فسنوك هور كرونجه يريد قبل كل

شيء أن يخدم سياسة هولاندة التي من مقتضاها لأجل استتباب سلطتها على الجاوي

وسومطرة توهين العقيدة الإسلامية واستئصالها، مذهب الحيلة لا مذهب بالبطش،

فيقول: إن من الخطل العظيم أن تسن الدول الاستعمارية للمسلمين الذين استولت

على بلادهم قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية بمعنى أن هذه الشريعة فيها من

المرونة ما تسع معه احتياجات هذا العصر، بل يجب على الدول الاستعمارية أن

تعدل عن هذه الخطة، وتجتهد في إقناع المسلمين بأن شريعتهم أصبحت ثوبًا باليًا لا

يقيهم حرًّا ولا بردًا، فإن أرادوا أن يعيشوا كسائر الأمم المتمدنة لم يكن لهم مندوحة

عن طرح الإسلام تدريجًا؛ وبذلك تكون دول أوربة الغالبة اليوم على الإسلام اتقت

خطر انتفاض المسلمين عليها، وأمنت مستقبل سلطتها عليهم.

وفي كلامه هذا الذي لخصناه في حواشي (حاضر العالم الإسلامي) شيئان

جديران بالتقييد (أحدهما) أن سن قوانين عصرية مستمدة من الشريعة الإسلامية

غير موافق لا من جهة عدم مرونة هذه الشريعة، أو عدم اتساعها لذلك، بل من

جهة أنه لا ينبغي أن تسن لإدارة أمور المسلمين أنظمة عصرية يوقنون بها

أن شريعتهم قد تتلاءم مع العصر الحالي، فيزدادون بها تمسكًا وعليها عضًّا بالنواجذ،

والحال أنه يجدر بالدول المستعمرة أن تبذل كل جهدها في إقناع المسلمين بأن

شريعتهم أصبحت لا تصلح أصلاً لهذا الزمان، فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما

أن يموتوا، وإما أن ينبذوا شريعتهم، فالمسألة إذًا ليست حقيقة علمية، بل حيلة

سياسية.

(والأمر الثاني) هو في كلام هذا الرجل الاعتراف بأن الخطر الوحيد الذي

يتهدد الاستيلاء الأوروبي ليس روح القومية، بل روح الإسلام، فإذا ذهبت روح

الإسلام من الأمم المسلمة هان عليها خنوعها للأجانب، ولم يتكاءدها فقد استقلالها.

وبعبارة أخرى: إن رابطة الاستقلال في العالم الإسلامي متوقفة على حياة

الدين الإسلامي، فإن ذهب الاستقلال وأمن المستعمرون شر الانتقاض في المستقبل،

فهذا الاعتراف من مستشرق عظيم نظير سنوك هور كرونجه ثمين جدًّا، يزيد قيمته

اعتبارًا أنه لسان حال دولة أوربية مستضعفة لـ 45 مليونًا من المسلمين.

بقي نقطة ثالثة في كلام هذا المستشرق الهولاندي وهي قوله (أن بعض

المجددين الذين عندهم أفكار عصرية من المسلمين لا يمثلون الدين الإسلامي أكثر

مما تمثل فرقة العصريين Modernists في النصرانية الكنيسةَ الكاثوليكية) .

يريد أن يقول: إن التعاليم الكاثوليكية مخالفة للمبادئ العصرية، وإن الذين

يحاولون هذا الأمر من الكاثوليك يحاولون المحال تقريبًا.

فليس إذًا لسيكار ولا للامنس أن يتكلما في عدم انطباق الدين الإسلامي على

العلم الحديث وعلى الأوضاع العصرية، ويكونان قد احتجا بكلام رجل شهادته

جاءت على الكاثوليكية كما جاءت على الإسلام أو أشد، ولهذا قلنا إنه ليس لهذين

وأمثالهما أن ينعتا الإسلام بالجمود وحب التقليد، ونضيف إلى ذلك أنه ليس لسنوك

هوركرونجه أيضًا، ولا للهولنديين ولا للبروتستانت أن ينبزوا المسلمين بالجمود،

فإن البروتستانت المفتخرين على الكاثوليك بالأخذ بالمبادئ العصرية وبالعمل بالعلم

الحديث، لا يفترقون عن الكاثوليك في شيء من جهة أساس العقيدة المسيحية، وأن

أكثر ما بين الفريقين من الخلاف إنما هو في عقائد ثانوية، ولسنا الآن في حاجة

إلى تفصيل هذه الأمور، إذًا هذه الفرقة مثل تلك الفرقة من جهة الجمود على القديم

وحب التقليد؛ ولكنهم أولعوا بنقد الإسلام والمسلمين ونسوا أنفسهم.

وفي هذا الفصل الذي ترجمناه مظان أخرى تركنا الملاحظة عليها لفهم القارئ.

...

...

...

...

شكيب أرسلان

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: هو الذي كان ادعى الإسلام، وجاور في مكة المكرمة يطلب العلم في الحرم الشريف عدة سنين لاختبار بواطن المسلمين لتكون دولته على بصيرة في معاملة عشرات الملايين منهم، وهو ممن يفترون الكذب على الإسلام وهم يعلمون.

...

...

...

...

...

(2)

هذا هو الذي أسخط المستشرقين الهولندي والفرنسي على إصلاح الأستاذ الإمام، وكانا يودان كأمثالهما خروجه عن الإسلام كالباب والبهاء أو عن بعض أصوله كالقادياني.

(3)

كذا، وهو مخالف للإصلاح فإن المصلحين هم الذين ينقمون من أهل الطرق خرافاتهم الوثنية، وأما الجامدون فيتأولون لهم بل يوافقونهم على أكثرها.

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

السنة والشيعة

أو الوهابية والرافضة

(4)

نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية

أول شيء نقله الرافضي العاملي في طعن العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية

كلمة للفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهي دعوى التجسيم.

فنقول في الكلام عليها (أولاً) هل يعد الرافضي العاملي كلام ابن حجر هذا

في الدين ورجاله حكمًا صحيحًا مع علمه بما قاله في كتابه الصواعق، وفي كتابه

مناقب معاوية في بدع الشيعة وتضليلهم

إلخ، أم يقبل قوله في ابن تيمية وحده

دون معاوية ودون الشيعة كلهم كما هي عادة أمثاله من المتعصبين الذين لا يقبلون

إلا ما يوافق أهواءهم؟

نحن لا ننكر أن ابن حجر الهيتمي طعن في ابن تيمية، وما هو من طبقته في

علم من العلوم: لا علوم الحديث ولا التفسير ولا الأصول والكلام ولا الفقه أيضًا،

فابن حجر هذا فقيه شافعي مقلد لمذهب الشافعي غاية شأوه بيان ما قاله مَن قَبله في

المذهب، وبيان الراجح من المرجوح والصحيح وغيره، وأما ابن تيمية فمن أكبر

حفاظ السنة، ومع كون طبقته في فقه الحنابلة أعلى من طبقة ابن حجر في فقه

الشافعية فهو حافظ لفقه الأئمة، ومن أهل الترجيح بينها، بل هو مجتهد مطلق كما

اعترف له أهل الإنصاف من علماء عصره ومن بعدهم، وإن أنكر عليه بعضهم

بعض المسائل المخالفة لمذاهبهم، وما من إمام مجتهد إلا وقد أنكر عليه المخالفون

بعض أقواله وهم خير ممن يقلدونه ويعدونه كالمعصومين في عدم مخالفته في شيء

مما ثبت عنه.

ومع هذا نعتقد أن ابن حجر الهيتمي هذا لم يطلع على كتبه؛ وإنما قال فيه ما

قال اعتمادًا على ما أشاع عنه خصومه من المبتدعة ومتأولة الأشاعرة ومغروري

المتصوفة، فمن أعظم سيئاته عند هؤلاء رده على الشيخ محيي الدين بن عربي

وبيانه لضلالة وحدة الوجود المشهورة عنه وعن أمثاله.

وأما قوله بإظهاره للعامة على المنابر دعوى الجهة والتجسيم فهو مقلد فيه

لأولئك الخصوم في تسميتهم إثبات العلو لله تعالى جهة مستلزمة للتحيز والتشبيه -

للتنفير والتشهير بشناعة الألفاظ كتسميتهم لإثبات الاستواء على العرش والنزول إلى

سماء الدنيا ونحوهما تجسيمًا أي بطريقة اللزوم، فإن كان يلزم من إثبات نصوص

الكتاب والسنة ما ذكروا كما زعموا فهل يترك المسلمون نصوص الكتاب والسنة

لأجل نظرياتهم في هذه اللوازم؟ ثم هل يقولون بضلال سلف الأمة وحصر الهداية

بالمبتدعة المتأولين، مع العلم بأن مذهب السلف ونصيرهم ابن تيمية نفى هذه

اللوازم كلها؟ .

وهذا عين ما ناظره فيه العلماء الذين شكوا أمره إلى سلطان مصر، قالوا: إنه

يذكر للعوام آيات الصفات وأحاديثها من غير تأويل، وطلبوا منه هو عدم التصريح

بذلك للعوام فأبى عليهم ذلك؛ لأنه كتمان لما أنزله الله، والله تعالى يقول في كتابه

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ

أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ

عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) وأي طعن في الدين وجناية

عليه أعظم من القول بوجوب كتمان صفات الله المنزلة في كتابه بناء على أن

المبتدعة ومغروري المتكلمين قالوا بوجوب تأويلها.

وقد قال الرافضي العاملي بعد نقل ما ذكر عن ابن حجر الهيتمي: وقال ابن

حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حُكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم

من نسبه إلى التجسيم

إلخ.

ونقول في هذه الكلمة: (أولاً) إن ابن حجر صاحب الدرر الكامنة ليس ابن

حجر الهيتمي المكي كما يدل عليه قوله: (أيضًا) بل هو الحافظ ابن حجر

العسقلاني وكتابه (الدرر الكامنة) تاريخ له في أعيان المائة الثامنة، وهو مشهور

وإن جهله الرافضي العاملي المدعي، فما أجهل هذا الرافضي برجال أهل السنة

وكتبهم! .

(وثانيًا) إن الحافظ ذكر في تاريخه هذا ما تقوَّله الناس على ابن تيمية،

وما طعنوا به عليه كما يذكر هو وغيره من المؤرخين مثل ذلك في غيره من الأئمة

حتى المعصومين عند الشيعة؛ ولكنه هو يثني عليه أجلَّ الثناء، وقد رأيت كلامه

في الانتصار لمذهب الحنابلة، وهو مذهب السلف في الصفات الإلهية، ومنها صفة

العلو، وكذا في مسألة الحرف والصوت في شرحه للبخاري الذي نقلناه آنفًا؛ ولكن

الرافضي يعمى عن رؤية ذلك، ويوهم قراء كتابه أن الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام

وأستاذ أشهر العلماء والحفاظ في عصره يطعن في ابن تيمية ويقول بكفره، لعدم

تأويله للآيات والأحاديث الواردة في صفات الرب تعالى، كما أوهم مثل ذلك في

الحافظ الذهبي إذ قال بعد ما تقدم نقله عنه في ص 132 من كتابه ما نصه:

(ورَدَّ أقاويله وبيَّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر

الكامنة، والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين) .

(وثالثًا) ننقل من ترجمة الحافظ ابن حجر لابن تيمية، ومن ترجمة الحافظ

الذهبي فيها ما يُعرف به الحق من الباطل في مزاعم هذا الرافضي الكذاب فنقول:

ترجمة

شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره

للحافظ ابن حجر في تاريخه الدرر الكامنة [1]

هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية

الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين بن مجد الدين.

وُلد سنة إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة سبع وستين

وستمائة، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأريلي والمسلم بن علان وابن أبي

عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود، وحصل الأجزاء،

ونظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتميز، وتقدم، وصنَّف، ودرس،

وأفتى وَفَاقَ الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع

في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.

وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين

وستمائة: قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع

من الكلام، ثم حضر القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال

الدين: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئًا عزّرناه.

ثم ذكر ما وقع له من الاضطهاد والحبس والإطلاق بتواريخه مفصلاً، فعلم منه

أن سببه سعاية بعض الجامدين على التقاليد الأشعرية والفقهية والمتصوفة إلى

السلطان في انتصاره لمذهب السلف، وفي إنكاره على الصوفية ولا سيما ابن عربي،

وفي مسألة الطلاق الثلاث حتى اتهموه بطلب الخلافة كما سيأتي ذكره وأن جميع

الحنابلة كانوا يضطهدون معه، وكان بعض المنصفين ينتصرون له لما امتازوا به من

الاستقلال في العلم، حتى إن الحكومة أكرهت الحنابلة كلهم على الإقرار بأنهم على

معتقد الإمام الشافعي، وذكر أن ابن تيمية نفسه كتب بخطه أنه على معتقد الشافعي،

وهذا تخلص حسن إن صح فالشافعي كان على مذهب السلف في اعتقاده بلا شك،

وذكر أن ممن انتصر لابن تيمية في دمشق قاضي الحنفية شمس الدين الحريري.

وأنه توفي معتقلاً في القلعة لعشرين ليلة خلت من رجب سنة 728 ثم قال:

قال الصلاح الصفدي: كان كثيرًا ما ينشد:

تمرت النفوس بأوصابها

ولم يدر عواها ما بها

وما أنصفت مهجة تشتكي

أداة إلى غير أحبابها

وأنشد له على لسان الفقراء:

والله ما فقرنا اختيار

وإنما فقرنا اضطرار

جماعة كلنا كسالى

وأكلنا ما له عيار

يسمع منا إذا اجتمعنا

حقيقة كلها فشار

وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره

كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه، وكابن الوكيل وغيرهما، قال: ورثاه محمود

بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين

بن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين

بن فضل الله العمري وزين الدين بن الوردي وجمع جم، وأورد لنفسه فيه مرثية على

قافية الضاد المعجمة.

قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل

الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما

رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها، ولا أشد

استحضارًا للمتون وعزوها منه ! كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة

رشيقة لا يسبقه بها غيره وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير

والتوسع فيه.

وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع

ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذّ النفس؛ ولعل فتاويه في الفنون

تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم (ثم قال)

ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى

التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده.

وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن

عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت،

فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم (قال) ولم أر مثله في

ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا اعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له

في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه

وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وسطة

للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان لحلمه إجماع، فإن

كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بتفوقه، مقرون بندور خطئه وأنه بحر لا

ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ

من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(قال) وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا،

لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا

كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسألة من التشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل

يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر

على خطئه، وأجران على إصابته.

إلى أن قال: تمرّضَ أيامًا بالقلعة بمرض حاد إلى أن مات ليلة الإثنين،

العشرين من ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يُضرب بكثرة من

حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا.

قال الشهاب بن فضل الله: لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة

سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد، وأغلظ القول

للسلطان والأمراء، ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة طعام، فلم

يقبل من ذلك شيئًا، وأرسل له السلطان بقجة قماش فَردَّها.

(قال) ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل،

ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها:

لما أتانا تقي الدين لاح لنا

داع إلى الله فردٌ ما له وزر

على محياه من سيما الألى صحبوا

خير البرية نور دونه القمر

حَبرٌ تسربل منه دهره حِبرًا

بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا

مقام سيد تميم إذ مضت مضر

وأظهر الحق إذ آثاره اندرست

وأخمد الشر إذ طارت له شرر

يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ

هذا الإمام الذي قد كان ينتظر [2]

قال: ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويه،

فناظره أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد ذا ماله، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر.

(قال) وحجَّ ابن المحب سنة 24 فسمع من أبي حيان أناشيد، فقرأ عليه

هذه الأبيات، فقال: قد كشطتها من ديواني ولا أذكره بخير، فسأله عن السبب في

ذلك فقال: ناظرته في شيء من العربية، فذكرت له كلام سيبوبه، فقال: يفشر

سيبويه، قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما

كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما

تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره (البحر) بكل سوء،

وكذلك في مختصره (النهر) ورثاه شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة،

وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى، ورثاه زين الدين بن

الوردي بقصيدة لطيفة طائية.

وقال جمال الدين السرمري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل

زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب يطالعه مرة، فينتقش في ذهنه وينقله في

مصنفاته بلفظه ومعناه.

وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين

والفرائض والحساب وفنون أخر، وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه

متقاربان. قال الطوفي: سمعته يقول: من سألني مستفيدًا حققت له، ومن سألني

متعنتًا ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته. وذكر تصانيفه، وقال في كتابه

إبطال الحيل: هو عظيم النفع، وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع

الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد

أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه، فيأخذ منها ما يشاء، ويذر

منها ما يشاء، ومن ثم نسبت أصحابه إلى الغلو فيه، واقتضى له ذلك العجب بنفسه،

حتي زها على أبناء جنسه، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء

وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء، فبلغ الشيخ

إبراهيم الرقي، فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق علي: أخطأ

في سبعة عشر شيئًا (كذا) ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها

زوجها أطول الأجلين.

وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سب الغزالي فقام

عليه قوم كادوا يقتلونه، ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه

بكلام قوي، فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ.

واتفق أن الشيخ نصرًا المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس

الجاشنكير فيه، فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي [3] لأنه كان يعتقد فيه أنه

مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه،

فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابًا طويلاً نسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة

الإلحاد [4] فعظم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد

مغيرة وقعت منه في قواعده وفتاويه، فذكر أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر

درجتين وقال: كنزولي هذا [5] فنسب إلى التجسيم. ورده على من توسل بالنبي

صلى الله عليه وسلم واستغاث، فأُشخص من دمشق في رمضان سنة 698 فجرى

عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك

يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصرًا قام على الشيخ كريم الدين الأيلى شيخ

خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من

تدريس الشريفية، فيقال إن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يومًا، فلم يخرج حتى

زالت دولة بيبرس، وخمل ذكر نصر، وأطلق ابن تيمية إلى الشام.

وافترق الناس فيه شيعًا [6] فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة

الحموية والواسطية وغيرها، من ذلك قوله في اليد والقدم والساق والوجه: صفات

حقيقية لله، وأنه مستوٍ على العرش بذاته، فقيل: يلزم من ذلك التحيز والانقسام،

فقال: إنا لا نسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز

في ذات الله تعالى.

ومنهم من نسبه إلى الزندقة لقوله: النبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به،

وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس

عليه في ذلك النور البكري، فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض

الحاضرين: يعزر، وقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصًا يقتل،

وإن لم يكن تنقيصًا لم يعزر.

ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله: إنه كان مخذولاً

حيثما توجه، وأنه حاول الخلافة مرارًا ولم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة،

ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وأن عثمان كان يحب المال، ولقوله في أبي بكر

أسلم شيخًا لا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيًّا والصبي لا يصح إسلامه على قول،

وبكلامه في قصة خطبته بنت أبي جهل وما بها من الثناء، وقصة أبي العاص بن

الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه

وسلم: (لا يبغضك إلا منافق) .

ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى؛ فإنه كان يلهج بذكر ابن

تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدًا لطول سجنه، وكان له وقائع شهيرة وكان إذا

حوقق وألزم يقول: لم أرد هذا؛ وإنما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيدًا.

(قال) وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن

بكر السكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمي في إنكار القدر أولها:

أيا علماء الدين ذمي دينكم

تحير دلوه بأعظم حجة

إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم

ولم يَرضَه مني فما وجه حيلتي

فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل

أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتًا أولها.

سؤالك يا هذا سؤال تعنت

يخاصم رب العرش باري البرية

وكان يقول: أنا ما قرأت في الأقفاص.

وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح العمري في ترجمة ابن تيمية: حدا بي

(يعيش المزي) على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك

من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل

رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه

وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من

درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه

مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويروون من بحر

علمه العذب المنير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه

من أهل بلده داء الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد،

فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه

خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع

طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق ناظر منها

وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة

الأولى من منازعيه، واستغاثت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء

أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألَّبوا الرويبضة [7] للسعي

بهاتين للأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقل وأُوْدِع

السجن ساعة حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشروا لذلك قومًا من

عمار الزوايا وسكان المدارس، ما بين مجامل في المنازعة، ومخاتل في المخادعة،

ومجاهر بالتكفير مبادر بالمقاطعة، ليسوموه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن

صدورهم وما يعلنون، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل وقد دب إليه

عقارب مكره، فردَّ الله كيده في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على

أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم يزل ينتقل طول عمره من محنة إلى

محنة، إلى أن فوَّض أمره إلى بعض القضاة، فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل

بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله تُرجع الأمور،

وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودًا ضاقت

بجنازته الطريق، وأتى لها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقوم

الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.

قال الذهبي مترجمًا في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل

وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين،

وصنَّف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفه نحو

أربعة آلاف كراسة وأكثر.

وقال في موضع آخر: وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن

المذاهب الأربعة فليس له نظير.

وفي موضع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقل أن يذكر مسألة

إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنَّف فيها

واحتج بالكتاب والسنة.

ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض

مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن

يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين.

وقال في موضع آخر: بصير بطريق السلف، واحتج له بأدلة وأمور لم

يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء

المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه

إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات

مصرية وشامية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجَّاه الله تعالى، وكان دائم الابتهال،

كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش، له أوراد وأذكار يديمها يومية وجُمعية.

وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه،

ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبر قدره،

وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه

في كل فن، ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في

نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع والديانة،

ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض في هذا سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه

بذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله الزمان بل من أزمان.

وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في بيت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء

الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين

شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه

أحسن الطريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقرت الأمم كافة

أن هممها عن حصرها قاصرة، متعنا الله تعالى بعلومه الفاخرة، ونفعنا به في الدنيا

والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني، والحبر البحر القطب النوراني، إمام

الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد

علماء الدين، شيخ الإسلام، فخر الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتكلمين، قامع

المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن،

أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على

العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق،

علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون

البديعة، أبو العباس ابن تيمية.

وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدِّث حلب، قال: اجتمعت بالشيخ شهاب

الدين الأذرعي سنة 79 لما أردت الرحلة إلى دمشق، فكتب لي كتبًا إلى الباسوقي

والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك، فحصل لي بذلك

منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية وأثنى عليه وذكر

لي شيئًا من كراماته، وذكر أنه حضر جنازته، وأن الناس خرجوا من الجامع من

كل باب، وخرجت من باب البريد، فوقعت سرموذتي فلم أستطع أن أستعيدها،

وصرت أمشي على صدور الناس، ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموذة، وذلك

من بركة الشيخ رحمة الله تعالى انتهى.

(يقول أبو محمد شفيع صاحب المنار) هذا ما قال الحافظان الذهبي وابن

حجر وما نقلاه من ثناء الحفاظ والمؤرخين المنصفين في شيخ الإسلام أحمد تقي

الدين بن تيمية، وما نقلاه من تقولات حُساده وخصومه من المشايخ المقلدين

الجامدين، وما حققه بعضهم من أسبابها، ومنه يعلم كنه كذب السيد محسن العاملي

الرافضي وتعصبه وجهله؛ فإنه أوهم قراء كتابه الملفق أن الحافظين الذهبي وابن

حجر كانا يطعنان في عقيدته، وأنه لم يوجد في المسلمين من زكاه إلا تلاميذه، ثم

الشيخ محمد عبد الوهاب ثم صاحب المنار، وحسبنا هذا في بيان كذبه وافترائه

عليه وعلى العلماء وعلى الوهابية عن عمد وعلى جهل، وما زال غلاة الشيعة

أكذب الفرق وأبعدها عن طلب الحق في خلافها لغيرها كما قال أحد علماء الألمان

المستشرقين.

وأما طعنه علينا فإننا نفوض إلى الله تعالى أمر جزائه عليه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ

عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج: 38) .

(تمت الرسالة الأولى)

_________

(1)

كان عندنا أصل من هذه الترجمة منقول من نسخة من الدرر الكامنة في بغداد، كثيرة التحريف والتصحيف صححناه على نسخة دار الكتب المصرية ونسخة الأزهر.

(2)

وفي نسخة:

كنا نحدث عن حبر يجيء بها

أنت الإمام الذي قد كان ينتظر.

(3)

لعله سقط من هنا شيء.

(4)

قد نشرنا في المنار كتاب ابن تيمية للشيخ نصر هذا من قبل.

(5)

الصحيح أنه قال: (لا كنزولي هذا) كما نقله بعض المؤرخين، وهو الموافق لما صرح به في مواضع من وجوب الجمع بين إمرار النصوص ونفي التشبيه، فحرف كلامه أعداؤه، ولعل بعضهم لم يسمع حرف (لا) فنقله مثبتًا.

(6)

اقتصر الرافضي العاملي من هذه الترجمة الحافلة على ذكر هذه المطاعن المنقولة التي سيأتي فيها ما يدل على بطلانها من كلام العلامة العمري، وقد شاهدنا في عصرنا مثلها في شيخنا الأستاذ الإمام وشيخه السيد جمال الدين.

(7)

العبارة غير واضحة وهي اشارة إلى حديث ورد في أمارات الساعة منه: (وأن ينطق الرويبضة، قيل: وما الرويضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة) قال في النهاية:

والتافه: الخسيس الحقير، والمراد أن أدعياء العلم المقلدين الحاسدين صاروا يتكلمون في ذم إمام كشيخ الإسلام نابغة الأعصار.

ص: 47

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العيد الذهبي

لشيخ الشعراء ونادرة الأدباء ونابغة الفيحاء

عبد الحميد بك الرافعي

نشرنا في ص 238 م29 الإذاعة التي نشرتها اللجنة التي ألفت في طرابلس

الشام للاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني، وكنا ننوي حضوره لما تقضي به علينا

الحقوق الشخصية الموروثة، علاوة على الحقوق الوطنية والقومية والأدبية،

فشاعرنا الكبير في مقدمة أصدقائنا الأوفياء بالتعارف الروحي الأدبي والمتوارث

عن الآباء والأجداد.

كان والده الشيخ عبد الغني يكرمني تكريمه لأعز أنجاله وأنجب تلاميذه،

ويثني عليَّ في بداية طلبي ثناء كنت أخجل من ذكره، وكانت الزيارات والمودة

متصلة من قبل بين الآباء والأجداد، وعهدته مصطافًا بدارنا في القلمون مع أهل

بيته بمقام سيد الدار وكبير الأسرة.

ثم قد بلغت بيني وبين الشيخ محمد كامل الرافعي الشقيق الأكبر لعبد الحميد

بك درجة الكمال كما ذكرت ذلك في ترجمته رحمه الله تعالى، وكان نادرة المثال

في هذا العصر في الاشتغال بالعلوم العالية، والتخلق بالأخلاق السامية، حتى أنني

لما زرت الوطن في عام الدستور العثماني (سنة 1327 هـ 1909م) لم يكن

يسمح لي أن أبيت عند والدتي إلا ليالي قليلة، فكنت في معظم المدة التي أقمتها في

طرابلس أبيت عنده في حجرة نومه، وكان جل حظنا من هذا المبيت المذاكرات

العلمية فالاجتماعية والسياسية قبل النوم وبعد صلاة الفجر في أول وقتها بالجامع

الكبير المجاور لدارهم، دع تلك المسامرات والمساجلات الجميلة، في تلك الليالي

الشتائية القصيرة الطويلة، في تلك الدار التي كان عبد الحميد بك نجم سمائها

المتألق، وغيث آدابها المتدفق.

وكنت لما اقترن عبد الحميد بك نظمت وأنا تلميذ مبتدئ موشحًا كالموشحات

الأندلسية في تهنئته أنشدته بنفسي في حفلة الزفاف وهي أول تهنئة نظمتها، وأول

قصيدة أنشدتها، في أرقى محفل، وأكرم منزل، أذكر بعض ما أحفظ منها، وتشفع

لي البداية في ضعفها:

أسقط الطل في نبت الحمى؟ أم لآل فوق بسط السندس؟

أم نجوم تتراءى في السما

أم ثغور زينت باللعس

***

ياعُريبا تخذوا نبت اللمى

عند فقد الحرث منه بدلا

وبقلبي قد تركتم ألمًا

لم يغادر لنجاتي أملا

لي منكم غادة لم يدر ما

بفؤادي طرفها قد فعلا

حيث قالت حين زارت ريثما

تقف الأنجم بعد الغلس

احذر الأنس بغيري إنما

كنت إنسانًا لفرط الأنس

***

إن نجم الكأس فيما قد حوى

هز منها العطف إذ تغتبق

غربت شمس الطلا لما هوى

فبدا في وجنتيها الشفق

وبجفنيها لأرباب الهوى

إن تأملت عدو أزرق

دائمًا يفخر في سفك الدما

ويباهي بهلاك الأنفس

يسلب الروح برفق مثلما

تسلب الراحة عقل المحتسي

ومنه في مدحه:

لسن إن نظم الشعر غدًا

يتراءى فوق طوق البشر

تنصت الناس إذا ما أنشدا

كيف تصغي لاستماع السور

كلما كرر يحلو موردًا

وهو لم يهجر لفرط الخصر

ما أبو الطيب إما نظمًا

وابن هاني شاعر الأندلس

ليس يهنئك إذا شعرهما

وبه لم تلق طيب الأنفس

فإذا كانت باكورة شعري في التهاني قد أنشدت في عيد زفافه فأجدر بي أن

أكون أول السابقين إلى حضور حفلة عيده الذهبي، وأول الساجعين بمناقبه ومناقب

أبيه وأخيه وبيته؛ ولكن أحكام القدر القاهرة غلبتني على أمري، وما زالت غالبة لكل

الخلق، فحالت دون ما تصبو إليه نفسي ويوجبه على روحي وعقلي، وما كان إلا

خيرًا يعذرني به أخي وصديقي، فقد أنعم الله تعالى علي بشراء دار بل قصر، في

حي الإنشاء من مصر، وكان من قضائه وقدره أن أنتقل إليها بالعيال والمطبعة

والمكتبة في الشهر الذي أقيمت فيه حفلة العيد الذهبي له، وأن أجدد بجانبها بناء

للمطبعة، ولا أزال حتى كتابة هذه السطور في العشر الأخير من ذي الحجة مشغولاً

بذلك، وقد اعتذرت للجنة الاحتفال ببرقية تليت عقب افتتاحها هذا نصها:

لجنة يوبيل الرافعي (بطرابلس المدينة) :

أساهمكم بروحي وجناني، وقلبي ووجداني، ما حال القدر القاهر دون السعي

له بجثماني، من الاحتفال بيوبيل شاعرنا الأسمى، وصديقي الأوفى، محيي أدب

العرب، ووارث مجد العلم عن خير أب وجد.

...

...

...

...

رشيدرضا

خبر الوفد المصري للعيد:

هذا وإنني كنت قد اتفقت مع أمير الشعراء أحمد شوقي بك وشاعر القطرين

خليل بك المطران ثم مع أحمد شفيق باشا وكيل الرابطة الشرقية على تأليف وفد منا

يرغب السفر إلى طرابلس معنا للاشتراك في هذا الاحتفال، وجعله في نظامه

الحلقة الثانية من حلقات مؤتمرات الأدب العربي؛ إذ كانت حفلة شوقي هي الأولى

منها، وأنا الذي اقترحت بالاتفاق مع هؤلاء تأخير موعد الاحتفال من شهر كانون

الثاني (يناير) إلى شهر نيسان، لأن السفر في عنفوان الشتاء مما يشق على كل

إنسان، ثم عرض لي من العذر ما أشرت إليه من قبل وعرض مثله لأحمد شفيق

باشا، فقد انتهت إجارته للدار التي كان يسكنها وتجتمع فيها الرابطة الشرقية، وتم

بناء الدار التي أنشأها في روضته من شبرا على ضفة النيل، واحتاج إلى الانتقال

إليها في شهر أبريل، كما أنه استأجر مكانًا للرابطة الشرقية نُقلت إليه فيه،

وعرض لخليل بك المطران عذر يتعلق بوظيفته الرسمية، وكنت كلمت أيضًا

نصيري العرب والأدب أحمد زكي باشا وحمد الباسل باشا فأظهرا لي الرغبة

القلبية في السفر؛ ولكن فاجأني خبر تحديد السابع من الشهر للحفلة في اليوم الثالث

منه فتعذر تأليف الوفد في بقية الأسبوع ممن لم تمنعهم الأعذار القاهرة، وكان أحمد

زكي باشا قد شرع في الدعوة إلى حفلته الشرقية الغربية التي اشتهر خبرها، وبقي

إلى يوم الجمعة وهو اليوم الخامس منه يرجو أن يتمكن من السفر فلم يُتح له،

وتأخر أحمد شوقي بك في نظم قصيدته فلم يدرك بها الاحتفال، فنشرت في الجرائد،

فهذا عذر مصر وعذر عارفي فضل الرافعي وآل الرافعي من المصريين في

تقصيرهم.

ثم رأيت من الواجب عليَّ أن أنوه بهذا العيد السعيد في المنار، وأبلغ خبره

ما يبلغه من الأقطار، فأذكر فيه شيئًا مما كنت أحب أن أقوله فيه، وأحسن ما أنشد

الشعراء في مناقب صاحبه وذويه، ولولا أنني تركت نظم الشعر منذ ثلث قرن

بالتقريب فلم أنظم بعد أن هاجرت من طرابلس قصيدة ولا مقطوعة، فلا مطمع لي

الآن في وصل ملكته بعد طول هذه القطيعة، وأحمِّلها ما تستطيع حمله من آيات

سروري، وكنت وعدت بأن أقول هنالك كلمة في تاريخ الأسرة الرافعية ومكان

بيت الشيخ عبد الغني منها، تعريفًا لمن يجهل من وفود عيد هذا الكوكب الدري من

كواكبها، بعض ما أعرفه دونهم من غرر مناقبها، والآن فات المقتضي لذلك

التفصيل؛ والموانع الشواغل لا تأذن من الإجمال إلا بالقليل.

مكانة الرافعية وبيت شاعرنا منها:

الأسرة الرافعية أشهر بيوتات العلم في ديار الشام ومصر، فهي إذًا أشهرها

في الأمة العربية والأقطار الإسلامية، وكان جُل شهرتها في فقه الحنفية، وقد

تولى كثير من رجالها مناصب القضاء والإفتاء في الديار المصرية والممالك

العثمانية، واشتهر بعض شيوخها بالإرشاد والصلاح؛ ولكن بيت الشيخ عبد الغني

قد اجتمع فيه من المناقب والفضائل ما لم يتفق لأحد منهم، وقلما اتفق مثله لغيره

من غيرهم.

كان الشيخ عبد الغني آية في الذكاء والزكاء، والهمة والمضاء، طلب العلوم

العربية والشرعية ففاق فيهما الأقران، وسلك طريق الصوفية ففات أهل العرفان،

وإنما سلكها بالمجاهدة العملية، دون الرسوم والمظاهر الصورية، فكان من أولي

الفرقان في درجات العرفان، بعد أن قطع المراحل متنقلاً في المنازل، حتى ذاق

طعم الفناء، وبلغ حال الجمع، ثم ارتقى إلى مقام الفرق بحكم الشرع، كما أنه

اشتغل من تلقاء نفسه بآداب اللغة كآداب النفس، وراض جواد يراعه في ميداني

النثر والنظم، وقد سمعت منه أنه قرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ثلاثين مرة،

وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرة، وناهيك ببلاغة عبارتهما، وحسن

إنشائهما، فكان كاتبًا يستخرج الدرر من أعماق البحور، كما كان شاعرًا ينظمها

كالعقود في نحور الحور، ولا أدري أي دواوين الشعراء كان يحفظ، وإنما أعهد

أنه كان حسن الاختيار، لكل ما يراجع من الدواوين والأسفار.

وقد ولي منصب القضاء في ولاية صنعاء اليمن وأقام فيها عدة سنين عاشر

في أثنائها علماء الزيدية وناظرهم، ورأى ما لم يكن يعرف من المصنفات في

خزائن عاصمتهم، فعاد إلى طرابلس الشام بعلم جديد كانت تصبو إليه سلامة

فطرته، وينبو عنه أو يحول دونه حال وطنه ودولته، ألا وهو الاستقلال

الاجتهادي في العلم وفقه الحديث، وكان الذي هداه إلى هذا كتاب نيل الأوطار

للإمام الشوكاني الصنعاني، يظهر أنه جاء به من اليمن وهو مطبوع في مصر،

وكان يقرؤه درسًا في بهو داره، فيحضره المنتهون من طلاب العلم من أنجاله

وغيرهم، وقد حضرت بعض دروسه بالاتفاق، وكان ذلك قبل شروعي في طلب

العلم، ولم أنس جرس صوته ولا إشارة يده عند نطقه بالكلمة التي يكررها

الشوكاني في التعبير عن الترجيح بين الأقوال المتعارضة في المسائل، بعد المعادلة

بين الدلائل، أعني كلمة (وهو الحق) إذ كان الشيخ يرفع بها صوته ويخفض يده

إقرارًا لها واستحسانًا.

نعم كان مستعدًا بفطرته الذكية وإخلاصه في طلب العلم للاستقلال في الفهم

واتباع الدليل، وزادته قراءة الإحياء فكُتب الشيخ عبد القادر الجيلي استعدادًا له

ونفورًا من التقليد، ثم كمَّل له ذلك بقراءة نيل الأوطار في فقه الحديث، فكان في

آخر عهده محدثًا فقيه النفس، صوفيًّا مصفى من آفات النفس، ولم يكن في يوم من

الأيام صوفي تقاليد وحلقات أذكار، وسماع دفوف أو أوتار، وإنما تصوفه علم

وأخلاق.

كان من أزهد الناس في الدينا بقلبه، وأصدقهم توكلاً على ربه، على كونه

أطيبهم عيشًا في مطعمه ومشربه ولباسه وزينة داره، وكان أشد الناس تواضعًا

للفقراء والمساكين، على كبر جاهه ورفعة مقامه عند الحكام المتكبرين، والكبراء

المفنقين المتأنقين، فكان يضع يده في يد من يعاشرونه من الفقراء كالشيخ صديق

الأفغاني ويماشيه في السوق، ويذاكره في آفات النفس والمعرفة وفلسفة الأخلاق،

مذاكرة الأقران للأقران، وقد سبق لي ذكر غير هذا من مناقبه وفضائله في المنار.

وقد ورث كل نجل من أنجاله ما شاء الله أن يرث من شمائله وخلاله.

واقتبس من أدركه منهم من معارفه وأدبه وحكمته، ماهو مستعد له بعقله وذوقه

وغريزته، كما أشرت إلى ذلك في رثائه:

فللمعارف والإرشاد كاملهم

من حالف العلمُ فيه الهدى والعملا

وفي البلاغة كم عبد الحميد سما

وللتحدي بها آي البيان تلا

ولم أر مثلاً لامتياز بيت عبد الغني في رافعية سورية إلا امتياز بيت عبد

اللطيف في رافعية مصر، فهو قد أنجب عالمين سياسيين حقوقيين كاتبين بليغين

مؤلفين، خدما مصر في صحفها ومصنفاتها التاريخية السياسية أجل خدمة، وهما

أمين بك صاحب جريدة الأخبار رحمه الله، وعبد الرحمن بك صاحب المصنفات

المشهورة حفظه الله، وكل منهما حافظ على شرف أسرته بقوة عقيدته، والمحافظة

على عبادته، فتم بهما للأسرة الرافعية خدمة أمتهما العربية، في وطنيهما مصر

وسورية، من جميع الطرق الدينية والدنيوية.

عبد الحميد الرافعي:

امتاز عبد الحميد الرافعي بحب الفصاحة وعشق البلاغة، على ذوق في البيان

دقيق، وأسلوب في الشعر رشيق، وسليقة كانت تنبجس من عين غريزته وتستمد من

بحر والده، وكانت كتب الأدب وفنونه، والشعر ودواوينه، لا ترتقي في عهد طلبه

للعلم عن كتاب الجوهر المكنون إلى شرحي التلخيص للسعد إلا قليلاً، ولا تتجاوز

خزانة ابن حجة ودواوين البهاء زهير وابن الفارض وأمثالهما إلا نادرًا، فهو أول

من عني بديواني المتنبي والبحتري، ومارس ديواني الشريف الرضي وتلميذه مهيار

الديلمي، ولكن مجال الشعر في عصر نشأته كان ضيق الساحة، وحرية الكلام كانت

في الدولة التركية قليلة المساحة، والباعث على إجادة المنظوم كان في حكم المعدوم،

ولم يكن أحد من كبراء الدين مغرمًا به، مُغرٍ باستمالة أربابه، إلا الشيخ أبا الهدى

الصيادي، ولم يكن يرضيه منه إلا ما مزج بالخرافات، وانتحال الكرامات، وقد

ابتلي به أديبنا فحاول احتكاره لنفسه، وقصر أكثر شعره على مدح الرفاعي ومدحه،

حتى كان يستحي من نشر ديوانه من بعده.

ولو نشأ عبد الحميد في مصر لفاق جميع شعراء العصر في جميع مناحي

الشعر، فبذ البارودي في الفخر والحماسة، وشوقي في السياسة والكياسة، وحافظًا في

الاجتماعيات، وخليلاً في المدنيات، ورافعي مصر في الخياليات، كيف وهو على ما

ذكرنا من معارضة الزمان والمكان والسلطان، مصداقًا لقول الغزالي: ليس في

الإمكان أبدع مما كان.

كان والده يفضل الشيخ عبد القادر الجيلاني على جميع شيوخ الصوفية،

وكان الشيخ نجيب الزعبي الجيلاني من شيوخ والده في العلم، فأراد عبد الحميد أن

يرضي روح والده بنظم قصيدة في مدح الجيلاني، فكانت قصيدته بما بعث عليها

من روح الإخلاص أعلى من كل ما مدح به الرفاعي والصيادي بباعث القهر

والإكراه، وكان من أبياتها التي لا أنكر معانيها قوله:

أجل رجال الله في منتدى العلى

مقامًا وخذ مني على ذلك الفتوى

تزاحم وفد العارفين بنهجه

سراعًا ولم يبلغ له أحد شأوا

مآثره في جبهة الدهر غرة

فلا ذكرها يبلى ولا صحفها تطوى

تطيب بذكراها المسامع واللهى

فدونك ما شئت الحليَّ أو الحلوى

سليل بني الزهرا ولله نسخة

لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى

فلما بلغت هذه القصيدة أبا الهدى كاد كجهنم يتميز من الغيظ، وكتب إلى

الناظم أبياتًا يهدده فيها بطعنة من حربة الرفاعي المسمومة، أراد بها سعيه إلى

عزله من عمله في الحكومة، وكان يومئذ مستنطق لواء طرابلس (أي قاضي

التحقيق) فاضطر إلى السفر إلى الآستانة لاسترضائه، وتقرب إليه بالقصيدة الدالية

الشهيرة التي نظمها في وصف سفره ومدحه:

قعد الحظ به حتى اقتعد

غارب السعي ومن جد وجد

سامه الدهر خمولاً فنبا

ولقد يخمل في الغاب الأسد

فلما دخل عليه كان أول ما خاطبه به قبل رد السلام: أصرت تفتي يا عبد

الحميد؟ يشير إلى البيت الأول من هذه الأبيات التي هاجت حسده، فأحرق كبده،

وفرض عليه أن يكفر ذنب هذه القصيدة بنظم ديوان في مدح الرفاعي من جميع

حروف الهجاء ففعل.

صفة الاحتفال

كان الاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني العربي في يوم من أجمل أيام الزمان،

وهو السابع من شهر نيسان، إذ الشمس في برج الحمل، والدنيا تزدان من سندس

الربيع بأبهج الحلل، قد تفتحت أزهارها، وتفاوحت أنوارها، وتناوحت أطيارها،

وصفت من كدورة الشتاء أنهارها، ورقش بساطها الأخضر بالشقيق الأحمر،

والعرار الأصفر، والبنفسج الأزرق، والأقاح الأبيض

إلخ، وطرابلس الفيحاء

تعطر جواء الأرجاء، بأريج رياضها الغنَّاء، وجنانها التي تُضرب بها الأمثال،

وتُشَدُّ إليها الرحال، وناهيك بها في زمن البرتقال، وقد أخرجت في هذه الأيام

أزهارها، وادخرت للضيوف بقية من ثمارها، فكانت أشجارها كالقبب، قد تدلت

فيها قناديل الذهب، وعلاها من الزهر ما يشبه اللهب، ممتدة بين البحر الأبيض،

وجبل لبنان الأنضر، في سهوب لا يحيط بها الطرف، ولا يدرك دقائق محاسنها

الوصف.

كانت الفيحاء في ذلك اليوم كسوق عكاظ: تزاحمت فيها وفود الأدباء،

وتبارت في عيد شاعرها فحول الشعراء، وقد جلس في صدر المحفل رئيس

الاحتفال، صاحب السماحة الشيخ محمد الجسر وهو رئيس مجلس نواب البلاد،

وبجانبه الأستاذ المحتفَل به وهو رئيس الأدباء، فافتتح الجلسة بما يناسب المقام من

الثناء على صاحب العيد بما هو أهله، وجدارته باحتفاء الأمة العربية به، ثم قال:

إن فخامة رئيس الجمهورية الأستاذ دباس كان مزمعًا أن يؤم الفيحاء ليرأس حفلة

اليوبيل، لولا موانع قاهرة، وقد أناب عنه حضرة وزير المعارف والصحة

والإسعاف الدكتور أبو الروس، وذكر أنه أهدى إلى السيد عبد الحميد الرافعي وسام

الاستحقاق اللبناني، وشكر للحكومة ذلك، وحينئذ نهض وزير المعارف فقلده

الوسام، مع كلمة ثناء تليق بالمقام.

ثم تلا الرئيس برقيات التهاني والاعتذار، الواردة من مختلف البلاد والأقطار،

ثم أذن للأدباء والشعراء، بإنشاد ما لديهم من القصائد الغراء، فأنشد أحد الأدباء

قصيدة شاعر القطرين خليل بك مطران، فقصيدة أمير البيان الأمير شكيب أرسلان،

وهما غنيان عن وصفهما، وعن بيان مزايا شعرهما.

ثم أنشد الأستاذ أبو الإقبال اليعقوبي شاعر فلسطين وعميد وفدها قصيدة حافلة

الري، متينة الروي، قيل: إنها تزيد على مائة بيت، وحسبك من القلادة ما أحاط

بالجيد، وهو فيها بيت القصيد:

إنما العرب في الوجود قصيد

فيه عبد الحميد بيت القصيد

وتلاه وفد حماه فأنشد قصيدة شاعرهم الأستاذ الشيخ طاهر النعسان، فكان فيها

خير موقظ يقظان، فقصيدة الأديب بدر الدين حامد.

وفي خلال ذلك عزف بعض المطربين بالبيانو بما يطرب كالبيان، ويروح

الأنفس ويرهف الأذهان، ثم أنشدت قصائد أدباء طرابلس نفسها، وقد قدمت اللجنة

ضيوف البلد على أبنائها.

فصل هزلي غير مضحك:

ثم قد قام في إثر الجميع محمود أفندي عزمي الصحفي المصري أحد دعاة

الإلحاد والتفرنج، وإباحة التهتك والتبرج، الذي يروجه هو وأمثاله بعنوان التجديد،

خلابة للنساء والأحداث المفتونين بالتقليد، وكل ما يدعون إليه قديم في جنسه

ونوعه، وإنما بعضه حديث في صنفه ووصفه، قام فقال:

أيها السادة.

وسكت هنيهة متكلفًا متعمدًا ثم قال: اعذروني إذا ارتُجَّ علي، فلقد كنت أريد

أن أقول: (أيها السيدات والسادة) يعرِّض بتقصير اللجنة، أو بتقصير البلد فيما كان

يجب عليها - بزعمه - من الجمع بين الرجال والنساء في هذه الحفلة، ثم إنه لم يقف

عند هذا الحد في التعريض بالغميزة في النقد، بل صرَّح بما مؤداه أنه جاء ليقتحم

أو ليفتح معقلاً من معاقل المحافظة على القديم، ليبني بأنقاضه مسرحًا من مسارح

التجديد، فبدت على وجوه الحاضرين كآبة الامتعاض، ومنعهم أدب الضيافة

وكرامة المجلس من الرد عليه جهرًا، بما تهامس به بعضهم، ولو أنه أطال لشوه

رونق الاحتفال.

ولم يكتف بما فعل هنالك، بل عاد إلى مصر، فنشر في جريدة الأهرام

مقالات سخيفة تجاوز بها ما يليق بالبلاد، إلى النيل من بعض الأفراد، ولعل بعض

الأسباب التي خرجت به عن صوابه، إلى ما لا يعهد من آدابه، أنه ذهب إلى

طرابلس لحضور يوبيل الرافعي موفدًا من جريدة العلم الغراء، وأخذ نفقة لسفره من

إدارتها أربعين جنيهًا مصريًّا ليرسل إليها أخبار الاحتفال بلسان البرق، فتسبق

غيرها من الجرائد إلى نشرها، وتعطير جو مصر بنشرها، فرأته قد خدعها

وذهب ليدعو إلى رأيه السقيم، وينعي على المعتصمين بعروة الدين ما يسميه

جمودًا على القديم. ومن مناقب آل الرافعي المحتفَل بأكبر أدبائهم، أنهم أنصار

الدين، وحملة لواء الشرع الحكيم، وهم في مصر من أعلام الحزب الوطني الذي

تعد جريدة العلم من أعلامه المرفوعة للدين والوطنية معًا؛ لذلك عزلته إدارتها من

قلم تحريرها، فلجأ إلى جريدة الأهرام فنفث نفثته المسمومة على صفحاتها.

(انتهى الفصل)

ثم ختم الاحتفال بإنشاد الأديب سمير الرافعي نجل صاحب اليوبيل لقصيدة

والده في شكر المحتفلين فكانت مسك الختام.

وقد ذكرت الصحف من مناقب عبد الحميد المحتفَل به، وشممه أن بعض

الفضلاء ومحبي الأدب تبرع له بسبعين ألف قرش سوري بمناسبة اليوبيل الذهبي،

فأبى أن يأخذها، وعهد إلى لجنة الاحتفال بأن تنفقها في خدمة الأدب بالطريقة التي

تستحسنها، فأكبر الناس ذلك من أريحيته، وإبائه وعفته، فلا زال قدوة لأمته، في

أدبه وبلاغته، وكرم نفسه وعلو همته.

وسننشر في الجزء التالي قصيدة أحمد شوقي بك أمير الشعراء فإنها من آيات

بيانه، التي فاق بها على أقرانه، وقصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ شيخ الفقهاء،

وأستاذ الأدباء، وشاعر العلماء، فإنها غرة القصائد وأجمعها لسمو المناقب وعلو

المقاصد، وقصيدة الأستاذ عبد الحميد، صاحب العيد، وهي الرحيق المختوم،

ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

_________

ص: 62

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة قتل اليهود الأنبياء بغير حق

وطريقة الأزهريين في المناقشات والفهم

أخطأنا بتحكيمنا مدرسي التفسير بالأزهر في هذه المسألة إذ فتحنا للأزهريين

وأمثالهم باب المناقشة الأزهرية فيها، فقد كتب إلينا اثنان من طلاب قسم التخصص

فيه رسالتين في ذلك إحداهما طويلة، والثانية قصيرة، وعاد الأستاذ المنتقد الأول

لعبارة تفسيرنا فأرسل إلينا رسالة أخرى في الانتصار لنفسه.

قرأت من هذه الرسالة بضعة أسطر، ومن رسالة الطالب الأزهري مثلها

الأول أو أكثر، فرأيت أنني أسفِّه نفسي إذا قرأت أمثال هذه الرسائل كلها، وأكون

جديرًا بأن يحكم عليَّ بالخرف أو الجنون إذا نشرتها ورددت عليها، فقد كان مذهبي

منذ أنشأت المنار إلى اليوم تخطئة الأزهريين والتشنيع عليهم بجعل جل حظهم من

طلب العلم المناقشات في عبارات الكتب وإيراد الاعتراضات عليها والأجوبة عن

هذه الاعتراضات، وقد قلت مرارًا ولا أزال أقول عن علم وبصيرة: إن هذه

الطريقة العوج هي التي أضاعت العلم في الأزهر، ونقلت عن شيخنا الأستاذ الإمام

رحمه الله تعالى أنه كان يقول: إنهم يتعلمون كتبًا لا علمًا، وقال في درس رسالة

التوحيد في الأزهر أنه لا يسمح لأحد أن يشرحها ولا يكتب لها حاشية، ومن فعل

ذلك فلا سامحه الله، دع ما يثيره الرد من ضغن وحقد، ولا سيما الرد على المنتقد

الأول الذي كبر عليه أن أقول: إنه لم يفهم عبارتي التي أراد إثبات كفري بسوء فهمه

لها.

وقد لقيت أمس أخانا الأستاذ الفاضل الشيخ علي محفوظ من كبار المدرسين

في قسم التخصص من الأزهر، وقد مضت عدة سنين لم ألقه فيها، فتذكرنا أيام

تلاقينا في دروس الأستاذ الإمام رحمه الله، وأطراني الأستاذ وهضم نفسه تواضعًا

عن رفعة، ثم أثنى على تفسير المنار، وذكر من مزايا مؤلفه لصديق له حيث كنا

من دار الكتب المصرية:

(1)

أنه لم يحاب أحدًا حتى أستاذه فيه فتعقبه في مواضع.

(2)

أنه شديد الإنكار على التقليد لا يترك سانحة من التأويل تساعده على

إبطاله والنعي على أهله إلا اغتنمها.

(3)

أنه يذكر من معاني الألفاظ ونكت البلاغة فيها ما يساعد على فهم

الآيات، ويجعل كل همه بيان المعنى، وما فيه من الهدى الذي هو المراد من كتاب

الله بخلاف جماهير المفسرين الذين يشغلون القارئ لتفاسيرهم بالمباحث اللفظية

الصارفة عن فهم القرآن وعن هدايته.

(4)

تحاميه ذكر الإسرائيليات والروايات التي لا تصح فيه.

(5)

بيانه لما فيه من المسائل والسنن الاجتماعية، وقد انفرد بهذا دون

جميع التفاسير، ذكر الأستاذ هذه المعاني كلها بعبارة مجملة مدمجة، والغرض من

ذكرها الأمر الثالث ولولاه لم نذكرها على قرب العهد بسماعها، فإذا نحن فتحنا باب

الجدل والمراء في عبارة تفسيرنا لآية (قتل الأنبياء بغير حق) نكون قد أضعنا مزية

من أهم المزايا الإصلاحية التي يعرفها لنا أهل البصيرة والاستقلال، بيد أنني أذكر

في الموضوع بعض المسائل التي يتجلى بها الحق لطالبه مخلصًا فيه فأقول:

(1)

ليفهم كلمة (الحق) مُعرَّفة ومُنكَّرة من شاء كما يشاء، وليفهم معنى

التشبيه في قولنا: (إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق كما يقول المفسرون) .

كما يشاء، فنحن نصرِّح بأن مرادنا من العبارة في جملتها أن نكتة البلاغة في تقييد

قتل الأنبياء بكونه بغير حق هي تعظيم شأن الحق، وأنها من قبيل قوله تعالى

{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون:

117) فإنه تعظيم لشأن البرهان وكون المدار عليه في إثبات الدعاوي بصرف

النظر عن موضوعها، وقوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ

بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (لقمان: 15) فإنه تعظيم لشأن العلم كذلك، ومن المعلوم

بالعقل والنقل أن دعاء غير الله تعالى لا يكون عن برهان، وأن الشرك به لا يكون

مبنيًّا على علم، بل هو محض الجهل، فإذا كانت عبارتنا تؤدي ما أردنا كما نعتقد،

فالفضل لله تعالى وإن كانت لا تؤديه فالجهل والتقصير منا، ونستغفر الله تعالى.

(2)

خطر ببالي عند كتابة هذا التنبيه أن أراجع تفسير الإمام فخر الدين

الرازي لآية آل عمران وآية البقرة؛ فإنه يوجد فيه من أمثال هذه الدقائق ما لا

يوجد في غيره أحيانًا فراجعته، فإذا هو يحيل في الثانية على الأولى لتقدمها،

فأكتب ما أورده فيها من سؤال وجواب في موضوعنا، وهو السؤال الثاني قال

رحمه الله تعالى:

(السؤال الثاني) لمَ قال (بغير الحق) وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا

الوجه؟ الجواب من وجهين [1](الأول) أن الإتيان بالباطل قد يكون حقًّا لأن

الآتي به اعتقده حقًّا لشبهة وقعت في قلبه، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً، ولا

شك أن الثاني أقبح، فقوله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) أي

أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقًّا في اعتقادهم وخيالهم، بل كانوا عالمين

بقبحه، ومع ذلك فقد فعلوه (وثانيها) أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى

{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (المؤمنون: 117) ومستحيل أن

يكون لمدعي الإله الثاني برهان (وثالثها) أنه تعالى لو ذمهم على مجرد القتل

لقالوا: أليس أن الله يقتلهم؟ ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ما،

ومن غير الله قتل بغير حق.

ذكر في آخر تفسير الآية ما رآه في نكتة تعريف الحق في موضع وتنكيره في

آخر ما نصه:

(فإن قيل) قال ههنا {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) ذكر

الحق بالألف واللام معرفة، وقال في آية آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ

وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) نكرة، وكذلك في هذه السورة

{وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران:

112) فما الفرق؟

(الجواب) الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه

السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى

بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق) [2] فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى

هذا، وأما الحق المُنَكَّر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي

يعرفه المؤمنون ولا غيره ألبتة. اهـ بحروفه.

وما ذكره من تقسيم الحق إلى ما كان حقًّا في شرعنا، وما كان حقًّا في

اعتقادهم وخيالهم فهو في معنى تقسيمنا إياه إلى ما كان حقًّا في الواقع، وما كان حقًّا

في العرف، وإن لم يكن حقًّا في الواقع، وهو يردُّ زعم من يقول إن الحق لا ينقسم،

وما قلناه أوجه، ويبقى أن يقال: إن الحق عند اليهود ما وافق شريعة التوراة لا ما

وافق شريعتنا، وهو ما نبينه في الفائدة الثالثة، وهي:

(3)

بيَّنا في مقالنا الدقيق الذي نشرناه في المجلد التاسع من المنار في

تحقيق معاني الحق والباطل والقوة، أن الحق يدخل في معانٍ، منها المعنى الشرعي

وهو يختلف باختلاف الشرائع، وإن لم يعقل هذا من لا وقوف لهم على الشرائع،

ولا على العلوم والحقائق، وقد كان القتل عقابًا في شريعة التوراة التي كان يدين بها

اليهود الذين ذمهم القرآن بقتل الأنبياء بغير حق على ذنوب لا يُقتل فاعلها في

شريعتا، ففي الفصل 21 من سفر الخروج ما نصه:

(12 من ضرب إنسانًا فمات يُقتل قتلاً 13 ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله

في يده فأنا أجعل له مكانًا يهرب إليه 14 وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر

فمن عند مذبحي تأخذه للموت 15 ومن ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلاً 16 ومن سرق

إنسانًا وباعه أو وُجد في يده يُقتل قتلاً 17 ومن شتم أباه وأمه يُقتل قتلاً) إلى أن

ذكر في عدد 29 إن الثور (إن كان نطاحًا وأُشهد على صاحبه فلم يضبطه فقتل

رجلاً أو امرأة، فالثور يُرجم وصاحبه أيضًا يُقتل)

إلخ فما يقول في هذا من

يزعمون أن القتل بحق لا يكون إلا واحدًا في كل زمن وكل أمة وكل شريعة

فيجعلونه كالحق في الإيمان بالله وصفاته مثلاً؟

(4)

إننا قد صرحنا في تفسير] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ

وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [في الآية 112 من سورة آل عمران بمعنى ما قاله

الرازي في آية البقرة وذكرناه آنفًا من تحريهم الباطل وتعمدهم إياه مع مخالفتنا إياه في

كون الحق المنفي فيها ما وافق شريعتنا واعتمادنا أنه ما وافق شريعتهم لأنهم

مؤاخذون بها لا بما جاء بعدها. وهذا نص عبارتنا (ص29ج 4 من التفسير) (أي

ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق

تعطيهم إياه شريعتهم، وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ

عليهم، وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ) اهـ. وهو

صريح في اعتقادنا في المسألة لا يحتمل المراء.

_________

(1)

قال: (من وجهين) وجاء بثلاثة، فلعل كلمة (وجهين) من غلط الطبع.

(2)

هكذا أورد الحديث ولا أذكر هذا اللفظ لأحد من مخرِّجيه، وهو قد ينقل الأحاديث بالمعنى إذ ليس من رجال الحفظ والرواية، ومِن أنكر ألفاظه (ثلاث معانٍ) وهو في الصحيحين والترمذي من حديث ابن مسعود بلفظ (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولمسلم نحوه عن عائشة ورواه أبو داود

والنسائي والحاكم عنها بلفظ (لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زانٍ محصن فيُرجم ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا فيقتل ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيُقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض) .

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتذار عن قلة مباحث هذا الجزء

قد اضطررنا إلى جمع أكثر مواد هذا الجزء من حرف 24 لأنها جمعت قبل

إتمام تنظيم المطبعة في مكانها الجديد، واضطررنا إلى كتابة فصل طويل في الاحتفال

بالعيد الذهبي لصديقنا الرافعي ونشره كله في هذا الجزء لأن لجنة الاحتفال ألحت علينا

بطلبه لتنشره في كتابها الذي جمعته في شأن هذا الاحتفال، وما قيل وكتب فيه،

وجاءت فاتحة المجلد الثلاثين ضعفي المعتاد في أكثر فواتح المجلدات - فلهذا

اختصرنا في التفسير، ولم نفتح باب الفتاوى، وأرجأنا مقالات ورسائل أخرى،

ومباحث العالم الإسلامي، منها: كلمة في الدستور المصري، وكون البرلمان الذي

عُطِّل كان مخالفًا للإسلام ومصلحة المسلمين في شخصه الصوري لا المعنوي وهو ما

أشرنا إليه في الفاتحة.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعزية في مصاب زميل كريم

توفي في فترة احتجاب المنار الزميل الكريم ابن الكريم الأستاذ راغب المدهون

صاحب جريدة النذير البيروتية الغرَّاء، فكانت وفاته في عنفوان الشباب والقدرة على

الجهاد خسارة على صحائف البلاد، لا يجهل كنهها من عرف قلة الأكفاء من المنتحلين

لها، فنعزي والده الجليل والأمة بأسرها، ونحمد الله تعالى أن الجريدة لا تزال

تصدر، فأطال الله عمرها.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

أسئلة من أوروبة

(س1 - 5) من صاحب الإمضاء أحد علماء المسلمين في (إيبك -

يوغوسلافيا) حضرة العالم الفاضل، شيخ الإسلام، مرشد الأنام، قطب المحققين،

غوث المدققين، سيدي الشيخ رشيد رضا أدام الله بقاءه ونفعنا به وبعلومه والمسلمين

آمين.

(1)

كيف كان السلف الصالح يصلون الجمعة؟ يعني كم ركعة من الرواتب

للجمعة؟ يصلون قبل فرض الجمعة أربع ركعات، هل هذا من تحية المسجد أو من

سنة الجمعة؟ وهل من السنة المؤكدة أن تصلي شيئًا بعد فرضها؟ أنا أريد منكم أن

تتفضلوا بالجواب بالقرآن والسنة لا من أقوال أصحاب المذاهب.

(2)

ما قولكم في رجل لم يكن مستطيعًا للحج فحج بدلاً عن غيره قبل أن

يحج عن نفسه؛ لأنه ما كان مكلفًا به عند الحنفية، ثم رجع بعد الحج إلى وطنه،

وما أقام في مكة لأداء مناسك الحج في السنة الآتية عن نفسه، فهل يكون مأمورًا

ألبتة ومكلفًا به عن نفسه أم لا؟

(3)

أربع ركعات قبل العشاء، هل لها حديث ثابت عن رسول الله صلى

الله عليه وسلم؟ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هذه؟

(4)

الاحتقان في رمضان هل يفسد الصوم أم لا؟

(5)

ما حكم الجعة في الشرع؟ وهل تُعَدُّ من الخمر أم لا؟

أقدم لفضيلتكم هذه الأسئلة راجيًا الجواب عنها بأسرع ما أمكن، وأسترحم

جنابكم العالي قبول تحياتي واحتراماتي الفائقة الخالصة.

... يحيى سلامي

(أجوبة المنار)

(1)

هل للجمعة راتبة قبلها وبعدها؟

سبق لنا بحث في هذه المسألة طال عهده، ونقول الآن: إنه لم يرد نص عن

الشارع بطلب عدد معين من الركعات قبل الجمعة، والمعروف في الصحاح أن

النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته لصلاتها فيبتدر المنبر فيؤذن بين

يديه فيخطب فينزل فيصلي فينصرف إلا أن يتأخر لسبب غير الصلاة؛ ولكن

وردت الآثار في التنفل قبلها، فكان السلف من الصحابة ومن بعدهم يبكرون في

السعي إلى المسجد قبل الزوال فيصلي كلٌّ ما بدا له لما ورد في السنة من الترغيب

في التبكير إلى المسجد وصلاة ما تيسر فيه، وكانوا إذا خرج الإمام إلى المسجد

يقطعون الصلاة لما تقدم إلا تحية المسجد لمن دخله، فقد ثبت في الصحيحين

وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهما من دخل المسجد وهو يخطب. رواه

الجماعة كلهم، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام

يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث

جابر رضي الله عنه وفي رواية (وقد خرج الإمام) بدل (والإمام يخطب)

متفق عليه.

وجملة القول: إن صلاة النفل قبل الجمعة مأثور، ومن كرهه من العلماء بعد

الزوال فليس له عليه دليل خاص، وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج

عند الزوال فتنقطع الصلاة بخروجه إلا تحية المسجد - ليس نصًّا في اطراد ذلك،

ومن قال: إن لها راتبة معينة كراتبة الصبح والظهر بحيث يُستحب قضاؤها إذا

فاتت، لا يمكنه أن يأتي بنص يثبته أيضًا؛ وإنما قصاراه قياس الجمعة على الظهر.

وأما الصلاة بعدها ففيه حديث أبي هريرة المرفوع (إذا صلى أحدكم الجمعة

فليصل بعدها أربع ركعات) رواه مسلم وأصحاب السنن، وحديث ابن عمر (أن

النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة

كلهم، وكان ابن عمر يفعل هذا لشدة تتبعه لآثاره صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان

في المسجد الحرام؛ فإنه كان يصليهما فيه، وعلل بأن سببه رغبته في البقاء في

المسجد مثلاً، وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل هاتين الركعتين بعد الجمعة،

فالأفضل لمن ينصرف من الجمعة إلى بيته أن يصلي فيه ركعتين، أو أربعًا،

وقال بعض الصحابة وفقهاء الأمصار: بل له أن يصلي ما يشاء؛ ولكنه ينوي

بالركعتين الاستنان به صلى الله عليه وسلم، وبالأربع امتثال أمره الذي هو هنا

للندب، وإن نشط للزيادة كان عاملاً بالترغيبات العامة في صلاة النفل.

(2)

من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه:

في هذه المسألة أقوال أقواها قول الجمهور: من حج عن غيره ولم يكن حج

عن نفسه وقعت حجته عن نفسه دون غيره سواء كان قبلها مستطيعًا أم لا، ودليلهم

حديث ابن عباس فيمن سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عن

شبرمة. قال (من شبرمة؟) قال: أخ لي - أو: قريب لي - قال: (حججت عن

نفسك؟) قال: لا، قال (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أحمد وأبو داود

وابن ماجه وصححه ابن حبان والبيهقي، والراجح عند أحمد وابن المنذر والطحاوي

وقْفه، ولا محل على هذا القول لبقية السؤال، فإن هذا الرجل قد سقطت عنه فريضة

الحج، وقال أصحابه: إنه يجب عليه رد ما عساه أخذه من المال أجرة ممن حج

عنه.

وقال بعض الفقاء من الحنفية وغيرهم: إن حجه عن غيره صحيح فعلى هذا

يجب عليه أن يحج عن نفسه إذا استطاع الحج بعد عودته إلى وطنه.

(3)

راتبة العشاء:

روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما

صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات

أو ست ركعات) ومن حديث ابن عباس في حديث صلاة النبي صلى الله عليه

وسلم في الليل عند البخاري أنه قال: بت في بيت خالتي ميمونة

الحديث، وفيه

فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات،

وفي المسألة أحاديث أخرى ضعيفة يقويها تأييد الصحيح لها.

(4)

الحقن في رمضان:

الحقن في رمضان إذا كان تحت الجلد في اليد أو الرجل أو غيرهما كما هو

المعهود في طب هذا العصر - فلا وجه للقول بإفطار الصائم به.

وأما الحقن في البطن وهو المعهود من زمن لا نعرف أوله، فمقتضى قواعد

الفقهاء أنه يفطر الصائم، بل غلا بعضهم كالشافعية فقالوا: إن كل ما يُدخله الصائم

في جوفه أو غيره بإذنه من منفذ أو غير منفذ كالمسبار - فإنه يفطر به. ومن المعلوم

أن الصيام الشرعي عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وفي معناه

الاستمناء، وقد يكون امتصاص الدخان في معنى شرب الماء ونحوه لأن الأجسام

الدخانية (الغازية) قريبة من الأجسام السائلة؛ ولذلك يسمى امتصاصها بالفم شربًا

في العرف العام، وهي تؤثر في الأعصاب كتأثير السائلات المخدرة كالقهوة والشاي

والمنبهة كالخمر، وتفيد متعاطيها شيئًا من قوة الغذاء، وحقن السائلات في الأمعاء

معروف، وهو يكون تارة لتطهيرها من الفساد، وتارة لإزالة ما يعرض لها من

القبض والجفاف، وقد يكون للتغذية والتقوية إذا كان في المعدة مرض يمنع من

قبولها الطعام والشراب، فهو يقوم مقامهما في التغذية.

وجملة القول: إن الصيام الشرعي معروف، والغرض منه معروف،

ومفسداته معروفة، وكل ما يستحدثه الناس مما ينافيه ويكون كالطعام والشراب في

إزالة الجوع والظمأ فحكمه حكمهما، وليس منه - فيما أرى - ما يكون من الحقن

تحت الجلد لتقوية المريض على مرضه أو ضعفه، إذا لم تكن هذه التقوية كالتغذية

والري، فإن كانت مزيلة للجوع والظمأ كالطعام والشراب فللقول بإفسادها للصيام

وجه ظاهر، وإن كان الحقن لأجلها، يباح للمريض كما يباح له الأكل والشرب وعليه

القضاء، وقد يقال: إنه لما لم يكن هذا الحقن أكلاً ولا شربًا ولا وقاعًا في حقيقته ولا

في صورته ولا لذته، فهو لا ينافي حقيقة الصيام، ولا حكمته والغرض من فرضه

وهو الإمساك عن هذه الشهوات الغالبة تعبدًا واحتسابًا لوجه الله تعالى وما يترتب عليه

من تربية الإرادة واكتساب ملكة التقوى المشار إليها بتعليل فرض الصيام بقوله

تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) .

(5)

الجعة خمر يحرم شربها:

الجعة هي الخمر الذي يُتخذ من نقيع الشعير المسماة عن الإفرنج (بالبيرة)

والمشهور أنها من الأشربة التي يُسكر كثيرها دون قليلها، والتحقيق أن ما أسكر

كثيره فقليله حرام، وإن كان لا يُسمى قبل بلوغه درجة الإسكار خمرًا كنبيذ التمر

والزبيب ونحوهما (أي ما ينقع منه بالماء ليحلو) فإنه متى صار يُسكر كثيره دخل

في عموم معنى اسم الخمر على التحقيق الذي بيَّناه في تفسير آيات المائدة في تحريم

الخمر القطعي، وإن قلنا: إنه لا يدخل في عموم اسمها، كان تحريمه من باب سد

الذريعة كتحريم ربا الفضل الذي هو ذريعة لربا النسيئة الذي من شأنه أن يتضاعف،

وهو الربا القطعي المحرم بنص القرآن كما بيَّناه في تفسير آية آل عمران فيه.

وقد بلغنا أنهم يصنعون في بعض البلاد جعة (بيرة) لأجل إدرار البول، لا

تسكر لخلوها من الغول (الكحول) ، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، إذ هي كنبيذ

التمر والزبيب (أي ما ينقع منهما في الماء) الذي كان يشرب منه النبي صلى الله

عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، حتى إذا ما تغير طعمه بطول المكث

وخُشي تأثيره وإسكار كثيره تركوه، وهو الذي صار الفساق من الملوك والأمراء

والأغنياء يشربونه بعد تغيره ووصوله إلى درجة الإسكار لمن أكثر منه، ووجدوا

من شذوذ بعض فقهاء الكوفة ما جرأهم عليه، إذ قالوا: إن ما يُسكر كثيره لا يحرم

منه إلا القدر المسكر، وتفلسف بعضهم فقال: إنما المحرم الجرعة أو الحسوة التي

يحدث بها السُّكر دون ما قبلها، فاغتر بذلك المتهاونون حتى وقعوا في السكر، إذ

لا يمكن لأحد أن يعرف الجرعة التي يحدث بها السُّكر، بل السُّكر لا يحدث

بالجرعة الأخيرة وحدها؛ لأنها في ذاتها كالجرعة الأولى؛ وإنما يحدث بالمجموع

فهو كله حرام، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في تفسير آيات المائدة فيراجعها من شاء

(ص51-55 ج7 تفسير) .

_________

ص: 101

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أسئلة في إهداء قراءة القرآن للموتى بالأجرة

(س من 6 إلى 10)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن

عبد الله (وبعد) فمن محمد أحمد عبد السلام مؤسس الجمعية السلفية المؤلفة لإحياء

السنة المحمدية بعزب فابريقة السكر بالحوامدية إلى حضرة صاحب الفضل

والفضيلة مفتي الأنام، وشيخ مشايخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، محيي السنة

وآثار السلف، ومميت البدعة وآراء الخلف، سيدي ووالدي، الشفيق بأبنائه

المسلمين، الذي أرجو من ربي، وأتمنى عليه يريني وجهه قبل مماتي، والذي يصير

الإسلام بعده يتيم الأبوين، المجتهد الكبير، والعلم الشهير، الذي جعل الله الحق على

لسانه (السيد محمد رشيد رضا) .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني سائل فضيلتكم عن الآتي،

وأرجو التكرم علي بالإجابة في أول عدد يُنشر من مناركم، وعدم إحالتي على

مجموعتكم لأني عارٍ منها؛ ولأني شارع في طبع كتاب اسمه المنحة المحمدية في

بيان العتاقة الشرعية من البدعية، وأريد إثبات فتواكم بهذا الكتاب، وصورة

المسألة:

(1)

هل قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات مشروعة أم لا؟

(2)

هل كان النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارته للقبور، أو عند موت

أحد أصحابه يقرأ له القرآن، أو يعمل له ختمة، أو عتاقة، أو سبحة أم لا؟ بيِّن

لنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

هل ما أورده عبد الحق الأزدي في كتاب العامة عن أبي بكر أحمد بن

محمد المروزي أنه سمع أحمد بن حنبل يقول: (إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة

الكتاب والمعوذتين، و (قل هو الله أحد) واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر؛ فإنه

يصل إليهم) وما رواه النسائي والرافعي في تاريخه وأبو محمد السمرقندي في

فضائل سورة الإخلاص من حديث علي رضي الله عنه (من مرَّ على المقابر،

وقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر

عدد الأموات) كما في شرح الإحياء ج 10 ص 371، وما ذكره القرطبي في

تذكرته عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة

وخاتمتها، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دخل المقابر فقرأ

سورة يس خفف عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات) وما يروى عن عبد الله بن

عمر رضي الله عنه: (أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة) كما في رسالة

جلاء القلوب للبركوي المطبوعة على هامش شرح شرعة الإسلام (ص94) هل

يا سيدي كل هذا وما شاكله صحيح أو موضوع لا يعمل به؟ وإذا قلتم بالوضع فمن

الذي قال به من علماء المحدثين أو غيرهم، وفي أي الكتب نجد ذلك؟

(4)

هل يوجد في الكتاب أو السنة دليل صحيح قطعي ينافي الأحاديث

المتقدمة في وصول القراءة للأموات؟ إن قلتم يوجد فاذكروا لنا ما نقتنع به،

ويقطع لسان المبتدعة.

(5)

ما حكم الله فيمن يقرءون القرآن بالأجرة في المآتم، وفي ليالي

رمضان، والذين يقرءونه بالقُرص والرغفان والبرتقان والملاليم والنياكل، أدركني

يا سيدي بالفتوى لعلي أدرك إثباتها في مؤلفي في موضعها أو ألحقها به قبل إتمام

طبعه، جعلك الله ذخرًا للمسلمين، وأراني وجهك قريبًا في خير، والسلام عليكم

ورحمة الله.

...

...

...

...

9ذي الحجة 1347

أجوبة المنار:

الحمد لله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أعتذر للقراء عن

نشر إطراء هذا السائل ومن قبله لي بما لست أهلاً له ولا لجزء منه، وأرجو أن لا

يعودا إلى مثله، ولولا ما بينته في مجلد سابق من أسباب التزام نشر الأسئلة

بنصوصها، ومنه الاقتداء بمثله من كتب فتاوى جميع العلماء لما نشرتها، ثم أقول:

6-

أما الجواب عن السؤال الأول فهو النفي، وقد فصلت أدلته في آخر

تفسير سورة الأنعام (من ص255 - 270 ج 8 تفسير) فيراجع فيه إذ لا يمكن

إعادته.

7-

وكذلك الجواب عن السؤال الثاني، وهو يدخل في تفصيلنا المشار إليه

آنفًا وأزيد عليه أنني لا أعلم أن أحدًا ادّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ

القرآن على القبور عند زيارتها أو يعمل ختمة أو عتاقة أو سبحة! على كثرة الروايات

الموضوعات والواهيات التي يدعيها أصحاب أمثال هذه البدع.

وأما ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور ويأمر به، فهو

معروف في دواوين السنة، وهو السلام عليهم ودعاء الزائر لهم وله بالعافية وغير

ذلك مما لا حاجة إلى ذكره لشهرته.

8-

إن من إضاعة عمر الإنسان أن يبحث عن كل ما يراه في كتب المتأخرين

من الأخبار والآثار الشاذة والمنكرة المخالفة للأصول العامة المقررة في القرآن

المجيد والسنن الثابتة ليعلم ما عسى أن يكون لها من رواية، وماذا قيل في إسنادها

وذلك مثل كتب المروزي والسمرقندي والبركوي المذكورين في السؤال وأضرابهم.

فأما حديث علي في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) فلا نعرفه

في سنن النسائي ولم نجده في فضائلها من كتاب فضائل القرآن، ولا كتاب الجنائز

من كنز العمال الذي جمع فيه مؤلفه أحاديث الجامع الكبير كلها. والرافعي

والسمرقندي يرويان كثيرًا من الأحاديث الواهية والموضوعة وكتاباهما ليسا في

أيدينا لننظر أسانيدهما له إن وجد فيها، وكذلك حديث (من دخل المقابر فقرأ سورة

يس

إلخ) لم نجده في فضائلها من كنز العمال، وأما حديث النسائي في قراءتها

على المحتضر فقد ذكرناه في بحثنا المشار إليه آنفًا، ولم يذكر العلامة الحافظ ابن

القيم هذين الحديثين فيما أورده من الاحتجاج على وصول ثواب القراءة للموتى،

وناهيكم بسعة اطلاعه، ولا ذكرهما غيره من العلماء الذين يعتد بنقلهم في استدلالهم

على ذلك، ولا وصفهما الزبيدي بصحة ولا حسن كعادته، وأما سائر ما ذكرتم من

الآثار فإن ثبت لا يعد حجة، وقد صرح ابن القيم أيضًا بأنه لم يصح شيء عن

السلف في القراءة على الموتى، وأجاب عنه باحتمال إخفائهم لهذا العمل حتى لم

يعلم به رواة الآثار، وقد بيَّنا ضعفه في بحثنا المذكور، ونقلنا أقوال فقهاء الحنابلة

في المسألة، ومن المقرر عند العلماء أنه لا يجوز لأحد الأخذ ولا العمل بحديث لا

يعرف صحة سنده وموافقة متنه للقطعيات من الكتاب والسنة، ومن احتج علينا

بأمثال هذه الروايات نجيبه بالقاعدة الآتية:

9-

القاعدة عند أهل العلم أن يطلب الدليل ممن يدعي إثبات الشيء لا ممن

ينفيه فإنهم يكتفون من النافي بالمنع، والذي بيَّناه من قبل وفاقًا لأئمة الفقه أن آية

الأنعام التي ذكرنا هذا البحث في سياق تفسيرها وآية سورة النجم {أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ

وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) تدلان على

عدم وصول ثواب قراءة القرآن إلى من يُهدى ثوابها لهم من الموتى أو الأحياء،

وقد بيَّنا هنالك وجه الدلالة بالتفصيل وما يؤديدهما من الآيات الكثيرة في كون جزاء

كل أحد بعمله لا بعمل غيره، له ثوابه وعليه عقابه، وكون المدار في ثواب الأعمال

على تأثيرها في تزكية النفس، وهذه نصوص قطيعة تؤيدها الأحاديث الصحيحة،

فإن فرضنا أن الحديثين اللذين أوردتموهما في السؤال الثالث في فضل سورتي

الإخلاص ويس مرويين؛ فإنهما لا يصلحان لمعارضة هذه النصوص وهذه القاعدة

المأخوذة من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس:

9-

10) وإن صح سندهما! فكيف وهما لا يُعرفان في شيء من دواوين السنة؟

10-

قراءة القرآن عبادة كالدعاء والتهليل والتسبيح وغيرها من الأذكار،

ومن المعلوم من الإسلام للخاص والعام أنه لا يجوز أخذ الإنسان أجرة على العبادة

المحضة، ولا أن يؤدي العبادة لأجل غيره، ولا سيما إذا كان على عمل غير

مشروع كجعله للموتى، وناهيك بأخذ أجرة خسيسة حقيرة تنافي ما يجب من تعظيم

القرآن، وقد منع الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن بناء على أنه عبادة أيضًا،

وأجازه الجمهور، ومما استدلوا به حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة

التي وهبت نفسها له لمن لا يجد مالاً يصدقها به بما معه من القرآن على أن يعلمها

ذلك، وبحديث إباحة أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة مع حديث (أحق ما أخذتم عليه

أجرًا كتاب الله) وكلاهما في صحيح البخاري وغيره، وما ورد في سنن أبي داود من

الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يرتقي إلى الصحة التي يعارض بها هذا

وهو غير صريح في المسألة، ولا يبعد أن يُعد من قبيل التعليم الإرشادي للقرآن ما

جرت به العادة من اختلاف بعض الحفاظ كل يوم إلى بعض البيوت في رمضان

وغيره يقرءون فيها شيئًا من القرآن ليسمعه أهلها، وسماع القرآن مفيد في تقوية

الإيمان، ومن السامعين له من يستفيد منه علمًا وأدبًا بقدر استعداده، فإذا قصد القارئ

ذلك مع التعبد والاتعاظ بنفسه أرجو أن يباح له أخذ ما يعطى في كل شهر وهو يكون

بغير عقد خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا

بهذه الوسيلة، وهو هجر له، وناهيك به من مصيبة.

_________

ص: 105

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

هل يكفر تارك الصلاة؟

حكم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم

الوهابية

(س11-12) من محمد أفندي جمعة الزيلع التاجر في ميناء طرابلس الشام.

مولاي الأستاذ المعظم السيد رشيد أفندي رضا الأفخم.

إنني لمست مناركم الأغر فوجدته يضيء، ولم لم تمسسه نار، نور على نور،

يهدي الله لنوره من يشاء، لقد أضاء مناركم على الشرق والغرب فأصبحتم بنعمة

الله حكيمها، لا زلتم مصدرًا للعلم والعرفان، مكللاً بالنصر المؤزر من الرحمن

الرحيم.

مولاي: سؤالين أعرضهما على سماحتكم أيها البحر الزاخر علمًا، وأسترحم

بيانهما على صفحات مجلتكم الغراء لتعم الفائدة، والله ولي التوفيق:

(11)

إنني كلما أرتل هذه الآية الكريمة، قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ} (الروم: 31) وعندما أتلو هذه

الأحاديث الشريفة التي منها قوله عليه السلام: (ليس بين العبد والشرك إلا ترك

الصلاة فإذا تركها فقد أشرك) عن أنس صححه في الجامع الصغير، وعن ابن

عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا قد رفعه إلى النبي صلى

الله عليه وسلم قال: (عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من

ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة

المكتوبة، وصوم رمضان) رواه أبو يعلى بإسناد حسن، ورواه سعيد بن زيد أخو

حماد بن زيد عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس مرفوعًا

وقال فيه: (من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يُقبل منه صرف ولا عدل،

وقد حل دمه وماله) .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

ذكر الصلاة يومًا فقال: (من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة،

ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع

قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير

والأوسط وابن حبان في صحيحه.

فيرتعش فؤادي عندما أريد تطبيق ما ذكر على حالتنا الحاضرة معشر

المسلمين، فأجدنا غافلين عن الإسلام وتعاليمه فحسبنا الله تعالى، وبعد هذا

فيعترض البعض على قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم:

47) فأين المؤمنون ياترى؟ فما قول مولانا في صحة ما تقدم؟ فإن كان صحيحًا

هل يجوز شرعًا أن نعقد زواج بنتنا على الرجل الذي يترك الصلاة؟ وهل برئت

الذمة منه؟

(12)

الدعاء إلى الله تعالى بالتوسل: هل فيه شك أو ريب إذ دعوت الله

قائلاً: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إنني قد

توجهت بك إلى ربك في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفِّعه في واقض حاجتي هذه

بجاهه عندك؟ وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

أريد أن أزجر بهذا السؤال بعض الأفَّاكين الذين يقولون عن إخواننا المؤمنين

القائمين بالكتاب والسنة كبني نجد الكرام، وإمامهم العظيم خادم العلم الصحيح،

ونابذ البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكثير من الناس يقولون ما لا يعملون

عن هذا الإمام المعظم أدامه الله ذخرًا للإسلام، فيقول البعض: إن الإمام وقومه

يمنعون ذكر الرسول وتعظيمه عليه السلام، وهذا ما لا أعتقده؛ فإن أمثال الإمام

الكريم القائم بأمر الله وسنة نبيه لا يكون إلا محبًّا للرسول عليه السلام حيث قال

تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) إذًا محبة الله ورسوله هي

القيام بما أمر الله ورسوله لا بنشر البدع الى عمت، وأصبحت من الإسلام بنظر

الجاهلين حقيقة الدين وتعاليمه، فحسبنا الله.

نسأل الله أن يلهمنا الرشد إنه سميع مجيب، وأُقَبِّل أيادي مولاي في البدء

والختام.

...

...

...

...

المخلص

...

...

...

... محمد جمعة الزيلع

(11)

الكفر بترك الصلاة:

يرى السائل في تفسير القرآن الحكيم من هذا الجزء بحثًا مستفيضًا في مسألة

الكفر بترك الصلاة والزكاة والصيام، وخلاف العلماء في ذلك، وأن التحقيق في

المسألة أن من ترك الصلاة وكذا غيرها من أركان الإسلام جاحدًا أو مستبيحًا لذلك

غير مبالٍ بالدين - فهو كافر بإجماع المسلمين، وأن من ترك بعض الصلوات دون

بعض يكفر في قول بعض الأئمة دون بعض، ومن لا يكفر بترك الصلاة لا يكفر

بترك غيرها؛ لأنها عمود الإسلام وأعظم أركانه، وقد بيَّنا أنه لا يعقل أن يتركها

مؤمن صحيح الإيمان مذعن صحيح الإسلام إلا أن يكون جاهلاً مغرورًا بالاعتماد

على المغفرة والشفاعة، ومثل هذا لم يكن يُعدَّ عذرًا شرعيًّا أيام كان الإسلام إسلامًا

معروفًا، وقد يعد صاحبه في هذا الوقت ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام على الوجه

الحق التفصيلي لعموم الجهل، والأحاديث التي استدلوا بها على كفر تارك الصلاة

كثيرة ذكرنا في هذا البحث أصحها، وما ذكره السائل منها لا يصح كله.

فمن علم من رجل أنه لا يصلي ولا يصوم لفساد عقيدته الدينية، وعدم

مبالاته بما أوجب الله وما حرَّم، فليس للمسلم أن يزوجه ابنته أو موليته؛ ولكنه إذا

علم أنه مؤمن مغرور متكل على المغفرة أو الشفاعة مثلاً فليس له أن يجزم بكفره،

بل ينصح له ويعلمه ما يجهله من ضروريات الدين وكونه بدون إقامة أركانه لا

وجود له.

وطالما أقمنا الدلائل وبيَّنا الآيات في إثبات أن الكثيرين من مسلمي البلاد

الإسلامية ليس لديهم من الإسلام الحقيقي إلا الاسم، وأطلقنا عليهم لقب (المسلمين

الجغرافيين) .

(12)

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم:

وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم باللفظ الذي ذكرتم فله أصل في

حديث الأعمى الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله

عليه بصره، وأرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن الصبر على مصيبته خير له في

الآخرة، فأبى إلا أن يدعو له صلى الله عليه وسلم، فدعا له صلى الله عليه وسلم

وعلَّمه أن يدعو الله تعالى بهذه الألفاظ، أو ما يقرب منها فدعا ورد الله عليه بصره

بدعاء نبيه ودعائه هو بأن يشفِّعه الله تعالى فيه، والحديث في سنن الترمذي

والنسائي وغيرهما من حديث عثمان بن حنيف الصحابي رضي الله عنه، وله

روايات عند غيرهما، والتحقيق أن هذا توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا

بشخصه، ولا يتأتى مثله لأحد بعد وفاته فغير مشروع أن يطلب منه صلى الله عليه

وسلم بعد وفاته دعاء، لم يصح عن أحد من الصحابة ذلك، بل صح في حديث

توسلهم بالعباس في الاستسقاء ما يدل على امتناع التوسل بمثل ذلك بعد وفاته

صلوات الله وسلامه عليه إذ قال عمر: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا

فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) والحديث في صحيح البخاري، ولو كان التوسل

بشخصه صلى الله عليه وسلم أو بدعائه بعد موته مشروعًا معروفًا عندهم رضي الله

عنهم لما عدلوا عن الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بدعاء العباس

رضي الله عنه.

ولكن بعض العلماء المتأخرين لم يفطنوا لهذا الفرق بين التوسلين، فاستدلوا

بحديث الأعمى على جواز التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وبطلب

دعائه وشفاعته بعد وفاته، فهم معذورون باجتهادهم، وإن كان خطأ، وقد بيَّنا تحقيق

هذه المسألة من قبل في المنار، وهي مفصلة بأدلتها ومنها روايات حديث الأعمى ما

صح منها وما لم يصح في كتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه

الله فليراجعها من شاء، وما ذكرتم من التقول والبهتان على الوهابية وملكهم إمام

السنة ومحييها فهو من غرائب افتراء أناس يدَّعون الإسلام، وقد عرف كذبهم في

العصر الملايين من الناس باختبار الحجاج الصادقين وأخبارهم، وما تنشره الجرائد

منها.

_________

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حكم من تبرأ منهن النبي صلى الله عليه وسلم

كالنائحات، ومدة الحداد

(س13-14) من صاحب الإمضاء في مزارع أولاد عليوة (برديس)

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة المحترم الفاضل الشيخ السيد رشيد رضا: بعد السلام وواجبات

الاحترام، نعرف حضرتكم أنه استشكل علينا الأمر فيما يأتي:

(1)

في صحيح البخاري حديث (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب

ودعا بدعوى الجاهلية، وإني بريء من الصالقة والحالقة والشاقة جيبها والداعية

بالويل والثبور) [*] واختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال: إن الفاعلة ذلك طالقة

من زوجها لا تحل له إلا من بعد أن تُستتاب، وبعد عقد جديد، ومنهم من قال

بطريقة التوبة فقط.

فنرجو منكم بيان ذلك بيانًا شافيًا في عدد من أعداد مجلتكم الغرّاء قريبًا، ولكم

منَّا الشكر.

(2)

وأيضًا في حديث المحدة المروي في البخاري (لا تحد امرأة فوق

ثلاثة أيام إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا) [1] .

منهم من أجاز الإحداد لسبعة أيام على الأب، ومنهم من منع ذلك، فنرجو من

فضيلتكم البيان الشافي في ذلك، وما الحكم في المحدود مع ما ذُكِرَ لأن الناس

استغرقت في هذا الأمر استغراقًا كثيرًا حتى قل من ينهى زوجته وأقاربه عن ذلك.

فلهذا نرجو من فضيلتكم كل الاهتمام في هذا الأمر؛ ولنرى ما نتبع في ذلك،

وسلامنا على جميع من يسأل عنا وعنكم، والسلام على من اتبع الهدى ودين الحق.

...

...

...

... أحمد محمود أبو ستيت

...

...

...

السلفي السني

جواب المنار:

(13)

وردت أحاديث كثيرة في الزجر عن المعاصي والرذائل، وفي

التقصير في الفضائل بلفظ (ليس منا من فعل كذا) وبلفظ البراءة، منها ما ذُكر في

السؤال، ومنها (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من

الرجال) رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بسند صحيح، ومنها (ليس منا

من غش) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم بهذا اللفظ، ورواه الترمذي

بلفظ (من غش فليس منَّا) كلاهما صحيح من حديث أبي هريرة، ومنها (ليس

منَّا من لم يتغن بالقرآن) رواه البخاري من حديثه وغيره من غيره، ومنها

(ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) رواه أحمد والترمذي من

حديث عبد الله بن عمر والترمذي بلفظ (ويوقر كبيرنا) من حديث أنس وكلاهما

صحيح، ومنها (ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل على عصبية،

وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم بسند

حسن، ولا يقول أحد يعرف أصول الإسلام وفروعه ويفهم نصوصه: إن هذه

الأعمال أو التروك كفر وارتداد عن الإسلام؛ وإنما اتفقوا على أن هذه الصيغة

وأمثالها للتغليظ والتشديد في هذه الأمور التي هي من أعمال الجاهلية وشؤونها،

فترى شراح البخاري يقولون في (ليس منَّا) أن معناه ليس من أهل سنتنا وطريقتنا،

وليس المراد به إخراجه عن الدين؛ وإنما المراد به المبالغة في الردع، وقال

بعضهم في حديث التبري: إنه وعيد للمتبرَّأ منه بأنه صلى الله عليه وسلم لا يُدْخِلَه

في شفاعته، فمن قال: إن المرأة المسلمة ترتد عن الإسلام وتبين من زوجها

بالنواح والندب ونحوهما من أعمال الجاهلية المحرمة - فهو جاهل، وإنما ينبغي

للمسلم الحريص على دينه وعلى زوجه أن يختبر عقيدتها فيما يُخِلُّ بتوحيد الله

تعالى مما نشأ في النساء والرجال من عقائد الوثنية كدعاء غير الله تعالى، والذبح

لغير الله تعالى وغير ذلك مما شرحناه في المنار والتفسير مرارًا كثيرة.

يجب العمل في الحداد بما صح في الحديث وعدم الالتفات إلى من أجاز

مخالفته بهواه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ} (النور: 63) .

***

النفس الواحدة التي خلق منها الناس

(س14) من صاحب الإمضاء في (زنجبار) في ذيل كتاب خاص.

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) .

ما قولكم في معنى النفس الواحدة هل هي نفس آدم؟ وهل حواء من تلك

النفس؟ وهل هي من تلك الطينة التي هي نفس آدم؟ أو هي من ضلعه الأيسر

على ما يزعمون؟ أفيدوا بالجواب الشافي ولكم مني جزيل الشكر والسلام.

...

محمد عبد الله قرنح

(ج) يطلق لفظ النفس في اللغة على روح الإنسان، وعلى ذاته وعلى الدم،

قال في المصباح المنير: والنفس أنثى إن أُريد بها الروح، قال تعالى: {خَلَقَكُم

مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) وإن أُريد الشخص فمذكر اهـ. ولا تطلق النفس

على الطينة مطلقًا، فالفيومي صاحب المصباح فسَّر النفس في الآية بالروح بدليل

وصفها بواحدة، ويظهر أنه يريد بها جنس النفس كأنه يقول: إنه خلقكم من جنس

واحد وحقيقة واحدة، فأصلكم واحد فلا ينبغي لكم أن يتكبر بعضكم على بعض

ويفتخر عليه بنسبه، وأما قوله تعالى:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف:

189) فهو كقوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً

وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً} (الشورى: 11) أي جعل لكل جنس من الأحياء زوجين

لأجل التناسل كما قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 49)

والذي عليه جمهور المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم عليه السلام، وهو

تفسير مراد مبني على الاعتقاد أن أبا البشر هو آدم عليه السلام لا تفسير بمدلول

اللغة، ولا بنص مأثور عن الشارع، وما صح في الحديث من كون آدم أبا البشر لم

يرد تفسيرًا للآية، وتفسير النفس بآدم في هذه الآية لا يظهر في آية الأعراف {هُوَ

الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً

خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189) الآية، فإن النص يقتضي أن النفس الأولى

هي الأنثى، وأن زوجها الذي خُلق منها هو الذكر بدليل تغشيه إياها وحملها بالولد،

دع ما فيها من الحكم بالشرك عليهما وعلى ولدهما، وتجد في هذا الموضوع بحثًا

طويلاً في تفسير الآية، وهي أول سورة النساء في الجزء الرابع من تفسيرنا.

وأما قوله تعالى {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) فهو على القول بأن

النفس الواحدة آدم، لا يدل على أنها خُلقت من ضلعه، ولا من طينته، بل معناه

على كل حال أن هذا الزوج من جنس هذه النفس كما قال في سورة الروم {وَمِنْ

آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: 21) فليس معناه أن

زوج كل واحد من البشر بضعة من جسمه، بل المعنى أنها من جنسه الذي هو علة

سكون كل من الزوجين إلى الآخر الذي هو مقدمة الاختلاط الذي يكون سبب النسل

بمقتضى سنة الله تعالى في خلقه كما بيَّناه في التفسير، وفيه أن جمهور المفسرين

الذين قالوا: إن المراد بالنفس آدم عليه السلام، يقولون: إن المراد (بزوجها)

حواء، وأنها خُلقت من ضلعه الأيسر وهو نائم، وأن هذا قول مأخوذ من الفصل

الثاني من أسفار التوراة الذي لا يعرف أحد كاتبه على سبيل القطع، وما ورد في

حديث الوصية بالنساء من الصحيح من خلقهن من ضلع، فالتحقيق أنه من قبيل

قوله تعالى {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37) كما بيَّناه في المنار من قبل،

وفي لفظ للحديث من البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما المرأة

كالضلع)

إلخ بالتشبيه، ونحن نقول بأن آدم عليه السلام أبو البشر، وأن

حواء عليها السلام أم البشر كما هو المشهور عندنا وعند أهل الكتاب، وإنما

نقول: إن الآية ليست نصًّا في هذا المعنى، ولا هو المعنى الظاهر المتبادر منها

بحسب مفهوم اللغة، والله أعلم بمراده.

_________

(*) قوله: (وإني بريء) حديث آخر رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه بلفظ (إني أبرأ ممن برئ منه محمد صلى الله عليه وسلم، برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) وليس في هذا الحديث ذكر الويل والثبور؛ ولكنه ورد في حديث آخر، والصالفة التي ترفع صوتها بالبكاء أو التي تضرب وجهها، والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها.

(1)

لفظ الحديث (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا زوج أربعة أشهر وعشرًا) وفيه ألفاظ أخرى.

ص: 111

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجمع بين مسألة الذكران والإناث في المدارس

ومسألة التجديد والتجدد

(مجمل محاضرة ألقيناها في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة)

إن مسألة جمع البنات مع البنين في مقاعد التعليم الثانوي والعالي من أعظم

الأغراض التي يرمي إليها دعاة الثورة الدينية المدنية باسم التجديد المراد به هدم

القديم من مقومات الأمة من دين وتشريع وأدب وسياسة، ومشخصاتها من العادات

والأزياء وغير ذلك، والتجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجديد من مقتضى

الفِطر والطباع، ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع فلا

تناقض بينهما ولا تضاد إذا وضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط.

من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلق والديه وأخلاقهما بعض

المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ

الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتهما الجسدية والنفسية،

ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعا مستقلاًّ

بنفسه.

ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد من

محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة، ثم

تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما

تكونت البيوت والفصائل والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من

المشاركات في الأعمال، التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن

رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكون بها الفصائل قبيلة والبيوت

أمة.

ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تهدي إليه غريزة الاستقلال - المقابلة

لغريزة التقليد - من الميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر

كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل.

التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج

الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها، به يرتقون في مدارج

العمران، ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى إن الدين الإلهي الذي يستند

إلى وحي الرب الحكيم - بمحض فضله - لبعض من أعدّ أرواحهم القدسية لذلك من

أصفياء خلقه، قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور

حتى أكمله تعالى لهم بالإسلام عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال.

ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه

عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة

سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والبيهقي في

المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه الصغير إلى

صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته، ونفي ما يعرض

لأهله من البدع أو الغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق وسنن

الاجتماع والعمران في شريعته، وبهذا المعنى أُعد نفسي داعية تجديد ديني مدني،

وعدوًّا مجاهدًا للجمود على التقليد، والإصرار على ما ثبت بطلانه أو ضرره من

القديم، فلا يحسبن أحد من شبابنا أنني أحكم في موضوعنا بتأثير الجمود على كل قديم.

أول شاهد لي على هذا مقدمة العدد الأول من صحيفتي المنار التي كتبتها في

مثل هذا الشهر [*](شوال) أي سنة 1315 منذ ثلاث وثلاثين سنة، فقد أشرت

في أولها إلى الجديد والتجديد المدني بهذه الكلمة:

(أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك،

فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماء أو موتًا زؤامًا.

تنبَّه من رقادك، وامسح النوم من عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد

بُدلت الأرض غير الأرض، ودخل بها الإنسان في طور آخر خضع له به العالم

الكبير) .

ثم أشرت فيها إلى جملة المخترعات الصناعية، وما تجدد في العلوم الطبيعية،

وانتقلتُ من ذلك إلى بيان أغراضي من إنشاء الصحيفة، مبتدئًا بقولي (وغرضها

الأول الحث على تربية البنات والبنين) هكذا بتقديم ذكر البنات على البنين، فأنا

داعية إلى تجديد من أهم قواعده ترقية مدارك النساء بالتربية والتعليم. وفي المنار

مقالات كثيرة وفتاوى في ذلك من أشهرها مقالات (الحياة الزوجية) التي أودع

بعضها الأستاذ الاجتماعي الاقتصادي محمد طلعت بك حرب الشهير كتابه (تربية

المرأة) .

فأنتم ترون أنني كنت منذ ثلث قرن داعية تجديد، وذلك قبل شيوع هذا اللفظ

في هذه السنين، وقد تفضل علي بلقب (المجدد) بعض الكتاب والمحبين، قبل أن

ينتحله ويريد احتكاره بعض المعاصرين؛ ولكني أسير في كل من التجديد

والمحافظة على سنن الطبيعة التي أشرت إليها آنفًا، فأقول في الدين بقاعدة الإمام

مالك رحمه الله تعالى، وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن

وبيان السنة النبوية له وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع،

ومراعاة مصالح العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها.

وأما ما فوَّضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم، ووكله إلى علمهم

وتجاربهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله صلوات

الله وسلامه عليه: (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به،

وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه، أما هذا فأنا

أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها، وإلى ما لا يُعرف له حد

من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة

على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها.

أومأت إلى هذا التجديد في مصالح الدنيا وهداية الدين، ومقاومة التقليد الديني

للكتب والمؤلفين، بقولي في تلك الفاتحة بعد الحث على تربية البنات والبنين:

(وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في

الأعمال النافعة وطروق أبواب الاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة،

والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبّستْ

الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر

توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا

وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات

صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة والمهانة تواضعًا،

والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضا وتسليمًا، والتقليد الأعمى لكل متقدم علمًا

وإيقانًا) .

وعلى هذا الأساس المتين أبني رأيي في موضوع تعليم البنات والبنين، فأقول:

تقليدنا للإفرنج وما يجب نظره فيه:

إنني أرى أن ما يقال في فائدة الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد التعليم

في جميع درجاته، أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وأنه ناشئ عن تقليد للإفرنج،

لا عن خبرة تامة واستقلال في الرأي، ولا موازنة بينه وبين ما يعارضه في الضر

والنفع، ولا نظر دقيق في الفروق بيننا وبين أولئك القوم، وإنني خصم للتقليد

الديني والدنيوي معًا، وقد كان من أول نظمي للشعر في عهد طلب العلم في

طرابلس الشام قصيدة هذا مطلعها:

ليس التمدن تقليد الأوربي

فيما انتحاه من العادات والزّي

إن المقلد لا ينفك مرتكسًا

في الضعف يخبط في ليل دجوجي

بل التمدن ملزوم التقدم مد

عاة الرفاهة منفاة الألاقي [1]

روح شريف به تحيا الشعوب بما

يبث فيها من العلم الحقيقي

وحتى ترى كثرة الآحاد راجعة

لوحدة والفرادى كالأثابي [2]

والاختلاف بآراء الرجال لأجـ

ـل الاتفاق على نيل الأماني

نعم إن الباعث الأول على التقليد هو احتقار المقلد لنفسه، وتعظيمه لشأن من

يقلده، سواء أكان المقلد فردًا وجماعة كبيرة أو صغيرة وهي الأمة، فمن وطَّن

نفسه أو أمته على التقليد فقد حكم عليها بالذل، وأن تكون تابعة لا متبوعة،

مستعبدة لا مستقلة، قاصرة لا رشيدة، وقد عقد حكيمنا العربي الاجتماعي ابن

خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً خاصًّا في بيان (أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء

بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده) .

فيجب علينا أن نتقي هذا الخطر في حكمنا الاستقلالي على ما نُدعى إليه من

اتباع غيرنا - مما أشار إليه حكيمنا - وأن نكون على حذر في كل تغيير في مقومات

أمتنا ومشخصاتها، وأن نعتبر في ذلك بسير الأمم العزيزة في كل انقلاب حدث فيها،

ونوازن بين نفعه وضره، وما ينطبق وما لا ينطبق علينا منه، ولا يجب مثل هذا

فيما نحتاج إليه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية والعسكرية ونحوها لأن

الحاجة إليها في جميع الأمم واحدة مهما تكن أديانها وآدابها ولغاتها وتقاليدها.

وأول مَثَل يجب أن نعتبر به الأمة الإنكليزية التي هي أعز أمم الإفرنج

وأعظمها حضارة وسلطانًا، فإننا نراها أشد الأمم اعتصامًا بكل ما يتعلق بروابطها

الملية والقومية، من دينية ودنيوية، ومن أهم ذلك مسألة التغيير في كتاب الصلاة

التي كثر الخوض فيها أخيرًا، ورفض البرلمان قبول اقتراح التغيير فيه مع العلم

بأنه من وضع الكنيسة وتقاليدها، وكون تنقيحه بما يحتج به المقترحون من

المصلحة الدينية العامة لا يتضمن تغيير شيء من كتب العهدين القديم والجديد التي

هي عندهم ينابيع الدين.

ودون هذا ما يصر عليه الإنكليز من مقاييسهم وموازينهم لأنه إنكليزي، وعدم

قبولهم ما يخالفه من المقاييس والموازين العشرية على أفضليتها وتسهيلها لوسائل

التعامل العام بين البشر؛ لأنها من صنع اللاتين، لا من صنع الإنكليز.

ولنلق نظرة عجلى على تعليم النساء عندهم نجدهم إلى منتصف القرن التاسع

عشر قلما كانوا يَعْدُون في تعليم البنات الابتدائي شغل الإبرة والرقص والعزف

بالبيانو، ثم زادوا في مناهج تعليمهن الدين والأخلاق وتدبير المنزل، وفي ذلك

العهد أُسست في إنكلترة مدارس البنات الابتدائية، وفي العشر الأواخر منه بُدئ

بتأسيس مدرستين كليتين لهن وتلاهما غيرهما، ونجد أن مدرستي كمبردج

وأكسفورد الجامعتين كانتا تمتنعان عن إعطاء البنات الدرجة العلمية التي يستحققنها

بالامتحان، إلا أن الثانية رجعت عن هذا الحرمان لهن في سنة 1920 أي بعد أن

عظم سلطان النساء في أوربة كلها بما أبلين في عهد الحرب الكبرى، وبقيت الثانية

مصرة عليه إلى العام الماضي على ما رأيت في بعض المجلات العلمية، ولا أذكر

أنني رأيت نصًّا في رجوعها عنه.

ومما يجب أن ينظر فيه في مسألتنا نظرة تدقيق واعتبار ما بين نسائنا ونساء

الإفرنج من الاختلاف في العلم والعمل والتقاليد، ومع أهمية مشاركة النساء للرجال

عندهم في الكسب، وهو يسوغ من مشاركتهن لهم في التربية والتعليم ما لا يسوغه

حال نسائنا.

حجة القائلين باختلاط الجنسين:

إن الذي أعلمه أن أقوى حجج القائلين باختلاط الجنسين في جميع مراحل

التعليم وزعمهم أنه خير وسيلة للتربية الصحيحة، أن كلاًّ منهما يختبر الآخر حق

الاختبار، فيقف على أخلاقه وآدابه وآرائه ومقاصده من الحياة، فيكون من فوائد

ذلك أن تبنى البيوت (العائلات) التي تتكون منها الأمة على أساس ثابت صحيح

لا تقوضه أهواء جهل كل منهما بما ذكر، وما ينجم عن هذا الجهل من خلاف

وشقاق.

والذي أراه أن هذه نظرية خيالية، تنقضها الخبرة والتجارب العملية، ولو

ثبتت من بعض الوجوه لكان ما يعارضها من غوائل الاختلاط في أمتنا أحق وأولى

بالترجيح عليها، وهو ما سأشير إليه بالاختصار بعد نقضها.

أقول في هذا النقض (أولاً) إن كلاًّ من الفريقين الشقيقين يعرف في بلادنا ما

عليه الفريق الآخر في جملته من الأخلاق والآداب والعادات والتقاليد العامة

وأغراض الحياة ومنازعها بما يسمعه كل منهما ويراه ويبلوه من معاشرة الأقريين

والجيران وغيرهم، وأما معرفة كل فرد منهما لكل فرد من الآخر فلا سبيل إليه

بالاختلاط في المدارس، ولا فيما سيكون عاقبة له من الاجتماع في المحافل

والمجامع.

(ثانيًا) كانت هذه النظرية مسلَّمة عند جماهير المتفرنجين، وكثير من

غيرهم فيمن يريدان التزاوج، وقد بيَّنا بُطلانها في مقالات (الحياة الزوجية) بما

يؤيده ما فشا في هذه السنين من قلة الزواج وكثرة الطلاق في العالم الإفرنجي القديم

والجديد، وفي الشعوب المقلدة له وفي مقدمتها شعبنا المصري، وإنني في غنى عن

إيراد الشواهد وسرد الإحصاءات المخيفة في هذا بما تنشره الصحف منها في هذه

الأيام نقلاً عن صحف أوربة والولايات المتحدة الأمريكانية [**] .

(ثالثًا) إن من المعلوم بالاختبار أن كلاًّ من الجنسين يتجمل ويرائي الآخر

في معاشرته له منذ يشعران بالميل الغريزي الذي جعله الخالق الحكيم داعية التناسل

فيهما، فيخفي كل منهما عن الآخر ما يعهد أو يظن أنه يكرهه أو يستنكره،

ويتوخى إظهار ما يرجو أن يحبه ويؤثره، ولا سيما إذا كانا يميلان إلى الاقتران،

وقد شرحت هذا في مقالات الحياة الزوجية.

وإننا نرى علماء الإفرنج الأحرار يصرحون بأنه قلما يوجد عندهم زوجان

يعيشان كل عمرهما أو جله متحابين متوادين كما يصوره كُتّاب القصص الخيالية

التمثيلية وغيرها، ومنهم من قال إن الاتفاق الودي بين الزوجين لا يكاد يزيد عن

ثلاث سنين، ومنهم من مدَّ في أجله إلى خمس سنين، ولعل كثيرًا من السامعين

لهذه المحاضرة قد وقفوا على ما كتبه ذلك الحكيم الألماني الذي صور فقد السعادة

الزوجية من بيوت عاصمتهم بطرق أبواب كل بيت منها قائلاً لأهله: إنني سمعت

أن السعادة هبطت على الأرض ودخلت بيتكم، فأرجو أن تأذنوا لي بالدخول

لزيارتها، وبأن جواب أهل كل بيت منهم كان واحدًا: أن السعادة لم تدخل بيتنا، ولم

نرها. وقد نشرت جريدة السياسة من عهد غير بعيد أقوالاً لبعض الرجال والنساء من

الإنكليز في الحياة الزوجية تؤيد هذا.

والذي نعلمه عن الحياة الزوجية في الشعب الألماني أنها خير منها في غيره

من شعوب أوربة، كما حدثنا بذلك صديقنا المرحوم الدكتور الشيخ حامد والي الذي

تزوج ألمانية رُزق منها بعدة أولاد، وكان مغتبطًا بها كما كانت مغتبطة به.

ويظهر لي أن فضلاء الإفرنج، ولا سيما القائمين بحقوق الزوجية بما يرضاه

كل من الزوجين من الآخر إنما يعملون بحكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

رضي الله عنه، وإن لم يقفوا عليها، ذلك أن امرأة كانت تختصم إليه مع زوجها

فغلبها الغضب على الجهر بأنها لا تحبه، فقال عمر: إذا كانت إحداكن لا تحب

الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقل البيوت ما بني على المحبة؛ وإنما يتعاشر

الناس بالحسب والإسلام، والمراد بالحسب الشرف، ولا سيما إذا كان موروثًا،

والمعنى أن شرف الزوجية والأسرة يدعو كلاًّ من الزوجين لحفظ كرامة الآخر

وشرفه، وأن العمل بما تدعو إليه أحكام الإسلام كافٍ لهناء المعيشة من فرضه

المعاشرة بالمعروف والمساواة في الحقوق بين الزوجين، إلا رياسة الأسرة الخاصة

بالرجل، وإحصان كل منهما للآخر الذي يمنع بطبعه تطلعه إلى غيره، وكذا

توزيع الأعمال بينهما بجعل الخارجية للرجل والداخلية للمراة.

وأما غير الفضلاء منهم فلا يطيق الزوجان منهم الصبر على الحياة إلا

بإطلاق كل منهما الحرية للآخر حتى في اتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان،

وقد سَرَتْ عدواهم في بلادنا إلى بعض المتفرنجين، المجردين من هداية الدين.

بعد هذه الإشارة إلى تفنيد نظرية التماس السعادة الزوجية بالاختلاط بين

الجنسين في المدارس أشير إلى غوائله الشخصية والملية فأقول:

غوائل الاختلاط بين الجنسين:

(الغائلة الأولى) من المعلوم أن الشعور بالميل الفطري في كل من الجنسين

إلى الآخر يبتدئ في سن المراهقة، ويقوى بعد البلوغ، والقرب يذكي ناره،

والمعاشرة تضرم أواره، فإذا جُمع بينهما في مقاعد التعليم كان لكل منهما من شغل

القلب ومسارقة النظر، ومساوقة الحديث الشاغل للفكر - ما يكون صارفًا له عن

تربية قوة الذهن كلها إلى العلم.

ولعل هذا هو السبب في إباحة اليابانيين للجمع بينهما في التعليم الابتدائي،

والمنع منه في التعليم الثانوي، على أنه ليس عندهم من صيانة الحجاب ولا من

شدة المحافظة على الأعراض ما عندنا بوازع الدين والوراثة والوجدان، فنحن

أولى في جميع الأطوار والأحوال.

(الغائلة الثانية) أن قرب السَّواد من السواد، يدعو إلى المناجاة وطول

السِّواد، ويثير فيهما ذكرى الوساد [3] فيفضي إما إلى التبكير بالزواج إن تيسر،

وفيه من الصد عن العلم ما فيه، دع ما يذكره الأطباء وغيرهم من المضار الأخرى

له، وإما إلى مفاسد أخرى من دينية وصحية واقتصادية واجتماعية، بدأ الباحثون

يشكون بوادرها، ونعوذ بالله مما يتوقع من عواقبها.

وإنا لنعلم أن من دعاة ثورة التجديد والإباحة المعنية من التحرير، من لا

يبالون هذه العواقب، وإن منهم من يكابر الحس، ويماري في غرائز النفس،

فيدعي أن اختلاط الجنسين أقوى وسائل العفة والصيانة، يكسب كل منهما حصانة أي

حصانة، يعنون أنه كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية والتسمم بميكروبها،

يكسب صاحبه مناعة تقيه من العدوى بوبائها، وهذا قياس مع الفارق فإن ما نحن

فيه هو أشبه بالتعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، منه بالتلقيح ببعض ميكروبه

مع البعد عنه.

ولو شئنا لسردنا ما علمناه من الشواهد التي نقرءها في الجرائد، أو نسمعها

من كل مختبر أو مشاهد، على ما مُنِيَتْ به بلادنا من شرور الإباحة، وضروب

التهتك والوقاحة، وما أراني إلا من أقل السامعين لمحاضرتي علمًا بها.

وإنني أُذَكِّر من تنفعه الذكرى بأن تأثير هذا الاختلاط في مثل أمتنا أدهى وأمر

من مثله في أوربة بقدر ما بيننا وبين أهلها من التفاوت في العقائد والتقاليد والعادات،

وناهيكم بسرعة الانتقال من طور إلى طور، وما تقتضيه من غلو وإسراف، وقد

ثبت أن الذين ابتلوا بمصيبة السكر من المسلمين في الكبر، كانوا أشد إسرافًا فيه

ممن اعتادوه وكانوا يستحلونه من أول النشأة، وهذا يرجع إلى السنة المعروفة في

الطبيعة والاجتماع بناموس رد الفعل.

ومنه ما حدثني به عالم اجتماعي مؤرخ في سورية قال: إننا نحن النصارى

لما هتكنا ما كنا نجاري فيه إخواننا المسلمين من حجاب النساء لم يبق في مدينتنا

امرأة منا إلا ولها خدن أو أخدان، وقد هبط هذا الإسراف الآن، قال هذا منذ

عشرات من الأعوام، ولا بد أن يكون الإسراف قد عم وطم بما تجدد من حرية

الإباحة بعد الاحتلال الأجنبي.

(الغائلة الثالثة) أن الجمع بين الجنسين في مقاعد التعليم في جميع مراحله

وأسنانه، هو مبدأ ما ظهرت بوادره من إباحة الاختلاط بجميع صوره وأشكاله،

من رقص وسباحة وسفر مع الأجانب ومخادنة لهم وتزوج بهم، وفي ذلك من

المفاسد والمضار الأدبية والاجتماعية والصحية والمالية ما لا يمكن بيانه إلا في

محاضرة مستقلة أو رسالة طويلة.

(الغائلة الرابعة) أنه هدم لكثير من أحكام الدين وآدابه، وقطع لأقوى

الروابط المعنوية في الأمة، فهو جناية على الأفراد وعلى البيوت وعلى الأمة

بجملتها، ولا سيما أمة كالأمة الإسلامية استولى على نظام التربية والتعليم فيها

أناس من خصومها في دينها وفي سياستها، فلم يبق لها من القوى الروحية والأدبية

ما يقاوم فتك هذه المفاسد فيها، ولم يوجد فيها من السروات والزعماء ولا من رجال

الدين من يتلافى شيئًا من شر منع السيطرة الأجنبية على المدارس الأميرية والأهلية،

دع شرور المدارس التبشيرية، وإنما كان الباقي لها من صيانة الدين بعض تقاليده

الموروثة، وكانت كافية لحكم المختبرين بأن المسلمين أطهر أهل الملل أعراضًا،

وأصحهم أنسابًا.

ودعاة التجديد الإباحي يريدون التذفيف على هذه الجروح العميقة التي أحدثتها

هذه المدارس التي صَرَّح لورد سالسبوري بأنها الخطوة الأولى لاستعمار البلاد التي

تنشر فيها؛ لأن أول تأثيرها أنها تُحْدِث الانقسام والتفريق بين الأمة؛ فتجعل

بعضها لبعض عدوًّا، فهؤلاء الدعاة أعداء لأمتهم ووطنهم، أعوان لأعدائها، فإذا

لم تقو على القضاء عليهم قضوا عليها.

هذا ما كان كُتب في المسألة، وقد وضَّحنا بعضه باللسان، وقد قام بعدنا

الأستاذ الدردير فأثنى على المحاضرة وملقيها، وقال إنه موافق له على كل ما قاله

فيها؛ ولكن بقيت مشكلة زواج الرجل بمن لا يعرفها ! وقد أجبته عن ذلك بما

أقنعه وأقنع غيره بعد بحث ومراجعة، ثم سألني بعض الشبان مسائل كثيرة في

الموضوع وما حوله، وكان من سرورهم واقتناعهم ما حمل جماعة منهم على

المشي معي إلى الدار لإطالة المذاكرة.

_________

(*) كنت كتبت هذا بطلب الجامعة المصرية في شوال العام الماضي؛ ليكون موضوع مناظرة فيها فمنعتها الحكومة لسبب سياسي عارض، ثم ألقتيه في جمعية الشبان المسلمين في المحرم الماضي مع زيادات تناسب المقام.

(1)

الألاقي: جمع ألقية وزان أمنية، وهي الشدائد والدواهي.

(2)

الأثابي: الجماعات الكبيرة.

(**) يراجع قراء المنار ما نشرناه من إحصاء الطلاق في الولايات المتحدة الأمريكانية في ص 308 من المجلد 29.

(3)

السواد، بالفتح هنا: الشخص، وشبح إنسان، والسواد بالكسر: المسارة في الكلام، فهو مصدر ساوده، أي: ساره، وبالضم اسم منه، والوساد: بالكسر - بل بالتثليث - المخدة والمتكأ، وهو هنا كناية عن الفراش ظاهرة المعنى.

ص: 115

الكاتب: شكيب أرسلان

‌تاريخ حروف الكتابة ومكان العربية منها

(أول من وضع الكتابة في العالم عرب اليمن، وعنهم أخذ الفينيقيون

الذين هم من عرب البحرين وما جاورها، وعنهم أخذ اليونان. والحروف اللاتينية

لا تصلح للغة العربية، ولا للشعوب العربية والإسلامية أبدًا) .

بحث وتحقيق للأمير شكيب أرسلان

كان أمير البيان قد كتب مقالاً في تفنيد ما انخدع به بعض كتاب العربية

المتفرنجين من استحسان تقليد الترك الكماليين في شر ما جَنَوا به على لغتهم

وثقافتهم، ومدارسهم وصحافتهم، إتمامًا لما جنوه على دينهم وآداب ملتهم، وهو

كتابة التركية بالحروف اللاتينية، ونشر هذا المقال في جريدة العهد الجديد التي هي

من أخلص الجرائد العربية لأمتها ووطنها وأقدرها على خدمتها، ثم استزاده بعض

المعجبين بتحقيقه لأمثال هذه المباحث فراجع فيه قبل إتمامه بعض كبار المحققين

من علماء أوربة، ذلك وفي مقدمتهم الأستاذ (مورتيز) الألماني المعدود من أشهر

علماء هذا الفن في العالم كله، وله فصل طويل في الكتابة العربية نُشر في دائرة

المعارف الإسلامية، والأستاذ (هس) السويسري مدرس الألسن الشرقية في جامعة

(زوريخ) وهو من أصحاب القدم الراسخة في تاريخ الخطوط عامة والخط العربي

خاصة، وقد تلقى عنه أستاذنا الإمام الخط المسند في سويسرة، كتب إليه الأمير في

ذلك وتلقى عنه مقدمة لجوابه مع وعد بتتمتها، وكتب أيضًا إلى الأستاذ ليتمان

الألماني العلامة الشهير يستوري زنده في الموضوع فلم يجده في برلين لأنه كان

بمصر.

وكان ذاكره في هذا البحث مرارًا، ثم جاء برلين، وبحث مع الأستاذ مورتيز

في المسألة زهاء ساعتين، وشرع بعد ذلك في كتابة خلاصة هذه المباحث، وأرسل

ما كتبه إلى جريدة العهد الجديد فنشرته متفرقًا في شهر شوال الماضي.

المقالة الأولى

قال الأمير بعد مقدمة ذكرنا خلاصتها آنفًا:

الأستاذ (موريتز) يرى ما يراه هذا العاجز، وما كان سبق لي ذكره في مقالة

بهذه الجريدة، وفي مقالات أخرى من قبل، وفي تصريح صرحت به في أيام

الحرب لإحدى الجرائد الألمانية وهو أن الخط العربي الحالي الذي يسميه علماء

الخطوط بالخط النسخي هو نوع من الاختزال (الستينوغرافيا) وأن العرب لم

ينتقلوا إليه من الخط المسند الحميري الذي كانت حروفه منفصلة إلا حبًّا بالسرعة،

ومن بعد أن استبحر العمران، وكثرت العلائق التجارية عند العرب.

والأستاذ مورتيز موافق لي على القول بأن طريقة العرب في الخط النسخي

هي الطريقة التي يجدر أن يقال لها طريقة عصرية، وأن فيها اختصارًا لائقًا بكتابة

الأمم التي ازدحمت أشغالها وتناهت مدنيتها، وأن فيها أيضًا توفيرًا من الوقت ومن

القرطاس.

ثم إن الأستاذ موريتز يصرح تصريحًا لا مجال معه لأدنى مراجعة بأن

الحروف اللاتينية لا تصلح أبدًا للسان العربي، وأن اللسان العربي بالحروف

اللاتينية لا يمكن أن يُعرف.

ومن بعد أن قررنا هذا نقلاً عن هذا العلامة الشهير المشار إليه بالبنان في

الشرقيات لا سيما علم الكتابات السامية - يحسن أن نذكر خلاصة آرائه في تاريخ

الخط البشري.

فالأستاذ موريتز يذهب إلى ما هو معروف عند جميع العلماء من أن الكتابة

وقعت بالتدريج، وأنها كانت في البداية صورًا تامة، فإذا أريد التعبير عن الأكل

مثلاً رسم الكاتب صورة رجل يأكل، وإذا أُريد التعبير عن النوم رسم صورة رجل

نائم على فراشه، وإذا كانت العبارة عن الضرب رسم رجلاً يضرب رجلاً آخر

وهلم جرًّا، وهذا الخط التصويري الذي يسمى بالهيروغليف في مصر وبالمسماري

في العراق والذي منه آثار عند قدماء سكان أمريكا قد مست الحاجة إلى اختصاره،

وفي الصين لا يزال التصوير غالبًا على الخط.

يقول البروفسور موريتز: إن أول واضع للكتابة على شكلها الحالي منتقلاً

من الصورة التامة إلى الإشارة الجزئية يجب أن يكون رجلاً عربيًّا من أهل اليمن

ويقول إن الأستاذ ليتمان يرى هذا الرأي نفسه.

ويضرب مثلاً فيقول: كانوا في عهد الكتابة بالصور إذا أرادوا ذكر العين

صوروها كما هي أي هكذا (.) ثم عندما أرادوا الكتابة بالإشارات المختصرة عن

الصورة جعلوا حرف العين بصورة العين الباصرة فجلعوا حرف العين هكذا (5

أو ع) ثم إن الباء مختصرة من صورة البيت فالبيت صورته هكذا D، كما لا

يخفى لأن الأصل في البناء يكون مكعبًا، فعندما أرادوا الاختصار رسموا البيت

هكذا (ب) وتجد أن هذه هي صورة حرف الباء المشتقة من البيت، أما نقط الباء

فهو متأخر العهد، والعلماء مجمعون على أن النقط في العربي لم يقع الاصطلاح

عليه إلا في القرن الأول للهجرة.

ويستدل الأستاذ على أن بداية الخط وقعت عند عرب اليمن بما يأتي:

أن المدنية البابلية ترجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، وإذا رجعنا إلى

حفريات الإنكليز والأمريكيين الحديثة في (أرز) الكلدانية نجد أن مدينة بابل كانت

زاخرة مستبحرة العمران قبل المسيح بأربعة آلاف سنة.

والقرائن تدل على أن مدنية بابل جاءت إلى بابل من بلاد العرب.

ووجدت في بابل أسماء (حمورابي) و (عميصادق) وهي هذه الأسماء

نفسها وجدت في اليمن بلفظ (عمي رافع) و (عمي صادق) وإنما تحرف في

بابل قليلاً، ومن هذا وغيره استدل علماء الآثار على أن أصل المدنية البابلية هو

من اليمن.

وأما (الألف باء (Alphabet) فقد وجدت في اليمن، بل في الدنيا كلها

قبل المسيح بألفي سنة، وأقدم خط عربي وُجد في اليمن، ويقال له المسند، وقد

أخذه الفينيقيون وأدخلوا عليه بعض تغييرات، هذا هو رأي المحققين الذي عوَّلوا

عليه أخيرًا بعد أن كان العلماء يظنون أن الفينيقيين هم الذين سبقوا الأمم كلها إلى

الكتابة.

ولعل الذي حمل علماء أوربة على نسبة إيجاد الكتابة إلى الفينيقيين هو كون

اليونان أخذوا الكتابة عن هؤلاء، وكان ناقل الكتابة من الفينيقيين إلى اليونان رجلاً

اسمه (قدموس) ومعناه (شرقي) .

فاليونان يعلمون أن الكتابة وصلت إليهم من الشرق، وهم نشروها في الغرب،

وكان اليونان يكتبون نظير الشرقيين من اليمين إلى الشمال، ولم يكتبوا من

الشمال إلى اليمين إلا فيما بعد، ولم يكن عند اليونان بادئ ذي بدء سوى عشرين

حرفًا، ثم صاروا يزيدون عليها.

وأما الخط الأقدم وهو المسند الذي هو أصل الخطوط كلها فهو ثلاثة أنوع،

وكلها كانت حروفها منفصلة كالحروف الإفرنجية الآن، وهذه الأنواع الثلاثة هي

الخط اللحياني والثمودي والصفاءلي (نسبة إلى حرَّة الصفاة التي وُجدت فيها

كتابات بهذا الخط) .

ومن الخطوط العربية الخط السبآءلي، قيل إنه وُجد قبل المسيح بستمائة سنة

إلا أن العلامة موريتز يقول إنه وُجد قبل المسيح بألفي سنة.

ومن الخط السبآءلي نوع جديد وُجد منه كتابات في الرحبة شرقي جبل الدروز

ترجع إلى ما بعد المسيح بثلاثمائه سنة، ووجدت خطوط سبائية بين الكتابات

اليونانية التي وُجدت هناك.

والخط الثمودي هو قبل السبآءلي، وهو والصفاءلي مختصران من المسند،

ومن هذه الخطوط جاء الخط النبطي الذي هو أول خط وُصلت فيه الحروف بعضها

ببعض (Corsif) والخط النبطي هذا هو أصل الخط العربي الموصول المسمى

بالنسخي، وقد تسنى للعلماء بحسب ما حققوه إلى هذا اليوم تتبع سير الخط العربي

منذ أول إيجاده إلى أن تقرر الخط النسخي الحالي، وأن هذه الآراء هي نتيجة ما

انكشف إلى الآن وستبقى معولاً عليها إلى أن يجد في الحفريات ما يغايرها أو يعدلها.

المقالة الثانية

تقدم لنا في (العهد الجديد) ذكر آراء بعض العلماء المستشرقين المتخصصين

في أمر الكتابات السامية، ومنهم الاستاذ موريتز الألماني الذي هو مجمع على أن

أقدم من كتب على وجه الأرض هو رجل عربي من اليمن، وعلى أمر آخر وهو

أن اللغة العربية لا يجوز أن تكتب إلا بالحروف العربية.

وإني لناشر غدًا ما دار بيني وبينه من المباحثات الشفوية هذه المرة جوابًا

بعث به إلي إلى لوزان منذ نحو شهرين، وسأنشر له خلاصة بحثه عن الكتابة

العربية في (الإنسيكلوبيديا الإسلامية) التي بدأت بها لجنة من العلماء قبل الحرب

ولما تكمل، أما نص كتابه الأخير فهو هذا (بعد الترجمة) :

(ألف شكر لك على كتابك اللطيف، وعلى ما تمنيته لي بمناسبة دخول

السنة الجديدة التي ننتظر منها الاستمتاع بصحة جيدة والعون في إيصال أشغالنا إلى

غاية حسنة.

في الفصل الذي حررته في إنسيكلوبيدية الإسلام على الكتابة العربية قد فاتني

بعض تفاصيل لم يتسع لها المقام، فالكتابة النبطية التي تُشتق منها الكتابة العربية

(يريد الكتابة الحالية) هي ذات شكلين: (أحدهما) الشكل العادي الأقدم الذي منه

كتابات على المباني الباقية من الأعصر الأولى، ومنه الكتابات الرسمية، وحروف

هذا الشكل ليست متصلة بعضها ببعض (والثاني) الشكل المتصل وهو الشكل

الذي اختير له الاختصار والبساطة لأجل الكتابات اليومية، وقد وصلوا فيه

الحروف بقدر الإمكان حبًّا بالسرعة.

ولا شك في أن هذه الكتابة الموصولة قد جرى الاصطلاح عليها في المدن

التجارية الكبرى مثل بتراء ومكة حيث كانوا يشعرون بالاحتياج الشديد إلى أن

يكتبوا سريعًا وكثيرًا، وأنه يوجد كتابات حجرية من القرن الثالث والقرن الرابع

قبل المسيح ليست من الكتابات الرسمية، يتجلى لك فيها هذا الشكل الجديد بكل

وضوح.

وأما من القرن الخامس قبل المسيح فلم تُوجد كتابة من هذا الشكل كما أن

كتابة زيد بقرب حلب وكتابة حران هي من الخط العربي الكوفي، وأما أصل

تسمية هذا الخط بالكوفي فلا أزال من أمره في ظلمات، ويحتمل أن تكون دولة لخم

الصغيرة في الحيرة قد اصطلحت على خط مشتق من الخط السوري، وقد أعطي

هذا الخط اسم الخط الكوفي لأن الكوفة هي خلف الحيرة - كما لا يخفى - فكأنهم

أرادوا إعطاءه اسمًا يميزه عن الخط السوري إلا أن هذا الافتراض لا يزال محتاجًا

إلى أدلة من كتابات على الحجر أو في الورق وهذه لَمَّا توجد.

وأما النقط فلم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة وذلك على

كتابات المباني والمسكوكات المضروبة وعلى البردي، وكان الباعث إليها حس

الاحتياج إلي الفرق بين بعض أحرف الخط المتصل التي بوصلها بعضها مع بعض

تشابهت كثيرًا، ويظهر أن أقدم النقط هي نقطة الباء (ب) ونقطة الذال (ذ) وقد

وُجدت مؤخرًا قطعة سكة قديمة من مجموعة البارون أوبنهايم عليها الكتابة الآتية هكذا

(ضُرب هذا الدينار سنة سبع ومائتين) انتهى.

وإليكم هذا المكتوب الآخر من الأستاذ هس المستشرق الشهير الذي يدرس

الألسن الشرقية في جامعة زوريخ، وهو ممن أقاموا مدة مديدة في مصر، وعرفوا

بلاد العرب، وكانت له صحبة متينة العرى مع المرحوم الشيخ محمد عبده،

وعندما ساح الأستاذ الإمام في أوربة نزل ضيفًا على البروفسور هس في منزله في

فريبورغ، ولقد تمكنت الصحبة بيني وبين الأستاذ المشار إليه منذ نحو عشر

سنوات، ففي هذه المدة استطلعت رأيه في بعض مسائل تتعلق بالكتابة العربية

فصادف كتابي إليه أنه كان ملتاثًا فكتب إلي ما يأتي:

(يا أميري العزيز لم أكن قويًّا أصلاً عندما وردني بهذا الصباح كتابك الثاني،

وإني مع ذلك أسالك العفو، فمنذ ثمانية أيام أنا عليل بالنزلة الوافدة، وعندما جاءني

كتابك الأول لم أظفر بالوقت الكافي لأجاوبك إذ كانت الأسئلة التي ألقيتها علي

تقتضي لجوابها لا أقل من نصف نهار، وسأجاوبك عليها قريبًا، وإنما أكتفي الآن

بالجواب على نقطتين: الأولى هي أن جميع العلماء يذهبون إلى أن الفينيقيين هم

الذين اخترعوا الكتابة وحروف الهجاء السامية، وسأعطيك البراهين على أنه ليس

الأمر كذلك، فأما الكتابة العربية فيجب التمييز جيدًا بين الكتابة المعينية والسبائية

مما يسميه علماء العرب الخط المسند أو خط حمير، والكتابة العربية الشمالية

المسماة بالنسخي؛ فإنه لا تعلق لإحدى الكتابتين بالأخرى، وليس عندنا شيء من

العلم عن أصل (الألف باء) السبائية التي فيها عدة من الحروف لا توجد في

الفينيقية، أما الحروف الهجائية الشمالية التي أقدم أشكالها تشابه تمامًا النسخي الحالي

(بدون تنقيط كما لا يخفى) فهي مشتقة من حروف الهجاء النبطية، وأن أقدم كتابة

عربية بلغة عرب الشمال التي عندنا في القرآن هي المنسوبة إلى مر القيس (امرئ

القيس ابن عمرو) التي وجدت في (عارة) بقرب دمشق، وتاريخها سنة 328 بعد

المسيح وحروفها نبطية، والخط النبطي حروفه موصولة مثل النسخي.

وأنت تدري أن الكوفي هو مشتق من النسخي (وبعضهم ذهب إلى أن

النسخي مشتق من الكوفي) وقريبًا أكتب إليك مطولاً

إلخ) انتهى، فمتى

وردني كتاب الأستاذ (هس) الثاني أبادر إلى نشره، وقد يصيب الإنسان في نشر

منقوله أكثر مما يصيب في نشر مقوله، لاسيما إذا كان لا يتوخى شيئًا سوى الفائدة

وتجلية الحقيقة، وهذا لا يمنعنا من تعليق ملاحظاتنا الخاصة عند اللزوم.

...

...

...

...

... شكيب أرسلان

_________

ص: 128

الكاتب: إسماعيل الحافظ

‌الفريدة العصماء

لأشعر العلماء وشيخ الفقهاء والأدباء الأستاذ العلامة

الشيخ إسماعيل الحافظ

عضو محكمة الاستئناف الشرعية في فلسطين

في عيد الرافعي الذهبي

إن القريض صغت إليه الهامُ

وأحاطه الإعجاب والإعظام

لم أدر حين بدت طلائع آيه

فكر يجود بهن أم إلهام

سارت مواكب نظمه وكأنها

جيش من الدر اليتيم لهام

يتألق الإبداع فيه وفوقه

من هدي أعلام الهدى أعلام

لا تلمح الأحلام سر بيانه

حتي تفيء برشدها الأحلام

رقت حواشيه فهن مناهل

ورست قوافيه فهن إكام

وافترّ عن حر المعاني مثلما

تفتر عن أزهارها الأكمام

تمليه من (عبد الحميد) قريحة

عَزَّت مناهجها فليس ترام

فياضة بجوامع الكلم التي

يبقى لهن على الدام دوام

دانت أساليب البيان لربها

وأطاعه الإبداع والإحكام

وأقام في الفيحاء صرح بلاغة

تعشو لضوء مناره الأقوام

سامٍ يجدد للعروبة سؤددًا

يُزهى به جد العروبة (سام)

يهدي المشارق ضوؤه بروائع

شغفت بها الأسماع والأفهام

من كل شاردة كأن بديعها

قطع الرياض يجودهن غمام

جوابة الآفاق يُرقب نجمها

في كل أفق أشرقت ويرام

كملت محاسن نظمها وسما بها

طبع عليه وضاءة ووسام

والشعر هندام وطبع مشرق

والبعض لا طبع ولا هندام

لك في مجال الفضل يا ابن زعيمه

سبق وفي أوج العلى استعصام

جددت من عهد القريض محاسنًا

ذهبت بها الأعصار والأوهام

ألقى عليك شعاع فكرك رونقًا

للسحر في جنباته إلمام

وكسوته من صفو طبعك حلة

أضحى بها في الناس وهو غلام

فلبسته ثوبًا قشيبًا مونقًا

والشعر فوق حماته أهدام

وجلوت منه منهلاً مستغذبًا

يغشاه من فطن العقول زحام

شعر عليه من الجديد ملاحة

ومن البراعة والنبوغ وسام

نسقان، منه عبرة وهداية

مثلى، ومنه صبابة وغرام

لولا احتشام فيه صان رواته

إذ أنشدوه وسامعيه لهاموا

هو في النفوس كواكب مشبوبة

تهدي النفوس وفي الرؤوس مدام

غزل كمعتل النسيم وحكمة

صحت بها لأولي النهى أحكام

وقلائد للمدح لو هي قلدت

للبدر تاه البدر وهو تمام

ولكَم له آيات وصف وحيها

جهر، ولمح بيانها أعلام

يجلو الحقيقة ربها وضاحة

لا الشك يعروها ولا الإبهام

فتكاد إذ يصف المعاني أن تُرى

للعين أو يبدو لهن قوام

وتكاد لا تدريه هل هو شاعر

بلغ المدى في الوصف أم رسّام

لا بدع أن سبق الرجال فإنه

كسَّاب كل فضيلة غنَّام

صاغت يد الخلاق جوهر نفسه

وأجاد صقل طباعه الإسلام

فبدا وفيه مناقب علوية

وله من الخلق العظيم ذمام

وغدا وفي برديه نفس برة

تنبو عن الأسواء حين تسام

تخفى لفرط صفائها فإذا انجلت

للناس فهي محاسن ونظام

طبعت على الأدب الرفيع فما لها

فيما سوى الحسن البديع مرام

فالكون شعر عندها، وضروبه

أحداثه، ولُغى الورى أنغام

والأرض نادٍ والزمان قصيدة

أبياتها الآناء والأيام

والنجم نور والظلام خمائل

والصبح وجه مليحة بسَّام

والأفق بهو والبروج هياكل

هي للشموس منازل وخيام

والنور لوح فيه من صور الورى

نقش، ومن أعدادهم أرقام

والضوء ما بين العوالم صبغة

كُسيت به ألوانها الأجسام

والكائنات جواهر منثورة

نظمت بها الأشكال والأقسام

فاعجب لها فطنًا تناهت في العلى

سبقًا فليس أمامهن أمام

واعجب لها نفسًا صفا لألاؤها

فلها بآثار الفنون هيام

لو شاءت الأقلام وصف جمالها

عيَت بوصف جمالها الأقلام

لئن اصطفت منك القوافي مبدعًا

أحيا رفات الشعر وهي رمام

فأبوك بحر العلم جدد نهجه

وجرى مع الشعراء وهو إمام

ونمتك في عليا عدي سادة

لهمُ بأندية البيان مقام

من كل غطريف كأن جنانه

قبس، ومتن يراعه صمصام

(عمر أمير المؤمنين) يقودهم يوم الفخار وشبله العلام

شرف أشم لو استقر ضياؤه

لم يبق لا ظلم ولا إظلام

شرف صحِبتَ المجد تحت ظلاله

وجفوت ما فيه عليك ملام

ورغبتَ عن زهو الحياة زهادة

إذ قل أكفاء وعز كرام فلرب منزل رفعة طالت له الأعنـ ـاق وازدحمت به الأقدام

سحبت بساحته الأماني وانجلت

في أفقه الآمال وهي وسام

أعرضتَ عن أفيائه متذممًا

والمجد يأبى أن ينالك ذام

لا خير في نيل الفخار إذا استوى

يوم المفَاخر منسم وسنام

يا شاعر الأوطان ذُد عن حقها

فلقد يصادَر حقها ويُضام

أنت البصير بما يصون كيانها

ويصد عنها الخطب وهو جسام

نافحت عنها والحفائظ تلتظي

والعدل حور والضياء ظلام

وصوارم السفاح تحت شفارها

حتف لأحرار البلاد زؤام

في فتية غرّ سمت بنفوسهم

همم تخوض الهول وهو ضرام

كرهوا الحياة على الهوان فأزمعوا

والعيش في ظل الهوان حِمام

فقضيت حقًّا لا يقوم بمثله - إذ ذاك - إلا الأروع المقدام

وسُقيت فيه النفي صابًا علقمًا

والسجن، وهو على الليوث حرام

لك بين (جلق والحجاز) منازل جثم البلاء بها وعنَّ السام

وافيتها ثبت الجنان مشيعًا

بالصبر والصبر الجميل عصام

ولو أن جزعت لكنت أخلق جازع

لكنه لا يجزع الضرغام

والمرء لا يُبقي عليه نفسَه

جبنٌ ولا يودي به الإقدام

حتى نزلت (بقركليسة) وانجلى عن وجه تلك المعجزات قتام

أطلقت من أبكارهن خرائدًا

جذب القلوب لحسنهن زمام

وبعثت في الأوطان صوتًا مشجيًا

مصر لقد طربت له والشام

فأعد على الأوطان من ألحانه

تَنْتَبِهْ فقد خملت وطال مقام

وأجل مقالك للنضال مناهضًا

فمن المقال أسنة وسهام

وأهب بقومك للمعالي إنهم

نَهَضَ الورى للمكرمات وناموا

عصف الزمان بهم وهم في غفلة

شغلتهم الأحلام والأوهام

وأزالهم عن خِيمهم وقديمهم

سيل من البِدع الجديد عبُام

يتزاحمون على متاع زائل

(فهمو قعود حوله وقيام)

نزعوا إلى الخلف الذميم فأركسوا

والخلف داء في الشعوب عُقام

والخلف إن ينقض قضية معشر

يومًا فليس لنقضه إبرام

ولكم خلت من قوة موفورة

ذهبت بها الأشياع والأحزام [1]

أولى الشعوب بعيشة مرهوبة

شعب حمته ألفة ووئام

وأدل مفعول على حكم الهوى

بين الرجال تخاذل وخصام

فابعث لمن بعثوا الخلاف ملامة

حرّى تذوب لبرحها الأوغام [2]

وأفض عليهم من شعورك إنه

نعم الشعور محبة وسلام

وأدر سلافًا من بيان طالما

تلفت على نبراته الأخصام

واهنأ بعيدك إنه عيد له

أيدٍ على الأدب الصميم جسام

خمسين عامًا جزتها وكأنها

من حسن ما غذت القرائح عام

أهديت للفصحى بهن قلائدًا

لا عمرو أهداها ولا همام

واسلم يتيه بك القريض ويعتلي

ويحوطك التكريم والإكرام

_________

(1)

الأحزام: كالأحزاب وزنًا ومعنى.

(2)

الأوغام: الأحقاد الثابتة في القلوب.

ص: 136

الكاتب: محمد رشيد رضا

شهادات علماء الغرب المنصفين

للإسلام والنبي والمسلمين [1]

الشهادة الأولى

من كتاب (استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية)

للأستاذ هورتن الألماني المستشرق

صحيفة 5- كانت العرب في القرون الوسطى (إلى سنة 1500 تقريبًا)

أساتذة أوربا.

صحيفة 8- لم ينشأ ظن الأوربيين بأن الدين الإسلامي لا يتمشى مع المدنية

إلا من جهلهم بهذا الدين وعدم تعمقهم فيه، بل لتعلقهم بالقشور التي لا يفهمون

منها إلا ما يكتبون.

صحيفة 9- في الإسلام وحده تجد اتحاد الدين والعلم، فهو الدين الوحيد الذي

يوحِّد بينهما، فتجد فيه الدين ماثلاً متمكنًا في دائرة العلم، وترى وجهة الفيلسوف

ووجهة الفقيه متعانقتين، فهما واحدة لا اثنتان.

صحيفة 9 -10 - كان في القرن العاشر في قرطبة زاهد يسمى (ابن مسرة)

وكان هذا الزاهد يشعر هو وتلاميذه أنه من الأسرة الإسلامية.

صحيفة 10- ابن رشد الفيلسوف الطائر الصيت في القرون الوسطى كان

إيمانه بالله عظيمًا، وكان معتصمًا بالقرآن حتى بكل كلمة في القرآن، ومع ذلك لم

يمنعه دينه والقرآن الذي يعتصم به من مطالعة الفلسفة اليونانية والأخذ من آثار

أريسطوطاليس والبناء عليها.

صحيفة 12- لا تجد في الإسلام سدًّا يمنع نفوذ الثقافة الغربية عنه، بل ترى

أن له استعدادًا غير محدود لقبول الثقافة.

صحيفة 17- استعداد الإسلام لقبول ثقافة غير إسلامية لا حدود له.

الشهادة الثانية

من مقدمة ترجمة القرآن للعلامة منني المستشرق

صحيفة 9- كان محمد صلى الله عليه وسلم أمينًا وأعدل رجل.

صحيفة 31- إن مرشد المسلمين هو القرآن وحده، والقرآن ليس بكتاب ديني

فقط، بل كتاب علم وآداب، وتجد فيه بيان الحياة السياسية والاجتماعية، حتى إنه

يرشد الإنسان إلى وظائفه اليومية، والأحكام الإسلامية التي لا توجد في القرآن

توجد في السنة، والتي لا تكون واضحة لا بالقرآن ولا بالسنة توجد في الفقه

الواسع الذي هو علم الحقوق.

صحيفة 36- إن العربي الذي أدرك خطايا المسيحية واليهودية، وقام بمهمة

لا تخلو من الخطر بين أقوام من المشركين يعبدون الأصنام يدعوهم إلى التوحيد

ويغرس في أفكارهم عقيدة أبدية الروح - لا يستحق أن يُعَدَّ بين صفوف رجال التاريخ

العظام فقط، بل يستحق أن يدعى نبيًّا [2] .

***

شكوى المنار إلى المنار، من أحد علماء مليبار

رسالة من زميلنا الأستاذ الفاضل المولى محمد عبد القادر المليباري الهندي.

إلى فضيلة السيد الإمام، حجة الإسلام، صاحب مجلة المنار بالقاهرة - أدامه

الله للمسلمين ذخرًا، وزاده شرفًا وقدرًا.

من أحد مريديه في الغيب، المستفيدين من فيوض قلمه المهتدين بنور مناره

محمد عبد القادر.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

مولاي الجليل، أرجوكم أن تتفضلوا ببذل بضع دقائق من دقائقكم الثمينة

لسماع شكواي التي طالما كنت أردت أن أرفعها إلى فضيلتكم، ولم أتمكن منه إلا

الآن لما كان يتوارد عليَّ من نوائب الدهر.

أهم ما أشكوه وأبث حزني منه إلى فضيلتكم هو انقطاع المنار عني منذ ثلاث

سنوات، وحزني على هذا عظيم لأني صرت منذ انقطاعه عني كمن يعيش في

الظلام، لأن المنار كان لي منارًا بالمعنى الحقيقي.

كنت قارئًا للمنار تسع سنوات متوالية لكن لا على سبيل الاشتراك، بل

بمحض فضلكم ومنكم، ذلك أنه لما بلغني نبأ المنار حين كنت مباشرًا لعمل جريدتي

(المسلم) سنة (1334) بادرت إلى طلبه من إدارته، فلم تجبني، ثم أردفت

بطلب آخر مع خمس روبيات، ثم بآخر، هكذا كنت أوالي الطلب بعد الطلب إلى مدة

تزيد على ثمانية أشهر، ولم ألق من الإدارة إلا السكوت، وأخيرًا تفضل علي

المرحوم السيد صالح مخلص رضا بأجزاء من المنار مع كتاب قال فيه بعد الاعتذار

عن تأخر الإجابة (.. . إن شقيقي السيد محمد رشيد عندما قرأ كتابك الأخير

المؤرخ 21 ذي الحجة سنة 1331 استاء جدًّا، وأمر بإجابة الطلب، وأن يقدم

إليكم المنار لا على جهة الاشتراك، بل مبادلة أو مساعدة لمجلتكم فاقبلوا ذلك كرمًا

منكم، واحسبوا ما أرسلتم من ثمن ما تطلبونه في المستقبل من المطبوعات، وهو

يهديكم عاطر السلام) .

هكذا كنت منتظمًا في سلك قراء المنار، لا أستطيع أن أعبر عما أنا متلبس

به من الشكر على هذا الإحسان الجسيم، كما أني لا أستطيع الغفلة عنه ولو لحظة

في حياتي.

من أجلِّ نعم الله علي أن وفقني لأن أكون من قراء المنار إذ نفخ في روحًا

جديدةً جعلتني بصير القلب، وحيّ النفس، أنشأت لنشر مبادئ المنار مجلة باسم

(الإسلام) بلغة بلدي (اللغة الملبيارية) فلما رأى الناس ضوء المنار منعكسًا منها

استغربوه، وعلت من بينهم جلبة وضوضاء، ونسبوني إلى الزيغ والضلال

ونبزوني بلقب الوهابي، ولكن نور الحق لم يعدم قلوبًا تنزل فيها أشعته، فتنبهت

أفكار واستيقظت نفوس، وبالجملة فتح المنار في الديار المليبارية التي كانت

متصلبة في الجمود باب فكرة (الإصلاح الديني) ولكن الجماهير ممن انتسبوا إلى

العلم أخذوا يقاومون هذه الفكرة، ويمنعون الناس عن قراءة مجلتي ويحذرونهم

أيضًا من المنار، مع أنهم لم يكونوا حينئذ رأوه حتى ولا غلافه، وذلك لأنهم كانوا

قد أساءوا الاعتقاد فيه من قبل بسوء تأثير مؤلفات يوسف النبهاني [3] ، ولهذا لم

أنجح في سعيي لأن أجد أحدًا يرغب في الاشتراك فيه، فكنت أعير لبعض

أصدقائي الذين آنست فيهم سلامة الفطرة وحسن الاستعداد بعض أجزائه للقراءة،

رجاء أن يوفقهم الله للاقتداء بنوره، فلم أخب في رجائي ذلك، فإن الذين لم تفسد

فطرتهم في هذه البلاد قد أخذوا يعرفون قدر المنار ولو في الجملة؛ حتى ظهر من

بعضهم في الأيام الأخيرة رغبة في الاشتراك فيه فطلبوه بأنفسهم من إدارته كعبد

القادر بكننور، ومحمد سيدي، بكرانكنور بكوشي، ومحرر مجلة الإرشاد،

ومحرر جريدة يولوكم بكاليكوت؛ ولكن من غرائب الزمن أن صرت بعد ذلك

أستعير منهم أجزاءه بعدما كنت أعيرها لهم، ومما يوجب المسرة بالنسبة إلى المنار

أن أرى منهم الآن في الإعطاء ما كنت رأيته منهم من قبل في الأخذ من الكراهة؛

ولكن ذلك يؤلمني نظرًا إلى ما صرت إليه من الحالة في أمر المنار.

فالمرجو من فضيلنكم أن تتفضلواعلي بأن تأمروا إدارة المنار أن ترسل إلي

المنار تباعًا، وإنما انقطع عني من الجزء الثاني من المجلد السابع والعشرين؛

ولكن لا أرى من الصواب أن أسالكم أن ترسلوا إلي جميع ما صدر منه إلى الآن،

فسأطلبها مع تقديم الثمن عندما يتيسر لي ذلك؛ وإنما أرجو الآن أن ترسل لي من

الجزء الأول من المجلد الجاري (29) .

هذا وإني لأستحيي أن أسألكم أن تواصلوا علي ذلك الكرم الذي غمرتموني به

تسع سنوات، ولهذا فإني مستعد لأن أدفع إليكم مبلغًا ترضونه لي ثمنًا للمنار، أو

كله على ما أنا عليه من ضيق اليد، وعلى كل حال فإني واثق بأني لا أكون

محرومًا من قراءة المنار؛ فإن حب المنار قد امتزج بدمي، وصارت قراءته قوت

روحي، حتى لا أستطيع فراقه، ولا يطيب لي العيش بدونه، ولولا أنه يأتي

لأصدقائي المذكورين وتمكنت من استعارة أجزاء منه منهم أحيانًا لضقت ذرعًا.

أود أن أفيدكم - للنشر في المنار- بيانات عما أحدث المنار في المليبار من

الشعور بالحاجة إلى الإصلاح الديني، وما يجري فيها من السعي وراء ذلك

الإصلاح، ومن المقاومة له ممن يُعرفون بعلماء الدين بادعائهم أنه (الوهابية) وما

قد حدث في هذه الأيام من قيام فريق يرأسه شاب عاد من مصر قبل سنة بعد أن

أقام بين المتفرنجين فيها مدة بالطعن في الإمام ابن سعود وأنصاره وقومه الذين

يُعرفون بالوهابيين انتصارًا للأخوين محمد علي وشوكت علي وسأرسل إلى

فضليتكم هذه البيانات بصورة مقالة إن شاء الله اهـ.

(المنار)

إننا نحيي أخانا وزميلنا بأحسن من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته

ونعمته، وسيُطبع عنوانه المرسل باللغة الإنكليزية ويُرسل إليه المنارهدية دائمة،

مع المجلدات الثلاثة التي فقدها تامة، لا نطلب منه جزاء ولا شكرًا عليها إلا نشر

دعوة الحق وجهاد الباطل وأهله، والله في عونه ونصره، كما نصرنا على الدجالين

ونصر إمام السنة عبد العزيز آل سعود وقومه على الباغين، ومكَّن له في خير

الأرض ومهد الإسلام، وأنطق بالثناء عليه جميع الأقوام.

_________

(1)

أرسل إلينا شذرات الشهادات الآتية صديقنا الدكتور زكي كرام الدمشقي المقيم في (برلين) ووعد بترجمة غيرها من كتب علماء أوربة من كل شعب منهم على ضيق وقته، واشتغاله بالعلم والمعاش، فنشكر له جهاده واجتهاده، وما قصد به من تبكيت المبشرين وأعوانهم من ملاحدة المسلمين عبيد المستعمرين وخدمهم وأعداء أمتهم ووطنهم.

(2)

المنار: إن بعض المستشرقين وغيرهم من علماء أوربة الذين اطلعوا على تاريخ الإسلام لم يروا ملتحدًا ولا مفرًّا من الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع حفظ كرامتهم العلمية إلا وصفه بأنه من الرجال العظام، وأما هذا العلامة المنصف فقد أبي عليه استقلاله واحترامه للعمل والحق إلا أن يقول لهم: إنه ليس عظيمًا فقط بل هو نبي أيضًا.

(3)

هو الدجال الخرافي الشاعر البيروتي، وكان استأجره رجل كبير بمصر للطعن في الأستاذ الإمام وخطته فلم يجد بدًّا من الطعن في أستاذه الحكيم السيد الأفغاني ومريده صاحب المنار؛ لأن الإصلاح الذي يعاديه قام بهم وكان قبل ذلك يطري الأستاذ الإمام قولاً وكتابة.

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ميزانية الأزهر

وافق مجلس الأزهر الأعلى برئاسة حضرة صاحب الفضلية الأستاذ الأكبر

الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر في اجتماعه بعد ظهر يوم

الثلاثاء 29 شوال الموافق 9 إبريل سنة 1929 على مشروع ميزانية الأزهر عن

السنة المالية المقبلة.

وقد قُدِّرت الإيرادات والمصروفات بنحو 320.000 جنيه، وهي تتضمن

المشروعات الجديدة التالية:

1-

7000 جنيه لإرسال بعثة أزهرية مؤلفة من عشرين طالبًا إلى الجامعات

الأوربية لتلقي العلوم التي تناسب التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية.

2-

6000 جنيه لإنشاء مكتبة لتعريب الكتب التي لها ارتباط بالتعليم بالأزهر

والمعاهد الدينية، وإنشاء مجلة دينية تدعو الناس إلى الدين، وتحببه إلى نفوسهم

بنشر فضائله وإذاعة محاسنه وتمكين عقائده من القلوب؛ حتى لا تزعزعها

الشبهات العصرية ومقاومة دعوة الملحدين ودفع أضاليلهم.

3-

زيادة 2500 جنيه على الاعتماد الخاص بمكافأة أعضاء امتحان الشهادات

لتكون متفقة مع المكافآت التي تمنح لأمثالهم بوزارة المعارف.

4-

500 جنيه تمنح جوائز لتأليف كتب في العلوم التي تدرس بالأزهر

والمعاهد الدينية وتتقرر فائدتها للتعليم بهذه المعاهد.

5-

500 جنيه ثمن أدوات وعقاقير للعيادات الطبية الصغيرة التي ستنشأ

بالمعاهد وانتداب الأطباء اللازمين لها.

6-

5500 جنيه لاستئجار أماكن صحية لطلاب القسمين العالي والأولي

بالأزهر، وهم الذين يتلقون دروسهم بالمساجد على الطريقة القديمة، ولتجهيز هذه

الأماكن بالأدوات الحديثة.

7-

رفع مرتبات هيئة كبار العلماء من 36 جنيهًا في الشهر إلى 40 جنيهًا

في الشهر.

8-

جعل درجات العلماء المدرسين بالمعاهد ثلاث درجات: خامسة وسادسة

وسابعة، أسوة بدرجات مدرسي المدارس الأميرية التابعة لوزارة المعارف.

9-

ضم مصروفات قسم الوعظ والإرشاد إلى مصروفات قسم التخصص

العالي.

_________

ص: 144

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحالة السياسية العامة في مصر

بيان حر للعبرة والحقيقة والتاريخ

منذ سنة كاملة حدث في مصر انقلاب في شكل الحكومة، إذ اقتضت إرادة

جلالة الملك تعطيل مجلسي النواب والشيوخ (البرلمان) إلى مدة ثلاث سنين،

ووقف العمل ببعض مواد الدستور التي تقيد الحكومة بالمجلس، وتتعذر مراعاتها

بدونه. واقتضى ذلك إقالة أو إسقاط وزارة مصطفى باشا النحاس البرلمانية، وهو

رئيس الوفد المصري ذو الأغلبية في البرلمان، ونوط رياسة الوزارة بمحمد محمود

باشا سليمان الذي كان وكيل الحزب الحر الدستوري ثم صار رئيسه، وكان ذلك

عاقبة اضطراب في أعمال الوزارة البرلمانية بتدخل السلطة البريطانية المحتلة في

شؤونها، ووضعها العواثير في طريق كل عمل من أعمالمها، ومحاولة السيطرة

على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية فيها، وتهديد الجرائد الإنكليزية لها من

بعد وفاة سعد باشا زغلول ورفض الحكومة الوفدية للمشروع المخزي الذي اتفق

عليه عبد الخالق ثروت باشا مع وزارة المحافظين البريطانية، وهو شر من الحماية

السابقة بما كان يجعل به سلطان الإنكليز في مصر والسودان شرعيًّا بإقرار برلمان

الأمة له.

كانت الوزارة البرلمانية من أول عهد دورتها الجديدة بعد تعطيل الدورة

السابقة بضغط السلطة المحتلة - وزارة ائتلافية تتمثل فيها قوى الأحزاب المصرية

كلها، وكان سعد باشا هو الضليع بجمع كلمتها وحفظ وحدتها في البرلمان والحكومة

معًا، بما آتاه الله تعالى من النفوذ الأعلى في البلاد المؤيد بالبصيرة والذكاء والعزم

والحزم وقوة العارضة، بعد أن ألانت قناته أحداث الزمان، حتى خضعت له

الأقران التي كانت تنافسه في الزعامة، واعترفت له بالتفوق والإمامة.

وقد كان من المقرر لدى جميع العارفين بحال مصر من أهلها ومن الأجانب

عامة، والإنكليز خاصة أنه لا يوجد في مصر رجل ذو مكانة عالية يمكن أن يملأ

الفراغ الذي حدث بموت سعد باشا، وصرَّح بذلك كبار محرري الجرائد الإنكليزية

كغيرهم، وظهر مصداقه بعد وفاته بقليل، فكان أول صدع حدث بعده في البرلمان

أن الأحزاب المنافسة للوفد صارت تنقم منهم أثرته في مجلس النواب، ثم تصرف

أعضائه في الحكومة، ونقم كثير من جماعات الأمة وأهل الرأي من أفرادها أثرة

القبط فيهما معًا (أي في المجلس والحكومة) فقد أسرفوا في ذلك حتى كادوا

يكونون - أو كانوا - كحزب البرامكة من موالي الفرس في حكومة الرشيد العباسية:

أخذوا من الوظائف فيهما أضعاف ما يناسب عددهم القليل وظلوا يطلبون المزيد،

وقد عجز خليفة سعد في الوفد عن القيام ببعض ما كان مضطلعًا به سعد من حفظ

الوحدة ومنع الشطط؛ لأنه على ما أوتي من علم بالحقوق واعتدال في الأخلاق،

وصدق في الوطنية، وما نعتقد فيه مع الجمهور من حسن النية - لم يؤت بعض ما

أوتي سعد من قوة الإرادة، وسحر البيان، وقوة السلطان.

هذا الضعف هو الذي أطمع السلطة المحتلة في إسقاط الوفد بعد اليأس من

تطويعه ونيل أربهم من مصر به، وزاد في طمعهم شقاق الأحزاب له، ولعله لو

قلد محمد محمود باشا رئاسة مجلس الوزراء، وقنع مصطفى باشا النحاس برئاسة

مجلس النواب لأمكنهما بالتعاون أن يحفظا تلك الوحدة التي كان سعد باشا يحرص

على بقائها حتى إنه ليفتديها بكل ما يراه معارضًا لها من آرائه ومقاصده، فإن محمد

محمود - فيما نرى - أقوى رجال مصر عزمًا، وأمضاهم إرادة بعد سعد وثروت،

ولقوة الإرادة في هذه المواقف ما ليس لغيرها من صفات الرجولية وقوة التأثير

وإمضاء الأمور.

لا يرجى ثبات أمر من أمور الأمم العامة يتوقف إتمامه على كفاية رجل واحد

إلا إذا عاش ذلك الواحد عمرًا طويلاً أمكنه فيه أن يربي جماعة يقرب استعدادهم

من استعداده، فيتمّوا ما بدأه بالتعاون والثبات، حتى إن الأمور العامة التي يكون

مبدؤها من الاختصاص الرباني لا من الكسب الإنساني (كالدين) تدخل في عموم

هذه السنة الإلهية في الاجتماع البشري، فلولا الخلفاء الراشدون وأعوانهم من

عظماء الصحابة رضي الله عنهم الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم في مدة

عشرين سنة لضاع الإسلام كما ضاعت أديان أخرى من أديان الأنبياء المرسلين

الذين لم يستطع أصحابهم ضبط ما جاءوا به من الوحي وحفظه في الصدور

والسطور، ونشره في الصحف والدعوة في أنحاء المعمور، كما حفظ أصحاب

محمد صلى الله عليه وسلم القرآن في المصاحف الرسمية، وضبط التابعون لهم

السنة النبوية، ونشر ذلك في العالم مؤيدًا بقوة البرهان وقوة السلطان، وإقامة

الميزان.

ولقد كان بدء هذه النهضة المصرية السياسية المدنية والعلمية والعملية دعوة

السيد جمال الدين الأفغاني؛ ولكنه نُفي من البلاد قبل أن يُتم تربية حزبه الوطني،

ونُفي من بعده زعيم أصحابه الشيخ محمد عبده الذي قال هو يوم نفيه أنه هو الذي

يتم عمله في مصر، واستولى على البلاد الأجانب، فلما عاد الشيخ محمد عبده لم

يجد أدنى منفذ للعمل السياسي لضعف حزبه، وضعف الأمة أو عدم تمام تكوينها

ووحدتها، وقد كان يقول في هذا الأمر (يا ويح الرجل الذي ليس له أمة) وقال لي

في الأمر الذي قبله: (والله لو أن في مصر مائة رجل لما أمكن للإنكليز أن يُقيموا

فيها) أو لما أمكن أن يعملوا فيها ما أقاموا عملاً، لا أعني أنه لا يوجد فيها من يعلم

ما يجب أن يعمل، ولا من يستطيع أن يعمل، فإن فيها كثيرًا من المتعلمين

القادرين على الأعمال؛ ولكنهم ضعفاء الإرادة لا عزيمة لهم، وقد أظهرت الأيام

من بعده صحة قوليه، ولهذا انصرف بكل جهده إلى الشق الثاني من الإصلاح الذي

كان نهض مع السيد جمال الدين به، وهو الإصلاح العلمي الديني، وقال في الشق

الآخر، بل كتب ما نصه:

(أما أمر الحكومة فقد تركته للقَدَر يُقَدِّره، ولِيد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد

عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال،

فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن) .

صدق الإمام في قوله؛ فإنه مقتبس من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا

بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد قدَّر سبحانه للشعب المصري

أن يغير ما كان عليه من التفرق والانقسام، والخنوع الذي يشبه التعبد للحكام،

وظهر في جمهور دهمائه مبدأ الوحدة التي تسمى بالرأي العام، وإنما كان هذا

بتأثير أحداث الزمان، وشطط رجال الاحتلال وإسرافهم في احتقار المصريين،

وسوء استعمالهم للسلطة العسكرية العرفية في زمن الحرب، وعدم وقوفهم في

إرهاف الحد عند حد، كما شرحناه في مقالنا التاريخي عن القضية المصرية سنة

1921 (ص496-522 ج7 مجلد22) فبذلك الإرهاف تم تكوين الشعور القومي

الوطني في الشعب المصري، وظهر ظهورًا جليًّا في ثورة سنة1919، وهو ما

كان ينوط به الأستاذ الإمام العمل السياسي المنتج لمصر، ولما كان هذا الطور

الجديد لابد له من زعيم سياسي قد أوتي من المواهب ما يمكنه به أن يوجهه إلى

السعي لاستقلال البلاد - لم يوجد في مصر من قدر على ذلك إلا بقية أعضاء حزب

السيد جمال الدين السياسي وربيب خليفته الأستاذ الإمام وهو سعد زغلول.

ولكن سعد كان شيخًا كبيرًا لم يرب أحدًا على الغرار- أو المبدأ - الذي

وضعه السيد جمال الدين قبل نيل هذه الزعامة؛ لأن القضاء كان قد شغله عن

التربية الأخلاقية والسياسية، ولا بعدها لقصر الوقت وكثرة الشواغل العملية عن

هذه التربية، ولكن آراءه ومنازعه الاستقلالية وسيرته في الجهاد دونها قد تمكنت

في أنفس كثير من رجال الوفد الذين جاهدوا معه وثبتوا على الجهاد والجلاد

فاستطاعت الثلة الإدارية له أن تحافظ على اتحاد الكثرة الساحقة في مجلسي الشيوخ

والنواب، وعلى تأييد السواد الأعظم من الأمة له.

فلما رأى المندوب السامي البريطاني هذا ناجز الحكومة المصرية العداء في

كل من هيئتها التشريعية والتنفيذية، وقعد لها كل مرصد، وشرع يعاقبها على كل

قول وفعل، ولا سيما تبرمها باستبداده، وحكومة لوندرة وهي بيد حزب المحافظين

تؤيده في كل ما يقرره، وتجيبه إلى كل ما يطلبه، حتى أرسلت بطلبه أسطولاً

ضخمًا إلى الإسكندرية لتأييد معارضته في مسألة داخلية صغيرة لا تدخل في معنى

التحفظات الأربعة التي قيدوا بها الاستقلال المصري بنص ولا فحوى، ولا يمكن

أن يُستدل بها عليها بطريق من طرق الدلالة الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام.

فثبت بهذا أن الحكومة البريطانية تريد أن تسخر الحكومة المصرية لمشيئتها

بالقوة القاهرة، إن لم تذل وتستخْذِ لإدارة مندوبها السامي وتنفذ أوامره الشفوية

والتليفونية بدون أدنى معارضة من البرلمان وغيره، فهو قد عارض البرلمان في

وضع بعض القوانين وتقرير بعض الإصلاحات الداخلية، كقانون الجمعيات

والإصلاحات العسكرية، وأكره الحكومة على إعادة من شاء من موظفي الإنكليز

الذين خرجوا منها بمقتضى قانون التعويضات الذي غُبنت به مصر غبنًا فظيعًا،

فعاد من شاء منهم بعدما أخذوه من ألوف الجنيهات تعويضًا عما بقي لهم من سني

الخدمة، إلى غير ذلك مما ليس إحصاؤه من موضوع مقالنا هذا، وهو من

الجزئيات التي نعنى بمعناها الكلي دون أفرادها.

لم يتجرأ اللورد جورج لويد المندوب السامي على هذا الاستبداد كله إلا لما

ثبت عنده وعند حكومته من زوال الوحدة المصرية السعدية التي ألجأت دولتهم إلى

إلغاء الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال التام، ولو مع تلك التحفظات التي كان

ينكرها سعد باشا والرأي العام، ولم يكن لمصر من سبيل إلى وقف هذا التعدي عند

حده إلا المحافظة على تلك الوحدة في البرلمان والحكومة، فكان أكبر ما خسرت

بموت سعد أنه لم يوجد له خلف يستطيع أن يحل محله في جمع الكلمة كما قلنا،

ولم تكن وطنية زعماء الأحزاب قد ارتقت بهم إلى حيث يحلون النظام محل نفوذ

ذلك الزعيم الكبير، فيؤيدون خليفته في المصلحة العامة، ويتسامحون فيما ينكرون

من أنانية الوفد، ويُحكِّمون فيما يختلفون فيه معه ما يقضي به الشرع والعقل،

فاشتعلت نار الخلاف الحزبية في البرلمان، وانصدعت وحدة الحكومة باستقالة

بعض الوزراء، واندلعت ألسنة الكتاب والخطباء بالهُجر والبذاء، وشُرِّعت أسنة

الأقلام في ميادين الجرائد للطعن الهراء، والإفك والافتراء، فأحبط كبراء الأمة

أفضل ما كانوا قد عملوا فكان هباء منثورًا، وهذا هو الذي أطمع المحتلين فيهم،

فعادوا إلى شر ما كانوا عليه من العبث بهم، ويتعذر على المؤرخ المنصف حصر

التبعة في حزب أو شخص منهم.

وفي تلك الأثناء أثيرت شبهات في قضية الأمير سيف الدين، وما كان من

دفاع مصطفى النحاس باشا وغيره من كبار رجال الوفد عنه بالوكالة، إذ كانوا من

المحامين، وذلك قبل تقلد النحاس منصب رياسة الوزراء، فأسرفت الجرائد

المناصبة للوفد في الطعن على رئيسه ورفاقه المحامين برميهم بالطمع واستخدام

مناصبهم ونفوذهم في الحكومة والمجلس لتوفير منافعهم وتحقيق مطامعهم.

في أثناء هذه الزعازع صدرت إرادة جلالة الملك بما بدأنا بذكره في هذا

المقال من إقالة الوزارة المصطفوية البرلمانية، وتعطيل البرلمان، وإسناد منصب

الرياسة إلى محمد باشا محمود سليمان، فأراد إشراك بعض رجال الوفد في تأليف

وزارته فأبوا كل الإباء، فألَّف الوزارة من رجال حزبه، وأعلن أن عناية وزارته

ستتوجه إلى الإصلاحات الإدارية من زراعية وصحية وغيرها، دون الأعمال

السياسية التي استغرقت أوقات الوزارات السابقة كلها، وأن تراعي مقاصد الدستور

وأغراضه بقدر الإمكان حتى في أحكامه التي قضت الإرادة الملكية بوقفها.

كان وقع هذا الانقلاب في الأمة أشد من وقع الصاعقة، إذ ظهر لها أن

الحكومة الدستورية النيابية التي كانت كل ما ربحته من جهادها الطويل، ومن

ثورتها الدموية منذ عشر سنين، لم تكن إلا سرابًا خادعًا ليس له ثبات في الداخل،

فيحترمه الأجنبي من الخارج، ولولا الاحتلال الأجنبي لثارت له ثورة لا تنطفئ

جذوتها إلا بإعادة سلطانه وتوطيد أركانه وزيادة حقوقها فيه، ولكن لا يجهل أحد من

أهل الطبقات العليا ولا الوسطى أن الإنكليز يفترصون هذه الثورة لزيادة جيش

الاحتلال، والسيطرة العسكرية على البلاد، بحجة المحافظة على أموال الأجانب

وأنفسهم وتأمين ديونهم.

وكان الأكثرون من الناس يظنون أن وزارة محمد باشا محمود تعجز عن إدارة

أمور البلاد، والسواد الأعظم على ما يعلمون من السخط عليها والأسف على

دستورها، فبدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون، من إرادة نافذة، وعزيمة ماضية،

وحزم (كالمبنيات في النحو) يعمل ولا تؤثر فيه العوامل، فكان كأحد الرجال الذين

سادوا أقوامهم وأخذوا حكوماتهم من رق رقبتها، فجعلوا إدارتها رهن إرادتهم،

وتصرفوا فيها كما يتصرفون في بيوتهم ورقبة أرضهم، حتى صار يلقب في

الجرائد الأوروبية بالدكتاتور كموسوليني ودريفيرا ومصطفى كمال.

ألجم الجرائد بعد أن عاقب بعضها بالنذر فالتعطيل الإداري، ومنع اجتماعات

التظاهر والاحتجاج على الحكومة، حتى اجتماع أعضاء الوفد وأعضاء البرلمان،

واستبدل بها الاجتماعات لتأييده والهتاف له بنفوذ الحكومة، وطفق حزبه (الحر

الدستوري) يعقد الاجتماعات في العاصمة وسائر المدن لإنشاء لجان جديدة له تمهيدًا

لانتخابات البرلمان الآتية بعد تعميمها، إذا اقتضت الحال إعادتها مع الثقة بفشل

الوفد فيها.

فالوفد هو الخصم السياسي للحزب الحر الدستوري، فلا يرجى له نجاح

في أي انتخاب ما دام الوفد هو صاحب النفوذ في البلاد، وكذلك الحزب الوطني

وحزب العهد، ومن المعلوم بالضرورة أن الوفد هو الخصم الألد للإنكليز، وأنهم لا

يرجون أن ينالوا من مصر ما يؤملون ما دام للوفد الأغلبية في البرلمان، ومن

المشهور أيضًا أن الوفد لم يُوفق لنيل العطف الملكي الذي لم يكن له بد منه.

ومما يجب أن يذكر ولا ينسى أن حكومة مصر آلة منظمة ذات سلطان على

الشعب يمكن لكل من تولى أمرها بالحزم أن يخضعه لإرادته وتصرفه، وأن

الشعور القومي في الشعب لم يرتق إلى الدرجة التي تضطر الحكومة إلى مراعاته،

وليس من موضوع هذا المقال شرح ذلك وبيان شروطه وأسبابه، وقد أشرنا إلى

بعضها فيه، وإنما ذكرناه لنقول: إن من فضل الله تعالى علينا في هذا البلد الآمن

المطمئن أن تكون القوة المسلحة التي تعتمد عليها الحكومة في حفظ الأمن وتنفيذ

الأحكام خاضعة لرؤسائها خضوعًا تامًّا لا تدخله السياسة ولا آراء الأحزاب، ومن

فضل الله علينا أيضًا أن كان مستخدمو الحكومة في جميع الوزارات خاضعين

لرؤسائهم كالشرطة والشحنة وإن خالفوهم في العقيدة السياسية، وبهذا وما قبله نقيم

الحجة على الأجانب بقدرتنا على إدارة شؤوننا بأنفسنا، وإنما الطريقة الأمينة

لإيقاف الحكومة عند إرادة الأمة هي جعلها شورى بالدستور.

قد سبق لنا بيان كنه سياسة الوفد، وكنه سياسة حزب الأحرار الدستوريين

في مقالنا التاريخي الممتع الذي أشرنا إليه آنفًا، كما بيَّنا فيه مزايا كل من سعد باشا

وعدلي باشا موزونين بالقسطاس المستقيم، في وقت كان فيه كل حزب يذم زعيم

الحزب الآخر منهما ويضعه في أسفل سافلين.

وقد ذكرنا في سياق هذا المقال بعض مزايا صاحبي الدولة مصطفى باشا

النحاس، ومحمد باشا محمود سليمان، وأما الموازنة بينهما فالحكم بالحق فيها أن

كلاًّ منهما وطني صميم؛ ولكن الأول رجل قضاء، والثاني رجل إدارة، وكل

منهما يصطنع رجال حزبه والمواتين له في حكومته كدأب من قبلهما، وإنما

يختلفان في السياسة بحسب اختلاف حزبيهما، فسياسة الوفد قائمة بمناصبة الإنكليز

بقوة الأمة إلى أن تنال حقها تامًّا كاملاً، وسياسة الأحرار الدستوريين قائمة

باستمالتهم، وفي كل من السياستين خطر على البلاد، فمناصبة الضعيف للقوي

تنتهي دائمًا أو غالبًا بفلج القوي وربحه وخسارة الضعيف، وكذلك استمالة الضعيف

الخاشع للقوي الطامع لا تزيد القوي إلا طمعًا وجشعًا، وإنما الأنفع للبلاد أن يتعاونا

ويتحدا ولو في الباطن، ويرتقبا الفرص للانتفاع بهذا التعاون، كما فعلوا في فرصة

الائتلاف الأخيرة التي كان لمحمد محمود باشا اليد البيضاء فيها.

فإذا عجز الآن أن يعيدها سيرتها الأولى، فالذي أراه أن من الجناية على

الأمة أن يستخدم قوى الحكومة في إضعاف الوفد؛ فإن الوفد هو الأمة فإذا ضعفت

عجز هو وغيره عن إدراك ما تطلبه من الاستقلال المطلق، بل عجز عن حفظ ما

نالته بالفعل من الاستقلال الإداري كما عجز مَنْ قبله، وهو يعلم أن زميله في

الحزب وسلفه في الوزارة الدستورية عبد الخالق ثروت باشا ما نال في عاقبة الثورة

الوطنية التصريح المعهود بإلغاء الحماية البريطانية الشؤمى على مصر، والاعتراف

لها بالاستقلال التام المقيد بتلك التحفظات التي انتقصته من جميع أطرافه - إلا بسبب

قوة الوفد ووحدة الأمة بزعامة سعد، كما صرحت بذلك الجرائد الإنكليزية حتى

التيمس في تأبينها لسعد، وقد رأينا ذلك الخزي العظيم الذي رضي به ثروت بعد موت

سعد، وكان الفضل الأكبر في رفضه للوفد.

ولا يخفى عليه أيضًا أن ما يظهره رجال الإنكليز من الرضا عنه والثقة به،

وما ينشرونه من الثناء عليه والإشادة بأعمال وزارته لا يزيده عند السواد الأعظم

من الأمة ثقة ولا حبًّا، بل هو من قبيل تعظيم الحسان للرجل بتسميته والدًا لهن أو

عمًّا.

وإذا دعوك عمهن فإنه

نسب يزيدك عندهن خبالا

على أن أهل البصيرة والرأي من المصريين وغيرهم يعلمون أن ثقة كبار

الرجال من الإنكليز برجل من غيرهم ذات قيمة عظيمة، إذا يمكن أن تكون رأس

مال كبير في السياسة لمن يقدر على استغلالها عند سنوح الفرصة لها، وقد ذكرت

للأستاذ الإمام مرة طعن المؤيد واللواء على مصطفى فهمي باشا واشتهاره بين

الوطنيين بالإخلاص للإنكليز والخيانة لوطنه، فقال ما معناه: إن هذا الرجل مهذب

الأخلاق، نزيه النفس، محب لوطنه، ولعله لا يوجد أحد من العارفين يُنكر نزاهته

وترفعه عن الرشوة والتجارة بمصالح الحكومة؛ ولكن عيبه الكبير هو ضعف

الإرادة مع اعتقاده أن الإنكليز قد استولوا على هذه البلاد بضرب من ضروب الفتح

السياسي العصري، والإنكليز يجلونه ويثقون به، فلولا ضعف إرادته لأمكنه أن

ينفع البلاد بهذه الثقة نفعًا عظيمًا في أمور كثيرة جليلة، فهم لا يكادون يخالفونه في

شيء يقترحه عليهم؛ ولكنه هو لا يدري هذا ولا يدرك كنهه، فهو كما يقول العوام

في الولي الذي لا يعرف نفسه.

وأقول: إن لمحمد محمود باشا عندهم الآن مثل تلك المنزلة أو أعظم؛ ولكنه

يدرك كنه هذا، وهو على إدراكه له قوي الإرادة، واسع الحيلة، وقد يعلم من

حوادث الزمان وقواعد الحقوق وسنن العمران أن مصر لم تصر مستعمرة بريطانية،

ولا مما يسمونه أملاك التاج، ولعل الفرصة قد سنحت له بوزارة العمال

البريطانية الجديدة لخدمة وطنه أجلّ خدمة، فإن ما تتسامح به الدولة البريطانية مع

صديق لها موروث، وربيب لمدارسها شكور، لا تتسامح به مع غيره، كما علمنا

من إعراض وزارة العمال الأولى عن سعد باشا بعد تواده مع رئيسها وبعض رجالها

قبل تسنمها غارب الوزارة لما هو معروف من عناد الإنكليز وكبريائهم.

وهي إن تسامحت معه، فلن تتسامح معه إكرامًا لخاطره، ولا مكافأة له على

صداقته، بل لأجل حل عقدة المسألة المصرية بما يرجى أن يرضي الشعب المصري

من غير طريق الوفد المعروف بمناوأة الدولة البريطانية، وما لا يُرضي الشعب

المصري لن يتم إذ لا يمكن أن يكون اتفاقًا قانونيًّا يرضى به الشعب البريطاني، إذن

لا يمكن الاتفاق القانوني بين الدولتين إلا إذا أُعيد البرلمان المصري ووافق على

مشروع الاتفاق بما يصير به قانونيًّا، وكيف يكون ذلك؟

الوفد يرى أن البرلمان قائم، وأن تعطيله غير قانوني، والوزارة وحزبها

يريان أن تعطيله صحيح، وأن سببه أنه كان ضارًّا بالبلاد مضيعًا لمصالحها؛ لأن

أكثر أعضائه لم يكونوا إلا أرقامًا يتم بها العدد القانوني للأعضاء الذين لا رأي لهم

ولا إرادة مع أركان الوفد، والمشهور على ألسنة العارفين المعتدلين أن الوفد

يرضى بإعادة الانتخاب إذا كان قانونيًّا حرًّا لا تبذل الحكومة نفوذها وأموالها للعبث

به كما فعل إسماعيل صدقي وزير الداخلية في وزارة زيور باشا سنة 1925، بل

يقول الكثيرون إن الفلج مضمون للوفد في الانتخاب مهما تفعل الحكومة، وقد يصح

هذا إذ لم يأت محمد محمود بما يرضي الأمة، والأمة لا تجهل مصلحتها، ولا تكفر

صنع من أحسن إليها.

وقد آن لي أن أصرح هنا برأيي في البرلمان الأخير الذي هو رأي جميع أهل

البصيرة في الدين؛ إيضاحًا لكلمتي التي جاءت عرضًا في فاتحة المجلد الثلاثين من

الجزء الماضي (الأول) فأقول: إنه كان شرًّا مما يقول فيه كتاب الأحرار

الدستوريين؛ وإنما تختلف في هذا وجهة النظر بيننا وبينهم، فهم إنما يذمون أكثر

الأعضاء بانقيادهم للوفد، فذمهم موجه للأكثرية الوفدية لأنها وفدية، ونحن أنصار

الدين إنما نذم ملاحدتهم اعتقادًا أو تقليدًا، وهم أمشاج من الدستوريين والوفديين،

فالحق أن المجلس السابق كان يغلب فيه نفوذ الملاحدة كما علم من مسألة رد اقتراح

مَن اقترح إيقاف الجلسة عدة دقائق لأداء صلاة المغرب، وتأييد من جاهر منهم

بأنهم لا يريدون الصلاة، وكما علم من طعن أحدهم في كتاب الله وصرَّح بتحقيره

في المجلس، ولم يَرُد على هذا الجهر بالكفر والارتداد عن الإسلام أحد، وكما ظهر

في مناقشاتهم في قضية الدكتور طه حسين من الدفاع عنه بعد تصريحه بالطعن في

القرآن، وفي مسالة الخلافة وغيرها من احتقار العلماء والطعن فيهم.

فأهل الدين يعلمون أن الحكومة الدستورية أقرب إلى الإسلام من الحكومة

الشخصية الاستبدادية، بشرط أن لا يكون نوابها من الملاحدة الذين يحاولون هدم

الدين الذي تُهدم بهدمه الفضيلة، وتُباح الأعراض، وتُستحل المحرمات، وتَهلك

الأمة بفساد أخلاقها، فلا أعاد الله ذلك المجلس، وعلى جميع أهل الدين إذا أُعيد

الانتخاب لمجلس آخر أن لا ينتخبوا أحدًا من هؤلاء الملاحدة المفسدين من أي

طائفة كانوا.

_________

ص: 145

الكاتب: إيراني كبير

‌تطور الإصلاح في الحجاز

حديث إيراني كبير عن الحجاز

جاء في جريدة العهد الجديد البيروتية الغرَّاء تحت هذا العنوان ما نصه:

تمهيد: بعد انقلاب الحجاز الخطير الذي أدى إلى سقوط الدولة الهاشمية،

وتبوأ صاحب الجلالة الملك ابن سعود عرش الحجاز - كانت حكومة إيران قد قطعت

علاقاتها مع ابن سعود تحت تأثير الدعايات المؤلفة التي قام بها فريق من الرجعيين

ساءهم ما يشاهدونه في الحجاز من إصلاح وتقدم، فعملوا على تنفير القلوب،

وإيغار الصدور بين العرب والفرس.

علم أن صاحب الجلالة ملك إيران رضا خان بهلوي أدرك أخيرًا سوء نية

المفسدين، وأن ما أشاعوه فأقلقوا باله به لا يستند إلى ركن صحيح، فحسن ظنه

بحكومة الحجاز، وسمح لرعاياه بحج بيت الله الحرام في هذا العام، كما أنه أرسل

إلى مكة المكرمة ممثلاً سياسيًّا لدولته هو الميرزا حبيب الله خان عين الملك معتمده

السابق في بيروت.

وكان بين حجاج هذا العام حضرة الميرزا إقبال شاه أزاد خان نائب مقاطعة

شيروان في المجلس النيابي الإيراني، وقد وصل أمس إلى الثغر قادمًا من مكة،

ونزل في الفندق العربي، فأوفدنا أحد محرري (العهد) لمقابلته واستطلاع ما

أحدثته في نفسه زيارة الحجاز، فوافانا بما يلي:

كانت الساعة الرابعة بعد ظهر أمس الأول حينما قابلت حضرة النائب إقبال

خان، هو في أواسط العقد الرابع من عمره، طويل القامة، معتدل الجسم، أسمر

الوجه حليقه، يتكلم التركية والإفرنسية ما عدا لغته فحييته باسم العهد، وسألته أن

يتفضل ببيان ما أحدثته في نفسه زيارته للأراضي الإسلامية المقدسة، فقال سعادته:

انتدبني مجلس الأمة الإيراني بصفة خاصة لدرس حالة الحجاز، وما قيل عن

تلاعب الحكومة بالأماكن المقدسة، فقمت بمهمتي هذه دون أن أشعر الحكومة، وقد

دلني البحث الدقيق الذي قمت به بنفسي أن الحكومة السعودية وجلالة الملك شديدا

التمسك بالدين الإسلامي ونصوصه لا يدخران وسعًا في سبيل المحافظة على

المخلفات الإسلامية [1] ، وأن ما رأيته في الحجاز من وسائل الإصلاح ومن العناية

التامة براحة الحجاج والمحافظة على صحتهم وسلامتهم لم أر مثله في البلاد التي

سبقنها مراحل في ميدان المدنية.

وقد كان بعض المصادر المعادي لابن سعود يحاول إيهام الناس بأن الأمن

مختل في الحجاز صرفًا لهم عن الحج، وإذا الأمر خلاف ذلك تمامًا.

وإليك حادثة جرت لي تثبت مبلغ استتباب الأمن في الربوع العربية الحجازية،

فقد أضعت محفظة بين مكة وعرفة، وبالرغم من أنها تحوي مبلغًا كبيرًا من المال فإن

أحد الحجازيين وجدها، وأرسلها إلى الحكومة، وهذه أعادتها إلي دون أن تنقص منها

بارة واحدة، وهذا ما لا يمكن أن تشهد مثله في أعظم البلاد رقيًّا.

تقرير مندوب النواب الإيراني:

- هل أتمكن من معرفة التقرير الذي ستقدمه إلى البرلمان الإيراني؟

- تقريري لا يخرج عن حد إفهام زملائي حقيقة الوهابية، وبيان فساد الشوائع

التي كانت مثارًا لشعور الإيرانيين، ويمكنني أن أؤكد لكم بأنني سأكتبه بأمانة

وصدق وتجرد.

- أليس لكم ما تنتقدونه على الحكومة الحاضرة؟

- بالعكس، إني محبذ كل الإجراءات التي قامت بها حكومة صاحب الجلالة الملك ابن سعود.

- وهل يتضمن تقريركم بحث حالة الحجاز من الوجهة السياسية؟

- كلا، وإنما سأقتصر فيه على الوجهة الاقتصادية، فقد تبين لي أن الحكومة

الحاضرة تريد أن تقوم ببعض المشاريع الاقتصادية والعمرانية والزراعية، ولكن

ينقصها بعض المال للقيام بها، وهي لا تريد أن تستمد حاجتها من رؤوس الأموال

الأجنبية؛ لأنها تعتقد أن ذلك يؤدي حتمًا إلى توطيد النفوذ الأجنبي؛ ولهذا فهي

تنوي أن تضع يدها بيد أصحاب رؤوس الأموال الإسلامية بشرط أن لا تكون هناك

أية صبغة أجنبية فيها، وترى أيضًا أن المساعدة الوحيدة التي يمكن أن تحصل

عليها هي من إيران وتركيا [2] .

ونحن كنا في حاجة إلى رؤوس الأموال لإصلاح اقتصادياتنا وزراعاتنا في

إيران، إلا أن بيننا أغنياء عديدين يستصعبون القيام ببعض هذه الأعمال، وأنا

سأعمل على تشجيعهم للإقدام على هذا العمل الذي يفيدنا ويفيد الحجاز معًا، وأما

المساعدات الفنية فأعترف أننا لا نستطيع تقديمها، فعلى الحكومة الحجازية أن

تستمدها من تركيا [3] .

مهمة مندوب الشاه في الحجاز:

- وهل تعتقدون أن المفاوضات ستدور بهذا الصدد؟

- لا أعرف ذلك في الوقت الحاضر، ولا سيما وأن علاقتنا السياسية لم تُوطد

مع ابن السعود، ومن الواجب وضع الأسس العمومية أولاً للاتفاق السياسي [4] ثم

يباشر وضع اتفاقات اقتصادية وتجارية وخلاف ذلك.

- وماذا عمل حبيب الله خان حتى الآن في مكة؟

- لقد قابل جلالة ابن سعود وسلَّمه كتاب صاحب الجلالة الشاه الذي يعترف فيه

بملكيته على نجد والحجاز، وقد تقبل جلالة الملك كتاب جلالة الشاه وسفيره،

وأبرق إليه معربًا عن استعداده للقيام بكل ما يقدر عليه في سبيل توطيد العلاقات

الودية بين أمته والأمة الإيرانية، كما شكر له دعوته لسمو نجله الأمير فيصل

لزيارة إيران قائلاً بأن نجله سيغتنم أقرب فرصة لزيارتها، وأنا أعتقد أن سمو

الأمير سيزور بلادنا في هذا الصيف.

الأمير أرسلان:

- هل قابلتم جلالة الملك ابن السعود؟

- نعم، اجتمعت بجلالته لأول مرة في المأدبة التي أقامها للأمير شكيب

أرسلان، وقد سبق لي التعرف على هذا الأمير في أوربا حيث كان يدافع عن القضية

السورية، ثم اجتمعت بجلالة الملك مرارًا على انفراد فلاقيت منه كل إكرام، وقد

طلب إلي أن ابلغ الأمة الإيرانية تحيته بواسطة مجلسها النيابي، وسأقوم مسرورًا بهذه

المهمة عند عودتي إلى بلادي.

الرابطة بين الحجاج:

- كيف وجدتم الرابطة الإسلامية في الحجاز؟

- أقول: إن الرابطة الإسلامية مفقودة بين الحجاج الذين يؤمون البلاد المقدسة،

وسبب ذلك فقدان التجانس بين طبقات المسلمين، فمثلاً ترى الهنود في مقر منعزل

لا يختلطون بغيرهم؛ لأنهم يجهلون لغتهم، وكذلك الإيرانيون والعرب والروس

والترك وغيرهم من الأقوام الإسلامية، وأرى أن يتحقق ذلك بأن يلقى محاضرات

بكافة اللغات، وأن يصدر بهذه اللغات نشرات في موسم الحج، وبذلك يكون تقرب

نوعًا ما بين الجميع، وقد عرضت هذه الفكرة على جلالة الملك وكبار حجاج

المسلمين فلاقت كما أعتقد استحسانًا، وأرجو أن تنفذ في العام القادم.

والرابطة الإسلامية إذا توحدت يمكنها أن تؤدي نتائج حسنة تهم الجميع.

رأي في الخلافة:

- ما رأيكم في الخلافة؟

- أقول لكم بصراحة تامة: إن الخلافة بدعة!! وقد جرَّب المسلمون الخلافة

فماذا استفادوا منها؟ اللهم إلا أنها آلة يديرها الأجانب في الاتجاه الذي يريدونه، وكفى

المسلمين ما لاقوه، فعليهم الآن أن يلتفتوا إلى اللباب لا إلى القشور [5] . انتهى

الحديث.

_________

(1)

المنار: يريد بالمخلفات: المعاهد الأثرية التي يعبر عنها بعض علماء الحجاز بالمآثر كالبيت الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ودار خديجة رضي الله عنها، وقبور آل البيت عليهم السلام، وقد منعت الحكومة السعودية ما كان يجري فيها من الخرافات، فأذيع أنها هدمتها، وجعل أصحاب الأهواء والبدع هذه الإذاعة وسيلة لصد الشيعة عن الحج.

(2)

المنار: هذا رأي غريب، لا نظن أن صاحبه مصيب.

(3)

إن مصر وسورية أقرب إلى الحجاز، وأقدر من الترك على هذه المساعدة.

(4)

المنار: قد علمنا عن ثقة بأن أسس الاتفاق السياسي قد وضعت، واتُّفق عليها وستُمضى وتعلن في فرصة قريبة.

(5)

المنار: إن هذا الرأي خطأ من وجوه، فالخلافة عند أهل السنة هي الإمامة العظمى التي يعدها الشيعة من أصول الدين في المرتبة التي تلي النبوة، وعند أهل السنة من فروع الشريعة المهمة، وقد استفاد المسلمون منها فوائد عظيمة على كون أكثر دولهم لم تقم بها كما يجب، ولا سيما خلافة التغلب المحض كخلافة الترك، وقد كانت دول أوربة تخشى أن يجيء يوم يعرف المسلمون كيف يستفيدون منها على علاتهم وعلاتها، وهم يعدون إلغاء مصطفى كمال لها خدمة جليلة لسياستهم الدينية الاستعمارية.

ص: 153

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أداء الأمير شكيب لفريضة الحج

كان قلب الأمير شكيب يحن إلى أداء فريضة الحج منذ سنين، كما هو شأن

كل مسلم، وإن كان أمثال الأمير شكيب في تربيتهم المدنية والسياسية والاجتماعية،

صار يقل فيهم من يحج كما يقل من يصلي ويصوم إذا لم تقرن تلك النشأة

العصرية بمعارف دينية صحيحة راسخة كالطود لا تؤثر فيها أمواج الشبهات، ولا

تنال منها عواصف الشهوات، ولكن شكيبًا تلقى عقيدته من الأستاذ الإمام، وغذاها

بالعلم الصحيح والعمل، وقد كان لكبراء الرجال السياسيين من موانع الحج في

السنين الخالية ما ليس لغيرهم.

عزم شكيب على الحج في موسم السنة الماضية (1347) وكان يحب أن

يسافر من أوربة قبل موعد الحج، فيعرِّج على مصر فيقيم فيها مدة مع صديقه

الحميم صاحب المنار بداره التي يُعِدُّها بحق داره، وكتب إلي بذلك، وأنه لقي في

برلين معالي وزير خارجية مصر الدكتور حافظ بك عفيفي، وكان بينهما صداقة

سابقة فكاشفه بعزمه، فتبرع الوزير بوعده بأن يمهد سبيل الإذن الرسمي له بزيارة

مصر في طريقه لعلمه بأنه كان ممنوعًا من دخولها بعد الحرب الكبرى، ومن

المعلوم بالبداهة أن المرجع الرسمي في هذا الأمر لوزارة الخارجية؛ ولكن الوزير

نفسه رأى أن الإذن له يحتاج إلى تمهيد وسعي! ! .

ثم أزمع الأمير السفر وخرج من داره في لوزان قاصدًا البحر عن طريق

إيطاليا، وطفق يراسل وزير الخارجية، ثم يراسل بعض أصدقائه في مصر،

سائلاً هل تأذن له الحكومة المصرية بالإلمام بمصر، ولو بميناءي بورسعيد

والسويس لينتقل من الباخرة التي يسافر فيها إلى باخرة من البواخر التي تنقل

الحجاج؟ وكانت هذه الرسائل برقية، فعلمنا بعد البحث أنه لا يزال ممنوعًا من ذلك،

وبعد بذل السعي من بعض المهتمين بالأمر لدى صاحب الدولة رئيس الوزارة، اقتنع

بأن اللائق بحكومة مصر بصفتها الإسلامية الرسمية أن لا تمنع أحدًا من الإلمام ببعض

ثغورها بقصد السفر إلى الحج من غير إقامة تزيد على مدة الانتقال من باخرة إلى

أخرى، فأصدر أمره بالإذن في آخر وقت أدرك به الأمير آخر باخرة تحمل الحجاج

في آخر وقت يمكن إدراك الحج فيه، وقد علمنا أن الأمير بذل في أجور البرقيات

أكثر من ثلاثين جنيهًا، وأنه لو كان يعلم هذا لفضَّل أن يسافر في باخرة إيطالية إلى

مصوع أو عدن ثم يسافر منها إلى جدة.

في أثناء هذه المساعي وتبادل البرقيات شاع بين الناس أن الأمير شكيبًا مسافر

إلى الحجاز، وأنه سينزل من الباخرة التي تقله من أوروبا في بورسعيد، وينتقل

منها إلى السويس، فعزم كثير من أصدقائه، وممن يحبون الحظوة بمعرفته،

لشهرته الشريفة في عالم العلم والأدب والسياسة، والجهاد الإسلامي والوطني -

على السفر إلى بورسعيد للقائه فيها، وطفقوا يتحدثون بتأليف الوفود لذلك في مصر

وفلسطين وسورية، ونُشر ذلك في الجرائد، ولكن بعضها ذكر خبر منعه من

الإلمام بالثغور المصرية، فلم يعلم بموعد وصوله إلى بورسعيد إلا بعض أصدقائه

في مصر، فسافر بعضهم إليها في ذلك اليوم، وبعضهم قبله بيوم، وقد نزلت مع

بعض السابقين في زورق بخاري، فاستقبلنا باخرته في البحر عقب وقوفها وإذن

طبيب المحجر بمخالطة ركابها للناس، وسبقنا ابن عمه الأمير أمين فصعد إلى

الباخرة مع الطبيب الرسمي، ولما تلاقينا لم أملك دمع السرور من حيث جرى،

ولا تسل هناك عما قد جرى، ووصل في ذلك اليوم إلى بورسعيد الأستاذ المربي

المصلح والزعيم الوطني الشهير الشيخ محمد كامل قصاب من حيفا لأجل استقباله،

وأخبرنا أن وفد حيفا ووفد القدس قد انفض جمعهما إذ نشرت جريدة الجامعة العربية

برقية من مصر بعدم الإذن له وهو إنما جاء للاحتمال، وقد جاءت الأمير برقيات

كثيرة، وعاد بعض المستقبلين له إلى القاهرة، وبات بعضهم في بورسعيد بعد

إلحاحه على الجميع بالعودة إلى أعمالهم، إلا كاتب هذه السطور، فقد قال له: أنت

تبقى معنا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر.

وقد سافرنا في اليوم الثاني إلى السويس فوجدنا بعض المستقبلين في

الإسماعيلية من طريقنا، وبعضهم في محطة السويس نفسها، وممن جاءها

بالسيارات الخاصة أحمد زكي باشا وعبد الحميد بك سعيد، وقد بلغ الأمير في

المحطة أمر الحكومة المصرية إياه بالانتقال منها إلى باخرة الحجاج الأخيرة التي

تبحر في ذلك اليوم 29 ذي القعدة إلى جدة، وأنها أمرت شركة بواخر البوستة

الخديوية التابعة لها بتخصيص مخدع له (قُمْرَة) في الدرجة الأولى منها، وكان

يريد السفر في باخرة البريد في 2 ذي الحجة، فركب الأمير ومن كان ثم من

المستقبلين المودعين السيارات إلى الباخرة توًّا، وذهبت أنا السوق فأخذت له منه

ثياب الإحرام؛ لأنني علمت منه أنه لم يحمل من أوروبا شيئًا من ذلك.

الأمير شكيب أكبر رجال السياسة من زعماء الأمة العربية، وأشهر كتابها

الذائدين عن حوضها والمنافحين عن حقوقها، والعاملين لمصالحها، فالمجاهدون

المخلصون منهم يسرون بلقائه لمجدد مُلك العرب ومجد العرب، وقبلة آمال العرب،

الملك عبد العزيز آل سعود، وتناجيهما في المصالح العربية السياسية والمدنية،

ويرجون من ذلك خيرًا كثيرًا

وللأمير شكيب مكانة إسلامية سامية عند طلاب الإصلاح الديني المدني الذي

يقتضيه هذا العصر من عرب المسلمين، وشعوب عجمهم الكثيرة، ولا سيما الترك

والهنود لما له من خدمة الدولة العثمانية عندما كانت تمثل الزعامة الإسلامية، ثم ما

جاهد به ملاحدة الترك بعد جهرهم بنبذ الإسلام ومعاداتهم بالقول والفعل، ولما له

من الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مواقع أخرى كثيرة قد كان آخر ما نشر منها

مقالة الممتع الذي رآه القراء في جزء المنار الماضي، ومن الدلائل على مكانته

الإسلامية إجماع أعضاء المؤتمر الإسلامي العام من جميع الشعوب بمكة المكرمة

في موسم سنة 1344 على اختياره لأمانة السر العامة (السكرتارية للمؤتمر الدائم)

ولم أكن أنا أشد تقريرًا وعناية بهذا الاختيار من الوفود الهندية، ولا سيما الزعيمين

محمد علي وشوكت علي، المناوئين لملك الحجاز ونجد لعدم اتباعه لهواهما، فأهل

الرأي من مسلمي الأقطار المختلفة يسرون برحلة الأمير شكيب إلى الحجاز لأداء

فريضة الحج، ولقائه للإمام المجدد للإسلام، في رحاب تلك المشاعر العظام؛ لأن

شخوص زعماء المسلمين السياسيين وعلمائهم العصريين إلى الحجاز مفيد بما فيه من

القدوة والأسوة الحسنة لأمثالهم المقصرين في أداء هذه الفريضة، ومفيد بما يرجى من

ورائه من التعاون على المصالح الإسلامية، ومن هذا الباب أنه لما شاع في السنة

الماضية أن الإمام يحيى حميد الدين سيحج في موسمها تناقلت هذا الخبر ألسنة

المسلمين وصحفهم وتلقته بالإكبار والإعظام لأمرين (أحدهما) أن ملوك المسلمين قد

تركوا أداء هذه الفريضة منذ قرون عديدة (وثانيهما) حرص مسلمي العالم كله على

اعتصام إمامي الجزيرة العربية وملكي الإسلام المستقلين بعروة التحالف والاتحاد

الوثقى، ورجاؤهم أن يكون تلاقيهما في بيت الله تعالى متممًا لما مهدا له السبيل من

ذلك بالوفود والمكاتبات والهدايا، ومن فضل الله على صاحب هذه المجلة أن كان هو

الساعي الأول إلى ذلك بالمكاتبات والوفود من قبل الحرب الكبرى ومن بعدها، ويليه

فيه صديقه الأمير شكيب.

ومن دلائل اهتمام أهل الرأي والخدمة العامة من مسلمي الشعوب المختلفة،

وعرب الملل المختلفة، بحج الأمير شكيب ورجائهم الخير فيه للملة وللأمة، أنه ساء

دعاة الإلحاد في المسلمين ودعاة الاستعمار في العرب، ولا سيما السوريين من

الفريقين، فنشروا في بعض الجرائد مقالات سخيفة طعنوا فيها على الأمير في دينه،

وفي سياسته، وفي غرضه من أداء الحج، وكان الذي تولى كبر هذه الأراجيف

ذلك القناف النفاج الحسود المدعي للزعامة السورية؛ ولكن بإمضاء ألصق الناس

بخدمته، ولم يصده عن ذلك اشتهاره هو بالدعوة إلى الإلحاد، ونبذ الدين، وتهتك

النساء وغير ذلك، ومما اتهمه به أنه يسعى بحجه إلى جعل الملك عبد العزيز إياه

سفيرًا له في أوروبا! ! وربما كان هذا الملك أشد احتقارًا لهذا التشفي الدنيء فإنه

صار من أعرف الناس بفضائل الرجل، ورذائل حاسده، وقد احتفى جلالته

بضيافته احتفاء يسعر نار الحسد في كبد الحسود.

استقبلت الحكومة السعودية ووجهاء الحجاز الأمير شكيب في جدة، ثم في

مكة أحسن استقبال، فقد خف إلى لقائه في الباخرة الحاكم الإداري (القائمقام) وغيره

من الموظفين والوجهاء، وفي مقدمتهم عين أعيان الحجاز الشيخ محمد نصيف، ثم

قابله جلالة الملك في جدة إذ كان فيها، وبعد أن تمشى مع جلالته سار معه في

سيارته الملكية إلى مكة المكرمة فكانت هذه أول فرصة واسعة للمذاكرة في المصالح

العامة، وقد كتب إليّ جلالته عن هذا التلاقي ما نصه:

(وقد أنسنا بلقاء صديقكم وصديقنا الأمير شكيب أرسلان، وهو كما وصفتم

إخلاصًا وعلمًا وأدبًا) ويعني جلالته بهذا الوصف ما كتبته إليه أخيرًا من أنني لم

أثن له على أحد وهو فوق ما أثنيت ووصفت من كل جهة إلا الأمير شكيب.

وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغَّب إليه أن يبقى لديه في الحجاز دائمًا أو

ما شاء، وطابت له الإقامة ليقوم بما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء

الإصلاح في حكومته، فاعتذر أولاً بوجود أهل بيته في أوربة، قال: نحضرهم إلى

الطائف، فاعتذر بأنه لابد له من البقاء في أوربة لأجل القضية السورية، وبأنه

يخدم القضية العربية هنالك بما شاء جلالته إلا الوظائف الرسمية؛ فإن فكرة

المناصب الرسمية قد خرجت من فكره، فهو لا يقبل منصبًا لا في الحجاز ولا في

أوروبة كالسفارة في بعض العواصم.

بعد هذا زار الملك جدة فذكر في مجلسه الحافل ما نشر في المقطم من اتهام

الأمير شكيب بالسعي إلى نيل سفارة في أوربة - وهو ما أشرنا إليه في المقال -

فغضب الملك، وقال من هذا - يعني صاحب مقالة المقطم - وإيش يكون؟ ؟ ثم أثنى

على الأمير شكيب ثناءً عظيمًا؟ قال في سياقه: والله إن السفارة التي يريدها في

أوربة تكون له بشرط أن يرضى.

ومن أخبار الأمير في الحجاز التي تسر محبيه الذين لا يحصيهم إلا الله تعالى

أن هواء الطائف قد وافق مزاجه، فزال هنالك ما كان أصابه في أوربة من مرض

الصدر الذي كان فيما يظهر من أسباب ما أنكرته عليه من استطالته لعمره ونعيه

لنفسه، ويسرنا أن ما رأينا عند تلاقينا الأخير في وجهه من الإشراق والبهجة، وفي

حديثه من جرس الصوت وقوة اللهجة، وفي مشيته من النشاط وخفة الحركة، وفي

أكلته من زقم اللقم، وجودة المضغ في غير نهم - ليبشرنا بأنه مستعد لحياة طيبة

طويلة الأجل، إذا لم يجن عليها بالإفراط في الانكباب على العلم والعمل، وفقنا الله

وإياه للقصد والاعتدال، والتوفيق لما يحب تعالى ويرضى من الأقوال والأعمال.

_________

ص: 157