الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثلاثين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، الذي ختم به النبيين،
وأكمل به الدين، وأرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الهادين المهديين، ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن العدد الأول من مجلتنا هذه قد صدر في العشر الأخير من شوال
سنة 1315 الموافق لشهر مارس (آذار) سنة 1898 ميلادية، بشكل صحيفة
أسبوعية ذات ثماني صفحات كبيرة، وفي السنة الثانية جعلناها مجلة أسبوعية
بشكلها الذي هي عليه الآن، وأصدرنا أول جزء من السنة الخامسة في أول المحرم
سنة 1320 - 10 أبريل (نيسان) سنة 1902 - واستمر ذلك إلى السنة السابعة
عشرة ، فقد صدر الجزء الثاني عشر منها بتاريخ ذي الحجة سنة 1332 (نوفمبر
سنة 1914) وكانت قد أُضرمت نار الحرب المدنية الكبرى، فاختل في أثنائها نظام
صدور المنار في أوائل سنيه وأواخرها، وجعلنا أجزاء السنة عشرة؛ لأن الورق
والحبر غلا سعرهما حتى تضاعف أضعافًا، وامتنع وصول الصحف المصرية إلى
كثير من الممالك والأقطار، وساءت معاملات الناس، ومن سنة 1333 إلى سنة
1347 لم يصدر من المنار إلا 12 مجلدًا في 15 سنة، فنقص من مجلداته ثلاثة
أُدْمِجَتْ أو أُدْغِمَتْ في هذه السنين، ولولا ذلك لوجب أن يكون المجلد الذي نفتتحه
اليوم المجلد الثالث والثلاثين.
ولكننا إذا اعتبرنا في تاريخه السنين الشمسية يكون هذا المجلد هو الحادي
والثلاثين، فالذي نقص من مجلدات المنار عن سنيه القمرية ثلاثة، وعن سنيه
الشمسية اثنان فقط، ونحمد الله تعالى أن قَدَّرَنَا على استمرار إصداره في تلك
السنين النحسات، فمن المعلوم أن أكثر قرائه المؤدين لحقوقه هم خيار المسلمين
المستنيرين، الذين يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حال أمتهم بالجمع بين سعادة
الدنيا وهداية الدين، وهم قليلون ومتفرقون، والموسرون منهم هم الأقلون، ومن
عداهم لا يؤدي الحق إلا ما دمت عليه قائمًا وكان المتقاضي له مُلازمًا {وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً} (الأعراف: 58) .
ونرجو من فضل الله تعالى أن نَثْبُت على هذا التاريخ في إصداره ما دمنا
متمتعين بالصحة، بعد أن مَنَّ علينا بدار صالحة للسكنى وللمطبعة، وقد تأخر
صدور بعض أجزاء المجلد الماضي لما عرض لنا من المرض في أول عامه والنقلة
في آخره.
وأما الذي نُذَكِّر به القراء في فاتحة المجلد الثلاثين من الشؤون الإسلامية على
عادتنا في هذه الفواتح، فهو أن الحملة على الإسلام قد اشتدت في هذا العهد من
خصومه في الداخل والخارج، أعني من قِبَل دول الاستعمار ودعاة النصرانية،
وهم طلائعها وحُداتها، ومن أعوانهم وأنصارهم وتلاميذهم في البلاد الإسلامية
نفسها، ولست أعني بهؤلاء من يستخدمهم المبشرون من نصارى القبط والسوريين
والأرمن وغيرهم، بل أعني من هم أشر منهم وأضر، وأدهى وأمر، من ملاحدة
المسلمين، من الترك والإيرانيين والأفغانيين، ودعاتهم وأخدانهم من المصريين،
وأشباههم من السوريين والعراقيين، ومن الهنود والأفريقيين، وسائر الشعوب
الإسلامية، الذين سممتهم التربية الإفرنجية، وأفسدتهم الآراء المادية، وخنثهم
الإسراف في الشهوات البدنية، ونحن نطلق لقب الإلحاد على كل من يسمي خطة
هؤلاء الكماليين في نبذ الشريعة الإسلامية برمتها من حكومتهم، والتمهيد لمحو
عقائد الإسلام وآدابه وعباداته من نابتة شعبهم، بمنع اللغة العربية من جميع بلادهم،
وترجمة القرآن بما لا يؤدي حقائق معانيه من لغتهم، وكتابته كغيره بالحروف
اللاتينية، للإجهاز على ألفاظه وأساليبه المعجزة، بل كل من يسمي هذه الخطة
إصلاحًا ويحسنها ويدعو إليها، فهو عدو للإسلام وولي لأعدائه، وعداوة الإسلام
أعم من الارتداد عنه والكفر به، فإن كان مع هذا زنديقًا يدَّعي الإسلام ويخفي
الكفر، فإفساده أعم وأكبر من إفساد الكافر الأصلي والمرتد، لأن الجاهلين بحقائق
الإسلام من المسلمين يغترون بكلامه، فيفتنهم عن دينهم أو يشككهم فيه.
وإننا نرى ملاحدة بلدنا هذا طبقات بددًا، تسلك طرائق قددًا:
(الطبقة الأولى) :
المجاهرون بالكفر والصد عن الدين، والطعن في عقائده، وإلقاء الشكوك
والشبهات فيها، بما يكتبون في الجرائد والمجلات المختلفة، ومنهم صاحب مجلة
ومطبعة في مصر معروف، وفي حلب مجلة حديثة مثلها يظهر أن صاحبها مقلد
ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم،
ويثني عليهم وينوه بآرائهم، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به
بإمضائه.
ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين، الذي كتب مقالات في تقبيح
النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام،
وطلب أن تكون حكومة معطلة (لا دينية) ومقالات في سن قانون مدني للأحوال
الشخصية، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الإسلامية، وقد كان من أركان محرري
السياسة، ويقال: إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود. وأفراد هذه الطبقة لا
يدّعون التدين ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل، بل منهم من يفتخر بذلك.
(الطبقة الثانية) :
الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويمتعضون إذا وُصفوا بالزيغ والإلحاد،
وهم مع ذلك يطعنون في أصوله، ويجحدون بعض ما هو مجمع عليه ومعلوم
بالضرورة منه، ويشككون في بعض آيات القرآن، وهم لأفراد من الطبقة الأولى
إخوان وأخدان وأعوان، ويسمون الترك الكماليين ومقلدتهم: مصلحين، ويدافعون
عنهم بألسنتهم وأقلامهم، أو أقلام أفراد الطبقة الأولى.
ورأي هؤلاء في الدين أنه رابطة اجتماعية سياسية يجب أن يكفي في
الاعتراف لأهلها به موافقتهم للجمهور في بعض الشعائر والمشخصات العامة،
كالتجمل والزيارات في الأعياد، وإن لم يصل صاحبها صلاة العيد، واحتفال
الجنائز ومآتمها، وقراءة القرآن فيها، وإن اشتمل ذلك على أعمال كثيرة يحرِّمها
الدين، وكزيارات ليالي رمضان وطواف المسحرين فيها، ولكن الصيام نفسه ليس
ركنًا من هذه الشعيرة، ولا شرطًا لها، وكذلك الصلوات الخمس - حتى الجمعة -
والزكاة لا يدخلان في هذا الدين الرسمي من باب ولا طاق، فإنهما عندهم من
الأمور الشخصية، وتُعَدُّ كاستباحة السُّكر والقمار وغيرهما من المنكرات والفواحش
مما تتناوله الحرية الذاتية، كما أن ما تقدم من الطعن في الدين وخلفائه وأئمته مما
تتناوله حرية الأفكار، ويباح الخوض فيه للألسنة والأقلام، ونشره في الكتب
والرسائل، والمجلات والجرائد. قال بعضهم ما معناه: إذا تكلمتُ بلسان الدين أقول:
إن ما في القرآن من كذا وكذا، صحيح مسلَّم، وإذا تكلمت بلسان العلم والعقل أقول:
إنه غير صحيح وغير مسلَّم، يعني أن هذا الذي يثبته القرآن صحيح في اعتقاد
المسلمين، صحيح ومسلَّم عندهم بمحض التقليد، ولكنه غير صحيح ولا ثابت بدليل
عقلي ولا علمي، بل ربما يبطله الدليل.
ولولا أن قائل هذا زنديق ذو لسانين يُسِر الكفر بوحي الله، وإن قال أحيانًا:
قال الله، قال رسول الله - لما استباح التشكيك فيه بمثل هذا من قوله، بل لكان إثبات
كتاب الله تعالى للشيء أقوى برهان عنده على ثبوته في نفسه، وإن لم يثبته أحد
من خلقه بنظريات فكره وما وصلت إليه مباحث علمه، فإن علم الله محيط بكل
شيء من خلقه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بإذنه، أي بما وهبهم من أسباب
كسبه من الحس والعقل، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل ما ثبت عند البشر
من هذين الطريقين الكسبيين لهم، كان مجهولاً قبل ذلك عندهم، وذلك لا يقتضي
عدم ثبوته في نفسه ولو لم يثبته الوحي الصحيح، فكيف إذا أثبته.
(الطبقة الثالثة) :
الغماليج الإِمعون من مرضى القلوب المقلدين، الذين يشايعون المؤمنين إذا
كانوا معهم، ويجارون الملحدين إذا وُجدوا بينهم، فلا يُعرف لهم رأي ثابت مستقر
ينصرونه ويردون ما خالفه، وأما سيرتهم في العمل فهي تابعة لتربيتهم في بيوتهم،
وحال عشرائهم من لداتهم وأترابهم، ورفاقهم في المدارس وجيرانهم، فتراهم
يجمعون بين الكفر والإسلام، ومنهم من يصلي الصلوات الخمس لأنه تربى على
ذلك، ثم يقر ما هو كفر بإجماع المسلمين، وينصر الملاحدة القائلين به، فإسلامهم
تقليدي، وإلحادهم تقليدي، والغالب على أمرهم من يكون أكثر معاشرة وارتباطًا
بهم، ومساعدة لهم على أهوائهم ورغائبهم، ومنهم منهوم المال، ومفتون الجاه.
وثَم طبقات أخرى مدغم بعضها في بعض، فيعسر الحكم عليها بالقطع، على
تفاوت الأفراد فيها في العمل والفكر.
وطالما ضربت مثلاً لمسلمي الأمصار المتفرنجة وطبقات الملاحدة: اختلاط
الماء الحلو بالماء الملح، في مثل شط العرب من جهة البصرة، وساحلي رشيد
ودمياط من مصر، فما كان بين العذب الفرات والملح الأجاج من المائين يتفاوت
على نسبة القرب والبعد من كل منهما، وهكذا نرى بعض المسلمين المتفرنجين،
منهم ما غلب عليه أجاج الكفر، فصار من أهله مُسرًّا له أو معلنًا، ومنهم المزُّ بين
عذوبة الإيمان وملوحة الإلحاد، والمزازة فيه على درجات، بعضها مقطوب لا
تكاد تشربه إلا مقطِّبًا، وبعضها مغلوب إذا تجرعته لا تكاد تسيغه إلا متهوعًا.
ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض، والخُبْر الطويل العريض، أن من أفراد
أولئك الملاحدة دعاة الكفر، وسعاة للصد عن الإسلام، وأن منهم من يأخذ على ذلك
جعلاً من جميعات التبشير بالنصرانية، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض
جماعات اليهود البلشفية والصهيونية، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ
أجره منها، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها،
ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتَّابهم الأحرار، والحظوة
عندهم، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا
لهم على أقوامهم، ألم تر إلى المستعمرين والمبشرين من السكسون واللاتينيين،
كيف نوَّهوا وينوِّهون بعلي عبد الرازق وكتابه المعلوم كما رأيت في البرقيات العامة
في إبان ظهوره، وكما ترى في المقال الأول من مقالات هذا الجزء مترجمًا عن
كتاب فرنسي جديد، أُلِّف للإغراء بهدم الإسلام وتنصير المسلمين.
كان المرحوم الأستاذ الشيخ محمد مهدي وكيل مدرسة القضاء الشرعي أول
من أنبأني بأنه وجد في مصر جماعة تتعاون على الصد عن الإسلام، بالطعن في
شريعته، وفي حكومته، وفي لغته، وفي أئمته، وفي كل من نوَّه بهم التاريخ من
الخلفاء، وكبار العلماء والأدباء، وفي جمهور سلفه في أرقى العصور، ثم ظهرت
آثارهم الخفية في بعض الصحف العامة، وفيما نشروا من المصنفات الخاصة،
وكان تعاونهم بمقتضى تعارفهم وتوادهم، وانتماء بعضهم إلى حزب سياسي
ينصرهم.
ألم تر أن الوزارة الائتلافية كادت تسقط ويتمزق نسيج وحدة الأمة بانتصار
أعظم أركانها لمؤلف ذلك الكتاب الرجس الذي جهر ملفقه بالطعن في القرآن،
ترجيعًا لأصوات بعض أعدائه من المبشرين بالإنجيل.
وقد أخبرنا من خبر حالهم، وعاشر رجالهم، بطرق الدعوة التي يفتنون بها
الشبان عن دينهم، ولا سيما الأذكياء الفصحاء منهم، وسنبينها في مقال آخر، ومما
بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد ثم وضعوه.
وقد علم الجمهور أنه كان قد تألف في مصر حزب لحرية الفكر، كان
الملاحدة هم المؤسسين له بالطبع، من حيث لا يدري كثير ممن انتظم في سلكه،
أو جعل نوتيًّا لتسيير فلكه ولكن بعضهم تجرَّأ فيه على كلام ساء بعض من حضره
من النصارى، فانتصروا لدينهم بالفعل، وكان ما كان من التشاجر الذي أفضى إلى
القضاء على ذلك الحزب.
وقد نشرت جريدة السياسة الأسبوعية في مارس سنة 1928 مقالاً لأحد
أركانهم صرَّح فيه بأنه يوجد في مصر تعصب ديني (إسلامي) ضار، وأن
جماعة كانوا ألَّفوا حزبًا لمقاومته وتوطيد دعائم الحرية، وهذه الجماعة لا تزال
تعمل لهذه الغاية.
ولما أُلِّفت في مصر جمعية الشبان المسلمين، عارضوها بتأليف (جمعية
الشبان المصريين) لأجل القضاء عليها بدعاية الوطنية، قبل أن تشب عن الطوق،
وتشب نارها، فلا يكون لهم بها طوق؛ ولكنهم لم يقاوموا جمعية الشبان
المسيحيين بقول ولا عمل، بل وُجد فيها من يكبر شأنها، ويلقي المحاضرات في
ناديها.
وليس الإلحاد في مصر بحديث العهد، بل نبت قرنه مع التفرنج منذ أكثر من
قرن، ومازال يرتفع ويقوى حتى طمع أهله بإطفاء نور الدين، وقد استباحه مَنْ
استباحه باسم الحرية، وفنَّد الأستاذ الإمام جهالتهم ببعض مقالاته في الوقائع
المصرية. كان غربيًّا غريبًا، فأصبح شرقيًّا قريبًا، أو كان سيلاً أتيًّا، فأمسى
ينبوعًا وطنيًا، وكان شر مظاهره وأشدها خطرًا ما فاه به بعض ملاحدة المسلمين
في مجلس النواب، من الطعن في الشرع وفي نفس القرآن، إذ فاه فض الله فاه،
وسلَّ لسانه من قفاه، ولا رحمه ولا رحم مجلسه الموؤد، بتلك الكلمة التي تقشعر منها
الجلود،: أنه لا يحترم - أو قال: يحتقر - كتابًا يبيح تعدد الزوجات. ولكن ذلك
الملحد الإباحي لا يحتقر قانونًا يبيح الزنا للرجال والنسوان، وتعدد البغايا والأخدان،
دع اعتراض آخر منهم على من طلب وقف الجلسة بعض دقائق لأجل فريضة
المغرب، وتصريحه بأنهم لا يبغون الصلاة مطلقًا أو في ذلك المجلس، ووافقه
الجمهور على ذلك، فكان الأفراد الذين يحافظون على الصلاة على قلتهم يتسللون من
الجلسات فيصلون فُرادى ويعودون إليها.
وإنما الحديث عندنا هو تأليف الأحزاب وتعاون الجماعات على بث الدعوة
إلى الإباحة والإلحاد، ونشر الجرائد والمجلات لمقالاتهم المسمومة، وإلقاء
المحاضرات في ذلك ونشر الكتب الملعونة، حتى إنني كتبت في المنار أنه لا فرق
بين ملاحدة الترك الكماليين، وملاحدة هذه البلاد المفتونين والمقلدين، إلا أن أولئك
أولو قوة عسكرية، فينفذون إلحادهم بالقوة القهرية، ولا سلاح هنا إلا بيد السلطة
الأجنبية، ولقد كان بمجلس النواب في الآستانة مسجد خاص يصلي فيه الأعضاء
وتقام فيه الجماعة، كما كان يوجد في دور الحكومة مساجد يصلي فيها أهلها جميع
الصلوات التي تدركهم فيها.
تجديد ملاحدتنا وتجديد الإفرنج:
إن ما فعله ملاحدة الترك من هدم معالم الإسلام من حكومتهم، وما ظهر في
حكومتي الأفغان والإيران من بوادر الاقتداء بهم، وما ذكرنا القارئ به مما حدث
في مصر، بل سرت عدواه إلى كل قطر، هو الذي أطمع المستعمرين ودعاة
النصرانية في أوربة بالإجهاز على الإسلام، والتذفيف على ما بقي من مظاهر
الحكم الإسلامي في جميع بلاد الإسلام، وتجديد النصرانية وتعزيزها في الغرب
والشرق، وهاك إشارة إلى بعض ما فعلوا في تجديد دينهم مما يعد أكثره ذريعة
للتعدي على ديننا:
(1)
عقد دعاة البروتستانتية من الإنكليز وغيرهم مؤتمرًا بعد آخر في
القدس مهد النصرانية للتشاور في تعميم تنصير المسلمين، ونشرت جمعية لهم في
لندن بيانًا ذكرت فيه أنه لم يبق للإسلام رسوخ ولا ثبات إلا في جزيرة العرب،
وأنها تحتاج إلى مائة مبشر من المجاهدين لنشر النصرانية في هذه الجزيرة
والقضاء عليه في مهده الأول، ومعقله ومأرزه الأخير.
(2)
أعادت الدولة الفرنسية للجمعيات الكاثوليكية ما كانت صادرته من
أموالها وأوقافها تنشيطًا لها على نشر النصرانية في مستعمراتها الأفريقية وسورية.
(3)
أُلِّفت كتب جديدة باللغة الفرنسية وغيرها في الطعن على الإسلام،
والحث على تنصير المسلمين ولو بالقهر والإكراه، وقد نشرنا فصول بعض هذه
الكتب في هذا الجزء وفيما قبله، وسننشر بعضها فيما بعده.
(4)
صالحت الدولة الإيطالية دولة الفاتيكان الكاثوليكية، وأعادت للبابا
سلطانه السياسي في دائرته ومئات الملايين مما كانت اختانته من أموال دولته،
فتجدد للكنيسة الرومانية بعض سيادتها وسياستها، وهذا بدء انقلاب جديد في تجديد
النصرانية في الشرق والغرب، وذلك لا يضيرنا إلا إذا اعتدوا علينا، وهو أهون
من التعطيل والإلحاد عندنا.
(5)
نشطت الجمعيات التي تدعو إلى توحيد كنائس المذاهب النصرانية في
الشرق والغرب وسارت في سعيها خطوات إلى الأمام.
(6)
إن حركة تجديد الدين في إنكلترة تلي في العناية حركة إيطالية، وقد
اشتهر ما كان من اقتراح تعديل كتاب الصلاة المتبع في الكنيسة الرسمية ورد مجلس
الأمة (البرلمان) له المرة بعد المرة. وقد أُلِّفتْ جمعيات أخرى للبحث في العقائد
المسيحية، وتقاليد الكنيسة، وتقريب ذلك من العلم، واستعداد العصر.
(7)
تبارت الأمتان الإيطالية والإنكليزية في الرجوع إلى آداب الدين في
أزياء النساء وعاداتهن، ومقاومة ما أحدثن من الإسراف في التبرج والخلاعة،
المفضية إلى الإباحة، فكتب بعض كبار الكتاب من الإنكليز في ذلك مقالات نشرت
بعضها الجرائد المصرية.
وأما إيطالية فقد منع رجلها المجدد ووزيرها الأكبر كثيرًا من هذا الإسراف في
الأزياء والرقص والسباحة تجديدًا للدين والأخلاق لتجديد قوة الأمة وعظمتها، وذلك
مما يحمده كل فاضل له ولها.
العبرة في تجديد أوربة وتجديد ملاحدتنا:
وأما ملاحدة بلادنا ودعاة الكفر والإباحة فيها، فالتجديد الذي يدعون إليه هو
هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها، ويجمع كلمتها، ويهذب أخلاقها، من روابط
الدين والمحافظة على العرض، ويسمون الكفر والفجور وإباحة الأعراض تجديدًا
طريفًا، ومدنية وتقدمًا وترقيًا، ويسمون ما يقابل ذلك من التقوى والعفة والصيانة
قديمًا باليًا، وقد استشرى عيثهم وفسادهم، وعظم خطرهم بكثرة الجرائد والمجلات
التي ينفثون فيها سمومهم، على صغر شأنهم، وسوء سيرتهم الشافّ عن خبث
سريرتهم، فإنه لا مزية لأحد منهم في علم نافع، ولا عمل صالح، وإنما هي خلابة
الألفاظ التي وافقوا فيها أهواء كبار الفساق وصغار الأحداث، وإن أهل الرأي
والبصيرة عندنا يجزمون بأن جُل زعزعة العقائد وفساد الأعراض وإباحة النساء،
يناط بفساد أكثر الجرائد والمجلات، فيا حسرتا على جريدتي المؤيد واللواء،
ويا حسرتا على شعب يُعَدُّ من أرقى شعوب الشرق ثروة وحضارة وعلمًا ووطنية،
تعجز الأكثرية الساحقة فيه عن إيجاد جريدة يومية، تدافع عن عقائده وشريعته وآدابه
الملية، على حين نرى لكل الأقليات الملية المتعددة فيه جرائد متعددة تقوم بهذه
الوظيفة حق القيام! وهذه الأقليات بجملتها لا تبلغ عُشْر هذه الأكثرية الساحقة لها،
وإنما تفوقها في ثروتها النسبية وجامعتها.
خطر إباحة النساء أو تحريرهن:
إن مسألة فوضى النساء التي يعبر عن دعايتها بتحرير المرأة، وتفضيل
تهتكها - المعبَّر عنه بالسفور - على صيانتها وعفتها المعبر عنهما بالحجاب، قد
هبطت بالقطر المصري وغيره من شعوب الشرق المتفرنجة إلى مهواة من أشد
المهاوي خطرًا على أعراضها وتكوين بيوتها (عائلاتها) وعلى ثروتها وصحتها،
وإن سمى المفسدون دعاة الإباحة والدياثة هذا الخطر تجديدًا وتمدينًا، فقد صار النساء
من ربات البيوت والأمهات، ومن العذارى المتعلمات، يمشين في الشوارع بالليل
والنهار، مخاصرات للرجال، ويغشين الملاهي والمتنزهات، وهن كاسيات عاريات
، مائلات مميلات، ومنهم من يسبحن في البحر حيث يسبح الرجال أو معهم، وحيث
يراهن المارون بقرب الشواطئ منهم، ومنهن من يختلفن إلى المراقص المشتركة
فيرقصن معهم، وهن أشد من الأجنبيات عريًا وتهتكًا وخلاعة ومجونًا ورقاعة،
ومنهن من يدخلن في خلوات الحلاقين حيث يقصون لهن شعورهن ويحلقون لهن
أقفيتهن، ويزينون لهن نحورهن وصدورهن، وهنالك يلتقين بأخدانهن، ولا تسل عن
حديثهما جهرًا، وتواعدهما سرًّا، دع ذكر تعدد المواخير السرية، على كثرة الجهرية،
ومن المخادنات الشخصية، والجرائد والمجلات الكثيرة تغري بهذا أو تذكر من
وقائعه ما يجرئهن عليه.
وكان أول ما أعقبه هذا الفساد من الخطر قلة الزواج، المهدد للأمة بالوقوف
عن النماء، فالانقراض والفناء.
إن خصوم الإسلام القاعدين له كل مرصد يضحكون سرورًا مما أصابه من
الخزي بأهله، الذين يمهدون لهم السبل لاستعبادهم، والاستعمار لسائر بلادهم،
ويرقبون كل نبأة للإصلاح تخرج من فم أحد حكمائهم، أو حركة للتجديد الحق
يختلج بها بعض أعضائهم، فيبادرون إلى تحذير دولهم منها، وحضهم على تلافي
ما يخشى من تأثيرها، ثم إنهم يطعنون فيمن صدرت عنه لصد المسلمين الغافلين
عنها، كما ترى في مقال (ما يقال عن الإسلام في أوربة) من هذا الجزء نقلاً عن
(جول سيكار) العسكري الفرنسي (والأب لامنس) القس الجزويتي، والدكتور
(سنوك) السياسي الهولندي، من كلامهم في الأستاذ الإمام وصاحب المنار، وما
قاما به من دعوة الإصلاح، ورأيهم في المجلة وتفسيرها، ورسالة التوحيد وتحقيقها،
وتعزية أنفسهم بأن حركة التفرنج العصرية، قد أخذت تنتقص الأصول الدينية،
وبأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان لها المجال
الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم الجامدين، قالوا
(ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم، لقلة
عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) .
بشائر الإصلاح:
وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون بالإسلام والمسلمين،
معتمدين على مساعدة الملاحدة المتفرنجين بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها
على رؤوس المصلحين، وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام،
ونوابغ مريديه الأعلام، وهو الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ
الجامع الأزهر، وقد لقي من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة، بقدر ما كان
يلقى الشيخ محمد عبده نفسه من المناهضة والمعارضة، فصارت ميزانية الأزهر
تبلغ مئات الألوف من الجنيهات، وصار للمتخرجين فيه نصيب من مصالح
الحكومة، فنكس الجامدون على رؤوسهم، وارتكست فتنتهم بين جراثيم شيوخهم،
وانطلقت في المعاهد الدينية ألسنة العلماء المستقلين، وصارت رسالة التوحيد تُدَرَّس
في الأزهر للقسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي
التفسير فيه، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية متغلغلة في أحنائه ومناحيه، بل صارت
مرجعًا للفتاوى الرسمية، وأخذ ببعضها في إصلاح الأحكام الشخصية للمحاكم
الشرعية.
هذا وإن مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، معدود
من هؤلاء المريدين، وكذلك رئيس المجلس الإسلامي الذي أنشئ أخيرًا في بيروت.
وهنالك بشارة أخرى في تحول الأحوال، ونصر حزب الله على أحزاب
الشيطان، من الشيوخ الجامدين، والمتصوفة الخرافيين، والمتفرنجين الملحدين
الفاسقين، وهو تأليف جمعية الشبان المسلمين، وتعدد فروعها في الأقطار العربية
من شرقية وغربية، وفوق ذلك كله يقظة الأمة العربية في جزيرتها، وشروعها في
تنظيم قوتها، واتفاق إماميها في الجنوب والشمال على شد أواخي وحدتها باليمين
والشمال، والأمم إذا عرفت نفسها وتعارفت شعوبها، تعذر على غيرها القضاء
عليها والاستبداد فيها، فلا يستعجلن سيكار الفرنسي وسنوك الهولندي وأمثالهما
بإغراء دولهما بسرعة القضاء على المسلمين، فربما كان هذا الاستعجال قضاء
على سلطان مجترحيه فيهم لا عليهم ولو بعد حين، وربما كانت محاسنتهم،
والتوسعة عليهم في حرية دينهم، ومساعدتهم على تنمية ثروتهم، أقرب إلى طول
العهد على الاستفادة منهم.
وليعلموا أن المنار ليس عدوًّا لدولة من الدول، ولا خصمًا لشعب من الشعوب،
ولا لعلوم الغرب وفنونه المنزهة عن فسقه ومجونه، كما يقول سيكار وأمثاله؛
وإنما هو صديق لأمته ولمن يصدق في ودها، وليسأل إن شاء مسيو (روبير
دوكيه) أشد خصم للمسلمين في سورية وأقوى داعية إلى استعمارها، عما نصحت
به له ودللته عليه في سنة 1920 عن الطريق المعقول لكسب فرنسة مودة المسلمين
عامة والعرب خاصة، وسورية بالأخص بما يُعلي نفوذها الأدبي والاقتصادي في
الشرق كله، وعن قوله لي أن هذا مشروع معقول لا خيالي، وأنه يمكن تنفيذه إذا
وُجد منا ومنكم من يقول به.
ثم ليسأل مسيو (هانوتو) عما كتبته إليه بهذا المعنى في جنيف سنة 1921،
فإذا علم هذا وعقله حكم بأنه يوجد فيمن يعدونهم أعداء لفرنسة من هم خير لها من
بعض ضباطها وقسوس جزويتها، الذين يسخرون نفوذها لمنافعهم دون مصلحتها.
والعاقبة للتقوى، والسلام عن من اتبع الهدى.
هذا وإننا على ما عهد قراء المنار منا وهو ما عاهدناهم عليه منذ سنته الأولى
من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهم أول من يتلقاها
منهم، ويدخل في ذلك الدفاع بيان حقائق التنزيل، وما بيَّنه من سنة الرسول،
ومقاومة البدع والخرافات، وإبطال شبهات الزندقة والإلحاد والتحذير من أخطار
الاستعمار، والدمدمة على ضلالات المبشرين، وفضيحة مخازي المتفرنجين.
وتزييف مغالطات الماديين، وتأييد حرب الإصلاح والمصلحين والإصغاء لانتقاد
المخلصين، ونرجو من أهل الغيرة على الأمة والحرص على إحياء مجد الملة من
إخواننا العلماء، وسائر أفراد القراءة أن يشدوا أزرنا، ويؤدوا لنا حقنا، فقد آن لهم
أن يعتبروا بتعاون الملحدين والمفسدين على باطلهم، وتظاهرهم على من يَرُدّ على
أحد منهم، بل آن لحزب الإصلاح - الوسط بين حزب الجمود والتقليد، وحزب
التفرنج الملقب بالتجديد - أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا شتيتهم، ويتعارف شرقيهم
بغربيهم، وجنوبيهم بشماليهم، فإن يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية، وأرجو أن يكون آخر المنار خيرًا من أوله، وأن يزيده الله توفيقًا
بإحسانه وفضله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
ماذا يقال عن الإسلام في أوربة
ووجوب إطلاع المسلمين عليه
لأمير البيان، ومدرة سلائل عدنان وقحطان
الأمير شكيب أرسلان
(1)
سبق لنا مقالة في المنار عن بعض الكتب التي أُخْرِجَتْ حديثًا في أوربة بشأن
الإسلام والمسلمين، ومن جملتها كتاب لرجل يقال له (جول سيكار) من كبار
تراجمة الجيش الفرنسي في المستعمرات الفرنسية سماه (العالم الإسلامي في
المستملكات الفرنسوية) .
وقد رددنا على شيء مما تضمنه هذا الكتاب، ووعدنا بإكمال البحث ونشر ما
قاله المؤلف المذكور عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، وعن خلفه
الأستاذ الحجة صاحب المنار أمتع الله ببقائه.
قال في الصفحة 73 تحت عنوان (الطور الديني الجديد) ما يأتي:
(إن المسلمين الحاضرين هم من حيث السواد الأعظم على مذهب السنة
والجماعة، إلا أن روح الحرية والنزوع إلى المبادئ العصرية قد ظهر في أكثر من
نقطة واحدة في العالم الإسلامي.
وقد كان مبدأ هذه الحركة في الهند ثم في فارس ومنها سرت إلى مصر وإلى
السلطنة (العثمانية) المنحلة. وسواءً أكان هناك أم هنا يجتهد المسلمون الأحرار
أن يثبتوا الوئام الواقع بين الإسلام والترقي، وبين العقيدة القرآنية والمقتضيات
العصرية، ومن سمع كلامهم خال أنه ليس ثمة إلا سوء فهم أدى إلى التناقض،
وأنه من الخطأ البيِّن الاهتمام ببعض جزئيات ليست لها إلا مكانة ثانوية، وأن يظن
أن بعض الأصول التي أولدها الاحتياج في وقت معين تعد قواعد سرمدية، وأن
يغفل عن سنة التحول التي عليها مدار الاجتماع البشري.
وهؤلاء العصريون Modernists الذين يليق بهم اسم (المعتزلة الجدد)
ينتقدون انتقادًا لا غبار عليه شدة جمود المقلدين وعماية هؤلاء، ويحاولون تخليص
قواعد الإسلام الأساسية وتطبيقها على مقتضيات الحياة والعلم الحديث، وقد امتاز
في هذا المشرب رجلان أحدهما (أمير علي) في الهند، والآخر - وهو الأهم -
الشيخ محمد عبده الطائر الصيت في جميع شمالي أفريقية مؤلف رسالة التوحيد.
فالشيخ محمد عبده (1849-1905) مفتي مصر الأكبر هو أنبغ تلاميذ
المحرك الأفغاني جمال الدين (1897-1939) باعث فكرة الجامعة الإسلامية،
وله طريقة خاصة به في تحقيق مصدر العقيدة وهي طريقة صارمة في ذاتها كما
يقر هو بذلك؛ لأنه لا يسلِّم بصحة شيء من مصادر الدين (إلا ما كان في القرآن
مع عدد قليل من الأحاديث المتعلقة بحياة الرسول) وخلاصة مذهبه وجوب التسامح
بين جميع مذاهب الإسلام المختلفة.
وأما فلسفته الأدبية فمستمدة من المذاهب الحرة لا سيما مذهب الغزالي المتكلم
الكبير المتوفى سنة 1277 (مسيحية) الذي له أكثر اليد في التسامح بين مذاهب
الإسلام المختلفة، وهذه الفلسفة مشتقة من الاعتزال الذي هو وليد المحاكمة العقلية
في علم الكلام الإسلامي، والذي يقول بالاختيار المطلق، لكنه مذهب اضمحل أخيرًا
على إثر المصارعة الهائلة التي وقعت بين حزب المفكرين وبين الجماعة المتشددة
التي كان لها الغلبة في نهاية الأمر.
(والشيخ محمد عبده كان أبصر الخطر الذي أحدق بعقيدة المسلمين من جراء
زحف العلوم الغربية (نقل المؤلف هذه العبارة بنصها من الأب لامنيس المستشرق
اليسوعي) فنشط إلى إجراء تمييز ينقذ به مذهب السنة والجماعة وشرع بإلقاء
دروس في الأزهر استجلبت الأنظار أولاً إلا أنه توقف عنها على إثر مقاومة العلماء
الجامدين، فعند ذلك أسس بمساعدة تلميذه المقدم السوري السيد محمد رشيد رضا
طريقة إصلاحية لسان حالها مجلة شهرية اسمها (المنار) ومنزع هذه الطريقة في
الدين هو تجديد المذهب الوهابي الذي لا يزال رشيد رضا يؤيده بمعارفه بالسنة،
وأما في السياسة فهي مبنية على الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، وبالحريّ:
على عداوة الأجانب، ولك أن تقول: على مقاومة الغرب.
وهي تميل إلى فكرة العصريين بتعديل الشريعة الإسلامية على ما يوافق
ضرورات الوقت؛ ولكنها تنشد أعتادها في مسلحة الوهابيين، وتستمد من مذهبهم
حججها على (المتفرنسين) فمن الوهابيين تأخذ مقاومة الخرافات الحشوية والتدمير
على المعتقدين بتأثير الأولياء، وعلى الطرق الصوفية، والمنار تطبع وتعيد طبع
تآليف ابن تيمية التي كانت منسية والتي هي أشد الكتب تهييجًا، هذا ورشيد رضا
هو سيد، أي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو نفسه يعلن كونه عربيًّا قرشيًّا.
والمنار في استمساكه بالجامعة العربية مقيم على إيجاب إعادة الخلافة، كما
أنه في مخالفته للمنازع القومية التي تخالف برنامجه الإسلامي العربي يشير بتوحيد
مذاهب الفقه الأربعة في مذهب واحد، وضم شتات الفرق الإسلامية إلى جماعة
كبرى يمكنها أن تقاوم أوربة، وأن تقاتل ثقافتها المتقدمة.
وهو يعترف بانحطاط الإسلام؛ لكنه يزعم معالجة دائه بالرجوع إلى عقيدته
الأصلية على أن يفهمها الناس حق الفهم مستمدة من الكتاب والسنة، ويقول: لماذا
نلجأ إلى علم الغرب الموجب للشبهات؟ فكل شيء هو في القرآن، والمنار ينشر
تفسيرًا لا بأس به، فيقول - مثلاً - عندما يشير كتاب الله إلى الصاعقة: يلزم أن
نفهم منها الكهربائية، كذلك المنار يشير بالاهتداء بأشعة (رونتجن) لتقوم مقام
(العِدة) وهي مدة الثلاثة الأشهر التي يأمر بها القرآن أن تكون فاصلة بين طلاق
المرأة وزواجها من غير زوجها الأول (هذا غير صحيح) ولما كانت العلوم العصرية
لا تستغني عن التصوير اللازم في التعليم وفي إدارة الجيش وفي إدارة الأمن العام،
فالمنار يستنتج جواز ذلك للمسلمين، وهو يوجب على الطرق الصوفية الاشتغال
بالمصالح العامة من مؤاساة وتعليم
…
إلخ.
وبهذه الأفكار الجريئة الشاذة (تأمل أيها القارئ) تزعم مجلة القاهرة (أي
المنار) متابعة طريقة المصلح الذي هو الشيخ محمد عبده، وصرف النظر عن
تعصبها الوهابي وشنآنها للأجانب، فهذا هو التجديد بالمقلوب (تأمل أيضًا) .
فالإسلام إذًا هو على ملتقى الطرق، ونراه غير شاعر كثيرًا بأنه أصبح
مضطرًّا أن يطرح من وسقه لينجو.
فأما ما كان من أمر الخلافة فالذي ألحظه أن التضحية بها تمت بدون ضوضاء،
ومثل ذلك تم العدول عما كان الهنود المسلمون يطالبون به من الأمور المتعلقة بهذه
الفكرة الجبروتية.
بقيت الأحوال الشخصية (تعدد الزوجات والميراث والعقود) فهذه هي التي
تمنع المسلمين في البلدان غير الإسلامية من الاستفادة من المساواة التامة المفروضة
عليهم، فكتاب الشيخ المصري علي عبد الرازق يشير عليهم بأن يتقدموا براحة
وجدان إلى قبول تشريع جديد بناء على كون النبي لم يلحظ جميع الأمكنة ولا جميع
الأزمنة، وهذا هو رأي كثير من مفكري الإسلام، فهل يتغلب رأي هذه الطبقة
المفكرة فيجر معه جماهير الإسلام، أم يبقى دون بلوغ الغاية؟ الجواب أن أوربة
تخطئ بعدم مراقبة سير هذه الحركة عن كثب، وقد تجد أوربة في هذا الرأي ما
يساعدها على سياسة إسلامية ذات فائدة حقيقية، ولو لم يكن منها سوى الاستغناء
عن سن قوانين مأخوذة من شريعة الإسلام لكفى، وهي المسألة التي تورطت فيها
فرنسة في أفريقية، ونشبت منها منشب سوء) انتهى ما نقله سيكار عن المستشرق
اليسوعي لامنيس.
ولنذكر هنا رأي المستشرق الشهير سنوك هور كرونجه الهولندي [1] الذي قال
في هذه المسألة قوله الفصل.
(إن الشريعة الإسلامية سواء من جهة النص أو من جهة الروح تعتمد على
القهر والإكراه في نشر العقيدة (تأمل أيها القارئ) لأن هذا الدين يُعِدُّ كل الناس
غير المؤمنين أعداء لله، ويوجد اليوم عصابة صغيرة من المسلمين تحاول تطبيق
الإسلام على الأفكار العصرية؛ لكن هؤلاء النفر تمثيلهم للدين الذي ولدوا فيه لا
يزيد على تمثيل (المجددين) Modernists للدين الكاثولوليكي، والحقيقة أنه لا
يوجد فرق في هذا الموضوع بين فقهاء المذاهب المختلفة) .
***
ماهية إصلاحيات الشيخ محمد عبده
يقول أحد مادحيه: إن المزية التي اشتهر بها الأستاذ هو الدقة النادرة التي يميز
بها بين ما هو في الديانة جوهري وما هو عرضي أو طارئ على الدين، وهو في
أشد اقتراحاته جرأة لم يتعرض بشيء للقسم الجوهري من العقيدة، ولا ترك نفسه
يهاجم أركان الدين الأساسية نظير كبار مصلحي القرن التاسع عشر كميرزا علي
محمد الباب المولود في فارس سنة 1821 مؤسس البابية، وبهاء الله مؤسس
البهائية في تركيا الذي صلبته الحكومة الفارسية سنة 1850 (هذا خلط عظيم،
فالذي صلبته الحكومية الفارسية هو الباب لا بهاء الله، وهذا قد توفي حتف أنفه في
عكا منذ نحو أربعين سنة) أو ميرزا غلام أحمد في الهند. بل الشيخ محمد عبده
بقي دائمًا ضمن حظيرة الإسلام بل ضمن مذهب السنة والجماعة [2] ؛ وإنما كان
عمله الوعظ والحث على التسامح الديني، والدفاع عن حقوق العقل، وإحياء
فضائل الدين، وتطبيق الإسلام على العلم الحديث.
ومما لا جدال فيه أن الشيخ محمد عبده قد دافع عن الإسلام دفاعًا شديدًا ذاهبًا
إلى حد ترجيحه على النصرانية، فهو ينتقد ما في النصرانية من الحث على الغلو
في حب القريب، وإماتة الحواس والزهد في الدنيا، غافلة عن طبيعة الإنسان
والغرائز التي هو مفطور عليها.
وهو يقول: (إنه لما جاء الإسلام خاطب العقل والإدراك، وأشركهما في
العواطف والحواس آخذًا بيد الإنسان إلى سعادة الدنيا والأخرى) .
ولكن الشجرة تعرف بثمارها، وهذه الجملة تكفي في هذا المختصر على الأقل
لتفنيد انتقادات الشيخ محمد عبده، فهل مآثر الإسلام تتحمل القياس مع مآثر
النصرانية، لا شك أن التاريخ الذي لا ضلع له يجاوب جوابًا فصيحًا على هذه
المسألة، وإن أراد القراء المسلمون الأدلة والوثائق فما عليهم إلا أن يختاروا، فإن
الكتب الحديثة المنوهة بمآثر النصرانية جديرة بالاعتبار.
(وذكر المؤلف سيكار في الحاشية اسم كتاب في تاريخ الأديان، وكتاب آخر
في بيان فضائل الدين الكاثوليكي؛ ولكن الجواب عن هذه القضية وهي أن الشجرة
تعرف بثمارها والتي معناها عزو تقدم أوربة إلى النصرانية، وعزو تأخر المسلمين
إلى الإسلام هذا الجواب سهل علينا وسنذكره بعد الانتهاء من ترجمة هذا الفصل،
وهما قد رأيا فيه حجج الأستاذ الإمام) .
ولم يغب عن الشيخ أن حالة المسلمين الحاضرة هي بعيدة جدًّا عن الصورة
التي يعطيها هو عن الإسلام، وفي الفصل الذي عنوانه (إيراد سهل لا يراد) تجد
منه أمرّ انتقاد لهذه الحالة إلا أنه يعزو هذا الانحطاط إلى انحراف المسلمين عن
جادة دينهم ويقول: إنهم طيلة ما كانوا سائرين بمقتضاه كما يجب كانت جيوشهم لا
تعرف إلا الغلبة والظفر، وكان سلطانهم فائقًا في اللمعان كل ما تَقَدَّمه من المدنيات،
وكان مفكروهم في مقدمة الحركة الفكرية التي كانت في عصرهم.
***
صدى الحركة العصرية في شمالي أفريقية
إن الحركة العصرية قد أخذت تنتقص المبادئ الدينية؛ ولكن انتقاصًا محدودًا
وبمقدار مختلف بين تونس والجزائر ومراكش، فأفكار الشيخ عبده تغلغلت في
عقول المفكرين ووجدت مجالاً واسعًا لدى الشبان على حين نرى أرباب العمائم
منكرين لها أشد الإنكار، ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن
يجهروا بأفكارهم نظرًا لقلة عددهم ولشدة مقاومة الجامدين لهم (لكن نفوذهم هو
الغالب حتى غلب على الأزهر ولله الحمد) .
وهؤلاء الجامدون [3] بعداوتهم لكل ما ليس به نص صريح في القرآن ينقمون
أشد النقمة على أتباع الطرق الصوفية تقديس الأولياء والطواف حول قبورهم،
وكل مقصدهم هو تطهير الدين من جميع الخرافات، ومن جميع الشعائر التي
يعدونها نصف وثنية، والتي قد شوهت عقيدة الإسلام الأصلية، وهي التي نجاحها
قد كان بسبب شدة تنزيهها الباري تعالى عن مشابهة مخلوقاته، فالشيخ محمد عبده
يقول: إنه إذا كان لا يجوز لمسلم أن يتشكك في النبوءة والمعجزات التي ثبت
وقوعها على يد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حر أن يعتقد أو أن لا يعتقد كرامات
الأولياء.
ثم إنه يضاف إلى ما تقدم من الملاحظات كون مسلمي شمالي أفريقية لا
يبرحون أمناء للإسلام، وإن كان بعض الفتور قد بدأ يظهر في عقيدتهم نفسها،
وهذا الفتور إن هو لم يخالط العقيدة فقد ظهر في الشعائر، مثل ذلك صوم رمضان
الذي كان يتمسك به أقلهم تحمسًا بالدين قد مالت اليوم حباله إلى الارتخاء.
ثم إن سيكار صاحب الكتاب عقد فصلاً نحو صفحتين لخص فيه كتاب الشيخ
علي عبد الرازق في أصول الحكم والخلافة، ولما كان هذا الكتاب معروفًا عند
القراء لم نجد حاجة إلى ترجمة كلامه. ثم انتقل إلى موضع آخر أهم من كل ما
تقدم وهو تنصير المسلمين، وهل هو مستحب أم لا؟ وهل هو ممكن أم لا؟ وقد
كانت النتيجة التي وصل إليها بعد مباحث أخذت 15 صفحة أن تنصير المسلمين
مستحب، وفيه من الفوائد الدينية والسياسية ما لا يخفى، كما أنه ممكن أيضًا خلافًا
لما يذهب إليه بعضهم من استحالته، وإن كان في حد نفسه أصعب من تنصير
الوثني، وفي كلامه لوم ظاهر للحكومة الفرنسوية التي لم توجه إلى هذا الأمر
الجلل العناية الكافية بزعمه.
هذا ما ذكره هذا الضابط الفرنساوي المسمى جول سيكار المترجم الكبير في
الجيش الفرنسي في أفريقية الذي ليس بقس ولا راهب، بل هو من مأموري حكومة
تعلن أنها لا دينية أو (لاييكية)
…
فتأمل.
وسنرسل الفصل المتعلق بتنصير المسلمين إلى المنار لأجل البحث فيما
تضمنه لأنه يحتوي مباحث كلامية، أو على رأيهم لاهوتية، صاحب المنار أولى
بالحكم فيها، أما أنا فإني أعلق على الفصل الذي ترجمته الملاحظات الآتية:
أولاً: ليس لسيكار، وبخاصة ليس للراهب لامنس اليسوعي أن يتكلم عن
قضية جمود الإسلام، ولا عن مخالفة نصوص كتابه للعلم الحديث، فليس في
القرآن ولا في الشريعة ما يخالف العلم الحديث، بل القرآن ملآن بالحث على العلم
مطلقًا لا يختص به نوعًا من الأنواع، وليس في الدنيا كتاب دعا إلى النظر والسير
وتدبر أسرار الكون ما دعا إليه القرآن، فهل يقدر أن يقول لامنس اليسوعي
والضابط سيكار شيئًا من ذلك عن الكتب المقدسة عندهما؟ وهي التي ألَّف علماء
من المسيحيين مؤلفات ذات أجلاد ضخمة على تناقض نصوصها وقواعدها مع
قواعد العلم الطبيعي الحديث؟ أيريان القذى في أعين غيرهما ولا يريان الخشبة
التي في أعينهما؟ أيتكلمان في الجمود وينسيان كل ما أورده المسيحيون من تاريخ
الكنيسة في محاربة العلم؟ لم نكن نود التعرض إلى هذا الموضوع لو لم يحرجانا
فيخرجانا إليه لأن الذي يقرع الباب يسمع الجواب.
ثانيًا: قضية أن (الشجرة تُعرف من ثمارها) لا تنطبق على ما نحن فيه،
فنحن لا يخطر لنا على بال أن ننكر ما في الإنجيل الشريف من مبادئ سامية وفضائل
بمثلها يرتفع قدر الإنسانية، وأن المسلمين يجب عليهم دينًا أن يقدسوا الإنجيل المنزَّل
ومبادئه الثابتة، ويؤمنوا بصاحبه صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بمحمد وإبراهيم
وموسى ونوح صلوات الله عليهم جميعًا، ولكن نسبة تقدم أوربة وتفوقها على غيرها
في الأعصر الأخيرة إلى ثمرات الدين المسيحي ونسبة انحطاط العالم الإسلامي
الحاضر إلى ثمرات التعليم الإسلامي كلاهما محض خطأ، فلو كان ذلك كذلك للزم أن
تتقدم أوربة وتترقى منذ دانت بالنصرانية، والحال أنه كان مضى عليها ألف
وخمسمائة سنة - مدة نظنها كافية للتأثر والتأثير - وهي دائنة بالدين المسيحي،
وكانت لا تزال متأخرة متقهقرة، لا بل قسم منها كان يعد متوحشًا فأين كانت ثمار تلك
الشجرة طيلة ألف وخمسمائة سنة؟ ومن الغريب أن أوربة لم تبدأ بالترقي - وهو
رقي لا يعدو في الحقيقة المادة والصناعة - إلا بعد أن تراخت فيها حبال العقيدة
المسيحية بخلاف الإسلام الذي كان راقيًا فائزًا يوم كان أهله شديدي الاعتصام به،
وأصبح متقهقرًا ضعيفًا عندما قعد أهله عن القيام بعزائمه، ثم إن المدنية اليونانية قبل
النصرانية كانت أعلى جدًّا من المدنية اليونانية بعد أن تنصر اليونان، فهل يريد
سيكار ولامنس أن ينسبا ذلك إلى تأثير الديانة؟ إذًا تكون الميتولوجيا اليونانية أعلى
من النصرانية! وهذا غير معقول، وأن مدنية رومة كانت لعهد وثنيتها أرقى جدًّا من
مدنيتها بعد أن تنصرت، لا بل كان دخول رومة في النصرانية موافقًا عهد بداية
انحطاطها، أفنقول كما قال بعض مفكري أوربة، ومنهم أتاتول فرانس: إن ظهور
النصرانية كان وَقفًا لسير المدنية في العالم، وأن بوار الدولة الرومانية كان من آثار
ديانتها الجديدة؟ نحن لا نعتقد ذلك، بل نذهب إلى أن لانقراض الدولة الرومانية
عوامل أخرى، كما أن انحطاط المدنية الأوربية في القرون الوسطى لم يكن المسئول
عنه الإنجيل، وكما أن انحطاط الإسلام الحالي ليس بالمسئول عنه القرآن، بل هناك
عوامل كثيرة، وأن نسبة درجة رقي الأمم إلى تأثير الديانة تفضي بنا إلى القول بأن
ترقي اليابان الحالي هو من ثمرات مذهب شينتو، هذا ما عدا المدنيات القديمة كمدنية
الصين والهند والمدنيات البائدة نظير مدنية بابل ونينوي والنبط والفينيقيين، وكل
هؤلاء كانوا وثنيين، فهل نجعل الوثنية مصدر هذه الثمرات؟ إذًا لم يبق فضل
للنصرانية على الوثنية.
إذًا البرهان على انحطاط الإسلام من جهة انحطاط المسلمين اليوم هو برهان
ساقط بأدنى تأمل، وليس الإسلام بمسئول في القرون الأخيرة عن انحطاط
المسلمين أكثر مما كانت النصرانية مسئولة عن سقوط رومة وانحطاط الأوروبيين
في القرون الوسطى، ولو عمل المسيحيون حق العمل بمقتضى مبادئ الإنجيل،
ولو عمل المسلمون حق العمل بأوامر القرآن ونواهيه لأفلحت كل من الأمتين في
الدنيا والعقبى، ونالتا سعادتي المادة والمعنى.
(ثالثًا) : الكلام المنسوب إلى (سنوك هور كرونجه) المستشرق الهولندي،
مستغرب من جهة الزعم بأن الإسلام يعتمد في نشر عقيدته على الإكراه، وذلك أن
قاعدة الإسلام النظرية والتي جرى العمل بها من صدر الإسلام هي {لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) نعم قاتل النبي صلى الله عليه
وسلم لأول الأمر المشركين لأنه نهاهم عن الشرك بالله، وعن عبادة الأصنام فلم
ينتهوا منها، وكان دعاهم إلى ذلك بالحسنى والقول اللين فلم يستمعوا له، بل ثاروا
به وقاتلوه فاضطر أخيرًا أن يقاتلهم بالسيف دفاعًا، وأن يحطم أصنامهم بالسيف
حتى يكون الدين كله لله، ومن المصائب أن بعض الناس يقرءون القرآن فتمر بهم
آيات لا يفهمون معناها أو يؤولونها بغير معناها الحقيقي إما عن ضعف ملكتهم
بالعربية - وهي ملكة لابد منها لمن أراد أن يفهم القرآن العزيز - أو لعدم اطلاعهم
على أسباب النزول والوقائع التي من أجلها وقع الوحي، وهذه المعرفة ضرورية
لمن أراد أن يفهم كتاب الله حق الفهم، فينشأ من جهل هؤلاء بهذين الأمرين خلط
كثير رأيناه في أكثر التآليف التي صنفها غير المسلمين في أمر القرآن.
أما المستشرق الهولندي سنوك هور كرونجه فهو من أعرف الأوربيين بالكلام
العربي والشرع الإسلامي، فإذا كان صدر كلام كهذا عنه فهو عن تجاهل لا عن
جهل، وعن تمام عن الحقيقة لا عن عماية، فسنوك هور كرونجه يريد قبل كل
شيء أن يخدم سياسة هولاندة التي من مقتضاها لأجل استتباب سلطتها على الجاوي
وسومطرة توهين العقيدة الإسلامية واستئصالها، مذهب الحيلة لا مذهب بالبطش،
فيقول: إن من الخطل العظيم أن تسن الدول الاستعمارية للمسلمين الذين استولت
على بلادهم قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية بمعنى أن هذه الشريعة فيها من
المرونة ما تسع معه احتياجات هذا العصر، بل يجب على الدول الاستعمارية أن
تعدل عن هذه الخطة، وتجتهد في إقناع المسلمين بأن شريعتهم أصبحت ثوبًا باليًا لا
يقيهم حرًّا ولا بردًا، فإن أرادوا أن يعيشوا كسائر الأمم المتمدنة لم يكن لهم مندوحة
عن طرح الإسلام تدريجًا؛ وبذلك تكون دول أوربة الغالبة اليوم على الإسلام اتقت
خطر انتفاض المسلمين عليها، وأمنت مستقبل سلطتها عليهم.
وفي كلامه هذا الذي لخصناه في حواشي (حاضر العالم الإسلامي) شيئان
جديران بالتقييد (أحدهما) أن سن قوانين عصرية مستمدة من الشريعة الإسلامية
غير موافق لا من جهة عدم مرونة هذه الشريعة، أو عدم اتساعها لذلك، بل من
جهة أنه لا ينبغي أن تسن لإدارة أمور المسلمين أنظمة عصرية يوقنون بها
أن شريعتهم قد تتلاءم مع العصر الحالي، فيزدادون بها تمسكًا وعليها عضًّا بالنواجذ،
والحال أنه يجدر بالدول المستعمرة أن تبذل كل جهدها في إقناع المسلمين بأن
شريعتهم أصبحت لا تصلح أصلاً لهذا الزمان، فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما
أن يموتوا، وإما أن ينبذوا شريعتهم، فالمسألة إذًا ليست حقيقة علمية، بل حيلة
سياسية.
(والأمر الثاني) هو في كلام هذا الرجل الاعتراف بأن الخطر الوحيد الذي
يتهدد الاستيلاء الأوروبي ليس روح القومية، بل روح الإسلام، فإذا ذهبت روح
الإسلام من الأمم المسلمة هان عليها خنوعها للأجانب، ولم يتكاءدها فقد استقلالها.
وبعبارة أخرى: إن رابطة الاستقلال في العالم الإسلامي متوقفة على حياة
الدين الإسلامي، فإن ذهب الاستقلال وأمن المستعمرون شر الانتقاض في المستقبل،
فهذا الاعتراف من مستشرق عظيم نظير سنوك هور كرونجه ثمين جدًّا، يزيد قيمته
اعتبارًا أنه لسان حال دولة أوربية مستضعفة لـ 45 مليونًا من المسلمين.
بقي نقطة ثالثة في كلام هذا المستشرق الهولاندي وهي قوله (أن بعض
المجددين الذين عندهم أفكار عصرية من المسلمين لا يمثلون الدين الإسلامي أكثر
مما تمثل فرقة العصريين Modernists في النصرانية الكنيسةَ الكاثوليكية) .
يريد أن يقول: إن التعاليم الكاثوليكية مخالفة للمبادئ العصرية، وإن الذين
يحاولون هذا الأمر من الكاثوليك يحاولون المحال تقريبًا.
فليس إذًا لسيكار ولا للامنس أن يتكلما في عدم انطباق الدين الإسلامي على
العلم الحديث وعلى الأوضاع العصرية، ويكونان قد احتجا بكلام رجل شهادته
جاءت على الكاثوليكية كما جاءت على الإسلام أو أشد، ولهذا قلنا إنه ليس لهذين
وأمثالهما أن ينعتا الإسلام بالجمود وحب التقليد، ونضيف إلى ذلك أنه ليس لسنوك
هوركرونجه أيضًا، ولا للهولنديين ولا للبروتستانت أن ينبزوا المسلمين بالجمود،
فإن البروتستانت المفتخرين على الكاثوليك بالأخذ بالمبادئ العصرية وبالعمل بالعلم
الحديث، لا يفترقون عن الكاثوليك في شيء من جهة أساس العقيدة المسيحية، وأن
أكثر ما بين الفريقين من الخلاف إنما هو في عقائد ثانوية، ولسنا الآن في حاجة
إلى تفصيل هذه الأمور، إذًا هذه الفرقة مثل تلك الفرقة من جهة الجمود على القديم
وحب التقليد؛ ولكنهم أولعوا بنقد الإسلام والمسلمين ونسوا أنفسهم.
وفي هذا الفصل الذي ترجمناه مظان أخرى تركنا الملاحظة عليها لفهم القارئ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شكيب أرسلان
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: هو الذي كان ادعى الإسلام، وجاور في مكة المكرمة يطلب العلم في الحرم الشريف عدة سنين لاختبار بواطن المسلمين لتكون دولته على بصيرة في معاملة عشرات الملايين منهم، وهو ممن يفترون الكذب على الإسلام وهم يعلمون.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
(2)
هذا هو الذي أسخط المستشرقين الهولندي والفرنسي على إصلاح الأستاذ الإمام، وكانا يودان كأمثالهما خروجه عن الإسلام كالباب والبهاء أو عن بعض أصوله كالقادياني.
(3)
كذا، وهو مخالف للإصلاح فإن المصلحين هم الذين ينقمون من أهل الطرق خرافاتهم الوثنية، وأما الجامدون فيتأولون لهم بل يوافقونهم على أكثرها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
(4)
نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية
أول شيء نقله الرافضي العاملي في طعن العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية
كلمة للفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهي دعوى التجسيم.
فنقول في الكلام عليها (أولاً) هل يعد الرافضي العاملي كلام ابن حجر هذا
في الدين ورجاله حكمًا صحيحًا مع علمه بما قاله في كتابه الصواعق، وفي كتابه
مناقب معاوية في بدع الشيعة وتضليلهم
…
إلخ، أم يقبل قوله في ابن تيمية وحده
دون معاوية ودون الشيعة كلهم كما هي عادة أمثاله من المتعصبين الذين لا يقبلون
إلا ما يوافق أهواءهم؟
نحن لا ننكر أن ابن حجر الهيتمي طعن في ابن تيمية، وما هو من طبقته في
علم من العلوم: لا علوم الحديث ولا التفسير ولا الأصول والكلام ولا الفقه أيضًا،
فابن حجر هذا فقيه شافعي مقلد لمذهب الشافعي غاية شأوه بيان ما قاله مَن قَبله في
المذهب، وبيان الراجح من المرجوح والصحيح وغيره، وأما ابن تيمية فمن أكبر
حفاظ السنة، ومع كون طبقته في فقه الحنابلة أعلى من طبقة ابن حجر في فقه
الشافعية فهو حافظ لفقه الأئمة، ومن أهل الترجيح بينها، بل هو مجتهد مطلق كما
اعترف له أهل الإنصاف من علماء عصره ومن بعدهم، وإن أنكر عليه بعضهم
بعض المسائل المخالفة لمذاهبهم، وما من إمام مجتهد إلا وقد أنكر عليه المخالفون
بعض أقواله وهم خير ممن يقلدونه ويعدونه كالمعصومين في عدم مخالفته في شيء
مما ثبت عنه.
ومع هذا نعتقد أن ابن حجر الهيتمي هذا لم يطلع على كتبه؛ وإنما قال فيه ما
قال اعتمادًا على ما أشاع عنه خصومه من المبتدعة ومتأولة الأشاعرة ومغروري
المتصوفة، فمن أعظم سيئاته عند هؤلاء رده على الشيخ محيي الدين بن عربي
وبيانه لضلالة وحدة الوجود المشهورة عنه وعن أمثاله.
وأما قوله بإظهاره للعامة على المنابر دعوى الجهة والتجسيم فهو مقلد فيه
لأولئك الخصوم في تسميتهم إثبات العلو لله تعالى جهة مستلزمة للتحيز والتشبيه -
للتنفير والتشهير بشناعة الألفاظ كتسميتهم لإثبات الاستواء على العرش والنزول إلى
سماء الدنيا ونحوهما تجسيمًا أي بطريقة اللزوم، فإن كان يلزم من إثبات نصوص
الكتاب والسنة ما ذكروا كما زعموا فهل يترك المسلمون نصوص الكتاب والسنة
لأجل نظرياتهم في هذه اللوازم؟ ثم هل يقولون بضلال سلف الأمة وحصر الهداية
بالمبتدعة المتأولين، مع العلم بأن مذهب السلف ونصيرهم ابن تيمية نفى هذه
اللوازم كلها؟ .
وهذا عين ما ناظره فيه العلماء الذين شكوا أمره إلى سلطان مصر، قالوا: إنه
يذكر للعوام آيات الصفات وأحاديثها من غير تأويل، وطلبوا منه هو عدم التصريح
بذلك للعوام فأبى عليهم ذلك؛ لأنه كتمان لما أنزله الله، والله تعالى يقول في كتابه
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ
أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) وأي طعن في الدين وجناية
عليه أعظم من القول بوجوب كتمان صفات الله المنزلة في كتابه بناء على أن
المبتدعة ومغروري المتكلمين قالوا بوجوب تأويلها.
وقد قال الرافضي العاملي بعد نقل ما ذكر عن ابن حجر الهيتمي: وقال ابن
حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حُكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم
من نسبه إلى التجسيم
…
إلخ.
ونقول في هذه الكلمة: (أولاً) إن ابن حجر صاحب الدرر الكامنة ليس ابن
حجر الهيتمي المكي كما يدل عليه قوله: (أيضًا) بل هو الحافظ ابن حجر
العسقلاني وكتابه (الدرر الكامنة) تاريخ له في أعيان المائة الثامنة، وهو مشهور
وإن جهله الرافضي العاملي المدعي، فما أجهل هذا الرافضي برجال أهل السنة
وكتبهم! .
(وثانيًا) إن الحافظ ذكر في تاريخه هذا ما تقوَّله الناس على ابن تيمية،
وما طعنوا به عليه كما يذكر هو وغيره من المؤرخين مثل ذلك في غيره من الأئمة
حتى المعصومين عند الشيعة؛ ولكنه هو يثني عليه أجلَّ الثناء، وقد رأيت كلامه
في الانتصار لمذهب الحنابلة، وهو مذهب السلف في الصفات الإلهية، ومنها صفة
العلو، وكذا في مسألة الحرف والصوت في شرحه للبخاري الذي نقلناه آنفًا؛ ولكن
الرافضي يعمى عن رؤية ذلك، ويوهم قراء كتابه أن الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام
وأستاذ أشهر العلماء والحفاظ في عصره يطعن في ابن تيمية ويقول بكفره، لعدم
تأويله للآيات والأحاديث الواردة في صفات الرب تعالى، كما أوهم مثل ذلك في
الحافظ الذهبي إذ قال بعد ما تقدم نقله عنه في ص 132 من كتابه ما نصه:
(ورَدَّ أقاويله وبيَّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر
الكامنة، والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين) .
(وثالثًا) ننقل من ترجمة الحافظ ابن حجر لابن تيمية، ومن ترجمة الحافظ
الذهبي فيها ما يُعرف به الحق من الباطل في مزاعم هذا الرافضي الكذاب فنقول:
ترجمة
شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره
للحافظ ابن حجر في تاريخه الدرر الكامنة [1]
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية
الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين بن مجد الدين.
وُلد سنة إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة سبع وستين
وستمائة، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأريلي والمسلم بن علان وابن أبي
عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود، وحصل الأجزاء،
ونظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتميز، وتقدم، وصنَّف، ودرس،
وأفتى وَفَاقَ الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع
في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.
وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين
وستمائة: قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع
من الكلام، ثم حضر القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال
الدين: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئًا عزّرناه.
ثم ذكر ما وقع له من الاضطهاد والحبس والإطلاق بتواريخه مفصلاً، فعلم منه
أن سببه سعاية بعض الجامدين على التقاليد الأشعرية والفقهية والمتصوفة إلى
السلطان في انتصاره لمذهب السلف، وفي إنكاره على الصوفية ولا سيما ابن عربي،
وفي مسألة الطلاق الثلاث حتى اتهموه بطلب الخلافة كما سيأتي ذكره وأن جميع
الحنابلة كانوا يضطهدون معه، وكان بعض المنصفين ينتصرون له لما امتازوا به من
الاستقلال في العلم، حتى إن الحكومة أكرهت الحنابلة كلهم على الإقرار بأنهم على
معتقد الإمام الشافعي، وذكر أن ابن تيمية نفسه كتب بخطه أنه على معتقد الشافعي،
وهذا تخلص حسن إن صح فالشافعي كان على مذهب السلف في اعتقاده بلا شك،
وذكر أن ممن انتصر لابن تيمية في دمشق قاضي الحنفية شمس الدين الحريري.
وأنه توفي معتقلاً في القلعة لعشرين ليلة خلت من رجب سنة 728 ثم قال:
قال الصلاح الصفدي: كان كثيرًا ما ينشد:
تمرت النفوس بأوصابها
…
ولم يدر عواها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي
…
أداة إلى غير أحبابها
وأنشد له على لسان الفقراء:
والله ما فقرنا اختيار
…
وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى
…
وأكلنا ما له عيار
يسمع منا إذا اجتمعنا
…
حقيقة كلها فشار
وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره
كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه، وكابن الوكيل وغيرهما، قال: ورثاه محمود
بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين
بن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين
بن فضل الله العمري وزين الدين بن الوردي وجمع جم، وأورد لنفسه فيه مرثية على
قافية الضاد المعجمة.
قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل
الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما
رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها، ولا أشد
استحضارًا للمتون وعزوها منه ! كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة
رشيقة لا يسبقه بها غيره وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير
والتوسع فيه.
وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع
ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذّ النفس؛ ولعل فتاويه في الفنون
تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم (ثم قال)
ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى
التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده.
وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن
عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت،
فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم (قال) ولم أر مثله في
ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا اعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له
في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه
وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وسطة
للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان لحلمه إجماع، فإن
كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بتفوقه، مقرون بندور خطئه وأنه بحر لا
ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ
من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال) وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا،
لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا
كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسألة من التشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل
يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر
على خطئه، وأجران على إصابته.
إلى أن قال: تمرّضَ أيامًا بالقلعة بمرض حاد إلى أن مات ليلة الإثنين،
العشرين من ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يُضرب بكثرة من
حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا.
قال الشهاب بن فضل الله: لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة
سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد، وأغلظ القول
للسلطان والأمراء، ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة طعام، فلم
يقبل من ذلك شيئًا، وأرسل له السلطان بقجة قماش فَردَّها.
(قال) ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل،
ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا
…
داع إلى الله فردٌ ما له وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا
…
خير البرية نور دونه القمر
حَبرٌ تسربل منه دهره حِبرًا
…
بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
…
مقام سيد تميم إذ مضت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست
…
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ
…
هذا الإمام الذي قد كان ينتظر [2]
قال: ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويه،
فناظره أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد ذا ماله، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر.
(قال) وحجَّ ابن المحب سنة 24 فسمع من أبي حيان أناشيد، فقرأ عليه
هذه الأبيات، فقال: قد كشطتها من ديواني ولا أذكره بخير، فسأله عن السبب في
ذلك فقال: ناظرته في شيء من العربية، فذكرت له كلام سيبوبه، فقال: يفشر
سيبويه، قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما
كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما
تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره (البحر) بكل سوء،
وكذلك في مختصره (النهر) ورثاه شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة،
وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى، ورثاه زين الدين بن
الوردي بقصيدة لطيفة طائية.
وقال جمال الدين السرمري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل
زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب يطالعه مرة، فينتقش في ذهنه وينقله في
مصنفاته بلفظه ومعناه.
وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين
والفرائض والحساب وفنون أخر، وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه
متقاربان. قال الطوفي: سمعته يقول: من سألني مستفيدًا حققت له، ومن سألني
متعنتًا ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته. وذكر تصانيفه، وقال في كتابه
إبطال الحيل: هو عظيم النفع، وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع
الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد
أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه، فيأخذ منها ما يشاء، ويذر
منها ما يشاء، ومن ثم نسبت أصحابه إلى الغلو فيه، واقتضى له ذلك العجب بنفسه،
حتي زها على أبناء جنسه، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء
وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء، فبلغ الشيخ
إبراهيم الرقي، فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق علي: أخطأ
في سبعة عشر شيئًا (كذا) ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها
زوجها أطول الأجلين.
وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سب الغزالي فقام
عليه قوم كادوا يقتلونه، ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه
بكلام قوي، فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ.
واتفق أن الشيخ نصرًا المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس
الجاشنكير فيه، فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي [3] لأنه كان يعتقد فيه أنه
مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه،
فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابًا طويلاً نسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة
الإلحاد [4] فعظم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد
مغيرة وقعت منه في قواعده وفتاويه، فذكر أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر
درجتين وقال: كنزولي هذا [5] فنسب إلى التجسيم. ورده على من توسل بالنبي
صلى الله عليه وسلم واستغاث، فأُشخص من دمشق في رمضان سنة 698 فجرى
عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك
يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصرًا قام على الشيخ كريم الدين الأيلى شيخ
خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من
تدريس الشريفية، فيقال إن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يومًا، فلم يخرج حتى
زالت دولة بيبرس، وخمل ذكر نصر، وأطلق ابن تيمية إلى الشام.
وافترق الناس فيه شيعًا [6] فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة
الحموية والواسطية وغيرها، من ذلك قوله في اليد والقدم والساق والوجه: صفات
حقيقية لله، وأنه مستوٍ على العرش بذاته، فقيل: يلزم من ذلك التحيز والانقسام،
فقال: إنا لا نسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز
في ذات الله تعالى.
ومنهم من نسبه إلى الزندقة لقوله: النبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به،
وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس
عليه في ذلك النور البكري، فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض
الحاضرين: يعزر، وقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصًا يقتل،
وإن لم يكن تنقيصًا لم يعزر.
ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله: إنه كان مخذولاً
حيثما توجه، وأنه حاول الخلافة مرارًا ولم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة،
ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وأن عثمان كان يحب المال، ولقوله في أبي بكر
أسلم شيخًا لا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيًّا والصبي لا يصح إسلامه على قول،
وبكلامه في قصة خطبته بنت أبي جهل وما بها من الثناء، وقصة أبي العاص بن
الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه
وسلم: (لا يبغضك إلا منافق) .
ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى؛ فإنه كان يلهج بذكر ابن
تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدًا لطول سجنه، وكان له وقائع شهيرة وكان إذا
حوقق وألزم يقول: لم أرد هذا؛ وإنما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيدًا.
(قال) وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن
بكر السكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمي في إنكار القدر أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكم
…
تحير دلوه بأعظم حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
…
ولم يَرضَه مني فما وجه حيلتي
فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل
أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتًا أولها.
سؤالك يا هذا سؤال تعنت
…
يخاصم رب العرش باري البرية
وكان يقول: أنا ما قرأت في الأقفاص.
وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح العمري في ترجمة ابن تيمية: حدا بي
(يعيش المزي) على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك
من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل
رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه
وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من
درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه
مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويروون من بحر
علمه العذب المنير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه
من أهل بلده داء الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد،
فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه
خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع
طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق ناظر منها
وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة
الأولى من منازعيه، واستغاثت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء
أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألَّبوا الرويبضة [7] للسعي
بهاتين للأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقل وأُوْدِع
السجن ساعة حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشروا لذلك قومًا من
عمار الزوايا وسكان المدارس، ما بين مجامل في المنازعة، ومخاتل في المخادعة،
ومجاهر بالتكفير مبادر بالمقاطعة، ليسوموه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن
صدورهم وما يعلنون، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل وقد دب إليه
عقارب مكره، فردَّ الله كيده في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على
أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم يزل ينتقل طول عمره من محنة إلى
محنة، إلى أن فوَّض أمره إلى بعض القضاة، فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل
بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله تُرجع الأمور،
وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودًا ضاقت
بجنازته الطريق، وأتى لها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقوم
الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.
قال الذهبي مترجمًا في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل
وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين،
وصنَّف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفه نحو
أربعة آلاف كراسة وأكثر.
وقال في موضع آخر: وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن
المذاهب الأربعة فليس له نظير.
وفي موضع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقل أن يذكر مسألة
إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنَّف فيها
واحتج بالكتاب والسنة.
ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض
مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن
يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين.
وقال في موضع آخر: بصير بطريق السلف، واحتج له بأدلة وأمور لم
يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء
المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه
إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات
مصرية وشامية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجَّاه الله تعالى، وكان دائم الابتهال،
كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش، له أوراد وأذكار يديمها يومية وجُمعية.
وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه،
ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبر قدره،
وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه
في كل فن، ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في
نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع والديانة،
ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض في هذا سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه
بذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله الزمان بل من أزمان.
وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في بيت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء
الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين
شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه
أحسن الطريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقرت الأمم كافة
أن هممها عن حصرها قاصرة، متعنا الله تعالى بعلومه الفاخرة، ونفعنا به في الدنيا
والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني، والحبر البحر القطب النوراني، إمام
الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد
علماء الدين، شيخ الإسلام، فخر الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتكلمين، قامع
المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن،
أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على
العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق،
علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون
البديعة، أبو العباس ابن تيمية.
وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدِّث حلب، قال: اجتمعت بالشيخ شهاب
الدين الأذرعي سنة 79 لما أردت الرحلة إلى دمشق، فكتب لي كتبًا إلى الباسوقي
والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك، فحصل لي بذلك
منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية وأثنى عليه وذكر
لي شيئًا من كراماته، وذكر أنه حضر جنازته، وأن الناس خرجوا من الجامع من
كل باب، وخرجت من باب البريد، فوقعت سرموذتي فلم أستطع أن أستعيدها،
وصرت أمشي على صدور الناس، ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموذة، وذلك
من بركة الشيخ رحمة الله تعالى انتهى.
(يقول أبو محمد شفيع صاحب المنار) هذا ما قال الحافظان الذهبي وابن
حجر وما نقلاه من ثناء الحفاظ والمؤرخين المنصفين في شيخ الإسلام أحمد تقي
الدين بن تيمية، وما نقلاه من تقولات حُساده وخصومه من المشايخ المقلدين
الجامدين، وما حققه بعضهم من أسبابها، ومنه يعلم كنه كذب السيد محسن العاملي
الرافضي وتعصبه وجهله؛ فإنه أوهم قراء كتابه الملفق أن الحافظين الذهبي وابن
حجر كانا يطعنان في عقيدته، وأنه لم يوجد في المسلمين من زكاه إلا تلاميذه، ثم
الشيخ محمد عبد الوهاب ثم صاحب المنار، وحسبنا هذا في بيان كذبه وافترائه
عليه وعلى العلماء وعلى الوهابية عن عمد وعلى جهل، وما زال غلاة الشيعة
أكذب الفرق وأبعدها عن طلب الحق في خلافها لغيرها كما قال أحد علماء الألمان
المستشرقين.
وأما طعنه علينا فإننا نفوض إلى الله تعالى أمر جزائه عليه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج: 38) .
(تمت الرسالة الأولى)
_________
(1)
كان عندنا أصل من هذه الترجمة منقول من نسخة من الدرر الكامنة في بغداد، كثيرة التحريف والتصحيف صححناه على نسخة دار الكتب المصرية ونسخة الأزهر.
(2)
وفي نسخة:
كنا نحدث عن حبر يجيء بها
…
أنت الإمام الذي قد كان ينتظر.
(3)
لعله سقط من هنا شيء.
(4)
قد نشرنا في المنار كتاب ابن تيمية للشيخ نصر هذا من قبل.
(5)
الصحيح أنه قال: (لا كنزولي هذا) كما نقله بعض المؤرخين، وهو الموافق لما صرح به في مواضع من وجوب الجمع بين إمرار النصوص ونفي التشبيه، فحرف كلامه أعداؤه، ولعل بعضهم لم يسمع حرف (لا) فنقله مثبتًا.
(6)
اقتصر الرافضي العاملي من هذه الترجمة الحافلة على ذكر هذه المطاعن المنقولة التي سيأتي فيها ما يدل على بطلانها من كلام العلامة العمري، وقد شاهدنا في عصرنا مثلها في شيخنا الأستاذ الإمام وشيخه السيد جمال الدين.
(7)
العبارة غير واضحة وهي اشارة إلى حديث ورد في أمارات الساعة منه: (وأن ينطق الرويبضة، قيل: وما الرويضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة) قال في النهاية:
والتافه: الخسيس الحقير، والمراد أن أدعياء العلم المقلدين الحاسدين صاروا يتكلمون في ذم إمام كشيخ الإسلام نابغة الأعصار.
الكاتب: محمد رشيد رضا
العيد الذهبي
لشيخ الشعراء ونادرة الأدباء ونابغة الفيحاء
عبد الحميد بك الرافعي
نشرنا في ص 238 م29 الإذاعة التي نشرتها اللجنة التي ألفت في طرابلس
الشام للاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني، وكنا ننوي حضوره لما تقضي به علينا
الحقوق الشخصية الموروثة، علاوة على الحقوق الوطنية والقومية والأدبية،
فشاعرنا الكبير في مقدمة أصدقائنا الأوفياء بالتعارف الروحي الأدبي والمتوارث
عن الآباء والأجداد.
كان والده الشيخ عبد الغني يكرمني تكريمه لأعز أنجاله وأنجب تلاميذه،
ويثني عليَّ في بداية طلبي ثناء كنت أخجل من ذكره، وكانت الزيارات والمودة
متصلة من قبل بين الآباء والأجداد، وعهدته مصطافًا بدارنا في القلمون مع أهل
بيته بمقام سيد الدار وكبير الأسرة.
ثم قد بلغت بيني وبين الشيخ محمد كامل الرافعي الشقيق الأكبر لعبد الحميد
بك درجة الكمال كما ذكرت ذلك في ترجمته رحمه الله تعالى، وكان نادرة المثال
في هذا العصر في الاشتغال بالعلوم العالية، والتخلق بالأخلاق السامية، حتى أنني
لما زرت الوطن في عام الدستور العثماني (سنة 1327 هـ 1909م) لم يكن
يسمح لي أن أبيت عند والدتي إلا ليالي قليلة، فكنت في معظم المدة التي أقمتها في
طرابلس أبيت عنده في حجرة نومه، وكان جل حظنا من هذا المبيت المذاكرات
العلمية فالاجتماعية والسياسية قبل النوم وبعد صلاة الفجر في أول وقتها بالجامع
الكبير المجاور لدارهم، دع تلك المسامرات والمساجلات الجميلة، في تلك الليالي
الشتائية القصيرة الطويلة، في تلك الدار التي كان عبد الحميد بك نجم سمائها
المتألق، وغيث آدابها المتدفق.
وكنت لما اقترن عبد الحميد بك نظمت وأنا تلميذ مبتدئ موشحًا كالموشحات
الأندلسية في تهنئته أنشدته بنفسي في حفلة الزفاف وهي أول تهنئة نظمتها، وأول
قصيدة أنشدتها، في أرقى محفل، وأكرم منزل، أذكر بعض ما أحفظ منها، وتشفع
لي البداية في ضعفها:
أسقط الطل في نبت الحمى؟ أم لآل فوق بسط السندس؟
أم نجوم تتراءى في السما
…
أم ثغور زينت باللعس
***
ياعُريبا تخذوا نبت اللمى
…
عند فقد الحرث منه بدلا
وبقلبي قد تركتم ألمًا
…
لم يغادر لنجاتي أملا
لي منكم غادة لم يدر ما
…
بفؤادي طرفها قد فعلا
حيث قالت حين زارت ريثما
…
تقف الأنجم بعد الغلس
احذر الأنس بغيري إنما
…
كنت إنسانًا لفرط الأنس
***
إن نجم الكأس فيما قد حوى
…
هز منها العطف إذ تغتبق
غربت شمس الطلا لما هوى
…
فبدا في وجنتيها الشفق
وبجفنيها لأرباب الهوى
…
إن تأملت عدو أزرق
دائمًا يفخر في سفك الدما
…
ويباهي بهلاك الأنفس
يسلب الروح برفق مثلما
…
تسلب الراحة عقل المحتسي
ومنه في مدحه:
لسن إن نظم الشعر غدًا
…
يتراءى فوق طوق البشر
تنصت الناس إذا ما أنشدا
…
كيف تصغي لاستماع السور
كلما كرر يحلو موردًا
…
وهو لم يهجر لفرط الخصر
ما أبو الطيب إما نظمًا
…
وابن هاني شاعر الأندلس
ليس يهنئك إذا شعرهما
…
وبه لم تلق طيب الأنفس
فإذا كانت باكورة شعري في التهاني قد أنشدت في عيد زفافه فأجدر بي أن
أكون أول السابقين إلى حضور حفلة عيده الذهبي، وأول الساجعين بمناقبه ومناقب
أبيه وأخيه وبيته؛ ولكن أحكام القدر القاهرة غلبتني على أمري، وما زالت غالبة لكل
الخلق، فحالت دون ما تصبو إليه نفسي ويوجبه على روحي وعقلي، وما كان إلا
خيرًا يعذرني به أخي وصديقي، فقد أنعم الله تعالى علي بشراء دار بل قصر، في
حي الإنشاء من مصر، وكان من قضائه وقدره أن أنتقل إليها بالعيال والمطبعة
والمكتبة في الشهر الذي أقيمت فيه حفلة العيد الذهبي له، وأن أجدد بجانبها بناء
للمطبعة، ولا أزال حتى كتابة هذه السطور في العشر الأخير من ذي الحجة مشغولاً
بذلك، وقد اعتذرت للجنة الاحتفال ببرقية تليت عقب افتتاحها هذا نصها:
لجنة يوبيل الرافعي (بطرابلس المدينة) :
أساهمكم بروحي وجناني، وقلبي ووجداني، ما حال القدر القاهر دون السعي
له بجثماني، من الاحتفال بيوبيل شاعرنا الأسمى، وصديقي الأوفى، محيي أدب
العرب، ووارث مجد العلم عن خير أب وجد.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
رشيدرضا
خبر الوفد المصري للعيد:
هذا وإنني كنت قد اتفقت مع أمير الشعراء أحمد شوقي بك وشاعر القطرين
خليل بك المطران ثم مع أحمد شفيق باشا وكيل الرابطة الشرقية على تأليف وفد منا
يرغب السفر إلى طرابلس معنا للاشتراك في هذا الاحتفال، وجعله في نظامه
الحلقة الثانية من حلقات مؤتمرات الأدب العربي؛ إذ كانت حفلة شوقي هي الأولى
منها، وأنا الذي اقترحت بالاتفاق مع هؤلاء تأخير موعد الاحتفال من شهر كانون
الثاني (يناير) إلى شهر نيسان، لأن السفر في عنفوان الشتاء مما يشق على كل
إنسان، ثم عرض لي من العذر ما أشرت إليه من قبل وعرض مثله لأحمد شفيق
باشا، فقد انتهت إجارته للدار التي كان يسكنها وتجتمع فيها الرابطة الشرقية، وتم
بناء الدار التي أنشأها في روضته من شبرا على ضفة النيل، واحتاج إلى الانتقال
إليها في شهر أبريل، كما أنه استأجر مكانًا للرابطة الشرقية نُقلت إليه فيه،
وعرض لخليل بك المطران عذر يتعلق بوظيفته الرسمية، وكنت كلمت أيضًا
نصيري العرب والأدب أحمد زكي باشا وحمد الباسل باشا فأظهرا لي الرغبة
القلبية في السفر؛ ولكن فاجأني خبر تحديد السابع من الشهر للحفلة في اليوم الثالث
منه فتعذر تأليف الوفد في بقية الأسبوع ممن لم تمنعهم الأعذار القاهرة، وكان أحمد
زكي باشا قد شرع في الدعوة إلى حفلته الشرقية الغربية التي اشتهر خبرها، وبقي
إلى يوم الجمعة وهو اليوم الخامس منه يرجو أن يتمكن من السفر فلم يُتح له،
وتأخر أحمد شوقي بك في نظم قصيدته فلم يدرك بها الاحتفال، فنشرت في الجرائد،
فهذا عذر مصر وعذر عارفي فضل الرافعي وآل الرافعي من المصريين في
تقصيرهم.
ثم رأيت من الواجب عليَّ أن أنوه بهذا العيد السعيد في المنار، وأبلغ خبره
ما يبلغه من الأقطار، فأذكر فيه شيئًا مما كنت أحب أن أقوله فيه، وأحسن ما أنشد
الشعراء في مناقب صاحبه وذويه، ولولا أنني تركت نظم الشعر منذ ثلث قرن
بالتقريب فلم أنظم بعد أن هاجرت من طرابلس قصيدة ولا مقطوعة، فلا مطمع لي
الآن في وصل ملكته بعد طول هذه القطيعة، وأحمِّلها ما تستطيع حمله من آيات
سروري، وكنت وعدت بأن أقول هنالك كلمة في تاريخ الأسرة الرافعية ومكان
بيت الشيخ عبد الغني منها، تعريفًا لمن يجهل من وفود عيد هذا الكوكب الدري من
كواكبها، بعض ما أعرفه دونهم من غرر مناقبها، والآن فات المقتضي لذلك
التفصيل؛ والموانع الشواغل لا تأذن من الإجمال إلا بالقليل.
مكانة الرافعية وبيت شاعرنا منها:
الأسرة الرافعية أشهر بيوتات العلم في ديار الشام ومصر، فهي إذًا أشهرها
في الأمة العربية والأقطار الإسلامية، وكان جُل شهرتها في فقه الحنفية، وقد
تولى كثير من رجالها مناصب القضاء والإفتاء في الديار المصرية والممالك
العثمانية، واشتهر بعض شيوخها بالإرشاد والصلاح؛ ولكن بيت الشيخ عبد الغني
قد اجتمع فيه من المناقب والفضائل ما لم يتفق لأحد منهم، وقلما اتفق مثله لغيره
من غيرهم.
كان الشيخ عبد الغني آية في الذكاء والزكاء، والهمة والمضاء، طلب العلوم
العربية والشرعية ففاق فيهما الأقران، وسلك طريق الصوفية ففات أهل العرفان،
وإنما سلكها بالمجاهدة العملية، دون الرسوم والمظاهر الصورية، فكان من أولي
الفرقان في درجات العرفان، بعد أن قطع المراحل متنقلاً في المنازل، حتى ذاق
طعم الفناء، وبلغ حال الجمع، ثم ارتقى إلى مقام الفرق بحكم الشرع، كما أنه
اشتغل من تلقاء نفسه بآداب اللغة كآداب النفس، وراض جواد يراعه في ميداني
النثر والنظم، وقد سمعت منه أنه قرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ثلاثين مرة،
وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرة، وناهيك ببلاغة عبارتهما، وحسن
إنشائهما، فكان كاتبًا يستخرج الدرر من أعماق البحور، كما كان شاعرًا ينظمها
كالعقود في نحور الحور، ولا أدري أي دواوين الشعراء كان يحفظ، وإنما أعهد
أنه كان حسن الاختيار، لكل ما يراجع من الدواوين والأسفار.
وقد ولي منصب القضاء في ولاية صنعاء اليمن وأقام فيها عدة سنين عاشر
في أثنائها علماء الزيدية وناظرهم، ورأى ما لم يكن يعرف من المصنفات في
خزائن عاصمتهم، فعاد إلى طرابلس الشام بعلم جديد كانت تصبو إليه سلامة
فطرته، وينبو عنه أو يحول دونه حال وطنه ودولته، ألا وهو الاستقلال
الاجتهادي في العلم وفقه الحديث، وكان الذي هداه إلى هذا كتاب نيل الأوطار
للإمام الشوكاني الصنعاني، يظهر أنه جاء به من اليمن وهو مطبوع في مصر،
وكان يقرؤه درسًا في بهو داره، فيحضره المنتهون من طلاب العلم من أنجاله
وغيرهم، وقد حضرت بعض دروسه بالاتفاق، وكان ذلك قبل شروعي في طلب
العلم، ولم أنس جرس صوته ولا إشارة يده عند نطقه بالكلمة التي يكررها
الشوكاني في التعبير عن الترجيح بين الأقوال المتعارضة في المسائل، بعد المعادلة
بين الدلائل، أعني كلمة (وهو الحق) إذ كان الشيخ يرفع بها صوته ويخفض يده
إقرارًا لها واستحسانًا.
نعم كان مستعدًا بفطرته الذكية وإخلاصه في طلب العلم للاستقلال في الفهم
واتباع الدليل، وزادته قراءة الإحياء فكُتب الشيخ عبد القادر الجيلي استعدادًا له
ونفورًا من التقليد، ثم كمَّل له ذلك بقراءة نيل الأوطار في فقه الحديث، فكان في
آخر عهده محدثًا فقيه النفس، صوفيًّا مصفى من آفات النفس، ولم يكن في يوم من
الأيام صوفي تقاليد وحلقات أذكار، وسماع دفوف أو أوتار، وإنما تصوفه علم
وأخلاق.
كان من أزهد الناس في الدينا بقلبه، وأصدقهم توكلاً على ربه، على كونه
أطيبهم عيشًا في مطعمه ومشربه ولباسه وزينة داره، وكان أشد الناس تواضعًا
للفقراء والمساكين، على كبر جاهه ورفعة مقامه عند الحكام المتكبرين، والكبراء
المفنقين المتأنقين، فكان يضع يده في يد من يعاشرونه من الفقراء كالشيخ صديق
الأفغاني ويماشيه في السوق، ويذاكره في آفات النفس والمعرفة وفلسفة الأخلاق،
مذاكرة الأقران للأقران، وقد سبق لي ذكر غير هذا من مناقبه وفضائله في المنار.
وقد ورث كل نجل من أنجاله ما شاء الله أن يرث من شمائله وخلاله.
واقتبس من أدركه منهم من معارفه وأدبه وحكمته، ماهو مستعد له بعقله وذوقه
وغريزته، كما أشرت إلى ذلك في رثائه:
فللمعارف والإرشاد كاملهم
…
من حالف العلمُ فيه الهدى والعملا
وفي البلاغة كم عبد الحميد سما
…
وللتحدي بها آي البيان تلا
ولم أر مثلاً لامتياز بيت عبد الغني في رافعية سورية إلا امتياز بيت عبد
اللطيف في رافعية مصر، فهو قد أنجب عالمين سياسيين حقوقيين كاتبين بليغين
مؤلفين، خدما مصر في صحفها ومصنفاتها التاريخية السياسية أجل خدمة، وهما
أمين بك صاحب جريدة الأخبار رحمه الله، وعبد الرحمن بك صاحب المصنفات
المشهورة حفظه الله، وكل منهما حافظ على شرف أسرته بقوة عقيدته، والمحافظة
على عبادته، فتم بهما للأسرة الرافعية خدمة أمتهما العربية، في وطنيهما مصر
وسورية، من جميع الطرق الدينية والدنيوية.
عبد الحميد الرافعي:
امتاز عبد الحميد الرافعي بحب الفصاحة وعشق البلاغة، على ذوق في البيان
دقيق، وأسلوب في الشعر رشيق، وسليقة كانت تنبجس من عين غريزته وتستمد من
بحر والده، وكانت كتب الأدب وفنونه، والشعر ودواوينه، لا ترتقي في عهد طلبه
للعلم عن كتاب الجوهر المكنون إلى شرحي التلخيص للسعد إلا قليلاً، ولا تتجاوز
خزانة ابن حجة ودواوين البهاء زهير وابن الفارض وأمثالهما إلا نادرًا، فهو أول
من عني بديواني المتنبي والبحتري، ومارس ديواني الشريف الرضي وتلميذه مهيار
الديلمي، ولكن مجال الشعر في عصر نشأته كان ضيق الساحة، وحرية الكلام كانت
في الدولة التركية قليلة المساحة، والباعث على إجادة المنظوم كان في حكم المعدوم،
ولم يكن أحد من كبراء الدين مغرمًا به، مُغرٍ باستمالة أربابه، إلا الشيخ أبا الهدى
الصيادي، ولم يكن يرضيه منه إلا ما مزج بالخرافات، وانتحال الكرامات، وقد
ابتلي به أديبنا فحاول احتكاره لنفسه، وقصر أكثر شعره على مدح الرفاعي ومدحه،
حتى كان يستحي من نشر ديوانه من بعده.
ولو نشأ عبد الحميد في مصر لفاق جميع شعراء العصر في جميع مناحي
الشعر، فبذ البارودي في الفخر والحماسة، وشوقي في السياسة والكياسة، وحافظًا في
الاجتماعيات، وخليلاً في المدنيات، ورافعي مصر في الخياليات، كيف وهو على ما
ذكرنا من معارضة الزمان والمكان والسلطان، مصداقًا لقول الغزالي: ليس في
الإمكان أبدع مما كان.
كان والده يفضل الشيخ عبد القادر الجيلاني على جميع شيوخ الصوفية،
وكان الشيخ نجيب الزعبي الجيلاني من شيوخ والده في العلم، فأراد عبد الحميد أن
يرضي روح والده بنظم قصيدة في مدح الجيلاني، فكانت قصيدته بما بعث عليها
من روح الإخلاص أعلى من كل ما مدح به الرفاعي والصيادي بباعث القهر
والإكراه، وكان من أبياتها التي لا أنكر معانيها قوله:
أجل رجال الله في منتدى العلى
…
مقامًا وخذ مني على ذلك الفتوى
تزاحم وفد العارفين بنهجه
…
سراعًا ولم يبلغ له أحد شأوا
مآثره في جبهة الدهر غرة
…
فلا ذكرها يبلى ولا صحفها تطوى
تطيب بذكراها المسامع واللهى
…
فدونك ما شئت الحليَّ أو الحلوى
سليل بني الزهرا ولله نسخة
…
لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى
فلما بلغت هذه القصيدة أبا الهدى كاد كجهنم يتميز من الغيظ، وكتب إلى
الناظم أبياتًا يهدده فيها بطعنة من حربة الرفاعي المسمومة، أراد بها سعيه إلى
عزله من عمله في الحكومة، وكان يومئذ مستنطق لواء طرابلس (أي قاضي
التحقيق) فاضطر إلى السفر إلى الآستانة لاسترضائه، وتقرب إليه بالقصيدة الدالية
الشهيرة التي نظمها في وصف سفره ومدحه:
قعد الحظ به حتى اقتعد
…
غارب السعي ومن جد وجد
سامه الدهر خمولاً فنبا
…
ولقد يخمل في الغاب الأسد
فلما دخل عليه كان أول ما خاطبه به قبل رد السلام: أصرت تفتي يا عبد
الحميد؟ يشير إلى البيت الأول من هذه الأبيات التي هاجت حسده، فأحرق كبده،
وفرض عليه أن يكفر ذنب هذه القصيدة بنظم ديوان في مدح الرفاعي من جميع
حروف الهجاء ففعل.
صفة الاحتفال
كان الاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني العربي في يوم من أجمل أيام الزمان،
وهو السابع من شهر نيسان، إذ الشمس في برج الحمل، والدنيا تزدان من سندس
الربيع بأبهج الحلل، قد تفتحت أزهارها، وتفاوحت أنوارها، وتناوحت أطيارها،
وصفت من كدورة الشتاء أنهارها، ورقش بساطها الأخضر بالشقيق الأحمر،
والعرار الأصفر، والبنفسج الأزرق، والأقاح الأبيض
…
إلخ، وطرابلس الفيحاء
تعطر جواء الأرجاء، بأريج رياضها الغنَّاء، وجنانها التي تُضرب بها الأمثال،
وتُشَدُّ إليها الرحال، وناهيك بها في زمن البرتقال، وقد أخرجت في هذه الأيام
أزهارها، وادخرت للضيوف بقية من ثمارها، فكانت أشجارها كالقبب، قد تدلت
فيها قناديل الذهب، وعلاها من الزهر ما يشبه اللهب، ممتدة بين البحر الأبيض،
وجبل لبنان الأنضر، في سهوب لا يحيط بها الطرف، ولا يدرك دقائق محاسنها
الوصف.
كانت الفيحاء في ذلك اليوم كسوق عكاظ: تزاحمت فيها وفود الأدباء،
وتبارت في عيد شاعرها فحول الشعراء، وقد جلس في صدر المحفل رئيس
الاحتفال، صاحب السماحة الشيخ محمد الجسر وهو رئيس مجلس نواب البلاد،
وبجانبه الأستاذ المحتفَل به وهو رئيس الأدباء، فافتتح الجلسة بما يناسب المقام من
الثناء على صاحب العيد بما هو أهله، وجدارته باحتفاء الأمة العربية به، ثم قال:
إن فخامة رئيس الجمهورية الأستاذ دباس كان مزمعًا أن يؤم الفيحاء ليرأس حفلة
اليوبيل، لولا موانع قاهرة، وقد أناب عنه حضرة وزير المعارف والصحة
والإسعاف الدكتور أبو الروس، وذكر أنه أهدى إلى السيد عبد الحميد الرافعي وسام
الاستحقاق اللبناني، وشكر للحكومة ذلك، وحينئذ نهض وزير المعارف فقلده
الوسام، مع كلمة ثناء تليق بالمقام.
ثم تلا الرئيس برقيات التهاني والاعتذار، الواردة من مختلف البلاد والأقطار،
ثم أذن للأدباء والشعراء، بإنشاد ما لديهم من القصائد الغراء، فأنشد أحد الأدباء
قصيدة شاعر القطرين خليل بك مطران، فقصيدة أمير البيان الأمير شكيب أرسلان،
وهما غنيان عن وصفهما، وعن بيان مزايا شعرهما.
ثم أنشد الأستاذ أبو الإقبال اليعقوبي شاعر فلسطين وعميد وفدها قصيدة حافلة
الري، متينة الروي، قيل: إنها تزيد على مائة بيت، وحسبك من القلادة ما أحاط
بالجيد، وهو فيها بيت القصيد:
إنما العرب في الوجود قصيد
…
فيه عبد الحميد بيت القصيد
وتلاه وفد حماه فأنشد قصيدة شاعرهم الأستاذ الشيخ طاهر النعسان، فكان فيها
خير موقظ يقظان، فقصيدة الأديب بدر الدين حامد.
وفي خلال ذلك عزف بعض المطربين بالبيانو بما يطرب كالبيان، ويروح
الأنفس ويرهف الأذهان، ثم أنشدت قصائد أدباء طرابلس نفسها، وقد قدمت اللجنة
ضيوف البلد على أبنائها.
فصل هزلي غير مضحك:
ثم قد قام في إثر الجميع محمود أفندي عزمي الصحفي المصري أحد دعاة
الإلحاد والتفرنج، وإباحة التهتك والتبرج، الذي يروجه هو وأمثاله بعنوان التجديد،
خلابة للنساء والأحداث المفتونين بالتقليد، وكل ما يدعون إليه قديم في جنسه
ونوعه، وإنما بعضه حديث في صنفه ووصفه، قام فقال:
أيها السادة.
وسكت هنيهة متكلفًا متعمدًا ثم قال: اعذروني إذا ارتُجَّ علي، فلقد كنت أريد
أن أقول: (أيها السيدات والسادة) يعرِّض بتقصير اللجنة، أو بتقصير البلد فيما كان
يجب عليها - بزعمه - من الجمع بين الرجال والنساء في هذه الحفلة، ثم إنه لم يقف
عند هذا الحد في التعريض بالغميزة في النقد، بل صرَّح بما مؤداه أنه جاء ليقتحم
أو ليفتح معقلاً من معاقل المحافظة على القديم، ليبني بأنقاضه مسرحًا من مسارح
التجديد، فبدت على وجوه الحاضرين كآبة الامتعاض، ومنعهم أدب الضيافة
وكرامة المجلس من الرد عليه جهرًا، بما تهامس به بعضهم، ولو أنه أطال لشوه
رونق الاحتفال.
ولم يكتف بما فعل هنالك، بل عاد إلى مصر، فنشر في جريدة الأهرام
مقالات سخيفة تجاوز بها ما يليق بالبلاد، إلى النيل من بعض الأفراد، ولعل بعض
الأسباب التي خرجت به عن صوابه، إلى ما لا يعهد من آدابه، أنه ذهب إلى
طرابلس لحضور يوبيل الرافعي موفدًا من جريدة العلم الغراء، وأخذ نفقة لسفره من
إدارتها أربعين جنيهًا مصريًّا ليرسل إليها أخبار الاحتفال بلسان البرق، فتسبق
غيرها من الجرائد إلى نشرها، وتعطير جو مصر بنشرها، فرأته قد خدعها
وذهب ليدعو إلى رأيه السقيم، وينعي على المعتصمين بعروة الدين ما يسميه
جمودًا على القديم. ومن مناقب آل الرافعي المحتفَل بأكبر أدبائهم، أنهم أنصار
الدين، وحملة لواء الشرع الحكيم، وهم في مصر من أعلام الحزب الوطني الذي
تعد جريدة العلم من أعلامه المرفوعة للدين والوطنية معًا؛ لذلك عزلته إدارتها من
قلم تحريرها، فلجأ إلى جريدة الأهرام فنفث نفثته المسمومة على صفحاتها.
(انتهى الفصل)
ثم ختم الاحتفال بإنشاد الأديب سمير الرافعي نجل صاحب اليوبيل لقصيدة
والده في شكر المحتفلين فكانت مسك الختام.
وقد ذكرت الصحف من مناقب عبد الحميد المحتفَل به، وشممه أن بعض
الفضلاء ومحبي الأدب تبرع له بسبعين ألف قرش سوري بمناسبة اليوبيل الذهبي،
فأبى أن يأخذها، وعهد إلى لجنة الاحتفال بأن تنفقها في خدمة الأدب بالطريقة التي
تستحسنها، فأكبر الناس ذلك من أريحيته، وإبائه وعفته، فلا زال قدوة لأمته، في
أدبه وبلاغته، وكرم نفسه وعلو همته.
وسننشر في الجزء التالي قصيدة أحمد شوقي بك أمير الشعراء فإنها من آيات
بيانه، التي فاق بها على أقرانه، وقصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ شيخ الفقهاء،
وأستاذ الأدباء، وشاعر العلماء، فإنها غرة القصائد وأجمعها لسمو المناقب وعلو
المقاصد، وقصيدة الأستاذ عبد الحميد، صاحب العيد، وهي الرحيق المختوم،
ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة قتل اليهود الأنبياء بغير حق
وطريقة الأزهريين في المناقشات والفهم
أخطأنا بتحكيمنا مدرسي التفسير بالأزهر في هذه المسألة إذ فتحنا للأزهريين
وأمثالهم باب المناقشة الأزهرية فيها، فقد كتب إلينا اثنان من طلاب قسم التخصص
فيه رسالتين في ذلك إحداهما طويلة، والثانية قصيرة، وعاد الأستاذ المنتقد الأول
لعبارة تفسيرنا فأرسل إلينا رسالة أخرى في الانتصار لنفسه.
قرأت من هذه الرسالة بضعة أسطر، ومن رسالة الطالب الأزهري مثلها
الأول أو أكثر، فرأيت أنني أسفِّه نفسي إذا قرأت أمثال هذه الرسائل كلها، وأكون
جديرًا بأن يحكم عليَّ بالخرف أو الجنون إذا نشرتها ورددت عليها، فقد كان مذهبي
منذ أنشأت المنار إلى اليوم تخطئة الأزهريين والتشنيع عليهم بجعل جل حظهم من
طلب العلم المناقشات في عبارات الكتب وإيراد الاعتراضات عليها والأجوبة عن
هذه الاعتراضات، وقد قلت مرارًا ولا أزال أقول عن علم وبصيرة: إن هذه
الطريقة العوج هي التي أضاعت العلم في الأزهر، ونقلت عن شيخنا الأستاذ الإمام
رحمه الله تعالى أنه كان يقول: إنهم يتعلمون كتبًا لا علمًا، وقال في درس رسالة
التوحيد في الأزهر أنه لا يسمح لأحد أن يشرحها ولا يكتب لها حاشية، ومن فعل
ذلك فلا سامحه الله، دع ما يثيره الرد من ضغن وحقد، ولا سيما الرد على المنتقد
الأول الذي كبر عليه أن أقول: إنه لم يفهم عبارتي التي أراد إثبات كفري بسوء فهمه
لها.
وقد لقيت أمس أخانا الأستاذ الفاضل الشيخ علي محفوظ من كبار المدرسين
في قسم التخصص من الأزهر، وقد مضت عدة سنين لم ألقه فيها، فتذكرنا أيام
تلاقينا في دروس الأستاذ الإمام رحمه الله، وأطراني الأستاذ وهضم نفسه تواضعًا
عن رفعة، ثم أثنى على تفسير المنار، وذكر من مزايا مؤلفه لصديق له حيث كنا
من دار الكتب المصرية:
(1)
أنه لم يحاب أحدًا حتى أستاذه فيه فتعقبه في مواضع.
(2)
أنه شديد الإنكار على التقليد لا يترك سانحة من التأويل تساعده على
إبطاله والنعي على أهله إلا اغتنمها.
(3)
أنه يذكر من معاني الألفاظ ونكت البلاغة فيها ما يساعد على فهم
الآيات، ويجعل كل همه بيان المعنى، وما فيه من الهدى الذي هو المراد من كتاب
الله بخلاف جماهير المفسرين الذين يشغلون القارئ لتفاسيرهم بالمباحث اللفظية
الصارفة عن فهم القرآن وعن هدايته.
(4)
تحاميه ذكر الإسرائيليات والروايات التي لا تصح فيه.
(5)
بيانه لما فيه من المسائل والسنن الاجتماعية، وقد انفرد بهذا دون
جميع التفاسير، ذكر الأستاذ هذه المعاني كلها بعبارة مجملة مدمجة، والغرض من
ذكرها الأمر الثالث ولولاه لم نذكرها على قرب العهد بسماعها، فإذا نحن فتحنا باب
الجدل والمراء في عبارة تفسيرنا لآية (قتل الأنبياء بغير حق) نكون قد أضعنا مزية
من أهم المزايا الإصلاحية التي يعرفها لنا أهل البصيرة والاستقلال، بيد أنني أذكر
في الموضوع بعض المسائل التي يتجلى بها الحق لطالبه مخلصًا فيه فأقول:
(1)
ليفهم كلمة (الحق) مُعرَّفة ومُنكَّرة من شاء كما يشاء، وليفهم معنى
التشبيه في قولنا: (إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق كما يقول المفسرون) .
كما يشاء، فنحن نصرِّح بأن مرادنا من العبارة في جملتها أن نكتة البلاغة في تقييد
قتل الأنبياء بكونه بغير حق هي تعظيم شأن الحق، وأنها من قبيل قوله تعالى
{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون:
117) فإنه تعظيم لشأن البرهان وكون المدار عليه في إثبات الدعاوي بصرف
النظر عن موضوعها، وقوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (لقمان: 15) فإنه تعظيم لشأن العلم كذلك، ومن المعلوم
بالعقل والنقل أن دعاء غير الله تعالى لا يكون عن برهان، وأن الشرك به لا يكون
مبنيًّا على علم، بل هو محض الجهل، فإذا كانت عبارتنا تؤدي ما أردنا كما نعتقد،
فالفضل لله تعالى وإن كانت لا تؤديه فالجهل والتقصير منا، ونستغفر الله تعالى.
(2)
خطر ببالي عند كتابة هذا التنبيه أن أراجع تفسير الإمام فخر الدين
الرازي لآية آل عمران وآية البقرة؛ فإنه يوجد فيه من أمثال هذه الدقائق ما لا
يوجد في غيره أحيانًا فراجعته، فإذا هو يحيل في الثانية على الأولى لتقدمها،
فأكتب ما أورده فيها من سؤال وجواب في موضوعنا، وهو السؤال الثاني قال
رحمه الله تعالى:
(السؤال الثاني) لمَ قال (بغير الحق) وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا
الوجه؟ الجواب من وجهين [1](الأول) أن الإتيان بالباطل قد يكون حقًّا لأن
الآتي به اعتقده حقًّا لشبهة وقعت في قلبه، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً، ولا
شك أن الثاني أقبح، فقوله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) أي
أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقًّا في اعتقادهم وخيالهم، بل كانوا عالمين
بقبحه، ومع ذلك فقد فعلوه (وثانيها) أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى
{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (المؤمنون: 117) ومستحيل أن
يكون لمدعي الإله الثاني برهان (وثالثها) أنه تعالى لو ذمهم على مجرد القتل
لقالوا: أليس أن الله يقتلهم؟ ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ما،
ومن غير الله قتل بغير حق.
ذكر في آخر تفسير الآية ما رآه في نكتة تعريف الحق في موضع وتنكيره في
آخر ما نصه:
(فإن قيل) قال ههنا {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) ذكر
الحق بالألف واللام معرفة، وقال في آية آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) نكرة، وكذلك في هذه السورة
{وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران:
112) فما الفرق؟
(الجواب) الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه
السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى
بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق) [2] فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى
هذا، وأما الحق المُنَكَّر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي
يعرفه المؤمنون ولا غيره ألبتة. اهـ بحروفه.
وما ذكره من تقسيم الحق إلى ما كان حقًّا في شرعنا، وما كان حقًّا في
اعتقادهم وخيالهم فهو في معنى تقسيمنا إياه إلى ما كان حقًّا في الواقع، وما كان حقًّا
في العرف، وإن لم يكن حقًّا في الواقع، وهو يردُّ زعم من يقول إن الحق لا ينقسم،
وما قلناه أوجه، ويبقى أن يقال: إن الحق عند اليهود ما وافق شريعة التوراة لا ما
وافق شريعتنا، وهو ما نبينه في الفائدة الثالثة، وهي:
(3)
بيَّنا في مقالنا الدقيق الذي نشرناه في المجلد التاسع من المنار في
تحقيق معاني الحق والباطل والقوة، أن الحق يدخل في معانٍ، منها المعنى الشرعي
وهو يختلف باختلاف الشرائع، وإن لم يعقل هذا من لا وقوف لهم على الشرائع،
ولا على العلوم والحقائق، وقد كان القتل عقابًا في شريعة التوراة التي كان يدين بها
اليهود الذين ذمهم القرآن بقتل الأنبياء بغير حق على ذنوب لا يُقتل فاعلها في
شريعتا، ففي الفصل 21 من سفر الخروج ما نصه:
(12 من ضرب إنسانًا فمات يُقتل قتلاً 13 ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله
في يده فأنا أجعل له مكانًا يهرب إليه 14 وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر
فمن عند مذبحي تأخذه للموت 15 ومن ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلاً 16 ومن سرق
إنسانًا وباعه أو وُجد في يده يُقتل قتلاً 17 ومن شتم أباه وأمه يُقتل قتلاً) إلى أن
ذكر في عدد 29 إن الثور (إن كان نطاحًا وأُشهد على صاحبه فلم يضبطه فقتل
رجلاً أو امرأة، فالثور يُرجم وصاحبه أيضًا يُقتل)
…
إلخ فما يقول في هذا من
يزعمون أن القتل بحق لا يكون إلا واحدًا في كل زمن وكل أمة وكل شريعة
فيجعلونه كالحق في الإيمان بالله وصفاته مثلاً؟
(4)
إننا قد صرحنا في تفسير] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [في الآية 112 من سورة آل عمران بمعنى ما قاله
الرازي في آية البقرة وذكرناه آنفًا من تحريهم الباطل وتعمدهم إياه مع مخالفتنا إياه في
كون الحق المنفي فيها ما وافق شريعتنا واعتمادنا أنه ما وافق شريعتهم لأنهم
مؤاخذون بها لا بما جاء بعدها. وهذا نص عبارتنا (ص29ج 4 من التفسير) (أي
ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق
تعطيهم إياه شريعتهم، وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ
عليهم، وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ) اهـ. وهو
صريح في اعتقادنا في المسألة لا يحتمل المراء.
_________
(1)
قال: (من وجهين) وجاء بثلاثة، فلعل كلمة (وجهين) من غلط الطبع.
(2)
هكذا أورد الحديث ولا أذكر هذا اللفظ لأحد من مخرِّجيه، وهو قد ينقل الأحاديث بالمعنى إذ ليس من رجال الحفظ والرواية، ومِن أنكر ألفاظه (ثلاث معانٍ) وهو في الصحيحين والترمذي من حديث ابن مسعود بلفظ (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولمسلم نحوه عن عائشة ورواه أبو داود
والنسائي والحاكم عنها بلفظ (لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زانٍ محصن فيُرجم ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا فيقتل ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيُقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
اعتذار عن قلة مباحث هذا الجزء
قد اضطررنا إلى جمع أكثر مواد هذا الجزء من حرف 24 لأنها جمعت قبل
إتمام تنظيم المطبعة في مكانها الجديد، واضطررنا إلى كتابة فصل طويل في الاحتفال
بالعيد الذهبي لصديقنا الرافعي ونشره كله في هذا الجزء لأن لجنة الاحتفال ألحت علينا
بطلبه لتنشره في كتابها الذي جمعته في شأن هذا الاحتفال، وما قيل وكتب فيه،
وجاءت فاتحة المجلد الثلاثين ضعفي المعتاد في أكثر فواتح المجلدات - فلهذا
اختصرنا في التفسير، ولم نفتح باب الفتاوى، وأرجأنا مقالات ورسائل أخرى،
ومباحث العالم الإسلامي، منها: كلمة في الدستور المصري، وكون البرلمان الذي
عُطِّل كان مخالفًا للإسلام ومصلحة المسلمين في شخصه الصوري لا المعنوي وهو ما
أشرنا إليه في الفاتحة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تعزية في مصاب زميل كريم
توفي في فترة احتجاب المنار الزميل الكريم ابن الكريم الأستاذ راغب المدهون
صاحب جريدة النذير البيروتية الغرَّاء، فكانت وفاته في عنفوان الشباب والقدرة على
الجهاد خسارة على صحائف البلاد، لا يجهل كنهها من عرف قلة الأكفاء من المنتحلين
لها، فنعزي والده الجليل والأمة بأسرها، ونحمد الله تعالى أن الجريدة لا تزال
تصدر، فأطال الله عمرها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من أوروبة
(س1 - 5) من صاحب الإمضاء أحد علماء المسلمين في (إيبك -
يوغوسلافيا) حضرة العالم الفاضل، شيخ الإسلام، مرشد الأنام، قطب المحققين،
غوث المدققين، سيدي الشيخ رشيد رضا أدام الله بقاءه ونفعنا به وبعلومه والمسلمين
آمين.
(1)
كيف كان السلف الصالح يصلون الجمعة؟ يعني كم ركعة من الرواتب
للجمعة؟ يصلون قبل فرض الجمعة أربع ركعات، هل هذا من تحية المسجد أو من
سنة الجمعة؟ وهل من السنة المؤكدة أن تصلي شيئًا بعد فرضها؟ أنا أريد منكم أن
تتفضلوا بالجواب بالقرآن والسنة لا من أقوال أصحاب المذاهب.
(2)
ما قولكم في رجل لم يكن مستطيعًا للحج فحج بدلاً عن غيره قبل أن
يحج عن نفسه؛ لأنه ما كان مكلفًا به عند الحنفية، ثم رجع بعد الحج إلى وطنه،
وما أقام في مكة لأداء مناسك الحج في السنة الآتية عن نفسه، فهل يكون مأمورًا
ألبتة ومكلفًا به عن نفسه أم لا؟
(3)
أربع ركعات قبل العشاء، هل لها حديث ثابت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هذه؟
(4)
الاحتقان في رمضان هل يفسد الصوم أم لا؟
(5)
ما حكم الجعة في الشرع؟ وهل تُعَدُّ من الخمر أم لا؟
أقدم لفضيلتكم هذه الأسئلة راجيًا الجواب عنها بأسرع ما أمكن، وأسترحم
جنابكم العالي قبول تحياتي واحتراماتي الفائقة الخالصة.
…
... يحيى سلامي
(أجوبة المنار)
(1)
هل للجمعة راتبة قبلها وبعدها؟
سبق لنا بحث في هذه المسألة طال عهده، ونقول الآن: إنه لم يرد نص عن
الشارع بطلب عدد معين من الركعات قبل الجمعة، والمعروف في الصحاح أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته لصلاتها فيبتدر المنبر فيؤذن بين
يديه فيخطب فينزل فيصلي فينصرف إلا أن يتأخر لسبب غير الصلاة؛ ولكن
وردت الآثار في التنفل قبلها، فكان السلف من الصحابة ومن بعدهم يبكرون في
السعي إلى المسجد قبل الزوال فيصلي كلٌّ ما بدا له لما ورد في السنة من الترغيب
في التبكير إلى المسجد وصلاة ما تيسر فيه، وكانوا إذا خرج الإمام إلى المسجد
يقطعون الصلاة لما تقدم إلا تحية المسجد لمن دخله، فقد ثبت في الصحيحين
وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهما من دخل المسجد وهو يخطب. رواه
الجماعة كلهم، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام
يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث
جابر رضي الله عنه وفي رواية (وقد خرج الإمام) بدل (والإمام يخطب)
متفق عليه.
وجملة القول: إن صلاة النفل قبل الجمعة مأثور، ومن كرهه من العلماء بعد
الزوال فليس له عليه دليل خاص، وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج
عند الزوال فتنقطع الصلاة بخروجه إلا تحية المسجد - ليس نصًّا في اطراد ذلك،
ومن قال: إن لها راتبة معينة كراتبة الصبح والظهر بحيث يُستحب قضاؤها إذا
فاتت، لا يمكنه أن يأتي بنص يثبته أيضًا؛ وإنما قصاراه قياس الجمعة على الظهر.
وأما الصلاة بعدها ففيه حديث أبي هريرة المرفوع (إذا صلى أحدكم الجمعة
فليصل بعدها أربع ركعات) رواه مسلم وأصحاب السنن، وحديث ابن عمر (أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة
كلهم، وكان ابن عمر يفعل هذا لشدة تتبعه لآثاره صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان
في المسجد الحرام؛ فإنه كان يصليهما فيه، وعلل بأن سببه رغبته في البقاء في
المسجد مثلاً، وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل هاتين الركعتين بعد الجمعة،
فالأفضل لمن ينصرف من الجمعة إلى بيته أن يصلي فيه ركعتين، أو أربعًا،
وقال بعض الصحابة وفقهاء الأمصار: بل له أن يصلي ما يشاء؛ ولكنه ينوي
بالركعتين الاستنان به صلى الله عليه وسلم، وبالأربع امتثال أمره الذي هو هنا
للندب، وإن نشط للزيادة كان عاملاً بالترغيبات العامة في صلاة النفل.
(2)
من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه:
في هذه المسألة أقوال أقواها قول الجمهور: من حج عن غيره ولم يكن حج
عن نفسه وقعت حجته عن نفسه دون غيره سواء كان قبلها مستطيعًا أم لا، ودليلهم
حديث ابن عباس فيمن سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عن
شبرمة. قال (من شبرمة؟) قال: أخ لي - أو: قريب لي - قال: (حججت عن
نفسك؟) قال: لا، قال (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه وصححه ابن حبان والبيهقي، والراجح عند أحمد وابن المنذر والطحاوي
وقْفه، ولا محل على هذا القول لبقية السؤال، فإن هذا الرجل قد سقطت عنه فريضة
الحج، وقال أصحابه: إنه يجب عليه رد ما عساه أخذه من المال أجرة ممن حج
عنه.
وقال بعض الفقاء من الحنفية وغيرهم: إن حجه عن غيره صحيح فعلى هذا
يجب عليه أن يحج عن نفسه إذا استطاع الحج بعد عودته إلى وطنه.
(3)
راتبة العشاء:
روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما
صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات
أو ست ركعات) ومن حديث ابن عباس في حديث صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم في الليل عند البخاري أنه قال: بت في بيت خالتي ميمونة
…
الحديث، وفيه
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات،
وفي المسألة أحاديث أخرى ضعيفة يقويها تأييد الصحيح لها.
(4)
الحقن في رمضان:
الحقن في رمضان إذا كان تحت الجلد في اليد أو الرجل أو غيرهما كما هو
المعهود في طب هذا العصر - فلا وجه للقول بإفطار الصائم به.
وأما الحقن في البطن وهو المعهود من زمن لا نعرف أوله، فمقتضى قواعد
الفقهاء أنه يفطر الصائم، بل غلا بعضهم كالشافعية فقالوا: إن كل ما يُدخله الصائم
في جوفه أو غيره بإذنه من منفذ أو غير منفذ كالمسبار - فإنه يفطر به. ومن المعلوم
أن الصيام الشرعي عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وفي معناه
الاستمناء، وقد يكون امتصاص الدخان في معنى شرب الماء ونحوه لأن الأجسام
الدخانية (الغازية) قريبة من الأجسام السائلة؛ ولذلك يسمى امتصاصها بالفم شربًا
في العرف العام، وهي تؤثر في الأعصاب كتأثير السائلات المخدرة كالقهوة والشاي
والمنبهة كالخمر، وتفيد متعاطيها شيئًا من قوة الغذاء، وحقن السائلات في الأمعاء
معروف، وهو يكون تارة لتطهيرها من الفساد، وتارة لإزالة ما يعرض لها من
القبض والجفاف، وقد يكون للتغذية والتقوية إذا كان في المعدة مرض يمنع من
قبولها الطعام والشراب، فهو يقوم مقامهما في التغذية.
وجملة القول: إن الصيام الشرعي معروف، والغرض منه معروف،
ومفسداته معروفة، وكل ما يستحدثه الناس مما ينافيه ويكون كالطعام والشراب في
إزالة الجوع والظمأ فحكمه حكمهما، وليس منه - فيما أرى - ما يكون من الحقن
تحت الجلد لتقوية المريض على مرضه أو ضعفه، إذا لم تكن هذه التقوية كالتغذية
والري، فإن كانت مزيلة للجوع والظمأ كالطعام والشراب فللقول بإفسادها للصيام
وجه ظاهر، وإن كان الحقن لأجلها، يباح للمريض كما يباح له الأكل والشرب وعليه
القضاء، وقد يقال: إنه لما لم يكن هذا الحقن أكلاً ولا شربًا ولا وقاعًا في حقيقته ولا
في صورته ولا لذته، فهو لا ينافي حقيقة الصيام، ولا حكمته والغرض من فرضه
وهو الإمساك عن هذه الشهوات الغالبة تعبدًا واحتسابًا لوجه الله تعالى وما يترتب عليه
من تربية الإرادة واكتساب ملكة التقوى المشار إليها بتعليل فرض الصيام بقوله
تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) .
(5)
الجعة خمر يحرم شربها:
الجعة هي الخمر الذي يُتخذ من نقيع الشعير المسماة عن الإفرنج (بالبيرة)
والمشهور أنها من الأشربة التي يُسكر كثيرها دون قليلها، والتحقيق أن ما أسكر
كثيره فقليله حرام، وإن كان لا يُسمى قبل بلوغه درجة الإسكار خمرًا كنبيذ التمر
والزبيب ونحوهما (أي ما ينقع منه بالماء ليحلو) فإنه متى صار يُسكر كثيره دخل
في عموم معنى اسم الخمر على التحقيق الذي بيَّناه في تفسير آيات المائدة في تحريم
الخمر القطعي، وإن قلنا: إنه لا يدخل في عموم اسمها، كان تحريمه من باب سد
الذريعة كتحريم ربا الفضل الذي هو ذريعة لربا النسيئة الذي من شأنه أن يتضاعف،
وهو الربا القطعي المحرم بنص القرآن كما بيَّناه في تفسير آية آل عمران فيه.
وقد بلغنا أنهم يصنعون في بعض البلاد جعة (بيرة) لأجل إدرار البول، لا
تسكر لخلوها من الغول (الكحول) ، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، إذ هي كنبيذ
التمر والزبيب (أي ما ينقع منهما في الماء) الذي كان يشرب منه النبي صلى الله
عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، حتى إذا ما تغير طعمه بطول المكث
وخُشي تأثيره وإسكار كثيره تركوه، وهو الذي صار الفساق من الملوك والأمراء
والأغنياء يشربونه بعد تغيره ووصوله إلى درجة الإسكار لمن أكثر منه، ووجدوا
من شذوذ بعض فقهاء الكوفة ما جرأهم عليه، إذ قالوا: إن ما يُسكر كثيره لا يحرم
منه إلا القدر المسكر، وتفلسف بعضهم فقال: إنما المحرم الجرعة أو الحسوة التي
يحدث بها السُّكر دون ما قبلها، فاغتر بذلك المتهاونون حتى وقعوا في السكر، إذ
لا يمكن لأحد أن يعرف الجرعة التي يحدث بها السُّكر، بل السُّكر لا يحدث
بالجرعة الأخيرة وحدها؛ لأنها في ذاتها كالجرعة الأولى؛ وإنما يحدث بالمجموع
فهو كله حرام، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في تفسير آيات المائدة فيراجعها من شاء
(ص51-55 ج7 تفسير) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة في إهداء قراءة القرآن للموتى بالأجرة
(س من 6 إلى 10)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن
عبد الله (وبعد) فمن محمد أحمد عبد السلام مؤسس الجمعية السلفية المؤلفة لإحياء
السنة المحمدية بعزب فابريقة السكر بالحوامدية إلى حضرة صاحب الفضل
والفضيلة مفتي الأنام، وشيخ مشايخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، محيي السنة
وآثار السلف، ومميت البدعة وآراء الخلف، سيدي ووالدي، الشفيق بأبنائه
المسلمين، الذي أرجو من ربي، وأتمنى عليه يريني وجهه قبل مماتي، والذي يصير
الإسلام بعده يتيم الأبوين، المجتهد الكبير، والعلم الشهير، الذي جعل الله الحق على
لسانه (السيد محمد رشيد رضا) .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني سائل فضيلتكم عن الآتي،
وأرجو التكرم علي بالإجابة في أول عدد يُنشر من مناركم، وعدم إحالتي على
مجموعتكم لأني عارٍ منها؛ ولأني شارع في طبع كتاب اسمه المنحة المحمدية في
بيان العتاقة الشرعية من البدعية، وأريد إثبات فتواكم بهذا الكتاب، وصورة
المسألة:
(1)
هل قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات مشروعة أم لا؟
(2)
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارته للقبور، أو عند موت
أحد أصحابه يقرأ له القرآن، أو يعمل له ختمة، أو عتاقة، أو سبحة أم لا؟ بيِّن
لنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
هل ما أورده عبد الحق الأزدي في كتاب العامة عن أبي بكر أحمد بن
محمد المروزي أنه سمع أحمد بن حنبل يقول: (إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة
الكتاب والمعوذتين، و (قل هو الله أحد) واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر؛ فإنه
يصل إليهم) وما رواه النسائي والرافعي في تاريخه وأبو محمد السمرقندي في
فضائل سورة الإخلاص من حديث علي رضي الله عنه (من مرَّ على المقابر،
وقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر
عدد الأموات) كما في شرح الإحياء ج 10 ص 371، وما ذكره القرطبي في
تذكرته عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة
وخاتمتها، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دخل المقابر فقرأ
سورة يس خفف عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات) وما يروى عن عبد الله بن
عمر رضي الله عنه: (أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة) كما في رسالة
جلاء القلوب للبركوي المطبوعة على هامش شرح شرعة الإسلام (ص94) هل
يا سيدي كل هذا وما شاكله صحيح أو موضوع لا يعمل به؟ وإذا قلتم بالوضع فمن
الذي قال به من علماء المحدثين أو غيرهم، وفي أي الكتب نجد ذلك؟
(4)
هل يوجد في الكتاب أو السنة دليل صحيح قطعي ينافي الأحاديث
المتقدمة في وصول القراءة للأموات؟ إن قلتم يوجد فاذكروا لنا ما نقتنع به،
ويقطع لسان المبتدعة.
(5)
ما حكم الله فيمن يقرءون القرآن بالأجرة في المآتم، وفي ليالي
رمضان، والذين يقرءونه بالقُرص والرغفان والبرتقان والملاليم والنياكل، أدركني
يا سيدي بالفتوى لعلي أدرك إثباتها في مؤلفي في موضعها أو ألحقها به قبل إتمام
طبعه، جعلك الله ذخرًا للمسلمين، وأراني وجهك قريبًا في خير، والسلام عليكم
ورحمة الله.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
9ذي الحجة 1347
أجوبة المنار:
الحمد لله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أعتذر للقراء عن
نشر إطراء هذا السائل ومن قبله لي بما لست أهلاً له ولا لجزء منه، وأرجو أن لا
يعودا إلى مثله، ولولا ما بينته في مجلد سابق من أسباب التزام نشر الأسئلة
بنصوصها، ومنه الاقتداء بمثله من كتب فتاوى جميع العلماء لما نشرتها، ثم أقول:
6-
أما الجواب عن السؤال الأول فهو النفي، وقد فصلت أدلته في آخر
تفسير سورة الأنعام (من ص255 - 270 ج 8 تفسير) فيراجع فيه إذ لا يمكن
إعادته.
7-
وكذلك الجواب عن السؤال الثاني، وهو يدخل في تفصيلنا المشار إليه
آنفًا وأزيد عليه أنني لا أعلم أن أحدًا ادّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
القرآن على القبور عند زيارتها أو يعمل ختمة أو عتاقة أو سبحة! على كثرة الروايات
الموضوعات والواهيات التي يدعيها أصحاب أمثال هذه البدع.
وأما ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور ويأمر به، فهو
معروف في دواوين السنة، وهو السلام عليهم ودعاء الزائر لهم وله بالعافية وغير
ذلك مما لا حاجة إلى ذكره لشهرته.
8-
إن من إضاعة عمر الإنسان أن يبحث عن كل ما يراه في كتب المتأخرين
من الأخبار والآثار الشاذة والمنكرة المخالفة للأصول العامة المقررة في القرآن
المجيد والسنن الثابتة ليعلم ما عسى أن يكون لها من رواية، وماذا قيل في إسنادها
وذلك مثل كتب المروزي والسمرقندي والبركوي المذكورين في السؤال وأضرابهم.
فأما حديث علي في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) فلا نعرفه
في سنن النسائي ولم نجده في فضائلها من كتاب فضائل القرآن، ولا كتاب الجنائز
من كنز العمال الذي جمع فيه مؤلفه أحاديث الجامع الكبير كلها. والرافعي
والسمرقندي يرويان كثيرًا من الأحاديث الواهية والموضوعة وكتاباهما ليسا في
أيدينا لننظر أسانيدهما له إن وجد فيها، وكذلك حديث (من دخل المقابر فقرأ سورة
يس
…
إلخ) لم نجده في فضائلها من كنز العمال، وأما حديث النسائي في قراءتها
على المحتضر فقد ذكرناه في بحثنا المشار إليه آنفًا، ولم يذكر العلامة الحافظ ابن
القيم هذين الحديثين فيما أورده من الاحتجاج على وصول ثواب القراءة للموتى،
وناهيكم بسعة اطلاعه، ولا ذكرهما غيره من العلماء الذين يعتد بنقلهم في استدلالهم
على ذلك، ولا وصفهما الزبيدي بصحة ولا حسن كعادته، وأما سائر ما ذكرتم من
الآثار فإن ثبت لا يعد حجة، وقد صرح ابن القيم أيضًا بأنه لم يصح شيء عن
السلف في القراءة على الموتى، وأجاب عنه باحتمال إخفائهم لهذا العمل حتى لم
يعلم به رواة الآثار، وقد بيَّنا ضعفه في بحثنا المذكور، ونقلنا أقوال فقهاء الحنابلة
في المسألة، ومن المقرر عند العلماء أنه لا يجوز لأحد الأخذ ولا العمل بحديث لا
يعرف صحة سنده وموافقة متنه للقطعيات من الكتاب والسنة، ومن احتج علينا
بأمثال هذه الروايات نجيبه بالقاعدة الآتية:
9-
القاعدة عند أهل العلم أن يطلب الدليل ممن يدعي إثبات الشيء لا ممن
ينفيه فإنهم يكتفون من النافي بالمنع، والذي بيَّناه من قبل وفاقًا لأئمة الفقه أن آية
الأنعام التي ذكرنا هذا البحث في سياق تفسيرها وآية سورة النجم {أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) تدلان على
عدم وصول ثواب قراءة القرآن إلى من يُهدى ثوابها لهم من الموتى أو الأحياء،
وقد بيَّنا هنالك وجه الدلالة بالتفصيل وما يؤديدهما من الآيات الكثيرة في كون جزاء
كل أحد بعمله لا بعمل غيره، له ثوابه وعليه عقابه، وكون المدار في ثواب الأعمال
على تأثيرها في تزكية النفس، وهذه نصوص قطيعة تؤيدها الأحاديث الصحيحة،
فإن فرضنا أن الحديثين اللذين أوردتموهما في السؤال الثالث في فضل سورتي
الإخلاص ويس مرويين؛ فإنهما لا يصلحان لمعارضة هذه النصوص وهذه القاعدة
المأخوذة من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس:
9-
10) وإن صح سندهما! فكيف وهما لا يُعرفان في شيء من دواوين السنة؟
10-
قراءة القرآن عبادة كالدعاء والتهليل والتسبيح وغيرها من الأذكار،
ومن المعلوم من الإسلام للخاص والعام أنه لا يجوز أخذ الإنسان أجرة على العبادة
المحضة، ولا أن يؤدي العبادة لأجل غيره، ولا سيما إذا كان على عمل غير
مشروع كجعله للموتى، وناهيك بأخذ أجرة خسيسة حقيرة تنافي ما يجب من تعظيم
القرآن، وقد منع الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن بناء على أنه عبادة أيضًا،
وأجازه الجمهور، ومما استدلوا به حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة
التي وهبت نفسها له لمن لا يجد مالاً يصدقها به بما معه من القرآن على أن يعلمها
ذلك، وبحديث إباحة أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة مع حديث (أحق ما أخذتم عليه
أجرًا كتاب الله) وكلاهما في صحيح البخاري وغيره، وما ورد في سنن أبي داود من
الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يرتقي إلى الصحة التي يعارض بها هذا
وهو غير صريح في المسألة، ولا يبعد أن يُعد من قبيل التعليم الإرشادي للقرآن ما
جرت به العادة من اختلاف بعض الحفاظ كل يوم إلى بعض البيوت في رمضان
وغيره يقرءون فيها شيئًا من القرآن ليسمعه أهلها، وسماع القرآن مفيد في تقوية
الإيمان، ومن السامعين له من يستفيد منه علمًا وأدبًا بقدر استعداده، فإذا قصد القارئ
ذلك مع التعبد والاتعاظ بنفسه أرجو أن يباح له أخذ ما يعطى في كل شهر وهو يكون
بغير عقد خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا
بهذه الوسيلة، وهو هجر له، وناهيك به من مصيبة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
هل يكفر تارك الصلاة؟
حكم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم
الوهابية
(س11-12) من محمد أفندي جمعة الزيلع التاجر في ميناء طرابلس الشام.
مولاي الأستاذ المعظم السيد رشيد أفندي رضا الأفخم.
إنني لمست مناركم الأغر فوجدته يضيء، ولم لم تمسسه نار، نور على نور،
يهدي الله لنوره من يشاء، لقد أضاء مناركم على الشرق والغرب فأصبحتم بنعمة
الله حكيمها، لا زلتم مصدرًا للعلم والعرفان، مكللاً بالنصر المؤزر من الرحمن
الرحيم.
مولاي: سؤالين أعرضهما على سماحتكم أيها البحر الزاخر علمًا، وأسترحم
بيانهما على صفحات مجلتكم الغراء لتعم الفائدة، والله ولي التوفيق:
(11)
إنني كلما أرتل هذه الآية الكريمة، قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ} (الروم: 31) وعندما أتلو هذه
الأحاديث الشريفة التي منها قوله عليه السلام: (ليس بين العبد والشرك إلا ترك
الصلاة فإذا تركها فقد أشرك) عن أنس صححه في الجامع الصغير، وعن ابن
عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا قد رفعه إلى النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من
ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة
المكتوبة، وصوم رمضان) رواه أبو يعلى بإسناد حسن، ورواه سعيد بن زيد أخو
حماد بن زيد عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس مرفوعًا
وقال فيه: (من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يُقبل منه صرف ولا عدل،
وقد حل دمه وماله) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
ذكر الصلاة يومًا فقال: (من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة،
ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع
قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير
والأوسط وابن حبان في صحيحه.
فيرتعش فؤادي عندما أريد تطبيق ما ذكر على حالتنا الحاضرة معشر
المسلمين، فأجدنا غافلين عن الإسلام وتعاليمه فحسبنا الله تعالى، وبعد هذا
فيعترض البعض على قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم:
47) فأين المؤمنون ياترى؟ فما قول مولانا في صحة ما تقدم؟ فإن كان صحيحًا
هل يجوز شرعًا أن نعقد زواج بنتنا على الرجل الذي يترك الصلاة؟ وهل برئت
الذمة منه؟
(12)
الدعاء إلى الله تعالى بالتوسل: هل فيه شك أو ريب إذ دعوت الله
قائلاً: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إنني قد
توجهت بك إلى ربك في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفِّعه في واقض حاجتي هذه
بجاهه عندك؟ وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
أريد أن أزجر بهذا السؤال بعض الأفَّاكين الذين يقولون عن إخواننا المؤمنين
القائمين بالكتاب والسنة كبني نجد الكرام، وإمامهم العظيم خادم العلم الصحيح،
ونابذ البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكثير من الناس يقولون ما لا يعملون
عن هذا الإمام المعظم أدامه الله ذخرًا للإسلام، فيقول البعض: إن الإمام وقومه
يمنعون ذكر الرسول وتعظيمه عليه السلام، وهذا ما لا أعتقده؛ فإن أمثال الإمام
الكريم القائم بأمر الله وسنة نبيه لا يكون إلا محبًّا للرسول عليه السلام حيث قال
تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) إذًا محبة الله ورسوله هي
القيام بما أمر الله ورسوله لا بنشر البدع الى عمت، وأصبحت من الإسلام بنظر
الجاهلين حقيقة الدين وتعاليمه، فحسبنا الله.
نسأل الله أن يلهمنا الرشد إنه سميع مجيب، وأُقَبِّل أيادي مولاي في البدء
والختام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المخلص
…
...
…
...
…
...
…
... محمد جمعة الزيلع
(11)
الكفر بترك الصلاة:
يرى السائل في تفسير القرآن الحكيم من هذا الجزء بحثًا مستفيضًا في مسألة
الكفر بترك الصلاة والزكاة والصيام، وخلاف العلماء في ذلك، وأن التحقيق في
المسألة أن من ترك الصلاة وكذا غيرها من أركان الإسلام جاحدًا أو مستبيحًا لذلك
غير مبالٍ بالدين - فهو كافر بإجماع المسلمين، وأن من ترك بعض الصلوات دون
بعض يكفر في قول بعض الأئمة دون بعض، ومن لا يكفر بترك الصلاة لا يكفر
بترك غيرها؛ لأنها عمود الإسلام وأعظم أركانه، وقد بيَّنا أنه لا يعقل أن يتركها
مؤمن صحيح الإيمان مذعن صحيح الإسلام إلا أن يكون جاهلاً مغرورًا بالاعتماد
على المغفرة والشفاعة، ومثل هذا لم يكن يُعدَّ عذرًا شرعيًّا أيام كان الإسلام إسلامًا
معروفًا، وقد يعد صاحبه في هذا الوقت ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام على الوجه
الحق التفصيلي لعموم الجهل، والأحاديث التي استدلوا بها على كفر تارك الصلاة
كثيرة ذكرنا في هذا البحث أصحها، وما ذكره السائل منها لا يصح كله.
فمن علم من رجل أنه لا يصلي ولا يصوم لفساد عقيدته الدينية، وعدم
مبالاته بما أوجب الله وما حرَّم، فليس للمسلم أن يزوجه ابنته أو موليته؛ ولكنه إذا
علم أنه مؤمن مغرور متكل على المغفرة أو الشفاعة مثلاً فليس له أن يجزم بكفره،
بل ينصح له ويعلمه ما يجهله من ضروريات الدين وكونه بدون إقامة أركانه لا
وجود له.
وطالما أقمنا الدلائل وبيَّنا الآيات في إثبات أن الكثيرين من مسلمي البلاد
الإسلامية ليس لديهم من الإسلام الحقيقي إلا الاسم، وأطلقنا عليهم لقب (المسلمين
الجغرافيين) .
(12)
التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم باللفظ الذي ذكرتم فله أصل في
حديث الأعمى الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله
عليه بصره، وأرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن الصبر على مصيبته خير له في
الآخرة، فأبى إلا أن يدعو له صلى الله عليه وسلم، فدعا له صلى الله عليه وسلم
وعلَّمه أن يدعو الله تعالى بهذه الألفاظ، أو ما يقرب منها فدعا ورد الله عليه بصره
بدعاء نبيه ودعائه هو بأن يشفِّعه الله تعالى فيه، والحديث في سنن الترمذي
والنسائي وغيرهما من حديث عثمان بن حنيف الصحابي رضي الله عنه، وله
روايات عند غيرهما، والتحقيق أن هذا توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا
بشخصه، ولا يتأتى مثله لأحد بعد وفاته فغير مشروع أن يطلب منه صلى الله عليه
وسلم بعد وفاته دعاء، لم يصح عن أحد من الصحابة ذلك، بل صح في حديث
توسلهم بالعباس في الاستسقاء ما يدل على امتناع التوسل بمثل ذلك بعد وفاته
صلوات الله وسلامه عليه إذ قال عمر: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا
فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) والحديث في صحيح البخاري، ولو كان التوسل
بشخصه صلى الله عليه وسلم أو بدعائه بعد موته مشروعًا معروفًا عندهم رضي الله
عنهم لما عدلوا عن الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بدعاء العباس
رضي الله عنه.
ولكن بعض العلماء المتأخرين لم يفطنوا لهذا الفرق بين التوسلين، فاستدلوا
بحديث الأعمى على جواز التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وبطلب
دعائه وشفاعته بعد وفاته، فهم معذورون باجتهادهم، وإن كان خطأ، وقد بيَّنا تحقيق
هذه المسألة من قبل في المنار، وهي مفصلة بأدلتها ومنها روايات حديث الأعمى ما
صح منها وما لم يصح في كتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله فليراجعها من شاء، وما ذكرتم من التقول والبهتان على الوهابية وملكهم إمام
السنة ومحييها فهو من غرائب افتراء أناس يدَّعون الإسلام، وقد عرف كذبهم في
العصر الملايين من الناس باختبار الحجاج الصادقين وأخبارهم، وما تنشره الجرائد
منها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حكم من تبرأ منهن النبي صلى الله عليه وسلم
كالنائحات، ومدة الحداد
(س13-14) من صاحب الإمضاء في مزارع أولاد عليوة (برديس)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة المحترم الفاضل الشيخ السيد رشيد رضا: بعد السلام وواجبات
الاحترام، نعرف حضرتكم أنه استشكل علينا الأمر فيما يأتي:
(1)
في صحيح البخاري حديث (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب
ودعا بدعوى الجاهلية، وإني بريء من الصالقة والحالقة والشاقة جيبها والداعية
بالويل والثبور) [*] واختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال: إن الفاعلة ذلك طالقة
من زوجها لا تحل له إلا من بعد أن تُستتاب، وبعد عقد جديد، ومنهم من قال
بطريقة التوبة فقط.
فنرجو منكم بيان ذلك بيانًا شافيًا في عدد من أعداد مجلتكم الغرّاء قريبًا، ولكم
منَّا الشكر.
(2)
وأيضًا في حديث المحدة المروي في البخاري (لا تحد امرأة فوق
ثلاثة أيام إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا) [1] .
منهم من أجاز الإحداد لسبعة أيام على الأب، ومنهم من منع ذلك، فنرجو من
فضيلتكم البيان الشافي في ذلك، وما الحكم في المحدود مع ما ذُكِرَ لأن الناس
استغرقت في هذا الأمر استغراقًا كثيرًا حتى قل من ينهى زوجته وأقاربه عن ذلك.
فلهذا نرجو من فضيلتكم كل الاهتمام في هذا الأمر؛ ولنرى ما نتبع في ذلك،
وسلامنا على جميع من يسأل عنا وعنكم، والسلام على من اتبع الهدى ودين الحق.
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد محمود أبو ستيت
…
...
…
...
…
...
…
السلفي السني
جواب المنار:
(13)
وردت أحاديث كثيرة في الزجر عن المعاصي والرذائل، وفي
التقصير في الفضائل بلفظ (ليس منا من فعل كذا) وبلفظ البراءة، منها ما ذُكر في
السؤال، ومنها (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من
الرجال) رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بسند صحيح، ومنها (ليس منا
من غش) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم بهذا اللفظ، ورواه الترمذي
بلفظ (من غش فليس منَّا) كلاهما صحيح من حديث أبي هريرة، ومنها (ليس
منَّا من لم يتغن بالقرآن) رواه البخاري من حديثه وغيره من غيره، ومنها
(ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) رواه أحمد والترمذي من
حديث عبد الله بن عمر والترمذي بلفظ (ويوقر كبيرنا) من حديث أنس وكلاهما
صحيح، ومنها (ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل على عصبية،
وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم بسند
حسن، ولا يقول أحد يعرف أصول الإسلام وفروعه ويفهم نصوصه: إن هذه
الأعمال أو التروك كفر وارتداد عن الإسلام؛ وإنما اتفقوا على أن هذه الصيغة
وأمثالها للتغليظ والتشديد في هذه الأمور التي هي من أعمال الجاهلية وشؤونها،
فترى شراح البخاري يقولون في (ليس منَّا) أن معناه ليس من أهل سنتنا وطريقتنا،
وليس المراد به إخراجه عن الدين؛ وإنما المراد به المبالغة في الردع، وقال
بعضهم في حديث التبري: إنه وعيد للمتبرَّأ منه بأنه صلى الله عليه وسلم لا يُدْخِلَه
في شفاعته، فمن قال: إن المرأة المسلمة ترتد عن الإسلام وتبين من زوجها
بالنواح والندب ونحوهما من أعمال الجاهلية المحرمة - فهو جاهل، وإنما ينبغي
للمسلم الحريص على دينه وعلى زوجه أن يختبر عقيدتها فيما يُخِلُّ بتوحيد الله
تعالى مما نشأ في النساء والرجال من عقائد الوثنية كدعاء غير الله تعالى، والذبح
لغير الله تعالى وغير ذلك مما شرحناه في المنار والتفسير مرارًا كثيرة.
يجب العمل في الحداد بما صح في الحديث وعدم الالتفات إلى من أجاز
مخالفته بهواه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} (النور: 63) .
***
النفس الواحدة التي خلق منها الناس
(س14) من صاحب الإمضاء في (زنجبار) في ذيل كتاب خاص.
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) .
ما قولكم في معنى النفس الواحدة هل هي نفس آدم؟ وهل حواء من تلك
النفس؟ وهل هي من تلك الطينة التي هي نفس آدم؟ أو هي من ضلعه الأيسر
على ما يزعمون؟ أفيدوا بالجواب الشافي ولكم مني جزيل الشكر والسلام.
…
...
…
محمد عبد الله قرنح
(ج) يطلق لفظ النفس في اللغة على روح الإنسان، وعلى ذاته وعلى الدم،
قال في المصباح المنير: والنفس أنثى إن أُريد بها الروح، قال تعالى: {خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) وإن أُريد الشخص فمذكر اهـ. ولا تطلق النفس
على الطينة مطلقًا، فالفيومي صاحب المصباح فسَّر النفس في الآية بالروح بدليل
وصفها بواحدة، ويظهر أنه يريد بها جنس النفس كأنه يقول: إنه خلقكم من جنس
واحد وحقيقة واحدة، فأصلكم واحد فلا ينبغي لكم أن يتكبر بعضكم على بعض
ويفتخر عليه بنسبه، وأما قوله تعالى:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف:
189) فهو كقوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً} (الشورى: 11) أي جعل لكل جنس من الأحياء زوجين
لأجل التناسل كما قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 49)
والذي عليه جمهور المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم عليه السلام، وهو
تفسير مراد مبني على الاعتقاد أن أبا البشر هو آدم عليه السلام لا تفسير بمدلول
اللغة، ولا بنص مأثور عن الشارع، وما صح في الحديث من كون آدم أبا البشر لم
يرد تفسيرًا للآية، وتفسير النفس بآدم في هذه الآية لا يظهر في آية الأعراف {هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189) الآية، فإن النص يقتضي أن النفس الأولى
هي الأنثى، وأن زوجها الذي خُلق منها هو الذكر بدليل تغشيه إياها وحملها بالولد،
دع ما فيها من الحكم بالشرك عليهما وعلى ولدهما، وتجد في هذا الموضوع بحثًا
طويلاً في تفسير الآية، وهي أول سورة النساء في الجزء الرابع من تفسيرنا.
وأما قوله تعالى {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) فهو على القول بأن
النفس الواحدة آدم، لا يدل على أنها خُلقت من ضلعه، ولا من طينته، بل معناه
على كل حال أن هذا الزوج من جنس هذه النفس كما قال في سورة الروم {وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: 21) فليس معناه أن
زوج كل واحد من البشر بضعة من جسمه، بل المعنى أنها من جنسه الذي هو علة
سكون كل من الزوجين إلى الآخر الذي هو مقدمة الاختلاط الذي يكون سبب النسل
بمقتضى سنة الله تعالى في خلقه كما بيَّناه في التفسير، وفيه أن جمهور المفسرين
الذين قالوا: إن المراد بالنفس آدم عليه السلام، يقولون: إن المراد (بزوجها)
حواء، وأنها خُلقت من ضلعه الأيسر وهو نائم، وأن هذا قول مأخوذ من الفصل
الثاني من أسفار التوراة الذي لا يعرف أحد كاتبه على سبيل القطع، وما ورد في
حديث الوصية بالنساء من الصحيح من خلقهن من ضلع، فالتحقيق أنه من قبيل
قوله تعالى {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37) كما بيَّناه في المنار من قبل،
وفي لفظ للحديث من البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما المرأة
كالضلع)
…
إلخ بالتشبيه، ونحن نقول بأن آدم عليه السلام أبو البشر، وأن
حواء عليها السلام أم البشر كما هو المشهور عندنا وعند أهل الكتاب، وإنما
نقول: إن الآية ليست نصًّا في هذا المعنى، ولا هو المعنى الظاهر المتبادر منها
بحسب مفهوم اللغة، والله أعلم بمراده.
_________
(*) قوله: (وإني بريء) حديث آخر رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه بلفظ (إني أبرأ ممن برئ منه محمد صلى الله عليه وسلم، برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) وليس في هذا الحديث ذكر الويل والثبور؛ ولكنه ورد في حديث آخر، والصالفة التي ترفع صوتها بالبكاء أو التي تضرب وجهها، والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها.
(1)
لفظ الحديث (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا زوج أربعة أشهر وعشرًا) وفيه ألفاظ أخرى.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجمع بين مسألة الذكران والإناث في المدارس
ومسألة التجديد والتجدد
(مجمل محاضرة ألقيناها في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة)
إن مسألة جمع البنات مع البنين في مقاعد التعليم الثانوي والعالي من أعظم
الأغراض التي يرمي إليها دعاة الثورة الدينية المدنية باسم التجديد المراد به هدم
القديم من مقومات الأمة من دين وتشريع وأدب وسياسة، ومشخصاتها من العادات
والأزياء وغير ذلك، والتجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجديد من مقتضى
الفِطر والطباع، ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع فلا
تناقض بينهما ولا تضاد إذا وضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط.
من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلق والديه وأخلاقهما بعض
المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ
الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتهما الجسدية والنفسية،
ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعا مستقلاًّ
بنفسه.
ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد من
محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة، ثم
تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما
تكونت البيوت والفصائل والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من
المشاركات في الأعمال، التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن
رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكون بها الفصائل قبيلة والبيوت
أمة.
ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تهدي إليه غريزة الاستقلال - المقابلة
لغريزة التقليد - من الميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر
كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل.
التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج
الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها، به يرتقون في مدارج
العمران، ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى إن الدين الإلهي الذي يستند
إلى وحي الرب الحكيم - بمحض فضله - لبعض من أعدّ أرواحهم القدسية لذلك من
أصفياء خلقه، قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور
حتى أكمله تعالى لهم بالإسلام عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال.
ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة
سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والبيهقي في
المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه الصغير إلى
صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته، ونفي ما يعرض
لأهله من البدع أو الغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق وسنن
الاجتماع والعمران في شريعته، وبهذا المعنى أُعد نفسي داعية تجديد ديني مدني،
وعدوًّا مجاهدًا للجمود على التقليد، والإصرار على ما ثبت بطلانه أو ضرره من
القديم، فلا يحسبن أحد من شبابنا أنني أحكم في موضوعنا بتأثير الجمود على كل قديم.
أول شاهد لي على هذا مقدمة العدد الأول من صحيفتي المنار التي كتبتها في
مثل هذا الشهر [*](شوال) أي سنة 1315 منذ ثلاث وثلاثين سنة، فقد أشرت
في أولها إلى الجديد والتجديد المدني بهذه الكلمة:
(أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك،
فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماء أو موتًا زؤامًا.
تنبَّه من رقادك، وامسح النوم من عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد
بُدلت الأرض غير الأرض، ودخل بها الإنسان في طور آخر خضع له به العالم
الكبير) .
ثم أشرت فيها إلى جملة المخترعات الصناعية، وما تجدد في العلوم الطبيعية،
وانتقلتُ من ذلك إلى بيان أغراضي من إنشاء الصحيفة، مبتدئًا بقولي (وغرضها
الأول الحث على تربية البنات والبنين) هكذا بتقديم ذكر البنات على البنين، فأنا
داعية إلى تجديد من أهم قواعده ترقية مدارك النساء بالتربية والتعليم. وفي المنار
مقالات كثيرة وفتاوى في ذلك من أشهرها مقالات (الحياة الزوجية) التي أودع
بعضها الأستاذ الاجتماعي الاقتصادي محمد طلعت بك حرب الشهير كتابه (تربية
المرأة) .
فأنتم ترون أنني كنت منذ ثلث قرن داعية تجديد، وذلك قبل شيوع هذا اللفظ
في هذه السنين، وقد تفضل علي بلقب (المجدد) بعض الكتاب والمحبين، قبل أن
ينتحله ويريد احتكاره بعض المعاصرين؛ ولكني أسير في كل من التجديد
والمحافظة على سنن الطبيعة التي أشرت إليها آنفًا، فأقول في الدين بقاعدة الإمام
مالك رحمه الله تعالى، وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن
وبيان السنة النبوية له وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع،
ومراعاة مصالح العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها.
وأما ما فوَّضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم، ووكله إلى علمهم
وتجاربهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله صلوات
الله وسلامه عليه: (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به،
وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه، أما هذا فأنا
أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها، وإلى ما لا يُعرف له حد
من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة
على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها.
أومأت إلى هذا التجديد في مصالح الدنيا وهداية الدين، ومقاومة التقليد الديني
للكتب والمؤلفين، بقولي في تلك الفاتحة بعد الحث على تربية البنات والبنين:
(وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في
الأعمال النافعة وطروق أبواب الاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة،
والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبّستْ
الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر
توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا
وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات
صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة والمهانة تواضعًا،
والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضا وتسليمًا، والتقليد الأعمى لكل متقدم علمًا
وإيقانًا) .
وعلى هذا الأساس المتين أبني رأيي في موضوع تعليم البنات والبنين، فأقول:
تقليدنا للإفرنج وما يجب نظره فيه:
إنني أرى أن ما يقال في فائدة الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد التعليم
في جميع درجاته، أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وأنه ناشئ عن تقليد للإفرنج،
لا عن خبرة تامة واستقلال في الرأي، ولا موازنة بينه وبين ما يعارضه في الضر
والنفع، ولا نظر دقيق في الفروق بيننا وبين أولئك القوم، وإنني خصم للتقليد
الديني والدنيوي معًا، وقد كان من أول نظمي للشعر في عهد طلب العلم في
طرابلس الشام قصيدة هذا مطلعها:
ليس التمدن تقليد الأوربي
…
فيما انتحاه من العادات والزّي
إن المقلد لا ينفك مرتكسًا
…
في الضعف يخبط في ليل دجوجي
بل التمدن ملزوم التقدم مد
…
عاة الرفاهة منفاة الألاقي [1]
روح شريف به تحيا الشعوب بما
…
يبث فيها من العلم الحقيقي
وحتى ترى كثرة الآحاد راجعة
…
لوحدة والفرادى كالأثابي [2]
والاختلاف بآراء الرجال لأجـ
…
ـل الاتفاق على نيل الأماني
نعم إن الباعث الأول على التقليد هو احتقار المقلد لنفسه، وتعظيمه لشأن من
يقلده، سواء أكان المقلد فردًا وجماعة كبيرة أو صغيرة وهي الأمة، فمن وطَّن
نفسه أو أمته على التقليد فقد حكم عليها بالذل، وأن تكون تابعة لا متبوعة،
مستعبدة لا مستقلة، قاصرة لا رشيدة، وقد عقد حكيمنا العربي الاجتماعي ابن
خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً خاصًّا في بيان (أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء
بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده) .
فيجب علينا أن نتقي هذا الخطر في حكمنا الاستقلالي على ما نُدعى إليه من
اتباع غيرنا - مما أشار إليه حكيمنا - وأن نكون على حذر في كل تغيير في مقومات
أمتنا ومشخصاتها، وأن نعتبر في ذلك بسير الأمم العزيزة في كل انقلاب حدث فيها،
ونوازن بين نفعه وضره، وما ينطبق وما لا ينطبق علينا منه، ولا يجب مثل هذا
فيما نحتاج إليه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية والعسكرية ونحوها لأن
الحاجة إليها في جميع الأمم واحدة مهما تكن أديانها وآدابها ولغاتها وتقاليدها.
وأول مَثَل يجب أن نعتبر به الأمة الإنكليزية التي هي أعز أمم الإفرنج
وأعظمها حضارة وسلطانًا، فإننا نراها أشد الأمم اعتصامًا بكل ما يتعلق بروابطها
الملية والقومية، من دينية ودنيوية، ومن أهم ذلك مسألة التغيير في كتاب الصلاة
التي كثر الخوض فيها أخيرًا، ورفض البرلمان قبول اقتراح التغيير فيه مع العلم
بأنه من وضع الكنيسة وتقاليدها، وكون تنقيحه بما يحتج به المقترحون من
المصلحة الدينية العامة لا يتضمن تغيير شيء من كتب العهدين القديم والجديد التي
هي عندهم ينابيع الدين.
ودون هذا ما يصر عليه الإنكليز من مقاييسهم وموازينهم لأنه إنكليزي، وعدم
قبولهم ما يخالفه من المقاييس والموازين العشرية على أفضليتها وتسهيلها لوسائل
التعامل العام بين البشر؛ لأنها من صنع اللاتين، لا من صنع الإنكليز.
ولنلق نظرة عجلى على تعليم النساء عندهم نجدهم إلى منتصف القرن التاسع
عشر قلما كانوا يَعْدُون في تعليم البنات الابتدائي شغل الإبرة والرقص والعزف
بالبيانو، ثم زادوا في مناهج تعليمهن الدين والأخلاق وتدبير المنزل، وفي ذلك
العهد أُسست في إنكلترة مدارس البنات الابتدائية، وفي العشر الأواخر منه بُدئ
بتأسيس مدرستين كليتين لهن وتلاهما غيرهما، ونجد أن مدرستي كمبردج
وأكسفورد الجامعتين كانتا تمتنعان عن إعطاء البنات الدرجة العلمية التي يستحققنها
بالامتحان، إلا أن الثانية رجعت عن هذا الحرمان لهن في سنة 1920 أي بعد أن
عظم سلطان النساء في أوربة كلها بما أبلين في عهد الحرب الكبرى، وبقيت الثانية
مصرة عليه إلى العام الماضي على ما رأيت في بعض المجلات العلمية، ولا أذكر
أنني رأيت نصًّا في رجوعها عنه.
ومما يجب أن ينظر فيه في مسألتنا نظرة تدقيق واعتبار ما بين نسائنا ونساء
الإفرنج من الاختلاف في العلم والعمل والتقاليد، ومع أهمية مشاركة النساء للرجال
عندهم في الكسب، وهو يسوغ من مشاركتهن لهم في التربية والتعليم ما لا يسوغه
حال نسائنا.
حجة القائلين باختلاط الجنسين:
إن الذي أعلمه أن أقوى حجج القائلين باختلاط الجنسين في جميع مراحل
التعليم وزعمهم أنه خير وسيلة للتربية الصحيحة، أن كلاًّ منهما يختبر الآخر حق
الاختبار، فيقف على أخلاقه وآدابه وآرائه ومقاصده من الحياة، فيكون من فوائد
ذلك أن تبنى البيوت (العائلات) التي تتكون منها الأمة على أساس ثابت صحيح
لا تقوضه أهواء جهل كل منهما بما ذكر، وما ينجم عن هذا الجهل من خلاف
وشقاق.
والذي أراه أن هذه نظرية خيالية، تنقضها الخبرة والتجارب العملية، ولو
ثبتت من بعض الوجوه لكان ما يعارضها من غوائل الاختلاط في أمتنا أحق وأولى
بالترجيح عليها، وهو ما سأشير إليه بالاختصار بعد نقضها.
أقول في هذا النقض (أولاً) إن كلاًّ من الفريقين الشقيقين يعرف في بلادنا ما
عليه الفريق الآخر في جملته من الأخلاق والآداب والعادات والتقاليد العامة
وأغراض الحياة ومنازعها بما يسمعه كل منهما ويراه ويبلوه من معاشرة الأقريين
والجيران وغيرهم، وأما معرفة كل فرد منهما لكل فرد من الآخر فلا سبيل إليه
بالاختلاط في المدارس، ولا فيما سيكون عاقبة له من الاجتماع في المحافل
والمجامع.
(ثانيًا) كانت هذه النظرية مسلَّمة عند جماهير المتفرنجين، وكثير من
غيرهم فيمن يريدان التزاوج، وقد بيَّنا بُطلانها في مقالات (الحياة الزوجية) بما
يؤيده ما فشا في هذه السنين من قلة الزواج وكثرة الطلاق في العالم الإفرنجي القديم
والجديد، وفي الشعوب المقلدة له وفي مقدمتها شعبنا المصري، وإنني في غنى عن
إيراد الشواهد وسرد الإحصاءات المخيفة في هذا بما تنشره الصحف منها في هذه
الأيام نقلاً عن صحف أوربة والولايات المتحدة الأمريكانية [**] .
(ثالثًا) إن من المعلوم بالاختبار أن كلاًّ من الجنسين يتجمل ويرائي الآخر
في معاشرته له منذ يشعران بالميل الغريزي الذي جعله الخالق الحكيم داعية التناسل
فيهما، فيخفي كل منهما عن الآخر ما يعهد أو يظن أنه يكرهه أو يستنكره،
ويتوخى إظهار ما يرجو أن يحبه ويؤثره، ولا سيما إذا كانا يميلان إلى الاقتران،
وقد شرحت هذا في مقالات الحياة الزوجية.
وإننا نرى علماء الإفرنج الأحرار يصرحون بأنه قلما يوجد عندهم زوجان
يعيشان كل عمرهما أو جله متحابين متوادين كما يصوره كُتّاب القصص الخيالية
التمثيلية وغيرها، ومنهم من قال إن الاتفاق الودي بين الزوجين لا يكاد يزيد عن
ثلاث سنين، ومنهم من مدَّ في أجله إلى خمس سنين، ولعل كثيرًا من السامعين
لهذه المحاضرة قد وقفوا على ما كتبه ذلك الحكيم الألماني الذي صور فقد السعادة
الزوجية من بيوت عاصمتهم بطرق أبواب كل بيت منها قائلاً لأهله: إنني سمعت
أن السعادة هبطت على الأرض ودخلت بيتكم، فأرجو أن تأذنوا لي بالدخول
لزيارتها، وبأن جواب أهل كل بيت منهم كان واحدًا: أن السعادة لم تدخل بيتنا، ولم
نرها. وقد نشرت جريدة السياسة من عهد غير بعيد أقوالاً لبعض الرجال والنساء من
الإنكليز في الحياة الزوجية تؤيد هذا.
والذي نعلمه عن الحياة الزوجية في الشعب الألماني أنها خير منها في غيره
من شعوب أوربة، كما حدثنا بذلك صديقنا المرحوم الدكتور الشيخ حامد والي الذي
تزوج ألمانية رُزق منها بعدة أولاد، وكان مغتبطًا بها كما كانت مغتبطة به.
ويظهر لي أن فضلاء الإفرنج، ولا سيما القائمين بحقوق الزوجية بما يرضاه
كل من الزوجين من الآخر إنما يعملون بحكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، وإن لم يقفوا عليها، ذلك أن امرأة كانت تختصم إليه مع زوجها
فغلبها الغضب على الجهر بأنها لا تحبه، فقال عمر: إذا كانت إحداكن لا تحب
الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقل البيوت ما بني على المحبة؛ وإنما يتعاشر
الناس بالحسب والإسلام، والمراد بالحسب الشرف، ولا سيما إذا كان موروثًا،
والمعنى أن شرف الزوجية والأسرة يدعو كلاًّ من الزوجين لحفظ كرامة الآخر
وشرفه، وأن العمل بما تدعو إليه أحكام الإسلام كافٍ لهناء المعيشة من فرضه
المعاشرة بالمعروف والمساواة في الحقوق بين الزوجين، إلا رياسة الأسرة الخاصة
بالرجل، وإحصان كل منهما للآخر الذي يمنع بطبعه تطلعه إلى غيره، وكذا
توزيع الأعمال بينهما بجعل الخارجية للرجل والداخلية للمراة.
وأما غير الفضلاء منهم فلا يطيق الزوجان منهم الصبر على الحياة إلا
بإطلاق كل منهما الحرية للآخر حتى في اتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان،
وقد سَرَتْ عدواهم في بلادنا إلى بعض المتفرنجين، المجردين من هداية الدين.
بعد هذه الإشارة إلى تفنيد نظرية التماس السعادة الزوجية بالاختلاط بين
الجنسين في المدارس أشير إلى غوائله الشخصية والملية فأقول:
غوائل الاختلاط بين الجنسين:
(الغائلة الأولى) من المعلوم أن الشعور بالميل الفطري في كل من الجنسين
إلى الآخر يبتدئ في سن المراهقة، ويقوى بعد البلوغ، والقرب يذكي ناره،
والمعاشرة تضرم أواره، فإذا جُمع بينهما في مقاعد التعليم كان لكل منهما من شغل
القلب ومسارقة النظر، ومساوقة الحديث الشاغل للفكر - ما يكون صارفًا له عن
تربية قوة الذهن كلها إلى العلم.
ولعل هذا هو السبب في إباحة اليابانيين للجمع بينهما في التعليم الابتدائي،
والمنع منه في التعليم الثانوي، على أنه ليس عندهم من صيانة الحجاب ولا من
شدة المحافظة على الأعراض ما عندنا بوازع الدين والوراثة والوجدان، فنحن
أولى في جميع الأطوار والأحوال.
(الغائلة الثانية) أن قرب السَّواد من السواد، يدعو إلى المناجاة وطول
السِّواد، ويثير فيهما ذكرى الوساد [3] فيفضي إما إلى التبكير بالزواج إن تيسر،
وفيه من الصد عن العلم ما فيه، دع ما يذكره الأطباء وغيرهم من المضار الأخرى
له، وإما إلى مفاسد أخرى من دينية وصحية واقتصادية واجتماعية، بدأ الباحثون
يشكون بوادرها، ونعوذ بالله مما يتوقع من عواقبها.
وإنا لنعلم أن من دعاة ثورة التجديد والإباحة المعنية من التحرير، من لا
يبالون هذه العواقب، وإن منهم من يكابر الحس، ويماري في غرائز النفس،
فيدعي أن اختلاط الجنسين أقوى وسائل العفة والصيانة، يكسب كل منهما حصانة أي
حصانة، يعنون أنه كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية والتسمم بميكروبها،
يكسب صاحبه مناعة تقيه من العدوى بوبائها، وهذا قياس مع الفارق فإن ما نحن
فيه هو أشبه بالتعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، منه بالتلقيح ببعض ميكروبه
مع البعد عنه.
ولو شئنا لسردنا ما علمناه من الشواهد التي نقرءها في الجرائد، أو نسمعها
من كل مختبر أو مشاهد، على ما مُنِيَتْ به بلادنا من شرور الإباحة، وضروب
التهتك والوقاحة، وما أراني إلا من أقل السامعين لمحاضرتي علمًا بها.
وإنني أُذَكِّر من تنفعه الذكرى بأن تأثير هذا الاختلاط في مثل أمتنا أدهى وأمر
من مثله في أوربة بقدر ما بيننا وبين أهلها من التفاوت في العقائد والتقاليد والعادات،
وناهيكم بسرعة الانتقال من طور إلى طور، وما تقتضيه من غلو وإسراف، وقد
ثبت أن الذين ابتلوا بمصيبة السكر من المسلمين في الكبر، كانوا أشد إسرافًا فيه
ممن اعتادوه وكانوا يستحلونه من أول النشأة، وهذا يرجع إلى السنة المعروفة في
الطبيعة والاجتماع بناموس رد الفعل.
ومنه ما حدثني به عالم اجتماعي مؤرخ في سورية قال: إننا نحن النصارى
لما هتكنا ما كنا نجاري فيه إخواننا المسلمين من حجاب النساء لم يبق في مدينتنا
امرأة منا إلا ولها خدن أو أخدان، وقد هبط هذا الإسراف الآن، قال هذا منذ
عشرات من الأعوام، ولا بد أن يكون الإسراف قد عم وطم بما تجدد من حرية
الإباحة بعد الاحتلال الأجنبي.
(الغائلة الثالثة) أن الجمع بين الجنسين في مقاعد التعليم في جميع مراحله
وأسنانه، هو مبدأ ما ظهرت بوادره من إباحة الاختلاط بجميع صوره وأشكاله،
من رقص وسباحة وسفر مع الأجانب ومخادنة لهم وتزوج بهم، وفي ذلك من
المفاسد والمضار الأدبية والاجتماعية والصحية والمالية ما لا يمكن بيانه إلا في
محاضرة مستقلة أو رسالة طويلة.
(الغائلة الرابعة) أنه هدم لكثير من أحكام الدين وآدابه، وقطع لأقوى
الروابط المعنوية في الأمة، فهو جناية على الأفراد وعلى البيوت وعلى الأمة
بجملتها، ولا سيما أمة كالأمة الإسلامية استولى على نظام التربية والتعليم فيها
أناس من خصومها في دينها وفي سياستها، فلم يبق لها من القوى الروحية والأدبية
ما يقاوم فتك هذه المفاسد فيها، ولم يوجد فيها من السروات والزعماء ولا من رجال
الدين من يتلافى شيئًا من شر منع السيطرة الأجنبية على المدارس الأميرية والأهلية،
دع شرور المدارس التبشيرية، وإنما كان الباقي لها من صيانة الدين بعض تقاليده
الموروثة، وكانت كافية لحكم المختبرين بأن المسلمين أطهر أهل الملل أعراضًا،
وأصحهم أنسابًا.
ودعاة التجديد الإباحي يريدون التذفيف على هذه الجروح العميقة التي أحدثتها
هذه المدارس التي صَرَّح لورد سالسبوري بأنها الخطوة الأولى لاستعمار البلاد التي
تنشر فيها؛ لأن أول تأثيرها أنها تُحْدِث الانقسام والتفريق بين الأمة؛ فتجعل
بعضها لبعض عدوًّا، فهؤلاء الدعاة أعداء لأمتهم ووطنهم، أعوان لأعدائها، فإذا
لم تقو على القضاء عليهم قضوا عليها.
هذا ما كان كُتب في المسألة، وقد وضَّحنا بعضه باللسان، وقد قام بعدنا
الأستاذ الدردير فأثنى على المحاضرة وملقيها، وقال إنه موافق له على كل ما قاله
فيها؛ ولكن بقيت مشكلة زواج الرجل بمن لا يعرفها ! وقد أجبته عن ذلك بما
أقنعه وأقنع غيره بعد بحث ومراجعة، ثم سألني بعض الشبان مسائل كثيرة في
الموضوع وما حوله، وكان من سرورهم واقتناعهم ما حمل جماعة منهم على
المشي معي إلى الدار لإطالة المذاكرة.
_________
(*) كنت كتبت هذا بطلب الجامعة المصرية في شوال العام الماضي؛ ليكون موضوع مناظرة فيها فمنعتها الحكومة لسبب سياسي عارض، ثم ألقتيه في جمعية الشبان المسلمين في المحرم الماضي مع زيادات تناسب المقام.
(1)
الألاقي: جمع ألقية وزان أمنية، وهي الشدائد والدواهي.
(2)
الأثابي: الجماعات الكبيرة.
(**) يراجع قراء المنار ما نشرناه من إحصاء الطلاق في الولايات المتحدة الأمريكانية في ص 308 من المجلد 29.
(3)
السواد، بالفتح هنا: الشخص، وشبح إنسان، والسواد بالكسر: المسارة في الكلام، فهو مصدر ساوده، أي: ساره، وبالضم اسم منه، والوساد: بالكسر - بل بالتثليث - المخدة والمتكأ، وهو هنا كناية عن الفراش ظاهرة المعنى.
الكاتب: شكيب أرسلان
تاريخ حروف الكتابة ومكان العربية منها
(أول من وضع الكتابة في العالم عرب اليمن، وعنهم أخذ الفينيقيون
الذين هم من عرب البحرين وما جاورها، وعنهم أخذ اليونان. والحروف اللاتينية
لا تصلح للغة العربية، ولا للشعوب العربية والإسلامية أبدًا) .
بحث وتحقيق للأمير شكيب أرسلان
كان أمير البيان قد كتب مقالاً في تفنيد ما انخدع به بعض كتاب العربية
المتفرنجين من استحسان تقليد الترك الكماليين في شر ما جَنَوا به على لغتهم
وثقافتهم، ومدارسهم وصحافتهم، إتمامًا لما جنوه على دينهم وآداب ملتهم، وهو
كتابة التركية بالحروف اللاتينية، ونشر هذا المقال في جريدة العهد الجديد التي هي
من أخلص الجرائد العربية لأمتها ووطنها وأقدرها على خدمتها، ثم استزاده بعض
المعجبين بتحقيقه لأمثال هذه المباحث فراجع فيه قبل إتمامه بعض كبار المحققين
من علماء أوربة، ذلك وفي مقدمتهم الأستاذ (مورتيز) الألماني المعدود من أشهر
علماء هذا الفن في العالم كله، وله فصل طويل في الكتابة العربية نُشر في دائرة
المعارف الإسلامية، والأستاذ (هس) السويسري مدرس الألسن الشرقية في جامعة
(زوريخ) وهو من أصحاب القدم الراسخة في تاريخ الخطوط عامة والخط العربي
خاصة، وقد تلقى عنه أستاذنا الإمام الخط المسند في سويسرة، كتب إليه الأمير في
ذلك وتلقى عنه مقدمة لجوابه مع وعد بتتمتها، وكتب أيضًا إلى الأستاذ ليتمان
الألماني العلامة الشهير يستوري زنده في الموضوع فلم يجده في برلين لأنه كان
بمصر.
وكان ذاكره في هذا البحث مرارًا، ثم جاء برلين، وبحث مع الأستاذ مورتيز
في المسألة زهاء ساعتين، وشرع بعد ذلك في كتابة خلاصة هذه المباحث، وأرسل
ما كتبه إلى جريدة العهد الجديد فنشرته متفرقًا في شهر شوال الماضي.
المقالة الأولى
قال الأمير بعد مقدمة ذكرنا خلاصتها آنفًا:
الأستاذ (موريتز) يرى ما يراه هذا العاجز، وما كان سبق لي ذكره في مقالة
بهذه الجريدة، وفي مقالات أخرى من قبل، وفي تصريح صرحت به في أيام
الحرب لإحدى الجرائد الألمانية وهو أن الخط العربي الحالي الذي يسميه علماء
الخطوط بالخط النسخي هو نوع من الاختزال (الستينوغرافيا) وأن العرب لم
ينتقلوا إليه من الخط المسند الحميري الذي كانت حروفه منفصلة إلا حبًّا بالسرعة،
ومن بعد أن استبحر العمران، وكثرت العلائق التجارية عند العرب.
والأستاذ مورتيز موافق لي على القول بأن طريقة العرب في الخط النسخي
هي الطريقة التي يجدر أن يقال لها طريقة عصرية، وأن فيها اختصارًا لائقًا بكتابة
الأمم التي ازدحمت أشغالها وتناهت مدنيتها، وأن فيها أيضًا توفيرًا من الوقت ومن
القرطاس.
ثم إن الأستاذ موريتز يصرح تصريحًا لا مجال معه لأدنى مراجعة بأن
الحروف اللاتينية لا تصلح أبدًا للسان العربي، وأن اللسان العربي بالحروف
اللاتينية لا يمكن أن يُعرف.
ومن بعد أن قررنا هذا نقلاً عن هذا العلامة الشهير المشار إليه بالبنان في
الشرقيات لا سيما علم الكتابات السامية - يحسن أن نذكر خلاصة آرائه في تاريخ
الخط البشري.
فالأستاذ موريتز يذهب إلى ما هو معروف عند جميع العلماء من أن الكتابة
وقعت بالتدريج، وأنها كانت في البداية صورًا تامة، فإذا أريد التعبير عن الأكل
مثلاً رسم الكاتب صورة رجل يأكل، وإذا أُريد التعبير عن النوم رسم صورة رجل
نائم على فراشه، وإذا كانت العبارة عن الضرب رسم رجلاً يضرب رجلاً آخر
وهلم جرًّا، وهذا الخط التصويري الذي يسمى بالهيروغليف في مصر وبالمسماري
في العراق والذي منه آثار عند قدماء سكان أمريكا قد مست الحاجة إلى اختصاره،
وفي الصين لا يزال التصوير غالبًا على الخط.
يقول البروفسور موريتز: إن أول واضع للكتابة على شكلها الحالي منتقلاً
من الصورة التامة إلى الإشارة الجزئية يجب أن يكون رجلاً عربيًّا من أهل اليمن
ويقول إن الأستاذ ليتمان يرى هذا الرأي نفسه.
ويضرب مثلاً فيقول: كانوا في عهد الكتابة بالصور إذا أرادوا ذكر العين
صوروها كما هي أي هكذا (.) ثم عندما أرادوا الكتابة بالإشارات المختصرة عن
الصورة جعلوا حرف العين بصورة العين الباصرة فجلعوا حرف العين هكذا (5
أو ع) ثم إن الباء مختصرة من صورة البيت فالبيت صورته هكذا D، كما لا
يخفى لأن الأصل في البناء يكون مكعبًا، فعندما أرادوا الاختصار رسموا البيت
هكذا (ب) وتجد أن هذه هي صورة حرف الباء المشتقة من البيت، أما نقط الباء
فهو متأخر العهد، والعلماء مجمعون على أن النقط في العربي لم يقع الاصطلاح
عليه إلا في القرن الأول للهجرة.
ويستدل الأستاذ على أن بداية الخط وقعت عند عرب اليمن بما يأتي:
أن المدنية البابلية ترجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، وإذا رجعنا إلى
حفريات الإنكليز والأمريكيين الحديثة في (أرز) الكلدانية نجد أن مدينة بابل كانت
زاخرة مستبحرة العمران قبل المسيح بأربعة آلاف سنة.
والقرائن تدل على أن مدنية بابل جاءت إلى بابل من بلاد العرب.
ووجدت في بابل أسماء (حمورابي) و (عميصادق) وهي هذه الأسماء
نفسها وجدت في اليمن بلفظ (عمي رافع) و (عمي صادق) وإنما تحرف في
بابل قليلاً، ومن هذا وغيره استدل علماء الآثار على أن أصل المدنية البابلية هو
من اليمن.
وأما (الألف باء (Alphabet) فقد وجدت في اليمن، بل في الدنيا كلها
قبل المسيح بألفي سنة، وأقدم خط عربي وُجد في اليمن، ويقال له المسند، وقد
أخذه الفينيقيون وأدخلوا عليه بعض تغييرات، هذا هو رأي المحققين الذي عوَّلوا
عليه أخيرًا بعد أن كان العلماء يظنون أن الفينيقيين هم الذين سبقوا الأمم كلها إلى
الكتابة.
ولعل الذي حمل علماء أوربة على نسبة إيجاد الكتابة إلى الفينيقيين هو كون
اليونان أخذوا الكتابة عن هؤلاء، وكان ناقل الكتابة من الفينيقيين إلى اليونان رجلاً
اسمه (قدموس) ومعناه (شرقي) .
فاليونان يعلمون أن الكتابة وصلت إليهم من الشرق، وهم نشروها في الغرب،
وكان اليونان يكتبون نظير الشرقيين من اليمين إلى الشمال، ولم يكتبوا من
الشمال إلى اليمين إلا فيما بعد، ولم يكن عند اليونان بادئ ذي بدء سوى عشرين
حرفًا، ثم صاروا يزيدون عليها.
وأما الخط الأقدم وهو المسند الذي هو أصل الخطوط كلها فهو ثلاثة أنوع،
وكلها كانت حروفها منفصلة كالحروف الإفرنجية الآن، وهذه الأنواع الثلاثة هي
الخط اللحياني والثمودي والصفاءلي (نسبة إلى حرَّة الصفاة التي وُجدت فيها
كتابات بهذا الخط) .
ومن الخطوط العربية الخط السبآءلي، قيل إنه وُجد قبل المسيح بستمائة سنة
إلا أن العلامة موريتز يقول إنه وُجد قبل المسيح بألفي سنة.
ومن الخط السبآءلي نوع جديد وُجد منه كتابات في الرحبة شرقي جبل الدروز
ترجع إلى ما بعد المسيح بثلاثمائه سنة، ووجدت خطوط سبائية بين الكتابات
اليونانية التي وُجدت هناك.
والخط الثمودي هو قبل السبآءلي، وهو والصفاءلي مختصران من المسند،
ومن هذه الخطوط جاء الخط النبطي الذي هو أول خط وُصلت فيه الحروف بعضها
ببعض (Corsif) والخط النبطي هذا هو أصل الخط العربي الموصول المسمى
بالنسخي، وقد تسنى للعلماء بحسب ما حققوه إلى هذا اليوم تتبع سير الخط العربي
منذ أول إيجاده إلى أن تقرر الخط النسخي الحالي، وأن هذه الآراء هي نتيجة ما
انكشف إلى الآن وستبقى معولاً عليها إلى أن يجد في الحفريات ما يغايرها أو يعدلها.
المقالة الثانية
تقدم لنا في (العهد الجديد) ذكر آراء بعض العلماء المستشرقين المتخصصين
في أمر الكتابات السامية، ومنهم الاستاذ موريتز الألماني الذي هو مجمع على أن
أقدم من كتب على وجه الأرض هو رجل عربي من اليمن، وعلى أمر آخر وهو
أن اللغة العربية لا يجوز أن تكتب إلا بالحروف العربية.
وإني لناشر غدًا ما دار بيني وبينه من المباحثات الشفوية هذه المرة جوابًا
بعث به إلي إلى لوزان منذ نحو شهرين، وسأنشر له خلاصة بحثه عن الكتابة
العربية في (الإنسيكلوبيديا الإسلامية) التي بدأت بها لجنة من العلماء قبل الحرب
ولما تكمل، أما نص كتابه الأخير فهو هذا (بعد الترجمة) :
(ألف شكر لك على كتابك اللطيف، وعلى ما تمنيته لي بمناسبة دخول
السنة الجديدة التي ننتظر منها الاستمتاع بصحة جيدة والعون في إيصال أشغالنا إلى
غاية حسنة.
في الفصل الذي حررته في إنسيكلوبيدية الإسلام على الكتابة العربية قد فاتني
بعض تفاصيل لم يتسع لها المقام، فالكتابة النبطية التي تُشتق منها الكتابة العربية
(يريد الكتابة الحالية) هي ذات شكلين: (أحدهما) الشكل العادي الأقدم الذي منه
كتابات على المباني الباقية من الأعصر الأولى، ومنه الكتابات الرسمية، وحروف
هذا الشكل ليست متصلة بعضها ببعض (والثاني) الشكل المتصل وهو الشكل
الذي اختير له الاختصار والبساطة لأجل الكتابات اليومية، وقد وصلوا فيه
الحروف بقدر الإمكان حبًّا بالسرعة.
ولا شك في أن هذه الكتابة الموصولة قد جرى الاصطلاح عليها في المدن
التجارية الكبرى مثل بتراء ومكة حيث كانوا يشعرون بالاحتياج الشديد إلى أن
يكتبوا سريعًا وكثيرًا، وأنه يوجد كتابات حجرية من القرن الثالث والقرن الرابع
قبل المسيح ليست من الكتابات الرسمية، يتجلى لك فيها هذا الشكل الجديد بكل
وضوح.
وأما من القرن الخامس قبل المسيح فلم تُوجد كتابة من هذا الشكل كما أن
كتابة زيد بقرب حلب وكتابة حران هي من الخط العربي الكوفي، وأما أصل
تسمية هذا الخط بالكوفي فلا أزال من أمره في ظلمات، ويحتمل أن تكون دولة لخم
الصغيرة في الحيرة قد اصطلحت على خط مشتق من الخط السوري، وقد أعطي
هذا الخط اسم الخط الكوفي لأن الكوفة هي خلف الحيرة - كما لا يخفى - فكأنهم
أرادوا إعطاءه اسمًا يميزه عن الخط السوري إلا أن هذا الافتراض لا يزال محتاجًا
إلى أدلة من كتابات على الحجر أو في الورق وهذه لَمَّا توجد.
وأما النقط فلم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة وذلك على
كتابات المباني والمسكوكات المضروبة وعلى البردي، وكان الباعث إليها حس
الاحتياج إلي الفرق بين بعض أحرف الخط المتصل التي بوصلها بعضها مع بعض
تشابهت كثيرًا، ويظهر أن أقدم النقط هي نقطة الباء (ب) ونقطة الذال (ذ) وقد
وُجدت مؤخرًا قطعة سكة قديمة من مجموعة البارون أوبنهايم عليها الكتابة الآتية هكذا
(ضُرب هذا الدينار سنة سبع ومائتين) انتهى.
وإليكم هذا المكتوب الآخر من الأستاذ هس المستشرق الشهير الذي يدرس
الألسن الشرقية في جامعة زوريخ، وهو ممن أقاموا مدة مديدة في مصر، وعرفوا
بلاد العرب، وكانت له صحبة متينة العرى مع المرحوم الشيخ محمد عبده،
وعندما ساح الأستاذ الإمام في أوربة نزل ضيفًا على البروفسور هس في منزله في
فريبورغ، ولقد تمكنت الصحبة بيني وبين الأستاذ المشار إليه منذ نحو عشر
سنوات، ففي هذه المدة استطلعت رأيه في بعض مسائل تتعلق بالكتابة العربية
فصادف كتابي إليه أنه كان ملتاثًا فكتب إلي ما يأتي:
(يا أميري العزيز لم أكن قويًّا أصلاً عندما وردني بهذا الصباح كتابك الثاني،
وإني مع ذلك أسالك العفو، فمنذ ثمانية أيام أنا عليل بالنزلة الوافدة، وعندما جاءني
كتابك الأول لم أظفر بالوقت الكافي لأجاوبك إذ كانت الأسئلة التي ألقيتها علي
تقتضي لجوابها لا أقل من نصف نهار، وسأجاوبك عليها قريبًا، وإنما أكتفي الآن
بالجواب على نقطتين: الأولى هي أن جميع العلماء يذهبون إلى أن الفينيقيين هم
الذين اخترعوا الكتابة وحروف الهجاء السامية، وسأعطيك البراهين على أنه ليس
الأمر كذلك، فأما الكتابة العربية فيجب التمييز جيدًا بين الكتابة المعينية والسبائية
مما يسميه علماء العرب الخط المسند أو خط حمير، والكتابة العربية الشمالية
المسماة بالنسخي؛ فإنه لا تعلق لإحدى الكتابتين بالأخرى، وليس عندنا شيء من
العلم عن أصل (الألف باء) السبائية التي فيها عدة من الحروف لا توجد في
الفينيقية، أما الحروف الهجائية الشمالية التي أقدم أشكالها تشابه تمامًا النسخي الحالي
(بدون تنقيط كما لا يخفى) فهي مشتقة من حروف الهجاء النبطية، وأن أقدم كتابة
عربية بلغة عرب الشمال التي عندنا في القرآن هي المنسوبة إلى مر القيس (امرئ
القيس ابن عمرو) التي وجدت في (عارة) بقرب دمشق، وتاريخها سنة 328 بعد
المسيح وحروفها نبطية، والخط النبطي حروفه موصولة مثل النسخي.
وأنت تدري أن الكوفي هو مشتق من النسخي (وبعضهم ذهب إلى أن
النسخي مشتق من الكوفي) وقريبًا أكتب إليك مطولاً
…
إلخ) انتهى، فمتى
وردني كتاب الأستاذ (هس) الثاني أبادر إلى نشره، وقد يصيب الإنسان في نشر
منقوله أكثر مما يصيب في نشر مقوله، لاسيما إذا كان لا يتوخى شيئًا سوى الفائدة
وتجلية الحقيقة، وهذا لا يمنعنا من تعليق ملاحظاتنا الخاصة عند اللزوم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
_________
الكاتب: إسماعيل الحافظ
الفريدة العصماء
لأشعر العلماء وشيخ الفقهاء والأدباء الأستاذ العلامة
الشيخ إسماعيل الحافظ
عضو محكمة الاستئناف الشرعية في فلسطين
في عيد الرافعي الذهبي
إن القريض صغت إليه الهامُ
…
وأحاطه الإعجاب والإعظام
لم أدر حين بدت طلائع آيه
…
فكر يجود بهن أم إلهام
سارت مواكب نظمه وكأنها
…
جيش من الدر اليتيم لهام
يتألق الإبداع فيه وفوقه
…
من هدي أعلام الهدى أعلام
لا تلمح الأحلام سر بيانه
…
حتي تفيء برشدها الأحلام
رقت حواشيه فهن مناهل
…
ورست قوافيه فهن إكام
وافترّ عن حر المعاني مثلما
…
تفتر عن أزهارها الأكمام
تمليه من (عبد الحميد) قريحة
…
عَزَّت مناهجها فليس ترام
فياضة بجوامع الكلم التي
…
يبقى لهن على الدام دوام
دانت أساليب البيان لربها
…
وأطاعه الإبداع والإحكام
وأقام في الفيحاء صرح بلاغة
…
تعشو لضوء مناره الأقوام
سامٍ يجدد للعروبة سؤددًا
…
يُزهى به جد العروبة (سام)
يهدي المشارق ضوؤه بروائع
…
شغفت بها الأسماع والأفهام
من كل شاردة كأن بديعها
…
قطع الرياض يجودهن غمام
جوابة الآفاق يُرقب نجمها
…
في كل أفق أشرقت ويرام
كملت محاسن نظمها وسما بها
…
طبع عليه وضاءة ووسام
والشعر هندام وطبع مشرق
…
والبعض لا طبع ولا هندام
لك في مجال الفضل يا ابن زعيمه
…
سبق وفي أوج العلى استعصام
جددت من عهد القريض محاسنًا
…
ذهبت بها الأعصار والأوهام
ألقى عليك شعاع فكرك رونقًا
…
للسحر في جنباته إلمام
وكسوته من صفو طبعك حلة
…
أضحى بها في الناس وهو غلام
فلبسته ثوبًا قشيبًا مونقًا
…
والشعر فوق حماته أهدام
وجلوت منه منهلاً مستغذبًا
…
يغشاه من فطن العقول زحام
شعر عليه من الجديد ملاحة
…
ومن البراعة والنبوغ وسام
نسقان، منه عبرة وهداية
…
مثلى، ومنه صبابة وغرام
لولا احتشام فيه صان رواته
…
إذ أنشدوه وسامعيه لهاموا
هو في النفوس كواكب مشبوبة
…
تهدي النفوس وفي الرؤوس مدام
غزل كمعتل النسيم وحكمة
…
صحت بها لأولي النهى أحكام
وقلائد للمدح لو هي قلدت
…
للبدر تاه البدر وهو تمام
ولكَم له آيات وصف وحيها
…
جهر، ولمح بيانها أعلام
يجلو الحقيقة ربها وضاحة
…
لا الشك يعروها ولا الإبهام
فتكاد إذ يصف المعاني أن تُرى
…
للعين أو يبدو لهن قوام
وتكاد لا تدريه هل هو شاعر
…
بلغ المدى في الوصف أم رسّام
لا بدع أن سبق الرجال فإنه
…
كسَّاب كل فضيلة غنَّام
صاغت يد الخلاق جوهر نفسه
…
وأجاد صقل طباعه الإسلام
فبدا وفيه مناقب علوية
…
وله من الخلق العظيم ذمام
وغدا وفي برديه نفس برة
…
تنبو عن الأسواء حين تسام
تخفى لفرط صفائها فإذا انجلت
…
للناس فهي محاسن ونظام
طبعت على الأدب الرفيع فما لها
…
فيما سوى الحسن البديع مرام
فالكون شعر عندها، وضروبه
…
أحداثه، ولُغى الورى أنغام
والأرض نادٍ والزمان قصيدة
…
أبياتها الآناء والأيام
والنجم نور والظلام خمائل
…
والصبح وجه مليحة بسَّام
والأفق بهو والبروج هياكل
…
هي للشموس منازل وخيام
والنور لوح فيه من صور الورى
…
نقش، ومن أعدادهم أرقام
والضوء ما بين العوالم صبغة
…
كُسيت به ألوانها الأجسام
والكائنات جواهر منثورة
…
نظمت بها الأشكال والأقسام
فاعجب لها فطنًا تناهت في العلى
…
سبقًا فليس أمامهن أمام
واعجب لها نفسًا صفا لألاؤها
…
فلها بآثار الفنون هيام
لو شاءت الأقلام وصف جمالها
…
عيَت بوصف جمالها الأقلام
لئن اصطفت منك القوافي مبدعًا
…
أحيا رفات الشعر وهي رمام
فأبوك بحر العلم جدد نهجه
…
وجرى مع الشعراء وهو إمام
ونمتك في عليا عدي سادة
…
لهمُ بأندية البيان مقام
من كل غطريف كأن جنانه
…
قبس، ومتن يراعه صمصام
(عمر أمير المؤمنين) يقودهم يوم الفخار وشبله العلام
شرف أشم لو استقر ضياؤه
…
لم يبق لا ظلم ولا إظلام
شرف صحِبتَ المجد تحت ظلاله
…
وجفوت ما فيه عليك ملام
ورغبتَ عن زهو الحياة زهادة
…
إذ قل أكفاء وعز كرام فلرب منزل رفعة طالت له الأعنـ ـاق وازدحمت به الأقدام
سحبت بساحته الأماني وانجلت
…
في أفقه الآمال وهي وسام
أعرضتَ عن أفيائه متذممًا
…
والمجد يأبى أن ينالك ذام
لا خير في نيل الفخار إذا استوى
…
يوم المفَاخر منسم وسنام
يا شاعر الأوطان ذُد عن حقها
…
فلقد يصادَر حقها ويُضام
أنت البصير بما يصون كيانها
…
ويصد عنها الخطب وهو جسام
نافحت عنها والحفائظ تلتظي
…
والعدل حور والضياء ظلام
وصوارم السفاح تحت شفارها
…
حتف لأحرار البلاد زؤام
في فتية غرّ سمت بنفوسهم
…
همم تخوض الهول وهو ضرام
كرهوا الحياة على الهوان فأزمعوا
…
والعيش في ظل الهوان حِمام
فقضيت حقًّا لا يقوم بمثله - إذ ذاك - إلا الأروع المقدام
وسُقيت فيه النفي صابًا علقمًا
…
والسجن، وهو على الليوث حرام
لك بين (جلق والحجاز) منازل جثم البلاء بها وعنَّ السام
وافيتها ثبت الجنان مشيعًا
…
بالصبر والصبر الجميل عصام
ولو أن جزعت لكنت أخلق جازع
…
لكنه لا يجزع الضرغام
والمرء لا يُبقي عليه نفسَه
…
جبنٌ ولا يودي به الإقدام
حتى نزلت (بقركليسة) وانجلى عن وجه تلك المعجزات قتام
أطلقت من أبكارهن خرائدًا
…
جذب القلوب لحسنهن زمام
وبعثت في الأوطان صوتًا مشجيًا
…
مصر لقد طربت له والشام
فأعد على الأوطان من ألحانه
…
تَنْتَبِهْ فقد خملت وطال مقام
وأجل مقالك للنضال مناهضًا
…
فمن المقال أسنة وسهام
وأهب بقومك للمعالي إنهم
…
نَهَضَ الورى للمكرمات وناموا
عصف الزمان بهم وهم في غفلة
…
شغلتهم الأحلام والأوهام
وأزالهم عن خِيمهم وقديمهم
…
سيل من البِدع الجديد عبُام
يتزاحمون على متاع زائل
…
(فهمو قعود حوله وقيام)
نزعوا إلى الخلف الذميم فأركسوا
…
والخلف داء في الشعوب عُقام
والخلف إن ينقض قضية معشر
…
يومًا فليس لنقضه إبرام
ولكم خلت من قوة موفورة
…
ذهبت بها الأشياع والأحزام [1]
أولى الشعوب بعيشة مرهوبة
…
شعب حمته ألفة ووئام
وأدل مفعول على حكم الهوى
…
بين الرجال تخاذل وخصام
فابعث لمن بعثوا الخلاف ملامة
…
حرّى تذوب لبرحها الأوغام [2]
وأفض عليهم من شعورك إنه
…
نعم الشعور محبة وسلام
وأدر سلافًا من بيان طالما
…
تلفت على نبراته الأخصام
واهنأ بعيدك إنه عيد له
…
أيدٍ على الأدب الصميم جسام
خمسين عامًا جزتها وكأنها
…
من حسن ما غذت القرائح عام
أهديت للفصحى بهن قلائدًا
…
لا عمرو أهداها ولا همام
واسلم يتيه بك القريض ويعتلي
…
ويحوطك التكريم والإكرام
_________
(1)
الأحزام: كالأحزاب وزنًا ومعنى.
(2)
الأوغام: الأحقاد الثابتة في القلوب.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شهادات علماء الغرب المنصفين
للإسلام والنبي والمسلمين [1]
الشهادة الأولى
من كتاب (استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية)
للأستاذ هورتن الألماني المستشرق
صحيفة 5- كانت العرب في القرون الوسطى (إلى سنة 1500 تقريبًا)
أساتذة أوربا.
صحيفة 8- لم ينشأ ظن الأوربيين بأن الدين الإسلامي لا يتمشى مع المدنية
إلا من جهلهم بهذا الدين وعدم تعمقهم فيه، بل لتعلقهم بالقشور التي لا يفهمون
منها إلا ما يكتبون.
صحيفة 9- في الإسلام وحده تجد اتحاد الدين والعلم، فهو الدين الوحيد الذي
يوحِّد بينهما، فتجد فيه الدين ماثلاً متمكنًا في دائرة العلم، وترى وجهة الفيلسوف
ووجهة الفقيه متعانقتين، فهما واحدة لا اثنتان.
صحيفة 9 -10 - كان في القرن العاشر في قرطبة زاهد يسمى (ابن مسرة)
وكان هذا الزاهد يشعر هو وتلاميذه أنه من الأسرة الإسلامية.
صحيفة 10- ابن رشد الفيلسوف الطائر الصيت في القرون الوسطى كان
إيمانه بالله عظيمًا، وكان معتصمًا بالقرآن حتى بكل كلمة في القرآن، ومع ذلك لم
يمنعه دينه والقرآن الذي يعتصم به من مطالعة الفلسفة اليونانية والأخذ من آثار
أريسطوطاليس والبناء عليها.
صحيفة 12- لا تجد في الإسلام سدًّا يمنع نفوذ الثقافة الغربية عنه، بل ترى
أن له استعدادًا غير محدود لقبول الثقافة.
صحيفة 17- استعداد الإسلام لقبول ثقافة غير إسلامية لا حدود له.
الشهادة الثانية
من مقدمة ترجمة القرآن للعلامة منني المستشرق
صحيفة 9- كان محمد صلى الله عليه وسلم أمينًا وأعدل رجل.
صحيفة 31- إن مرشد المسلمين هو القرآن وحده، والقرآن ليس بكتاب ديني
فقط، بل كتاب علم وآداب، وتجد فيه بيان الحياة السياسية والاجتماعية، حتى إنه
يرشد الإنسان إلى وظائفه اليومية، والأحكام الإسلامية التي لا توجد في القرآن
توجد في السنة، والتي لا تكون واضحة لا بالقرآن ولا بالسنة توجد في الفقه
الواسع الذي هو علم الحقوق.
صحيفة 36- إن العربي الذي أدرك خطايا المسيحية واليهودية، وقام بمهمة
لا تخلو من الخطر بين أقوام من المشركين يعبدون الأصنام يدعوهم إلى التوحيد
ويغرس في أفكارهم عقيدة أبدية الروح - لا يستحق أن يُعَدَّ بين صفوف رجال التاريخ
العظام فقط، بل يستحق أن يدعى نبيًّا [2] .
***
شكوى المنار إلى المنار، من أحد علماء مليبار
رسالة من زميلنا الأستاذ الفاضل المولى محمد عبد القادر المليباري الهندي.
إلى فضيلة السيد الإمام، حجة الإسلام، صاحب مجلة المنار بالقاهرة - أدامه
الله للمسلمين ذخرًا، وزاده شرفًا وقدرًا.
من أحد مريديه في الغيب، المستفيدين من فيوض قلمه المهتدين بنور مناره
محمد عبد القادر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
مولاي الجليل، أرجوكم أن تتفضلوا ببذل بضع دقائق من دقائقكم الثمينة
لسماع شكواي التي طالما كنت أردت أن أرفعها إلى فضيلتكم، ولم أتمكن منه إلا
الآن لما كان يتوارد عليَّ من نوائب الدهر.
أهم ما أشكوه وأبث حزني منه إلى فضيلتكم هو انقطاع المنار عني منذ ثلاث
سنوات، وحزني على هذا عظيم لأني صرت منذ انقطاعه عني كمن يعيش في
الظلام، لأن المنار كان لي منارًا بالمعنى الحقيقي.
كنت قارئًا للمنار تسع سنوات متوالية لكن لا على سبيل الاشتراك، بل
بمحض فضلكم ومنكم، ذلك أنه لما بلغني نبأ المنار حين كنت مباشرًا لعمل جريدتي
(المسلم) سنة (1334) بادرت إلى طلبه من إدارته، فلم تجبني، ثم أردفت
بطلب آخر مع خمس روبيات، ثم بآخر، هكذا كنت أوالي الطلب بعد الطلب إلى مدة
تزيد على ثمانية أشهر، ولم ألق من الإدارة إلا السكوت، وأخيرًا تفضل علي
المرحوم السيد صالح مخلص رضا بأجزاء من المنار مع كتاب قال فيه بعد الاعتذار
عن تأخر الإجابة (.. . إن شقيقي السيد محمد رشيد عندما قرأ كتابك الأخير
المؤرخ 21 ذي الحجة سنة 1331 استاء جدًّا، وأمر بإجابة الطلب، وأن يقدم
إليكم المنار لا على جهة الاشتراك، بل مبادلة أو مساعدة لمجلتكم فاقبلوا ذلك كرمًا
منكم، واحسبوا ما أرسلتم من ثمن ما تطلبونه في المستقبل من المطبوعات، وهو
يهديكم عاطر السلام) .
هكذا كنت منتظمًا في سلك قراء المنار، لا أستطيع أن أعبر عما أنا متلبس
به من الشكر على هذا الإحسان الجسيم، كما أني لا أستطيع الغفلة عنه ولو لحظة
في حياتي.
من أجلِّ نعم الله علي أن وفقني لأن أكون من قراء المنار إذ نفخ في روحًا
جديدةً جعلتني بصير القلب، وحيّ النفس، أنشأت لنشر مبادئ المنار مجلة باسم
(الإسلام) بلغة بلدي (اللغة الملبيارية) فلما رأى الناس ضوء المنار منعكسًا منها
استغربوه، وعلت من بينهم جلبة وضوضاء، ونسبوني إلى الزيغ والضلال
ونبزوني بلقب الوهابي، ولكن نور الحق لم يعدم قلوبًا تنزل فيها أشعته، فتنبهت
أفكار واستيقظت نفوس، وبالجملة فتح المنار في الديار المليبارية التي كانت
متصلبة في الجمود باب فكرة (الإصلاح الديني) ولكن الجماهير ممن انتسبوا إلى
العلم أخذوا يقاومون هذه الفكرة، ويمنعون الناس عن قراءة مجلتي ويحذرونهم
أيضًا من المنار، مع أنهم لم يكونوا حينئذ رأوه حتى ولا غلافه، وذلك لأنهم كانوا
قد أساءوا الاعتقاد فيه من قبل بسوء تأثير مؤلفات يوسف النبهاني [3] ، ولهذا لم
أنجح في سعيي لأن أجد أحدًا يرغب في الاشتراك فيه، فكنت أعير لبعض
أصدقائي الذين آنست فيهم سلامة الفطرة وحسن الاستعداد بعض أجزائه للقراءة،
رجاء أن يوفقهم الله للاقتداء بنوره، فلم أخب في رجائي ذلك، فإن الذين لم تفسد
فطرتهم في هذه البلاد قد أخذوا يعرفون قدر المنار ولو في الجملة؛ حتى ظهر من
بعضهم في الأيام الأخيرة رغبة في الاشتراك فيه فطلبوه بأنفسهم من إدارته كعبد
القادر بكننور، ومحمد سيدي، بكرانكنور بكوشي، ومحرر مجلة الإرشاد،
ومحرر جريدة يولوكم بكاليكوت؛ ولكن من غرائب الزمن أن صرت بعد ذلك
أستعير منهم أجزاءه بعدما كنت أعيرها لهم، ومما يوجب المسرة بالنسبة إلى المنار
أن أرى منهم الآن في الإعطاء ما كنت رأيته منهم من قبل في الأخذ من الكراهة؛
ولكن ذلك يؤلمني نظرًا إلى ما صرت إليه من الحالة في أمر المنار.
فالمرجو من فضيلنكم أن تتفضلواعلي بأن تأمروا إدارة المنار أن ترسل إلي
المنار تباعًا، وإنما انقطع عني من الجزء الثاني من المجلد السابع والعشرين؛
ولكن لا أرى من الصواب أن أسالكم أن ترسلوا إلي جميع ما صدر منه إلى الآن،
فسأطلبها مع تقديم الثمن عندما يتيسر لي ذلك؛ وإنما أرجو الآن أن ترسل لي من
الجزء الأول من المجلد الجاري (29) .
هذا وإني لأستحيي أن أسألكم أن تواصلوا علي ذلك الكرم الذي غمرتموني به
تسع سنوات، ولهذا فإني مستعد لأن أدفع إليكم مبلغًا ترضونه لي ثمنًا للمنار، أو
كله على ما أنا عليه من ضيق اليد، وعلى كل حال فإني واثق بأني لا أكون
محرومًا من قراءة المنار؛ فإن حب المنار قد امتزج بدمي، وصارت قراءته قوت
روحي، حتى لا أستطيع فراقه، ولا يطيب لي العيش بدونه، ولولا أنه يأتي
لأصدقائي المذكورين وتمكنت من استعارة أجزاء منه منهم أحيانًا لضقت ذرعًا.
أود أن أفيدكم - للنشر في المنار- بيانات عما أحدث المنار في المليبار من
الشعور بالحاجة إلى الإصلاح الديني، وما يجري فيها من السعي وراء ذلك
الإصلاح، ومن المقاومة له ممن يُعرفون بعلماء الدين بادعائهم أنه (الوهابية) وما
قد حدث في هذه الأيام من قيام فريق يرأسه شاب عاد من مصر قبل سنة بعد أن
أقام بين المتفرنجين فيها مدة بالطعن في الإمام ابن سعود وأنصاره وقومه الذين
يُعرفون بالوهابيين انتصارًا للأخوين محمد علي وشوكت علي وسأرسل إلى
فضليتكم هذه البيانات بصورة مقالة إن شاء الله اهـ.
(المنار)
إننا نحيي أخانا وزميلنا بأحسن من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته
ونعمته، وسيُطبع عنوانه المرسل باللغة الإنكليزية ويُرسل إليه المنارهدية دائمة،
مع المجلدات الثلاثة التي فقدها تامة، لا نطلب منه جزاء ولا شكرًا عليها إلا نشر
دعوة الحق وجهاد الباطل وأهله، والله في عونه ونصره، كما نصرنا على الدجالين
ونصر إمام السنة عبد العزيز آل سعود وقومه على الباغين، ومكَّن له في خير
الأرض ومهد الإسلام، وأنطق بالثناء عليه جميع الأقوام.
_________
(1)
أرسل إلينا شذرات الشهادات الآتية صديقنا الدكتور زكي كرام الدمشقي المقيم في (برلين) ووعد بترجمة غيرها من كتب علماء أوربة من كل شعب منهم على ضيق وقته، واشتغاله بالعلم والمعاش، فنشكر له جهاده واجتهاده، وما قصد به من تبكيت المبشرين وأعوانهم من ملاحدة المسلمين عبيد المستعمرين وخدمهم وأعداء أمتهم ووطنهم.
(2)
المنار: إن بعض المستشرقين وغيرهم من علماء أوربة الذين اطلعوا على تاريخ الإسلام لم يروا ملتحدًا ولا مفرًّا من الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع حفظ كرامتهم العلمية إلا وصفه بأنه من الرجال العظام، وأما هذا العلامة المنصف فقد أبي عليه استقلاله واحترامه للعمل والحق إلا أن يقول لهم: إنه ليس عظيمًا فقط بل هو نبي أيضًا.
(3)
هو الدجال الخرافي الشاعر البيروتي، وكان استأجره رجل كبير بمصر للطعن في الأستاذ الإمام وخطته فلم يجد بدًّا من الطعن في أستاذه الحكيم السيد الأفغاني ومريده صاحب المنار؛ لأن الإصلاح الذي يعاديه قام بهم وكان قبل ذلك يطري الأستاذ الإمام قولاً وكتابة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ميزانية الأزهر
وافق مجلس الأزهر الأعلى برئاسة حضرة صاحب الفضلية الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر في اجتماعه بعد ظهر يوم
الثلاثاء 29 شوال الموافق 9 إبريل سنة 1929 على مشروع ميزانية الأزهر عن
السنة المالية المقبلة.
وقد قُدِّرت الإيرادات والمصروفات بنحو 320.000 جنيه، وهي تتضمن
المشروعات الجديدة التالية:
1-
7000 جنيه لإرسال بعثة أزهرية مؤلفة من عشرين طالبًا إلى الجامعات
الأوربية لتلقي العلوم التي تناسب التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية.
2-
6000 جنيه لإنشاء مكتبة لتعريب الكتب التي لها ارتباط بالتعليم بالأزهر
والمعاهد الدينية، وإنشاء مجلة دينية تدعو الناس إلى الدين، وتحببه إلى نفوسهم
بنشر فضائله وإذاعة محاسنه وتمكين عقائده من القلوب؛ حتى لا تزعزعها
الشبهات العصرية ومقاومة دعوة الملحدين ودفع أضاليلهم.
3-
زيادة 2500 جنيه على الاعتماد الخاص بمكافأة أعضاء امتحان الشهادات
لتكون متفقة مع المكافآت التي تمنح لأمثالهم بوزارة المعارف.
4-
500 جنيه تمنح جوائز لتأليف كتب في العلوم التي تدرس بالأزهر
والمعاهد الدينية وتتقرر فائدتها للتعليم بهذه المعاهد.
5-
500 جنيه ثمن أدوات وعقاقير للعيادات الطبية الصغيرة التي ستنشأ
بالمعاهد وانتداب الأطباء اللازمين لها.
6-
5500 جنيه لاستئجار أماكن صحية لطلاب القسمين العالي والأولي
بالأزهر، وهم الذين يتلقون دروسهم بالمساجد على الطريقة القديمة، ولتجهيز هذه
الأماكن بالأدوات الحديثة.
7-
رفع مرتبات هيئة كبار العلماء من 36 جنيهًا في الشهر إلى 40 جنيهًا
في الشهر.
8-
جعل درجات العلماء المدرسين بالمعاهد ثلاث درجات: خامسة وسادسة
وسابعة، أسوة بدرجات مدرسي المدارس الأميرية التابعة لوزارة المعارف.
9-
ضم مصروفات قسم الوعظ والإرشاد إلى مصروفات قسم التخصص
العالي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحالة السياسية العامة في مصر
بيان حر للعبرة والحقيقة والتاريخ
منذ سنة كاملة حدث في مصر انقلاب في شكل الحكومة، إذ اقتضت إرادة
جلالة الملك تعطيل مجلسي النواب والشيوخ (البرلمان) إلى مدة ثلاث سنين،
ووقف العمل ببعض مواد الدستور التي تقيد الحكومة بالمجلس، وتتعذر مراعاتها
بدونه. واقتضى ذلك إقالة أو إسقاط وزارة مصطفى باشا النحاس البرلمانية، وهو
رئيس الوفد المصري ذو الأغلبية في البرلمان، ونوط رياسة الوزارة بمحمد محمود
باشا سليمان الذي كان وكيل الحزب الحر الدستوري ثم صار رئيسه، وكان ذلك
عاقبة اضطراب في أعمال الوزارة البرلمانية بتدخل السلطة البريطانية المحتلة في
شؤونها، ووضعها العواثير في طريق كل عمل من أعمالمها، ومحاولة السيطرة
على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية فيها، وتهديد الجرائد الإنكليزية لها من
بعد وفاة سعد باشا زغلول ورفض الحكومة الوفدية للمشروع المخزي الذي اتفق
عليه عبد الخالق ثروت باشا مع وزارة المحافظين البريطانية، وهو شر من الحماية
السابقة بما كان يجعل به سلطان الإنكليز في مصر والسودان شرعيًّا بإقرار برلمان
الأمة له.
كانت الوزارة البرلمانية من أول عهد دورتها الجديدة بعد تعطيل الدورة
السابقة بضغط السلطة المحتلة - وزارة ائتلافية تتمثل فيها قوى الأحزاب المصرية
كلها، وكان سعد باشا هو الضليع بجمع كلمتها وحفظ وحدتها في البرلمان والحكومة
معًا، بما آتاه الله تعالى من النفوذ الأعلى في البلاد المؤيد بالبصيرة والذكاء والعزم
والحزم وقوة العارضة، بعد أن ألانت قناته أحداث الزمان، حتى خضعت له
الأقران التي كانت تنافسه في الزعامة، واعترفت له بالتفوق والإمامة.
وقد كان من المقرر لدى جميع العارفين بحال مصر من أهلها ومن الأجانب
عامة، والإنكليز خاصة أنه لا يوجد في مصر رجل ذو مكانة عالية يمكن أن يملأ
الفراغ الذي حدث بموت سعد باشا، وصرَّح بذلك كبار محرري الجرائد الإنكليزية
كغيرهم، وظهر مصداقه بعد وفاته بقليل، فكان أول صدع حدث بعده في البرلمان
أن الأحزاب المنافسة للوفد صارت تنقم منهم أثرته في مجلس النواب، ثم تصرف
أعضائه في الحكومة، ونقم كثير من جماعات الأمة وأهل الرأي من أفرادها أثرة
القبط فيهما معًا (أي في المجلس والحكومة) فقد أسرفوا في ذلك حتى كادوا
يكونون - أو كانوا - كحزب البرامكة من موالي الفرس في حكومة الرشيد العباسية:
أخذوا من الوظائف فيهما أضعاف ما يناسب عددهم القليل وظلوا يطلبون المزيد،
وقد عجز خليفة سعد في الوفد عن القيام ببعض ما كان مضطلعًا به سعد من حفظ
الوحدة ومنع الشطط؛ لأنه على ما أوتي من علم بالحقوق واعتدال في الأخلاق،
وصدق في الوطنية، وما نعتقد فيه مع الجمهور من حسن النية - لم يؤت بعض ما
أوتي سعد من قوة الإرادة، وسحر البيان، وقوة السلطان.
هذا الضعف هو الذي أطمع السلطة المحتلة في إسقاط الوفد بعد اليأس من
تطويعه ونيل أربهم من مصر به، وزاد في طمعهم شقاق الأحزاب له، ولعله لو
قلد محمد محمود باشا رئاسة مجلس الوزراء، وقنع مصطفى باشا النحاس برئاسة
مجلس النواب لأمكنهما بالتعاون أن يحفظا تلك الوحدة التي كان سعد باشا يحرص
على بقائها حتى إنه ليفتديها بكل ما يراه معارضًا لها من آرائه ومقاصده، فإن محمد
محمود - فيما نرى - أقوى رجال مصر عزمًا، وأمضاهم إرادة بعد سعد وثروت،
ولقوة الإرادة في هذه المواقف ما ليس لغيرها من صفات الرجولية وقوة التأثير
وإمضاء الأمور.
لا يرجى ثبات أمر من أمور الأمم العامة يتوقف إتمامه على كفاية رجل واحد
إلا إذا عاش ذلك الواحد عمرًا طويلاً أمكنه فيه أن يربي جماعة يقرب استعدادهم
من استعداده، فيتمّوا ما بدأه بالتعاون والثبات، حتى إن الأمور العامة التي يكون
مبدؤها من الاختصاص الرباني لا من الكسب الإنساني (كالدين) تدخل في عموم
هذه السنة الإلهية في الاجتماع البشري، فلولا الخلفاء الراشدون وأعوانهم من
عظماء الصحابة رضي الله عنهم الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم في مدة
عشرين سنة لضاع الإسلام كما ضاعت أديان أخرى من أديان الأنبياء المرسلين
الذين لم يستطع أصحابهم ضبط ما جاءوا به من الوحي وحفظه في الصدور
والسطور، ونشره في الصحف والدعوة في أنحاء المعمور، كما حفظ أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم القرآن في المصاحف الرسمية، وضبط التابعون لهم
السنة النبوية، ونشر ذلك في العالم مؤيدًا بقوة البرهان وقوة السلطان، وإقامة
الميزان.
ولقد كان بدء هذه النهضة المصرية السياسية المدنية والعلمية والعملية دعوة
السيد جمال الدين الأفغاني؛ ولكنه نُفي من البلاد قبل أن يُتم تربية حزبه الوطني،
ونُفي من بعده زعيم أصحابه الشيخ محمد عبده الذي قال هو يوم نفيه أنه هو الذي
يتم عمله في مصر، واستولى على البلاد الأجانب، فلما عاد الشيخ محمد عبده لم
يجد أدنى منفذ للعمل السياسي لضعف حزبه، وضعف الأمة أو عدم تمام تكوينها
ووحدتها، وقد كان يقول في هذا الأمر (يا ويح الرجل الذي ليس له أمة) وقال لي
في الأمر الذي قبله: (والله لو أن في مصر مائة رجل لما أمكن للإنكليز أن يُقيموا
فيها) أو لما أمكن أن يعملوا فيها ما أقاموا عملاً، لا أعني أنه لا يوجد فيها من يعلم
ما يجب أن يعمل، ولا من يستطيع أن يعمل، فإن فيها كثيرًا من المتعلمين
القادرين على الأعمال؛ ولكنهم ضعفاء الإرادة لا عزيمة لهم، وقد أظهرت الأيام
من بعده صحة قوليه، ولهذا انصرف بكل جهده إلى الشق الثاني من الإصلاح الذي
كان نهض مع السيد جمال الدين به، وهو الإصلاح العلمي الديني، وقال في الشق
الآخر، بل كتب ما نصه:
(أما أمر الحكومة فقد تركته للقَدَر يُقَدِّره، ولِيد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد
عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال،
فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن) .
صدق الإمام في قوله؛ فإنه مقتبس من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد قدَّر سبحانه للشعب المصري
أن يغير ما كان عليه من التفرق والانقسام، والخنوع الذي يشبه التعبد للحكام،
وظهر في جمهور دهمائه مبدأ الوحدة التي تسمى بالرأي العام، وإنما كان هذا
بتأثير أحداث الزمان، وشطط رجال الاحتلال وإسرافهم في احتقار المصريين،
وسوء استعمالهم للسلطة العسكرية العرفية في زمن الحرب، وعدم وقوفهم في
إرهاف الحد عند حد، كما شرحناه في مقالنا التاريخي عن القضية المصرية سنة
1921 (ص496-522 ج7 مجلد22) فبذلك الإرهاف تم تكوين الشعور القومي
الوطني في الشعب المصري، وظهر ظهورًا جليًّا في ثورة سنة1919، وهو ما
كان ينوط به الأستاذ الإمام العمل السياسي المنتج لمصر، ولما كان هذا الطور
الجديد لابد له من زعيم سياسي قد أوتي من المواهب ما يمكنه به أن يوجهه إلى
السعي لاستقلال البلاد - لم يوجد في مصر من قدر على ذلك إلا بقية أعضاء حزب
السيد جمال الدين السياسي وربيب خليفته الأستاذ الإمام وهو سعد زغلول.
ولكن سعد كان شيخًا كبيرًا لم يرب أحدًا على الغرار- أو المبدأ - الذي
وضعه السيد جمال الدين قبل نيل هذه الزعامة؛ لأن القضاء كان قد شغله عن
التربية الأخلاقية والسياسية، ولا بعدها لقصر الوقت وكثرة الشواغل العملية عن
هذه التربية، ولكن آراءه ومنازعه الاستقلالية وسيرته في الجهاد دونها قد تمكنت
في أنفس كثير من رجال الوفد الذين جاهدوا معه وثبتوا على الجهاد والجلاد
فاستطاعت الثلة الإدارية له أن تحافظ على اتحاد الكثرة الساحقة في مجلسي الشيوخ
والنواب، وعلى تأييد السواد الأعظم من الأمة له.
فلما رأى المندوب السامي البريطاني هذا ناجز الحكومة المصرية العداء في
كل من هيئتها التشريعية والتنفيذية، وقعد لها كل مرصد، وشرع يعاقبها على كل
قول وفعل، ولا سيما تبرمها باستبداده، وحكومة لوندرة وهي بيد حزب المحافظين
تؤيده في كل ما يقرره، وتجيبه إلى كل ما يطلبه، حتى أرسلت بطلبه أسطولاً
ضخمًا إلى الإسكندرية لتأييد معارضته في مسألة داخلية صغيرة لا تدخل في معنى
التحفظات الأربعة التي قيدوا بها الاستقلال المصري بنص ولا فحوى، ولا يمكن
أن يُستدل بها عليها بطريق من طرق الدلالة الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام.
فثبت بهذا أن الحكومة البريطانية تريد أن تسخر الحكومة المصرية لمشيئتها
بالقوة القاهرة، إن لم تذل وتستخْذِ لإدارة مندوبها السامي وتنفذ أوامره الشفوية
والتليفونية بدون أدنى معارضة من البرلمان وغيره، فهو قد عارض البرلمان في
وضع بعض القوانين وتقرير بعض الإصلاحات الداخلية، كقانون الجمعيات
والإصلاحات العسكرية، وأكره الحكومة على إعادة من شاء من موظفي الإنكليز
الذين خرجوا منها بمقتضى قانون التعويضات الذي غُبنت به مصر غبنًا فظيعًا،
فعاد من شاء منهم بعدما أخذوه من ألوف الجنيهات تعويضًا عما بقي لهم من سني
الخدمة، إلى غير ذلك مما ليس إحصاؤه من موضوع مقالنا هذا، وهو من
الجزئيات التي نعنى بمعناها الكلي دون أفرادها.
لم يتجرأ اللورد جورج لويد المندوب السامي على هذا الاستبداد كله إلا لما
ثبت عنده وعند حكومته من زوال الوحدة المصرية السعدية التي ألجأت دولتهم إلى
إلغاء الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال التام، ولو مع تلك التحفظات التي كان
ينكرها سعد باشا والرأي العام، ولم يكن لمصر من سبيل إلى وقف هذا التعدي عند
حده إلا المحافظة على تلك الوحدة في البرلمان والحكومة، فكان أكبر ما خسرت
بموت سعد أنه لم يوجد له خلف يستطيع أن يحل محله في جمع الكلمة كما قلنا،
ولم تكن وطنية زعماء الأحزاب قد ارتقت بهم إلى حيث يحلون النظام محل نفوذ
ذلك الزعيم الكبير، فيؤيدون خليفته في المصلحة العامة، ويتسامحون فيما ينكرون
من أنانية الوفد، ويُحكِّمون فيما يختلفون فيه معه ما يقضي به الشرع والعقل،
فاشتعلت نار الخلاف الحزبية في البرلمان، وانصدعت وحدة الحكومة باستقالة
بعض الوزراء، واندلعت ألسنة الكتاب والخطباء بالهُجر والبذاء، وشُرِّعت أسنة
الأقلام في ميادين الجرائد للطعن الهراء، والإفك والافتراء، فأحبط كبراء الأمة
أفضل ما كانوا قد عملوا فكان هباء منثورًا، وهذا هو الذي أطمع المحتلين فيهم،
فعادوا إلى شر ما كانوا عليه من العبث بهم، ويتعذر على المؤرخ المنصف حصر
التبعة في حزب أو شخص منهم.
وفي تلك الأثناء أثيرت شبهات في قضية الأمير سيف الدين، وما كان من
دفاع مصطفى النحاس باشا وغيره من كبار رجال الوفد عنه بالوكالة، إذ كانوا من
المحامين، وذلك قبل تقلد النحاس منصب رياسة الوزراء، فأسرفت الجرائد
المناصبة للوفد في الطعن على رئيسه ورفاقه المحامين برميهم بالطمع واستخدام
مناصبهم ونفوذهم في الحكومة والمجلس لتوفير منافعهم وتحقيق مطامعهم.
في أثناء هذه الزعازع صدرت إرادة جلالة الملك بما بدأنا بذكره في هذا
المقال من إقالة الوزارة المصطفوية البرلمانية، وتعطيل البرلمان، وإسناد منصب
الرياسة إلى محمد باشا محمود سليمان، فأراد إشراك بعض رجال الوفد في تأليف
وزارته فأبوا كل الإباء، فألَّف الوزارة من رجال حزبه، وأعلن أن عناية وزارته
ستتوجه إلى الإصلاحات الإدارية من زراعية وصحية وغيرها، دون الأعمال
السياسية التي استغرقت أوقات الوزارات السابقة كلها، وأن تراعي مقاصد الدستور
وأغراضه بقدر الإمكان حتى في أحكامه التي قضت الإرادة الملكية بوقفها.
كان وقع هذا الانقلاب في الأمة أشد من وقع الصاعقة، إذ ظهر لها أن
الحكومة الدستورية النيابية التي كانت كل ما ربحته من جهادها الطويل، ومن
ثورتها الدموية منذ عشر سنين، لم تكن إلا سرابًا خادعًا ليس له ثبات في الداخل،
فيحترمه الأجنبي من الخارج، ولولا الاحتلال الأجنبي لثارت له ثورة لا تنطفئ
جذوتها إلا بإعادة سلطانه وتوطيد أركانه وزيادة حقوقها فيه، ولكن لا يجهل أحد من
أهل الطبقات العليا ولا الوسطى أن الإنكليز يفترصون هذه الثورة لزيادة جيش
الاحتلال، والسيطرة العسكرية على البلاد، بحجة المحافظة على أموال الأجانب
وأنفسهم وتأمين ديونهم.
وكان الأكثرون من الناس يظنون أن وزارة محمد باشا محمود تعجز عن إدارة
أمور البلاد، والسواد الأعظم على ما يعلمون من السخط عليها والأسف على
دستورها، فبدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون، من إرادة نافذة، وعزيمة ماضية،
وحزم (كالمبنيات في النحو) يعمل ولا تؤثر فيه العوامل، فكان كأحد الرجال الذين
سادوا أقوامهم وأخذوا حكوماتهم من رق رقبتها، فجعلوا إدارتها رهن إرادتهم،
وتصرفوا فيها كما يتصرفون في بيوتهم ورقبة أرضهم، حتى صار يلقب في
الجرائد الأوروبية بالدكتاتور كموسوليني ودريفيرا ومصطفى كمال.
ألجم الجرائد بعد أن عاقب بعضها بالنذر فالتعطيل الإداري، ومنع اجتماعات
التظاهر والاحتجاج على الحكومة، حتى اجتماع أعضاء الوفد وأعضاء البرلمان،
واستبدل بها الاجتماعات لتأييده والهتاف له بنفوذ الحكومة، وطفق حزبه (الحر
الدستوري) يعقد الاجتماعات في العاصمة وسائر المدن لإنشاء لجان جديدة له تمهيدًا
لانتخابات البرلمان الآتية بعد تعميمها، إذا اقتضت الحال إعادتها مع الثقة بفشل
الوفد فيها.
فالوفد هو الخصم السياسي للحزب الحر الدستوري، فلا يرجى له نجاح
في أي انتخاب ما دام الوفد هو صاحب النفوذ في البلاد، وكذلك الحزب الوطني
وحزب العهد، ومن المعلوم بالضرورة أن الوفد هو الخصم الألد للإنكليز، وأنهم لا
يرجون أن ينالوا من مصر ما يؤملون ما دام للوفد الأغلبية في البرلمان، ومن
المشهور أيضًا أن الوفد لم يُوفق لنيل العطف الملكي الذي لم يكن له بد منه.
ومما يجب أن يذكر ولا ينسى أن حكومة مصر آلة منظمة ذات سلطان على
الشعب يمكن لكل من تولى أمرها بالحزم أن يخضعه لإرادته وتصرفه، وأن
الشعور القومي في الشعب لم يرتق إلى الدرجة التي تضطر الحكومة إلى مراعاته،
وليس من موضوع هذا المقال شرح ذلك وبيان شروطه وأسبابه، وقد أشرنا إلى
بعضها فيه، وإنما ذكرناه لنقول: إن من فضل الله تعالى علينا في هذا البلد الآمن
المطمئن أن تكون القوة المسلحة التي تعتمد عليها الحكومة في حفظ الأمن وتنفيذ
الأحكام خاضعة لرؤسائها خضوعًا تامًّا لا تدخله السياسة ولا آراء الأحزاب، ومن
فضل الله علينا أيضًا أن كان مستخدمو الحكومة في جميع الوزارات خاضعين
لرؤسائهم كالشرطة والشحنة وإن خالفوهم في العقيدة السياسية، وبهذا وما قبله نقيم
الحجة على الأجانب بقدرتنا على إدارة شؤوننا بأنفسنا، وإنما الطريقة الأمينة
لإيقاف الحكومة عند إرادة الأمة هي جعلها شورى بالدستور.
قد سبق لنا بيان كنه سياسة الوفد، وكنه سياسة حزب الأحرار الدستوريين
في مقالنا التاريخي الممتع الذي أشرنا إليه آنفًا، كما بيَّنا فيه مزايا كل من سعد باشا
وعدلي باشا موزونين بالقسطاس المستقيم، في وقت كان فيه كل حزب يذم زعيم
الحزب الآخر منهما ويضعه في أسفل سافلين.
وقد ذكرنا في سياق هذا المقال بعض مزايا صاحبي الدولة مصطفى باشا
النحاس، ومحمد باشا محمود سليمان، وأما الموازنة بينهما فالحكم بالحق فيها أن
كلاًّ منهما وطني صميم؛ ولكن الأول رجل قضاء، والثاني رجل إدارة، وكل
منهما يصطنع رجال حزبه والمواتين له في حكومته كدأب من قبلهما، وإنما
يختلفان في السياسة بحسب اختلاف حزبيهما، فسياسة الوفد قائمة بمناصبة الإنكليز
بقوة الأمة إلى أن تنال حقها تامًّا كاملاً، وسياسة الأحرار الدستوريين قائمة
باستمالتهم، وفي كل من السياستين خطر على البلاد، فمناصبة الضعيف للقوي
تنتهي دائمًا أو غالبًا بفلج القوي وربحه وخسارة الضعيف، وكذلك استمالة الضعيف
الخاشع للقوي الطامع لا تزيد القوي إلا طمعًا وجشعًا، وإنما الأنفع للبلاد أن يتعاونا
ويتحدا ولو في الباطن، ويرتقبا الفرص للانتفاع بهذا التعاون، كما فعلوا في فرصة
الائتلاف الأخيرة التي كان لمحمد محمود باشا اليد البيضاء فيها.
فإذا عجز الآن أن يعيدها سيرتها الأولى، فالذي أراه أن من الجناية على
الأمة أن يستخدم قوى الحكومة في إضعاف الوفد؛ فإن الوفد هو الأمة فإذا ضعفت
عجز هو وغيره عن إدراك ما تطلبه من الاستقلال المطلق، بل عجز عن حفظ ما
نالته بالفعل من الاستقلال الإداري كما عجز مَنْ قبله، وهو يعلم أن زميله في
الحزب وسلفه في الوزارة الدستورية عبد الخالق ثروت باشا ما نال في عاقبة الثورة
الوطنية التصريح المعهود بإلغاء الحماية البريطانية الشؤمى على مصر، والاعتراف
لها بالاستقلال التام المقيد بتلك التحفظات التي انتقصته من جميع أطرافه - إلا بسبب
قوة الوفد ووحدة الأمة بزعامة سعد، كما صرحت بذلك الجرائد الإنكليزية حتى
التيمس في تأبينها لسعد، وقد رأينا ذلك الخزي العظيم الذي رضي به ثروت بعد موت
سعد، وكان الفضل الأكبر في رفضه للوفد.
ولا يخفى عليه أيضًا أن ما يظهره رجال الإنكليز من الرضا عنه والثقة به،
وما ينشرونه من الثناء عليه والإشادة بأعمال وزارته لا يزيده عند السواد الأعظم
من الأمة ثقة ولا حبًّا، بل هو من قبيل تعظيم الحسان للرجل بتسميته والدًا لهن أو
عمًّا.
وإذا دعوك عمهن فإنه
…
نسب يزيدك عندهن خبالا
على أن أهل البصيرة والرأي من المصريين وغيرهم يعلمون أن ثقة كبار
الرجال من الإنكليز برجل من غيرهم ذات قيمة عظيمة، إذا يمكن أن تكون رأس
مال كبير في السياسة لمن يقدر على استغلالها عند سنوح الفرصة لها، وقد ذكرت
للأستاذ الإمام مرة طعن المؤيد واللواء على مصطفى فهمي باشا واشتهاره بين
الوطنيين بالإخلاص للإنكليز والخيانة لوطنه، فقال ما معناه: إن هذا الرجل مهذب
الأخلاق، نزيه النفس، محب لوطنه، ولعله لا يوجد أحد من العارفين يُنكر نزاهته
وترفعه عن الرشوة والتجارة بمصالح الحكومة؛ ولكن عيبه الكبير هو ضعف
الإرادة مع اعتقاده أن الإنكليز قد استولوا على هذه البلاد بضرب من ضروب الفتح
السياسي العصري، والإنكليز يجلونه ويثقون به، فلولا ضعف إرادته لأمكنه أن
ينفع البلاد بهذه الثقة نفعًا عظيمًا في أمور كثيرة جليلة، فهم لا يكادون يخالفونه في
شيء يقترحه عليهم؛ ولكنه هو لا يدري هذا ولا يدرك كنهه، فهو كما يقول العوام
في الولي الذي لا يعرف نفسه.
وأقول: إن لمحمد محمود باشا عندهم الآن مثل تلك المنزلة أو أعظم؛ ولكنه
يدرك كنه هذا، وهو على إدراكه له قوي الإرادة، واسع الحيلة، وقد يعلم من
حوادث الزمان وقواعد الحقوق وسنن العمران أن مصر لم تصر مستعمرة بريطانية،
ولا مما يسمونه أملاك التاج، ولعل الفرصة قد سنحت له بوزارة العمال
البريطانية الجديدة لخدمة وطنه أجلّ خدمة، فإن ما تتسامح به الدولة البريطانية مع
صديق لها موروث، وربيب لمدارسها شكور، لا تتسامح به مع غيره، كما علمنا
من إعراض وزارة العمال الأولى عن سعد باشا بعد تواده مع رئيسها وبعض رجالها
قبل تسنمها غارب الوزارة لما هو معروف من عناد الإنكليز وكبريائهم.
وهي إن تسامحت معه، فلن تتسامح معه إكرامًا لخاطره، ولا مكافأة له على
صداقته، بل لأجل حل عقدة المسألة المصرية بما يرجى أن يرضي الشعب المصري
من غير طريق الوفد المعروف بمناوأة الدولة البريطانية، وما لا يُرضي الشعب
المصري لن يتم إذ لا يمكن أن يكون اتفاقًا قانونيًّا يرضى به الشعب البريطاني، إذن
لا يمكن الاتفاق القانوني بين الدولتين إلا إذا أُعيد البرلمان المصري ووافق على
مشروع الاتفاق بما يصير به قانونيًّا، وكيف يكون ذلك؟
الوفد يرى أن البرلمان قائم، وأن تعطيله غير قانوني، والوزارة وحزبها
يريان أن تعطيله صحيح، وأن سببه أنه كان ضارًّا بالبلاد مضيعًا لمصالحها؛ لأن
أكثر أعضائه لم يكونوا إلا أرقامًا يتم بها العدد القانوني للأعضاء الذين لا رأي لهم
ولا إرادة مع أركان الوفد، والمشهور على ألسنة العارفين المعتدلين أن الوفد
يرضى بإعادة الانتخاب إذا كان قانونيًّا حرًّا لا تبذل الحكومة نفوذها وأموالها للعبث
به كما فعل إسماعيل صدقي وزير الداخلية في وزارة زيور باشا سنة 1925، بل
يقول الكثيرون إن الفلج مضمون للوفد في الانتخاب مهما تفعل الحكومة، وقد يصح
هذا إذ لم يأت محمد محمود بما يرضي الأمة، والأمة لا تجهل مصلحتها، ولا تكفر
صنع من أحسن إليها.
وقد آن لي أن أصرح هنا برأيي في البرلمان الأخير الذي هو رأي جميع أهل
البصيرة في الدين؛ إيضاحًا لكلمتي التي جاءت عرضًا في فاتحة المجلد الثلاثين من
الجزء الماضي (الأول) فأقول: إنه كان شرًّا مما يقول فيه كتاب الأحرار
الدستوريين؛ وإنما تختلف في هذا وجهة النظر بيننا وبينهم، فهم إنما يذمون أكثر
الأعضاء بانقيادهم للوفد، فذمهم موجه للأكثرية الوفدية لأنها وفدية، ونحن أنصار
الدين إنما نذم ملاحدتهم اعتقادًا أو تقليدًا، وهم أمشاج من الدستوريين والوفديين،
فالحق أن المجلس السابق كان يغلب فيه نفوذ الملاحدة كما علم من مسألة رد اقتراح
مَن اقترح إيقاف الجلسة عدة دقائق لأداء صلاة المغرب، وتأييد من جاهر منهم
بأنهم لا يريدون الصلاة، وكما علم من طعن أحدهم في كتاب الله وصرَّح بتحقيره
في المجلس، ولم يَرُد على هذا الجهر بالكفر والارتداد عن الإسلام أحد، وكما ظهر
في مناقشاتهم في قضية الدكتور طه حسين من الدفاع عنه بعد تصريحه بالطعن في
القرآن، وفي مسالة الخلافة وغيرها من احتقار العلماء والطعن فيهم.
فأهل الدين يعلمون أن الحكومة الدستورية أقرب إلى الإسلام من الحكومة
الشخصية الاستبدادية، بشرط أن لا يكون نوابها من الملاحدة الذين يحاولون هدم
الدين الذي تُهدم بهدمه الفضيلة، وتُباح الأعراض، وتُستحل المحرمات، وتَهلك
الأمة بفساد أخلاقها، فلا أعاد الله ذلك المجلس، وعلى جميع أهل الدين إذا أُعيد
الانتخاب لمجلس آخر أن لا ينتخبوا أحدًا من هؤلاء الملاحدة المفسدين من أي
طائفة كانوا.
_________
الكاتب: إيراني كبير
تطور الإصلاح في الحجاز
حديث إيراني كبير عن الحجاز
جاء في جريدة العهد الجديد البيروتية الغرَّاء تحت هذا العنوان ما نصه:
تمهيد: بعد انقلاب الحجاز الخطير الذي أدى إلى سقوط الدولة الهاشمية،
وتبوأ صاحب الجلالة الملك ابن سعود عرش الحجاز - كانت حكومة إيران قد قطعت
علاقاتها مع ابن سعود تحت تأثير الدعايات المؤلفة التي قام بها فريق من الرجعيين
ساءهم ما يشاهدونه في الحجاز من إصلاح وتقدم، فعملوا على تنفير القلوب،
وإيغار الصدور بين العرب والفرس.
علم أن صاحب الجلالة ملك إيران رضا خان بهلوي أدرك أخيرًا سوء نية
المفسدين، وأن ما أشاعوه فأقلقوا باله به لا يستند إلى ركن صحيح، فحسن ظنه
بحكومة الحجاز، وسمح لرعاياه بحج بيت الله الحرام في هذا العام، كما أنه أرسل
إلى مكة المكرمة ممثلاً سياسيًّا لدولته هو الميرزا حبيب الله خان عين الملك معتمده
السابق في بيروت.
وكان بين حجاج هذا العام حضرة الميرزا إقبال شاه أزاد خان نائب مقاطعة
شيروان في المجلس النيابي الإيراني، وقد وصل أمس إلى الثغر قادمًا من مكة،
ونزل في الفندق العربي، فأوفدنا أحد محرري (العهد) لمقابلته واستطلاع ما
أحدثته في نفسه زيارة الحجاز، فوافانا بما يلي:
كانت الساعة الرابعة بعد ظهر أمس الأول حينما قابلت حضرة النائب إقبال
خان، هو في أواسط العقد الرابع من عمره، طويل القامة، معتدل الجسم، أسمر
الوجه حليقه، يتكلم التركية والإفرنسية ما عدا لغته فحييته باسم العهد، وسألته أن
يتفضل ببيان ما أحدثته في نفسه زيارته للأراضي الإسلامية المقدسة، فقال سعادته:
انتدبني مجلس الأمة الإيراني بصفة خاصة لدرس حالة الحجاز، وما قيل عن
تلاعب الحكومة بالأماكن المقدسة، فقمت بمهمتي هذه دون أن أشعر الحكومة، وقد
دلني البحث الدقيق الذي قمت به بنفسي أن الحكومة السعودية وجلالة الملك شديدا
التمسك بالدين الإسلامي ونصوصه لا يدخران وسعًا في سبيل المحافظة على
المخلفات الإسلامية [1] ، وأن ما رأيته في الحجاز من وسائل الإصلاح ومن العناية
التامة براحة الحجاج والمحافظة على صحتهم وسلامتهم لم أر مثله في البلاد التي
سبقنها مراحل في ميدان المدنية.
وقد كان بعض المصادر المعادي لابن سعود يحاول إيهام الناس بأن الأمن
مختل في الحجاز صرفًا لهم عن الحج، وإذا الأمر خلاف ذلك تمامًا.
وإليك حادثة جرت لي تثبت مبلغ استتباب الأمن في الربوع العربية الحجازية،
فقد أضعت محفظة بين مكة وعرفة، وبالرغم من أنها تحوي مبلغًا كبيرًا من المال فإن
أحد الحجازيين وجدها، وأرسلها إلى الحكومة، وهذه أعادتها إلي دون أن تنقص منها
بارة واحدة، وهذا ما لا يمكن أن تشهد مثله في أعظم البلاد رقيًّا.
تقرير مندوب النواب الإيراني:
- هل أتمكن من معرفة التقرير الذي ستقدمه إلى البرلمان الإيراني؟
- تقريري لا يخرج عن حد إفهام زملائي حقيقة الوهابية، وبيان فساد الشوائع
التي كانت مثارًا لشعور الإيرانيين، ويمكنني أن أؤكد لكم بأنني سأكتبه بأمانة
وصدق وتجرد.
- أليس لكم ما تنتقدونه على الحكومة الحاضرة؟
- بالعكس، إني محبذ كل الإجراءات التي قامت بها حكومة صاحب الجلالة الملك ابن سعود.
- وهل يتضمن تقريركم بحث حالة الحجاز من الوجهة السياسية؟
- كلا، وإنما سأقتصر فيه على الوجهة الاقتصادية، فقد تبين لي أن الحكومة
الحاضرة تريد أن تقوم ببعض المشاريع الاقتصادية والعمرانية والزراعية، ولكن
ينقصها بعض المال للقيام بها، وهي لا تريد أن تستمد حاجتها من رؤوس الأموال
الأجنبية؛ لأنها تعتقد أن ذلك يؤدي حتمًا إلى توطيد النفوذ الأجنبي؛ ولهذا فهي
تنوي أن تضع يدها بيد أصحاب رؤوس الأموال الإسلامية بشرط أن لا تكون هناك
أية صبغة أجنبية فيها، وترى أيضًا أن المساعدة الوحيدة التي يمكن أن تحصل
عليها هي من إيران وتركيا [2] .
ونحن كنا في حاجة إلى رؤوس الأموال لإصلاح اقتصادياتنا وزراعاتنا في
إيران، إلا أن بيننا أغنياء عديدين يستصعبون القيام ببعض هذه الأعمال، وأنا
سأعمل على تشجيعهم للإقدام على هذا العمل الذي يفيدنا ويفيد الحجاز معًا، وأما
المساعدات الفنية فأعترف أننا لا نستطيع تقديمها، فعلى الحكومة الحجازية أن
تستمدها من تركيا [3] .
مهمة مندوب الشاه في الحجاز:
- وهل تعتقدون أن المفاوضات ستدور بهذا الصدد؟
- لا أعرف ذلك في الوقت الحاضر، ولا سيما وأن علاقتنا السياسية لم تُوطد
مع ابن السعود، ومن الواجب وضع الأسس العمومية أولاً للاتفاق السياسي [4] ثم
يباشر وضع اتفاقات اقتصادية وتجارية وخلاف ذلك.
- وماذا عمل حبيب الله خان حتى الآن في مكة؟
- لقد قابل جلالة ابن سعود وسلَّمه كتاب صاحب الجلالة الشاه الذي يعترف فيه
بملكيته على نجد والحجاز، وقد تقبل جلالة الملك كتاب جلالة الشاه وسفيره،
وأبرق إليه معربًا عن استعداده للقيام بكل ما يقدر عليه في سبيل توطيد العلاقات
الودية بين أمته والأمة الإيرانية، كما شكر له دعوته لسمو نجله الأمير فيصل
لزيارة إيران قائلاً بأن نجله سيغتنم أقرب فرصة لزيارتها، وأنا أعتقد أن سمو
الأمير سيزور بلادنا في هذا الصيف.
الأمير أرسلان:
- هل قابلتم جلالة الملك ابن السعود؟
- نعم، اجتمعت بجلالته لأول مرة في المأدبة التي أقامها للأمير شكيب
أرسلان، وقد سبق لي التعرف على هذا الأمير في أوربا حيث كان يدافع عن القضية
السورية، ثم اجتمعت بجلالة الملك مرارًا على انفراد فلاقيت منه كل إكرام، وقد
طلب إلي أن ابلغ الأمة الإيرانية تحيته بواسطة مجلسها النيابي، وسأقوم مسرورًا بهذه
المهمة عند عودتي إلى بلادي.
الرابطة بين الحجاج:
- كيف وجدتم الرابطة الإسلامية في الحجاز؟
- أقول: إن الرابطة الإسلامية مفقودة بين الحجاج الذين يؤمون البلاد المقدسة،
وسبب ذلك فقدان التجانس بين طبقات المسلمين، فمثلاً ترى الهنود في مقر منعزل
لا يختلطون بغيرهم؛ لأنهم يجهلون لغتهم، وكذلك الإيرانيون والعرب والروس
والترك وغيرهم من الأقوام الإسلامية، وأرى أن يتحقق ذلك بأن يلقى محاضرات
بكافة اللغات، وأن يصدر بهذه اللغات نشرات في موسم الحج، وبذلك يكون تقرب
نوعًا ما بين الجميع، وقد عرضت هذه الفكرة على جلالة الملك وكبار حجاج
المسلمين فلاقت كما أعتقد استحسانًا، وأرجو أن تنفذ في العام القادم.
والرابطة الإسلامية إذا توحدت يمكنها أن تؤدي نتائج حسنة تهم الجميع.
رأي في الخلافة:
- ما رأيكم في الخلافة؟
- أقول لكم بصراحة تامة: إن الخلافة بدعة!! وقد جرَّب المسلمون الخلافة
فماذا استفادوا منها؟ اللهم إلا أنها آلة يديرها الأجانب في الاتجاه الذي يريدونه، وكفى
المسلمين ما لاقوه، فعليهم الآن أن يلتفتوا إلى اللباب لا إلى القشور [5] . انتهى
الحديث.
_________
(1)
المنار: يريد بالمخلفات: المعاهد الأثرية التي يعبر عنها بعض علماء الحجاز بالمآثر كالبيت الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ودار خديجة رضي الله عنها، وقبور آل البيت عليهم السلام، وقد منعت الحكومة السعودية ما كان يجري فيها من الخرافات، فأذيع أنها هدمتها، وجعل أصحاب الأهواء والبدع هذه الإذاعة وسيلة لصد الشيعة عن الحج.
(2)
المنار: هذا رأي غريب، لا نظن أن صاحبه مصيب.
(3)
إن مصر وسورية أقرب إلى الحجاز، وأقدر من الترك على هذه المساعدة.
(4)
المنار: قد علمنا عن ثقة بأن أسس الاتفاق السياسي قد وضعت، واتُّفق عليها وستُمضى وتعلن في فرصة قريبة.
(5)
المنار: إن هذا الرأي خطأ من وجوه، فالخلافة عند أهل السنة هي الإمامة العظمى التي يعدها الشيعة من أصول الدين في المرتبة التي تلي النبوة، وعند أهل السنة من فروع الشريعة المهمة، وقد استفاد المسلمون منها فوائد عظيمة على كون أكثر دولهم لم تقم بها كما يجب، ولا سيما خلافة التغلب المحض كخلافة الترك، وقد كانت دول أوربة تخشى أن يجيء يوم يعرف المسلمون كيف يستفيدون منها على علاتهم وعلاتها، وهم يعدون إلغاء مصطفى كمال لها خدمة جليلة لسياستهم الدينية الاستعمارية.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أداء الأمير شكيب لفريضة الحج
كان قلب الأمير شكيب يحن إلى أداء فريضة الحج منذ سنين، كما هو شأن
كل مسلم، وإن كان أمثال الأمير شكيب في تربيتهم المدنية والسياسية والاجتماعية،
صار يقل فيهم من يحج كما يقل من يصلي ويصوم إذا لم تقرن تلك النشأة
العصرية بمعارف دينية صحيحة راسخة كالطود لا تؤثر فيها أمواج الشبهات، ولا
تنال منها عواصف الشهوات، ولكن شكيبًا تلقى عقيدته من الأستاذ الإمام، وغذاها
بالعلم الصحيح والعمل، وقد كان لكبراء الرجال السياسيين من موانع الحج في
السنين الخالية ما ليس لغيرهم.
عزم شكيب على الحج في موسم السنة الماضية (1347) وكان يحب أن
يسافر من أوربة قبل موعد الحج، فيعرِّج على مصر فيقيم فيها مدة مع صديقه
الحميم صاحب المنار بداره التي يُعِدُّها بحق داره، وكتب إلي بذلك، وأنه لقي في
برلين معالي وزير خارجية مصر الدكتور حافظ بك عفيفي، وكان بينهما صداقة
سابقة فكاشفه بعزمه، فتبرع الوزير بوعده بأن يمهد سبيل الإذن الرسمي له بزيارة
مصر في طريقه لعلمه بأنه كان ممنوعًا من دخولها بعد الحرب الكبرى، ومن
المعلوم بالبداهة أن المرجع الرسمي في هذا الأمر لوزارة الخارجية؛ ولكن الوزير
نفسه رأى أن الإذن له يحتاج إلى تمهيد وسعي! ! .
ثم أزمع الأمير السفر وخرج من داره في لوزان قاصدًا البحر عن طريق
إيطاليا، وطفق يراسل وزير الخارجية، ثم يراسل بعض أصدقائه في مصر،
سائلاً هل تأذن له الحكومة المصرية بالإلمام بمصر، ولو بميناءي بورسعيد
والسويس لينتقل من الباخرة التي يسافر فيها إلى باخرة من البواخر التي تنقل
الحجاج؟ وكانت هذه الرسائل برقية، فعلمنا بعد البحث أنه لا يزال ممنوعًا من ذلك،
وبعد بذل السعي من بعض المهتمين بالأمر لدى صاحب الدولة رئيس الوزارة، اقتنع
بأن اللائق بحكومة مصر بصفتها الإسلامية الرسمية أن لا تمنع أحدًا من الإلمام ببعض
ثغورها بقصد السفر إلى الحج من غير إقامة تزيد على مدة الانتقال من باخرة إلى
أخرى، فأصدر أمره بالإذن في آخر وقت أدرك به الأمير آخر باخرة تحمل الحجاج
في آخر وقت يمكن إدراك الحج فيه، وقد علمنا أن الأمير بذل في أجور البرقيات
أكثر من ثلاثين جنيهًا، وأنه لو كان يعلم هذا لفضَّل أن يسافر في باخرة إيطالية إلى
مصوع أو عدن ثم يسافر منها إلى جدة.
في أثناء هذه المساعي وتبادل البرقيات شاع بين الناس أن الأمير شكيبًا مسافر
إلى الحجاز، وأنه سينزل من الباخرة التي تقله من أوروبا في بورسعيد، وينتقل
منها إلى السويس، فعزم كثير من أصدقائه، وممن يحبون الحظوة بمعرفته،
لشهرته الشريفة في عالم العلم والأدب والسياسة، والجهاد الإسلامي والوطني -
على السفر إلى بورسعيد للقائه فيها، وطفقوا يتحدثون بتأليف الوفود لذلك في مصر
وفلسطين وسورية، ونُشر ذلك في الجرائد، ولكن بعضها ذكر خبر منعه من
الإلمام بالثغور المصرية، فلم يعلم بموعد وصوله إلى بورسعيد إلا بعض أصدقائه
في مصر، فسافر بعضهم إليها في ذلك اليوم، وبعضهم قبله بيوم، وقد نزلت مع
بعض السابقين في زورق بخاري، فاستقبلنا باخرته في البحر عقب وقوفها وإذن
طبيب المحجر بمخالطة ركابها للناس، وسبقنا ابن عمه الأمير أمين فصعد إلى
الباخرة مع الطبيب الرسمي، ولما تلاقينا لم أملك دمع السرور من حيث جرى،
ولا تسل هناك عما قد جرى، ووصل في ذلك اليوم إلى بورسعيد الأستاذ المربي
المصلح والزعيم الوطني الشهير الشيخ محمد كامل قصاب من حيفا لأجل استقباله،
وأخبرنا أن وفد حيفا ووفد القدس قد انفض جمعهما إذ نشرت جريدة الجامعة العربية
برقية من مصر بعدم الإذن له وهو إنما جاء للاحتمال، وقد جاءت الأمير برقيات
كثيرة، وعاد بعض المستقبلين له إلى القاهرة، وبات بعضهم في بورسعيد بعد
إلحاحه على الجميع بالعودة إلى أعمالهم، إلا كاتب هذه السطور، فقد قال له: أنت
تبقى معنا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر.
وقد سافرنا في اليوم الثاني إلى السويس فوجدنا بعض المستقبلين في
الإسماعيلية من طريقنا، وبعضهم في محطة السويس نفسها، وممن جاءها
بالسيارات الخاصة أحمد زكي باشا وعبد الحميد بك سعيد، وقد بلغ الأمير في
المحطة أمر الحكومة المصرية إياه بالانتقال منها إلى باخرة الحجاج الأخيرة التي
تبحر في ذلك اليوم 29 ذي القعدة إلى جدة، وأنها أمرت شركة بواخر البوستة
الخديوية التابعة لها بتخصيص مخدع له (قُمْرَة) في الدرجة الأولى منها، وكان
يريد السفر في باخرة البريد في 2 ذي الحجة، فركب الأمير ومن كان ثم من
المستقبلين المودعين السيارات إلى الباخرة توًّا، وذهبت أنا السوق فأخذت له منه
ثياب الإحرام؛ لأنني علمت منه أنه لم يحمل من أوروبا شيئًا من ذلك.
الأمير شكيب أكبر رجال السياسة من زعماء الأمة العربية، وأشهر كتابها
الذائدين عن حوضها والمنافحين عن حقوقها، والعاملين لمصالحها، فالمجاهدون
المخلصون منهم يسرون بلقائه لمجدد مُلك العرب ومجد العرب، وقبلة آمال العرب،
الملك عبد العزيز آل سعود، وتناجيهما في المصالح العربية السياسية والمدنية،
ويرجون من ذلك خيرًا كثيرًا
وللأمير شكيب مكانة إسلامية سامية عند طلاب الإصلاح الديني المدني الذي
يقتضيه هذا العصر من عرب المسلمين، وشعوب عجمهم الكثيرة، ولا سيما الترك
والهنود لما له من خدمة الدولة العثمانية عندما كانت تمثل الزعامة الإسلامية، ثم ما
جاهد به ملاحدة الترك بعد جهرهم بنبذ الإسلام ومعاداتهم بالقول والفعل، ولما له
من الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مواقع أخرى كثيرة قد كان آخر ما نشر منها
مقالة الممتع الذي رآه القراء في جزء المنار الماضي، ومن الدلائل على مكانته
الإسلامية إجماع أعضاء المؤتمر الإسلامي العام من جميع الشعوب بمكة المكرمة
في موسم سنة 1344 على اختياره لأمانة السر العامة (السكرتارية للمؤتمر الدائم)
ولم أكن أنا أشد تقريرًا وعناية بهذا الاختيار من الوفود الهندية، ولا سيما الزعيمين
محمد علي وشوكت علي، المناوئين لملك الحجاز ونجد لعدم اتباعه لهواهما، فأهل
الرأي من مسلمي الأقطار المختلفة يسرون برحلة الأمير شكيب إلى الحجاز لأداء
فريضة الحج، ولقائه للإمام المجدد للإسلام، في رحاب تلك المشاعر العظام؛ لأن
شخوص زعماء المسلمين السياسيين وعلمائهم العصريين إلى الحجاز مفيد بما فيه من
القدوة والأسوة الحسنة لأمثالهم المقصرين في أداء هذه الفريضة، ومفيد بما يرجى من
ورائه من التعاون على المصالح الإسلامية، ومن هذا الباب أنه لما شاع في السنة
الماضية أن الإمام يحيى حميد الدين سيحج في موسمها تناقلت هذا الخبر ألسنة
المسلمين وصحفهم وتلقته بالإكبار والإعظام لأمرين (أحدهما) أن ملوك المسلمين قد
تركوا أداء هذه الفريضة منذ قرون عديدة (وثانيهما) حرص مسلمي العالم كله على
اعتصام إمامي الجزيرة العربية وملكي الإسلام المستقلين بعروة التحالف والاتحاد
الوثقى، ورجاؤهم أن يكون تلاقيهما في بيت الله تعالى متممًا لما مهدا له السبيل من
ذلك بالوفود والمكاتبات والهدايا، ومن فضل الله على صاحب هذه المجلة أن كان هو
الساعي الأول إلى ذلك بالمكاتبات والوفود من قبل الحرب الكبرى ومن بعدها، ويليه
فيه صديقه الأمير شكيب.
ومن دلائل اهتمام أهل الرأي والخدمة العامة من مسلمي الشعوب المختلفة،
وعرب الملل المختلفة، بحج الأمير شكيب ورجائهم الخير فيه للملة وللأمة، أنه ساء
دعاة الإلحاد في المسلمين ودعاة الاستعمار في العرب، ولا سيما السوريين من
الفريقين، فنشروا في بعض الجرائد مقالات سخيفة طعنوا فيها على الأمير في دينه،
وفي سياسته، وفي غرضه من أداء الحج، وكان الذي تولى كبر هذه الأراجيف
ذلك القناف النفاج الحسود المدعي للزعامة السورية؛ ولكن بإمضاء ألصق الناس
بخدمته، ولم يصده عن ذلك اشتهاره هو بالدعوة إلى الإلحاد، ونبذ الدين، وتهتك
النساء وغير ذلك، ومما اتهمه به أنه يسعى بحجه إلى جعل الملك عبد العزيز إياه
سفيرًا له في أوروبا! ! وربما كان هذا الملك أشد احتقارًا لهذا التشفي الدنيء فإنه
صار من أعرف الناس بفضائل الرجل، ورذائل حاسده، وقد احتفى جلالته
بضيافته احتفاء يسعر نار الحسد في كبد الحسود.
استقبلت الحكومة السعودية ووجهاء الحجاز الأمير شكيب في جدة، ثم في
مكة أحسن استقبال، فقد خف إلى لقائه في الباخرة الحاكم الإداري (القائمقام) وغيره
من الموظفين والوجهاء، وفي مقدمتهم عين أعيان الحجاز الشيخ محمد نصيف، ثم
قابله جلالة الملك في جدة إذ كان فيها، وبعد أن تمشى مع جلالته سار معه في
سيارته الملكية إلى مكة المكرمة فكانت هذه أول فرصة واسعة للمذاكرة في المصالح
العامة، وقد كتب إليّ جلالته عن هذا التلاقي ما نصه:
(وقد أنسنا بلقاء صديقكم وصديقنا الأمير شكيب أرسلان، وهو كما وصفتم
إخلاصًا وعلمًا وأدبًا) ويعني جلالته بهذا الوصف ما كتبته إليه أخيرًا من أنني لم
أثن له على أحد وهو فوق ما أثنيت ووصفت من كل جهة إلا الأمير شكيب.
وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغَّب إليه أن يبقى لديه في الحجاز دائمًا أو
ما شاء، وطابت له الإقامة ليقوم بما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء
الإصلاح في حكومته، فاعتذر أولاً بوجود أهل بيته في أوربة، قال: نحضرهم إلى
الطائف، فاعتذر بأنه لابد له من البقاء في أوربة لأجل القضية السورية، وبأنه
يخدم القضية العربية هنالك بما شاء جلالته إلا الوظائف الرسمية؛ فإن فكرة
المناصب الرسمية قد خرجت من فكره، فهو لا يقبل منصبًا لا في الحجاز ولا في
أوروبة كالسفارة في بعض العواصم.
بعد هذا زار الملك جدة فذكر في مجلسه الحافل ما نشر في المقطم من اتهام
الأمير شكيب بالسعي إلى نيل سفارة في أوربة - وهو ما أشرنا إليه في المقال -
فغضب الملك، وقال من هذا - يعني صاحب مقالة المقطم - وإيش يكون؟ ؟ ثم أثنى
على الأمير شكيب ثناءً عظيمًا؟ قال في سياقه: والله إن السفارة التي يريدها في
أوربة تكون له بشرط أن يرضى.
ومن أخبار الأمير في الحجاز التي تسر محبيه الذين لا يحصيهم إلا الله تعالى
أن هواء الطائف قد وافق مزاجه، فزال هنالك ما كان أصابه في أوربة من مرض
الصدر الذي كان فيما يظهر من أسباب ما أنكرته عليه من استطالته لعمره ونعيه
لنفسه، ويسرنا أن ما رأينا عند تلاقينا الأخير في وجهه من الإشراق والبهجة، وفي
حديثه من جرس الصوت وقوة اللهجة، وفي مشيته من النشاط وخفة الحركة، وفي
أكلته من زقم اللقم، وجودة المضغ في غير نهم - ليبشرنا بأنه مستعد لحياة طيبة
طويلة الأجل، إذا لم يجن عليها بالإفراط في الانكباب على العلم والعمل، وفقنا الله
وإياه للقصد والاعتدال، والتوفيق لما يحب تعالى ويرضى من الأقوال والأعمال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من الشيخ محمد علي اليماني
في بيروت
وكان مجاورًا في الأزهر الشريف
مقرونة بأجوبتها
(س 16 - 29)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليه.
(1)
هل يجوز للمرأة أن تظهر صوتها ووجهها ويديها وغيرها أمام الرجال
الأجانب والأطباء وغيرهم أم لا؟
(الجواب) يجوز للحاجة المشروعة بقدرها كالتطبب والشهادة والعقود التي
تصح منها، ويجب كشف الوجه والكفين في الإحرام بالحج أو العمرة، ويحرم عند
توقع الفتنة، ويباح فيما وراء ذلك.
2-
هل يجوز للمسلمين أن يرسلوا أولادهم إلى المدارس الأجنبية مع وجود
مدارس إسلامية نظامية مستعدة لتعليم أبناء الأمة حسب مبادئ الدين الإسلامي
الحنيف أم لا؟
(الجواب) لا يجوز إلا لطالب راشد متمكن من عقائد الإسلام وهدايته؛ لأن
هذه المدارس الأجنبية تفسد عقائد الأحداث والجاهلين.
3-
ما قولكم - دام فضلكم - فيمن يرى عدم لزوم تدريس العقائد والعبادات
وغيرها في المدارس الابتدائية وغيرها، ويرى تدريس الحكايات والقصص
كقصص الأنبياء وأخلاقهم وغيرها فقط، هل هو مصيب أم لا؟
(الجواب) لا، فإن قصص الأنبياء ولا سيما السيرة المحمدية مفيدة جدًّا
ولكنها لا تغني عن معرفة أصل الإسلام وهو عقائده وعباداته وحكمه وآدابه.
4-
أي الكتب الدينية الإسلامية أكثر فائدة في التفقه في المسائل الشرعية
الدينية كالعقائد والعبادات وغيرها، مع ملاحظة الشكل التام وسهولة اللفظ والمعنى
لتلاميذ المدارس الابتدائية وغيرها؟
(الجواب) لا أدري فإن الحكم بهذا التفضيل يتوقف على الاطلاع على ما
ذكر وقلما رأيت منها شيئاً وأحسن ما أعرفه منها (خلاصة السيرة المحمدية) إلخ
وكتاب (الدين الإسلامي) لطلاب المدارس الثانوية، وقد طبع الجزء الأول منه،
وكتاب (التعريف بالنبي والقرآن الشريف) المقتبس أكثره منه.
5-
هل يجوز تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية المنصوص عليها في
الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبرين؟ لأن كثيراً من الناس يحاولون تحكيم
العقل في المسائل الدينية فيقبلون منها ما يوافق عقولهم وينبذون ما يخالفها، ولو
كان في ذلك نص أو إجماع أو قياس، فهل هذا يجوز أم لا؟
(الجواب) لا يجوز تحكيم العقل في النصوص القطعية، وإنما وظيفة العقل
فهم العقائد وإقامة دلائلها، والآداب الشرعية ومنافعها، والترجيح بين الأدلة في
الأحكام الاجتهادية التي ليس فيها نصوص قطعية عند المستعد لذلك.
6-
هل يجوز حمل ساعة الجيب واليد وغيرها لأجل ضبط أوقات الصلاة
والاشتغال كالمدارس والتجارة وغيرها أم لا؟
(الجواب) يجوز بلا شبهة والسؤال عنه مستغرب.
7-
هل يجوز اعتقاد عمل المندل وضرب الرمل وتعليق التمائم وكشف
الضمائر وقراءة الكف وعمل السيمار جميع أنواع السحر من أعمال الطلاسم
وغيرها أم لا؟
(الجواب) لا يجوز شيء من ذلك؛ لأنها خرافات ومفاسد.
8-
هل يجوز التنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح ومخاطبتها شفاهيًّا أو
كتابيًّا؟ وهل هذا ثابت أم لا؟
(الجواب) يجوز إذا لم يكن فيه ضرر ولا معصية ولا خداع لأحد كما يفعل
كثير من الممارسين لذلك، والتنويم ثابت لا مراء فيه. وأما تحضير الأرواح أو
مخاطبتها فله أصل ثابت، وأكثر ما يقال فيه خداع باطل.
9-
هل يجوز التقليد والتلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرها في العقائد
والمعاملات والعبادات وغيرها كالوضوء والغسل والصلاة وغيرها أم لا؟
(الجواب) إن جمع الأقوال الملفقة من المذاهب المختلفة للعمل بها تقليدًا
لأهلها عبث بالدين واتباع للهوى، ولكن الذي يتبع قوة الدليل إذا وافق استدلاله بعض
الأئمة في بعض الأقوال، ومن يخالفه منهم في قول آخر ولو في موضوع واحد - لا
يعد ملفقًا ولا مقلدًا.
10-
ما الأدلة النقلية والعقلية على افتقار الطبيعة الكونية إلى صانع مختار؟
وما الطبيعة؟ لأن كثيراً من المسلمين تجردوا من الدين واعتقدوها.
(الجواب) الطبيعة الخلقية وهي مؤلفة من مواد ذات خواص وقوى، وفيها
من السنن والنظام الدقيق ما يدل دلالة ظاهرة على أن لها خالقًا قادرًا عليمًا حكيمًا
أزلاً، يمكن أن يكون ما ذكر قد وجد بالمصادفة، ولذلك اتفق جميع البشر ومنهم
العلماء والحكماء من الشعوب القديمة والحديثة على وجود خالق للخلق، وإنما شك
أو شكك في ذلك أفراد من الماديين بضروب من الشبهات والجدل وحسبك من الأدلة
قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) فهو أصح النقل
وموافق لأصح براهين العقل.
11-
ما الروح وما أدلة وجودها النقلية والعقلية؟
(الجواب) الروح من عالم الغيب لا تُعْرَف إلا بآثارها وبأخبار الرسل عنها.
وأقوى الأدلة العلمية العصرية عليها أن جسم الإنسان ومنه دماغه يفنى مراراً ثم
يتركب من مواد جديدة ومع هذا تظل معلوماته ووجداناته الكثيرة التي أدركها قبل هذا
الانحلال والفناء المكرر محفوظة ثابتة في نفسه، فلو كان الإدراك من وظائف
الدماغ كما يزعم الماديون لزال بزواله في كل مرة ما كان انطبع فيه. ومستحضرو
الأرواح ومدركوها من أفراد البشر قد أدركوا من آثارها ما لا يدركه غيرهم، وقد
كثروا في هذا العصر والمصدقون لهم يزدادون في كل يوم بحيث يقل المنكرون إلى
أن يضمحلوا.
12-
ما الدليل على وجود الجنة والنار والثواب والعقاب والبعث الجسماني
نقلاً وعقلاً؟
(الجواب) العقل لا يمكنه أن يستدل على وجود هذه الأشياء وكلها من عالم
الغيب إلا من طريق كونها مما يقتضيها عدل الله وحكمه بين عباده وحكمته في
خلقهم مستعدين لحياة أبدية. وأما أدلتها النقلية فهي النصوص الكثيرة في كتاب الله
تعالى.
13-
ما حكم من استخف واستهزأ بالعبادات كالصلاة والمصلين ولو على
سبيل المزاح؟
(الجواب) الاستخفاف والاستهزاء بالعبادات القطعية كالصلاة لا يكون له
سبب في الغالب إلا عدم الإيمان بها، فحكم فاعله - إن كان مسلمًا في الأصل -
حكم المرتدين، ولكن بعض المزاح في ذلك لا يقصد به الاستخفاف والاستهزاء.
والعبرة في الحكم المذكور قصد فاعله، وأقل ما يقال في المزاح المشتبه: إنه مكروه
أو حرام.
14-
المرجو بيان أسماء الكتب التي خصصت في بيان حكمة التشريع
الإسلامي مما يناسب عصرنا الحاضر لا سيما في معترك الضلالات والزيوغ،
وتفضلوا بالجواب
(الجواب) لم أطلع على كتاب يعجبني في ذلك مما يوافق حاجة هذا العصر،
ولكن في المنار وتفسيره الشيء الكثير من ذلك، ولعلنا نوفق لجمعه، أو تأليف
كتاب مستقل طالما فكرنا فيه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة أخرى من صاحب الإمضاء في بيروت
(من س 30 - 34)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني رافع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليها:
1-
هل تحسين الثياب والهندام والتطيب بالروائح الزكية مع التواضع وحسن
الخلق ينافي الزهد والتقوى أم لا؟
2-
هل يجوز تعليم النساء دق العود والبيانو وغير ذلك من أنواع آلات
الموسيقى أم لا؟
3-
هل يجوز للرجل أن يسمع الغناء وصوت العود والبيانو وغير ذلك من
المرأة الأجنبية أم لا؟
4-
هل تقبل توبة التائب إذا تاب من الذنوب الصغيرة والكبيرة كالقتل والزنا
واللواط وشرب الخمر والديون والسرقة والخيانة والكذب والغش والظلم وغير ذلك
ولا يعذب في القبر ولا في الآخرة أم لا؟
5-
أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا لفظ التوبة، وهل تصح بكل لفظ أم لا؟
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
…
...
…
عبد القادر البعلبكي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بيروت
(ج س الأول وهو 30 من باب الفتوى) تحسين الثياب والهندام والتطيب
من أمور العادات المستحبة إذا لم يكن فيه محرَّم كثوب الحرير الخالص، أو مكروه
كثوب الشهرة، وهو لا ينافي الزهد؛ لأنه عمل قلبي ولا التقوى لأنه لا معنى لها
في هذا الباب إلا اتقاء الحرام.
(ج 31) من يعتقد أن العزف بما ذكر من المعازف محرم تقليدًا لمن
يقولون بذلك وهم جماهير فقهاء المذاهب المتبعة - يلزمه تحريم تعليمه للمرأة، ومن
لا يعتقد تحريمه لعدم صحة الدليل عليه عنده أو لترجيحه رأي من أباحه من فقهاء
الحديث والصوفية بشرطه - لا يرى بأسًا بتعليمه لامرأته أو محرمه لأجل ترويح
النفس به في بيته مثلاً، وظاهر أنه يحرم تعليمه لامرأة تريد أن تكون مطربة
للسكارى والفساق أو يظن ذلك فيها، ومثل ذلك تعليم المرأة الأجنبية المستلزم
للخلوة بها أو رؤية ما لا يحل للرجل رؤيته منها، وكل ما هو سبب للافتتان بها.
(ج 32) في الجواب عن السؤال الذي قبل هذا ما يعلم منه جوابه، ومنه
أن حضور معاهد الغناء والعزف والسكر المشهورة في مثل مصر وبيروت حرام.
(ج 33) التوبة واجبة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، ومتى كانت
صحيحة نصوحًا كانت مرجوة القبول، ولكن حقوق العباد لا تُغفر بالتوبة وحدها،
بل لابد معها أو لصحتها من ردها إلى أصحابها إن كانت أعيانًا أو إرضائهم في مثل
الغيبة.
فعلم من هذا أن من كان لأحد عليه مال أخذه منه بغير حق كالسرقة والخيانة
والغش والدَّين الربوي وغيره؛ فإن توبته لا تصح من هذه الذنوب إلا إذا أرجع هذا
المال إلى صاحبه أو لورثته من بعده، فإن تعذر ذلك بانقراضهم أو عدم العلم بهم
فليتصدق بذلك المال، وإلا كان غاشًّا نفسه وخادعًا لها بدعوى التوبة، ولا يمكننا
في جواب هذا السؤال أن نبين حقيقة التوبة وشروطها بالتفصيل، فعلى الصادق
فيها أن يراجع هذه الأحكام في الكتب الخاصة بذلك، ومن أهمها كتاب الزواجر
لابن حجر المكي الهيتمي وأول الجزء الرابع من الإحياء للغزالي ومدارج السالكين
لابن القيم.
(ج 34) التوبة ليست أمرًا لفظيًّا فيصح السؤال الأخير: هل تصح بكل
لفظ أم لا؟ وإنما هي أعمال نفسية وبدنية من فعل وترك، والمشهور عند العلماء
في تعريفها أنها مركبة من ثلاثة أشياء (1) الندم على ما كان من اقتراف الذنب
في الماضي (2) تركه في الحال (3) العزم على عدم العودة إليه في المستقبل،
والغزالي يقول: إنها حقيقة مركبة من علم وحال وعمل، أما الأول: فالعلم بما ورد
من الوعيد على الذنب وكونه سببًا لسخط الله وعقابه، وأما الثاني فهو الحال
الوجدانية التي يوجبها هذا العلم أي الخوف من سخط الله وعقابه، وأما الثالث فهو
العمل الذي يوجبه هذا الحال، وهو ترك الذنب أو الذنوب إن كانت متعددة مع
العزم على عدم العودة إليه، والاجتهاد في إزالة أثره من النفس بالعمل الصالح
المضاد له
…
إلخ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجمع بين آيات القرآن والأحاديث وأخبار الدول في الكتب
(س35) من صاحب الإمضاء في دبي - على خليج فارس.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الفاضل العلامة الذابّ عن الدين طعنَ الزنادقة والملحدين، والناقد
للمرويات عن سيد المرسلين، السيد محمد رشيد رضا رضي الله عنه وأرضاه)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد لازال يخطر ببالي وتجول في فكري من
جمعكم في المنار الأغر بين الآيات الكريمة والتفسير والأحاديث النبوية، وبين أخبار
دول أوربا وحوادث أمريكا، فهل الجمع بين ذلك يؤدي للإهانة بالقرآن (كذا) العظيم
وكلام النبي الكريم أم كيف؟ الرجاء كشف ذلك، السائل مسترشد والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المشترك
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحمد بن حسن
(ج) هذا السؤال غريب جدًّا، وتوجيهه إلي من هذا السائل الذي وصفني
بما وصفني به قبل السؤال أغرب، وأقول في جوابه (أولاً) إن إهانة القرآن
والأحاديث النبوية لا تقع من مؤمن بكتاب الله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وإن
وقع منه مع اعتقاده بأنه إهانة حكم بكفره، فكيف يقع ممن نصَّب نفسه للدعوة إلى
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والذب عنهما؟ (ثانيًا) إن الجمع بين
الآيات والأحاديث وأخبار الأمم مؤمنها وكافرها موجود في القرآن نفسه، وفي كتب
الحديث والتفسير والتاريخ التي ألفها كبار علماء الإسلام، ولم ينكر ذلك أحد في يوم
من الأيام، بل نجد بعض كبار المفسرين حتى أنصار السنة منهم كالبغوي يذكرون
في تفاسيرهم من الخرافات الإسرائيلية الموضوعة والضعيفة ما هو أولى بالإنكار
من ذكر أخبار الدول والأمم الصحيحة، وقد كان عملهم هذا ضارًّا، ولكن لا وجه
لعده إهانة لكتاب الله (ثالثًا) إن ما نذكره نحن في المنار من أخبار دول أوربة
وغيرها نختار منه الصحيح الذي فيه عبرة للمسلمين أو دفاع عنهم وعن بلادهم،
أو تأييد للإسلام نفسه أو ذب عنه - كما يرى السائل وغيره في هذا الجزء - وكل
ذلك مما نرجو أن يثيبنا الله عليه.
***
هل المجذوب ولي أو مجنون
(س36) من أحمد محمد ثابت بالبطن تبع أبي عموري
إلى حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا:
ألتمس من فضيلتكم البيان الشافي في عدد من أعداد مجلتكم الغراء عن أمر
لُبِّس علينا: سمعنا كثيرًا من الناس يجزمون بأن المجذوب ولي بغير عمل لأنه
جذب من صغره في حب الله، وقد صح حديث (رُفع القلم عن ثلاث: النائم حتى
يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ) ، وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس:
62-
63) .
فلذا اشتبه علينا لهذه الآية الكريمة، ولهذا الحديث الشريف أمر المجذوب هل
هو ولي أم لا؟ مع كونه رُفع عنه التكليف؟ وإنا نرى أن الولاية مقام كبير فلهذا لا
نعترض خوفًا من الخوض، وهل عند أرباب الطرق شيء صحيح ورد فيه شيء
عن النبي أم لا؟ أفتونا في ذلك مأجورين بارك الله فيكم وعليكم ودمتم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد محمد
(ج) الولي في عرف الشرع المؤمن المتقي لله تعالى، والآية التي ذكرتموها
نص في ذلك، وفي اصطلاح الصوفية تفصيل لهذا الإجمال. في تعريفات السيد
الجرجاني: الولي: فعيل بمعنى الفاعل، وهو مَن توالت طاعته من غير أن يتخللها
عصيان، أو بمعنى المفعول وهو من يتوالى عليه إحسان الله وإفضاله، والولي هو
العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المجتنب عن
المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات اهـ.
وقد عرَّفوا الجذب الخاص عندهم بأنه جذب الله تعالى عبدًا إلى حضرته،
وقالوا: المجذوب من ارتضاه الحق تعالى لنفسه، واصطفاه لحضرة أنسه، وطهَّره
بما قدسه، فحاز من المنح والمواهب، ما فاز به بجميع المقامات والمراتب، بلا
كلفة المكاسب والمتاعب اهـ، يعنون بهذا أن الأحوال والمقامات التي تُنال بسلوك
طريق المعرفة بالتدريج والتنقل في المنازل قد تحصل لبعض الناس دفعة واحدة من
غير طول مجاهدة للنفس بالرياضة والأوراد، وهذا أمر ممكن وواقع إلا أنه نادر،
وإنني أعرف رجلاً كان ملحدًا بشبهات طرأت عليه من اشتغاله بالفلسفة فمرض
مرضًا لم يشف منه إلا وقد شفي من داء الإلحاد، فصار صحيح الاعتقاد محافظًا
على الصلوات، متورعًا عن الشبهات، أمارًا بالمعروف، نهاء عن المنكر، رحمه
الله تعالى، وأكثر من كانوا يعدون من المجاذيب عقلاء علماء حكماء، وإنما كان
من غلو بعضهم في الزهد والعبادة والقشف أن عراهم من الشذوذ ومخالفة
جماهيرالناس في آدابهم ومجاملاتهم ما يعد وسوسة وخللاً أو جنونًا (والجنون فنون)
وكانوا يسمونهم الموسوسين، ويعبرون عنهم بعقلاء المجانين، لما يصدر عنهم
من الحكم والمواعظ المعقولة أحيانًا، ومن الشذوذ أحيانًا، وقد يصل بعضهم إلى
درجة الجنون المطبق بحيث يؤذي الناس، فعند ذلك يُشد ويلقى في البيمارستان.
وقد غلا بعض ناشري الخرافات من المتصوفة كالشيخ الشعراني فصار يطلق
اسم المجذوب الإلهي والولي على المعتوهين في أصل خلقتهم، وعلى الدجّالين
والأدعياء المتبالهين، واشتهر هذا بين الناس فصار سمت الولي وشعاره عندهم
الوساخة والقذارة والهذيان وكشف العورة وفحش القول، كالذين نراهم يطوفون
حول الأضرحة المعبودة وهياكل الوثنية المشهورة، وإنما هؤلاء مجاذيب الشيطان،
وأولياؤه لا أولياء الرحمن.
***
يوسف نجم: علمه وأين تعلم؟
(س37) من تاجر مسلم في هفانا
ذكرنا في ص 800 من المجلد التاسع والعشرين أن تاجرًا مسلمًا كتب إلينا
كتابًا من هفانا يذكر فيه أن رجلاً اسمه يوسف نجم يكتب مقالات متتابعة في جريدة
مرآة الشرق العربية السورية التي تنشر في (نيويورك) يطعن فيها على الإسلام
ومذاهبه وأئمته وأشهر رجاله المصلحين في هذا العصر، وقد سألنا هذا الكاتب:
هل تعلم يوسف نجم هذا في الجامع الأزهر أو في غيره من المعاهد الإسلامية وما
درجة معارفه الدينية
…
إلخ، وقد وعدنا في خاتمة ذلك المجلد بأن ننشر سؤاله في
باب الفتاوى ونجيب عنه، ولكننا نسينا أن نضع الكتاب في أضبارة كتب الأسئلة؛
لأننا كنا نعده من الرسائل الخاصة، فصار يشق علينا البحث عنه في أنواع الكتب
الأخرى من أدبية وسياسية وشخصية وغيرها، ولما كان السؤال والمسئول عنه
ليس بذي بال ولا شأن كالأسئلة العلمية والدينية رأينا أن نفي بالوعد بالقدر الذي
نرى أنه يفي بالفائدة فنقول:
إننا قرأنا من تلك المقالات ما علمنا به أن كاتبها عامي لم يتعلم في المدارس
الدينية كالأزهر، ولا في المدارس المدنية، وإنما جل ما حشي به دماغه أمشاج من
الصحف المنشرة وبعض القصص والرسائل التي يخلط فيها العلم بالجهل، والحق
بالباطل، وقد حفظت قصاصات من مقالاته لا أرى الآن حاجة إلى مراجعتها.
والدليل على ذلك كثرة الغلط الفاحش واللحن الفاضح في عبارته والتعارض
والخلط في موضوعاته، مثال ذلك أنه يذكر الخلاف بين إمام اليمن والسيد
الإدريسي حاكم عسير بما يدل على أنه لا يعرف مذهب كل منهما، ولا مركز ولا
وجه الخلاف بينهما وينكر على صاحب المنار أمورًا يعزوها إليه، وفي تفسيره
ومجلته ضد ما يعزوه إليه كزعمه أنه يتعصب لمذهب الأشعرية على ما اشتهر به
من الدعوة إلى مذهب السلف الذي كان عليه علماء الصحابة والتابعين قبل وجود
الأشعري ومذهبه، وعلى ما في تفسيره من الرد على الأشعرية وإمام نظارهم فخر
الدين الرازي، ولكن هذا العامي لم يقرأ ما كتبنا ولو قرأه لما فهمه.
فيوسف نجم هذا عامي جاهل بالإسلام ومذاهبه وتاريخه، وهو بغيره أجهل
وهو يكتب ما تمليه عليه خواطره من غير علم ولا فهم، ويزعم أنه يدعو فيما
يكتبه إلى مقاومة التعصب الديني والمذهبي والاتفاق بين أهل الأديان والمذاهب
المختلفة، وهي دعاية فلسفية اجتماعية دعا إليها بعض الحكماء وكبار الكتاب على
علم وبصيرة يرجى تأثيرها في المستعدين لها، وإنما حظ هذا العامي المسكين منها
التقرب إلى المتعصبين من النصارى بالطعن في الإسلام وكبار علماء المسلمين
وكتابهم وزعمائهم لمنافع له يرجوها من هؤلاء المتعصبين فيما يظهر.
وقد كان كتب إلينا بعض الفضلاء يوجبون أن نرد عليه ولو فيما يفتريه علينا،
وما كنا نجيب طلبهم لقلة الاهتمام بمثل طعنه الجهلي، والرد عليه يرفع قيمته إلى
جعله مناظرًا يُرد عليه؛ ولكننا لما رأينا هذا التاجر السليم الفطرة يظن أنه على
شيء من العلم كتبنا هذا، ولعلنا نجد فرصة أخرى نراجع فيها بعض قصاصات
مقالاته من مرآة الغرب، وننشر للقراء نموذجًا منها للعبرة والفكاهة.
_________
الكاتب: عجاج نويهض
هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم
؟
محاضرة ألقاها الأستاذ عجاج نويهض في مدرسة النجاح الوطنية بالقدس،
ونشرتها جريدة الجامعة العربية فيها وهي جديرة بأن يتدبرها كل مسلم، ولا
سيما المغرورين بالصحف المصرية الإلحادية ومقلديها في البلاد العربية، ولذلك
نشرناها برمتها مع تصحيح لفظي قليل فيها، قال نفع الله به:
جدير بنا، ونحن في دور انقلاب عظيم لم يشهد له فيما مضى من تاريخنا
مثيلاً، أن نقف ونتفكر قليلاً على نور العلم الصحيح، هل ما نراه اليوم من تبدل
في جميع أوضاعنا الاجتماعية والدينية، هو تبدل جارٍ على سنته الطبيعية،
ومشتق من الحاجة الحقيقية في نفوسنا، تحركه عوامل سليمة، وتدفع به نحو غاية
معينة، بحيث نستطيع أن نعرف ونحن وسط هذا الانقلاب ما كنا عليه البارحة وما
نحن عليه اليوم، وما سنصير إليه في الغد؟ أم أن هذا الانقلاب يرافقه طغيان من
على جوانبه، وتتخلله عناصر سقيمة، لا هي وليدة الحاجة بالذات، ولا هي مما
ترمي البصائر الصحيحة إليه؟
فإن أممًا كثيرة اجتازت مثل هذا الدور قبلنا، وبلت من أمر الانقلاب أمورًا
وافرة حتى استطاعت أن تعلم بالخبرة واليقين ما يتمشى مع مصلحتها ويتلاءم مع
غرضها، فحري بنا أن نأخذ العبرة من تاريخ تلك الأمم، وهذا يفرضه علينا العلم
على كل حال؛ لأن نهضة تناوحت رياحها في جميع الأجواء، واتسع مجالها حتى
شمل جميع مناحي الحياة، تدعونا إلى أن ننظر فيها نظرة سليمة حتى تمكن الدلالة
على الخير منها، فيؤخذ ويثابر عليه، وعلى الشر فينهى عنه ويتنكب الناس
طريقه.
والحالات السياسية التي قامت في فلسطين وسورية والعراق والجزيرة بعد
الحرب العامة، لا يجب أن تكون مانعًا يمنع توحيد المصلحة العامة في الأمور
الاجتماعية والدينية والثقافية لجميع الأمة العربية على محور واحد؛ لأن القوة التي
نراها اليوم تتبدد وتتلاشى في الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية، هي قوة عامة
مشتركة بين جميع الأمم الإسلامية، فبفقدانها يفقد المجموع قوته، ثم تفقد الفروع
قوتها لانقطاعها عن الأصول، ولانفرادها في العناصر الحيوية التي تستمد من
المجموع قوتها وسبب حياتها.
وهذا يعرف ويسلم به لأنه هو الأمر الواقع، فكل قوة من قوى الإسلام، إذا
عراها الضعف اليوم وتسلط عليها الانحلال، تصبح قوة الإسلام من حيث مجموعها
ضعيفة، ثم لابد بعد ذلك من أن ينزل الضعف بالأمة العربية نفسها، فتندم ولات
ساعة مندم.
ولعله من المفيد أن يشار ولو على وجه الإجمال والتقريب إلى مواطن الانفعال
في هذا الانقلاب فنقول فيه:
أولاً: الانقلاب في مصر، وما يكون له من الصدى والأثر في نفوس الأقوام
العربية شرقي مصر وغربيها في الدرجة الأولى، وفي سائر الأمم الإسلامية
القاصية والدانية في الدرجة الثانية، ووسائل الكتابة والنشر والمواصلات، كل ذلك
مما يسهل بلوغ ذلك الصدى والأثر إلى أقصى حد، فيظهر في القاهرة رأي شاذ
مثلاً يحمل صبغة الخروج على سنة من سنن الإسلام، أو على عقيدة من عقائده،
أو على وضع من أوضاعه، أو على ثقافته العامة، أو على تاريخه - فلا يلبث ذلك
الرأي أن ينتشر في الآفاق، ويقبل عليه جمهور المقلدة من النشء المتعلم، وينتحله
على وجه التباهي به، ثم يأخذ بعرضه على الناس من قبيل حب الظهور، حتى
إنكم تجدون فريقًا من المنتمين إلى الدين؛ ولكنهم على جمود مطلق يصطفون مع
فريق المقلدين من المتعلمين ويغترفون من ذلك الرأي المطير من القاهرة، بإحدى
الجرائد اليومية، أو بمجلة أسبوعية أو شهرية، أو بكتاب يحمل سمة جديدة وكلمة
تدل على ما يفيد أنه قد كُتب بروح (العلم) فالمنزلة التي تتبوءها مصر اليوم في
هذا الانقلاب بمطابعها وجرائدها ومجلاتها منزلة عظيمة قوية سواء كانت للشر أو
للخير [1] .
ثانيًا: في كل بقعة إقليمية موضعية، كفلسطين لوحدها، وسورية لوحدها،
والعراق لوحده، جو انقلابي مستمدة قوته من الروح الموضعية بطبيعة الحال،
ومن التأثير الذي يأتي من مصر، وهذه النزعة الموضعية إذا نظر فيها على حدة
في كل بلد من البلاد المذكورة، وجد أنها تمثل حالة في الانقلاب الاجتماعي
والديني والثقافي على نسق (ملوك الطوائف) ولأن حركة النشر والطباعة في هذه
الأقطار الثلاثة من سورية وفلسطين والعراق، ليست متوفرة كتوفرها في مصر؛
ولأن البيئة الموضعية ليست زاخرة بالعمران الاجتماعي كما في مصر، فلذلك لا
ترى عناصر التقليد عاملة بنشاط كما في مصر من الجهة المحسوسة؛ ولكنك تجد
في النفوس استعدادًا ليس بالقليل للسير على منهج التقليد، ويتجلى هذا بأحاديث
المجالس وتبادل الرأي والمشاورة، والأبحاث التي تسقط عليك مصادفة ومن غير
قصد.
ثالثًا: هناك جو عام يوحي بالجديد في كل شيء، وهذا الجو ينتشر تارة من
أنقرة ومن فيها، وطورًا من كابل، وأخرى من طهران، وأخرى من الينابيع
الأجنبية الواردة في أكياس البريد التي تحملها البواخر الأجنبية وتفرغها في المرافئ
كل يوم أو كل اسبوع، ومن المدارس الأجنبية المشيدة في نقاط معينة في البلاد.
الخوف على الإسلام والرجاء فيه:
من الضروري أن يُشار إلى نوع القضية التي يُراد علاجها، وهذه القضية
هي أن الإسلام بقواه الاجتماعية والدينية في مأزق حرج، وهناك قوى آخذة بدفعه
من على جرف هارٍ إلى الهوة السحيقة، وهناك قوة أصلية أولية آخذة بتمكينه في
الأرض من جهة، وبِرَدِّ العادية عنه من جهة أخرى، وهذه العادية كان ينظر إليها
حتى زمن قريب أنها آتية من الخارج، ولكن ظهر إلى اليوم أنها نشأت في الداخل
أيضًا، وأصبح الجسم عليه أن يقاوم ما به من ميكروب يسري فيه داخلاً، وأن
يطرد عنه ما ينزل به من شر خارجي، وإذا أُريد تحديد الزمن الذي عُرف فيه أن
للإسلام أعداء منه في الداخل، فيمكن أن يُقال إن فكرة الإسلام ظلت قوة مجموعة
تعمل لحفظ ذاتها وتقوية وجودها، إلى أول الحرب العامة، أو بتعبير آخر إلى
انهيار السلطنة العثمانية.
ففي أقل من عشرين سنة ظهرت أفكار وآراء من المسلمين الخارجين على
الإسلام، هي من التطرف وحب الهدم والانتقاض والتخريب، بحيث تمثل من هذه
الروح أضعاف ما ظهر من هذا النوع من التطرف في الثورات الأوروبية التي
جاوزت الحد تطرفًا وغلوًّا، كالثورة الفرنسية مثلاً، حتى أن البلشفية نفسها أخذت
أخيرًا تتلمس طريق الاعتدال شيئًا فشيئًا، فالمسلم الخارج على الإسلام وتاريخه
وثقافته ولغته، ترى في نزعته الغلو أكثر مما ترى في عشرة أو عشرين أو مائة من
الذين أظهروا الغلو في (دور الرعب) من الثورة الإفرنسية، أو في هذا الدور
البلشفي الحاضر.
وإذا أُريد حصر القضية في أضيق الحدود، أمكن أن يقال (هل يستمر
ضعف الإسلام الحالي أو تنقلب حاله إلى القوة الصحيحة؟)
وإذا أريد حصر أسباب التأثير وعناصره في أقل الكلام، أمكن أن يكون ذلك
على هذا الوجه:
1-
مطبوعات مصر على اختلاف أنواعها ودرجاتها.
2-
المطبوعات الأجنبية التي ترد من أوربة بطرق شتى، وهذا النوع من
المطبوعات (وإن كان يرد بلغات أجنبية ويطالعه فريق قليل من أبناء هذه البلدان)
تأثيره واسع المدى لإقبال النشء على الكتب الأجنبية والنظر فيها والنقل والاقتباس
منها، زد على هذا أن هذا الفريق يجري على طريقة التلقيح الفكري أي أنه متى
قرأ شيئًا في كتاب أجنبي أو اطلع على رأي غريب، ولا سيما متى كان لتلك المادة
علاقة بالشعوب الإسلامية، أو بالإسلام، أو بالتاريخ الإسلامي، وبالانقلاب الحالي -
سارع إلى نشرها في الجمهور، تحت ستار العلم والمعرفة.
3-
(روتر) و (هافاس) وما أدراك ما روتر وهافاس؟ هما الوسيلتان
اللتان تجبران القارئ أن يتلو بلهفة وتعطش نبأ سباق الكلاب في بلاد الإنكليز،
ونبأ الفرقة التي فازت في لعبة الغولف، ونبأ خروج القطار عن الخط الحديدي في
أقصى شمال أوربة، من حيث تحرمان القارئ أن يطلع على كل شيء فيه إظهار
الحقيقة من ظهور حركات صالحة في الإسلام وقيام جماعات أو أفراد أو زعماء
بنهضة قومية أو وطنية على وجهها الصحيح، وإذا نخلت جميع الأنباء التي
يطيرها روتر وهافاس من الشرق إلى الغرب، وجدت أن الكثرة المطلقة من تلك
الأنباء قلبت رأسًا على عقب، أو شُوهت أو صُرفت عن معناها الحقيقي، أو أُلبست
لباسًا غير لباسها.
4-
المدارس الأجنبية، وخبر هذه المدارس والقائمين بأمورها والعاضدين لها
خبر طويل معلوم عند الجميع، وسيأتي شيء من الكلام على هذا.
النقد العصري وتأثيره في العالم:
ومن الضرورة بمكان من الوجهة العلمية الصرفة أن نُلم بحقيقة كبيرة منتشرة
في أرجاء العالم بعد الحرب العامة، وهي أن النقد بجميع ضروبه ومختلف أنواعه،
هو على الأكثر نقد هادم ناقض، لا نقد إنشائي بنائي، ويُراد بكلمة (نقد) جميع
ما يخرج من الآراء في المطبوعات المتنوعة، وما يجاهر به جماهير الكتاب
السياسيين وغير السياسيين، مما يدل على السخط والنقمة والتبرم، ومما يبعث في
جو العالم روح الانتقاض وطلب التبديل والتغيير، ومما ينفث في شرايين الفكر
الإنساني حب التطور على وجه السرعة والانفلات من الماضي.
إن هذا النوع من النقد الهادم الناقض على هذا الوجه، قد تفشى في أكثر
مناحي الحياة الاجتماعية والأدبية بعد الحرب فضلاً عن السياسة، حتى إن الأمم
التي هي أعرق أمم الأرض في التقاليد الموروثة ورعاية السنن القديمة في أصول
حياتها، قد هبت عليها عواصف كثيرة من هذا النوع، واجتاحت من قواها
الاجتماعية ما ليس بالقليل.
والسبب الأول في حصول هذه الظاهرة الكبيرة من النقد الهادم بعد الحرب
العامة، هو أن الحرب الكونية قد أورثت نفسية الأمم شيئًا كثيرًا من الكرب
والضعف، وخرجت نفسية الفرد من الحرب وهي على نصيب وافر من التمرد
والعصيان على النظم القديمة التي كانت منذ زمن بعيد ولم تزل هي الأصول التي
تتغذى منها الأمم في حياتها الاجتماعية، ولم يقصر أمر التأثر بهذه الروح الهادمة
على الأمم التي اشتركت في الحرب واكتوت بجمرة مصائبها، بل شملت تلك الروح
أغلب العالم على الإطلاق، ولكن على تفاوت بين أمة وأخرى.
وليس من الصعب أن يلمس الإنسان روح هذا النقد الهادم في كثير مما
تخرجه المطابع في الشرق والغرب، ومما ينشره كثير من المنتظمين في سلك
رجال الفكر والرأي في العالم، والأمم من حيث حب تقليد ضعيفها لقويها في مناحي
الحياة: تجري على سنة اجتماعية كما وصفها ابن خلدون وأسهب في الكلام عليها.
وليس من الصعب أن تدرك السبب الحقيقي فيما ظهر إلى اليوم، وفيما قد
يظهر في مصر من آراء التطرف الهادمة، وضروب النقد الناقضة لأصول القديم
برمته، والداعية على وجه الغلو الشديد إلى قلب النظام الاجتماعي في مصر والعالم
العربي المجاور، على أن الفرق الجوهري بين ما ظهر في جو مصر من هذا
النوع من النقد الملبس لباس العلم على غير سداد وحكمة، وبين النقد الذي في
أوربة، هو أن النقد المصري يجب أن يعتبر فيه شيئان وهما:
(أولاً) أن هذا النقد ولا سيما الذي ظهر ثورة وانتقاضًا على تراث المدنية
الإسلامية بوجه الوضوح والصراحة، هو نقد تقليدي في مصر، ونشاط العاملين
على هذا النقد هو نشاط تقليدي للنقد الشائع في العالم عامة، فكما ظهر في البلدان
التي ليست هي في المرتبة الأولى من المدنية والحضارة جماعات دعت إلى الهدم
بدعوى فناء القديم ووجوب مماشاة الجديد، فكذلك ظهرت في مصر دعوات مثل
تلك وعلى غرارها، أضف إلى هذا أن جمهرة المتعلمين من المصريين يحملون
نزعة الثقافة الفرنسية موسومة بذلك الميسم الخاص، ومن المعلوم أن الأمة
الفرنسية تختلف عن غيرها اختلافات جوهرية لا محل لذكرها الآن.
(ثانيًا) أن الجماعات الداعية إلى الهدم والنقض في البلدان الأوربية وغيرها
هي على الأكثر منغمسة في درس ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بمعنى أن الجديد
الذي يطلبونه، والنظم التي يريدون نقضها وإحلال غيرها محلها، كل ذلك يقولون
فيه إنه مكسب لهم القوة والملاءمة العصرية لحياتهم هذه؛ لأن نظمهم التي يثورون
عليها قد بلي أكثرها، أو بليت كلها بحيث أن الحياة اليوم لابد لها من خلع القديم
وارتداء الجديد، وهم في ذلك على تفاوت ودرجات.
وأما النقد الذي ظهر في مصر إلى اليوم انتقاضًا على الموروث من الثقافة
العربية الإسلامية أدبًا وتاريخًا واجتماعًا، فهو انتقاض مُذهِب للقوة في مجموع
الأمة المصرية نفسها، والأمم التي تقلدها في العالم العربي الإسلامي؛ حتى إن
الغالين من الناقدين المصريين يدعون إلى الثورة فورًا على النظم الاجتماعية وعلى
قتل الثقافة الموروثة، فهم بهذا عاملون على إفناء القوة التي في الأمة المصرية
وفي الأمم الأخرى دون أن يكون من الممكن إيجاد قوة أخرى تحل محل القوة
المنتقض عليها، وهذا النوع من الانتقاض تنافيه مصالح هذه الأمم في حياتها
الاجتماعية والثقافية، ثم إن العلم نفسه لم يظهر إلى اليوم أنه معوان لأولئك الناقدين
فيما يدعون إليه ويعملون له.
بعد هذا ينبغي لنا أن نسأل في وسط هذا الانقلاب، هل هو واصل إلى
الروح الدينية فيُحْدِث فيها إيهامًا أو جروحًا وثغرات في مواضع، ويصادمها
مصادمة عنيفة في مواضع أخرى، جريًا مع التيار الانقلابي الحادث في أوربة؟
من الواجب أن نتدبر بغاية العناية حقيقة الانقلاب الروحي في أوربة وأمريكا،
وأن نعرف مسيره، ونستشف من ذلك مصيره، بما يظهر في التيارات الحالية
من نزعات واتجاهات ظاهرة فيها الأدلة والبراهين، وأما المسارعة إلى الإكبار
والإعظام لكل نزعة ينشرها مقلد تارة تحت لباس العلم، وأخرى لحب الشهرة
والظهور، وأخرى انسياقًا بعامل حب الهدم والتخريب، فهذا ليس من شأنه أن
يجعل الانقلاب الحالي في هذه البلاد والبلاد المجاورة يسير سير صحة وسلامة إلى
مستقر الخير والنجح، والحكمة تحتم علينا أن نزداد عبرة وتبصرة بالحال، فكما
أن المريض الذي يتثاقل عن الأخذ بأسباب علاجه يُسبِّب لدائه تمكينًا، فكذلك
السكوت والصمت والتهاون والجبن في هذه الأيام إزاء الأضرار التي تدس في
نواحي النهضة الحالية موجب لاستشراء الداء، وسيحل بكثير من الأقوام الندم،
ولات ساعة مندم.
ونظرة عامة تُلقى على الحالة الانقلابية الروحية اليوم في أوربة وأمريكا -
على شريطة أن تُلقى هذه النظرة على ضوء العلم ومصباح الحقيقة بعيدة من
المكابرة، وبريئة من العاطفة الكاذبة - تكون معوانًا كبيرًا لنا في أن نتفهم الحقيقة
كما هي، فيسهل علينا بعدئذ القياس ووضع الشيء في محله.
العالم النصراني وتأثير الحرب فيه:
إن تقسيم العالم المسيحي اليوم إلى كاثوليكي أو لاتيني، وبروتستانتي،
وأرثوذكسي، ليس تقسيمًا مسلحًا بحدود منيعة تمنع انسياب العوامل الجديدة من قسم
إلى آخر، بحيث ترى النزعات الجديدة في المسيحية تهب في بلد ثم تنتشر في
كثير من أصقاع العالم المسيحي دون تهيب الحدود الكاثوليكية أو البروتستانتية أو
الأرثوذكسية.
لما فتقت ريح الحرب العامة، وهاجت في أوربة روح الدفاع الوطني،
وجدت الكنيسة نفسها أمام تيار جارف يدعو إلى الحرب والقتال، وهي تدعو إلى
السلم والوئام؛ ولكن سرعان ما طأطأت الكنيسة رأسها إلى نفير الحرب فتحولت
منابرها عن الدعوة إلى عبادة الله، إلى دعوة التجند والدفاع عن الحدود الإقليمية
للوطن.
ولما ألقت الحرب بكلكلها، وصارت الألوف والملايين تجندل في الأراضي
الأوربية، صارت الكنيسة ترافق الجيش، وتذكي فيه القوة الروحية، فأصبح
الجندي يقاتل وأكثر إيمانه أنه يقاتل في سبيل غاية قدسية هو مجاهد فيها، وعدوه
كافر مبطل؛ ولكن على كل حال ما لبثت الكنيسة أن وجدت أن القوة الروحية في
الجيش واهية متزلزلة إلى حد بعيد، فقامت (الكنائس الحرة) في بلاد الإنكليز
بامتحان واسع النطاق في الجيش، لتعلم مقدار ما في نفوس الجنود من إيمان
وعقيدة، فكانت النتيجة أن تلك القوة ضعيفة، وأن ضعفها كان قد بدأ من قبل
الحرب العامة. ثم قامت الكنيسة سنة 1916 بتأليف لجان كنسية سمتها (لجان
التوبة والأمل) لتمتحن القوة الروحية في الشعب أيضًا، فكانت النتيجة فيه مثلها
في الجيش، وقد أصدرت الكنائس كتابًا في نتائج عملها هذا ضمنته تفاصيل ما
قامت به من العمل والامتحان.
ثم لما وضعت الحرب أوزارها، وصار الناس يتوقون إلى أن يعودوا إلى
حالة الاستقرار الروحي والنفسي، رأوا أنهم طلبوا الزيادة فوقعوا في النقص، فإذا
بظواهر الضعف الروحي تتفشى في أوربة وأمريكا، ولم يكن الأمر مقصورًا عند
هذا الحد، بمعنى أن هذا الضعف الروحي كان عارضًا لم يُحْدِث أثرًا سيئًا في العالم،
بل رافقه ما هو أكثر هولاً، وهو أن ظواهر الضعف الروحي رافقتها ولم تزل
ترافقها حالات الضعف الخلقي مرافقة قوية الفعل والعمل، كأن ظواهر الضعف
الروحي إذا وجدت وصارت تعمل في المجتمع عملها المطلق بلا قيد، لا بد أن
تكون ظواهر الضعف الخلقي والأدبي متفرعة عنها أو مبنية عليها بناء النتيجة على
المقدمات، وقد ذكرت الكنائس الحرة في بلاد الإنكليز أن من أكبر الأسباب في هذه
الظواهر بنوعيها - الضعف الخلقي والضعف الروحي - هي أولاً: الهجرة من
الأقاليم إلى المدن، فتحمل هذه الهجرة أربابها على الانغماس في ملذات ما ألفوها
من قبل، فيعكفون عليها ويغترفون منها ما شاءت شهواتهم، واحتملت أجسامهم،
وأطاقت أبدانهم، أضف إلى هذا ما هنالك من ضائقات اقتصادية يضيق الخلق منها،
ولا سيما أهل الطبقات الوسطى والعاملة، وضيق الخلق يدفع أصحابه إلى ما هو
شر من ضيق الخلق. ثانيًا: كثرة الملاهي وتنوعها وانتشارها على وجه كثير من
الإغراء والاستمالة بحيث لا يحتاج الناس إلى كثير من ضبط النفس عند مقاومتها،
فيقبلون عليها وتكون صارفة لهم عن رعاية الحرمات والأخذ بحالة الاقتصاد. ثالثًا:
ما سمته الكنائس الحرة (روح العصر) وهو جميع ما في هذا الدور من أسباب
ووسائل وحالات تسهِّل حصول ظواهر الضعف الروحي والخلقي في الشعوب
الأوربية.
في سنة 1926 وضعت جريدة الناشن (Nation The) وجريدة الديلي
نيوز (News Daily) أربعة عشر سؤالاً بمعرفة أربعة من فحول العلماء
الإنكليز، منهم برنارد شو الذائغ الصيت، ونشرت الجريدتان هذه الأسئلة طالبة
من القراء الإجابة عليها، فأجاب عن أسئلة الناشن 1849 قارئًا، وعن أسئلة
الديلي نيوز 14043 قارئًا، ثم استُخرجت النسبة المئوية من الأجوبة فكانت
النتيجة تدل على أن الاعتقاد بالمسيحية اعتقادًا خاليًا من الإلحاد، والاعتقاد بألوهية
المسيح، لم يزل قائمًا في نفوس الكثرة من الأمة الإنكليزية، وقد كانت هذه الكثرة
سبعين بالمائة، وقال الذين تولوا هذا العمل: إنه لو وُجهت هذه الأسئلة منذ خمسين
سنة أو عشرين سنة على الأقل لكانت الكثرة مطلقة لا تقل عن تسعين بالمائة،
وقالوا أيضًا: إنه مع بقاء الكثرة من الأمة على العقيدة في الدين، فإن الضعف
الروحي ملحوظ جدًّا، وهو يزداد ذيوعًا وانتشارًا، ولما كانت هذه الأسئلة التي
وُجهت إلى الأمة الإنكليزية بلسان جريدتين من أهم الجرائد الإنكليزية، وكان الذين
أجابوا عليها ليسوا من سواد القوم، بل هم من صفوة الأمة الذين يقام لهم وزن،
كان من المفيد أن نعلم هذه الأسئلة بالضبط لندرك منها حقيقة من أكبر الحقائق
الساطعة، وهي أن الضعف الروحي في أوربة دليل على المرض والعلة، لا على
الصحة والسلامة، وأن الأمم التي ظهر فيها هذا الضعف بعد الحرب أخذ القلق
يساورها، والمشكلات الخانقة تزداد استفحالاً فيها، ومن ذكر بعض المذاهب
الناشطة للعمل اليوم في أوربة وأمريكا تزداد هذ الحقيقة وضوحًا.
…
(الأسئلة)
…
...
…
...
…
... (الأجوبة)
…
...
…
...
…
...
…
الناشن
…
... الدايلي نيوز
…
...
…
...
…
... نعم لا فراغ
…
نعم لا فراغ
1-
هل تعتقد بإله مجسد؟
…
...
…
40 55 4
…
71 26 2
2-
هل تعتقد بقوة مجردة غير مجسمة
لها تصدر غاية، ولها استطاعة الخلق
والإبداع بحيث إن المخلوقات المشهودة هي من آثارها؟
وهل تعتقد أن الحياة كناية عن قوة
نشوئية؟
…
...
…
...
…
... 37 48 13
…
33 46 20
3-
هل تعتقد أن المادة هي أساس
الحقيقة؟
…
...
…
...
…
... 27 57 15
…
21 59 18
4-
هل تعتقد بخلود النفس؟
…
... 43 47 8
…
72 22 5
5-
هل تعتقد أن المسيح ذو ألوهية
بمعنى أنه لا يمكن أن يقال إن جميع
النس هم ذوو ألوهية كألوهيته؟
…
... 35 61 3
…
68 29 2
6-
هل تعتقد بشكل ما من أشكال
الكنيسة؟
…
...
…
...
…
51 43 5
…
75 20 4
7-
هل تعتقد بمذهب الرسل أي
تلاميذ المسيح؟
…
...
…
... 21 71 7
…
53 36 10
8-
هل تعتقد بالمذهب الذي ترسمه
الكنيسة؟
…
...
…
...
…
24 68 7
…
52 37 10
9-
هل أنت عضو عامل في إحدى
الكنائس؟
…
...
…
...
…
43 55 1
…
62 43 2
10-
هل تذهب إلى الكنيسة ذهابًا
مداومًا من تلقاء نفسك؟
…
...
…
43 55 1
…
71 27 1
11-
هل تعتقد أن الإصحاح الأول
من سفر التكوين تاريخي؟
…
... 6
…
91 2
…
38 53 8
12-
هل تعتقد أن التوراة موحى بها
بمعنى أنه لا يمكن أن يقال أن كتب
الأدب إن كتب الأدب في بلادك
موحى بها كالتوراة؟
…
...
…
29 68 3
…
63 33 3
13-
هل تعتقد باستحالة العشاء
الرباني إلى لحم ودم كأنه من
جسد المسيح؟
…
...
…
... 4
…
93 2
…
10 86 3
14-
هل تعتقد أن الطبيعة لا تبالي
بما عندنا من معالي الأفكار والمثل
العليا؟
…
...
…
...
…
58 23 48
…
4 35 23
فظهر من هذه الأسئلة والأجوبة على معدل النسبة المئوية أن عدد المعتقدين
بالمسيحية إجمالاً هم أكثر من الذين على مذهب خاص من مذاهبها، على حد قول
من قال: إن المتدين لا يتمذهب.
المذاهب الدينية الحديثة والقديمة في الغرب:
والآن لابد لنا من أن ننظر إلى التيارات الكبيرة، والمذاهب الكبيرة العاملة
في الانقلاب الديني في أوربة وأمريكا، ونعلم على وجه الحقيقة والضبط ما بيد كل
مذهب من تلك المذاهب من قواعد وأسس، وما يرمي إليه من غاية وقصد، كل
ذلك مضافًا إلى المسيحية قربًا وبعدًا، وهذه التيارات والمذاهب كما يلي:
أولاً: العصريون Modernists
ثانيًا: الأصوليون Fundamentalists
ثالثًا: الروحانيون Spiritualists
رابعًا: أهل العلم المسيحي Christian
خامسًا: الكاثوليكية البابوية Scientists
1-
(العصريون)
هم فريق كثير العدد والانتشار، والذين ينتحلون عقائده يزدادون على التوالي،
وهذا المذهب كان قبل الحرب العامة؛ ولكن بعد الحرب تجددت قواه كثيرًا وهو
أكثر انتشارًا في الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد الإنكليز، والقواعد الجوهرية في
هذا المذهب هي:
أ - أن الحياة تزداد قيمتها من حيث هي حياة ذات جهاز حي، ويجب أن
تكون قيمة الدين ظاهرة من الوجهة العملية المحسوسة لا من وجهة العقيدة فقط.
ب - أن قيمة الحية الدنيا إنما هي من أجل الحياة الدنيا نفسها غير معلقة على
أمل الحياة الأخرى.
ج - إن العقل من الوجهة الدينية كان مقيدًا فيما مضى، أما اليوم فيجب أن
يكون مطلقًا حرًّا عاملاً في نطاق الشخصية الإنسانية.
وأصحاب هذا المذهب يتخذون الوسائل الآتية لنشر مذهبهم وإعزاز قواعده
في الناس:
أ - نشر البر والإحسان في جميع الطبقات إيماء إلى أن الدين هو في العمل لا
في القول.
ب - عضد الكنيسة في تحريم المسكرات.
ج - الوساطة في حل المشكلات العامة التي تمنى بها الطبقات العاملة مثلاً.
د - الاستيلاء على الطبقات العاملة بطريق الاشتراك معها في تمريضها وحل
مشكلاتها.
هـ - الاستعانة بالوعظ الكنسي العام لنشر هذه المبادئ والتبشير بها.
2-
الأصوليون
أصحاب هذا المذهب هم في الولايات المتحدة أكثر منهم في بلاد الإنكليز،
وهذه الحالة هي عكس حالة العصريين الذين هم في بلاد الإنكليز أكثر منهم في
الولايات المتحدة، وأهل هذا المذهب يختلفون عن العصريين اختلافًا بينًا، لا بل
يمكن أن يقال: إن الفريقين على حدين متقابلين بعيد ما بينهما، وهذا يتضح بإيراد ما
عندهم من قواعد وأسس وهي:
أ - قبول التوراة بحوادثها التاريخية كما وردت فيها.
ب - أخذ التوراة بمعانيها الظاهرة بلا تأويل.
ج - رفض الآراء المناقضة للتوراة كرأي النشوء والارتقاء.
د - الرجوع إلى عقيدة الأسلاف أهل القرن السابع عشر الذين هاجروا من
إنكلترا إلى أمريكا أيام الضغط الديني.
ويظهر من إمعان النظر في القواعد التي عليها أهل هذا المذهب أنهم أصحاب
رجعة إلى العقائد المسيحية دون أن يقبلوا تسلط أي قوة من القوى العلمية الحادثة على
تفسير ما ورد في التوراة من أنباء وأخبار، وهم يعضِّدون مذهبهم هذا بشيء من
الرأي الفلسفي اكتسب قوة بعد الحرب، فهم يقولون: إن استناد الإنسان إلى العقائد
الثابتة في وسط كثرت فيه المصائب وعمت البلايا، هو أهنأ للنفس والروح، وأنشط
للقلب والعزيمة، وأطرد للجزع والخوف، فالرجل يجد في اعتصامه بالعقيدة الثابتة
ذلك النوع من الطمأنينة العذبة والاستراحة المنعشة، وأما إذا استولت على المسيحي
الشكوك والريب في مثل هذه السنوات بعد الحرب والشدة والأزمة ما هما، فيزداد قلبه
اضطرابًا ونفسه هلوعًا، فيحل به التلاشي والانحلال؛ ولذلك هم يقولون بأنه خير
للمسيحي أن يُحمل على اعتناق العقيدة آخذًا بها صبرة واحدة، فإذا أخضع هذه العقيدة
لقوى التفسير والتأويل بما يناقضها أحيانًا، ويضعفها أخرى يزداد أمره بلوى وحيرة.
والوسائل التي بيد أهل هذا المذهب كادوا يكونون فيها منفردين، وإلى نوعها
سابقين، إذ هم فيها يشبهون أصحاب الأحزاب السياسية التي تود الاستيلاء على
الحكم والسلطان من طريق تكثير السواد والحصول على كثرة نيابية، كذلك يفعل
هؤلاء الأصوليون فهم يسعون إلى تكثيف سوادهم، وتكوين كثرة نيابية في الولايات
التي كثرت فيها جموعهم، ثم هم بعد ذلك يريدون استنان الشرائع والقوانين الرسمية
المؤيدة لمذهبهم، والمقاومة لمخالفيهم، وهم الذين قاموا منذ سنتين تقريبًا بمحاولة منع
تدريس رأي النشوء والارتقاء في إحدى الولايات الأمريكية.
3-
الروحانيون
كان علم الروح في أول هذا القرن ضئيل الشأن جدًّا، حتى إن الجمهرة من
علماء النفس ما كانوا يحفلون به ولا يقيمون له كبير وزن، ففي سنة 1904 نشرت
طائفة من الصحف الكبرى أسئلة طلبت فيها من الجمهور أن يبدي رأيه فيما كان
وقتئذ لعلم الروح من مباحث سيارة وآراء منتشرة، فكانت الأسئلة دالة على أن
الجمهور لا يعبأ كثيرًا بذلك العلم وما إليه، ثم إن سير هذا العلم بعد مفتتح القرن
العشرين كان ضعيفًا بطيئًا حتى جاءت الحرب العامة فورًا، ووقع تأثير ما جرَّته
من المصائب والبلايا موقعًا عميقًا في نفوس الأمم الأوربية، فذُهل الناس، واشتدت
الحيرة وساد القلق، وكانت الألوف وعشرات الألوف تنقلب من على ظهر الأرض
إلى جوفها ما بين عشية وضحاها، فوقعت النفس البشرية في ضنك ما روى له
التاريخ مثلاً، وقد كان من طبيعة الحال أن صار الناس يتساءلون ما الموت؟
وكيف يحدث؟ وما حقيقته؟ وهل تلك الألوف المؤلفة من الرجال ماتت حقيقة ميتة
لا رجوع بعدها؟
هذه صفة الحال في وسط الحرب سنة 1916 فإذا بالسير أوليفر لودج شيخ
علماء الروح في هذا العصر، وهو عالم كبير في ضروب العلوم الكونية على
الإطلاق يباغت أوربة بكتابه الذي أخرجه تلك السنة موسومًا بـ (ريموند) وفي
ها الكتاب جال صاحبه في عالم الروح والمخاطبات الروحية جولة كبيرة لم يظهر
مثلها من غيره بعد، وهو كان له ابن تجند في الجيش وقُتل، وذكر السر أوليفر
لودج في كتابه أن روح ابنه خاطبته بواسطة الوسيطة مسز ليونارد.
ثم تجدد لعلم الروح شأنه الكبير، ولم يزل يعلو وينتشر كما نرى إلى هذه
الساعة، والأحوال التي يذكر الأصوليون أنها هي السبب لجعل الإنسان يستند إلى
العقيدة الثابتة، هي الأحوال المفعمة بالضنك والضيق، التي ساعدت علم الروح في
انتشاره الحديث، لما صادف هذا العلم في النفوس المضطربة القلقة على إخوانها
المفقودة، من ارتياح إلى تعليلاته في إمكان مخاطبة الأرواح الغائبة.
هذا ما يقال على الإجمال في نشأة هذا العلم ومسيره، أما مؤتمر الأساقفة سنة
1920 فقد أعلن الحرب على هذا العلم بلسان أساقفة كنتربوري، بدعوى أنه
ضلال شديد؛ لأنه يُخْضِع العقل والإرادة لقوة مجهولة.
4-
أهل العلم المسيحي
العلم المسيحي - وهو مذهب يبدو اسمه غريبًا لأول وهلة - هو طريقة حديثة
في المسيحية قائمة على أساس مشترك بين التصوف وتعاطي العلاج النفساني
والجسماني بوسيلة العقيدة فحسب، دون الالتجاء إلى شيء من العقاقير الطبية، أو
تشخيص الطب لماهية العلل والأمراض، وقد سُمي بالعلم المسيحي لأن من أساس
العقيدة فيه التوسل بمعرفة التوراة والإنجيل إلى الفناء في المسيح طلبًا للخير
والشفاء من العلة والاقتداء به في حياته.
إن الذي أسس هذا المذهب هو سيدة أمريكية اسمها مسز ماري بيكر كلوفر
أيدي Eddy Glover Baker Mary.Mrs
وُلدت في أمريكا سنة 1821، وتُوفيت سنة 1910، وفي سنة 1843
تزوجت من الكولونيل كلوفر الذي توفي بعد سنة من زواجهما، وفي سنة 1853
تزوجت من دانيال براترسون ودامت حياتهما الزوجية عشرين سنة، ثم طلقها سنة
1873، وفي سنة 1877 تزوجت لثالث مرة من الدكتور آسا جيلبرت أيدي وكان
هذا الرجل آخر رجل تزوجته ومات سنة 1883، هذا ملخص حياتها الزوجية وقد
عاشت حياة طويلة، تسعين سنة.
وفي سنة 1867 أظهرت للناس مذهبها، وهو الشفاء بواسطة العقيدة العقلية
بانية تعاليمها على التوراة، وعلى أساس أن جوهر طبيعة الإنسان هو جوهر
روحاني، وأن روح الله هي المحبة والخير، وأن الشر المعنوي والشر المحسوس
هما ضدان مقاومان لروح الله، ووجودهما في الإنسان دليل على أن نفسه خالية من
الروح الحقيقية التي كانت في المسيح.
وهي تقول أنه ليس هناك إلا عقل واحد وإله ومسيح واحد، وليس هناك ما
يعد حقيقة إلا العقل، وأن المادة والمرض هما عارض موهوم تمكن إزالته إزالة
تامة بقيام العقل قيامًا حسنًا بمعرفة الله والمسيح، ومن هنا غلبت تسمية هذا المذهب
بالعلم المسيحي، وفي سنة 1876 بعد أن كان هذا المذهب قد عُرف أمره وشاع
ذكره، وعمت أصوله، وأقبل جمهور كبير من الناس عليه - أسست صاحبته
(جمعية العلم المسيحي) ودعت الناس إلى الدخول فيها، والسير على مبادئها،
وكانت المؤسِّسة قبل ذلك التاريخ بسنة واحدة قد وضعت كتابها الموسوم بـ (العلم
والصحة) وهو الكتاب الذي أصبح اليوم الإنجيل المرعي عند أهل هذا المذهب،
وطُبع عدة مرات، وقرأه كثير من الناس، وفيه فصَّلت مسز أيدي أصول المذهب
تفصيلاً كافيًا.
وانتشار هذا المذهب كان سريعًا جدًّا كما يدل عليه هذا الإحصاء التالي:
سنة 1910 كان لهذا المذهب 1207 كنيسة منها 1071 في أمريكا، و58
في بلاد الإنكليز.
سنة 1920 كان لهذا المذهب 1804 كنيسة منها 459 في أمريكا و 98 في
بلاد الإنكليز.
سنة 1926 صار مجموع الكنائس في البلدين 2150 كنيسة.
سنة 1914 ألقي 500 خطاب على 000،000،1 من الناس.
سنة 1926 ألقي 3423 خطابًا على 889،669،2 من الناس.
ومما هو جدير بالنظر والمقارنة بين العلم المسيحي والمذهب الروحاني أن
العلم المسيحي نشط من أول الحرب في الوقت الذي عمت فيه البلوى الجمهور من
كثرة الموت في ساحات القتال، وكان نشاط هذا المذهب ولم يزل معاصرًا لنشاط
المذهب الروحاني وبينهما فرق بعيد، فالمذهب الروحاني يقول: إن الموت لا يذهب
بالروح إلى حيث لا تعود بل من الممكن أن تخاطب الروح عن طريق الوسيط،
فتجد النفس القلقة شيئًا من الارتياح إلى هذا. ويقول العلم المسيحي: إن هذا الموت
الذي تحارون فيه لا قيمة له وليس هو بحقيقة؛ وإنما هو عارض، فإذا اعتقدتم في
حياتكم أن المرض والألم وهمان يزولان بالاستمساك بالعقيدة الإنجيلية ومعرفة
المسيح، فالموت الذي تلاقونه بعدئذ لا تنالون منه ضرًّا، وليس هو بشيء تهلع
له قلوبكم.
وقد انتشر هذا المذهب انتشارًا كبيرًا في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والدانيمرك
وأسوج ونروج وأسبانيا والروسية وهولاندة واليونان، وسنتا 1923-1925
كانتا زمن الفوز الأكبر لهذا المذهب.
5-
الكاثوليكية البابوية
ذكرنا قبل الآن أن الكنيسة الأوروبية على الإجمال انقلبت عندما نادى منادي
الحرب سنة 1914 من منابر وعظ وإرشاد على منابر الدعوة إلى الكفاح والجهاد،
والمعني بالكنيسة الأوروبية على الأغلب في هذا القول، الكنيسة البروتستانتية
وغير البروتستانتية مما انكمش ضمن الدائرة الإقليمية، وخضع خضوعًا تامًّا
لفكرة لدفاع الوطني، وصار يبث روح الحرب في الجند بداعي أن القضية التي
جرت المدافع من أجلها واستلت السيوف من أغمادها، إنما هي قضية مقدسة من
جهة ذلك الوطن، وأما الكرسي البابوي فقد اتخذ نهجًا سلميًّا لسياسته إزاء الحرب
وويلاتها، وسارع البابا إلى إظهار الدعوة التي ينادي هو بها من زمن طويل،
وهي السلم المسيحي وتأييد الأخوة، ولم يتخذ الكرسي الرسولي فكرة الدفاع الإقليمي
عن الأوطان الأوروبية بمعنى استعمال السلطة الكنسية لتأييد القوة الروحية الحربية
في الجيوش الأوروبية.
ومذ انقلبت الأرض الأوربية إلى حفرة من النار وساحة من الدماء، أخذ البابا
ينادي السلم السلم، فلا يسمع له صوت، فينادي الصلح الصلح، فلا يفلح، فينادي
الرفق بالأسرى، حقن الدماء، إغاثة الملهوف، وما إلى هذا من تخفيف البلاء إذ
لا سبيل إلى إزالة البلاء.
حتى إن الدولة الإيطالية لم تستفد من الكرسي الرسولي في الحرب كما
استفادت إنكلترا من كنائسها، ولا كما استفادت كل البلاد المحاربة من السلطة
الكنيسية أو الروحية التي فيها.
فلما انجلت الحرب، إذا بالكرسي البابوي تنتشر هيبته، لا في أصقاع العالم
الكاثوليكي فقط، بل في البروتستانتي أيضًا، وإذا بتلك المبادئ السلمية التي كان
يدعو إليها البابا وقت الحرب تصبح من المثل العليا في أعين الأمم الأوروبية التي
صارت تتوق بملء نفسها وجوانحها إلى تحقيق الطمأنينة والعودة إلى السكينة، ثم
بعد الحرب أيضًا أعاد الكرسي الرسولي نظره فيما له من أوضاع وقصّاد،
ومُرسَلين في الداخل والخارج، فأفرغ على كل هذا جلبابًا جديدًا ماؤه النشاط وطلب
السعة والانتشار، فازدادت هيبته وعلا مقامه، وقاربت القواعد الأصلية في
الكاثوليكية ذلك الشوق المستكن في نفوس الأمم المسيحية المتألمة إلى الراحة
والسكون.
زد على هذا أن الرأي الفلسفي الذي يعتضد به الأصوليون أصحاب المذهب
الآنف الذكر، هو رأي يطابق بمعناه القاعدة الكبرى في الكاثوليكية، من الاعتصام
بالعقيدة، والأخذ بها على ما هي عليه، دون أن يسلط عليها عامل التفسير والتأويل
والتضييق والتوسعة، فاجتمع للكرسي الرسولي من كل هذا شيء جديد، هو القوة
المعنوية والأدبية، منتشرة في غالب أصقاع العالم المسيحي، والذي يدعو إلى
الدهش هو أن الكاثوليكية من حيث هي دين أصبحت عاملة مستميلة، آخذة بالدعوة
حتى إن كثيرًا من البروتستانت في بلاد الإنكليز يدخلون فيها، وعدد الداخلين في
الكاثوليكية يزداد سنة فسنة، يؤيد هذا إحصاء يركن إليه وهو أن في سنة 1914
كانت نسبة الداخلين في الكاثوليكية من البروتستانت في بلاد الإنكليز سنويًّا 651
نفسًا، وفي سنة 1917 كانت النسبة السنوية للداخلين في الكاثوليكية في بلاد الإنكليز
أيضًا 11064، وقد رأى الكرسي الرسولي ما حصل لمقامه من شأن حتى بلغ هذه
الذروة العالية، فتوسع في سد الحاجات التي في نفوس الأمم الأوروبية، ولا سيما
الكاثوليكية، فأخذ يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي ومكافحة التطرف الضار في
الاجتماعية، وقد مر القول أن الضعف الروحاني الذي بدأ في العالم بعد الحرب العامة
رافقته ظاهرة الضعف الخلقي الأدبي، حتى أصبحت مملكة الآداب الخلقية منذرة
بأخطار هائلة، وقد هتك سياجها في مواضع عديدة.
وكل ما نسمعه في هذه الأيام من ظهور جهود في إيطالية ترمي إلى الأخذ
بدرجة الاعتدال في الحرية الاجتماعية، والاستقرار على الصحيح من العادات
الاجتماعية، كمحاربة الأزياء الفاحشة وما أشبه، كل ذلك إن لم يكن من الكرسي
البابوي مباشرة فهو صادر بوحي منه وتدبير.
وأكبر السبب الذي حدا بالدولة الإيطالية إلى عقد المعاهدة الرومانية مع
الكرسي البابوي هو أنها رأت ما للبابوية من ذلك المقام الرفيع في العالم، فتاقت
نفس موسوليني إلى أن يعتضد بتلك القوة إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يجعل له
من توسله بذلك الكنف الحصين طريقًا إلى الفائدة والمنفعة في إيطالية وخارجها.
بعد كل هذا البيان، المعزز بالأرقام الإحصائية والأدلة الواقعية، يتبين لنا
أجلى تبيان أن العالم الغربي على الجملة مصاب بمحنة الأزمة الروحية، ونزلت به
جائحة عامة هي ضعف القوة الروحانية، للأسباب التي سردناها، وبعضها كان قبل
الحرب فجاءت الحرب وزادته فعلاً وعملاً، وبعضها الآخر ولَّدته الحرب وأورثته
الأمم جميعًا، وتبين لنا أيضًا أن هناك في أوروبا وأميركا نزعات متنوعة،
ومذاهب عديدة، كلها يسارع إلى العمل على النحو الذي تمكن به مؤاساة النفس
الأوروبية الجريحة، ورد الطمأنينة إليها بحيث تذهب عنها حالات القلق
والاضطراب، وغالب تلك النزعات والمذاهب نشأ من الروح المسيحية ليواسي
النفس المسيحية بالوسيلة المسيحية، وإذا استثني علم الروح لكونه لا يحمل شارة
المسيحية الخاصة، فهو من جهة أخرى يطلب الاتصال بالروح ولا ينادي بأن
المادة هي كل شيء في العالم.
وإذا كانت جميع هذه الحركات الرامية إلى الإصلاح في حالات النفس
والروح والدين تنشأ في الأقطار الأوروبية والأميركية، فمعنى ذلك أن القائمين بتلك
الجهود وأصحاب تلك المذاهب هم يعتقدون أن مداواة النفوس بطريقة الدين أنجع ما
يمكن عمله، وهم لم يطرقوا في جهودهم هذه أبواب رجال السياسة، ولا الملوك
والأمراء، ولا طلبوا من حزب سياسي شيئًا، بل انقلبوا بمجموع ما في أيديهم من
قواعد وأصول ومبادئ إلى النفس المسيحية يداوونها ويعالجونها على النحو الذي
تقدم.
فهل الحركات التي طغت في بلادنا - ولها مريدون وعمال ووسائل وطرق
وأساليب - هي من حيث استقرارها على برهان علمي، ملائمة لنفسية هذه الأمم
التي تقطن مصر وسورية والعراق وفلسطين والجزيرة؟ أو هي تصادم ما في
نفسيات هذه الأمم من دين وعقيدة وإيمان؟ الجواب: إن تصادم ذلك لا يكون
عسيرًا، وحالتنا الحاضرة يجب أن يظهر فيها منطق اجتماعي يأمر بالمعروف فيما
هو مبقٍ لهذه الأمم في هذه البلدان قوتها الروحية وكيان ثقافتها وتاريخها ولغتها.
إفساد المدارس الأجنبية في البلاد العربية:
شر القوى المسلطة على النفسية العامة في هذه البلدان هي المدارس الأجنبية
بمختلف علاماتها وأنواع جمعياتها التي تنتمي إليها، ولا فرق بين التبشيري منها
وغير التبشيري، والسواد الأعظم منها هو تبشيري على كل حال.
هذه المدارس هي مراكز مسلحة بأحدث آلات الإفساد، وعملها في الغارة على
الأمة ونشئها لا يقل بوجه عن الوجوه عن الغارة العسكرية الحربية، بل غارة
المدارس الأجنبية أقتل وأنفذ، وأستر عن العين، وأخبث وسيلة، وأكبر شرًّا، فإذا
كان ابن الثلاثين أو الأربعين فما فوق يؤدي للأجنبي الضريبة المالية الفاحشة،
والأعشار من نتاج الأرض، ويخنع للقوانين الجائرة (فهو) يفعل كل هذا ولكن
يبقى له دينه وتقاليده، وما ورثه من آبائه وأجداده من عز نفس، وكرامة، وشمم،
وإباء، وهو يرى هذا العصر قد طغت فيه الخبائث وغارت الفضيلة لشدة ما رميت
به البلاد من المهالك الأجنبية، السالبة لكل عزة وكرامة؛ ولكنه عندما يجول في
خاطره مظهر الشرق القومي الكامل، يصعد الزفرات من بين حنايا ضلوعها،
وينتفخ وجهه حسرة وألمًا، هذا ما يفعل اليوم ابن الثلاثين أو الأربعين.
أما الناشئ، والحدث، والشاب، الذي لم يشب عن الطوق بعد، أو شب عنه
بعد الحرب العامة، والذي يدخل المدارس الأجنبية، المجهزة بكل الوسائل
المدرسية للاستيلاء على عقول الطلاب، فهو عندما يدرك الثلاثين أو الأربعين، أو
هو من اليوم وهو لم يزل على مقعد التحصيل في المدارس، قد انقلب ليس إلى أن
يكون عاملاً مسخرًا للأجنبي يؤدي للمسيطر عليه الضريبة والعشر وما إلى ذلك فقط،
بل هو مسلوب الدين والعقيدة، فاقد الأنفة العربية الصحيحة، بريء من الثقافة
القومية، تاريخ العرب في نظره قطعة بالية، وتاريخ الإسلام في رأيه ساقط
مكذوب، والتقاليد القومية يراها ضحكًا وسخرية.
على مثل هذا النوع من النشء تعمل المدارس الأجنبية، وتعتني بتخريج
الطلاب من أبناء هذه الأمة، والمدارس التبشيرية الموزعة في البلاد مرتبط بعضها
ببعض ارتباطًا وثيقًا محكمًا، بحيث إنك ترى في غاياتها ومراميها ومجالات أعمالها
وجهودها مقصدًا واحدًا، وهدفًا واحدًا لا يتغير.
والمدارس التبشيرية لها من الأنظمة ورؤوس الأموال ما يحير العقول
والأفكار، وبعد الحرب العامة دخلت جهود هذه المدارس في دور لم يسبق له مثيل
في التنظيم وكثرة الوسائل والارتباط.
وصار أكثر ما تخرجه مطابع الجمعيات التبشيرية الكتب والنشرات والمقالات
في استصراخ العالم التبشيري للحملة على هذه الديار حملة صادقة، والمدارس
الأجنبية من هذه الوسائل، وهي في المقام الأول، فحرام أن يسلِّم الوالد ولده،
والأخ أخاه إلى المدرسة التبشيرية، لتأخذه عدة سنوات، فتتسلمه ولدًا صحيحًا
بعقيدته وثقافته ودينه، ثم بعد حين ترده إلى أهله وأمته وبلاده ولدًا مزيفًا ما كان
فيه قد أُخذ منه، وما أعطيه ففاسد لا جدوى منه ولا منفعة.
(للمحاضرة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: أكثر الناشرين لهذه الأفكار هم من فساق هذه البلاد وسفهائهم؛ الجرائد جعلت لهم قيمة لأن الناس هنا يحذورنهم لسفاهتهم، وفي الخارج لا يعرفون حالهم.
الكاتب: شكيب أرسلان
ماذا يقال عن الإسلام في أوربة
(2)
نشرنا في الجزء الأول تحت هذا العنوان ما ترجمه لنا الأمير شكيب أرسلان
من كتاب (العالم الإسلامي في المستملكات الفرنسية) للضابط (جول سيكار)
وننشر هنا ترجمة الفصل الثاني منه وموضوعه للتلميذ النجيب صاحب الإمضاء
هذا نصها:
احتكاك الإسلام بالمسيحية
(1)
هل تنصير المسلم ممكن؟ وهل هو مرغوب فيه؟
إن البراهين مهما تكن قوية جلية الدلالة على تفوق المسيحية تفوقًا كبيرًا فهي
ستلاقي أمامها حتى عند المسلمين الذين لا يستنكفون عن المناظرة (وعددهم قليل
جدًّا) هذا الجواب البسيط: (هذا مخالف لما جاء في القرآن، ومن المعلوم أن
الكتاب الكريم فوق كل مجادلة لأنه كلام الله ذاته) .
ومع ذلك نقول بأن تنصير المسلم باختياره ممكن خلافًا للرأي الغالب، وإن
كان أصعب بكثير من تنصير الوثني.
وإننا نجد لذلك أمثلة قاطعة في الماضي أثبتها التاريخ، وأنا لا أتردد في قبول
النظريات التي بنى عليها رونيه بازان (Bazin) مقدمته القيمة لكتابه (حياة الأب
فوكو) : إن الإنسان في جملته وعامة أمره يصعب عليه من طبيعته أن يعيش بدون
دين، أولسنا نرى في كثير من الأحيان تلك العقول التي تتبجح بأنها تحررت من
الاعتقاد وصارت تراه وهمًا باطلاً تسقط - طال الزمان أو قصر - في الشك
المطلق أو تُحبس في نوع من التصوف الضار كالبلشفيكية أو الشيوعية الثورية؟
فإذا افترضنا أن المسلم المترقي وصل يومًا ما إلى هذا الحد وصار لا يستمد من
إيمانه ما يرضي عقله وقلبه، فلماذا لا نعتقد أن تفوق المسيحية سيستغويه كما
استغوى كثيرًا من الشعوب، وينتهي بالميل إليها من نفسه، فيعتنق باختياره دينًا
كثير الفضل ساعد على المدنية إلى درجة عظيمة؟ ومن الوجهة الوطنية المحضة
أليس الأحسن ترك المسلم يتجه في هذا الطريق من أن نراه يسقط في أحضان
المذاهب السلبية أو الضارة [1] .
ولا محيد لنا عن الاعتراف بأن أكثر نصارى اليوم ليسوا نصارى إلا بالاسم،
هذا إذا لم يتظاهروا بالردة والكفر، فلهذا هم لا يؤثرون التأثير المطلوب لجلب
إخواننا المسلمين إلى المسيحية [2] .
قال أحد أعيان وهران السيد محمد بن رحال: (إن الأضرار التي يحدثها عند
الأوروبي انحلال العائلة، وانحطاط الأخلاق، وشرب الخمور، ومزاولة الميسر،
والانهماك في الملذات، والفوضى، ومحبة المال محبة لا حد لها، والإباحية، إلى
أضرار أخرى - تجعلنا نتساءل: أي الفريقين أشد مرضًا؟ أو أيهما المريض؟
ولماذا لا يصير الإسلام ملجأ لأوروبا وطريقًا لنجاتها؟ وهل يمكن للأوروبي أن
يتحمل كالمسلم وهو ليس له ذلك السند القوي الذي لا يؤثر فيه شيء ألا وهو
(الإيمان) ؟ [3] .
هذا وإن العقبة الكئود في سبيل تنصير المسلم هي العداوة والاحتقار الذي
يلاقيه المتنصر في وطنه فالمتنصرون المغمورون في أوساطهم يظلون عرضة
للتعصب المحيط بهم، وهم بلا شك يكونون مرغمين لسلامة أنفسهم على أن
ينزحوا عن بلادهم، هذا إذا لم يصل الضغط عليهم إلى حد إرجاعهم عن اعتقادهم
الجديد.
على كل حال يجب أن نترك لمبشرينا حرية تامة في أعمالهم، على أنها
يجب أن تكون مجردة عن كل ضغط وإرهاق؛ لأن ذلك ينافي روح المسيحية،
فإذن يجب ألا يجد المبشرون في أعمالهم سواء الخيرية أو التبشيرية عقبات من حقد
بعض موظفي الإدارة الملحدين أو المعادين للكنيسة فقط، الذين يغتنمون مثل هذه
الفرصة لإظهار عداوتهم للدين، وكذلك يجب ألا تجد الأعمال التبشيرية قيدًا من
حذر بعض الموظفين الجبناء أو القليلي الدراية الذين في خشيتهم انفجار التعصب
الإسلامي قد يستنتجون من هذه الحركة الاختيارية الروحية المحضة نتائج غير
مرضية لسلطتنا.
فالنتيجة التي يمكن أن تحصل هي ضد ما يعتقدون، نعم إن من قلة المعرفة
عدم الاعتراف بأن المسلم (إلا ما قل) يجد حتمًا في تعاليم علمائه حاجزًا لا حد له
في سبيل التقارب التام بين القلوب.
وإذا تنصر الأهلي [4] كان تنصيره سببًا في جعله من أنصارنا نهائيًّا، هذا
بقطع النظر عن الواجب الذي يحتمه عليه وجدانه من احترام النظام والسلطة
الموجودة كما تقتضيه روح الإنجيل [5] .
ولتعضيد هذه النظرية نقتبس من بحث كان نُشر في مجلة أفريقية الإفرنسية
(عدد 10 أكتوبر سنة 1926) باسم كافيه (Cavê) قوله:
(لابد من بيان أن تنصير أبناء العرب في تونس وكذا في الجزائر ودخولهم
في الجيش الفرنسي، واتباع أبنائهم أيضًا هذه الطريقة يفتح طريقًا سهلاً للتفرنج،
ولو لم يتجنسوا بالجنسية الفرنسية، فكأننا نخلق نوعًا من المالطيين لا همَّ لهم إلا
أن يذوبوا فينا، ويجب أن نعترف بأن الاندماج الديني على الطريقة التي اتبعت فيه
ينتج عند الأهالي من كل وجهة نتائج تفوق الاندماج المدني الذي كان أُعلن (أي في
مجلس النواب) ولكن لم ينفذ بمرسوم للتجنيس، ومن جهة أخرى نرى أن النزاع
الديني يمكن أن يستحيل إلى عداء وسوء تفاهم حتى في أوروبا يضمحل، والنتيجة
الأخيرة أن تبديل الاعتقاد يتبعه تبديل العقلية كلها) .
وما أصدق هذا القول أيضًا: (لو أن مجهودات رجال مثل الكردينال لفيجري
لم تعترض لكنا نجد في شمال أفريقية بضعة ملايين من المدغمين فينا بدلاً مما هو
الواقع إلى اليوم من وجود بعض آلاف من الفرنسيين في وسط عشرة ملايين من
السكان الأهليين (أي المسلمين) وأخص بهذا الإدغام والاندماج البربر سكان بلاد
الأصليين أبناء القديس أغستينوس والقديس بولي من غير أن يشعروا، فكان يمكنهم
اليوم أن يتكاتفوا معنا تحت العلم الفرنسوي ضد أعمال التفرقة التي يسعى لها منذ
بضع سنين بعض دعاة وطنية مضطربة ذات لهجة معادية للأجنبي) .
فحينئذ أصرح بدون تردد أنه يجب على رجالنا السياسيين، وكذا على الرجال
المكلفين بحكم الأهالي (أي المسلمين) أن يعضدوا حركة التبشير بطريق مباشر أو
غير مباشر على أن تكون مجردة عن كل ضغط، نعم يجب تعضيدها عوضًا عن
خنقها، ويجب أن ينظروا في ذلك بعين المصلحة الوطنية وانتشار السلطة
الفرنسوية، فهاك نتيجة تستحق البحث بكل إمعان من طرف الذين يقبضون على
زمام حكمنا والذين لا غاية لهم إلا عظمة فرنسا.
(2)
موقفنا في المسألة السياسية الدينية
إنني أريد بهذا العنوان بيان الموقف الذي أقترحه في هذا الطريق الوعر بما
لدي من التجارب الشخصية، محررًا فكري من كل حكم سابق، ومن كل احترام
إنساني، ومن كل ما تملق نحو الأفكار التي كانت معتبرة منذ زمان قليل، ولا
يهمني إلا شيء واحد هو المصلحة الفرنسوية:
إذا احترمت الدين والعادات والتقاليد، وتسامحت في بعض الأفكار الباطلة
عند المسلم، وإذا لم تتكلم عن النبي إلا باحترام تكون قد أحسنت الأدب، وتكون قد
أحسنت السياسة.
ومن آيات التسامح التي يمكن أن تظهرها لإخواننا المسلمين ما يجب علينا
اتقاؤه من جرح عواطفهم، مثال ذلك أنك إذا كنت معهم في شهر رمضان فليس من
الذوق أن تدخن وخصوصًا إذا كنت في مكان مغلق؛ لأنه يكفي استنشاق رائحة
الدخان لإبطال الصيام [6] ، وكذلك يجب ألا تأكل لحم الخنزير بمحضرهم في أي
وقت كان، وهم يعترفون لك بجميلك هذا؛ ولكن لا تبالغ.
ليس من الأوفق أن تشجع الإسلام، ولا أن تحاربه، فتشجيعك إياه علامة
ضعف يؤسف لها كثيرًا، ومحاربتك له قد توقظ التعصب، وفي هذا المعنى قال
كاتب فأجاد في قوله: (إن الإسلام في أصله قوة معاكسة لرغائبنا وأمانينا وميولنا،
وتلك القوة يمكن أن تخمد وتسكن، ولكن لا يمكن أن تقهر أبدًا، ومن الواضح أن
من مصلحتنا أن نُعْمِل جهدنا في عدم انتشاره عند الشعوب التي تحت سلطتنا،
وهذه السياسة التي أبانت التجربة حكمتها لم تكن متبعة دائمًا) .
وقال الجنرال بريمون (Bremond) المعروف باختباره للعالم الإسلامي:
مما لا شك فيه ولا ريب أن الإسلام لا يمكن أن يكون مواليًا لمن هو غير مسلم،
إذن فليس معقولاً أن نجعل أنفسنا في مقام حماته، فإذا احترمناه وإذا أعطيناه جميع
الحريات الممكنة كان ذلك من جنس السياسة؛ ولكن من الخطأ الكبير أن ننشر
الإسلام بين قبائل البربر، وأن نجبرهم على اللغة العربية والشريعة الإسلامية،
وأن تكون معاملتنا للمسلمين أحسن من معاملتنا لغيرهم: إن للعربية مزاياها وجمالها؛
ولكنها كثيرة التعقيد فلا تصلح أن تكون أداة بسيطة واضحة سهلة التعليم للحياة
العصرية [7] .
إنه لمن خطل الرأي أن تكون نية بعض الكتاب والرجال السياسيين الحسنة قد
فاتت خبرتهم، ذلك بأنهم كثيرًا ما يُظهرون أمام المسلمين أنهم يعتقدون تفوق
الإسلام، فالمتعصبون من المسلمين أو أولئك الذين لا يزالون يعتقدون علوية دينهم
منهم - وأعني الأغلبية الساحقة - يغتنمون ما في مدحنا من مبالغة ويظنونه احترامًا
منا للحقيقة دُفعنا إليه بإرادة الله الذي يدفع الإنسان لإظهار خضوعه بارزًا ماثلاً أمام
ما يعتقدون هم أنه الدين الحقيقي.
إن خيلاء المسلمين الذي لا حد له ينبغي ألا يشجع على أن عقليتهم قابلة
للتطور، وإذا كان المسلمون - حتى أحرار الفكر منهم أو من يزعمون ذلك - لا
يقبلون أن يمس اعتقادهم المحترم ككل اعتقاد مخلص؛ فإن المسلمين المتنورين [8]
يزيد عددهم يومًا فيومًا، والتعصب يضحمل أمام مصلحة حسن فهمها، وبعض
الآيات القرآنية التي تعارض روح العصر معارضة عنيفة أو تُعارض العقل فقط [9]
تسقط بسهولة وسيزيد سقوطها كما دلت على ذلك السوابق.
ويجب أن نعترف بأن روح التسامح مع الديانات المخالفة كثيرًا ما تقع من
المسلم أو يتظاهر بها على الأقل.
فإذا كان احترام عقلية محكومينا الخاصة هو محور سياستنا، فذلك لا يقتضي
المبالغة فيها أكثر مما يجب في الخضوع إلى المبدأ لأننا إذا فعلنا سنؤخر إلى ما لا
نهاية كل إصلاح، وكل تقدم في كل مرفق من مرافق الحياة خوفًا من جرح
عواطف المسلمين، وذلك لأن عندهم أوهامًا لا تتفق والتقدم.
إياك وأن تخوض في أمر الدين مع المسلمين، فالرجل ذو التربية الحسنة
سيترك لك الكلام ويتحاشى جرح عاطفتك، وفي كثير من الأحيان يكتفي بابتسامة
ويخرج بالحديث عن موضوعه، وأما إذا كان الكلام مع رجل بسيط أو متعصب
فستتعرض لجواب قاسٍ منه.
إنك إذا تكلمت عن الإسلام لتمدحه أو لتذمه فإنك في الحالة الأولى تستفيد
الظنة والشك في إخلاصك، وفي الحالة الثانية تلقي في القلوب حقدًا كبيرًا، وكذلك
مدح المادية أو الإلحاد أو ذم الديانة المسيحية ضلال محض، وكثيرًا ما يقف بعض
الأشخاص هذا الموقف، فهم يريدون إظهار اختيارهم للإسلام؛ ولكن في الحقيقة هم
إنما يستسلمون لدافع فيهم إلى إظهار عدائهم للدين المسيحي أولأي حركة لرجال
الكنيسة.
المسلم تشمئز نفسه من عدم الدين، وإذا كان من المتنورين؛ فإنه يرى أن
محاربة الأوربي لعقيدته وهدمه بهذا العمل للركن الأصيل في مدنيته الخاصة غير
معقول.
وعند كلام فيو Veuillot عن أولئك السياسيين الذين يجتهدون في إخفاء
البقية الباقية لنا من الدين بحجة عدم إيقاظ التعصب الإسلامي قد اتهمهم بأنهم
يرتكبون أعظم خطيئة وسوس لهم بها الشيطان، فلا شيء يكرهه التعصب
الإسلامي كشعب بلا اعتقاد ولا إله [10]
وبهذه المناسبة نقول بأنه لا بأس بتبديد بعض الأوهام وبعض الجهالات
المتمكنة من الأهالي (أي المسلمين) فمثلاً نجد كثيرًا منهم لا يزالون يعتقدون أنه
ليس من عقائد المسيحية خلود الروح وإثبات الحياة الأخرى، ويتخيلون أيضًا بأن
الصور والتماثيل التي تزين الكنائس يعبدها المسيحيون عبادة وثنية، مع أنهم إنما
يحترمونها كرمز لإيمانهم أو لمحبتهم، كما يحترم العلم الوطني رمز الوطن وكما
يقبل الإنسان صورة شخص عزيز عليه [11] .
(3)
عقيدة التثليث
إن لعقيدة التثليث في قلوب المسلمين عداوة شديدة جديرة بالاهتمام بما لها من
النتائج المهمة في التفريق بيننا وبينهم، والفكرة التي يتصورونها من هذا الاعتقاد
تضرنا كثيرًا حتى عند من يتجملون منهم بإظهار حرية الفكر، مع أن التثليث كما
يقول علماء الكلام عندنا ليس إلا مظهرًا من مظاهر الوحدة الإلهية خضع أمامها
أكثر العقول تكبرًا ودعوى، وهذا علامة على ما يسمونه بساطة التفكير
(وبالألمانية Keit.Eiseitig Die) في الشعوب السامية.
فهم لا يفهمون أو على الأقل أغلبيتهم بأن كلمات (أب)(ابن) لا تطلقها
المسيحية بكيفية مادية ولكن روحية محضة، ويجب أن نقف عند هذا الحد في كل
مناظرة في هذا الموضوع [12] .
قال مسلم صديق في كلامه - وقد كنت بينت له ما تقدم - إن هذا الإيضاح
كشف له سرًّا، وإن هذا الإيضاح يمكن أن يبدد ما يعتقده المسلمون ضد المسيحية،
وبذلك تضعف كراهتهم للأجانب.
(4)
(الاتفاق في مسألة الاعتقاد)
يعتقد المسلمون أن كل من لا يشاركهم في الاعتقاد سَيَخْلُدُ في العذاب، قال
بوتجان وأحمد ضيف في كتابهما المسمى (منصور) : والتقينا في الإسكندرية
بصبيان أوربيين، وهم في جمالهم كالملائكة، فقلت إن هؤلاء الصبيان سيكونون
خدمًا لنا في الجنة، وفكرت في الكفار الذين سيذهبون إلى جهنم، وكلما نضجت
جلودهم بدَّلهم الله جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب. إذًا فقد حان الوقت لنبين لهم إلى
أي حد بلغ تسامح المسيحية واتساع صدرها مع الديانات الأخرى.
ونحن نقتبس هنا كلامًا في القضاء والقدر ورد في نشرة البابا بيوس التاسع
بتاريخ 10 أغسطس سنة 1863: إن أولئك الذين يتحملون جهالة مظلمة عن ديننا
المقدس يتبعون بكل خضوع القوانين الطبيعية التي وضعها الله في قلوب الجميع،
وهم مستعدون للخضوع لله واتباع حياة شريفة قويمة؛ لذلك يمكنهم أن يحصلوا
على الحياة الخالدة بواسطة النور الأبيض والرحمة الإلهية (التي يجهلونها لأن الله
الذي لا حد لرحمته لا يتحمل أن يخلِّد عبدًا في النار إذا لم يكن مسئولاً عن ذنب
اختياري) [13] .
وقد كتب أغريفوريوس السابع وهو أحد كبراء البابوات في القرون الوسطى
إلى أحد أمراء المسلمين. نحن أقرب الناس إليكم لأن الإله الذي تعبدونه نعبده نحن
أيضًا [14] .
إن الاحترام العميق الذي تكنه قلوب المسلمين لاسم الله يذكِّرنا بإيمان القديسين
المسيحيين القوي، وقد شاهدت ذلك وأثَّر في نفسي.
من جهتهم ليسوا كلهم متفقين على كراهتنا كراهة بالغة، فهم يعلمون أن الله
سيحكم يوم القيامة فيما فرق بين الناس في هذه الدنيا وخصوصًا الديانات المختلفة.
على أنه إذا كان هناك بيننا وبين المسلمين خلاف في الاعتقاد الأساسي فهناك
نقط نتفق عليها ويجب أن نتشبث بما يوحد لا بما يفرق.
قال الدكتور أنريكو أنسباطو الإيطالي: إن الشرقي في وقت مجده رجل على
الفطرة، فعدم الفهم يبعده ويملؤه حذرًا، وهو كثير الحذر مما لا يفهمه، والمسلم
الذي يتأمل في الأزل واللانهاية (الأبد) لا يمكنه أن يكون عدوًّا للمسيحي الذي
يعمل بمثل أعلى في العدل والحرية، وإنما يجب على أوربة المسيحية أن تنير
العالم الإسلامي، وأن تتعلم كيف تعطيه النور.
وإذا أبعدنا من الطرفين الآراء المتطرفة للمتعصبين أو المتشددين الذين لا
يقبلون أي تنازل، فيمكن القول بأن الاتفاق على محايدة دينية يمكن الوصول إليه
بسهولة نسبية.
ومن الواضح أن التعصب لا يخشى من جهتنا [15] ، إن التحامل الوراثي في
الأهليّ علينا لا يزال قويًّا، وإن كان هناك بعض الشواذ، وإذا كان الأهلي لم يصل
بعد إلى محبتنا (وأنا لا أستثني الأهلي الذي أسبغ عليه فضلنا وأخذ ثقافتنا ويتمتع
بمدنيتنا) فالسبب الأصلي في ذلك راجع إلى الشقة التي حفرها الإسلام بين أهله
وبين الخارجين عن عقيدته [16] .
قال رونيه بازان: هل الأهالي أقرب (أي المسلمون) منا الآن بفكرهم من
أول الاحتلال الجزائري، وهم صاروا يستعملون عن طيب خاطر كثيرًا من
الخيرات التي أتت بها مدنيتنا؟ فهل قبلوا هذه المدنية؟ وهل يمكن أن نقول بأنهم
يعتبرون أنفسهم رعايا مخلصين لفرنسا إلى الأبد؟ يكفي أن نعرف شيئًا من تاريخ
الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة، لا تاريخ النواحي التي ضُمت إلينا قريبًا؛ ولكن
تاريخ المقاطعات الثلاث القديمة - الجزائر ووهران وقسنطينة - ليكون الجواب: لا،
بل يكفي أقل من ذلك مجرد فسحة مدة ساعة في وسط الجماهير الإسلامية، ومعرفة
قراءة ما في عيونهم، لا شك أنه في مدة الحرب الكبرى جاءت الألوف من رعايا
فرنسا من عرب وبربر ليحاربوا مع جنودنا جنبًا لجنب، وكثير منهم ماتوا لسلامتنا،
وهذا برهان على الإخلاص لا ينسى أبدًا؛ ولكن كثيرًا من الشعوب والقبائل منذ
كان العالم حاربت لا ليدافعوا عن قضية لهم؛ ولكن ليرضوا شجاعتهم ومصلحتهم
وكبرياءهم، فمن الخطأ ومن الخطر أن نعتقد بأنه منذ سنة 1914 اندمج فينا مسلمو
أفريقية أو تقربوا منا أو بيننا وبينهم تفاهم واعتبار ومودة وتلك هي الصلات
المتينة [17] .
والخطأ راجع إلى الرجال (المختلفين في الأصل والمواهب، المتشابهين في
الوهم والحكم الباطل) الذين تولوا الأعمال الأفريقية في القرن السابق وفي أول هذا
القرن؛ فإنهم لم يفهموا أن مدنيتنا مسيحية قبل كل شيء.
ولكن لتكن لنا الثقة بالمستقبل، وفي أثناء الانتظار يجب ألا نضيع الفرص:
فرص التقرب، ولا شيء أثمن منها في الوقت الحاضر بعد التأثير الأدبي الناتج
عن اشتراك المصالح، وكلما نمت العلائق الفردية اضمحلت الأوهام وزاد الرخاء
المادي، وتكونت أجيال مستعدة للتفاهم، وراغبة في العيشة المشتركة.
والنظر إلى قوتنا المادية والعسكرية والاختراعات العصرية سواء الجدية أو
الهزلية يستهوي خيالهم، وإن لم يُظهروا الإعجاب بها، ووسائل الراحة التي
يوجدها التقدم وخصوصًا نظرهم إلى اتحادنا وتكاتفنا، كل هذا يمكن أن يقرِّب بين
الجنسين [18] .
(5)
التأثير الأدبي
إن على الأوروبيين الذين يعيشون بالقرب من المسلمين أن يشغلوا وظيفة
المربي، إن خير خدمة يؤدونها لهم إعطاؤهم طرقًا للعمل والتعمير، ومُثُلاً للصبر
والمثابرة والجهد الذي لا يعرف الكلل والملل، وخير القدوة التي يمثلونها لهم هي
الحياة الشريفة التي لا عيب فيها، والفضائل العائلية، والاستقامة التامة والوفاء
بالعهد، والشرف في المعاملات، والصدق في كل المناسبات، تلك كلها خصال
يحتاجها مسلمونا أشد الاحتياج، فينبغي أن تنتمي فيهم وتقوى.
ونزيد على تلك الأخلاق المثال العالي للأخلاق الإنجيلية، وتجدها ممثلة في
جماعات التبشير في أفريقية الشمالية (! !)
وينبغي لنا نحن الإفرنسيين أن لا نشارك في هذا المدح جماعات التبشير
الأجنبية؛ لأنها في كثير من الأحيان تعمل لغرض سياسي لخير دولتها أكثر مما
تعمل لغرض ديني [19] .
وأكون ملومًا إذا أنا لم أشارك جميع الرجال المنصفين الذين يُظهرون إعجابهم
بالآباء البيض والأخوات البيض التابعين للكردينال لفيجري لما قاموا به من الأعمال،
وقد شاهدت ذلك مدة توظيفي الطويل في الجزائر وتونس، فتبشيرهم ينحصر في
إعطاء المثل بواسطة الإحسان والانقطاع الكلي لمساعدة أصحاب العاهات الأخلاقية
والمادية من الأهالي، وبواسطة مدارسهم يعملون على رفع مستوى المسلمين
الفكري المنحط، وتحسين حالة معيشتهم.
ومنذ احتلال المغرب الأقصى ما انفك الآباء الفرنسيسكان والأخوات يقتدون
بهم بانقطاع وإخلاص يستحقان الشكر من فرنسة كما يستحقانه من الكنيسة، وإن
في المثل الشريف الذي يضربونه ما يشرف بلادنا أعانهم الله.
وفي الختام يجب بواسطة حكومة حازمة عادلة محسنة أن نقطع الطريق على
أخطار الشيوعية والاشتراكية الثورية التي تجد مذاهبها عند سكان أفريقية الشمالية
أهل الفكر الخفيف المعادي لسلطننا غالبًا أرضًا خصبة [20] .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المترجم
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد عبد السلام بلافريج
تعليق المنار على جملة الكتاب
وخطاب إسلامي حر إلى العقل الفرنسي الحر- إن أمكن أن يبلغه الخطاب
قد اطلعنا على كتب كثيرة لكتاب فرنسة المختلفي الأفكار والآراء في بيان
حال مسلمي مستعمراتها الأفريقية (ما يريدون جعله منها كسورية) وما ينبغي أن
يعاملوا به، وقد رأينا كل كاتب يتَّبع هواه، ويغني على ليلاه، دون ليلى حكومة
فرنسا الجمهورية الحرة، ويبغي مصلحة نحلته أو فرقته دون مصلحتها،
فالكاثوليكي المتعصب يرمي في كل ما يكتبه إلى إقناع الحكومة بمقاومة دين الإسلام
نفسه، ومحاولة إفساده على الأهالي بحجة أن المسلمين لا يمكن أن يخلصوا لفرنسا
ويحبوها، ويؤمَن انتفاضهم عليها ما داموا مسلمين، ومن هؤلاء جول سيكار مؤلف
هذا الكتاب، ومن يؤيد كلامه بالنقل عنهم من قسوس الجمعيات الدينية ومبشريها.
والمالي المفتون يحصر همه في إقناع هذه الحكومة بسلب ثروة المسلمين
بالوسائل النظامية - كما تفعل الآن في المغرب الأقصى من انتزاع ملكية الفلاحين
والقبائل لأرضهم - والحيلولة بينهم وبين العلم العصري بحجة أنه لا يمكن أن يدوم
خضوعهم لها إلا بالفقر والجهل.
والعسكري الذي لا يرى وسيلة لترقيته ونيله المكافآت المالية والرتب العسكرية
إلا بوجود العداوة بينهم وبين فرنسة، فهو يحاول إقناعها دائمًا برسوخ هذه العداوة
ويتمنى دائمًا حدوث الثورات والفتن التي يظهر فيها الحاجة إلى الجند واقتناع
الحكومة بأنها مدينة لهم.
لقد انسلخ على استيلاء فرنسة على الجزائر قرن كامل، ولا يزال هؤلاء
الكتاب يقولون لها إن المسلمين لم يزدادوا في هذا القرن بطوله إلا بغضاء لها،
ويلفقون الأدلة الخطابية والمغالطات الجدلية لإقناعها بمعالجة هذا الداء، والذي جزم
به موسيو جول سيكار أن العلاج محصور في مداراة المسلمين في الظاهر وإفساد
دينهم عليهم بالإلحاد المادي العصري توسلاً بذلك إلى تنصيرهم الذي هو العلاج
الأخير الممكن عنده، ويصح أن يقال في كل هؤلاء الكتاب ما قاله معروف أفندي
الرصافي الشاعر العراقي الشهير في وزراء الدولة العثمانية الثلاثة الذين تولوا
منصب الصدارة العظمى عقب إعلان الدستور:
مضى (كامل) من قبل (حلمي) وإن جرى
…
كما جريا (حقي) فمثلهما حقي
إن لم يبصروا للحق غير طريقهم فإن طريق العدل هو أوضح الطرق
سبحان الله! أَيُستذل شعب ويهان وتسلب ثروته وأوقافه، ويُفَضَّل غيره عليه
في بلاده بل يؤمر بترك دينه ويحال بينه وبين العلم والنور ولا يكتفي منه مع هذا
كله بالطاعة بل يؤمر فوقها بالشكر والمحبة.
ولم أر ظلمًا مثل هضم ينالنا
…
يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
إن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات في فرنسة يحيط بهما نفوذ الجمعيات
الدينية ورجال المال ورجال العسكرية: ثلاثة أسوار تمنع من وصول أي رأي حر
يخالفها، ولو وجد في فرنسة زعيم حر واسع الفكر، كبير الهمة قوي الإرادة
كالسنيور موسوليني في إيطالية - لأمكنه حين يضع مصلحة الدولة والأمة فوق كل
مصلحة مع عدم التصعب الديني أن يعرف الطريقة المثلى لإرضاء مسلمي أفريقية
في ممالكهم الثلاثة، وما به تعمر بلادهم ويرتقي مجموعهم، وتستفيد فرنسة من
ثروتهم وقوتهم أضعاف ما تستفيده الآن من غير أن تخسر هذه الملايين التي تنفقها
لتوطيد الأمن وقمع الثورات، وإيقاع الرعب والإرهاب في القلوب لحفظ الهيبة.
ولو شاء مثل هذا الرجل أو غيره من كبار الرجال أن يستشير في هذه المسألة
كبار أهل الرأي من مسلمي هذه البلاد وغيرها، لأمكنه أن يعرف من مصلحة
فرنسا ما لا يمكن أن يعرفه من هؤلاء الكتاب الافرنسيين وأمثالهم من المسلمين
كالسي قدور بن غبرايط مثلاً، ولو وُجد هذا الرجل لاقترحنا عليه أن يعقد مؤتمرًا
للنظر في هذه المسألة تحت رياسة رجل فرنسي حكيم حر كالدكتور غوستاف لوبون
يدعو إليه من يشاء من الرجال المستقلين منهم ومنا، ولكن لا سبيل لنا والحالة في
فرنسة كما نعلم أن نبلغ أولي الأمر فيها ما نجزم بأنه خير لفرنسا مما هي عليه في
سياسة المغرب وسياسة سورية.
إنني كنت عرضت على موسيو روبير دوكيه أشد غلاتهم في هضم حقوق
سورية ما أراه خيرًا لها في سياستها وتجارتها ونفوذها الأدبي مما تجري عليه في
ذلك، فقال إن هذا أمر معقول غير خيالي وقابل للتنفيذ إن وجد منا ومنكم من يقوم
بتنفيذه، وإنني إلى الآن أضمن وجود من يقوم بتنفيذه منا إذا رضيت فرنسة به،
ومن ذا الذي يستطيع إيصاله إليها وإقناعها به وموسيو روبير دوكيه لم يفعل ذلك؟
إذن يجب أن تنظر فرنسة ما يفعل الزمان في أطواره في سورية والمغرب
والزمان أبو العجائب.
_________
(1)
المنار: ملخص هذه النظرية في إمكان تنصير المسلمين بعد أن ثبت بالتجارب الطويلة أنهم لا يقبلون دينًا يخالف القرآن، هي السعي لإيقاعهم في الكفر والتعطيل بالتعاليم العصرية، وبما أن الدين المطلق من الحاجات الفطرية اللاصقة بالإنسان وجدانًا وعقلاً، وبما أن فقده يوقعه في ضروب من الحيرة والشكوك المظلمة، ويهوي به في مهاوي المذاهب الضارة كالبلشفية أو السلبية كاللاأدرية - فإذا وقع المسلم في هذه المضايق المظلمة بعد فقده للإسلام وجهله لتعاليم القرآن الهادية المعقولة يسهل عليه أن يقبل الديانة النصرانية باستغوائه بمزاياها الصورية والمدنية الملزوزة بها لزًّا قهريًّا التي سماها الكاتب تفوقًا، فملخص النظرية أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا ما دام يعرف هداية القرآن أو شيئًا منها، وهذا حق سببه أن صاحب الحق الجلي الموافق للعقل والفطرة لا يمكنه أن يتركه بإيثار الباطل غير المعقول عليه.
(2)
يعني أن النصارى الذين يراد أن يستهووا المسلمين للدخول في جماعتهم ليسوا نصارى إلا
بالاسم، ومنهم من يتبرأ من هذا الدين (وفاقد الشيء لا يعطيه) فكيف يمكن أن يُنصِّروا المسلمين.
(3)
المنار: إننا نحن علماء الإسلام ودعاته نعتقد اعتقادًا جازمًا أن فساد العقائد المسيحية والأخلاق والفوضى المادية والفلسفية لا علاج لها في أوروبا وأمريكة إلا الإسلام الصحيح: إسلام القرآن والسنة التي كان عليها مسلمو العصر الأول؛ لأنه هو الدين الوحيد المعقول الذي لا ينقضه العقل والعلم ولا تعارضه قواعد العمران.
(4)
(الأهلي) لقب المسلم الوطني في أفريقية الفرنسية، وهو عنوان الاحتقار عند الفرنسيين الواضعين له.
(5)
المنار: لماذا لا يوجد هذا الاحترام عند نصارى الدولة العثمانية الذين ثاروا عليها في كل قطر كثروا فيه؟ .
(6)
المنار: قوله إن المسلم الصائم يستاء من تدخين جليسه صحيح؛ ولكن تعليله إياه غير صحيح.
(7)
هذا كلام كله رياء، فالجنرال يعلم أن البربر مسلمون، وأنه ليس لهم لغة علم ودين غير العربية، وأن فرنسة تجتهد في الحيلولة بينهم وبين الإسلام ولغته لأجل تنصيرهم، والمسلمون لا يطلبون منها إلا أن تدع لهم ولغيرهم حريتهم في دينهم ولغتهم، فلا تجبرهم على شيء.
(8)
يعني بالمتنورين: المتفرنجين من الملاحدة ومرضى القلوب.
(9)
ليس في القرآن شيء يعارض حكم العقل الصحيح القطعي، وطالما تحدينا العالم المدني بهذا في المنار، وصرَّحنا بأننا مستعدون للرد على كل شبهة عليه، وأما معارضته لروح العصر في خاصة بما فشا في هذا العصر من مفاسد الأفكار المادية والاجتماعية كالشيوعية، ومفاسد الإسراف في الشهوات فقط، وأما المسيحية الحقيقية فلا تتفق مع روح العصر مطلقًا؛ لأن ما فيها من الغلو في الزهد وغيره كان شريعة مؤقتة إلى أن يأتي روح الحق محمد صلى الله عليه وسلم.
(10)
المنار: هذا مكر ديني سياسي من الكاتب بأحرار قومه، يريد به أن لا يُظهروا عدم تدينهم بالنصرانية أمام المسلمين.
(11)
هذا تأويل لا يقبله المسلم الذي يفهم حقيقة التوحيد، فإذا كان مع هذا يعرف دينهم؛ فإنه يرى فيه نصوصًا صريحة في عبادتها ولا سيما السيدة مريم التي يسمونها والدة الإله، وإلا فما معنى وضعها في المعابد.
(12)
المنار: إن التوحيد الخالص عند المسلمين يقتضي اعتقاد بطلان الشرك بجميع أنواعه، ومنها التثليث وتعظيم الصور والتماثيل واتخاذها كما هو صريح وصايا التوراة التي هي أساس عقيدة الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وإذا سُمي اعتقاد البطلان عداوة، فالنصارى يعادون كل ما في الإسلام من العقائد الصحيحة وأولها التوحيد الخالص، ومن الغباوة أن يظن الكاتب أنه بهذه الكلمة المبهمة المجملة التي قالها في تقريب التثليث يخدع أحدًا من المسلمين: أما عوامهم فيكتفون في إبطاله بقول النصارى إن الثلاثة واحد، وأما خواصهم فيعلمون أن هذه العقيدة بتفصيلها من عقائد قدماء الوثنيين، وقد ألف بعض المتأخرين منهم كتابًا سماه (العقائد الوثنية في الديانة المسيحية) ذكر فيها النصوص الصريحة من كتب البوذيين وغيرهم في هذه العقيدة، فلم تستطع مجلة المشرق الجزويتية أن ترد عليه بالاعتراف بأن الوثنيين قد سبقوا النصارى إلى عقيدة الثالوث، وقولها إن ذلك ثالوث نجس، وإن ثالوث النصارى مقدس! ! ! وإننا نعلم بالاختبار من أحرار النصارى أن علماء اللاهوت المستقلين أنفسهم لا يؤمنون بهذا التثليث؛ ولكنهم لو بينوا الحقيقة للشعب، ومنها أنه عقيدة وثنية أدخلها الرومانيون في العقيدة لبطلت ثفته بالدين كله، وتعذر إقناعه بالفضائل الدينية، فليفهم هذا صديق الكاتب الذي زعم أنه أعجبه ذلك الإبهام الذي سماه إيضاحًا.
(13)
إن هذا البابا وجميع البابوات يعتقدون أن كل من ليس بكاثوليكي فهو كافر خالد في جهنم وإن كان مسيحيًّا، وإن كلمته في رحمة الله تعالى لا تدنو ولا تقرب في تعظيم شأنها من قوله تعالى في كتابه القرآن:[وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ](الأعراف: 156) وهو قد قيَّد عدم الخلود في النار بمن لم يكن مسئولاً عن ذنب اختياري، ويدخل في هذا القيد ما كان من الذنوب دون الكفر بالله وكتبه ورسله، ورحمة الله أجلّ من ذلك وأوسع.
(14)
هذه كلمة تودد واستمالة لذلك الأمير المسلم هو غني عنها بقوله الله تعالى في القرآن:
[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى](المائدة: 82) وبإباحته تعالى للتزوج منهم مع قوله في الأزواج [وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً](الروم: 21) مع العلم بأنهم لا يعبدون الله الذي نعبده كما نعبده؛ فإننا نعبده وحده وهم يعبدون المسيح وأمه وغيرهما من القديسين، وقد أمرنا تعالى بأن ندعوهم إلى الإسلام بقوله:[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ](آل عمران: 64) .
(15)
إذا كان مثل هذا الكتاب الباحث عن وسائل الاتفاق محشوًّا بالتعصب فماذا يقال في غيره؟ .
(16)
كل دين من الأديان يحفر شُقة خلاف بين أهله والمخالفين لهم، وفي الإنجيل نص صريح بأن المسيح جاء ليفرق بين المرء وأبيه وأمه وإخوته؛ ولكن الشُّقة التي حفرتها معاملة فرنسة للمسلمين في دينهم ودنياهم هي أوسع وأعمق مما تقتضيه العقيدة في الشريعة الإسلامية السمحة التي تأمر بالعدل والبر والإحسان للمخالف غير المحارب للمسلمين، وتحرِّم ظلمه، وكذا خيانته وإن كان حربيًّا.
(17)
لعله لا يوجد في البشر من الأثرة والغلو في استعباد البشر أطغى ولا أبعد عن الحق والعدل ممن يغمط قومًا بذلوا دماءهم في الدفاع عن المضطهدين لهم في دينهم، السالبين لثروتهم وأوقافهم ويعدهم مقصرين وغير مخلصين في خدمتهم لاحتمال تلذذهم بشجاعتهم وإعجابهم بها، فهو يطلب من مسلمي أفريقية أن يكونوا مخلصين في بذل دمائهم في الدفاع عن فرنسة كإخلاصهم في عبادة الله تعالى، بل يوجب عليهم أن يكونوا لها أشد إخلاصًا لأنهم يرجون من الله الثواب، ولا يجوز لهم أن يطلبوا من فرنسة ثوابًا، ولا رفع شيء من الظلم والعقاب! ! .
(18)
لعله يعني أنه يلجئهم للتنصر.
(19)
المنار: لعل المؤلف نسي دعواه من أن كل ما ارتآه ووصى به فإنما غرضه منه خير دولته فرنسا ومصلحتها.
(20)
إن أقرب الأسباب لقبول المسلم لهذه المذاهب ما اقترحه المؤلف في أول الفصل من إفساد دينه عليه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أنباء العالم الإسلامي
العالم الإسلامي تتنازعه في هذا العصر الأحداث المتعارضة، وتتناوبه فيه
الأطوار المختلفة، وما دخل العام الماضي إلا وعوامل الخطر فيه أقوى من عوامل
الظفر، ودواعي الغي والفساد أكثر من دواعي الصلاح والرشاد؛ ولكنه كما قال
الشاعر:
كلما ذاق كأس يأس مرير
…
جاء كأس من الرجا معسول
فقد حدث قبل انسلاخه ما يقوي أسباب الرجاء، ويبشر بضروب من الفلاح،
أعظمها في الإصلاح الديني تولية الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي مشيخة
الأزهر ورئاسة المعاهد الدينية، وقانونه الجديد الذي نوهنا به في فاتحة هذا المجلد،
وأفضنا في بيان فوائده في أجزاء من المجلد 29.
اتفاق إيران مع حكومتي العراق والحجاز ونجد:
وأعظمها في الإصلاح السياسي اعتراف حكومة إيران بحكومة جارتها العراق،
بعدما كان من خلاف وشقاق، ثم إرسال جلالة الشاه مندوبًا سياسيًّا إلى جلالة ملك
الحجاز ونجد لعقد ميثاق المودة والاتفاق بين حكومتيهما، بعدما كان من خصام
مذهبي وسياسي بينهما، وقد تم ذلك ولله الحمد، وهذا يدلنا على أن جلالة شاه
إيران أبعد رأيًا وأكبر عقلاً من جاره في الأفغان، الملك المهزوم أمان الله خان،
وأكبر من هذا دليلاً تمكنه من كبح جماح الذين ثاروا على حكومته من القبائل
والعصائب، والذين عارضوها من حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب، ولعمري
إن انتصار كل من هؤلاء الجامدين وخصومهم الجاحدين، مما يفضي إلى
الاضطراب والفوضى، والخطر على الوحدة السياسية والاستقلال من ناحيتي الدين
والدنيا، كما أن اندحار علماء الدين وسقوط مكانتهم الدينية، مدعاة لخطر الإلحاد
وانفصام عروة الرابطة الملية، فعسى أن يلتزم كل من الرؤساء السياسيين والعلماء
المجتهدين موقف الاعتدال، فهو الذي يقي البلاد خطر الاختلال والانحلال، ولنا فيما
بدا من حكمة الشاه أوسع الآمال، إلا تقليده في البرنيطة لمصطفى كمال! على أنه
متهم بغيرها من تلك البدع والأعمال، فبلاده تتمخض بالثورة الدينية والسياسية،
ويتربص به الدوائر أشياع أسرة الملك القاجارية.
بلاد نجد وغلاة البدو:
وقد حدث في العام المنسلخ نزغة ثورة بدوية عصبية في نجد، كانت قد طال
على تمخض البلاد بها العهد، وكان آخر ما عرفه العالم المدني من طغيان زعمائها
غزوهم للكويت وأطراف العراق، بدون إذن ولا رضا من ملك البلاد، لجريانهم
على ما اعتاده جفاة الأعراب أمثالهم من الغزو؛ لأنه أقرب السبل عندهم للكسب،
وقد يكون أحيانًا للتلذذ بالقتل والسلب.
ولكن الإمام عبد العزيز المجدد قد ساسهم سياسة إسلامية حضرية أبطل بها
البداوة وتقاليدها، ووضع تحت قدميه ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت
قدميه من دماء الجاهلية وثاراتها، وجعل الحكم لشرع الله في كل تنازع وتشاجر،
عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) فحسنت الأحوال، وراجت الأعمال
بعد أن عمَّ الأمان، وبطل البغي والعدوان، على غلو في الدين بقي عند كثير من
(الإخوان) وكانوا به شبهة أو حجة لمن يطعنون في الوهابية، ويذهبون إلى أنهم
فرقة غير الحنابلة السلفية.
وقد ظهر من شذوذ هؤلاء الغلاة ما ظهر من القسوة في غزوة الطائف أخذًا
بثأر من قتلهم الشريف عبد الله الحجازي منهم في الخرمة لما هجم عليهم في المسجد،
فقد جروا في ذلك على عرف البدو في غزوهم لا على عرف الوهابيين الذين
يجرون في قتالهم على أحكام الشرع كما شهد لهم بعض أهل البصيرة ممن قاتلهم في
الحملة المصرية التي ساقها إليهم محمد علي باشا بأمر الدولة التركية، ونقله لنا
المؤرخ الصادق الجبرتي.
ولقد ساء عملُهم هذا الإمام عبد العزيز، وإن قابله كعادته بالحلم والمطاولة
في تربيتهم بأحكام الشرع؛ ولكنهم زادوا إسرافًا وغلوًّا بتعرضهم لما لا يعنيهم من
إدارة الحجاز الداخلية، وتحريمهم لما أحل الله تعالى من المنافع الآلية والصناعية،
بل لما يعد بعضه أو كله من فروض الكفاية في هذا العصر، كآلات المواصلات
والمخاطبات التي تشتد الحاجة إليها في أوقات الحرب، وغير ذلك مما هو من
خصائص ولي الأمر، وهذا التحريم شرع لم يأذن به الله، وكذب وافتراء على الله،
فهو كفر وشرك بنص القرآن، أشد مما يرمون به من لا يعرفون من الناس بحق
أو بغير حق؛ لأن الشرك بالتشريع ضرره متعد يعم كثيرًا من الناس، والشرك
بدعاء غير الله مثلاً ضرره قاصر على فاعله.
ثم افتأت بعضهم على الإمام في الإغارات المعروفة على العراق والكويت،
فانتهى الحلم الواسع بالإمام عبد العزيز أن جمع في العام الماضي جميع من في بلاد
نجد من أهل الحِل والعقد من العلماء والقواد والزعماء وجماهير الوجهاء وألَّف منهم
مؤتمر الرياض المشهور، وعرض عليه تنصله من حكم البلاد وأن يختاروا لها
غيره.. فكبر ذلك عليهم وجددوا مبايعته، وكاشفوه بما لا يرضيهم من حكومته،
وكونه لا يبيح لهم نزع اليد من طاعته، كمسألة الحدود بين نجد والعراق، وما
أحدثته حكومة العراق هنالك من المخافر العسكرية الضارة بهم، وهو أهم ما يهمهم،
وغير ذلك مما فصَّلناه في المجلد الماضي.
ولكن كل ذلك لم يُرجع أولئك الغلاة عن غيهم وجهلهم، ومنهم الفرقة المشهورة
بلقب (الغطغط) الذين كانوا يؤذون بعض الحجاج وينبزونهم بلقب المشرك،
وروي أنهم كانوا يضربون الذين يشربون الدخان، وهذا افتئات على الإمام ولي
الأمر، زائد على المشروع من إنكار المنكر، فلكل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى
عن المنكر بما يعلمه، ولكن العقاب خاص بالسلطان ونوابه بغير خلاف، وبهذا
كانوا سبب تجديد الطعن في الوهابية بعد أن ظهر لحجاج العالم فضل الإمام ابن
سعود في العدل والأمن العام، وقد دعوا إلى تحكيم علماء الشرع فيما ينكرونه فلم
يقبلوا، فاضطر الإمام إلى تأديبهم بالسيف ففعل وكان موفقًا منصورًا.
كتب إليَّ أيَّده الله تعالى في 22 شوال من العام الماضي كتابًا خاصًّا فيما وقع
له معهم، قال فيه ما خلاصته (إن بعض الإخوان من أهل الغطغط والدويش وقسم
من الغلاة يظهر منهم منذ ثلاث سنين تعصبات وأمور مخالفة للشرع، وقد كانوا
مغرورين ومعهم بعض المهاجرين من البادية، ويرون أن أمرهم حق لأجل محبتهم
للدين، ولكن الحمد لله انكشف الغطاء عن كثير من المسلمين، ورأوا أن الجماعة
بين فرقتين: واحدة تعبد على جهل وواحد [1] له بعض المقاصد السيئة مثل طمع
وغيره ويجعل الدين له حجة (وذكر هنا جمع الناس في الرياض، وما كان من
تأثيره وأنه ظهر لأغلب الناس حال هؤلاء الغلاة وأنهم ليسوا على حق) ثم قال:
ثم بعد ذلك أكثرنا عليهم النصائح والدعوة لأجل براءة الذمة عند الله، ثم
النصح للرعية ولكن لم يفد ذلك، فاجتمعوا في هذه الأيام وأشاعوا عند أهل نجد أنهم
غزاة، وأن قصدهم القصور، وأهل القصور التي في حدود العراق، يريدون بذلك
خديعة أهل الحق، وبعد ذلك تبين أمرهم أنه فاسد، وأخذوا بعض الرعايا، ولما
تحقق ذلك وثب المسلمون وثبة رجل واحد جزعًا من أمرهم، واجتمعوا لوضع حد
حازم لهذه الأمور.
فلما تكامل الجمع دعوناهم لتحكيم الشريعة في جميع أمرهم فأبوا، فأرسلنا
إليهم الشيخ عبد الله العنقري والشيخ أبو حبيب فدعوهم فلم يقبلوا، فلما رأينا ما بهم
من الفساد وعدم الامتثال للشريعة والولاية استعنا بالله عليهم وأمرنا المسلمين
بالزحف عليهم، والحمد لله أخذهم الله وقتل منهم جملة، والمسلمون من فضل الله
لم يصابوا إلا بخسارة قليلة جدًّا لا تعد بالأصابع، وبعد ذلك رجعوا وطلبوا العفو،
وتبين للقوم الذين كانوا معهم أنهم كانوا ضالين الطريق، وجميع من كان معهم
وسلموا من القتل عفونا عنهم إلا الدويش وابن حميد ما رضينا إلا بتحكيم الشريعة
فيهم؛ لأنهم أساس الفساد وقد قبلوا الأمرين (أحدهما) ترك الناس لهم (والثاني)
أنه لا ملجأ لهم، والدويش جريح الله أعلم يموت أو يحيا.
والحقيقة أننا ما كنا نحب أن يصير بين المسلمين قتل رجل واحد؛ ولكني
امتثالاً لأمر الله في قتال الباغين والسعي وراء راحة المسلمين أُجبرت على ذلك،
والعاقبة من فضل الله حميدة للإسلام والمسلمين) اهـ.
هذا ما تفضل جلالة ملك الحجاز ونجد بكتابته إلينا باختصار قليل؛ وإنما
نشرناه على خلاف عادتنا في المكتوبات الخاصة لما فيه من التصريح الرسمي بأن
في الإخوان النجديين غلاة في الدين وقساة تغلب عليهم طباع البداوة وقساوتها، وأن
الإمام كان يريد أن يربيهم بالعلم والشرع؛ لأن سبب غلوهم وقساوتهم الجهل إلا
بعض رؤسائهم المغروين الذين زيَّن لهم الشيطان استغلالهم بسوء بقصد،
وتصريحه بأنهم منذ ثلاث سنين قد ظهر من غلوهم ما لم يكن له مظهر من قبل،
يعني أنهم بعد استيلائه على الحجاز وما تجدد لحكومته من العلاقات مع البلاد
المجاورة قد حدث من الأسباب ما ظهر به ما كان خفيًّا من استعدادهم وجهلهم.
رأينا أن نثبت هذه التصريحات الرسمية ليعلم من لم يكن يعلم أن كل ما كان
ينسب من الغلو والقسوة إلى النجديين بعنوان الوهابين لم يكن إلا من فئة قليلة ينكر
عليها غلوها إمامهم وملكهم، وينكره علماؤهم وزعماؤهم، بل ينكره كذلك دهماؤهم؛
ولكن براءة الدهماء منه وإنكارهم له وهم السواد الأعظم كان مجهولاً حتى عند
الباحثين الذين يعرفون أن الذنب فيما ينتقد عليهم، لا يمس أهل العلم والمعرفة منهم.
سمعت السيد محمد بن عقيل بن يحيى المشهور وهو من أشد خصوم الوهابية
لما له من نزعة التشيع ودعايته يقول مرارًا أنه سمع أستاذه السيد أبا بكر بن شهاب
يقول ما معناه أن من يُحَدِّث أهل العلم والمعرفة من الوهابيين يجزم بأنهم ليسوا فرقة
مستقلة دون أهل السنة؛ ولكن عامتهم كغلاة الخوارج بلا فرق.
هذا وإن الدويش قد سلم من جرحه وحدث بعد عودة الملك من نجد إلى
الحجاز لحضور موسم الحج أحداث جديدة منها انتقاض بعض قبائل العجمان، وقد
نكَّل بهم أمير الحسا ابن جلوي الشهير تنكيلاً ما كان ليقع لو كان جلالة الملك في
نجد لسعة حلمه وتحاميه سفك الدم، وإرهاف الحد إلى هذا الحد، والمرجو أن ينهي
جلالته في رحلة هذا الصيف إلى نجد جميع مشاكلها الداخلية والخارجية والله
الموفق [2] .
حالة الأفغان، وهزيمة أمان الله خان:
ما برحت أنباء القتال بين أمان الله خان والخارجين عليه الذين قرروا ثل
عرشه، متناقضة متعارضة تعبث بها أهواء الناقلين لها إلى أن انكشف الغبار عن
هذا الملك المغرور، الذي غرَّته الأماني وغرَّه بالله الغَرور، موليًا دبره ساحات
النزال، مؤثرًا للهزيمة على القتال فارًّا بزوجه وولده، ومن كل ثم من أسرتها
وأسرته، قاصدين الحج إلى أوربة للتمتع بما رأوا فيها من الحرية، متكلين على
القبائل المناوئة لحبيب الله بجه سقا (أي رئيس السقائين) الذي انتزع منه ملكه،
ولا سيما التي يقودها نادر خان القائد الأفغاني الشهير وأخوه وأعوانهما، راجيًا أن
يتم لهم الفلج فيعيدوه إلى عرش بلاده عزيزًا كريمًا، بعد أن خرج منها مذءومًا
مدحورًا.
ولقد حزن عليه دعاة الإلحاد وأعداء السلام وحجتهم حب الحضارة والتجديد،
وإنقاذ الشعب الأفغاني الجاهل من الهمجية القديمة، وهل يمكن ذلك التجديد عند
هؤلاء السفهاء، إلا بالبرانيط وسائر أنواع اللباس الإفرنجي، وإلقاء العمائم وحلق
اللحى وتهتك النساء؟ ولكن كثيرًا من مسلمي الهند حزنوا عليه لأنه يكره الإنكليز،
كما أن جماهير المسلمين قد سروا بسوء عاقبة سياسته التركية الأنقروية، وهم لا
يشكون في أنها سياسية إلحادية إفسادية.
وأما أنا كاتب هذا، فإنني لم أكن أشك في سوء عاقبة أمان الله خان إذا هو
جرى على ما كانت تدل عليه بوادر سياسته قبل سياحته ثم أكدتها سياحته؛ ولذلك
نصحت له وأنذرته هو ووزيره وصهره - المغري الأكبر له - أنذرته خسارة الملك
بتقليد مصطفى كمال {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس:
101) وكتبت لهما هذا كتابة صريحة كما عرف قراء المنار، فلا غرو أن أُسرَّ
بصحة علمي وصدق رأيي، وأن أتمثل بقول أستاذينا الحكيمين في العروة الوثقى
إذ قالا في مثل هذه الحالة: إننا نتكلم عن طباع الأمم وحقائق السياسة.
ولا غرو أن أُسَرَّ بفشل السياسة الإلحادية في الأفغان، التي تحاول تنفيذ ما
عجزت عنه أقوى الحكومات ودعاة الأديان، من محو دين الإسلام من الأرض بعد
محو حكم الإسلام.
وكان يسرني أضعاف ذلك أن يرعوي أمان الله خان ويزدجر، ويسلك في
إصلاح بلاده الصراط المستقيم وهو هدي الإسلام الجامع بين مصالح الدارين،
والفوز بالحسنيين، ويستعين على جمود علماء بلاده بالمستنيرين من علماء هذه
البلاد وغيرها، وقد ضمنت له ولرجاله إقناعهم بكل ما يشتبهون في منع الشرع له
من الترقيات العسكرية والإدارية ونحوها، كما قنع قبلهم كثير من علماء العرب
والترك، حتى علماء نجد الذين لا يجهل أحد شدة اعتصامهم بالدين وقوة شكيمتهم
فيه، وها هو ذا ملكهم وإمامهم قد وجد منهم خير الأعوان الناصحين لغلاة قومهم
الذين استنكروا منه استعمال التلفون والتلغراف اللاسلكي ونحوهما، ظنًّا منهم أنه
من السحر وعمل الشيطان.
وإنه ليسوءني أن تبذل الأمة الأفغانية العزيزة النفس الشديدة البأس كل تلك
الدماء الغزيرة في سبيل إنقاذ بلادها العزيزة من الإلحاد، وفشو الفسق والفساد،
وأخشى أن يغلو من يتولى أمرها في مقاومة المشروع من الإصلاحات المدنية
والعسكرية كما غلا أمان الله في مقاومة الهداية الدينية.
_________
(1)
كذا في الأصل، فهل هو سبق قلم أو عمد قُصدت به الإشارة إلى فيصل الدويش وابن حميد؟ .
(2)
كُتب هذا الفصل لينشر في الجزء الأول، ثم اُضطررنا إلى تأخيره، وقد سافر الملك عبد العزيز أول هذا العام نجد، وكان من أمره معهم ما سننشر المهم منه بعد.
الكاتب: عبد الحميد الرافعي
الرحيق المختوم
وهي خاتمة المهرجان الذهبي للرافعي في شكره للمحتفلين به والذكرى الخالدة
لقومه.
خذ جبهة البدر عند التم قرطاسًا واجعل سواد عيون العين أنفاسا
ومن أشعة نور الشمس خذ قلمًا
…
واقتبس لنفسك من حسان أنفاسا
وانظم نجوم السما واشمخ بشعرك عن
…
جواهر الأرض إن درًّا وإن ماسا
عساك تبلغ ما يرضي العلى بثنا
…
أكارم بثناهم نرفع الراسا
أقطاب مجد أقاموا للعلى فلكًا
…
تسبيك أنجمه سرجًا وحراسا
وأولت الأدب العالي فضائلهم
…
روحًا أعادته نضر الغصن مياسا
تواضعوا لك بالتكريم عن كثب
…
شأن الكريم بمرجو الندى واسى
ومن نأى جاد عن بعد بعاطفة
…
تُنسي المُعنَّى من الأيام ما قاسى
واشكر (حكومة) لبنان فقد جمعت
…
أسدًا حوت شرف الأخلاق أخياسا [*]
رئيسها الندب قد أولاك عارفة
…
أضحت حيال سناها الشهب أخناسا
وألبس الوطن الغالي بغيرته
…
عزًّا على الفلك الدوَّار دواسا
وأنت إن لم تكن أهلاً لفضلهم
…
فالغيث يسقي الربى خُضرًا وأيباسا
هم كرَّموا اللغة الفصحى لأنهم
…
أبناء بجدتها ذوقًا وإحساسا
ومن لنصرك يا أم اللغات سوى
…
أبنائك الغر أجوادًا وأحماسا
أنت العروس التي تهنأ بعزتها
…
منا النفوس وتقضي العمر أعراسا
والله أغناك باللفظ الرشيق وبالـ ـمعنى الرقيق فكنت الراح والكاسا
وقد أمدك من نور الجلالة ما
…
تود منه لغات الكون أقباسا
والشعر لولاك لم تعشق لطافته
…
ولا غدا في خلال النفس جواسا
فرب نظم تفوق الراح رقته
…
به سكرنا وعفنا الكأس والطاسا
ورب بيت نديّ الروح ذي عظة سلّى الحزين، ومكلوم الجشى آسى
ورب قول تخال النور يسطع من
…
خلاله كان للألباب مقباسا
يُزَهى اليراع إذا ما خط حكمته
…
وتستقل له الأفلاك أطراسا
سحر البيان تجلى فيه فانقلبت
…
بسِرِّه وحشة الأقوام إيناسا
حمى القبيلة من خوف ومن حذر
…
فليس تحتاج أسيافًا وأتراسا
هذا هو الشعر شعر الروح إن صلحت
…
أبدت صلاحًا يصد الشر والباسا
وإن تسؤ صيّرتْ ماء الصفا لهبًا
…
والسلم حربًا ودور العز أرماسا
هو القريض على أفق الجمال سما
…
وفضله جاوز الجوزاء وأجناسا
شادت به العرب الأجواد بيت على
…
سامي العلى ورسا في المجد أساسا
إذ كان مفخرة الأجيال عندهُم
…
وبهجة النفس إصباحًا وإغلاسا
فكم معلقة منه لها سجدوا عرفان فضل به عطف النهى ماسا
وكم رقائق أجرى العرب سلسلها
…
يُنبتن في الجلمد الريحان والآسا
كانوا ملوك الفلا يحمى الذمار منهم
…
ويرتجى العون فيما سر أو ماسا
تسنموا من متون الخيل ضامرة
…
عرشًا على كل عرش في الورى داسا
وما عليهم وهم أهل الشجاعة إن
…
تخيروا من أسود الغاب جلاسا
سر الفراسة فيهم زادهم شرفًا
…
عنه التوت أعين الحساد أنكاسا
وبالفصاحة زان الله ألسنهم
…
سادوا بها الخلق أجناسًا فأجناسا
والقول كالفعل منهم كان ممتلئًا
…
صراحة لم تدع في الصدر وسواسا
وعزمهم إن دعا داعي الهياج بهم
…
يذلل الأسد مهما كن أشراسا
وهم رجال القرى والغوث من قدم
…
ولن يزالوا مجاويدًا وأشواسا
لهفي على زمن عمت سيادتهم
…
به وكانوا لأهل الأرض سواسا
ليت الليالي التي مذ ثار ثائرها
…
أَردَتْ (كُليبًا) وغالت بعدُ (جساسا)
أبقت مشاهير أهل الجود من جعلت
…
لها المفاخر أقطاعًا وأحباسا
وأخلفت كالموالي من بني مضر
…
وآل قحطان أقيالاً وأكياسا
ممن أفادوا بني الدنيا هدى وندى
…
ومن أقاموا بها للعدل قطاسا
توارثوا المجد عن أسلافهم وسروا
…
مسراهم فزاكوا زهرًا وأغراسا
وصاحبوا العلم نضرًا والتقى أرجًا
…
والحلم أزهر والأخلاق أقداسا
أولئك القوم لولا ذكرهم أبدًا
…
يبني قصور الرجا أصبحن أدراسا
يا ابن العروبة جدد مجدها وأقم
…
له العماد بعزم يطرد الياسا
اسلك إليه سبيل العلم مجتهدًا
…
طول الحياة تنل جاهًا وأرغاسا
وخل نهج الكسالى إن تكن فطنًا
…
فالنصل تكسبه الأصداء أدناسا
أهل البطالة أوهى الذل أنفسهم
…
ولم يدع في ديار العز أحلاسا
والجهل إن ساد في الأقوام بدَّلهم
…
من السعود - وقاك الله - أتعاسا
ناج الحقيقة واهجر كل مختبل
…
يدق للوهم أبواقًا وأجراسا
ولا تمد لغير المستطاع يدًا
…
فضارب الصلد يوهي الزند والفاسا
وإن ضربت بسهم في سبيل عُلى
…
فكن معدًّا لها بالحزم أقواسا
كم ذلل الحزم صعبًا كان أمنع من
…
صيد أقر عليه الليث أضراسا
أخو الحصافة يلقى الهول مبتسمًا
…
كأنما شد للأفراح أفراسا
وعادم الرأي لا ينفك مبتئسًا
…
حيران يضرب للأسداس أخماسا
واذكر مآثر أسلاف حضارتهم
…
كانت لدى ظلمة التاريخ نبراسا
في كل علم وفن طال باعهمُ
…
حتى جلوا عن طريق النجح أغلاسا
وألبسوا الوطن الغالي بسؤددهم
…
عزًّا على الفلك الدوَّار دواسا
سادوا وشادوا صروح المجد واكتملوا
…
عدلاً وفضلاً وكانوا خير من ساسا
وأصبحوا قدوة للخلق نافعة
…
والناس خيرهم من ينفع الناس
فاعمل لإحياء ما شاد الجدود ولا
…
تقم على الجهل إما كنت حساسا
عسى مع العالم الراقي يكون لنا
…
حظ يعيد حواشي العيش أملاسا
واصرف جهودك طول العمر منتحيًا مجد العروبة أثرى الحظ أو خاسا
ولا تعش يائسًا في الدهر من أمل
…
قد يبسم الدهر مهما كان عباسا
وليس ينساك من نجاك من زمن
…
قسا وشد على الأعناق أمراسا
وما رميت ولكن الإله رمى
…
وليس يخطئ سهم الله برجاسا
…
...
…
...
…
...
…
عبد الحميد الرافعي
_________
(*) المنار: أسقطت بعض جرائد بيروت الوطنية شكر الناظم لحكومة لبنان ورئيسها لعدم رضاها
عنها، وكذا جمهور المسلمين المهضومي الحقوق فيها؛ ولكن الناظم معذور في شكره ما أحسن
به الرئيس وحكومته إليه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مشروع الاتفاق الجديد
بين إنكلترة ومصر
ذهب صاحب الدولة محمد باشا محمود سليمان إلى إنكلترة مصطافًا، ولم يكن
يخطر بباله أن الفرصة سانحة لعقد اتفاق جديد بين إنكلترة ومصر؛ ولكن فاجأه
فيها أن وزارة العمال الجديدة أكرهت المندوب السامي (لورد لويد) على الاستقالة
من منصبه كراهة؛ وإنكارًا لما كان من استبداده بمصر وافتئاته عليها، ثم فاجأه أن
فتح له وزير الخارجية البريطانية باب المفاوضة في المسألة المصرية على
مصراعيه فولجه ووقع ما توقعناه في مقالنا الماضي، فانتهت هذه المفاوضة بعرض
وزير الخارجية الاقتراحات التالية لأجل أن تُعْرَض على الأمة المصرية في برلمان
قانوني، فإن قبلها عرضتها الحكومة البريطانية على برلمانها وأوصته بقبولها،
وهذا نص ترجمتها على ضعف فيها:
اقتراحات وزير خارجية إنكلترة لتسوية العلاقات الإنجليزية المصرية
1-
ينتهي احتلال مصر عسكريًّا بجيوش ملك بريطانيا العظمى.
2-
تُعقد محالفة بين الدولتين المتعاقدتين توطيدًا لصداقتهما، والتفاهم الودي
وحُسن العلاقات بينهما.
3-
أن مصر رغبة منها في أن تصبح عضوًا بجمعية الأمم ستقدم طلبًا
للانضمام إلى تلك الجمعية طبقًا للشروط التي نص عليها في المادة الأولى من عهد
الجمعية، وتتعهد حكومة جلالته البريطانية بتأييد هذا الطلب.
4-
إذا قام أي نزاع مع دولة ثالثة نشأت عنه حالة تنذر بخطر قطع العلاقات
مع تلك الدولة؛ فإن الفريقين المتعاقدين يعملان معًا بقصد تسوية ذلك النزاع
بالوسائل السلمية طبقًا لنصوص عهد جمعية الأمم ونصوص أي تعهد دولي يمكن
تطبيقه على تلك الحالة.
5-
يتعهد كل من الفريقين المتعاقدين أن لا يقف في البلاد الأجنبية موقفًا لا
يتفق مع هذه المحالفة، أو ينشئ صعابًا للفريق الآخر، وعملاً بهذا التعهد لا يقاوم
أحدهما سياسة الآخر في البلاد الأجنبية، ولا يعقد مع دولة ثالثة أي اتفاق سياسي
قد يكون مجحفًا بمصالح الآخر.
6-
تعترف حكومة جلالته البريطانية بأن تبعة المحافظة على أرواح الأجانب
في مصر وأملاكهم تقع من الآن فصاعدًا على عاتق الحكومة المصرية، ويتكفل
جلالة ملك مصر بتنفيذ تعهداته بهذا الشأن.
7-
إذا اشتبك أحد الفريقين المتعاقدين في حرب رغم نص الفقرة 4 الواردة
آنفًا؛ فإن الفريق الآخر يبادر لمعونته مع مراعاة نص الفقرة 14 التي ستُذكر فيما
بعد وذلك بصفته حليفًا، وبوجه خاص فإنه في حالة وقوع حرب أو خطر وقوع
حرب يقدم جلالة ملك مصر إلى جلالته البريطانية في الأراضي المصرية جميع
التسهيلات والمساعدات التي في وسعه، ومن ذلك استخدام موانئه ومطاراته
ووسائل مواصلاته.
8-
نظرًا إلى الرغبة في توحيد نظام التعليم والأساليب في الجيشين المصري
والبريطاني يتعهد جلالة ملك مصر بأنه إذا رأى من الضروري الالتجاء إلى مدريين
عسكريين أجانب؛ فإنهم يُختارون من الرعايا البريطانيين.
9-
تسهيلاً وضمانًا لمحافظة جلالته البريطانية على قناة السويس بصفة كونها
طريقًا ضروريًّا للمواصلات بين أجزاء الإمبراطورية المختلفة - يجيز جلالة ملك
مصر لجلالته البريطانية أن يبقي على الأراضي المصرية، وفي مواقع يتفق عليها
فيما بعد شرقي الدرجة 32 من خطوط الطول: القوات التي يراها جلالته
البريطانية لازمة لهذا الغرض، ووجود هذه القوات لا يعتبر احتلالاً بأية حال من
الأحوال، ولا يمس حقوق سيادة مصر.
10-
نظرًا إلى الصداقة بين الدولتين، وإلى المحالفة المرجو عقدها بهذه
الاقتراحات؛ فإن الحكومة المصرية عند احتياجها لخدمات موظفين أجانب تستخدم
رعايا بريطانيين كقاعدة عامة.
11-
يعترف جلالة ملك بريطانيا العظمى بأن نظام الامتيازات القائم في
مصر الآن لا يلائم روح العصر، ولا حالة مصر الحاضرة، وعليه فإن جلالته
البريطانية يتعهد ببذل كل ما له من نفوذ لدى الدول ذوات الامتيازات في مصر لنقل
اختصاص المحاكم القنصلية الحالي إلى المحاكم المختلطة، وتطبيق التشريع
المصري على الأجانب بشروط تضمن مصالحهم المشروعة.
12-
نظرًا إلى الصداقة بين الفريقين المتعاقدين، وإلى المحالفة المراد عقدها
بموجب الاقتراحات الحاضرة، يمثل جلالة ملك بريطانيا العظمى لدى بلاط جلالة
ملك مصر سفير يعتمد بالطرق المرعية، ويحفظ جلالة ملك مصر أسمى مركز
سياسي في بلاطه لممثل جلالته البريطانية. ويمثل جلالة ملك مصر سفير لدى بلاط
سانت جيمس.
13-
مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل تعديلاً لاتفاق سنة
1899 يتفق الفريقان المتعاقدان على أن تكون حالة السودان هي الحالة المترتبة
على الاتفاق المذكور، وعلى ذلك يواصل الحاكم العام استعمال السلطة المخولة له
بموجب الاتفاق المذكور بالنيابة عن الفريقين المتعاقدين.
14-
لا يُقصد بهذه الاقتراحات، ولا يمكن أن ينبني عليها الإخلال بالحقوق
والالتزامات المترتبة أو التي يمكن أن تترتب لأحد الطرفين المتعاقدين أو عليه
بمقتضى عهد جمعية الأمم أو ميثاق نبذ الحرب الموقع عليه في باريس في 27
أغسطس سنة 1828.
15-
يتفق الفريقان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما في تطبيق
نصوص هذه الاقتراحات أو تفسيرها مما لا يتسنى لهما تسويته بالمفاوضات مباشرة
يُعالج بمقتضى نصوص عهد جمعية الأمم.
16-
في أي وقت بعد انقضاء خمس وعشرين سنة من نفاذ معاهدة تبنى على
الاقتراحات المار ذكرها، يجوز إجراء أي تعديل في شروطها يُرى من الملائم
عمله وفقًا للظروف القائمة وقتئذ، وذلك بالاتفاق بين الفريقين المتعاقدين.
المذكرات المفسرة لهذه المقترحات
الجيش
المذكرة البريطانية
حضرة صاحب الدولة:
في خلال محادثاتنا الأخيرة نشأت بعض مسائل عسكرية، وتم النظر فيها بأتم
العناية، وتنقسم هذه المسائل بطبيعتها إلى قسمين:
أولهما: ما يتعلق بقوات الجيش المصري التي قد يمكن أن تدعى لمعاونة
القوات البريطانية المحالفة معاونة فعلية فيما لو نشأت لسوء الحظ أحوال من التي
أُشير إليها في الجملة الأولى من الفقرة السابعة من الاقتراحات.
وثانيهما: المسائل الخاصة بالقوات البريطانية التي سيكون مقامها بجوار
قنال السويس طبقًا للفقرة (9) لضمان الدفاع عن ذلك الشريان الحيوي من طريق
المواصلات البريطانية الإمبراطورية.
فأما فيما يتعلق بالقسم الأول فقد اتفقنا على ما يأتي:
1-
ينتهي النظام الحالي الذي يقوم بموجبه المفتش العام وأركان حربه بتأدية
بعض الوظائف، ويسحب الموظفون البريطانيون من الجيش المصري.
2-
على أن الحكومة المصرية ترغب وفقًا للفقرة الثامنة من الاقتراحات في
الإنتفاع بمشورة بعثة عسكرية بريطانية، وحكومة جلالة ملك المملكة المتحدة
وشمالي أرلندا تتعهد بتقديم بعثة كهذه.
وترسل الحكومة المصرية موظفي الجيش المصري لتدريبهم في بريطانيا
العظمى فقط، وتتعهد حكومة جلالته من جانبها بقبول جميع الموظفين الذين تريد
الحكومة المصرية إرسالهم إلى بريطانيا العظمى لهذا الغرض.
3-
لمصلحة التعاون الوثيق المشار إليه آنفًا يجب أن لا يختلف نوع الأسلحة
والمهمات في الجيش المصري.
وتتعهد حكومة جلالته بالتوسط لتسهيل الحصول على تلك الأسلحة والمهمات
من بريطانيا العظمى كلما أرادت الحكومة المصرية ذلك.
أما فيما يتعلق بالقوات البريطانية المشار إليها في الفقرة (9) من الاقتراحات:
1-
فإن الحكومة المصرية تقدم مجانًا لحكومة جلالته الأراضي والثكنات
…
إلخ في الأماكن التي يتفق عليها وتكون معادلة لما تشغله القوات البريطانية في مصر
في الوقت الحاضر.
وعند إكمال المحال الجديدة تُنقل تلك القوات إليها وتُسلم الأراضي والثكنات
إلخ
…
بعد إخلائها إلى الحكومة المصرية.
ونظرًا إلى العقبات الفنية التي تعترض إجراء النقل تدريجيًّا؛ فإنه ينتظر إكمال
المحال الجديدة، ثم يؤخذ في النقل.
ونظرًا لطبيعة المنطقة الواقعة شرقي درجة 32 من خطوط الطول، فتُتخذ
التدابير لتقديم وسائل الراحة المعقولة بزراعة أشجار وحدائق وهلم جرًّا للجنود،
ومدهم أيضًا بمورد للماء العذب يكون كافيًا في الأحوال الطارئة.
2-
تستمر الامتيازات التي تتمتع بها الجيوش البريطانية في مصر في
المسائل القضائية والمالية، ويجوز تعديل ذلك في المستقبل بالاتفاق بين الحكومتين.
3-
تمنع الحكومة المصرية مرور الطيارات فوق الأراضي الواقعة على كلتا
ضفتي قناة السويس إلى مدى عشرين كيلو مترًا منها إلا في حالة الاتفاق بين
الحكومتين على عكس ذلك.
على أن هذا المنع لا يتناول قوات الحكومتين أو الخطوط التي تقوم بتسييرها
هيئات بريطانية أو مصرية حقيقية تعمل تحت سلطة الحكومة المصرية.
قد اتفقنا أيضًا على أن تقدم الحكومة المصرية جميع التسهيلات اللازمة
للطيارات الحربية البريطانية وموظفيها ومهماتها المتجهة إلى المطارات الموضوعة
تحت تصرف القوات البريطانية طبقًا للفقرة (9) من الاقتراحات أو القادمة من
تلك المطارات.
وتقدم حكومة جلالته التسهيلات الملائمة للطيارات الحربية المصرية
وموظفيها ومهماتها في الأراضي الواقعة تحت مراقبتها.
(هذا نص ترجمة المذكرة البريطانية في المسألة العسكرية، وقد أجاب
عليها رئيس الوزارة المصرية بالموافقة التامة، ويليها مذكرات متبادلة في مسائل
المستشارين المالي والقضائي، والبوليس الأجنبي، وإلغاء الامتيازات الأجنبية
والموظفين الأجانب، كلها في الدرجة الثانية من عظم الشأن) .
المذكرات في مسألة السودان
مسألة السودان أهم مسائل هذا الاتفاق على الإطلاق لأن مصر لا حياة لها
بدون السودان، فهو منها بمنزلة القلب من البدن، والنيل الآتي منه بمنزلة الدم
الذي يغذي الجسد ويحفظ حياته، وقد ورد في شأنه ثلاث مذكرات بريطانية أجاب
عن كل منها وزير مصر بالموافقة (إحداها) مسألة الديون التي على مصر، وقد
اتفق الفريقان (على أن تفحص مسألة الديون التي على السودان في الوقت الحاضر
بقصد تسويتها على أساس العدل والإنصاف) (الثانية) مسألة (جعل الاتفاقات
الدولية منطبقة على السودان) وقد اتفقا على أن هذه الاتفاقات ستكون (فنية أو
إنسانية) وأن الاتفاق عليها سيكون بين مندوبين عن الحكومتين، وفي هذا من
الإبهام والغموض ما يخول إنكلترة تفسيره كما تريد (الثالثة) مسألة عود الجنود
المصرية إلى السودان، وفي المذكرة البريطانية أنه إذا نُفِّذَتْ المعاهدة بالروح
الودية التي تفاوض فيها الفريقان في هذه الاقترحات؛ فإن الحكومة البريطانية
(تكون مستعدة لأن تفحص بروح العطف الاقتراح بشأن عودة أورطة مصرية إلى
السودان في الوقت الذين تنسحب فيه القوات البريطانية من القاهرة) ! !
وقد أجمع الناس هنا وفي أوربة على أن هذه المقترحات وتفاسيرها أعظم
تساهل وسماح صَدَرَ عن حكومة بريطانية مع مصر، وسنتكلم عليه في الجزء
الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة انشقاق القمر
(س38) من الشيخ عبد الرحمن الجمجمون بكفر مجر وغيره.
(مقدمة للسؤال) كتب صاحب السعادة أحمد زكي باشا الشهير مقالاً في
بعض الجرائد اليومية أنكر فيه انشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
وأنكر ما روي في انشقاقه، وادعى أنه من رواية كعب الأحبار وأمثاله من رواة
الإسرائيليات، وأول آية أول سورة القمر بمثل ما أوَّلها به بعض السلف والخلف
خلافًا للجمهور من كون الفعل الماضي فيها {وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) بمعنى
المستقبل كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1) إذ اتفقوا
على أنه بمعنى (سيأتي) ومثله كثير في التنزيل؛ ولكن كتابة أحمد زكي باشا في
المسألة جاءت في سياق بحث تاريخي، ولم تكتب بالأسلوب العلمي الإسلامي عند
أهل الحديث والأصول، ولا بما اعتاده هو من تحرير المسائل التاريخية
والجغرافية فكان فيها مؤاخذات غير أصل المسألة، فتصدى للرد عليه كثير من
علماء الأزهر وغيرهم في صحف مصر وسورية، وكتب إلينا كثيرون يسألوننا
الرد عليه في الجرائد اليومية والمنار، ومنهم ومن كتب شيئًا ورغب إلينا في نشره؛
ولكنه ليس من التحقيق الذي يليق نشره في المنار مع السكوت عنه، ولا يحسن
نشره للرد عليه، وأول من طلب منا ذلك صديقنا الشيخ عبد الرحمن الجمجموني
من كفر مجر، وذكَّرنا بما كنا نشرناه في إثبات المسألة في المجلد السادس من
المنار، ولما كان كل ما اطلعنا عليه من الردود على الباشا بمعزل من التحقيق في
المسألة كما كان الذي كتبه في إنكارها بمعزل من التحقيق أيضًا - رأينا أن الواجب
علينا أن نكتب تفصيلاً لما أجملناه في المجلد السادس فيها ونبينه على سؤال
الجمجموني، ونبدأ بعبارتنا هنالك وهذا نصها:
ورد ذكر هذه المسألة في الجزء الثاني من المجلد السادس المؤرخ في 16
المحرم سنة 1321 في جواب استفتاء من علي أفندي مهيب الذي كان مفتشًا في
إدارة مصلحة التلغراف، وهو الآن سكرتير وزارة المواصلات سأل فيه عما صح
من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس فيه وهذا نص المسألة من
تلك الفتوى (ص68م6) .
ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر، روياه كغيرهما عن جماعة
من الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق
ونقلوه بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه، بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم،
وأن القمر لا يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وأن بعض
المشركين لما قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفّار. وانتظروهم جاءوا
فأخبروا بأنهم رأوا القمر من ليلتهم قد انشق ثم التأم، وبأنه يجوز أن يكون رآه
غيرهم وأخبر به فكذَّبه من أخبرهم، وخشي أن يكذِّبوه فلم يخبر، وليس بضروري
أن يراه في تلك اللحظة علماء الفلك على قلتهم في الجهة التي رؤي فيها.
(ولكنني لا أذكر أن أحدًا أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الآيات المقترحة لأنها سبب نزول العذاب بالأمم
إذا لم يؤمنوا، وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب كفار قريش؛ ولا أذكر لهم
أيضًا جمعًا بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) وآية {وَمَا
مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من
تأويل إحداهما، وقد أوَّل بعضهم الأولى فقط، وليس المقام مقام التطويل في هذه
المباحث) اهـ.
هذا ما كتبناه في تلك الفتوى وموضوعها ما صح سنده من الروايات في
معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهو خلاصة أصح الروايات في هذه المسألة، وما
اعترض عليها، وما أجيب به عن الاعتراضات وما فيها من إشكال لم يجيبوا عنه
من غير مراجعة ولا نقل.
وإذ قد اقتضت الحال الآن تحرير المسألة رواية ودراية فإننا نبدأ بالرواية
فنقول:
(أ) الروايات في انشقاق القمر وعللها:
زعم بعض العلماء المتقدمين أن الروايات في انشقاق القمر بلغت درجة
التواتر! وهو زعم باطل كقول ابن عبد البر الآتي أنه نقله جماعة كثيرة من الصحابة
والتابعين، وإن تلقاه الكثيرون بالقبول حرصًا على إثبات مضمونه كعادتهم في
الفضائل والمناقب ودلائل النبوة، فأما الشيخان فالذي صح عندهما مسندًا على
شرطهما إنما هو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم يخبر عن رؤية وهو عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد أخرجاه عنه كأحمد وغيره من طريق سفيان بن
عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر ومن طريق الأعمش عن إبراهيم
عن أبي معمر، وصح عندهما مرسلاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه من
طريق قتادة فقط، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه من طريق عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة، وإنما كان هذان الحديثان مرسلين
لأن الحادثة وقعت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، ولم يكن ولد عبد الله بن عباس،
وأما أنس فكان في المدينة ابن خمس سنين، والخلاف في الاحتجاج بالمرسل
معروف، ومن يحتج بمراسيل الصحابة مطلقًا يبني احتجاجه على أنهم يروون عن
مثلهم؛ ولكن ثبت أن بعضهم كان يروي عن بعض التابعين حتى كعب الأحبار،
وعلى كل حال لا يصح في مراسليهم ما اشترط في التواتر من الرواية المتصلة إلى
من شاهد المروي، ورواية الشيخين المتصلة من طريقين فقط.
ورواه مسلم من طريق شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر وهي أحد
الطريقين عن ابن مسعود، وليس فيها أنه حَدَّثَ عن رؤية وقد تردد الحافظ في هذه
الرواية: هل هي إسناد آخر عند مجاهد (أو قول من قال ابن عمر وهمٌ من أبي
معمر؟) وقد روى الحافظ أن ابن عمر هاجر وهو ابن عشر سنين، وفي رواية
أخرى أنه كان سنة الهجرة ابن ست.
ورواه الإمام أحمد وتبعه ابن جرير والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي الله
عنه من طريق سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن
مطعم عن أبيه.
فأما جبير فقد أسلم بعد عام الحديبية وقبل فتح مكة، وقيل في الفتح، وقد كان
مع المشركين في غزوة بدر وأسره المسلمون، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقرأ سورة الطور، قال: فكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي، وليس في حديثه
أنه رأى، ولكن ظاهره أنه كان مسلمًا، ولم يكن مسلمًا، ولو رأى ذلك في حال
شركه لعده بعد إسلامه مما أثّر في نفسه.
وأما السند إليه فضعيف: فسليمان بن كثير ضعَّفه ابن معين كما ضعَّف ولده
محمدًا الذي روى هذا الحديث عنه، وقال ابن حبَّان: كان يخطئ كثيرًا، وأما
حصين بن عبد الرحمن فقد كان ثقة إلا أنه تغير في آخر عمره.
هذا أقوى ما ورد من الأحاديث في هذه المسألة، وعليها اقتصر الحافظ ابن
كثير في تفسيره، ورواه الترمذي في جامعه وغيره، ولها ألفاظ أخرى في التفسير
المأثور وكتب الدلائل غربلها الشيخان، واختارا ما أشرنا إليه وسنذكره بنصه،
وذكر السيوطي في الدر المنثور سائر مخرِّجيها وألفاظهم وزيادتهم على الصحيحين
فيها، وزاد ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد
الزهد، وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:
خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن
اليوم المضمار وغدًا السباق. اهـ، وابن جرير لم يذكر أن ذلك كان على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والراوي عن أبي عبد الرحمن: عطاء بن السائب
وعنه شعبة وابن علية، واتفقوا على أن عطاء بن السائب قد اختلط في آخر عمره
وتغير فلا تقبل رواية أحد عنه في آخرته؛ ولكن شعبة من قدماء الرواة عنه، وقد
روى ابن المنذر أنه - أي حذيفة - قرأ (وقد انشق القمر) والرواية تدل على أن
هذا خطأ؛ فإنه قرأ الآية في خطبته كما رواها القراء بالتواتر، ثم قال: ألا وإن
الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، وهذا من كلامه على أنه تفسير، على
أن أمثال هذه الروايات الآحادية الغريبة لا يثبت بها القرآن، بل لا بد من تواتره.
(ب) اختلاف المتون في هذه الأحاديث:
(1)
في بعض روايات ابن مسعود في الصحيحين أنه قال: انشق القمر
ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى. وفي رواية أخرى أنه قال: انشق القمر
بمكة. وهو الموافق لرواية أنس، وكذا جبير بن مطعم فإنه قال: ونحن بمكة، وفي
رواية ثالثة لم يذكر المكان. قال الداودي: إن بين الحديثين تضادًّا، وأجاب الحافظ
ابن حجر بأن التضاد يُدفع بإرادة أنهم كانوا عند انشقاقه بمكة، أي قبل أن يهاجروا
إلى المدينة، ومِنى من جملة مكة لأنها تابعة لها، وذكر في رواية ابن مردويه
عنه أنه قال: ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة؛ ولكن هذا اللفظ لا يقال إلا
إذا كان ذلك قبيل الهجرة. وفي الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه
وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنه قال رأيت القمر منشقًّا شقتين بمكة قبل
أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء.
ثم قال الحافظ: والجمع بين قول ابن مسعود تارة: بمنى، وتارة: بمكة، إما
باعتبار التعدد إن ثبت (نقول: وهو ينفيه) وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن
قال: كان بمكة، لا ينافيه؛ لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن
الرواية التي فيها (بمنى) قال فيها: ونحن بمنى، والرواية التي فيها (بمكة) لم يقل
فيها (ونحن) وإنما قال: (انشق القمر بمكة) يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل
أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا تندفع دعوة الداودي، أن بين الخبرين تضادًّا والله
أعلم. اهـ.
وقوله رحمه الله: إن ابن مسعود لم يقل في رواية مكة (ونحن بمكة) إنما
يصح في رواية الصحيح التي كان يشرحها، وقد ذهل عما ذكره هو قبل ذلك في
شرحه من رواية ابن مردويه عنه، وفيها أنه قال (ونحن بمكة) على أن لفظ
(نحن) لا ينقض ما ذكره من التأويل، وإنما يبعده أن المتبادر من قوله (قبل أن
نصير إلى المدينة) أنه كان بالقرب من الهجرة، والمنقول أنه كان قبلها بخمس سنين
كما ذكره الحافظ وغيره.
(2)
أن البخاري أسند قول ابن مسعود: (انشق القمر بمكة) من رواية
إبراهيم عن أبي معمر، ثم قال: وتابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن أبي
معمر عن عبد الله، وذكر الحافظ في شرحه أن هذه الطريق وصلها عبد الرزاق في
مصنفه والبيهقي من طريقه في دلائل النبوة بلفظ: رأيت القمر منشقًّا شقتين، شقة
على أبي قبيس، وشقة على السويداء، والسويداء بالمهلة والتصغير ناحية خارج
مكة عندها جبال. اهـ. وفي الصحيحين والترمذي وغيرهم عنه: انشق القمر
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه،
وفي رواية أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه وأبي
نعيم عنه: رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل من بين فرجتي
القمر. وفي رواية ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل من طريق علقمة عنه: كنا مع
النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر حتى صار فرقتين، فتوارت فرقة خلف
الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اشهدوا) .
وفي حديث ابن عمر عن مسلم والترمذي وغيرهما من طريق مجاهد وقد تقدم:
انشق فرقتين: فرقة من وراء الجبل وفرقة دونه. والحافظ شك في صحة هذه الرواية
عنه كما تقدم، وفي حديث جبير بن مطعم: حتى صار فرقتين، فرقة على هذا
الجبل وفرقة على هذا الجبل، وفي حديث أنس في الصحيحين وابن جرير - وتقدم -
فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، وفي رواية عن ابن عباس عند أبي
نعيم أن ذلك كان ليلة أربع عشرة، قال: فانشق القمر نصفين نصفًا على الصفا
ونصفًا على المروة.
فهذه بضعة ألفاظ يخالف بعضها بعضًا، وقد تكلف الحافظ في الفتح الجمع بين
قول ابن مسعود: شقة على أبي قبيس، وهو بمكة، وكونهم كانوا في منى، فقال:
يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف
جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقًّا حتى رجع ابن مسعود من منى
إلى مكة فرآه كذلك! وفيه بُعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب
غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع
في أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر. أو التعبير (بأبي
قبيس) من تغيير بعض الرواة؛ لأن الفرض ثبوت رؤيته منشقًّا إحدى الشقتين على
جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر: رأيت الجبل
بينهما. أي بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره
مثلاً صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه
أيضًا اهـ.
وفي هذا الجمع ضعف من جهات أغربها دعوى احتمال رؤية جبل أبي قبيس
من منى في الليل، وناهيك بغرابة هذا القول في حال طلوع البدر من الشرق، ومكة
في جهة الغرب من منى! ثم ماذا يفعل بسائر الروايات؟
أبو قبيس هو الجبل المشرف على مكة من شرقيها، وهي من جهة منى،
ويقابله قعيقعان من غربها، وحراء هو الجبل الذي يُرى في داخل مكة، ويسمى
الآن جبل النور وفيه الغار الذي كان يتعبد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في
الجهة الشمالية من مكة على يسار الذاهب منها إلى منى، فعرفات يبعد عن الطريق
زهاء ميل، ويبلغ ارتفاعه زهاء مائتي متر، ولا يُرى من منى، ورواية أبي نعيم
عن ابن مسعود (رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر) وأما السويداء فلا يعلم
مكانها من تفسير الحافظ لها وفي معجم البلدان وكتب اللغة أنها موضع تابع للمدينة،
وفي المعجم أنها على بعد ليلتين منها، والحافظ ثقة في النقل، ومنى أعلى من مكة،
والمسافة بينهما ثلاثة أميال.
وجملة القول: إن الروايات الواردة في كون القمر انشق وهم في مكة لا تتفق مع
الروايات المصرحة بأنهم كانوا في منى؛ لأن كل ما ذُكر في بعضها من التفصيل
والبيان للجبلين اللذين أُبهما في البعض الآخر يفيد أنه لا يمكن أن يراهما من كان
في منى، فقول الداودي بتناقض الروايتين ظاهر، وما اعتمده الحافظ من الجمع
بينهما مردود؛ ولذلك لجأ بعضهم إلى تعدد الانشقاق، وقد أبى الحافظ قبوله
على إغماضه وتساهله في الجامع بين الروايات المتعارضة؛ لأن مدار إثباته على
النقل ولم يُنقل إلا في رواية ضعيفة فيها لفظ مرتين، وقالوا: إن صوابه: شقتين
أو فرقتين؛ وفاقًا لسائر الروايات.
والقاعدة المشهورة عند العلماء في الأدلة المتعارضة التي يتعذر الجمع بينها
تساقطها، ومن الدائر على ألسنتهم في المتعارضين كذلك (تعادلا فتساقطا) والقطعيان
لا يتعارضان، والإفاضة في هذه المباحث ليست من موضوع هذه الفتوى.
(ج) استشكال الرواية بعدم تواترها:
ذكر علماء الأصول أن الخبر اللغوي ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، وأن
أقسامه العقلية ثلاثة: ما يُقطع بصدقه بالضرورة أو بالنظر الذي يؤدي إليها - وما
يقطع بكذبه كذلك - وما لا يقطع بصدقه ولا كذبه. وذكروا أن مما يقطع بكذبه
الخبر الذي لو كان صحيحًا لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر، إما لكونه من
أصول الشريعة، وإما لكونه أمرًا غريبًا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة.
ومن المعلوم بالبداهة أن انشقاق القمر أمر غريب، بل هو في منتهى الغرابة
التي لا يُعد سقوط الخطيب في جانبها غريبًا؛ لأن الإغماء كثير الوقوع في كل
زمن، ومتى وقع سقط صاحبه خطيبًا كان أو غير خطيب، وانشقاق القمر غير
معهود في زمن من الأزمان، فهو محال عادة، وبحسب قواعد العلم ما دام نظام
الكون ثابتًا، وإن كان ممكنًا في نفسه لا يعجز الخالق تعالى إن أراده، فلو وقع
لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر لشدة غرابته عند جميع الناس في جميع البلاد
ومن جميع الأمم، ولو كان وقوعه آية ومعجزة لإثبات نبوة النبي صلى الله عليه
وسلم لكان جميع من شاهدها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقلها وأكثر
الاستدلال والاحتجاج بها حتى كان يكون من نقلتها في رواية الصحيحين قدماء
الصحابة الذين كانوا لا يكادون يفارقون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في
مثل هذه المواقف، كالخلفاء وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم رضي الله
عنهم، وقد علمت أنه لم ينقل فيهما مسندًا إلا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
وأنه لم يقل: إن ذلك كان آية بطلب كفار قريش؛ وإنما روى هذا أنس بن مالك،
وروايته مرسلة ليست عن مشاهدة كما تقدم، وعلمت ما في الروايات في غير
الصحيحين من العلل.
وقد ذكر الحافظ هذا الإشكال في الفتح وأجاب عنه بما نصه:
(وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترًا، واشترك أهل الأرض في معرفته
ولَمَا اختص بها أهل مكة (فجوابه) أن ذلك وقع ليلاً وأكثر الناس نيام، والأبواب
مغلقة، وقلَّ من يرصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف
القمر وتبدو الكواكب العظام وغير وذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك
الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها،
ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق
دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم) . اهـ.
تضمن جواب الحافظ عن هذا الإشكال جوابًا عن إشكال آخر في معناه ذكره
بعده مع الجواب عنه نقلاً عن الخطابي أحد قدماء شُرَّاح صحيح البخاري، وسيأتي.
ونقول في جوابه عن مسألة نقل التواتر (أولاً) إن وقوعه في الليل وأكثر الناس
نيام لا ينافي نقله بالتواتر، إذ لابد أن يكون رآه عدد يحصل بهم نقل التواتر، ولو
من أهل مكة أنفسهم، ولا يمكن أن يختص برؤيته بعض الأفراد كما بيَّناه في توجيه
الإشكال، وقد علم من بعض الروايات أنه وقع في منتصف الشهر والقمر بدر، ولا
بد أن يكون ذلك في أول الليل كما ذكره الحافظ احتمالاً، وبه تظهر رواية كونه كان
آية على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والظاهر من رواية التصريح بأنهم
كانوا في منى أن ذلك كان في الموسم إذ لا يجتمع الناس في منى إلا في أيام
التشريق، وهي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، وصرَّح بعضهم بأنه
انشق في الليلة الرابعة عشرة، ولا يعقل أن يضرب للذين طلبوا منه صلى الله
عليه وسلم الآية من كفار قريش آخر الليل موعدًا، على أنه لا فرق بين أول الليل
وآخره من جهة اجتماع الناس من المسلمين والمشركين؛ لأنه لإقامة الحجة وهي لا
تكون بالسر والإخفاء.
(ثانيًا) أن المعلوم من عادة الناس في جميع البلاد أن يكونوا مستيقظين في
أول الليل، ولا سيما في الليالي البيض التي يكون القمر فيها بدرًا يطلع من أول
الليل، وأنهم يكثرون النظر إليه لجماله وخاصة في الأماكن الخلوية كمنى، وقد
علمت أنهم قالوا: إن انشقاقه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ومن راجع حساب
السنين في ذلك لذلك العهد علم أن موسم الحج قبل الهجرة بخمس سنين كان في
فصل الصيف.
(ثالثًا) أن التنظير بين انشقاق القمر والخسوف في غير محله؛ لأن
الخسوف من الأمور الكثيرة الوقوع التي لا يُعنى جماهير الناس بذكرها؛ وإنما يهتم
بها علماء الفلك دون غيرهم، وهي تُرى في بعض البلاد دون بعض، وأصحاب
التقاويم الفلكية السنوية المألوفة في هذه البلاد يذكرون في كل سنة ما لعله يقع في
أثنائها من خسوف القمر وكسوف الشمس ويحددون وقته بالدقائق والثواني،
ويذكرون البلاد التي يُرى فيها، والتي لا يُرى فيها؛ لأن سببهما من الأمور
المعلومة بالقطع، ومنه يُعلم أنهما ليسا من الأمور التي تعرض لجرم القمر والشمس؛
وإنما سبب خسوف القمر أن الأرض تقع بينه وبين الشمس فتجب نورها عنه
بقدر ما يقع من ظلها عليه، وسبب كسوف الشمس وقوع جرم القمر بينها وبين
الأرض، وأما انشقاقه فهو صدع لجرمه يفصل بين أجزائه، فإذا كان هذا الفصل
واسعًا كالذي تصفه لنا الروايات السابقة فلابد أن يراه كل من نظر إليه في كل قطر.
(رابعًا) أن قوله: ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ في بعض المنازل التي
تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم - لا يفيد في
دفع الإشكال؛ فإن كل من يراه في المنزلة التي انشق فيها لا بد أن يراه منشقًّا بخلاف
الخسوف كما علم مما قلناه آنفًا.
(د) إشكال خفاء الحادثة على جميع الأقطار:
هذا الإشكال في معنى الذي سبقه أو مؤكد له، وقد أفرده علماؤنا بالذكر
وأجابوا عنه، وقد كفانا الحافظ رحمه الله مؤنة مراجعة ما كتبوه فجاء بأحسنه، وهاك
ما أورده في هذه المسألة عقب ما نقلناه عنه فيما قبلها:
(وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات
الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجًا من جملة طباع ما في هذا العالم
المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة؛ فلذلك صار البرهان
به أظهر، وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام
الناس؛ لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على
رؤية كل غريب ونقل ما لم يُعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير
والتنجيم إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره.
والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء
طلبه خاص من الناس، فوقع ليلاً لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن
يكون أكثر الناس فيه نيامًا ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان
يُحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولاً بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن
يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم
يشعر به أكثر الناس؛ وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه ولعل ذلك إنما
كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر) .
ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ
التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن، بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت
عامة أعقبت هلاك من كذَّب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي
صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية فاختص بها
القوم الذين بُعث منهم لِمَا أُوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها
عامًّا لعوجل من كذَّب به كما عوجل من قبلهم.
وذكر أبو نعيم في الدلائل نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت
الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر، ويجتهدون في
إطفاء نور الله (قلت) وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل
ذلك من الصحابة، وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه،
فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه وهذا كافٍ؛ فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن
يوجد عنه صريح النفي؛ حتى إن من وُجد عنه صريح النفي يُقَدَّم عليه من وجد
منه صريح الإثبات.
وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى
ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد
ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر، ثم أجاب بنحو جواب
الخطابي وقال: وقد يطلُع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضًا فإن زمن
الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث
أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك، فجاءت السفار وأخبرو بأنهم عاينوا ذلك؛
وذلك لأن المسافرين في الليل غالبًا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم
ذلك، وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير
منحصرة، ويُحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها
عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة، كما اختصوا
بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم. اهـ وفي كلامه نظر لأن أحدًا لم ينقل أن
أحدًا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة، فلم
يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدًا؛ ولكن لم ينقل
عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على الجواب الذي ذكره
الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم اهـ.
أقول: قد عُلم مما تقدم آنفًا ضعف الجواب عن هذا الإشكال كسابقه، ونزيد
عليه ما أرجأناه عمدًا وهو قول الخطابي ومن تبعه: لعل انشقاق القمر إنما كان في
قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. فهذا الاحتمال هو الذي يمكن أن يعقل به احتمال
عدم رؤية أهل الأقطار له حتى أهل مكة، وكذا من كان في منى؛ ولذلك ذكرناه في
تلخيص المسألة في المجلد السادس، وإذا أضيف إليه احتمال وقوع الرؤية في آخر
الليل يزداد قوة، وقد يكون كل من الاحتمالين معقولاً إذا اعتمدنا في المسألة ظاهر
حديث ابن مسعود المسند المتصل في الصحيحين وما وافقه من أن انشقاقه لم يكن
إجابة لاقتراح المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية تدل على
صدق دعواه، ولا يعقل على رواية أنس المرسلة في الصحيحين وما في معناها في
غيرهما كما تقدم من أن ذلك كان آية مقترحة؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يؤيد
رسوله صلى الله عليه وسلم بآية كونية عظيمة كهذه تكون حجة له على الناس؛
فإنه لا يجعلها كطرفة عين يراها أفراد قليلون في آخر الليل، وقد ران الكرى على
أجفانهم بحيث يعذرون في اتهام أبصارهم بهذه الرؤية كما ورد في بعض الروايات
أنهم قالوا ذلك، وجاء في بعض التفاسير أنه وقع مثل ذلك لبعض المتأخرين،
فزعم أنه رأى القمر قد انشق، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا تخيل، بل يجعلها
آية مبصرة كناقة صالح لا يمكن الشك ولا المراء الظاهر فيها.
وأما ما ورد في غير الصحيحين من انتظار أهل مكة للسفار وإخبارهم برؤيته
منشقًّا فهو لا يصح، ولو صح لكان مؤيدًا لإشكال توفر الدواعي على نقله متواترًا.
أما الحديث فقد رواه ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وكذا أبو نعيم
والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة كلهم من طريق مسروق عن ابن مسعود، وفي
سنده عند ابن جرير المغيرة بن مقسم (بكسر الميم) الكوفي الفقيه وهو مدلس وقد
عنعن فلا يُحتج بروايته، وأما تأييده لما ذكر من الإشكال فظاهر؛ لأن رؤية أولئك
السفار له دليل على رؤية غيرهم من مسافر ومقيم وهم كثيرون، وحينئذ لابد أن
يرويه الكثيرون، ومن غرائب الاحتمالات التي تخيلها بعض المجيبين عن هذا
الإشكال قول القرطبي الذي نقلناه عن الحافظ آنفًا، فحاصله مع ما قبله أن هذه الآية
العظيمة جعلها الله تعالى في لحظة من آخر الليل وصرف عن رؤيتها أبصار جميع
الخلق غير الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وكذا بعض سفار
المكيين على رواية شاذة! ! !
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاستفتاء في حقيقة الربا
يعلم قراء المنار أن مسألة الربا أعظم المشكلات الإسلامية المدنية التي شغلت
بال الحكام والزعماء والعلماء في هذا العصر، ولدينا أسئلة كثيرة في معاملات
المصارف المالية (البنوك) والشركات والعقود التي فيها شيء مما يعده الفقهاء من
المعاملات الربوية، وردت في تواريخ مختلفة، وكنا نرجئ الجواب عنها إلى
فرصة يتاح لنا فيها حل هذه المشكلة بتفصيل يشمل هذه الفروق أو يبنى عليه بيان
حكمها، وقد فتحت لنا هذا الباب حكومة حيدر أباد الدكن الهندية الإسلامية منذ
أشهر قليلة إذ نشرت في الأمصار الإسلامية الكبرى رسالة في حقيقة المسألة، وهي
فتوى لبعض العلماء هناك في محاولة تحرير الموضوع، طبعتها الحكومة الآصفية
ووُزعت بأمر الصدارة المالية والمحكمة الشرعية فيها على العلماء المشهورين في
الأقطار الإسلامية طالبة منهم بيان آرائهم فيها بالدليل الشرعي وإرسال الأجوبة
بعنوان (معين صدر الصدور - محكمة الصدارة العالية) في تلك العاصمة، وقد
أرسلت إلينا ثلاث نسخ من هذا الاستفتاء: واحدة خاصة بنا، والأخريان لصاحبي
الفضيلة شيخ الأزهر والشيخ محمد بخيت أرسلناهما إليهما، وها نحن أولاً ننشر
نص الاستفتاء بحواشيه، وبعد نشره نبين رأينا فيه، ثم نشرع بعد ذلك في نشر تلك
الأسئلة أو ما يغني منها عن غيره ونجيب عنها أجوبة مختصرة يغنينا تحرير حقيقة
الربا عن الإطالة فيها، إن شاء الله تعالى.
وليعلم القرَّاء أننا ننشر هذه الفتوى الطويلة مع حواشيها بنصها المطبوع، ولا
نعنى بتصحيح شيء منها ولا بالتعليل على ما نراه منتقدًا من عباراتها أو معانيها
في أثناء نشرها إلا ألفاظًا قليلة للكاتب عذر فيها كرسم الربا برسم المصحف
(الربوا) وكذا رسم الصلاة والزكاة بالواو وهي طريقة إخواننا مسلمي الهند.
بسم الله الرحمن الرحيم
(حامدًا ومصليًا)
{إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88)
وبه نستعين
اعلموا أن الله حرَّم الربا في القرآن بقوله جل ثناؤه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) قال ابن كثير في تفسيره: باب الربا من أشكل
الأبواب على كثير من أهل العلم اهـ. فلو لم يفسره الفقهاء المجتهدون - شكر الله
مساعيهم - لما اتضح لنا حقيقته، فعلينا أن ننقل ما روي عن أئمتنا في تفسيره:
قالوا: إن الأمة اتفقت على أن المعنى اللغوي ليس مرادًا [1] في الآية؛ لأن
الربا في اللغة: الزيادة مطلقًا، وهي أعم من كل زيادة، وظاهر أن كل فرد من أفراد
الزيادة ليس بحرام بل بعضها حرام. وبعد اتفاقهم عليه تشعبوا فرقتين، فالأئمة
وجمهور العلماء عيَّنوا هذه الأفراد بالسنة، وهو الفضل الذي وردت السنة بكونه
ربا فهو حرام عندهم، أعني الفضل في البيع، فالربا عندهم منحصر في البيع لا
غير، وذهب البعض إلى أن اللام في (الربا) للعهد، والمراد به ربا الجاهلية،
فالمآل على هذا التفسير أن القرآن حرَّم ربا الجاهلية، ولما لم يثبت صورة ربا
الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن لم يلتفت الأئمة والجمهور إليه، وقالوا:
إن ربا القرآن مجمل والحديث مفسر له، قال القاضي سناء الله في تفسيره المظهري:
قال جمهور [2] العلماء: هذا مجمل؛ لأن طلب الزيادة بطريق التجارة غير محرم في
الجملة، فالمحرم إنما هو زيادة على صفة مخصوصة لا تدرك إلا من قبل الشارع فهو
مجمل، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التحقه بيانًا. قال الجصاص الرازي
الحنفي: وهو (أي الربا) يقع على معانٍ لم يكن الاسم موضوعًا لها في اللغة. وبعد
سرد الأدلة على إجمال الربا قال: فثبت بذلك أن الربا قد صار اسمًا شرعيًّا؛ لأنه لو
كان باقيًا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالمًا بأسماء اللغة؛
لأنه من أهلها اهـ. ثم قال: وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء
المجملة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعانٍ لم يكن
الاسم موضوعًا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة اهـ[3] . وفي جواب
استدلال الشافعية عن كون علة الربا مأكولاً قال الجصاص الرازي: فهذا عندنا لا يدل
على ما قالوا من وجوه (أحدها) ما قدَّمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى
البيان، فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا
حتى يحرِّمه بالآية. انتهى. وقال صدر الشريعة الحنفي: والمجمل كآية الربا؛ فإن
قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) مجمل لأن الربا في اللغة هو
الفضل، وليس كل فضل حرامًا بالإجماع، ولم يعلم أن المراد أي فضل، فيكون
مجملاً، ثم لمَّا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الربا في الأشياء الستة احتيج بعد ذلك
إلى الطلب والتأمل ليعرف علة الربا في غير الأشياء الستة [4] ، وكذا في شرح
التحرير لابن الهمام وفي المسلم وفواتح الرحموت ومرقاة الوصول وشرحه مرآة
الأصول وغيرها من كتب الأصول.
قال العلامة النسفي في كشف الأسرار: وكذلك آية الربا مجملة لاشتباه المراد،
وهذا لا يُدرك بمعاني اللغة بحال فهو في اللغة الفضل؛ ولكن الله تعالى ما أراده.
وقال العلامة نظام الدين الشاشي: المجمل هو ما احتمل وجوهًا فصار بحال لا
يوقف على المراد إلا ببيان من قِبَل المتكلم، ونظيره في الشرعيات قوله تعالى:
{وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) قال ابن نجيم في فتح الغفار: وليس المراد أن كل
مجمل بعد بيان المجمل يحتاج إلى الطلب والتأمل، فالصلاة بيانها شافٍ فلم تحتج
إلى تأمل بعده، وبيان الربا غير شافٍ - صار به المجمل مؤولاً وهو يحتاج إلى
الطلب والتأمل كما في الكشف، فالرجوع إلى الاستفسار في كل مجمل، والطلب
والتأمل إنما هو في البعض [5] .
قال صاحب فصول البدائع في حكم المجمل: هو التوقف إلى الاستفسار مع
اعتقاد حقيقة ما هو المراد حالاً ثم الطلب والتأمل إن احتيج إليهما كما في الربا؛ فإن
حديث الأشياء الستة الحاصل من الاستفسار معلل بالإجماع [6] . قال عبد العزيز
البخاري في شرح الأصول للبزدوي: والحاصل أن المجمل قسمان: ما ليس له ظهور
أصلاً كالصلاة والزكاة والربا أو ما له ظهور من وجه كالمشترك [7] .
وإذا ثبت من هذه النقول أن الربا الذي وقع في القرآن مجمل، وثبت أيضًا
أنه لا يثبت منه حكم بدون تفسير الشارع عليه السلام، فحينئذ علينا أن نحرر
التفسير الذي ورد عنه عليه السلام، وهو ما روى عبادة وأبو سعيد وأبو هريرة
وعمر وغيرهم في بيع الأشياء الستة بصورة مخصوصة، وقد جعله الفقهاء أيضًا
بيانًا للربا كما قال ابن عابدين في نسمات الأسحار: كبيان الربا بالحديث الوارد في
الأشياء الستة وفي نور الأنوار: كالربا في قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) فإنه مجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الحنطة بالحنطة)
الحديث، قال ابن أمير الحاج في شرح التحرير لابن الهمام: كبيان الربا بالحديث
الوارد في الأشياء الستة في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير،
والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فمن زاد [8] أو
استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء) وكذلك يلحق في تفسير إجمال الآية
حديث أسامة بن زيد (الربا في النسيئة) أخرجه مسلم.
ولا يصح تفسيره بالحديث الذي روي عن جابر وعمرو بن الأحوص بلفظ
(إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه رِبانا ربا عباس بن عبد المطلب) لأنه
لم يظهر تفسير ربا الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن حتى يكون بيانًا له،
وكيف وهو مجمل كربا القرآن؟
فعلى هذا حقيقة الربا: الفضل الذي يكون في البيع، سواء كان فضل عين أو
أجل، وإذا بيع شيء من هذه الستة وما في حكمها من جنسه فالفضل والأجل
كلاهما ربا، وإذا بيع منها شيء بغير جنسه فالأجل فقط ربا وهو ربا النساء، وكذلك
الزيادة على الثمن المؤجل إذا لم يقض الثمن عند حلول الأجل، ربا، وهو ربا
النسيئة.
ففي الأولى أي إذا وقع بيع جنس بجنس، فلابد لجواز البيع من أمرين:
الأول المساواة في الكيل أو الوزن، والثاني قبض البدلين في المجلس.
وفي الثانية إذا كان الجنسان من هذه الأشياء الستة وما في حكمها مختلفين،
فلا يشترط ههنا إلا القبض في المجلس، ولا يشترط المساواة كيلاً أو وزنًا.
(وفي الثالثة) أي إذا كانت الأشياء من غير هذه الستة وما في حكمها لا
يجوز الفضل على الثمن المؤجل بعد حلول الأجل إن لم يقض هذا الثمن بمقابلة
الأجل.
والأصل فيه أن المتبايعين يريدان المساواة في البدلين وعليه مدار عقد البيع،
فلهذا وضع لها الشارع عليه السلام أصول وقوانين يُعرف بها المساواة والفضل
الذي يحكم عليه الشرع بأنه ربا (الأول) أن للنقد مزية على النسيئة (والثاني)
إذا كان البدلان - كيليًّا أو وزنيًّا - فلا بد أن يكونا متساويين في الكيل أو الوزن
(والثالث) إذا كان أحد البدلين غير المكيل والموزون فما تراضى عليه العاقدان فهو
بدل الآخر ومساوٍ له، ومن هذه الأصول يعلم ما جعل الشارع عليه السلام من
الفضل ربا في البيع والشراء.
فالفضل والأجل كلاهما ربا في بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون من
جنسه؛ لأنه فضل حقيقة أو حكمًا ولا دخل فيه لتراضي العاقدين والبيعين؛ فإن
تراضي البيعين في أمثال هذا البيع بالفضل أو الأجل أو بكليهما لا يصحح هذا البيع،
ويكون الفضل والأجل كلاهما ربا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من زاد) أي
أعطى الزيادة (أو استزاد) أي طلب الزيادة (فقد أربى) وفي المدونة أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه راطل أبا رافع فوضع الخلخالين في كفة فرجحت الدراهم،
فقال أبو رافع: هو لك أنا أحله لك، فقال أبو بكر: إن أحللته لي فإن الله لم يحله
لي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الذهب بالذهب وزنًا بوزن،
والورق بالورق وزنًا بوزن، الزائد [9] والمزاد في النار) [10] وعند اختلاف الجنس
من هذه الأشياء لم يجعل الشارع المساواة باعتبار التساوي كيلاً ووزنًا حتى لم يحرم
في هذه الصورة الفضل كيلاً أو وزنًا؛ لأنه أمر غير معقول، بل جعل المساواة
المطلوبة ما تراضى عليها العاقدان والبيعان من كون أحدهما مساويًا للآخر، نعم جعل
للنقد مزية على النسيئة فيكون الأجل ربا ولا يعد التراضي فيه شيئًا بل يصير ملغى،
وإذا اختلف جنس البدلين من غير هذه الستة بأن يكون المكيل في طرف وغيره في
طرف آخر، فالمساواة المطلوبة هي ما تراضى عليها العاقدان، ولم يكن الأجل ربا
في هذه الصورة لأنه خلاف القياس، ونحوه ينحصر فيما ورد فيه النص بشرط أن
يكون الأجل من أحد المتعاقدين لا من كليهما لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع
الكالئ بالكالئ وإذا عين الأجل بالتراضي، فإذا حل الأجل ولم يقض المديون وطلب
النظرة وزاد بها في الثمن فتكون هذه الزيادة ربا أيضًا؛ لأنه فضل على ما تراضى
عليه البيعان أولاً وجعلاه مساويًا للآخر، فهذه الزيادة لا محالة تكون بمقابلة الأجل ولا
قيمة للأجل مستقلاًّ عند الشارع، فتكون هذه الزيادة فضلاً محضًا وهو عين الربا.
الحاصل أن هذه الأحاديث المفسرة لربا القرآن تدل على أن في بيع أحد
المتجانسين من الأشياء الستة وما في حكمها الفضل والأجل: كلاهما ربا، وفي بيع
أحد المتجانسين منها بخلاف جنسه: الأجل فقط ربا، لا الفضل، وهو ربا النسيئة،
وفي البيع بثمن بمؤجل ما يزاد على النسيئة أي الثمن المؤجل عند حلول الأجل
بمقابلة الأجل ربا وهو الربا في النسيئة، وجميع هذه الأقسام تنحصر في البيع،
فالربا ثلاثة أنواع وكل منها حرام بالقرآن؛ لأن المجمل من الكتاب إذا لحقه البيان
كان الحكم بعده مضافًا إلى الكتاب لا إلى البيان في الصحيح [11] الاثنان منها ما
يفسره حديث عبادة بن الصامت، وأبي سعيد وغيرهما، والثالث ما يفسره حديث
أسامة بن زيد.
قال القسطلاني في شرح البخاري: وهو (أي الربا) ثلاثة أنواع، ربا
الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر، وربا اليد وهو البيع مع
تأخير قبضهما أو قبض أحدهما وربا النساء [12] وهو البيع لأجل وكل منها حرام
[13]
.
قال صاحب تفسير السراج المنير: وهو لغةً: الزيادة، وشرعًا: عقد على
عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في
البدلين أو أحدهما، وهو ثلاثة أنواع: ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين
على الآخر، وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء
وهو البيع إلى أجل، وفي هذه الأقوال دلالة واضحة على أن الأنواع الثلاثة للربا
منحصرة في البيع، فعلى هذا لا يوجد الربا في عقد خلا البيع، قال ابن كثير في
تفسير سورة الروم: وقال ابن عباس: الربا ربوان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع،
وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها [14] ، وفيه تصريح منه
رضي الله عنه على أن الربا الذي لا يجوز هو ربا البيع فقط، وما خلا ربا البيع فلا
بأس به. قال العلامة العيني في شرح الهداية: ولما فرغ عن بيان أبواب البيوع التي
أمر الشارع بمباشرتها بقوله: {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) مع أنواعها
صحيحها وفاسدها شرع في بيان أبواب البيوع التي نهى الشارع عنها بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران: 130) اهـ. ثم قال: وقال
علماؤنا: هو نوع بيع فيه فضل مستحَق لأحد المتعاقدين خالٍ مما يقابله من عوض
شرط في هذا العقد اهـ. وكذا في العناية، ولذا قال العلامة السرخسي في حده: وفي
الشريعة: هو الفضل الخالي عن العوض المشروط [15] في البيع (مبسوط) وما قال
صاحب الهداية: أعني: الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة
الخالي عن عوض شرط فيه فيأول إليه. قال شارحه: الربا هو الفضل الخالي عن
العوض المشروط في البيع (عناية) وفي الملتقى: الربا فضل مال خالٍ عن عوض
شرط لأحد العاقدين في معاوضة [16] مال بمال، وفي العالمكيرية: الربا في الشريعة
عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال.
قال صدر الشريعة في التوضيح: وأما المخصوص بالكلام فعند الكرخي لا
يبقى حجة أصلاً معلومًا كان أو مجهولاً كالربا حيث خص من قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
البَيْعَ} (البقرة: 275) اهـ. يعني أن البيع عام يشمل الربا وغيره، وخص
منه الربا فلو لم يكن الربا فردًا من أفراد البيع وداخلاً تحته كيف يصح تخصيصه
من البيع؟ قال فخر الإسلام البزدوي: وخص الربا من قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) اهـ. وقال ابن عابدين الشامي: الربا خص من
{وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) (نسمات) .
قال الملا أحمد جيون: نظير الخصوص المعلوم والمجهول قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فإن البيع لفظ عام لدخول لام
الجنس فيه، وقد خص الله منه الربا وهو في اللغة الفضل، ولا يُعلم أي الفضل يُراد
به؟ لأن البيع لم يشرع إلا للفضل فهو حينئذ نظير الخصوص المجهول، ثم بيَّنه
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والتمر
بالتمر) الحديث (نور الأنوار) .
خلاصة الكلام أن القرآن حرَّم الربا، وكان لفظ الربا فيه مجملاً والسنة
الصحيحة فسرته بالأقسام التي كلها تندرج في البيع؛ ولهذا خصص الفقهاء الربا
بالبيع، قال العلامة الشاشي في حده: الربا هو الزيادة الخالية عن العوض في بيع
المقدرات المتجانسة. وفي النقاية: الربا هو فضل خالٍ عن عوض بمعيار شرعي
بشرط أحد المتعاقدين في المعاوضة (منح الغفار شرح تنوير الأبصار) .
قال محمد رحمه الله: والربا إنما يتحقق في البيع لا في التبرع بعد قوله؛
لأن القرض أسرع جوازًا من البيع؛ لأنه مبادلة صورة تبرع حكمًا اهـ (نشر
العرف) قال شيخ الإسلام المرغيناني: وهو الربا يعمل في المعاوضات دون
التبرعات (كتاب الهبة) قال ابن عابدين ناقلاً عن الزيلعي: وهو (أي الربا)
مختص بالمعاوضة المالية دون غيرها من المعاوضات والتبرعات [17] .
وقال العلامة الشيخ زادة في مجتمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: وهو
مختص بالمعاوضات المالية دون غيرها من غير المالية والتبرعات، وقال ملك
العلماء العلامة الكاساني: فلا يتحقق الربا إذ هو مختص [18] بالبياعات وعليه يدل
ما مر عن المبسوط والهداية وغيرهما.
فحينئذ ظهر أن النفع المعين المشروط في القرض ليس من الربا المنصوص؛
لأن الآية كانت مجملة لا يُفهم منها المراد والأحاديث المفسرة لها كلها في البيع لا
في غيره؛ ولهذا صرَّح فقهاؤنا بأن الربا يتحقق في البيع لا في التبرع؛ ولعلهم
أنكروا [19] كونه نصيًّا كما يدل عليه ما قال ملك العلماء في البدائع؛ ولأن الزيادة
المشروطة تشبه الربا [20] فلا يكون الشبيه بالربا عين الربا، وأيضًا يظهر من كلام
العلامة العيني أن هذا النفع عنده ليس هو الربا المنصوص؛ لأنه يظهر من كلامه
الذي سيأتي أنه لم يظفر بحديث صحيح في هذا الباب بعد تجشمه وتفحصه مع سعة
نظره وكثرة اطلاعه على الحديث وطرقه ولو كان منصوصًا لم يحتج إلى هذا
التجشم والتفحص.
والحديث الذي أخرجه صاحب (بلوغ المرام) عن علي وجرى على ألسنة
العوام والخواص بلفظ (كل قرض جر منفعة فهو ربا) لا يجوز أن يقع تفسيرًا
للقرآن؛ لأنه غير ثابت ولا أصل له، قال ابن حجر: فيه الحارث بن أسامة،
وإسناده
ساقط، وقال الحافظ جمال الدين الزيلعي في نص الرواية: ذكره عبد الحق في
أحكامه في البيوع وأعله بسوار بن مصعب وقال: إنه متروك، وكذا نقل عن أبي
الجهم في جزئه أن إسناده ساقط وسوار متروك الحديث، قال البخاري في كتابه
(الضعفاء الصغير) سوار بن مصعب منكر الحديث، وقال يحيى: يجيء إلينا وليس
بشيء، وقال النسائي وغيره: متروك، وكذا قال ابن الهمام في الفتح، ولذا قال: هو
أحسن ما ههنا عن الصحابة [21] وعن السلف؛ لأن هذا الحديث عنده كان غير صالح
للاحتجاج، وعلم منه أنه ليس في الباب حديث صحيح قابل للاحتجاج.
ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص عن عمر بن بدر أنه قال في المغني: لم
يصح فيه شيء اهـ. وأما ما قال الغزالي وشيخه: أنه صح، قال الشوكاني في
النيل: لا خبرة لهما بهذا الفن، ويدل على هذا المعنى ما قال المفسر الخازن:
(المسألة الرابعة) في القرض وهو من أقرض شيئًا وشرط عليه أن يرد عليه أفضل
منه فهو قرض جر منفعة، وكل قرض جر منفعة فهو ربا، ويدل عليه ما روي عن
مالك قال بلغني أن رجلاً أتى ابن عمر
…
إلخ [22] . لأنه لو كان عنده حديث (كل
قرض) صحيحًا قابلاً للحجة لم يعدل عنه إلى أثر ابن عمر، وكذا العلامة العيني
نقل أولاً تضعيف هذا الحديث عن غير واحد من الأئمة، ثم قال: قال الأترازي
مع دعاويه العريضة: والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض
جر نفعًا وسكت عنه، وكذا قاله الأكمل وسكت عنه مع أنه [23] كان في ديار
الحديث وكتبه المنوعة والله أعلم (شرح هداية) وفيه دلالة على أن [هذا] الحديث
ليس له طريق صحيح وإلا لأتى به، وكذا لو كان في معناه حديث صحيح لم يترك
إيراده في هذا المقام.
وكذا لا يصح [24] تفسير إجمال الآية بالحديث [25] الموقوف على عبد الله بن
سلام الذي رواه بردة عند البخاري بلفظ: قال: أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام،
فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك بأرض الربا
فيها فاشٍ إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل
قت فلا تأخذه. لأنه لابد للتفسير من بيان الشارع عليه السلام، وهذا الحديث [26]
الموقوف ليس في حكم المرفوع، وثانيًا أنه متروك العمل باتفاق الأمة، وثالثًا
تعارضه الأحاديث الصحيحة، ورابعًا لما قال العلامة عبد العزيز البخاري في شرح
كشف الأسرار للبزودي في تفسيره البيان القاطع الذي يلحق المجمل: احتراز عما
ليس بقاطع ثبوتًا أو دلالة حتى لا يصير المجمل مفسرًا بخبر الواحد وإن كان قطعي
الدلالة ولا بيان فيه احتمال، وإن كان قطعي الثبوت - وكذا أثر عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه الذي رواه يونس وخالد بن سيرين عن عبد الله بن مسعود أنه سئل
عن رجل استقرض من رجل دراهم ثم إن المستقرض أفقر من المقرض ظهر دابته
فقال عبد الله: ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا - لما بيَّنا ولما قال البيهقي: قال
الشيخ أحمد: هذا منقطع (إزالة) لو قيل: لمَ لا يجوز أن يكون هذا الأثر الموقوف
في حكم الحديث المرفوع؟ قلنا: له شرط وهو أن لا يكون مدركًا بالقياس، وههنا هو
مدرك بالقياس كما صرَّح العلماء بذلك، قال ابن رشد الفقيه المالكي في المقدمات: إن
رجلاً أتى عبد الله بن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلاً واشترطت
أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله بن عمر ذلك الحديث بطوله، وقال رضي الله عنه:
من أسلف سلفًا فلا يشترط أفضل منه، وإن كان قبضة من علف فهو ربا. اهـ.
فهذا الفقيه أنكر كونه ربًا منصوصًا وجعله ربًا قياسيًّا كما يدل عليه قوله: وتفسير ذلك
(أي قول ابن عمر فهو ربا) أنه مقيس على الربا المحرم بالقرآن، ربا الجاهلية: إما
أن تقضي وإما أن تربي؛ لأن تأخيره الدين بعد حلوله على أن يزاد له فيه سلف جر
منفعة [27] على أن الفقهاء لم يتمسكوا بهذا الحديث والأثر من لدن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى زماننا هذا، ولم يفتوا بحرمة أمثال هذه المنافع مطلقًا، بل اتفقوا على
أنها لا تكون ربًا إلا أن تكون مشروطة في العقد، وهذا خلاف ما دلت عليه هذه الآثار
والأحاديث الواردة في هذا الباب لأنها تدل على حرمة كل منفعة سواء شرطت أو لم
تشترط مع أنها بدون الشرط جائزة بالاتفاق، قال العيني: وفيه ما يدل أن المقرض
إذا أعطاه المستقرض أفضل مما اقترض جنسًا أو كيلاً أو وزنًا أن ذلك [28] معروف
وأنه يطيب له أخذه منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أثنى فيه على من أحسن القضاء،
وأطلق ذلك ولم يقيِّده (قلت) هذا عند جماعة العلماء إذا لم يكن عن شرط منهما حين
السلف، وقد أجمع المسلمون نقلاً [29] عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اشتراط
الزيادة في السلف ربا. اهـ[30] .
قال ابن حجر في باب استقراض الإبل تحت حديث أبي هريرة: وفيه جواز
وفاء ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، فيحرم حينئذ
اتفاقًا، وبه قال الجمهور. اهـ. ولما كان هذا الأثر عن عبد الله بن سلام مخالفًا لما
عليه الجمهور تأول ابن حجر قوله رضي الله عنه: (فإنه ربا) وقال: يحتمل
أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على أنه يكون ربًا إذا شرط، نعم
الورع تركه. اهـ. وأيضًا لما أخرج البخاري هذا الحديث بطريق آخر وليس فيه
ذكر الربا، فهناك قال ابن حجر: زاد البخاري في مناقب عبد الله بن سلام ذكر
الربا، وههنا فسر الربا المراد في قوله رضي الله عنه بقوله: وإن من اقترض قرضًا
فتقاضاه إذا حل فأهدى إليه المديون هدية كانت من جملة الربا [31] فثبت من هذه
الأقوال أنه لم يقل أحد من العلماء: إن الفضل والزيادة إذا كانت غير مشروطة في
القرض عند العقد أنه ربا سواء كان في صورة الهدية أم في صورة العارية أم في
غيرهما، فهذا الأثر وما ورد نحوه غير معمول به عند الأمة.
وقد ذهب الجمهور إلى جواز ما كان بدون شرط في العقد لما دلت عليه
الأحاديث الصحيحة والحسان المحتج بها بإعطاء الزيادة في ديون البيع والقرض
أخرج الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لبلال (أعطه أوقية من ذهب وزده) فأعطاني أوقية من ذهب وزادني قيراطًا [32] .
ولفظ البخاري: (فوزن لي بلال فأرجح في الميزان) قال النووي في شرحه:
فيه استحباب الزيادة في أداء الدَّين وإرجاح الوزن، وقد روى هذا الحديث فوق
عشرة عن جابر، وأيضًا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء الزيادة في
قرض الحيوان كما في حديث أبي رافع، قال: استسلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم بكرًا فجاءته إبل من الصدقة. قال أبو رافع: فأمر لي أن أقضي الرجل بكره،
فقلت: لا أجد إلا جملاً خياريًّا رباعيًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطه
إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء) أخرجه مالك ومسلم والأربعة، وكما في حديث
أبي هريرة أخرجه الشيخان والترمذي مختصرًا ومطولاً: أن رجلاً تقاضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فَهَمّ به أصحابه فقال: (دعوه فإن لصاحب الحق
مقالاً، واشتروا له بعيرًا فأعطوه إياه، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه، قال:
اشتروه فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء) .
وأيضًا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى الزائد في قرض
الأموال الربوية - أعني المكيل والموزون - كما روى أبو هريرة قال: أتى النبي
صلى الله عليه وسلم رجل يتقاضاه قد استسلف منه شطر وسق فأعطاه وسقًا فقال
(نصف وسق لك ونصف وسق من عندي) ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه فأعطاه
وسقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وسق لك ووسق من عندي) أخرجه
المنذري في الترغيب وقال: رواه البزار وإسناده حسن.
ومن حديث ابن عباس قال: استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل
من الأنصار أربعين صاعًا فاحتاج الأنصاري فأتاه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ما جاءنا من شيء، فقال الرجل وأراد أن يتكلم، فقال صلى الله عليه
وسلم: لا تقل إلا خيرًا فأنا خير من تسلف) فأعطاه أربعين فضلاً وأربعين أسلفه
فأعطاه ثمانين، قال البزار: لم أسمعه إلا من أحمد وهو ثقة، وأخرجه المنذري
وقال: إسناده جيد، وقال الهيتمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار وهو ثقة.
ومن حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي برجال الصحيح في السنن الكبرى قال:
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلف فاستسلف له رسول الله صلى الله
عليه وسلم شطر وسق فأعطاه إياه، فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقًا وقال
(نصف لك قضاء ونصف لك نائل من عندي) وهذه أحاديث صحيحة يحتج بها فلا
يعارضها مثل حديث السوار المتروك والآثار الغير المرفوعة، وأما كونه ربًا عند
الشرط فهو لا يصح أيضًا لما روي من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطل
أبا رافع، فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك أنا أحله لك، فقال أبو بكر: إن
أحللته فإن الله لم يحله لي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الزائد
والمزاد في النار) أو هكذا لأن فيه دلالة على أن الزيادة بغير شرط أيضًا حرام،
أعني أن الزيادة التي هي الربا شرعًا حرام شرطت أو لم تشترط، فلو كانت الزيادة
في القرض ربا لكانت حرامًا بدون شرط أيضًا مع أن الزيادة في القرض بدون
الشرط مباح باتفاق الأمة، فثبت أنها ليست بربا.
قال ابن نجيم في البحر: إذا لم تكن [33] المنفعة مشروطة فلا بأس به، وفي
البزازية من كتاب الصرف ما يقتضي ترجيح الثاني، قال ولا بأس بقبول هدية
الغريم وإجابة دعوته بلا شرط، وكذا إذا قضى أجود مما قبض يحل بلا شرط اهـ
كتاب الحوالة.
وأما ما قيل إنه لا حجة في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في
الديوان والقرض لأنه مخصوص به، وهو إمام وللإمام حق العطاء، فيكون ما
يعطي الإمام حلالاً، ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليُقتدى به في كل فعل
حتى يقوم دليل على اختصاصه به، وليس هنا دليل على اختصاصه به صلى الله
عليه وسلم.
وكذا لا يصح تفسير إجمال الآية بحديث أنس والآثار المروية عن أُبي بن
كعب وابن عباس، أما أولاً فلأنه ليس فيها ذكر الربا فلا يتعين أن النهي والأمر
بالاجتناب لكونه ربا، وأما ثانيًا فلما مرَّ عن شرح كشف الأسرار بأنه لابد أن يكون
مفسر إجمال القرآن قطعي الدلالة وقطعي الثبوت، وحديث أنس وآثار أبي بن
كعب وابن عباس لسن بهذه المثابة لا باعتبار الدلالة ولا باعتبار الثبوت.
أما حديث أنس فأخرجه ابن ماجه بلفظ (إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه
أو حمله على الدابة فلا يركبه ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)
والراوي فيه عن أنس مجهول، وكذا فيه عتبة بن حميد الضبي البصري قال أبو
طالب عن أحمد هو ضعيف ليس بالقوي، وفيه إسماعيل بن عياش الحمصي وهو
مختلَف فيه وضعيف بالإجماع إذا روى عن غير أهل بلده، وأخرجه ابن تيمية في
المنتقى بلفظ (إذا أقرض الرجل الرجل فلا يأخذ هدية) وقال: أخرجه البخاري في
تاريخه فما ظفرت على سنده حتى أحكم على جودته وصحته ليثبت منه الحرمة،
وليس ببعيد أن يكون مختصرًا من حديث ابن ماجه فيعود الجرح والتعديل، مع هذا
هو خلاف ما عليه الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
أما أثر أبي بن كعب أنه قال لزر بن حبيش: إنك بأرض الربا فيها كثير فاش،
فإذا أقرضت رجلاً فأهدى إليك هدية فخذ قرضك واردد هديته - ففيه كلثوم بن
الأقمر: مجهول، وكذلك ما روى ابن سيرين أن أبي بن كعب أهدى إلى عمر بن
الخطاب من تمر أرضه فردّها، فقال أبي: لم رددت عليّ هديتي وقد علمت أني
من أطيب أهل المدينة تمرة؟ فخذ عني ما ترد علي هديتي، وكان عمر أسلفه عشرة
آلاف درهم. قال البيهقي: هذا منقطع، أي ليس بمتصل إلى أبي أيضًا.
وكذلك ما روى أبو صالح عن ابن عباس قال في رجل كان له على رجل
عشرون درهمًا، فجعل يهدي إليه فجعل كلما يهدي إليه هدية باعها حتى إذا بلغ
ثمنها ثلاثة عشر درهمًا، فقال ابن عباس لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم - لأن أبا
صالح لم يسمع من ابن عباس فالرواية منقطعة، وكذلك ما روى سالم بن أبي الجعد:
كان لنا جار سمَّاك عليه لرجل خمسون درهمًا فكان يهدي إليه السمك، فأتى ابن
عباس فقال: قاصه بما أهدى إليك. وأثر [34] فضالة بن عبيد مع ضعفه أيضًا ليس
فيه لفظ الربا حتى يفسر به الإجمال، بل لفظه: كل قرض جر منفعة فهو وجه من
وجوه الربا - فظاهره يدل على أنه ليس بربا، بل له شبه من الربا، وهذه الآثار
والأحاديث كلها أخرجها البيهقي في السنن.
(للفتوى بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
قال فخر الإسلام البزدوي في كشف الأسرار: أما المجمل فما لا يدرك لغة لمعنى زائد ثبت شرعًا. قال شارح البخاري كالربا؛ فإنه اسم للزيادة وهي بنفسها ليست بمرادة اهـ (ص43-ج1) وقال في موضع آخر: ثم المجمل وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباهًا لا يُدرك بنفس العبارة، بل بالرجوع إلى الاستفسار، ثم الطلب، ثم التأمل، وذلك مثل قوله تعالى:[وَحَرَّمَ الرِّبَا](البقرة: 275) فإنه لا يُدرك بمعاني اللغة بحال، وكذلك الصلاة والزكاة، وقال شارحه: فإن مطلق الزيادة التي يدل عليها لفظ الربا، وكذلك الدعاء والنماء اللذان يدل عليهما لفظ الصلاة والزكاة لم يبقيا بمرادين بيقين، ونقلت هذه الألفاظ إلى معان أخر شرعية، إما مع رعاية المعنى اللغوي أو بدونه فلا يوقف عليه إلا بالتوقيف كما في الوضع الأول (ص155-ج-1) وقال أيضًا: لأن المجمل ثلاثة أنواع، نوع لا يُفهم معناه لغة كالهلوع قبل التفسير، ونوع معناه مفهوم لغة؛ ولكنه ليس بمراد كالربا والصلاة والزكاة (شرح كشف ص 54 ج - 1 وغاية التحقيق شرح الحسامي) ثم قال شارح الحسامي: كآية الربا فإنها مجملة إذ الربا عبارة عن الفضل لغة، والفضل نفسه ليس بمراد بيقين إذ البيع لم يُشرَّع إلا للاسترباح وتحصيل الفضل فإن كل واحد من المتباعين ما لم ير فضلاً في البدل المطلوب له لا يبذل ملكه بمقابلته (غاية التحقيق) قال العيني في البناية: وليس المراد مطلق الفضل بالإجماع وإن فتح الأسواق في سائر بلاد المسلمين للاستفضال والاسترباح اهـ (شرح هداية كتاب البيوع) وقال الجصاص الرازي بعد تصريح: إجمال الربا لا يصح الاحتجاج بعمومه؛ وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدليل آخر أنه ربا حتى يحرمه بالآية اهـ أحكام القرآن (ص 464 ج-1) .
(2)
وإليه مال الإمام الشافعي رضي الله عنه، والشافعية وأكثر المالكية، قال الجصاص الرازي: وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملاً أنه يوجب إجمال لفظ البيع (أحكام ص 469 - ج1) قال الإمام الرازي في تفسيره الكبير [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا](البقرة: 275) من المجملات التي لا يجوز التمسك بها. ثم قال: وهذا هو المختار عندي، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم (ص535-ج2) قال العلامة التفتازاني في التلويح: والمجمل وهو ما خفي المراد منه لنفس اللفظ خفاء لا يُدرك إلا ببيان من المجمل سوا كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام كالمشترك أو لغرابة اللفظ كالهلوع أو لانتقاله من معناه الظاهري إلى ما هو غير معلوم كالصلاة والزكاة والربا. قال البغوي في معالم التنزيل: واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى:
[وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ](الروم: 39) أي ليكثر في أموال الناس، فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة؛ إنما المحرَّم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا الحديث. وأورد في تفسير إجماله حديث عبادة بن الصامت وقال في آخره: وهذا في ربا المبايعة - قال الشيخ عبد القادر الجرجاني في شرح الدرر: الذين يأكلون الفضل في المداينات، والربا في اللغة عبارة عن الزيادة والنماء، وفي الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفات معهودة، والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري (الذهب
…
) الخبر، تلقته الفقهاء بالقبول فدخل في حيز التواتر اهـ. وكذلك نقل السيوطي إجمال الربا قال ابن رشد الفقيه المالكي في المقدمات: قد اختلف في قوله تعالى: [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا](البقرة: 275)، [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] (البقرة: 43) [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ](آل عمران: 97)، [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ] (البقرة: 183) هل هي من الألفاظ العامة المجملة؟ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنها كلها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها (ص121-ج3) وفي موضع آخر: وقد اختلف في لفظ الربا الوارد في القرآن، هل هو من الألفاظ العامة يفهم المراد بها، وتحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصها أو من الألفاظ المجملة التي لا يفهم المراد بها من لفظها أو تفتقر في البيان إلى غيرها؟ على قولين، والذي يدل عليه قول عمر بن الخطاب:(كان من آخر ما أنزل الله تعالى على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا) أنها من الألفاظ المجملة المفتقرة إلى البيان والتفسير (ص41-ج3) .
(3)
أحكام القرآن ص 494 - ج1.
(4)
توضيح قسم ثالث ص 125.
(5)
قلمي ص 79.
(6)
ج 2.
(7)
ص 43 - ج1.
(8)
وفيه دلالة على أن الفضل مطلقًا ربا ولو من غير شرط.
(9)
فيه دلالة على أن الزيادة في القرض ليست بربا؛ لأنه لو كانت ربا لحُرِّمت بدون شرط أيضًا، ولم يقل به الفقهاء، على أنه ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد وقت الأداء في القرض، وأثنى على هذا كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقال ابن عابدين في الدر المختار: فإن الزيادة بلا شرط ربا أيضًا إلا أن يهبها على ما سيأتي (باب الربا كتاب البيوع) ص 274 - ج4.
(10)
(ص110 ج3) .
(11)
كذا في رد المحتار، باب صفة الصلاة، مبحث القعود الأخير (ص470) .
(12)
المراد به الربا في النسيئة بقرينة أنه سمَّى ربا النسيئة بربا اليد فلا محالة أن يسمى هذا بربا النساء، وهو البيع نسيئة إلى أجل، ثم الزيادة عند حلول الأجل وعدم قضاء الثمن بمقابلة الأجل.
(13)
(كتاب البيوع ص22 - ج4) .
(14)
(ص 348 - ج7) .
(15)
قال ابن عابدين في شرح الدر تحت قوله (مشروط) تركه أولى فإنه مشعر بأن تحقق الربا يتوقف عليه وليس كذلك لأن الزيادة بلا شرط ربا أيضًا اهـ ملخصًا - باب الربا.
(16)
وسيأتي أن القرض ليس بمعاوضة مالية.
(17)
(ص 273ج-4) كما سيأتي وظاهر أن القرض من التبرعات عند الفقهاء.
(18)
بدائع (193ج - 5) لأن الربا هو الفضل، والفضل والمماثلة إضافتان تقتضيان الطرفين فلا تحقق لهما بدونهما كسائر النسب والإضافات، والطرفان لا يوجدان بدون المعاوضة، فلا يوجد الربا بدون المعاوضة أي بدون البيع، وظاهر أن الطرفين لا يوجدان في القرض لأن حكم رد المثل في القرض حكم رد العين كما صرَّح به الفقهاء والأصوليون. قال العلامة الشامي: ثم للمثل المردود حكم العين كأنه رد العين اهـ (ص263ج - 4) وإذا لم يتحقق الطرفان في القرض لا يتحقق الفضل فلا يوجد فيه الربا لأن الربا هو الفضل.
(19)
وكذا أنكر ابن رشد الفقيه المالكي كونه ربا منصوصًا حيث قال في المقدمات: إن رجلاً أتى
عبد الله بن عمر، فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلاً واشترطت أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله بن عمر ذلك الحديث بطوله - وقال رضي الله عنه: من أسلف سلفًا فلا يشترط أفضل منه، وإن كان قبضة من علف فهو ربا اهـ - فهذا الفقيه ينكر كونه ربًا منصوصًا حيث يقول: وتفسير ذلك (أي قول ابن عمر فإنه ربًا) أنه مقيس على الربا المحرم بالقرآن (ص 149ج-3) وكذا العلامة البغوي ينكر كونه ربا نصيًّا، حيث ذكر تحت آية الربا حديث عبادة، ثم قال: وهذا في ربا المبايعة، ومن أقرض شيئًا بشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة إلخ مراده أن الآية في ربا البيع، والنفع المستحصل بالقرض خارج عن حكم الآية فهو داخل تحت (كل قرض جر منفعة) وكذا العلامة الصوفي الشهير بالخازن ينكر كونه ربا منصوصًا حيث يقول:(المسألة الرابعة) في القرض وهو من أقرض شيئًا بشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا اهـ. فإنه لم يدخل النفع المعين للقرض تحت ربا القرآن، بل أدخله في القرض الجارّ منفعة، يعني أثبت له حكمًا آخر بدليل آخر، ولو كان عند هؤلاء الأعلام أن نفع القرض هو الربا المنصوص لم يحتاجوا إلى التأويل وأدلة أخرى، وسيأتي الكلام عليه مفصلاً إن شاء الله تعالى.
(20)
(بدائع الصنائع ص 395 ج - 7) .
(21)
واتفقوا على كراهته، وهو دليل على عدم كونه ربا وإلا كان حرامًا.
(22)
(ص 204) .
(23)
غرضه منه أن هذا الحديث ضعيف؛ لأنه لو كان صحيحًا في طريق، أو كان شيء من الأحاديث في الباب صحيحًا لاطلع عليه، وأورده لأنه كان في ديار الحديث وكتبه المنوعة.
(24)
قال السيد الجوزجاني في رسالته: الموقوف: وهومطلقًا ما روي عن الصحابي من قول أو فعل متصلاً كان أو منقطعًا، وهو ليس بحجة على الأصح اهـ.
(25)
أخرج البخاري هذه الرواية عن سليمان بن حرب وعن شعبة عن سعيد بن بردة عن أبيه، وأخرجه أيضًا عن أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد عن أبي بريدة، وليس فيه ذكر القرض ولا ذكر الربا، ولكن قال ابن حجر: ووقعت هذه الزيادة في رواية أبي أسامة أيضًا كما أخرجه الإسماعيلي من وجه عن أبي كريب شيخ البخاري لكن باختصار عن الذي تقدم (فتح ص 262-ج13) وأخرج البيهقي عن أحمد بن عبد الحميد عن أبي أسامة عن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه وزاد فيه عن رواية البخاري ولفظه فقال: إنك في أرض الربا فيها فاش، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يقرض القرض إلى أجل فإذا بلغ أتاه به وبسلَّة فيها هدية فاتقِ تلك السلَّة وما فيها. وأخرجه أيضًا عن شعبة باختلاف يسير ولفظه: على رجل دين فأهدى إليك حبلة من علف أو شعير أو حبلة من تبن فلا تقبله؛ فإن ذلك من الربا. قال ابن حجر: في رواية أبي أسامة ذكر الربا لكن فيه اختصار عن رواية شعبة وما روى البيهقي عن أبي أسامة فيه زيادة عن رواية شعبة فافهم.
(26)
قال ابن عابدين: لأن قول الصحابي إذا كان لا يُدرك بالرأي - أي بالاجتهاد - له حكم المرفوع (رسم المفتي ص41) وسيجيء أن في هذا الحديث مجال القياس أكثر.
(27)
(ص 149ج 3) .
(28)
هذا دليل على أن الزيادة في القرض ليست بربا، ولو كانت ربا لم يفترق حكمها حين الاشتراط وعدمه كما مر عن العلامة ابن عابدين، وأيضًا هذا مقتضى إطلاق الأحاديث في هذا الباب حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الفضل ربا) مطلقًا بدون تقييد شرط وعدمه.
(29)
واعلم أن العلامة العيني بعد شرحه للبخاري بكثير من الزمان شرح الهداية حين بلغ من عمره تسعين سنة، واعترف فيه بأنه لم يثبت في هذا الباب النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعتبر لأنه آخر أقواله ويؤيده الدليل.
(30)
(عمدة القاري ص 689 ج - 5) .
(31)
هذا التفسير خلاف ما عليه الجمهور فلابد له من بيان.
(32)
مسلم ص 29 - ج2.
(33)
فيه أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في القرض، وليس فيه أنه كان مع شرط أو بدون شرط فمن ادعى الحرمة بالشرط لا بد عليه من بيان؛ لأن الأحاديث في هذا الباب مطلقة؛ ولا يجوز تقييدها بدون مخصص.
(34)
أخرجه البيهقي بسند إبراهيم بن سعد عن إدريس بن يحيى عن عبد الله بن عياش، وعبد الله بن عياش منكرالحديث، وإبراهيم لم يعرف حاله، وكذا حال إدريس، ويمكن أن يكون إدريس بن يحيى الخولاني، ذكره ابن حبان في ثقاته وقال له: مستقيم الحديث إن كان دونه ثقة وفوقه ثقات.
الكاتب: عجاج نويهض
هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم
؟
محاضرة الأستاذ عجاج نويهض في مدرسة النجاح الوطنية
(تابع ما قبله)
لأجل الوقوف إجمالاً على شدة الحملة الحالية التي يقوم بها المبشرون على
هذه الأمة أذكر لكم هذه الكتب، وأرجوكم أن تنظروا إليها، وهي هذه الرزمة
الضخمة التي تباع في مكتبة واحدة من المكتبات، ونظرة عامة على اسم كل كتاب
وروحه والغرض منه وعدد الطبعات التي طبعها كافية لكي تجعلنا نتصور وخامة
العاقبة.
وهذه الكتب هي:
1-
العالم الإسلامي اليوم
The Moslim World Of To-day
وهو كتاب ضخم جمع ثلاثًا وعشرين مقالة مستفيضة لأشهر الكُتاب
التبشيريين، وهذه المقالات هي بصدد الانقلاب في العالم الإسلامي، وأن الفرصة
سانحة لإخضاع المسلمين وسط هذا الانقلاب إلى السلطة التبشيرية، وقد جمع هذا
الكتاب ووضع له مقدمة وخاتمة الدكتور موط رئيس (المجلس التبشيري الدولي)
ورئيس المؤتمر التبشيري العالمي الديني الذي عُقد على جبل الزيتون منذ زهاء
سنة ونيف، وأمره لم يزل معروفًا، وفي نهاية الكتاب المقررات التي كانت سرية
أولاً، وهي مقررات مؤتمر سنة 1925 في القدس التي نُشرت وأُذيعت واطلع
عليها الناس، وكان لها في العالم الإسلامي ذلك الصدى البالغ، عدد صفحات هذا
الكتاب (420) صفحة، وهذه النسخة التي بيدي من الطبعة الأولى سنة 1925.
2-
(العالم الإسلامي في الثورة)
The Moslim World In Revolution
مؤلف هذا الكتاب هو معاون القس الأكبر للحملة المصرية وقت الحرب، وقد
كان مقيمًا بمصر قبل الحرب، وهو يقرأ ويكتب اللغة العربية، ولما كان في الحملة
المصرية كان يراقب تأثير الحرب في المسلمين وكيف كانوا يخضعون للسلطة
الأجنبية العسكرية المتسلطة عليهم.
ولب لباب كتابه في الباب السابع الموسوم بـ (الفرصة الجديدة للكنيسة)
وقد طبع هذا الكتاب لتتولى توزيعه (ثماني جمعيات) تبشيرية هي أكبر الجمعيات
من نوعها في العالم، وطُبع هذا الكتاب سبع طبعات كما يلي:
الطبعة الأولى في مارس 1925
الطبعة الثانية في يونيو 1925
الطبعة الثالثة في يوليو 1925
الطبعة الرابعة في نوفمبر 1925 -
الطبعة الخامسة في فبراير 1926 - ? أربع طبعات في سنة
الطبعة السادسة في يوليو 1926 -
…
واحدة بل في ثمانية أشهر
الطبعة السابعة في نوفمبر 1926 -
هذا عدا الطبعات التي تلت نوفمبر 1926 إلى هذا التاريخ وعدد صفحاته
160 صفحة.
3-
انتشار الإسلام
The Expansion Of Islam
مؤلف هذا الكتاب هو مؤلف الكتاب السابق (العالم الإسلامي في الثورة)
والنسخة التي بيدي هي من أول طبعة لسنة 1928.
والغرض من هذا الكتاب لا يختلف في الجوهر عن سابقه، غير أنه يطرق
الموضوع من نواحٍ أخرى، ويتوسع في درس عوارض الإسلام الحالية العصرية،
ويسوق نتيجتها إلى وجوب الاعتقاد أن الإسلام منحل متلاشٍ، وينطوي هذا الكتاب
على ثلاثة عشر فصلاً، أخبث هذه الفصول (الفصل الثاني: الرجل محمد) وعدد
صفحاته 304 وفيه مصور جغرافي للعالم الإسلامي.
وفي هذا الكتاب مقدمة كتبها المستشرق مرغليوث، صاحب المؤلف المعنون
بـ (محمد) الذي ذكر فيه من النيل وسوء القصد ما يعلمه الذين يطالعون لهذا
المستشرق كتاباته عن الإسلام، وأما الذين يظنون أن مرغليوث من (أهل الخير)
من المستشرقين بدليل ما طبعه من بعض كتب الأدب والتاريخ - فظنهم في غير
محله، وفي هذا الكتاب الذي نحن في صدده الآن (انتشار الإسلام) قال مرغليوث
مفتتحًا كلام مقدمته:
(لما أعلن مؤسس الإسلام أن مهمته ترمي إلى جعل نظامه (ظاهرًا على
الدين كله) فهو بلا شك قد عني أن يكون الظهورغلبة ونصرًا سياسيًّا على الأنظمة
السياسية الأخرى التي كانت في الوجود في ذلك العصر) ومرغليوث هو كما يعرفه
الناس صاحب النظرية أن الشعر الجاهلي موضوع، ويعرف الناس أيضًا ما كان
لهذا الرأي في مصر من أثر.
4-
الإسلام الفتي في طريق السفر
Young Islam On Track
هذا الكتاب يبحث في اصطدام الإسلام وحضارته وجهازه الاجتماعي،
بالحضارة المسيحية، ويبين كيف تتخلل عناصر الحضارة المسيحية الحضارة
الإسلامية وتلاشيها، وهو يتضمن سبعة فصول مشبعة أضرها الفصل المرسوم بـ
(ما هي الغاية؟) وفي هذا الفصل يعلق المؤلف (باسيل مثيو) أهمية كبرى على
انقلاب الأزهر إلى جامعة إسلامية منظمة راقية، ويخشى من وراء ذلك تجديد قوى
الإسلام، كما أنه قد انتقد حالة الأزهر اليوم ووصف طرق التدريس فيه ونال منها
كثيرًا، وعدد صفحات الكتاب 208 وفيه مصور جغرافي للعالم الإسلامي، أول
طبعة منه كانت 1926 وطبع بعد ذلك طبعتين في سنة 1927 و1928، والنسخة
التي بيدي هي من الطبعة الأخيرة لسنة 1928.
5-
سيرة الإسلام
The Story Of Islam
مؤلفه لنت ثيودور السكرتير العام (لجميعة نشر التبشير في السواد من الناس)
وكان سابقًا السكرتير التعليمي (للجمعية الكنسية التبشيرية) S. M. C
التي لها فرع في القدس، وغير القدس في فلسطين.
وهذا الكتاب طُبع للمرة الثالثة سنة 1916 وهذه النسخة التي بيدي هي من
طبعة 1916، والغريب في أمر هذا المؤلف أنه مقدم إلى جهة لم تخطر على بال
أحد من أهل هذه البلاد، وهذه عبارة التقديم بالحرف:
(مقدَّم إلى طلاب المدارس العامة في بلاد الإنكليز، الذين عليهم أن يقوموا
إلى الآن بالدور المتعين عليهم القيام به في تبديل مستقبل سيرة الإسلام) .
وفي هذا الكتاب 216 صفحة موزعة على 12 فصلاً كلها سم ناقع، ومن
بعض عناوين الفصول تعلم روح الكتاب، فهناك الفصل الأول وعنوانه (النشء
وكيفية تعليمه) وغاية هذا الفصل مربوطة بما جاء في عبارة التقديم المذكورة،
وهناك الفصل الثالث عنوانه (نبي بلاد العرب) والفصل الخامس عنوانه (السيف
المسلول) والفصل الحادي عشر عنوانه (الإسلام وكنيسة المسيح) وقد كُتب هذا
المؤلَّف على طريقة خاصة قريبة من الطريقة المتبعة في تأليف كتب التدريس
للصفوف الابتدائية في المدارس، وفي نهاية كل فصل أسئلة وأجوبة لتمكين الطالب
أو القارئ من (الحقائق) الموردة في ذلك الفصل.
6-
توبيخ الإسلام
The Rebukeof Islam
قال صاحبه إنه يعني بتوبيخ الإسلام ما يلي: (أن الإسلام هو أبدًا مذكِّر
للمسيحية بأنها عاجزة عن تمثيل الرب، إذ لو لم يكن هذا لكان يجب أن يكون
محمد مسيحيًّا، أما الآن فيجب رفع هذا العجز بالمبادرة إلى العمل؛ لأن العالم كله
قد أصبح للمسيح) .
وصاحب هذا الكتاب ينتمي إلى (الجمعية التبشرية الكنسية) التي تقدم ذكرها
ولها فروع في هذه البلاد، ويقول المؤلف إن هذا الكتاب هو الطبعة الخامسة منقحة
والنسخة التي بيدي طبعة سنة 1920.
وفي آخر الكتاب بيان للبلاد التي تنتشر فيها الجمعية المذكورة وهي كما يذكر
البيان على الإجمال:
1-
الشرق الأدنى.
2-
بلاد فارس
3-
بلاد الهند وبلوخستان
4-
البلدان الأفريقية حيث يسكن المسلمون والوثنيون معًا كبلاد سيراليون،
ونيجيريا، وأوغندة.
وعندما جاء ذكر نصيب فلسطين من (خير) هذه الجمعية قال البيان:
(فلسطين! إنه وإن كان في فلسطين عدد من الجمعيات العاملة فإن الجمعية التبشيرية
الكنسية S. M. C واضعة بالأكثر نصب عينها بذل الجهود للوصول إلى الأهالي
المسلمين، وقد كان للجمعية قبل الحرب سبعة مراكز كبيرة، أما الآن فقد استؤنف
العمل في غزة، بناء على طلب السلطة العسكرية، وفي القدس، والناصرة،
والسلط، ويافا ونابلس، وعدد الموظفين المسلمين يبلغ 42 موظفًا، منهم الأطباء
والممرضات) .
وعندما جاء ذكر مصر قال البيان:
(للجمعية خمسة مراكز في مصر، والأعمال الطبية سائرة في مصر القديمة
ومنوف، وأم درمان، ودخل المستشفيات في مصر القديمة سنة 1918 (800)
مريض ما عدا عددًا كبيرًا من النساء، وفي السنة التي قبل شملت أعمال الجمعية
أكثر من 500 بلدة وقرية في مصر السفلى، و450 بلدة وقرية في مصر العليا،
والكثرة المطلقة من هؤلاء المرضى كانوا يبقون في المستشفى يعالجون لا أقل من
أسبوعين، وفي القاهرة مدرسة للصبيان فيها 180 طالبًا ومدرسة للبنات يزداد
الإقبال عليها وكثرة طالباتها من المسلمات، ويزداد افتتاح مراكز التبشير على
التوالي، وفي مصر القديمة صارت السيدات المبشرات من الاستطاعة بحيث يتمكن
من القيام بالدروس المسيحية توًّا بلا تهيب حتى بحضور شيوخ المسلمين) .
ويقول البيان إن نتيجة التبشير في فارس كانت كما يلي:
من سنة 1893 - 1902 تنصر 65 بالغًا، ومن سنة 1903-1913 تنصر
145 بالغًا، والفرص تزداد سنوحًا وصار العمل أجدى نفعًا وأقرب ثمرًا، عدد
صفحات هذا الكتاب 248 صفحة.
7-
العقلية الإسلامية
The Moslim Mentality
مؤلفه ليفونيان مدير المدرسة اللاهوتية في أثينا سابقًا، وكان قبل ذلك
صاحب عمل في الآستانة، وطُبع هذا الكتاب لأول مرة سنة 1928 وهو ضخم يقع
في 248 صفحة، وقال مؤلفه: إن الغرض منه البحث في كيفية تقريب المسيحية
إلى ذهنية المسلمين، والمؤلف يعرف التركية، وقد أسرف كثيرًا في الطعن والقذف
واعتدى على التاريخ اعتداء فظيعًا بإيراده مسائل وأمورًا ليس لها ظل من الصحة.
ويقول المؤلف قبل مقدمة الكتاب، في الصفحة الأولى هذه الملحوظة، وهي:
لفت نظر
(حين كان هذا الكتاب يُطبع، حصلت أحداث هائلة في دستور الجمهورية
التركية، وأهم هذه الأحداث إلغاء المادة التي تقول إن الإسلام دين الجمهورية
التركية، وبالتالي تم فصل الدين عن الدولة بعدما كانا نسيجًا واحدًا، لحمة وسدى
وكان هذا الالتحام من فجر التاريخ الإسلامي أول مظهر تجلى به شكل الإسلام أنه
عقيدة وعمل) .
_________
الكاتب: عن جمعية حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة
بيان إلى العالم الإسلامي
من جمعية حراسة المسجد الأقصى
والأماكن الإسلامية المقدسة بالقدس
اليهود يثيرون الفتنة الدموية في فلسطين طمعًا في البراق الشريف والمسجد
الأقصى المبارك.
إن (جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة) في القدس
الشريف قيامًا بواجبها إزاء الفتنة الحالية التي سبَّبها اليهود بتوالي اعتداءاتهم على
البراق الشريف - فَجَرُّوا البلاد إلى البلاء الشامل والخسارة العظيمة في النفوس
والثمرات - تثابر على خطتها من الأخذ بكل الوسائل المشروعة الجائزة للدفاع عن
البراق الشريف والمسجد الأقصى المبارك وسائر الأماكن الإسلامية المقدسة لصد
كل طمع عنها يحاوله الطامعون، والجمعية تقوم بهذا من حيث تظل على صلة
بالعالم الإسلامي وملوكه وأمرائه وأممه وصحفه وزعمائه وأهل الغيرة والحمية من
المسلمين بمواصلة إرسال الأنباء عن الحالة، وعما يجدُّ من الأمور المهمة
والحوادث الخطيرة؛ ليقف العالم الإسلامي على ذلك ويعمل وسعه لصيانة مقدسات
المسلمين ودرء الأخطار عنها.
وهذا موجز ما حصل إلى اليوم في الأسابيع الأخيرة:
1-
ضاعف اليهود في فلسطين جهودهم في الأسابيع الستة الأخيرة لامتلاك
البراق، ثم ليتدرجوا منه إلى امتلاك المسجد الأقصى بحجة أن أولى القبلتين وثالث
الحرمين الشريفين هو هيكل سليمان، وبحجة أن الوطن القومي اليهودي يظل
ناقصًا حتى يملك اليهود مكان الهيكل، وبهذا يصرح كبار زعمائهم.
2-
عقد يهود العالم (المؤتمر الصهيوني العالمي السادس عشر) في زوريخ
في أواخر شهر تموز (يوليو) وأوائل آب (أغسطس) من هذه السنة، وقد كان
من محور المناقشات الحادة والمقررات الإجماعية في هذا المؤتمر استئناف العمل
وتحريض يهود العالم على بذل كل ما يستطعيون من قوة لاستعادة الهيكل ولو كلفهم
ذلك كل عظيم.
3-
أعلن اليهود بلسان مؤتمر زوريخ وبلسان زعمائهم السياسيين والدينيين
وصحفهم وجمعياتهم أنهم لا يرضون بما حدده لهم (الكتاب الأبيض) الذي أصدرته
منذ نحو عشرة أشهر الحكومة البريطانية من أن يظل القديم على قدمه بحيث لا
يجاوز اليهود زيارة الحائط الزيارة المعتادة، والبراق واقع في ملك الوقف الإسلامي
البحت، ثم أعلن اليهود سخطهم على (الكتاب الأبيض) وأخذوا يجاهدون بكل
قواهم لحمل الحكومة البريطانية للعدول عن العمل بمقتضاه، وهي قد وضعته بعد
درسها القضية درسًا مدققًا استغرق عدة أشهر فضلاً عما كان قد سبق لها ملاحظته
ومشاهدته من عدوان اليهود على البراق أثناء السنوات الأخيرة.
4-
أثناء انعقاد مؤتمر زوريخ وبعده ظهر اليهود في فلسطين بمظهر المتعنت
الطامع المحاول الباطل، مما دل دلالة قاطعة وأيدته الوقائع أن هناك خطة مدبرة
وصلة وثيقة محكمة بين مقررات مؤتمر زوريخ والحوادث التي اقتحمها اليهود على
أثره.
5-
في 10 ربيع الأول سنة 1348 - 15 آب (أغسطس) 1929 سمحت
الحكومة لليهود بأن يقوموا بمظاهرة، فقاموا بها وكانت مظاهرة ظاهرها زيارة
البراق ومرماها محاولة إظهار القوة لامتلاكه فمشوا من الحي اليهودي الذي يبعد من
الحرم عدة كيلو مترات إلى البراق الشريف فاحتشدت المئات منهم عنده، ورفعوا
العلم الصهيوني، وخطب فيهم خطباؤهم خطبًا هائجة عنيفة شتموا فيها المسلمين
كثيرًا، وحرَّضوا جماهيرهم على امتلاك البراق تدريجيًّا لاستعادة الهيكل.
6-
وصدرت الصحف اليهودية ومناشير الجمعيات الصهيونية وكلها تحريض
ونداء نحو هذه الغاية، وأصدرت حكومة فلسطين بعدئذ بلاغًا رسميًّا بينت فيه أن
القصد من مظاهرة اليهود المذكورة لم يكن كله لزيارة (المبكى) أي البراق زيارة
دينية مجردة.
7-
في 11 ربيع الأول - 16 أغسطس قام المسلمون بمظاهرة كبيرة مقابلة
لمظاهرة اليهود في اليوم السابق، فمشوا من المسجد الأقصى إلى البراق الشريف
إعلانا لتصميمهم أنهم متمسكون بملكهم، مدافعون عن حقهم، وطيرت البرقيات إلى
الحكومة البريطانية، وقدَّمت الاحتجاجات إلى حكومة فلسطين شجبًا لأعمال اليهود
ومحاولاتهم المتكررة التي لا تنتهي إلا بسوء العاقبة إذا سُمح لهم بالمثابرة عليها.
8-
في 12 ربيع الأول - 17 أغسطس يوم مولد الرسول صلى الله عليه
وسلم اعتدى اليهود على العرب المسلمين بالقرب من الحي اليهودي، فجرحوا 13
عربيًّا ودافع العرب عن أنفسهم، ثم انقلب اليهود يغدرون بالمارة من العرب في
حيهم يترصدونهم للإيقاع بهم ليل نهار.
9-
في 16 ربيع الأول - 21 أغسطس كان اليهود ذاهبين بموكب كبير لدفن
أحد موتاهم الذي مات في مستشفى الحكومة متأثرًا من جراحه التي أصيب بها في
حادثة اعتداء اليهود السابقة، فاجتمعوا مئات عديدة وخطبوا خطبًا مهيجة وشتموا
المسلمين، ولما وصلوا بالميت إلى قرب دائرة البريد خارج المدينة القديمة عدلوا
عن السير في الطريق العام المعتاد سلوكهم فيها إلى مقبرتهم، وحاولوا أن يحدثوا
حدثًا عظيمًا، فأرادوا أن يدخلوا بالميت الأحياء الإسلامية كلها ويأتوا إلى البراق
قبل أن يدفنوه تحويلاً لجنازة الدفن إلى مظاهرة لم يسبق لها مثيل نوعًا وشكلاً،
فصدَّهم البوليس البريطاني بالقوة، وجرح منهم (23) شخصًا كما أفاد بلاغ
الحكومة الرسمي.
وكان اليهود بعملهم هذا يرمون إلى الفتنة صراحة، إذ من تقاليدهم التي
يراعونها بحسب دينهم مراعاة شديدة أنهم لن يؤخروا دفن ميتهم إلى الصباح إذا كان
مات قبل نصف الليل، غير أنهم في هذه الحادثة أبطلوا العمل بتقاليدهم الدينية،
فأخَّروا دفن الميت إلى قبيل ظهر اليوم التالي، وكان موته عصر اليوم السابق طلبًا
لأسباب الشر والفتنة.
10-
فهال أهالي فلسطين المسلمين ما أخذوا يرون في اليهود من التحكك بنار
الفتنة، ومن الجرأة الغريبة في محاولتهم اقتحام البراق وامتلاكه والتصرف به
تصرف المالك فاحتجت (جمعية حراسة المسجد الأقصى) و (جمعية فرسان
البراق) و (جمعيات الشبان المسلمين) في فلسطين والهيئات الدينية على أعمال
اليهود ومصارحتهم العرب العدوان مصارحة منافية للحق والقانون، ومعرضة
الأمن العام في البلاد إلى خطر كبير.
11-
في 18 ربيع الأول - 23 أغسطس خرج المسلمون من صلاة الجمعة
من المسجد الأقصى حسب العادة، فلما وصلت زرافاتهم إلى باب الخليل ذاهبين في
طريقهم إلى منازلهم وأعمالهم وجدوا اليهود هناك على حالة مريبة جدًّا، وكانت
جماهير المسلمين التي خرجت إلى جهة باب العامود قد رأت مثل ذلك من اليهود
الساكنين في حي ميشوريم القريب، فسبق أحد اليهود في باب الخليل إلى الاعتداء
بإلقاء قنبلة، ثم أطلق اليهود الطلقات النارية على المسلمين فوقع المحذور،
وحصل اصطدام قرب باب العامود في الوقت عينه، فاتقدت الفتنة ولم يكن بأيدي
المسلمين إلا بعض العصي يحملها الواحد منهم على عادته، فأخذ الرصاص يدوي
ولم تكن قوة البوليس كافية فاستعانت بإطلاق النار على المسلمين فقتلت وجرحت
منهم، واحتشد اليهود في مبانيهم الكبيرة في حي ميشوريم، وأخذوا يطلقون النار
من النوافذ على العرب واستمرت الفتنة على أشدها عدة ساعات، وأقفلت المدينة
وتوالى إطلاق الرصاص في أماكن عديدة، وفي العصر حلَّقت الطيارات وجيء
بقوات البوليس من الخارج وفي الساعة السادسة أعلنت الحكومة منع التجوال من
السادسة ونصف مساء إلى السادسة صباحًا، وانقضى الليل والرصاص لم يهدأ حتى
الصباح.
ولم تزل الحالة في القدس إلى هذا التاريخ غير اعتيادية رغم تكاثر القوة
العسكرية وتحليق الطيارات يوميًّا، فحوادث القتل والاعتداء يوالي مزاولتها اليهود
في أطراف الأحياء التي يسكنونها، ولم تنقض ليلة إلى الآن منذ 18 ربيع الأول
دون أن يثابر على إطلاق النار الليل كله أو معظمه في ضواحي المدينة.
وبلغ عدد شهداء المسلمين في القدس العشرات، ولم يمكن إحصاء الإصابات
إحصاء مضبوطًا إلى الآن وبلغ عدد الجرحى في القدس مبلغًا كبيرًا.
امتداد الفتنة إلى أنحاء فلسطين
في الخليل:
وامتدت الفتنة إلى الخليل يوم السبت 29 ربيع الأول 25 أغسطس، فقُتل من
المسلمين ثمانية، وجُرح عدد لم نعرف صحته بعد.
في يافا:
وحصل اصطدام عنيف في يافا يوم الأحد 20 ربيع الأول - 25 أغسطس،
فقتل وجرح من المسلمين برصاص الجنود البريطانية عدد لم يُعرف بعد.
في حيفا:
قام اليهود وباشروا مهاجمة العرب بالسلاح، فدافع العرب عن أنفسهم
وعائلاتهم، وفي اليوم التالي وصلت البارجة البحرية (برهم) تحمل الجنود
والطيارات والأعتاد الحربية، فكان العرب بقرب الرصيف يشاهدونها، وبينما هم
على هذه الحال إذا بجنود الدراعة يطلقون عليهم النار بغتة بلا سبب ولا إنذار فقُتل
27 عربيًّا وجُرح 59.
في بيسان وضواحيها:
ووقع قتال في بيسان والأماكن المجاورة، ولم تُعرف تفاصيل الحوادث وعدد
الإصابات بعد.
في صفد:
وحصل اصطدام شديد في صفد بين المسلمين واليهود مساء 24 ربيع الأول -
29 أغسطس لم تُعرف تفاصيله بعد.
في غزة والرملة:
اشتد الاضطراب في غزة وقامت المظاهرات، فنقلت الحكومة اليهود من
هناك إلى تل أبيب المستعمرة اليهودية الكبيرة قرب يافا، وهاج مسلمو الرملة واللد
والسبع هياجًا كبيرًا.
في نابلس:
ووقع اصطدام كبير في نابلس بين الأهالي والبوليس فجُرح 9 من المسلمين.
في سائر أنحاء البلاد:
وعم الاضطراب جميع أنحاء البلاد من بئر السبع جنوبًا إلى الحولة شمالاً.
الشهداء والجرحى
أخذت حكومة فلسطين تصدر نشرات رسمية منذ نحو أسبوع في بيان الحالة
العامة في البلاد، وجاء في النشرة المؤرخة في 29 أغسطس أن عدد الإصابات
لغاية الساعة الثامنة من صباح 28 آب حسب أنباء المستشفيات ما يلي:
…
...
…
...
…
... مسلمون مسيحيون يهود المجموع
القتلى
…
...
…
...
…
... 63
…
4
…
97 164
الجرحى الذين في المستشفيات
…
... 113
…
9
…
150 272
الجرحى الذين خارج المستشفيات
…
... لم يرد نبأ عن عددهم بالضبط
غير أن شهداء المسلمين وجرحاهم يفوق العدد الذي جاء في النشرة الرسمية
المؤرخة في 29 أغسطس؛ لأنه لم يمكن إلى الآن القيام بإحصاء دقيق لإصابات
المسلمين، وقد قالت النشرة المذكورة إن هذه الأرقام التي ذكرتها لا تشمل
الإصابات التي أوقعتها القوات المسلحة في إخماد الاضطراب والتي لم تصل إلى
المستشفيات.
13-
ومع أن القوات العسكرية قد ازدادت بوصول النجدات من مصر ونزول
قوات عسكرية من البارجتين اللتين رست إحدهما في يافا والأخرى في حيفا،
فالحالة العامة في البلاد تسير باضطراب.
الفظائع تنزل بالمسلمين
ثبت أن كثيرًا من اليهود مسلحون، وأن كثيرًا منهم في القدس كانوا يرتدون
الألبسة العسكرية، ويتقلدون البنادق، ويتصيدون العرب في الطرق والأماكن
المنعزلة، وقد راع العرب تسلح اليهود وتخطفهم للعرب تحت هذا الزي وبعد
الاحتجاج للحكومة عثرت الحكومة على بعض المتسلحين منهم.
وتوزع الحكومة القوات العسكرية في البلاد بنشاط كبير، وقد كانت هائلة جدًّا
الخطة التي باشرت القوات العسكرية العمل عليها من رمي المسلمين بالنار رميًا بلغ
حد الفظائع الرائعة بلا سبب وبلا إنذار، بل بحجة التفتيش دون أن يعثروا على أي
شيء مما تفتش القوات عليه، وقد سقط أكثر شهداء المسلمين وجرحاهم برصاص
الجيش البريطاني والبوليس البريطاني ففي قرية (صور باهر) الواقعة في
الضاحية الجنوبية في القدس ذهبت حملة عسكرية باكرًا صباح 28 أغسطس مجهزة
بالرشاشات والدبابات والطيارات فأحاطت بالقرية، وأخذت تطلق النار من جميع
الجهات فقتلت ثمانية منهم النساء والأطفال وجرحت تسعة وحصل شبه هذا في
قرية قالونيا في الضاحية الشمالية.
ويجري من قبل المسلمين إحصاء مدقق للشهداء والجرحى الذين يذهبون
ضحية رصاص الجند البريطاني، ويجري أيضًا إحصاء لإصابات العرب على
العموم وستُرسل إليكم التفاصيل بوقت قريب.
13 طيارة فوق المسجد الأقصى
14-
وقد حلقت البارحة (30 أغسطس) وقت صلاة الجمعة حين خروج
المسلمين من المسجد الأقصى (13) طيارة، وقامت بحركات مختلفة فوق الحرم
القدسي الشريف أكثر من ساعة.
المسلمون والمسيحيون يشتركون في الدفاع
15-
وتشكر جمعية حراسة المسجد الأقصى لإخواننا المسيحين العرب
وقوفهم وإخوانهم المسلمين موقف المؤازرة والاتحاد الوطني في هذه الفتنة، فالبلاد
لأهلها مسلمين ومسيحيين على السواء.
إعانة عائلات الشهداء والجرحى
استنجاد العالم الإسلامي
إن (جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة) تدعو
المسلمين بصفة عامة، وأرباب الحمية والغيرة منهم بصفة خاصة، والمهاجرين
العرب الكرام في ديار المهجر إلى أن يسعفوا عائلات الشهداء والجرحى الذين
ذهبوا في سبيل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والجرحى الذين سالت
دماؤهم في هذا السبيل المقدس، في حين تستنجد الجمعية العرب والمسلمين عامة
ليسارعوا إلى الاحتجاج المتوالي على جناية اليهود في هذه الفتنة على ما تنزله
القوات العسكرية البريطانية بالمسلمين الأبرياء من الضربات العظيمة الذاهبة
بالأرواح بلا حساب.
وسيظل المسلمون في فلسطين معتصمين بشرف السدانة الصادقة والحراسة
الأمينة للمسجد الأقصى المبارك والبراق الشريف، وسائر الأماكن الإسلامية
المقدسة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (إبراهيم: 47) وهو {نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ} (الأنفال: 40) .
…
...
…
جمعية حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة
…
بيت المقدس 26 ربيع الأول سنة 1348 - 31 أغسطس 1929
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
منشور المندوب السامي في فلسطين
(حدثت الفتن الأخيرة في فلسطين والمندوب السامي البريطاني مصطافًا في
بلاده بالإجازة، وقد تعجل العودة، ولم يلبث بعد وصوله إلى القدس أن نشر في
البلاد بلاغًا دل على تحيزه إلى اليهود والصهيونية هذا نصه) .
عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد الأسى أن البلاد في حالة اضطراب،
فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة.
وقد راعني ما علمته من الأعمال الفظيعة التي اقترفتها جماعات من الأشرار،
سفاكي الدماء، عديمي الرأفة، وأعمال القتل الوحشية التي ارتكبت في أفراد من
الشعب اليهودي خلوًا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم، وعما إذا كانوا
ذكورًا أو إناثًا، والتي صحبتها - كما وقع في الخليل - أعمال همجية لا توصف،
وحرق المزارع والمنازل في المدن وفي القرى ونهب وتدمير الأملاك.
إن هذه الجرائم قد أنزلت على فاعليها لعنات جميع الشعوب المتمدنة في أنحاء
العالم قاطبة.
فواجبي الأول أن أعيد النظام إلى نصابه في البلاد، وأن أوقع القصاص
الصارم بأولئك الذين سوف يثبت عليهم أنهم ارتكبوا أعمال العنف، وستُتخذ
التدابير الضرورية لإنجاز هاتين الغايتين، وبناء عليه أطلب من جميع سكان
فلسطين أن يساعدوني على القيام بهذا الواجب، ووفاقًا لتعهد أعطيته للجنة
التنفيذية العربية قبل مغادرتي فلسطين، في شهر حزيران المنصرم تباحثت في
أثناء وجودي بإنكلترة مع وزير المستعمرات بشأن إجراء تغييرات دستورية في
فلسطين، غير أني سأؤجل هذه المباحثات مع حكومة جلالته بسبب الحوادث
الأخيرة.
ولكي أضع حدًّا للأخبار الملفقة التي ذاعت أخيرًا حول موضع حائط المبكى
(البراق) أعلن لعموم الأهالي بأنني عازم - وحكومة جلالته موافقة - على تطبيق
المبادئ التي ينطوي عليها الكتاب الأبيض الصادر في 19 تشرين سنة 1928 بعد
تقرير الطرق لتطبيقها.
صدر هذا اليوم الأول من شهر أيلول سنة 1929
…
...
…
...
…
...
…
المندوب السامي والقائد العام
…
...
…
...
…
...
…
... ج. ر. تشانسلور
احتجاج اللجنة التنفيذية
للمؤتمر الفلسطيني على منشور المندوب السامي
على إثر المنشور الذي أصدره فخامة المندوب السامي مساء يوم أول أيلول
الجاري أبرقت اللجنة التنفيذية العربية في فلسطين البيان التالي تعريبه إلى فخامته.
اطّلع عرب فلسطين بدهشة عظيمة على منشور فخامتكم الصادر في 1 أيلول
1929، ولم يكن أحد منهم يتوقع أن يرى (إغفال) الحقائق التي عرفها القاصي
والداني، والتي اعترفت بها الحكومة وهي:
1-
أن أكثر اليهود كانوا مسلحين من أنفسهم.
2-
أن الحكومة قد سلَّحت عددًا منهم.
3-
أنه لا يوجد في قتلى اليهود تمثيل أو تشويه حتى في الخليل كما يؤيد هذا
تصريح إدارة الصحة العامة البريطانية في فلسطين.
4-
أن بعض قتلى العرب قد مثَّل اليهود بهم.
5-
أن جموع اليهود قد قتلت نساء وأطفالاً من العرب على الانفراد.
6-
أن اليهود هم الذين بدأوا في قتل النساء والأطفال من العرب.
7-
أن الجنود البريطانية النظامية قتلت النساء والأطفال والرجال من العرب
في بيوتهم وعلى فرشهم في قرية صور باهر وغيرها.
8-
أن اضطرابات فلسطين السابقة والحالية إنما هي ناشئة مباشرة عن
السياسة البريطانية الصهيونية التي ترمي إلى إفناء القومية العربية في وطنها الطبيعي
لكي تحل محلها قومية يهودية لا وجود لها.
كل هذه الحقائق لم يكن أحد من العرب يتوقع إغفالها في منشور صادر على
عجل وسابق لأوانه، وتعلمون فخامتكم أن عرب فلسطين قد خسروا كل شيء من
جراء هذه السياسة الصهيونية فلا يهمهم أي زيادة في الخسارة، وعليه فإن الجنود
البريطانية ستجدهم عُزَّلاً من السلاح عند إنزال أي ضربة بهم، فإن كان لم يزل
ثمة عدالة يحق للعرب أن يطلبوا نصيبهم منها، فهم يلحون بطلب إجراء تحقيق
نزيه من قبل أشخاص من خارج فلسطين، لا يتأثرون أثناء قيامهم بواجبهم نحو
العدالة بالنفوذ الصهيوني.
وإن التحقيقين اللذين أُجريا في فلسطين في ظروف مماثلة سابقة من قبل لجان
بريطانية قد أظهرا للملأ مطالب العرب الحقة ومقاصدهم القومية النبيلة، كما أظهر
مصائبهم السياسية.
إن العرب يعتقدون كل الاعتقاد أن تحقيقات نزيهة كتلك ستروي للعالم حكاية
حالهم الآن في هذه الاضطرابات الحاضرة رواية أكثر صدقًا مما صورتموه للعالم
في منشوركم الصادر قبل إعطاء العرب فرصة لاستماع صوتهم، وعندئذ يرى
العالم أن اليهود الذين تجاوزوا التحرش السياسي إلى الديني، والذين أصبح
تحرشهم في المدة الأخيرة مما لا يحتمل - كما صرَّحت بهذا الحكومة - والذين
كانت أعمالهم الفظيعة في هذه الاضطرابات ينطبق عليها كلام فخامتكم في منشوركم
بحق العرب، هم المسئولون أولاً عن الاضطرابات الحالية السياسية التي تؤيد ثانيًا.
وإن مثل هذا المنشور كان ينبغي إصداره بعد إجراء التحقيقات التي ينشدها
العرب وليس قبل إجرائها، فلذلك نحن نتأكد أنكم لو أعدتم النظر في الحالة
الحاضرة لوصلتم إلى حكم عادل.
…
...
…
في 28 ربيع الأول سنة 348 الموافق 2 أيلول 929
…
...
…
...
…
رئيس اللجنة التنفيذية العربية
…
...
…
...
…
موسى كاظم الحسيني
…
...
…
...
…
...
…
الأمناء
…
...
…
مغنم إلياس مغنم. عوني عبد الهادي. جمال الحسيني
***
احتجاج جمعية حراسة المسجد الأقصى
والأماكن الإسلامية المقدسة
وجوابها على منشور فخامة المندوب السامي
جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة بالقدس تتلقى
بمزيد الدهشة والأسف استعجال فخامتكم في إصدار منشور 1 أيلول سنة 1929،
الذي يحمل على العرب حملة غير عادلة مغفلاً ما اقترفه اليهود في يافا والقدس
وغيرهما، وقام به الجنود البريطانيون في صور باهر وقالونية وحيفا من الفظائع
والقتل في الأطفال والنساء والشيوخ من العرب، وهم عُزَّل من السلاح بعضهم
عابر سبيل وبعضهم في بيته أو في صلاته، وهي تلفت نظر فخامتكم إلى ما يأتي:
1-
إن إصدار الحكم في المنشور بناء على دعاية اليهود فقط، ومن غير أن
تسمعوا الطرف الآخر، أو قبل أن يجري التحقيق من قِبَل هيئة عادلة غير متحيزة
ولا متأثرة من النفوذ الصهيوني، هو ليس من العدل.
2-
إن تغاضيكم في المنشور عما اقترفه اليهود والجنود البريطانيون من
الفظائع في هذه الفتنة، وعدم تحميلكم المسئولية عن المسببين والبادئين سيتلقاه
العرب خاصة، والعالم الإسلامي عامة بمزيد الدهشة والاستياء.
3-
يخشى أن تكون لهجة المنشور قد فهم منها اليهود تحريضهم وإغراءهم
لأنهم لم يكادوا يتلقون هذا المنشور حتى قاموا في ذات الساعة بالتعدي على أحمد
محمد عوض من لفتا أثناء مروره في الطريق وتهجموا عليه مئات يتناولونه بما في
نفوسهم من غل لكمًا وضربًا حتى قضى نحبه في ذات الليلة متأثرًا من تلك
الضربات الهمجية.
4-
إن التسرع في الحكم القاسي يخشى أن يكون له أثره في الهيئات القضائية
والهيئات التحكيمية مما يتنافى مع الرغبة في أن يأخذ العدل مجراه.
5-
إن تهمة التمثيل في قتلى اليهود في الخليل ثبت لدى موظفي دائرة
الصحة العامة من الإنكليز بطلانها وفسادها، وهي بلا ريب من أنواع دعايات
اليهود الباطلة.
6-
إن العرب عاشوا هم واليهود الوطنيين في هذه البلاد قرونًا طويلة من
غير أن يتعدى بعضهم على بعض، أو يسعى فريق منهم لأن يجعل البلاد المقدسة
التي هي مقر الأديان ومهبط الأنبياء ميدانًا لإثارة الفتن وإراقة الدماء، فلا يصح أن
يوصم فريق العرب الذي اعتدي عليه جهارًا وتحرش به علنًا كما تعترف الحكومة،
فقام يدافع عن نفسه وعن نسائه وأطفاله الذين قُتلوا ومُثِّل بهم وهم عُزَّل من السلاح،
فلا يصح أن يوصم هذا الفريق المدافع المعتدى عليه بالهمجية والتوحش وحب
سفك الدماء، وهذه القرون الماضية الطويلة شاهدة.
فكان من واجب العالم المتمدن الذي صببتم لعناته على غير مستحقيها أن
يفتش عن السبب الذي جعل مهبط الأنبياء ومقر الأديان ميدانًا واسعًا للفتن، فيسعى
في إزالة هذا السبب باسم المدنية والإنسانية، وبذلك تعود فلسطين إلى ما كانت
عليه من الهدوء والسكينة والاطمئنان.
7-
نستغرب جدًّا أن يحمل المنشور في أمر التخريب والإحراق على العرب
فقط، ويغفل ما قام به اليهود من هذا القبيل وحرقهم ونهبهم بيوتًا كثيرة وتعديهم
على مقام الصحابي المشهور (سيدنا عكاشة) وهدم قبره وقبر المجاهدين حوله
وإحراقها بعد تمزيق الستائر.
8-
إن اليهود الذين أثار حماستهم وهاج هائجهم مقررات المؤتمر الصهيوني
الذي عقد مؤخرًا في زوريخ، هم البادئون في الاعتداء والمثيرون لهذه الفتنة
بالمظاهرة العنيفة التي قاموا بها في مكان البراق الشريف يوم 14 آب لأسباب لا
تنحصر بالصلاة العادية وهم يحملون العلم الصهيوني ويخطبون الخطب كما جاء
في بلاغ الحكومة الرسمي، وكانت خطبهم تحمل أنواع السباب والشتائم للمسلمين،
ومن جهة أخرى ابتداؤهم في الاعتداء يوم 16 و17 و18 منه على العرب
المنفردين في الأحياء اليهودية من رجال ونساء وأطفال، وإن حوادث قتل النساء
والأطفال بدأت منهم.
9-
إن العرب الذين لم تُبق لهم السياسة الحاضرة ما يأسفون عليه من حق
سيتلقون مسلِّمين بصدرهم وهم عُزَّل من السلاح رصاص الجنود البريطانيين فيما
إذا رأت الحكومة أن سياسة الوطن القومي تقضي بالبطش بهم، وإزهاق نفوسهم
وإزالتهم من الوجود.
فالعرب مع احتجاجهم الشديد على هذا المنشور يطلبون أن تقوم هيئة عادلة
من الخارج لا يجد النفوذ الصهيوني إلى وجدانها إزاء واجب العدل سبيلاً بتحقيق
دقيق في هذا الأمر، وحينئذ سترون فخامتكم أن لعنات العالم المتمدن ستنصب على
المسببين وحدهم، كما أنهم يأملون إصدار منشور آخر بعد اطلاعكم على فظائع
اليهود في يافا والقدس وغيرهما.
ونحن واثقون بأن كل تحقيق عادل يجري بهذا الصدد سيكون حتمًا لصالح
العرب، وسيظهر أن المسئول عن هذه الفتنة اثنان لا ثالث لهما:
الأول: اليهود الذين تجاوزوا بمطامعهم واعتداءاتهم كل حد حتى المقدسات
والحقوق الدينية.
الثاني: السياسة غير العادلة وغير الطبيعية التي تعضد اليهود في مطامعهم
واعتداءاتهم، والتي قضت بتأخير تنفيذ الكتاب الأبيض الصادر منذ عشرة أشهر.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
…
... في 29ربيع الأنور سنة 1348 في 3 أيلول سنة 1929
…
... جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة
(المنار)
إذا كنا نعتقد اعتقادًا جازمًا عن بحث وروية أن الإنكليز قلما أقدموا
على عمل استعماري على جهل وقصر نظر كإقدامهم على جعل فلسطين وطنًا قوميًّا
لليهود، وأنه لم يُعرف في تاريخهم ظلم مشوه مفضوح كظلمهم في فلسطين، وأن
هذا العمل الذي قصدوا به إضعاف الأمة العربية وتقطيع أوصالها والحيلولة بين
أقطارها المستعدة للوحدة لتسهيل استعبادها هو الذي يرجى أن يأتي بضد كل ما
أرادوا من السوء والشر بالعرب، كما نعتقد اعتقادًا دينيًّا واستدلاليًّا أن اليهود لن
ينالوا ما يبغون من إعادة ملك إسرائيل في هذه البلاد، ونظن ظنًّا راجحًا قويًّا أن
الإنكليز يعتقدون اعتقادنا هذا، وأنهم يخدعون اليهود ليتخذوهم قوة لهم يهددون بهم
العرب ويهددونهم بالعرب، وإنما كنا نخشى من دهاء الإنكليز ومكر اليهود أن
يسيروا في خطتهم المشتركة بالحكمة والصبر والرفق والمداراة إلى أن يسلبوا من
عرب فلسطين جل رقبة الأرض، ويجعلوهم كالأجراء فيها؛ ولكن الله سلَّم ورحم
العرب بهذا الظلم المفضوح من الإنكليز، وهذا العدوان الأحمق من اليهود، فكان
كل منهما مؤيدًا لاعتقادنا، وخاذلاً للفريقين، ومحبطًا لكيدهما ومكرهما بنا، فقد
نبَّهت هذه الثورة الفلسطينية ما كان نائمًا من العصبية العربية والجامعة الإسلامية
في الشرق والغرب وفي القلب الذي هو جزيرة العرب، ولو قتل ألوف من العرب
في سبيل هذه الغاية لكان قليلاً، وقد كنا كتبنا في هذا الموضوع فصلاً طويلاً نرجئه
للجزء التالي إذ لم له يتسع هذا الجزء.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الآراء في مشروع الاتفاق الجديد
بين مصر وإنكلترة
اتفقت الآراء على أن هذا المشروع الذي جاء به صاحب الدولة محمد محمود
سليمان باشا هو أمثل من كل مشروع رضيت به الدولة البريطانية من قبل،
واتفقت أيضًا على أنه ليس بالاستقلال التام المطلق الذي ينشده الشعب المصري،
وكثر المؤيدون له في الصحف والمجالس من أفراد الشعب على اختلاف مشاربهم
ومشاهدهم في السياسة، وقل الناقدون له منهم.
وأما الأحزاب فاختلفت أقوالها فيه: قَبِلَه الحزب الحر الدستوري بالطبع، لا
لأنه يعده ثمرة لمفاوضة رئيس هذا الحزب للدولة البريطانية فقط، بل لأن سياسة
هذا الحزب مبنية على أساس الاتفاق مع هذه الدولة والقناعة منها باستقلال إداري
واسع النطاق بقدر الإمكان، وما زال كبار رجاله موضع ثقة رجالها منذ أُسس إلى
هذا اليوم.
قَبِلَه الحر الدستوري بِعُجَرِهِ وَبُجَرِهِ، ووعد الحزب الوطني ببيان ما ينطوي
عليه من المضار والخطر، وقرر حزب الاتحاد أنه صالح لأن يكون قاعدة لوضع
معاهدة بين الدولتين، وكثير من الأفراد المنكرين يقول بذلك بشرط أن يبين في
المعاهدة ما فيه من إجمال، ويفسر ما أودعه من إبهام، ويقيد بعض ما تضمنه من
إطلاق، ووجوب تضمن صيغة المعاهدة لهذه الثلاث هو الذي أعقله وأراه.
وأما الوفد أو الحزب السعدي الذي يمثل سواد الشعب الأعظم فأمسك عن بيان
رأيه فيه، وقال: إن الحق في الحكم فيه للبرلمان المصري الذي يمثل الشعب التمثيل
الصحيح الذي قرره قانونه الأساسي، فهنالك تحت قبة البرلمان نبين رأينا فيه،
فتبارت أقلام حزب الوزارة وأقلام أشياعها في الطعن على الوفد وزعمائه، وعاد
السباب والقذف بأفحش الشتائم إلى شر مما كان في عهد الشقاق الأول بين السعديين
والدستوريين الذي استمر إلى عهد الائتلاف المعلوم.
لقد كنت أخشى هذا وأحاذره متوقعًا له إذا وفق محمد محمود باشا بافتراص
سياسة وزارة العمال في إنكلترة لإقناعها بإنصاف مصر والاتفاق معها على ما
يرضاه الشعب المصري وتحفظ به المصالح البريطانية، فكتبت مقالة (الحالة
السياسية العامة في مصر) التي نشرتها في الجزء الثاني الذي صدر بتاريخ غرة
صفر (8 يوليو) راجيًا أن تكون بما قررته من الحقائق الناصعة المبرأة من الهوى
والتشيع تمهيدًا لائتلاف جديد نهائي يسعى له سعيه بعض الأمراء والكبراء لخير
مصر ومصلحة حاضرها ومستقبلها.
وقد كان حاضر مصر إلى وقت كتابة تلك المقالة شر حاضر ينذر شر مستقبل:
أمة مغلوبة على أمرها بالاستبداد البريطاني الذي سلبها ما اعترف به لها من الاستقلال
بقرار الوزارة البريطانية وتصديق البرلمان البريطاني، وحكومة (دكتاتورية)
عطلت الحكومة الدستورية وفضت برلمانها، ورضيت أن تكون خاضعة لسيطرة
أطغى مستبد بريطاني عرفته مصر، لا يرضى أن يُحل فيها ولا أن يُعقد أمر من
الأمور الداخلية المحضة إلا برضاه، دع ما يمس التحفظات من قرب، أو يومئ إليها
من بعد، تؤيده دولة معروفة بنقض العهود، وإخلاف الوعود، ونكث الأيمان
بالتأويل، الذي تتبرأ منه جميع اللغات والشرائع والقوانين، طردت الموظفين
المصريين والجنود المصريين من السودان، وانفردت بإدارته وسياسته وحدها، من
بعد أن كان ادعاؤها حق المشاركة لمصر في إدارته ظلمًا واستبدادًا لا مسوغ له،
فماذا عسى أن يكون مستقبل بلاد هذا حاضرها؟
كان ذنب محمد محمود عند الوفد وسواد الأمة من ورائه أنه رضي في هذه
الحال السوءى التي تنذر المستقبل الأسوأ أن يتولى الوزارة ويقبض على عنق
البلاد بيد من حديد، وأن يتحلى بلقب (دكتاتور) وهو يعلم أن القوة السلبية في
الأمم الضعيفة تفعل ما لا تفعل القوة المادية التي يفوقها الخصم فيها أضعافًا، ويعلم أن
أعظم مظهر لهذه القوة السلبية في مصر ما كان من امتناع رجال الحكومة كبيرهم
وصغيرهم من إدارة الأعمال تحت سيطرة الحماية الإنكليزية في إبان الثورة، وبهذا
وحده علم الإنكليز يومئذ أنه يتعذر عليهم إدارة أمور البلاد كما كانوا يديرونها في
السنين الخالية بأسماء الوزراء الوطنيين الجبناء الذين أطلق الأستاذ الإمام على
مجلس نظارهم لقب (جمعية الصم والبكم) وأنه كان يريد بهذه الوزارة القضاء على
وحدة الأمة المعتمدة على وفدها في السير إلى الاستقلال المطلق كما قضى على
حكومتها، وأن يقوي حزبه المشايع للبريطانيين في ثلاث سنين مقدرة ليكون صاحب
الأكثرية في البرلمان الموعود به بعدها فيعمل للإنكليز ما يريدون.
وكان عذر محمد محمود عند نفسه كما قال مرارًا وعند المؤمنين بصدق
وطنيته أنه لم يكن في ذلك الحين بد من الخروج من تلك الحالة السوءى بحكومة
تتزاور عن ذلك الضغط البريطاني المرهق، وتتحامى الوقوف في وجهه في إبان
طغيانه؛ لأنه يجرف كل ما يصادفه أمامه لا محالة، وأنه كان يرجو أن يشاركه
رجال الوفد في هذه الوزارة التي تألفت للنهوض بأعباء الإصلاح الداخلي بمعزل
من ميدان المناطحة مع الإنكليز إلى أن تتحول تلك الحال - ودوامها من المحال -
وأنه لم خاب أمله وبرز الوفد لمكافحته اضطر إلى الكفاح كارهًا له، وقد سمعت من
بعض هؤلاء المحسنين للظن فيه من يقول في أول العهد بهذا الكفاح أنه لو علم أن
سيعجز عما كان يؤمّل ويضطر إلى هذا النضال لما أقدم على تأليف الوزارة. والله
أعلم.
من أجل ما ذكرت هنا وهناك من الرأي في رجولة محمد محمود باشا
ووطنيته، مع العلم بقلة الرجال - كنت أحب أن يقوم بما له من الحظوة عند الإنكليز
التي كانت تزداد مظاهرها آنًا بعد آن بآخر تجربة في التوفيق بين مصلحتهم
الأساسية في مصر واستقلالها المطلق مع سودانها، مع عقد محالفة مرضية بينهما،
وأن يتفق مع الوفد على ذلك سرًّا إن لم يكن جهرًا، وأن يعلِّق بقاءه في الوزارة
على هذه المحالفة بأن يستقيل إذا لم يقبلوا، ثم يتفق مع الوفد سواء قبلوا أو لم
يقبلوا، وهذا هو الذي أملى علي تلك المقالة التي نشرتها في الجزء الثاني من منار
هذا العام، علمًا بأنها لا ترضي جمهور حزب الوزير، ولا جمهور حزب الوفد
لكراهة كل من الفريقين لإنصاف الآخر، والاعتراف بأي مزية أو فضيلة له،
وإنما ترضي بالطبع محبي الحق والعدل والإنصاف من كل منهما ومن غيرهما،
ولا يعنيني بعد تحري مرضاة الله تعالى إلا مرضاة من يحبون ما يحب الله من
الحق والعدل، والرجاء في سعيهم للاتفاق والصلح.
وقد علمت أن بعض الكتاب من أنصار الوفد انتقد المقالة في بعض صحفهم
على أنني كنت فيها أقرب إلى تأييد سياستهم الأساسية في المسألة المصرية، كما
أنني كذلك في نفسي على انتقادي لبعض تصرفهم، ثم رأيت هذا المنتقد في النادي
السعدي في أثناء إلمامة لي به، فبهتني بأنني صرحت في المقالة بعدم الحاجة إلى
مجلس النواب مطلقًا! ! ولم يمنعه إنكاري لذلك وتأييد بعض قراء المنار من
أعضاء الوفد الحاضرين لي في الإنكار من الإصرار عليه؛ ولكنني علمت من غير
واحد منهم أن النائب الذي طعن على القرآن في مسألة تعدد الزوجات لم يفُه بذلك
في المجلس، كما قلت في المقالة؛ وإنما ذكره في مقالة نشرها في جريدة الأهرام،
قال بعضهم: ولو قاله في المجلس لأقمنا عليه النكير، فأنا أستغفر الله من هذا الخطأ
الذي كان عالقًا بذهني مما قرأت من الرد على ذلك النائب الملحد، ولو ظهر لي
خطأ آخر لرجعت إلى الصواب بعد ظهوره بكل ارتياح، ولا أبالي من يرضيهم إلا
اتباع أهوائهم، ومتى كان طالب الحق لذاته مقلدًا للأفراد أو متعصبًا للجماعات؟
وإنما أكتب أحيانًا في المسائل السياسية لأجل أن أُسمع من استطعت من الناس
صوت الحق فيها لقلة من يقوله، عسى أن أكون من الصدِّيقين والشهداء.
أعود بعد هذا إلى مسألة الصلح بين الوفد ومحمد محمود باشا فأقول: أخبرني
بعض من قرأ مقالتي في الجزء الثاني أنه قد وجد من سعى لها سعيها وأجلهم عدلي
باشا يكن، فما أفاد ذلك السعي نجاحًا. ولما حمل مشروع الاتفاق محمد محمود باشا
في لندن أرسل بلاغًا إلى الجرائد قال فيه إنه نال ما نال من النجاح بجهاد الأمة وقوة
الأمة لا بحوله وقوته، وإنه يدعو الأمة كلها إلى النظر فيه بعيني المصلحة لمصر لا
بالأعين الحزبية، وإنه لوَّح للمخالفين المعارضين له بغصن الزيتون، فإن جنحوا
للسلم والاتفاق جنح لها، وإلا فلا لوم لهم إلا على أنفسهم - أو ما هذا معناه - وقام
أناس آخرون يسعون للصلح؛ ولكن الجرائد المنتصرة لكل فريق قد أسرفت في الطعن
وتوسيع مسافة الخُلف، وظل الوزير نفسه معتصمًا بعصبية حزبه، فصار معنى
الاتفاق خضوع الوفد له وقبوله أن تتولى وزارته أمر انتخاب أعضاء البرلمان الجديد
الذي له الحكم الفصل في مشروع الاتفاق المعروض من قِبَل الحكومة الإنكليزية
ليكون لها باستخدام نفوذ الحكومة وأموالها أعضاء كثيرون من الدستوريين وغيرهم
يشدون أزرها، ويمنحونها من الثقة ما يرجى أن تثبت به، وتكون هي التي تعقد
المعاهدة مع الدولة البريطانية وتتولى تنفيذها، فيتم بذلك مجدها ومجد أنصارها،
ولعلمهم بقوة نفوذ الوفد في الأمة يريدون أن تضع هذه الوزارة قانونًا للانتخاب يكون
فيه على درجتين، وتلغي القانون الذي وضعه البرلمان المقرر للانتخاب من قِبَل الأمة
مباشرة؛ لأن السواد الأعظم من الأمة لا يثق إلا بالوفد، وتأثير نفوذ الحكومة في
الأفراد المعدودين المعروفين أدنى من تأثيره في الدهماء.
والوفد يأبى أن تتولى هذه الوزارة (الدكتاتورية) المطلقةُ السلطانِ إعادةَ بناء
ما هدمت من حكم الدستور والبرلمان، بعد أن كان منها ما يعدونه عليها من
الأعمال، ويُصر على إسقاط هذه الوزارة ونوط أمر الانتخاب بوزارة حيادية تنفذ
القانون الذي وضعه مجلس النواب الأخير، ويقول: إن هذا المشروع الذي حمله
محمد محمود من لندن لم يكن ثمرة مفاوضته ولا أثر سعيه، فإنه صرَّح بأنه لم
يذهب إلى أوربة لأجل المفاوضة في المسألة المصرية، وأنها لم تكن تخطر له ببال،
وإنما المشروع ابتداع أتى من وزارة العمال الجديدة التي أخذت على عاتقها حل
جميع المشكلات البريطانية الخارجية، أعطي له ليعرضه على الأمة المصرية لأنه
صاحب الصفة الرسمية، لا لأن له يدًا فيه، ويقول بعضهم: إن الوزارة البريطانية
عرضت عليه ثلاثة صور للاتفاق اختار هذه الصورة منها، ومن المعقول أنه اقترح
بعض التعديل والتنقيح فيها فقُبل.
وقد اقترح بعض أنصار هذه الوزارة أن تستفتى الأمة في المشروع بجمع
جمعية وطنية لهذا الغرض وحده؛ ولكن الحكومة البريطانية لا ترضى بهذا
الاستفتاء؛ لأن شرطها أن تُعرض على برلمان مصري قانوني، فيكون له الحكم
فيه، والذي استقر عليه حزب الوزارة وأنصارها أخيرًا أن تؤلف وزارة ائتلافية
من جميع الأحزاب والمستقلين، ويُبنى الانتخاب على قبول المشروع أو رفضه،
ويأبى الوفد هذا ويعده غير قانوني؛ لأنه يقيد حرية الأمة ويفرض عليها أن تقبل
المشروع أو ترفضه بنفس الانتخاب لا برأي البرلمان المنتخب.
وجملة القول: إن الوفد لم يصرح برأيه في مشروع الاتفاق، وإنه يصر على
رأيه الذي بيناه آنفًا، وحزب الوزارة وأنصار مشروع الاتفاق منهم ومن غيرهم
يخشون في هذه الحالة أن ينتهي الأمر برفض الاتفاق؛ لأن المنتظَر أن يكون
البرلمان الجديد وفديًّا كما سبق، وأن يرد الاتفاق؛ لأن الفضل فيه لمحمد محمود
باشا؛ ولأنه دون الاستقلال المطلق الذي أسس الوفد للسعي له، حتى إن رضاه بما
دونه يُعَدُّ سقوطًا له، ويقال إنه يرى أنه يمكنه الإتيان باتفاق خير للبلاد منه، ومن
الناس من يظن كما نظن أن البرلمان الوفدي لا يرده ردًّا؛ ولكنه يتوخى خدمة
البلاد بما يبين به ما فيه من إجمال، ويوضح ما فيه من إبهام، ويقيد ما نخشى
مغبته مما فيه من إطلاق.
ولا يزال أكثر كُتَّاب الإنكليز يطعنون على الوفد ويؤيدون وزارة محمد محمود
باشا وحزبه، ومنهم من يتمنون فشل المشروع بالرد، أو تأخير عرضه واستمرار
هذه الوزارة على ما جرت عليه إلى نهاية الأجل الذي ضربته لتعطيل الدستور وهو
ثلاث سنين تبقى بها البلاد تحت سلطان الاحتلال عسى أن تأتي أحداث الزمان بما
يزيده قوة ورسوخًا، وأن جمهور الجالية الإنكليزية في مصر ومنهم مراسلو جرائد
بلادهم على هذا الرأي أو الميل، قد كبر عليهم انتهاء أجل الاحتلال واستقلال
مصر في إدارتها الداخلية، واعتزازها برفع ذل السيطرة الأجنبية عن رؤوسها
على ما يقيدها به المشروع الجديد من احتلال ضفة القنال، وما في تقييد قوتها
الحربية بالدولة البريطانية من سلاسل وأغلال؛ ولكن الوزارة الإنكليزية نفسها لا
تظهر هذه المحاباة ولا تضمر مثل هذا المكر.
هذا وإننا نرى رجال السياسة من الشعوب الأوروبية، وكتَّاب صحفها قد
أكبروا مشروع هذا الاتفاق، وعدوه تسامحًا من الإنكليز لم يكن في الحسبان، وأنه
لولا رغبة وزارة العمل الصادقة في حل جميع الإشكالات الخارجية لما عرضت
على مصر مثل هذا بعد أن كانوا يعدونها من مستعمراتهم وإن لم تُسَمَّ بذلك.
وأما مستقبل المعاهدة التي تعقد على أساس هذه التصريحات البريطانية فهو
رهين بالطور السياسي الذي تكون عليه الدولة البريطانية، فإن عاد النفوذ الأعلى
في برلمانهم إلى حزب المحافظين على التقاليد الصليبية والاستعمارية الذين
يطمحون إلى استعباد جميع الشرق، والسيادة العليا على دول الغرب، فستكون هذه
المعاهدة (قصاصة ورق) فيخلقون من أحداث الزمان ما يستبيحون به نقض
حبلها ونكث فتلها، كدأبهم فيما وصفهم به البرنس بسمارك من التفصي من
المعاهدات بالتأويل.
وإن ثبت عندهم أن شعوب الشرق قد دخلت في طور جديد عرفت به نفسها،
وأنه لم يعد في الإمكان أن تتصرف الدولة القوية فيها كما تتصرف في العجماوات،
وأن الوسيلة الوحيدة لاستغلال ثروة بلادها أن يكون بالتراضي معها
…
فستكون
هذه المعاهدة نافذة بحسن النية، ووسيلة لمعاهدة تكون خيرًا منها، إما بعد انتهاء
مدتها وإما قبل ذلك.
هذا وما نراه في مستقبل الاتفاق والمعاهدة التي تُبنى عليه من الوجهة
البريطانية وحدها، وأما الرأي فيه من الوجهة المصرية فهو يتوقف على أخلاق
الشعب المصري وحالته النفسية ودرجة تأثيره في حكومته المستقلة عندما تكون
تحت سيطرته وحده دون احتلال أجنبي، قبل توقفه على ما أوتي من علم بشؤون
السياسة والإدارة وسائر ما تحتاج إليه الحكومة في هذا العصر، ولا مجال للبحث
في هذا الموضوع الآن.
والخلاصة أن الذي يعتصر من آراء الوطنيين والأجانب في شأن المشروع
يثبت أنه يجب قبوله على علاته بالقيد الذي أشرنا إليه في هذا المقال من بيان
وتوضيح وتحديد في مسائل السودان والعسكرية وغيرها، وأن قبوله أقرب وسيلة
إلى نيل خير منه من رده، وأمره موقوف على خطة الوفد وفَّقه الله تعالى لما فيه
خير البلاد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأزهر الأزهر والدين في هذا العصر
نُشر في المقطم مقال لصاحب السمو الأمير محمد علي عنوانه (الدين في هذا
العصر والجامع الأزهر) كان له تأثير حسن في الجمهور الإسلامي بموضوعه
ومكانة صاحبه؛ فإن كل مسلم يسره أن يرى من أمرائنا من يعنى بأمر الدين في
هذا العصر الذي شغلت الأمراء زينة الحياة الدنيا ولذتها عن الدين، لذلك أكبر
المسلمون مقال الأمير محمد علي في الدين والأزهر، وأثنوا بما يليق بمقام سموه،
ولم ينتقده في الجرائد إلا قليل منهم ولكن بما يليق بذلك المقام من حسن الأدب.
بدأ الأمير مقاله بما رآه في ممالك أوربة (من الجنوب إلى الشمال) من الهمم
المبذولة والعزم الصادق في إصلاح ما أفسدته الحرب العالمية من تجارة وصناعة
وعلم وعمل ولا سيما الاستعداد للحرب
…
وانتقل من ذلك إلى ما هو أهم منه
وأخفى على جماهير المسلمين في هذه البلاد وغيرها وهو ما رآه في بلاد أوربة من
التيار الديني الجديد الذي (يرمي إلى [*] ما كان للدين من شوكة وسلطان، وناهيك بما
يبذله رجل الكنيسة وطوائف المبشرين العديدة، ومن تبعهم من أرباب الملل والعلم
والقلم لاستعادة نفوذ الدين وسيطرته على ولاة الحكم ومعاهد التعليم، بل على الأسر
والناشئة الجديدة)
…
إلخ.
ثم ذكر سموه أن هذه الحالة النفسية الجديدة التي رآها في بلاد الغرب هذه
المرة حملته إلى إنباء إخوانه في الشرق (بما يجري ويدور هنا من فاتحة القرن
العشرين ليكونوا على بينة من الأمر فيعتبروا ويتقوا الله في دينهم ولا يصغوا
لضلالات فرقة ظهرت بينهم تريد أن تضلهم عن سبيل الله باسم العلم العصري
والمدنية العلمية) .
وقفّى على هذا بقوله (إن هذا الموقف الجديد الذي أحرزه العامل الديني بين
الجماعات الأوروبية، ونموه السريع، بهذا الشكل المريع (؟) في مدة قصيرة من
الزمن ساقاني إلى التفكير فيما يجري في هذه الآونة في بلاد الشرق من الاضطراب
في الأفكار بشأن هذا العامل، فبينما نرى طائفة ظهرت حديثًا تسعى في محاربة
الدين وهدمه نجد المتمسكين بدينهم من عقلاء المسلمين ومتنوريهم جامدين كالأموات
لا يتحركون، وأما السواد الأعظم من المسلمين فهم في ظلمات الجهل والخرافات
يعمهون، حالة والله تبكي من بقي في قلبه ذرة من الإيمان)
…
إلخ.
كل هذا حسن، وهو الذي أُعجب به المسلمون وأكبروا صدوره عن أمير من
أشهر أمرائهم، ثم استطرد الأمير إلى ذكر الأزهر وتساءل عن علماء الأزهر
وطلابه، قائلاً (ألا يجب على الأزهريين أن يكونوا في هذه الظروف العصيبة في
مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية في العالم)
…
إلخ؛ ولكن كانت نتيجة ما ذكره
سموه من تفكيره الطويل في حال الجامع الأزهر، وما أوجبه على الحكومة
المصرية وعلى كل مسلم (لإنقاذ هذا المعهد الجليل مما أصابه من الأمراض)
مباينة لجميع تلك المقدمات من كل وجه.
تكلم في تاريخ الجامع الأزهر منذ تأسيسه إلى الآن بما يخالف الواقع إلا قليلاً،
وارتأى في إصلاحه آراء يتعسر تحديدها وتمحيصها، ويتعذر تنفيذها؛ ولئن
نُفذت على الوجه الذي ذكره لتكونن من أكبر الكوارث على الأزهر وعلى الدين
الإسلامي الذي يغار عليه سمو الأمير بحق، ولا يمكن بيان هذا كله بالتفصيل إلا
بكتابة رسالة طويلة أو مقالات كثيرة لا حاجة بنا إلى أكثرها الآن، ولا سيما القسم
التاريخي منها، كالغرض من بناء الشيعة الباطنية للأزهر وحالهم في دينهم
وسياستهم، والعلوم التي كانت تُقرأ فيه في عهدهم، والأطوار التي مرت عليه من
بعدهم، وكذلك الذين وقفوا عليه الأوقاف، وهل هم أهل لأن نعمل بما كانوا
يفهمون من العلوم وطرق التعليم والانتفاع به في مثل هذا العصر كما اقترح سمو
الأمير؟ ثم هل يتفق ذلك وما تمناه وندب إليه من وجوب جعل الأزهريين في
مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية التي يهتز لها العالم الغربي في هذا العهد؟
قال سمو الأمير في آخر مقاله إنه يعرض رأيه الذي أملاه عليه حبه للإسلام
والإخلاص لأزهره الشريف على من يشاركه في هذا الشعور من جمهور المسلمين
ليفكروا فيه طويلاً ويدرسوه بما يستحق من العناية واستحلف من يقبله منهم بالله
ورسوله [1] أن يتناصروا في سبيل إخراجه إلى حيز الفعل، وقد فكَّر فيه كاتب هذه
السطور كما أمر الأمير وهو ممن يبحث في شؤون الأزهر وشؤون الإصلاح
الإسلامي منذ ثلث قرن، وله في موضوع إصلاحه وبيان ماضيه وحاضره وفي
الرد على الملاحدة مباحث كثيرة منشورة في مجلدات المنار الثلاثين.
وأكتفي في هذا المقال الوجيز بتوجيه نظر الأمير وغيره إلى بعض القضايا
التي يجب التفكير فيها مع التفكير في مقترحاته لعل سموه يرى فيها ما يتوقف عليه
الحكم الصحيح فيها وهي:
(1)
من المعلوم أن جده الأعلى الذي يتحلى هو باسمه قد أدخل هذه البلاد
في طور الحضارة الغربية، من غير اعتداء على مقوماتها الإسلامية العربية، وأن
جده الأدنى (إسماعيل) هو الذي أحدث فيها التفرنج بالتشريع المدني والجنائي
والتربية والتعليم والحرية الشخصية. وقد وصلت البلاد بهذا التفرنج إلى ما يشكو
سمو الأمير وغيره منه من فشو الإلحاد والفسق، فليتأمل في تاريخ الأزهر في كل
هذه المدة قبل البدء في دعوة إصلاح الأزهر التي ينكرها وبعده ولينظر ماذا كان من
تأثير شيوخ الأزهر وخطبائه في مقاومة ما يخالف الإسلام، ولا سيما الإلحاد الذي
فشا في هذا العهد، وفي إيجاد ما يوافق هدايته ويعلي شأنه؟ أظن أنه لا يجد لأحد
منهم أثرًا له قيمة أو تأثير في الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته إلا لطلاب الإصلاح
للأزهر ودعاته وإمامهم الشيخ محمد رحمه الله تعالى، ولو اطلع سموه إلى الخطب
الجُمعية التي كانت تلقي على منبر الأزهر وغيره من المساجد في مصر لرأى أن
أكثرها إما منفر عن الإسلام، وإما غير مؤدٍّ لحاجة المسلمين في هذا الزمان، ولو
اطلع على الخطب والمواعظ التي يلقيها أعضاء حزب الإصلاح في هذا القرن
لأعجب بها وقرت عينه بأهلها.
(2)
إن أهم مقترحات سموه ترك الحكومة المصرية للأزهر ليكون مستقلاًّ
بشأنه، واستقلال المدارس العالية أصل من أصول استقلال العلم ونزاهة أهله عن
تأثير السياسة وأهواء أهلها، وأحوج العلم إلى الاستقلال علم الدين؛ ولكن الأزهر
طرأ عليه ضعف الدين والعلم واللغة في عهد استقلاله دون الحكومة لا بعد تدخلها
في أمر إدارته، وقد كان من أهم قواعد الإصلاح له في رأي الشيخ محمد عبده أن
يكون برأي شيوخه واقتناعهم، وأن لا يكون للحكومة نفوذ فيه، وقد نقلت عنه في
المنار مرارًا أنه قال إنني ما دمت في هذا المكان لا أدع للحكومة نفوذًا فيه، وكذلك
كان فإن نفوذ الوزارة لم يتسرب إليه إلا بعد خروج الشيخ منه، بل كان رحمه الله
يعارض نفوذ الأمير الشخصي فيه إذا كان مخالفًا لقانونه كما بيَّنا في ترجمته، وكان
هذا من أسباب سخط الأمير عليه وإلجائه إياه أخيرًا إلى الخروج منه، ولم يكن له
من شيوخه نصير يحب الاستقلال إلا السيد علي الببلاوي شيخ الأزهر الذي استبدل
الأمير به الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ عبد الكريم سلمان، وكان غرض
الأمير المصري من هذا التبديل إرجاع الأزهر إلى ما كان قبل النظام الحديث:
ولكنه لم يرجع ولم ينتظم أمره، بل كانت سياسة الأمير هي السبب في تدخل
الحكومة فيه أيضًا، فهل يوجد اليوم في كبار شيوخه من ينهض بهذا الاستقلال له
دون نفوذ الحكومة؟ ذلك ما نتركه للبرلمان المصري الآتي وإلى ما سيكون
للمصلحة الإسلامية من المنزلة فيه.
(3)
إن أغرب ما في مقال الأمير تصويبه قول من يقول (إن الحكومة
ترى من الضروري تخريج نشء جديد من رجال الدين يكون لهم اطلاع واسع على
اللغات، أو على بعض العلوم التي لا وجود لها في الأزهر) وإجابته عنه بقوله:
(الأوفق إذًا للحكومة أن تنشئ كلية للعلوم الدينية ملحقة بالجامعة المصرية تؤسسها
على ما ترغب من الأسس وتنظمها كيفما تشاء، ولا بأس حينئذ من الاستغناء عن
مدرستي القضاء الشرعي ودار العلوم وإدماجهما في هذه الكلية الجديدة) .
الغرابة في هذا الرأي الذي لا أظن أنه يوجد واحد في الألف من شيوخ
الأزهر وطلابه يوافق سموه عليه هو جعل التعليم الديني لتخريج رجال الدين
قسمين (أحدهما) يناط بالجامعة المصرية تبعًا لوزارة المعارف، ويكون من
خريجيه رجال القضاء الشرعي ومعلمو المدارس الأميرية، وكل من قد تحتاج
الحكومة إليهم من علماء الدين (وثانيهما) الأزهر ويُقصر التعليم فيه على ما كان
يُدرَّس فيه من العلوم الشرعية قبل نصف قرن، ويكون الغرض منه التعبد وإرادة
وجه الله تعالى، ومن لوازمه إرجاع راتب علماء الأزهر إلى ما كانت عليه وهو
قلما يزيد على راتب خادم أو بواب في هذا العهد، ومنع الحكومة عنه هذه المئات
من الألوف التي خُصصت لميزانيته! ! وحرمانهم من الوظائف الشرعية كغيرها
فيا ليت الأمير يعلم رأي أهل الأزهر في اقتراحه هذا.
(4)
إن قانون الأستاذ المراغي الحديث للأزهر يجمع بين التعليمين اللذين
اقترحهما سمو الأمير، إلا أنه يجعل كلاًّ منهما تابعًا لإدارة واحدة هي إدارة المعاهدة
الدينية، ولا شك أن هذا أضمن أو أدنى إلى جعل الأول دينيًّا إسلاميًّا من إدارة
الجامعة المصرية له، وهي هي التي أعلن بعض أساتذتها الإلحاد في تعليمها إعلانًا
برضاء مديرها ووزير معارفها وغيره من وزرائها وحمايتهم، كما ظهر ذلك
للخاص والعامي في قضية الدكتور طه حسين، وندع ما لا يعرفه إلا الخواص من
الإلحاد والملحدين، ومن إهمال وزارة المعارف لأمر الدين في مدارسها؛ حتى إنه
صار يقل في طلاب مدرسة دار العلوم من يصلي! فما القول في غيرها؟
_________
(1)
المنار: إن الحلف بالرسول لا يجوز، بل هو محرَّم، والاستحلاف فرع الحلف.
(*) لعلها: محو أو إزالة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
بقية الكلام في أحاديث انشقاق القمر
تتمة إشكال عدم رؤية أهل الآفاق له
وأما قولهم: إنه لم يُنقل إلينا من أهل الأرض أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة
فلم يروه انشق - ففيه أن رؤية انشقاقه لا تتوقف على رصده لأن من شأنه أن يراه
كل ناظر إليه، وأن الذين ينظرون إليه في ليالي تمه كثيرون.
وأما قولهم (إن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي حتى إن
من وُجد منه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات) ففيه أنه ليس
في موضع النزاع؛ لأن الواقع أنه وُجد مثبت فقط؛ ولكنه يدعي شيئًا لو صح لرآه
من لا يحصى من أهل الأقطار المختلفة، ولنقل عنهم بالتواتر، وإذا لم يحصل هذا
فيكون خبره غير مقبول كما تقدم تقريره من كلام علماء الأصول والمنطق في الخبر
الذي يقطع بعدم صحته (دع كونه معارضًا بآيات القرآن المحكمة كما يأتي قريبًا) .
وقد بالغ القاضي عياض في الاعتماد على هذا الجواب أو الدفع، فجعل نقل
النفي للشيء بالخبر المتواتر المفيد للعلم للقطعي مرجوحًا يرد ما يعارضه من إثباته
بخبر الواحد الذي لا يفيد الظن عندهم إلا بشروط منها أن لا يكون مخالفًا لسنة الله
في الوجود ونظام العالم، وأن لا يكون مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر، وأن
لا يكون معارضًا بنص قطعي كآيات القرآن الصريحة في عدم إعطاء الله رسوله
صلى الله عليه وسلم آية باقتراح الكفار (وسيأتي تقرير هذا في الإشكال
الأصولي (و)) .
وهذا نص عبارة القاضي: (ولو نُقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم - لكثرتهم -
على الكذب لما كان علينا به حجة) يعني أننا نصدقهم بأنهم رصدوه طول الليل ولم
يروه انشق، ولا يكون حجة علينا مع قطعنا بصدقهم، وعلل هذا بقوله (إذ ليس
القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على
الآخرين، وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض، أو يحول
بين قوم وبينه سحاب وجبال، ولهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض)
…
إلخ ما سبقه إليه الخطابي وغيره وتقدم.
وفيه أن التعليل الذي ذكره يصح في بعض الأقطار دون جميعها، ولكن لا
يجوز عقلاً أن ينشق ولا يرى في شيء منها، وتقدم الجواب عن اختلاف المطالع
والخسوف والكسوف.
على أن الحافظ المزي نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض المسافرين
ذكر أنه رأى في بلاد الهند بناء قديمًا مكتوبًا عليه أنه بني ليلة انشق القمر، وأذكر
أنني رأيت في بعض الكتب أو الصحف أن هذا رؤي في بلاد الصين، ولكن مثل
هذا الخبر الغريب عن مسافر مجهول لا يعده أحد من أهل العلم حجة في مسألة
علمية ولو لم تكن كمسألتنا، لعدم الثقة بعدالته؛ ولأنه يروي ما لو صح لوقف عليه
المسلمون الفاتحون للهند، ولجعلوا لذلك البناء شأنًا يُشتهر به ويُزار، ولدُوِّن خبره
في كتب التاريخ، ولم يوجد شيء من ذلك، على أنه لو وجد بهذا الإبهام والإجمال
لما كان حجة في موضوعنا لجواز أن يكون سببه أسطورة أو إشاعة حدثت عند
الذين بنوه وربما كانوا من الوثنيين، وقد نقل الحافظ في سياق هذا المبحث أن
العلامة الحليمي المشهور قال - كما نقل عنه البيهقي في البعث والنشور - ما نصه:
(أن من الناس من قال: إن المراد بقوله تعالى: {وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) أي سينشق [قال الحليمي] فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا،
فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقًّا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض
القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب، وأخبرني
من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى اهـ. وقد صرَّح الحافظ ابن حجر بتعجبه من
إقرار البيهقي لهذا مع حديث ابن مسعود، ونحن نصدِّق ما ذكره الحليمي عن نفسه
وعمن يثق به ونجزم أنهما تخيلا فخالا، أو عرض لبصرهما ما صوَّر لهما ذلك،
ومن العلل العارضة للبصر أو الدائمة ما يصور لها الواحد اثنين، وهذا معروف
مشهور.
(هـ) الإشكال الفلكي:
استشكل بعض الناس خبر انشقاق القمر بما هو مقرر في أصول علم الفلك
(القديم) كذا قال الحافظ (وإنهم احتجوا بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الخرق
والالتئام) وعزاه إلى الفلاسفة ونقل عن الزَّجَّاج عزوه إلى (المبتدعة الموافقين
لمخالفي الملة) وأجاب عنه بأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء.
أقول: وهذا حق لا ينكره مؤمن بالله، ومسألة عدم قبول الأفلاك للخرق
والالتئام، من أوهام فلاسفة اليونان، وقد كشفها وأبطلها علم الهيئة الحديثة؛ ولكن لا
يشك عاقل من المؤمنين وغيرهم أن خلقه تعالى للسموات وأجرامها في غاية الإبداع
والنظام لا تفاوت فيه ولا خلل، وأن سننه تعالى في الخلق لا تتبدل ولا تتحول، فلا
يصدق خبر وقوع تغير فيها إلا بخبر قطعي ثابت مثل ثبوتها وثباتها، كآيات الرسل
التي أخبر الله تعالى بها، ومن دونها آيات أرضية لا يتضمن وقوعها ما يتضمنه
انشقاق القمر ورجوع الشمس بعد غروبها من مخالفة الكون العام، ومعارضة قول الله
تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) ، وقول رسوله صلى الله عليه
وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته) متفق
عليه، وذلك كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فمثل هذا يقبل في خبره
ما صح وإن لم يتواتر ويصير قطعيًا، ونحن إنما نذكر مثل هذه الدقائق لغرض
شرعي صحيح سنذكره بعد.
(و) الإشكال الأصولي الأعظم:
قد ثبت بآيات القرآن المحكمة الكثيرة القطعية الدلالة أن آية الله تعالى وحجته
على صحة نبوة خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها الكفار ولم
يحتج عليهم بغيرها، هي كتاب الله المعجز للبشر ولغيرهم من الخلق، وثبت
بالحديث الصحيح الصريح أيضًا فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء
نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي،
فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) رواه الشيخان والنسائي فقوله صلى
الله عليه وسلم (وإنما كان) من شرح تفيد الحصر، وقد تأولوه بأنه لما كان القرآن
أعظم معجزاته وأدومها كان غيرها منها كأنه غير موجود، ولا حاجة إلى هذا
التأويل إذا اشترط في المعجزة التحدي؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتحدَّ العرب
ولا غيرهم إلا بالقرآن، وقد بيَّن العلماء حكمة ذلك بما هو معلوم مشهور بناءً على
أنه هو أصل العقيدة القطعي الذي لا نزاع فيه، وثبت بالآيات المحكمة الكثيرة
القطعية الدلالة أن الكفار طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بآية من الآيات الكونية
التي أوتي مثلها الرسل على الإبهام، وأنهم اقترحوا عليه آيات معينة أيضًا فلم
يجابوا إلى طلبهم، وفي بعض هذه الآيات ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان
يحب هو وأصحابه أن يؤيده الله بآية مما اقترحوه لعلهم يؤمنون، وأن الله تعالى لم
يؤته ذلك بل بيَّن له في بعض تلك الأحوال أن طلبهم الآيات إنما يقصدون به
التعجيز، وأنهم لو أعطوها لا يؤمنون، وأن سنته قد مضت بأن ينزل عذاب
الاستئصال بكل قوم اقترحوا آية على رسولهم ولم يؤمنوا بإجابتهم إلى ذلك، وأمره
في أحوال أخرى بأن يخبرهم بأن الآيات عند الله وبيده وحده، وأنه هو بشر لا
يستطيع شيئًا مما لا يستطيعه البشر، إلا أن الله تعالى أوحى إليه ما أمره أن يبلغه
الناس من البينات: الهدى والإيمان، وصرَّح في بعضها بأن آيته الكتاب العزيز
المشتمل على آيات كثيرة في آية الله الكبرى، وصرَّح في بعض آخر ببعض تلك
الآيات فيه.
ففي سورة يونس {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ
فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 20) وفي سورة الرعد {وَيَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7)
وفيها {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (الرعد: 27) .
وفي سورة طه {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ
الأُولَى} (طه: 133) أي أخبار كتب الأنبياء في القرآن وهي إحدى معجزاته.
وفي سورة العنكبوت {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ
عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 50-51) .
وفي سورة الأنعام {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ
لَا يُنظَرُونَ} (الأنعام: 8) أي لقُضي الأمر بهلاكهم واستئصالهم، ثم لا ينظرون،
أي: لا يؤخَّرون ولا يُمهلون بعد نزوله.
وقال في سورة الإسراء {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} (الإسراء:
59) .
وقال في سورة الأنعام لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليًا إياه عن إعراضهم
ومؤيسًا إياه من إعطاء الآية الكونية المقترحة {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الأنعام: 35-37) .
ثم قال فيها مؤيسًا لأصحابه صلى الله عليه وسلم من إيمانهم إذا أوتوا آية
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 109-111) وليراجع من شاء تفسير كل ما ذكرنا من هذه الآيات التي في
سورة الأنعام في الجزء السابع وأول الثامن من تفسيرنا هذا وفي غيره.
بعد التذكير بهذه الآيات المحكمة القطعية كيف يمكننا أخذ رواية أنس بن مالك
رضي الله عنه في الصحيحين بالقبول؟ فنصدق أن المشركين طلبوا من النبي
صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر، ولم يدَّع غيره من رواة الحديث في
الصحيحين هذه الدعوى، مع العلم بأن روايته له مرسلة لأنه أنصاري كان عند هجرة
النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر سنين، وعند انشقاق القمر ابن خمس سنين في
المدينة، ولا يعلم أحد إلا الله ممن سمع هذا الخبر، واحتمال سماعه له من ابن
مسعود بعيد؛ لأنه لم يأت في شيء من الروايات الصحيحة عن ابن مسعود أن
المشركين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر شقتين حتى
رأوا حراء بينهما، وفي رواية عنه (مرتين) وهي غلط من الرواة كما بيَّنه ابن القيم
وابن حجر ويُراد بها الشقين، ولم يصح ذلك عن أحد ممن رووا عنه هذا الحديث؛
وإنما روى نحوه أبو نعيم في الحلية ببعض أسانيده الواهية عن ابن عباس رضي
الله عنه، وروى عنه ما يعارضه وهو أن الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يريهم آية ليؤمنوا فأراهم انشقاق القمر هم بعض اليهود، وهي رواية شاذة
على شدة ضعفها لم يقبلها أحد من العلماء الذين يقبلون الأحاديث الضعيفة في
الفضائل والدلائل لمعارضتها للأولى؛ ولأن مكة لم يكن فيها اليهود، وسورة القمر
مكية بالإجماع.
قال الحافظ في شرح حديثه في (باب انشقاق القمر) من البخاري: ولم أر
في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس فلعله
سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس
صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه
حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في الدلائل من وجه
ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب
والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا
فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق اهـ. والحافظ حجة في النقل ضعيف في
إيراد الاحتمالات وتوجيهها في الغالب ولا سيما الاحتمالات المؤيدة لما يراه صحيحًا
أو حسنًا في نفسه كالفضائل والمناقب، وما يُعد من دلائل النبوة منها أولى.
وأول ما يخطر في بال مستقل الفكر أن الذين رووا الحديث عن ابن مسعود
نفسه عند الشيخين وغيرهما لم ينقل أحد عنه أن انشقاق القمر كان إجابة لطلب
الكفار بآية من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك معارض لنصوص القرآن فكيف
نلصق به احتمال تحديث ابن عباس بذلك في رواية لم تصح عن ابن عباس، مع
أن رواية ابن عباس في الصحيحين مرسلة يُحتمل أن يكون سمعها من بعض
التابعين حتى كعب الأحبار الذي ثبت أنه روى عنه بعض إسرائيلياته في التفسير
وغيره.
هذا مجمل ما يُقال في رواية كون انشقاق القمر كان آية مقترحة من الكفار
خلافًا لما يقتضيه ما ذكرنا من آيات القرآن وما لم نذكر منها، ولم نر أحدًا من
العلماء عُني ببيان الإشكال والجواب عنه، إلا أن الخطابي قرر في مسألة انشقاق
القمر حكمة عدم بلوغ شيء من المعجزات المحمدية مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه
إلا القرآن بما حاصله كما تقدم عن الحافظ ابن حجر (أن معجزة كل نبي كانت إذا
وقعت عامة أعقبت هلاك من كذَّب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس،
والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية)
…
إلخ ما تقدم - هو تلخيص الحافظ لكلامه أو لما فهم أو أراد منه، على أنه لم يرض
منه إلا تعليله لمناسبة إيتاء كل نبي ما يناسب حال أمته من الآيات كما تقدم، ولكن
الشيخ عليًّا القاري نقل عبارته نفسها في شرحه للشفا وهي:
(قال الخطابي: الحكمة في وقوعها ليلاً أن من طلبها من الرسول صلى الله
عليه وسلم بعض من قريش فوقع لهم ذلك ليلاً، ولو أراد الله تعالى أن تكون هذه
المعجزة نهارًا لكانت داخلة تحت الحس قائمة للعيان، بحيث يشترك فيها الخاصة
والعامة - لَفَعَلَ ذلك؛ ولكن الله تعالى بلطفه أجرى سنته بالهلاك في كل أمة أتاها نبيها
بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا، وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها
عقلية، وذلك لما أوتوه من فضل الفهم بالنسبة إلى سائر الأمم، والله سبحانه وتعالى
أعلم) اهـ.
وهذه العبارة تفيد ما لم يفده تلخيص الحافظ لها؛ وإنما يلخص كل إنسان من
كلام غيره ما يفهمه مما يتعلق بغرضه، وما كل إنسان يفهم كل مراد غيره من
كلامه، وما كل ملخص يؤدي كل ما فهمه كما فهمه، وكل من العبارتين قاصر عن
تحقيق الحق في الموضوع، وقد بيناه في مواضع من تفسيرنا، ومنه أن الله تعالى
جعل آيته على صدق رسالة خاتم النبيين عقلية علمية دائمة لا تنقطع؛ لتكون حجة
قائمة على العقلاء ببقاء أمة الدعوة وأمة الإجابة أي إلى يوم القيامة؛ فإن الآيات
الكونية لا بقاء لها، ويحصل المراء في نقلها وفي دلالتها.
ومنه أنه مضت سنة الله تعالى بأن الأمة التي تقترح على رسولها آية، ثم
تكفر به بعد تأييد الله إياه بها؛ فإن الله تعالى يُنزل بها عذاب الاستئصال العام
عاجلاً لا عذاب المكذبين وحدهم، ولما كان خاتم النبيين قد أُرسل رحمة للعالمين
كان تعذيب قومه بعذاب الاستئصال منافيًا لهذه الرحمة ومستأصلاً لجميع البشر أو
لقومه في الجنسية النسبية وهم العرب عامة، لا من رآها منهم وكذَّبها خاصة، ولو
استأصل العرب، لما آمن بالقرآن شعوب العجم {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 198-199) وإنما
أعد الله لفهمه وفقه العرب، وقدَّر أن يكونوا هم الدعاة والهداة للعجم، بما يرون من
تأثير هدايته فيهم بالسيادة والعدل في الأمم، كما بيناه في فاتحة التفسير، فعبارة
الخطابي قاصرة، ومن الغريب أنه يزعم أن وقوع انشقاق القمر ليلاً يخرجه عن
كونه آية حسية، ليدفع به استشكاله بعدم نزول العذاب بهم لعدم إيمانهم بها، وهو
ما اشترطه هو دون غيره لعذاب الأمة إذا لم تؤمن عقب رؤية الآية، وهو زعم
مخالف للحس.
وجملة القول: إنه لو صح أن قريشًا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل
على صدق نبوته، وأن الله تعالى أجابهم إلى طلبهم فجعل انشقاق القمر آية كما هو
نص حديث أنس في الصحيحين وغيره في غيرهما - لعذب الله أمته أو قومه
باستئصالهم على حسب القاعدة الصحيحة الثابتة بالنص القطعي، أو لعذب من
رأوها وكذَّبوا بها على رأي الخطابي ومن وافقه؛ ولكن لم يُنقل أن الله تعالى عذَّب
أحدًا منهم عقب ذلك التكذيب، بل نُقل خلافه، وأن منهم من مات بعد ذلك، ومنهم
من قُتل ببدر بعد بضع سنين، ومنهم من آمن بعد إصراره على التكذيب بعد رؤيتها
بضع عشرة سنة كالنضر بن الحارث من مسلمة الفتح الذين شهدوا حنينًا وأعطاه
النبي صلى الله عليه وسلم مائة بعير تأليفًا له، وقيل إنه أخ له اسمه نضير
بالتصغير، وراجع الاسمين في الإصابة.
ومن غريب الذهول أن الحافظ ابن كثير لم يعرض لهذه المسألة في تفسير
أول سورة القمر، بل أورد حديث أنس وسكت عليه؛ ولكنه أشار إليها في تفسير
بعض الآيات الصريحة في عدم إجابة الكفار إلى ما كانوا يقترحونه على النبي
صلى الله عليه وسلم من المجيء بآية آية أو بآية معينة، قال في تفسير آية يونس
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} (يونس: 20) بعد أن أورد بعض الآيات
في معناها ما نصه:
يقول تعالى: إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عاجلتهم
بالعقوبة، ولهذا لما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن
آمنوا وإلا عذبوا، وبين إنظارهم - اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى إراشادًا لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى
الجواب عما سألوا {فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ} (يونس: 20) أي أن الأمر كله لله
وهو يعلم العواقب في الأمور {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس:
20) أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم،
هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلى الله عليه وسلم أعظم مما سألوا حين أشار
بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين: فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه،
وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا ومما لم يسألوا اهـ. المراد منه
وقد أورد بعده بعض الآيات الناطقة بأنهم سألوا ذلك عنادًا وتعنتًا، وأنهم لا يؤمنون
إذا أجيبوا إلى ما طلبوا، وإلى ما هو أعظم منه، وظاهر عبارته هنا في مسألة
انشقاق القمر أنه لم يكن عن طلب واقتراح منهم، وإلا كان مناقضًا لما قبله ولما
بعده من الآيات هنا، ولما قاله كغيره في تفسيرها في مواضع أخرى من التفسير.
وما ذكره (ابن كثير) من تخيير الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم هو
المروي فيما ذكر من اقتراحاتهم في سورة الإسراء (90 - 93) وقال في تفسير
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء:
59) أي نبعث بالآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك؛ فإنه سهل علينا، يسير
لدينا، إلا أنه كذَّب بها الأولون بعدما سألوها، وقد جرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم
لا يؤخرون إن كذَّبوا بها بعد نزولها
…
إلخ.
وقال البغوي في هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ} (الإسراء:
59) التي سألها كفار قريش {إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59)
فأهلكناهم، فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم؛ لأن من شأننا في الأمم
إذا سألوا الآيات، ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم، وقد حكمنا بإمهال
هذه الأمة في العذاب فقال تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 46) اهـ. وتكررت أقوال المفسرين بهذا المعنى في تفسير الآيات الكثيرة
التي ذكرنا بعضها في أول بيان هذا الإشكال.
فهذه أدلة قطعية إجماعية على بطلان متن حديث أنس رضي الله عنه المرسل
الصحيح السند الذي لم يجد الحافظ ما يقويه به على سعة اطلاعه إلا حديث ابن
عباس عند أبي نعيم الذي اعترف بضعفه، وأقول إن في سنده عنده بكر بن سهل
وكان يروي الموضوعات وهو من طريق الضحاك عن ابن عباس، واتفقوا على
أنه لم يره فهو منقطع، وضعفه بعضهم، وطريق ابن جريج عن عطاء عنه وابن
جريج مشهور بالتدليس، فلا تقبل عنعنته بالاتفاق، دع ما تقدم من إرساله وبطلان
متنه.
وإذا بطل كون الانشقاق كان آية طلبها كفار قريش فأُعطوها زال السبب الذي
جعل أكثر العلماء الذين تكلموا في المسألة شديدي الحرص على تصحيح الحديث؛
حتى تجرأ بعضهم على ادعاء تواتره والإجماع عليه، ورد الأكثرون هاتين
الدعويين، ولله الحمد أن أكرمهم بعدم قبول مثلهما، وقد كان من حرص بعضهم
على تصحيحه - مع الغفلة عن معارضة القرآن لكونه آية مقترحة - أن طعنوا في
دين من أنكر صحته وأبى تفسير الآية الكريمة به وعدوهم من المبتدعين، وإن كان
لهم سلف من أكبر علماء التابعين، كعادتهم في نبز كل من خالف المشهور أو
الجمهور في كل زمن بلقب الابتداع، ولو تذكروا آيات القرآن الكثيرة المعارضة له
لما حرصوا كل هذا الحرص على تصحيح ما يخالفها، بل لما استحلوه، وإلا كانوا
أحق بلقب الابتداع ممن رموهم به، أو بما هو شر منه، وإن كان إكبارًا لآية
انشقاق القمر التي تصغر وتتضاءل دون كل آية من آياته، فإن نوره أقوى وأوضح
من نور الشمس التي يستمد القمر نوره منها، على أنهم لم يجدوا بدًّا من تصغير
هذا الانشقاق في سبيل دفع الاعتراضات عليه، حتى قال بعضهم: إنه وقع في آخر
الليل في لحظة من الزمان؛ ولذلك لم يره إلا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم
في تلك اللحظة، وأي برهان على النبوة في مثل هذه اللحظة من آخر الليل أو أوله
أو وسطه؟ وكل إنسان يتهم نظره في مثلها، وإن لم يكن ثمة تهمة في أنها من
تخييل السحر، وقد وقع مثلها للحليمي وغيره كالثقة الذي حدثه بمثل ما رأى؟
وأما معارضة جملة هذه الروايات بما استشكله العلماء ونقلناه عنهم مع
أجوبتهم والبحث فيها، فالذي نقرره فيها أن من قبل تلك الروايات في أن القمر قد
انشق ومن لم يقبلها لعدم اقتناعه بتلك الأجوبة عن تلك الإشكالات، سواء في كون كل
منهما لم يرد به شيئًا من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا مما صح من حديثه.
(فإن قيل) إننا رأيناك ذكرت كل الروايات عن أولئك الصحابة الكرام في
حديث انشقاق القمر إلا حديث علي رضي الله عنه فلم تذكر لنا لفظه ولا سنده لنعلم
درجته ودلالته فما سبب ذلك؟ (قلت) إنهم ذكروا اسمه كرَّم الله وجهه في رواته؛
ولكننا لم نر أحدًا منهم ولا من غيرهم ذكر لفظه ولا ذكر من خرَّجه لنراجعه في كتابه
إن كان من الكتب المشهورة المتداولة؛ ولكننا رأينا في شرح الشفاء لملا علي القاري
عند ذكر المتن لعلي في رواته ما نصه: قال الدلجي: لا يعرف مخرِّجه اهـ.
(ز) الخلاصة الأصولية لأحاديث انشقاق القمر:
خلاصة القول في أحاديث انشقاق القمر (1) أنها أحادية لا متواترة (2)
وأنها متعارضة مختلفة، لا متفقة مؤتلفة (3) وأنه ليس فيها حديث مرفوع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم كالأحاديث الناطقة بخصائصه (4) وأنه ليس في
الصحيحين منها إلا حديث واحد مسند إلى من صرح بأنه رأى ذلك، وفيه من
الاختلاف ما أشرنا إليه في محله؛ ولكن ليس فيه أن انشقاقه كان بطلب من كفار
مكة (5) وأن حديث أنس الذي صرَّح فيه بذلك مرسل، والأصل في المرسل أنه
من المردود غير المقبول، على ما فيه من التفصيل المشهور، ورواياته عندهما
كلها عن قتادة بالعنعنة، إلا لفظ للبخاري (عن قتادة عن أنس أنه حدثهم أن أهل
مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر) وقتادة كان على فضله
وسعة حفظه مدلسًا، فيحتمل أن يكون سمع هذا الخبر عن أنس ممن لا يوثق به،
وكلمة (حدَّثهم) ليست في قوة (حدَّثنا وحدَّثني وسمعته) وما في معناهن، وكما
يحتمل أن يكون قتادة رواه عن أنس بواسطة يحتمل أن يكون أنس سمعه ممن لا يوثق
به من التابعين أيضًا كما تقدم (6) وأنه على ذلك معارض بنص القرآن وسنة الله في
الرسل وأقوامهم، والحديث المرفوع المتفق عليه في حصر آية نبوته صلى الله عليه
وسلم في القرآن كما تقدم.
وغرضنا من هذا أن ما دلت عليه الدلائل القطعية من الآيات الكثيرة والحديث
المتفق عليه في حصر آية نبوته في الوحي الذي أوحاه الله تعالى إليه وهو القرآن لا
تقتضي الطعن في صدق أنس ولا في صدق قتادة لما ذكرنا من الاحتمال، وهي
مقدمة على مضمون حديثهما على كل حال، بل لو وجد فيها حديث صحيح السند
مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكانت مقدمة عليه عند عدم إمكان الجمع بينها
وبينه، وكان هذا دليلاً على أنه موضوع في الواقع، وإن عدَّلوا رجال سنده في
الظاهر.
وإذا لم يصح هذا الحديث الذي انفرد به أنس في مراسيله على تقدير سماع
قتادة منه فسواء عندنا أصحَّ غيره مما رووه في انشقاق القمر أم لا، فإن غرضنا
الأول من هذا البحث كله أنه لا يوجد فيها حديث صحيح مخالف للقرآن، لا لأجل
المحاماة عن القرآن؛ فإن القرآن فوق كل شيء، وكل ما خلافه فهو باطل قطعًا،
وإنما غرضنا الدفاع عن أنس فقتادة ثم عمن روى عنهما ما ذكر وسكت عليه، ولا
يهمنا بعد هذا أمر من قبل الرواية واحتج بها وجعلها من دلائل النبوة، لغفلتهم عن
هذه الحقائق القطعية.
(ح) تفسير الآية:
إن لعناية المفسرين وغيرهم بتصحيح الروايات في انشقاق القمر سببين
(أحدهما) تكثير دلائل النبوة بالمعجزات الكونية كما تقدم (وثانيهما) تفسير
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) بها، وأن أكثرهم ليتجرد من كل فهم
ورأي وعلم باللغة وغيرها أمام ما دون هذه الرواية في تعدد طرقها، وجلالة رواتها،
كما ترى في تفسير محيي السنة البغوي فمن دونه في العلم بالرواية خضوعًا
وتسليمًا لكثير من الروايات الإسرائيلية الواهية والموضوعة.
فإذا أنت رجعت إلى لغة القرآن في معاجمها لتفهم الآية منها دون هذه
الروايات وجدت في لسان العرب ما نصه: والشق: الصبح، وشق الصبح يشق
شقًّا: إذا طلع، وفي الحديث (فلما شق الفجران أمرنا بإقامة الصلاة) يقال شق الفجر
وانشق: إذا طلع، كأنه شق موضع طلوعه وخرج منه [1] وانشق البرق وتشقق:
انفلق، وشقيقة البرق: عقيقته وهو ما استطار منه في الأفق وانتشر اهـ. فعلى هذا
يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق
ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر، وقال الراغب في مفردات القرآن:
(وانشق القمر) قيل: انشقاقه في زمن النبي عليه السلام، وقيل: هو انشقاق
يعرض فيه حين تقرب القيامة، وقيل: معناه: وضح الأمر اهـ. ونقله عنه صاحب
التاج، وهذا الأخير هو المتبادر من الآية بنص اللغة ومعونة السياق؛ لأن صيرورة
القمر شقتين منفصلين لا دخل لها في إنذار المشركين الذي هو موضوع السورة، ولم
يسبق أن عد من آيات الساعة كانشقاق السماء وانفطار الكواكب، فلم يبق إلا أنه
بمعنى ظهور الحق ووضوحه بآيات القرآن.
والقول بأن معناه أنه سينشق عند قيام الساعة مروي عن الحسن البصري
وعن عطاء من التابعين، والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي في القرآن كثير
جدًّا في أخبار الساعة والآخرة وغيرهما، وأخرج الطبراني وابن مردويه من
طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا: سُحر القمر، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1)
إلى قوله (مستمر) فهذه رواية ثالثة حملها بعضهم على انشقاق القمر وهو بعيد.
وقد رد الآلوسي هذه الوجوه اللغوية أو بعضها بقوله: وزعم بعضهم أن
انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه، وهذا كما يسمى الصبح فلقًا
عند انفلاق الظلمة عنه، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قول النابغة:
فلما أدبروا ولهم دوي
…
دعانا عند شق الصبح داعي
وزعم آخر أن معنى انشق القمر: وضح الأمر وظهر، وكلا الزعمين مما لا
يُعَوَّل عليه ولا يُلتفت إليه، ولا أظن الداعي إليهما عند من يقر بالساعة التي هي
أعظم من الانشقاق، ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق - سوى عدم
ثبوت الأخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده، ومنشأ ذلك
القصور التام، والتمسك بشبه هي على طرف الثمام. ومع هذا لا يكفر المنكر بناء
على عدم الاتفاق على تواتر ذلك، وعدم كون الآية نصًّا فيه، والإخراج من الدين أمر
عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق اهـ.
وقد فاته قول أهل اللغة: انشق البرق وانشق الصبح بمعنى طلع القمر،
وبمعنى استطار نوره وانتشر في الأفق، ومثله القمر في ذلك، فما أنكره وسماه
مزاعم هو من نصوص اللغة، وما صَرَفَه هو عنها إلا اغتراره بالروايات في كون
الانشقاق كان آية معجزة اقترحها الكفار فأجيبوا إليها، ومنشأ ذلك غفلته عن كون
الحديث في ذلك مرسلاً شاذًّا عن مدلس، وكونه مع هذا معارَضًا بنصوص القرآن
القطعية وما يؤيدها من الأحاديث المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في كون آيته التي جعلها الله تعالى حجة نبوته وأمره بالتحدي بها في جملتها تارة،
وبعشر سور مثله وبسورة من مثله، وبالاحتجاج ببعض ما اشتملت عليه تارات
أخرى - هي القرآن وحده، وما كان صلى الله عليه وسلم يرجو بهذا أن يكون أكثر
الأنبياء تابعًا يوم القيامة، إلا لأن هذه الآية أعظم وأظهر وأبهر وأقهر من كل آيات
الأنبياء إجمالاً وتفصيلاً، وقد فهم هذا المعنى وأدرك هذه الحجة بعض حكماء
الإفرنج، فصرَّح بأن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن كانت أقوى من كل
معجزات الأنبياء جذبًا إلى الإيمان.
وقد زعم الآلوسي وغيره أن قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 2) حجة على أن المرد بالآية انشقاق القمر، ولو كان
كذلك لقال: فأعرضوا وقالوا: سحر مستمر، وأما الشرط فللاستقبال أو لبيان الشأن،
ولا علاقة بين انشقاق القمر ودعوى النبوة، فيكون آية عليها، ولفظ الآية يُطلق في
القرآن على كل ما يدل على وجود الله ووحدانيته في ربوبيته وألوهيته وقدرته
ورحمته وحكمته، وعلى ما يؤيد به رسله، وأكثر ما يذكر فيه الإعراض عن
الآيات في القرآن يُراد به هذه الدلائل أو آيات القرآن، كقوله تعالى في النوع الأول:
{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف: 105) وقوله في النوع الثاني: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَاّ
كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4) وأما قولهم {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 2)
فأول ما قالوه في القرآن وهو ما حكاه عنهم في سورة المدثر {إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ
يُؤْثَرُ} (المدثر: 24) وهي ثالث سورة نزلت بمكة أو الرابعة على القول بأن
الفاتحة أول ما نزل، وفي معناها آية سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ
إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (سبأ: 43) وآية الزخرف: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا
هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 30)
وإنك لترى أوائل سورة الأنبياء بمعنى أوائل سورة القمر وهي: {اقْتَرَبَ
لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَاّ
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء: 1-3) .
(ط) تأييد الإسلام في هذه المسألة وأمثالها:
إننا نختم هذا البحث بتنبيه قراء المنار لأمر عظيم الخطر والشأن، وهو أن
العلماء الذين تساهلوا بقبول روايات انشقاق القمر وجعلها آية كونية حسية جعلت
حجة على كفار مكة عندما اقترحوها، وتمحلوا في الأجوبة عن الاعتراضات
العقلية الأصولية عليها، فجاءوا بما لا يقبله العاقل المستقل - إنما حملهم على ذلك
حب تكثير المعجزات النبوية كما تقدم وتفنيد منكريها؛ لأن العوام يفهمون من
إعجازها ما لا يفهمون من إعجاز القرآن، وقد تغيرت الحال في هذا الزمان الذي
كثر فيه استقلال الفكر ورفض التقليد في أكثر المتعلمين، فصارت هذه الروايات
تعد طعنًا في علم المسلمين وعلمائهم، ويخشى أن تعد طعنًا في الإسلام نفسه،
والحق أنها ليست من أصول الإسلام ولا من فروعه، فأصول العقائد الإسلامية لا
تثبت إلا بدليل قطعي، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين، والدليل القطعي إما
عقلي وإما نقلي، والنقلي هو النص القطعي الدلالة عن الله ورسوله، والآية ليست
قطعية الدلالة على كون الانشقاق هو صيروة القمر فلقتين منفصلة إحداهما عن
الأخرى، كما اعترف بذلك الذين فسروها بذلك وآخرهم الآلوسي، وقد بيَّنا نحن أن
دلالتها على ما ذكر مرجوحة، فما كانت لتخطر على بال أحد لولا تلك الرواية
المنقوضة بنص القرآن والحديث المرفوع المتفق عليه، وسائر الروايات ليس فيها
شيء يصلح لتفسير الآية به إلا من وجه بعيد لا يعد نصًّا ولا ظاهرًا فيه، وهو عد
انشقاق القمر من علامات قرب الساعة بالتبع للآيات في انشقاق السماء وانفطار
الكواكب أو الدخول في عموم الثاني، إذ لم يذكر القمر في آيات الساعة إلا في قوله
تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة:
7-
9)
…
إلخ.
ومن الدفاع عن الإسلام وعلماء المسلمين بحق أن يقال لهؤلاء المستقلين في
الفكر أن الإسلام لا يكلفكم أن تؤمنوا برواية انفرد بها قتادة المدلس عن أنس في
خبر قد علم باليقين أنه لم يُحدِّث فيه عن رؤية ومشاهدة، بل عن سماع من مجهول
يجوز أن يكون كاذبًا، ولا يكلفكم الإسلام أن تؤمنوا بأن الأصل في مرسل
الصحابي أن يكون مقبولاً؛ لأن هذا إنما يكون عند قائليه فيما لا اعتراض ولا علة
في متنه ولا شذوذ، وحديث أنس خالف جميع الروايات عن غيره، بل الإسلام
ينهاكم أن تقبلوا حديث أي إنسان عن صحابي وغيره يخالف نص القرآن، وسنن
الله في الأكوان.
ومن اطمأنت نفسه من المسلمين بقبول سائر تلك الروايات على علاتها وكان
ممن يرى مخالفة النقل القطعي والعقل، أهون من مخالفة زيد وعمرو، وصدق
عقله أن تقع هذه الآية ولا يحدث أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من قدماء
الصحابة برؤيتها والاحتجاج بها فضلاً عن تواترها - فليس له أن يجعلها من عقائد
الإسلام، وينفِّر مستقلي الفكر ومتبعي الدليل من المسلمين وغير المسلمين منه.
(ي) ذيل في مسألة الثقة بالروايات:
قد يحيك في صدور بعض الناس - بعدما تقدم - مسألة الثقة بالروايات وعدم
الثقة بها، يقول بعض الناس: إذا بطلت الثقة بهذه الروايات في هذه المسألة على
كثرتها، بطلت الثقة بسائر روايات كتب السنة في غيرها.
ونقول لهذا القائل (أولاً) إن تحقيق الحق بالدليل هو مقدَّم في الإسلام على
توثيق الرواة وتقليد العلماء (وثانيًا) إن كثرة هذه الروايات إلى قلة بعدما علمت
من اضطراب أسانيدها ومتونها وعللها، ورب حديث واحد مروي من طريق واحد
أقوى دلالة منها، كحديث (إنما الأعمال بالنيات) مثلاً، فجملة القول: إن عدم الثقة
بها لا يقتضي عدم الثقة بغيرها؛ وإنما يقتضي أن في كل ما عدا القرآن من الكتب
مسائل تحتاج إلى التمحيص مصداقًا لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82)(ثالثًا) إن جملة
الروايات إنما تدل على أن بعض الصحابة وبعض الكفار رأوا القمر قد انشق فصار
فرقتين في لحظة من الزمان، ولا ضرر في تصديق ذلك مهما يكن سببه؛ وإنما
الضرر أن يجلوه آية مقترحة جعلها الله حجة على صحة نبوة رسوله صلى الله عليه
وسلم، وأنه يجب على كل مسلم أو كافر يريد الإسلام أن يؤمن بذلك {وَاللَّهُ يَقُولُ
الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
_________
(1)
نقل صاحب اللسان هذه العبارة في تفسير الحديث عن النهاية في شرح غريب الحديث.
الكاتب: شكيب أرسلان
ترجمة جديدة للقرآن الكريم
رسالة للأمير شكيب أرسلان
من المستشرقين الكبار الذين يليق ذكرهم ويصح الاستشهاد بأقوالهم الأستاذ
إدوار مونته Montet Edouard مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، وهو
مشهور بين الاوربيين من جميع الأجناس، فتجد مؤلفيهم يستشهدون بكلامه في
المسائل الشرقية والإسلامية ويقدرون آراءه قدرها.
والأستاذ مونته هو من القسم المنصف بين المستشرقين لا يتحامل على
الإسلام، ولا يقصد في مباحثه إظهار عورات ومثالب للإسلام كما يفعل غيره، بل
يحاكم عقيدة الإسلام وتاريخ الإسلام، وكل شيء عائد للإسلام محاكمة من ينظر إلى
الأشياء كما هي لا كما يخيلها الوهم، أو كما يصورها الضلع، مما هو دأب كثير
من الأوربيين الذين يخوضون في هذه المباحث وصدورهم ملأى بالضغن وسوء
النية، وليس المسيو إدوار مونته مع ذلك بمسلم ليقال إنه في أحكامه وآرائه هذه
متأثر بالتربية الدينية الإسلامية، أو إنه اقتنع بالإسلام فاتخذه دينًا، وأصبح لا يجد
فيه عيبًا ولا يقبل عليه مطعنًا، لا إن المسيو مونته لم يتخذ الإسلام دينًا، وربما
كان غير معتقد بكل ما في النصرانية أيضًا، فهو يقول فيهما آراءه بكل صراحة،
ويحسِّن منهما ما يراه بحسب نظره هو حسنًا وينتقد ما يراه خليقًا بالانتقاد، وقد
بدرت منه انتقادات ومؤاخذات في كلامه على تاريخ الإسلام تدل على كونه غير
دائن بدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكنها تدل أيضًا على أنه غير مضمر سوءًا
ولا متعمد ثلبًا، ولهذا آثرنا أن ننقل بعض كلامه لأنه لا يمكن أن يؤتى من قبل
تعصب للإسلام، ولا أن يقال عنه: إنه مسلم يدافع عن عقيدته.
وقد نضطر إلى تصحيح بعض معلومات ناقصة جاءت في كلام الأستاذ
المذكور أو إلى بيان رأينا في المسائل التي تختلف وجهتنا عن وجهته فيها.
فمن الكتب التي صنفها الأستاذ إدوار مونته كتاب جليل اسمه الإسلام
Lislam أخرجه سنة 1923، وطالعناه وأشرنا على مواضع كثيرة منه لنقلها إلى
اللسان العربي، وكانت تعوقنا عن ذلك كثرة الأشغال. وكتاب آخر أخرجه في
السنة الماضية يحتوي على ترجمة القرآن المجيد بتمامه إلى اللغة الفرنسية طالعنا
جانبًا منه، وقابلنا الترجمة بالأصل فوجدنا الترجمة حَرِيَّة بأن توضع في الطبقة
الأولى من تراجم القرآن الكثيرة، وقد صدَّر الأستاذ مونته هذه الترجمة القيمة
بمقدمة نفيسة سننقل إلى قراء المنار عدة أنموذجات منها، وها أنذا أنشر الترجمة
الحرفية لديباجة مقدمته لها كما يلي:
(القرآن في الحقيقة هو ذو قيمة خارقة للعادة، فهو بين الكتب الدينية من
أعظمها شأنًا، وهو يشتمل على الحياة الروحية لقسم من النوع الإنساني يقدَّر
بمائتين وخمسين مليونًا على الأقل، ومن أهم ما في القرآن استقاؤه من المنابع
اليهودية والمسيحية: التوراة العبرانية والتقاليد اليهودية من جهة، والإنجيل
والتقاليد النصرانية من أخرى [1] .
فالعقيدة القرآنية إذًا هي ذات علاقة وثيقة مع العقيدة اليهودية والعقيدة
المسيحية، والآثار التاريخية اليهودية المتعلقة بالأنبياء والآباء، وكذلك الآثار
النصرانية المتعلقة بالمسيح هي موضوع صفحات عديدة من القرآن، فهذا التشابه
في الفكرة الدينية بين الإسلام والنصرانية هو واصل إلى الحد الذي لا يفهم معه
الإنسان لماذا وُجد المسيحيون والمسلمون أعداء إلى هذه الدرجة [2] مدة هذه الأعصر
الطويلة، وقام بعضهم على بعض بمصارعات هي في الواقع مصارعات إخوان
لإخوان؛ لكنها صبغت القرون الغابرة بالدم الغزير.
على أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا الاتحاد في أصليْ الإسلام والنصرانية أن
الإسلام القرآني فاقد للاستقلال، وأنه ليس ذا صفة خاصة أصلية، فالأمر بالعكس
والإسلام دين لا يمكن خلطه مع دين آخر من الأديان السامية، فهو دين سامي تحت
صورة عربية خاصة تتجلى فيه روح اللغة العربية.
ولا ينبغي لقارئ القرآن أن يُعجب من التكرار الذي يجده فيه؛ فإن مثل هذا
التكرار معهود في أعظم الكتب الدينية مثل التوراة ومثل كتاب الاقتداء بالمسيح
الذي هو الغذاء الروحي للنفوس المسيحية [3] والقارئ يجد في القرآن صفحات في
غاية الإبداع سواء من جهة الفكر، أو جهة القالب الذي وُضع فيه الفكر، وكذلك
يجد فيه لآلئ فريدة في علم الروح معروضة في آيات هي أعلى ما يمكن من
الأسلوب الشعري [4] ، وهو فيه أسلوب قائم بذاته، وفي القرآن منازع دينية ذات
سعة مدهشة لا سيما بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه ذلك المصلح العربي،
فالإبداع يتلألأ في هاتيك القطع الباهرة تلألؤ الكواكب الكبرى، ولا غرو أن ينظر
إليها القارئ كمثال أعلى للأسلوب الشعري الشرقي.
ومما يجعل للقرآن هذه الأهمية أنه الكتاب الديني للأمم الإسلامية التي تمثل
في شرقي أوربة، وفي العالم الآسيوي وفي ماليزيا وفي أفريقية دورًا ليس مهمًّا
وحسب، بل دورًا ذا صلة شديدة بالأمم الغربية المسيحية.
وتظهر عظمة هذا الدور بزيادة في المستعمرات الأوربية التي هي في مختلف
أقسام العالم الشرقي والأفريقي، وفي البلدان التي تحت الحماية الأوربية والبلدان
التي تحت الانتداب المتولد من الحرب الكبرى.
فأوربة مكافلة في وجودها اليومي للأمم الإسلامية التي هي تحت حكومتها،
أو هي ذات علاقة شديدة معها، ولقد ثبت هذا الأمر ثبوتًا كل أحد يعلم مقداره في
الحرب العالمية من 1914 إلى 1918.
وأخيرًا نقول: إن الذي يجعل للقرآن هذه الأهمية الخاصة التي نشير إليها هو
المستقبل المدَّخَر للشعوب الإسلامية، إذ لا ينكر أن مستقبلاً فخمًا ينتظر هذه
الشعوب على مقدار ما يقتبسون من الحضارة الأوربية.
فتركيا وسورية وبلاد العرب وفارس وأفغانستان وشعوب شمالي إفريقية،
والثمانون مليون مسلم الذين في الهند الإنكليزية، والثلاثون مليون مسلم الذين في
الصين، والشعوب الإسلامية التي لا تكاد تحصى في ماليزيا (جاوى، سومطره
…
إلخ) هي كلها على مراحل متفاوتة من قبول الحياة الاقتصادية والصناعية والفكرية
التي عليها أوربة.
وإن هذه النتيجة قد تكون غير منتظرة عند من يجهل هذه الأمم، أو من لم
يقدر أن يفهمهما حق الفهم، أو لم يُوفق لفهم عقيدتها التوحيدية التي هي أعلى
صورة روحية وُجدت في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الآرية) انتهى.
ولا بد لنا أن نعقب على هذه الديباجة ببعض ملاحظات، منها أن المؤلف قال
عن عدد المسلمين أنه 250 مليونًا على الأقل، ولقد أصاب جدًّا في قوله (على
الأقل) لأن المسلمين على التحقيق يزيدون على 300 مليون نسمة، وربما كانوا
330 مليونًا، وأما قوله (إن للمسلمين مستقبلاً عظيمًا على قدر ما يقتبسون من
الحضارة الأوربية) فليس معناه ما تذهب إليه ملاحدة تركيا وما يقلدهم فيه هذا النفر
القليل الملحد المتفرنج في مصر والعراق وسورية من أنه يجب عليهم نبذ التعليم
الديني الإسلامي، وأن يستبدلوا به تعليمًا لا دينيًّا مارقًا من كل صبغة دينية إسلامية،
لا، هذا لم يخطر ببال الأستاذ العلامة مونته، ولا هو من أبحاثه في كثير ولا قليل،
ولو كان هذا مقصده لما كان معجبًا إلى ذلك الحد بأكثر مبادئ الإسلام وأصوله،
ولما كان ألف فيه هذه التآليف الممتعة، ولما قال (إنه أعلى صورة روحية وجدت
في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الأم الآرية) (أي الأوربية) .
وإنما كان مقصد الأستاذ مونته العلوم الاقتصادية والصناعات التي تفوقت بها
أوربة اليوم، والأساليب الصحيحة التي تسير عليها في حضارتها، وهذه يندب
شرعًا الاطلاع عليها والتحقق بها، حتى لا يفوت المسلمين شيء من أسباب القوة
والمنعة، وحتى لا يكونوا مقصرين فيها عن شأو أعدائهم أو أندادهم، وهي لعمري
مما يقترن بالتعليم الديني الإسلامي، بل مما تزداد الرغبة فيه بقوة هذا التعليم
وتأثيره، كما أن الأمم الأوربية واليابانية قد بلغت هذه المبالغ القاصية من هذه
العلوم الحديثة والصناعات الناشئة عنها، ولم تزل متمسكة بأديانها وعقائدها، ولم
يبرح التعليم الديني عندها سائرًا جنبًا إلى جنب مع التعليم الطبيعي، والروح فيها
متآخية مع المادة.
…
...
…
...
…
... لوزان 9 أكتوبر 1929
…
... شكيب أرسلان
_________
(1)
المنار: إن جميع المسلمين يخالفون المترجم في هذا الرأي، ويؤمنون بأن جميع ما في القرآن من عقائد اليهود والنصارى وأحوالهم وتاريخهم هو وحي من الله تعالى وافق ما عندهم من الحق، وأبطل ما ابتدعوا من الباطل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا هو وقومه كما قال تعالى:
[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا](هود: 49) .
(2)
سبب هذا نزعة الحرب الصليبية التي أشعلت نارها الكنيسة الكاثوليكية، ولا تزال تراعى في التربية العامة في مدارس أوربة وبيوتها كما صرح به الدكتور غوستاف لوبون الحكيم الفرنسي
الشهير، وقد وجد الساسة الاستعماريون أن في مصلحتهم بقاء هذه النار مستعرة.
(3)
المنار: لا ترسخ العقائد ولا الآراء العامة في الأنفس إلا بتكرار ورودها عليها والتكرار في القرآن من أساليب بلاغته المعجزة للبشر كما هو مبين في محله.
(4)
المنار: يريد الكاتب بالأسلوب الشعري التعبير المؤثر في النفس من التشبيه والتمثيل والاستعارات الجميلة والكنايات اللطيفة لا صناعة نظم الشعر التي نزَّه الله القرآنَ والنبي عنها.
الكاتب: زكي كرام العربي الدمشقي
قواعد الصحة في الإسلام منذ 1348 سنة
وقواعد الصحة في أوربا بعد 1348 سنة
بقلم الدكتور زكي كرام العربي الدمشقي في برلين
وتصحيح المجلة
ذهب بعض أدعياء العلم إلى أن العلة الوحيدة التي حرَّم الإسلام من أجلها أكل
لحم الخنزير هي عدم وجود مجاهر (آلات مكبرة للأجرام) لفحص جرثومة
الخنزير المسماة باللاتينية (تريخينا سبيرالي)(Spirali Trechina) وتسميها
العوام على الإطلاق تريخين، معناه بالعربية (الدود الشعري) وقد ادعت تلك الفئة
المضللة، التي هي لكل حرام - بل لكل مضر - محلِّلَة أنه لو وُلد عليه الصلاة
والسلام في الممالك الباردة لما منع شرب الخمور! وبهذه الأضاليل والترهات
يريدون أن يضلوا عباد الله، بتجرئتهم على ما حرَّم الله.
وقبل أن نخوض في البحث العلمي نقول: إذا كانت حكمة الإسلام في تحريم
لحم الخنزير هي عدم وجود مجهر لفحص اللحم والتريخين من الخنزير، فهذا لعمري
من قول الحق [1] الذي يؤيد رسالة هذا النبي العظيم، وبأنه لا ينطق عن الهوى؛
وإنما هو وحي يوحى.
إنني ممن يؤيد تلك القواعد والأوامر والنواهي السامية لانطباقها على العلم
والمنطق، وعليه أقول مع ذلك: إنه لو كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مجهر
أو لو كان لهذه الدودة القتالة علائم تظهر على الحيوان الموجودة فيه، فيتجنبه
الناس لما كان ذلك كافيًا لإباحة أكل لحم الخنزير حتى الخالي من تلك الدودة، فثم
أسباب صحية أخرى لتحريمه، فقد أثبت علماء هذا الفن من أطباء العصر أن
المنهمكين المواظبين على أكل لحم الخنزير يصابون بتشحم القلب والكبد، وبالتشحم
العام أيضًا، ومرض التشحم القلبي والكبدي والتشحم العام ومضراته معلومة لدى
الجميع، فنضرب عن بيانه صفحًا ونكتفي بما دلت عليه الإحصاءات الأمريكية
والاستقراءات الطبية بألمانيا من توقف حفظ الصحة على الكف عن أكل لحم
الخنزير؛ لأن ذلك التشحم هو السبب لموت الكثيرين في عنفوان الحياة، وسن
الرجولية الحقيقية من 40-50.
وإليك أيها القارئ نسبة الوفيات التي تثبت هذا المُدَّعى:
قرر البروفسور غرافه في مستوصفه الخاص، وكذا الإحصاءات الأميركية
أننا لو قسمنا الذين في سن الأربعين إلى سمين ونحيف لوجدنا أنه لا يصل إلى سن
الستين من السمان أكثر من ستين في المائة، ومن النحفاء أقل من تسعين، وأما الذين
في الخمسين فلا يصل من السمان منهم إلى الستين أكثر من 30 في المائة، ويقابل
ذلك 50 في المائة من النحفاء، وإذا انتقلنا في هذه النسبة إلى سن الثمانين نرى أنه لا
يصل إليها إلا 10 في المائة من السمان، يقابلهم 30 في المائة من النحفاء، فلهذا
ينصح الأطباءُ العقلاءَ بالكف عن أكل لحم الخنزير الذي هو أعظم الأسباب لعلة
التشحم.
الخمور
وأما الخمور فقد كنت كتبت منذ بضع سنين شيئًا في مضارها، وبما أني
رأيت أن الوقت بحاجة إلى مواصلة البحث والتنقيب فسأنتهز إن شاء الله كل فرصة
أغتنمها من وقتي الضيق لبيان مضرات هذه الآفة، وأرى من الضروري الآن أن
أكتب كلمة في الموضوع الذي أنا بصدده، فأقول:
مضرات الخمر ثبتت للعالم الفني العلمي الذي يتوسل بكل ما لديه لإفهام
الشعوب مضراتها ليستريح البشر مما يعانيه من تلك الآفة، إن كثيرًا من التجار
الفجار، ومن الجواسيس المناحيس، ومن اللصوص الأفاكين، ومن الجناة
المحتالين، لا يفتكون بحياة صيدهم أو عدوهم وهو (الفكر الصحيح) ولا يأخذون
منه بحق أو باطل إلا بالخمر، فالحرارة التي يحدثها الكحول المؤثر في الخمر لا
تدوم إلا ثواني أو دقائق يعقبها برودة لا يتحملها الجسم، فيتطلب الحرارة مرة
أخرى بالشرب، ولا يلبث أن يعقبه رد الفعل، وهكذا تكون الحرارة بين طلوع
ونزول إلى أن يغمى على المدمن، ولا يعرف أين هو وما تجني يداه من الآثام،
وكثيرًا ما يصفون الكحول للمصابين بالحمى، فيشعر المريض بعد بضع ثواني من
تعاطيه بسقوط الحرارة؛ ولكن هذا الشعور ليس ناشئًا عن سقوط درجة الحرارة
سقوطًا حقيقيًّا، بل هو شعور كاذب يُحْدِثه الكحول.
وأما النشوة التي يتلذذ بها المدمن فسببها طروء خلل على وظائف الخلايا،
ونتيجة الاستدامة على تعاطي تلك الآفة هي الجنون أو ما دونه من اختلال العقل،
وكثيرًا ما تحدث أمراضًا تحار الأطباء في تشخيصها، ولذا نرى أوربة اليوم
تحاول اتخاذ وسائل تدريجية لإنقاذ الشعب من هذه الآفة، كما أن الإسلام حرَّم
الخمر تحريمًا تدريجيًّا بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء:
43) وقوله فيها وفي القمار: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) ولما
اعتاد بعض المسلمين تركها في بعض الأوقات، وبعضهم تركها ألبتة، بعد ذلك
نزلت آية التحريم القطعي {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) وأوربا
بدأت اليوم بمنع الخمر منعًا تدريجيًّا (أي بعد أن منعتها الولايات المتحدة الأمريكية
منعًا عامًّا قطعيًّا) وبصورة اختيارية مبنية على حفظ الصحة.
وإليك أيها القارئ نشرات صحية تصدرها جميعات الألعاب الرياضية بأوربا:
جاء في مقدمة نشرة جمعية السباحة المسماة (ويكينجربوته) ما نصه: يجب
على الذي يريد أن يشترك في السباق، ويكون من أبطاله أن يعتني قبل كل شيء
بصحته، ويكون صحيح الجسم، ولأجل أن يكون صحيح الجسم (والعقل) يجب
أن يتبع النصائح الآتية:
1-
يجب الانقطاع عن تعاطي جميع المشروبات الكحولية أيًّا كان جنسها
(يعني الامتناع عن البيرا أيضًا) .
2-
يجب الاهتمام بترك التدخين تمامًا أيًّا كان نوعه، وجميع المواد
الناركوتيكية.
3-
التباعد عن الزنا بكل ما يدخل في الإمكان (هذا بمعنى قوله تعالى {وَلَا
تَقْرَبُوا الزِّنَى} (الإسراء: 32) الآية) .
ويقول في السطر 51 و 52 من تلك النشرة الصحية (أحسن شيء يروي
العطش وينفع الجسم هو الماء الزلال الصافي البرَّاق غير المغلي) وفي سطر 62
(يجب على كل منتسب إلى الجمعية أن يكون مثال الأخلاق الحسنة بتحاميه كل
شيء فيه ضرر للجسم) .
وإنني اطلعت على التقارير التي تنشرها البعثات للبلاد الباردة، وأخصها
بعثات القطب الشمالي أن أكثر الذين يموتون من تأثير البرد هم الذين يدمنون الخمر،
وأما الذين لا يدمنون الخمر فهم أكثر صحة ومقاومة للبرد.
فهل بعد ذلك للملحدين الذين يتوسلون بالحجج الداحضة والأقوال الفارغة
لتحليل ما حرَّم الله أن يقولوا: إنه لو بُعث سيد الخلق في البلاد الباردة لما حرَّم
الخمر؟ (وإنما الذي حرَّم الخمر هو الله الذي خلق البلاد الباردة والحارة) .
أم عندكم أيها الملحدون ما به تحيلون النور ظلامًا والظلام نورًا؟ أم تريدون
فوق كل ذلك جعل الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة؟
إنما التجدد أيها الإخوان بنقل العلوم والفنون التي هي غذاء الأبدان والأرواح
لا بتسميم الجسم والعقل والتجريد من الفضائل.
(حاشية) سنأتي إن شاء الله قريبًا بنبذة على التريخين.
…
الدكتور
…
...
…
...
…
...
…
... زكي كرام
(المنار)
إن قول هذه الجمعيات: إن أفضل ما يُشرب هو الماء النقي، ذكرني ما لا أنساه
من قول المقتطف لمن سأله عما يقال في الجعة (البيرا) من تغذية وتحليل: إن لقمة
من الخبز أكثر تغذية من كوب من البيرا، وإن جرعة أو كوبًا من الماء أحسن أو أشد
تحليلاً من قدح من البيرا، وأما شربها للذة فذلك شيء آخر. أي فلماذا يكذب عبد
الشهوة على نفسه وعلى الناس، كما يفعل الآن دعاة التجديد الإلحادي في الترغيب في
لبس البرنيطة، وتهتك النساء، وغير ذلك باختلاق منافع للرذائل أو لمحاربة
المشخصات القومية والملية التي يراد بها جعل الأمم الشرقية غذاء سهل الهضم على
معدة الدولة المستعمرة.
_________
(1)
المنار: الحق أن علة تحريم أكل الخنزير ضرره لا عدم وجود الآلة التي يرى بها الدود الذي يتولد منه معظم الضرر الخاص به؛ فإن هذه الآلة قد وجدت في هذا العصر في بعض بلاد الحضارة الآلية؛ ولكن أكثر بلاد الدنيا خالية منها والتشريع العام يجب أن يكون موافقًا لمصالح جميع البشر في كل مكان وكل حال ولا يجوز تقييده بحال بعض البلاد، ولا أن تتفاوت فيه الجماعات ولا الأفراد، والله تعالى هو المحرِّم للخنزير في التوراة والقرآن، لا موسى ولا محمد عليهما الصلاة والسلام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها
حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب
والرأي في مستقبل العرب والشرق
(1)
حقيقة حال اليهود
(1)
من الحقائق التي أثبتها التاريخ أن الشعب الإسرائيلي أو اليهودي من
أشد شعوب الأرض شكيمة، وأقواها عزيمة، وأثبتها وحدة، وأعمها تكافلاً، ومن
ثم كان أشدها أثرة وعصبية، وكانت جامعته النَّسبية الملية المزدوجة غير قابلة
للذوبان ولا للاندغام في أية جامعة أخرى من الروابط البشرية كالوطنية واللغوية
وغيرها، فهم يشاركون كل قوم في أوطانهم ويزاحمونهم على منافعها المادية
والمعنوية، ويظلون مع ذلك يهودًا، كما أن جامعتهم لا تقبل شعبًا آخر أن يندغم
فيها، ومن المعروف من تاريخهم أنهم لما احتلوا بلاد فلسطين ظلوا يقاتلون أهلها
حتى غلبوهم عليها، وصار لهم ملك فيها، ثم كانوا يقاتلون جيرانهم من حولها،
ومن قواعد شريعتهم (التوراة) أن يستأصلوا القوم الذين يغلبونهم على أمرهم
(حتى لا يستبقوا منهم نسمة ما) ومن أثرتهم أنهم لا يعترفون لغيرهم بمثل الحق
الذي انتزعوا به فلسطين من أهلها، بل يدَّعون أنها صارت ملكًا لهم إلى الأبد.
(2)
من الحقائق التي أثبتها الوحي مع التاريخ أن الله تعالى بعث فيهم
أنبياء وربانيين، وأئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وعبادًا صالحين، وأن الله
أراهم من آياته وآتاهم من نعمه ما لم يؤت أحدًا من العالمين؛ ولكنهم كانوا
يتمردون على موسى كليمه ويؤذونه في حياته، وقتلوا بعض أنبيائهم من بعده،
وفسقوا عن أمرهم وأمره، وعثوا في الأرض مفسدين حتى إنهم عبدوا الأوثان
مرارًا، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستحلوا ظلم غيرهم وأكل
أموالهم بالربا وغيره، فسلب الله ملكهم ومزَّقهم في الأرض كل ممزق، وسلط
عليهم الأمم تضطهدهم وتستذلهم، قال الله تعالى فيهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ
مَا ثُقِفُوا إِلَاّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل عمران: 112) فالذلة فقد الملك
والسلطان، وحبل الله ما حباهم به شرعه من حقوق العدل بدخولهم في ذمة الإسلام،
وحبل الناس ما لقوه من حماية المسلمين من قبل، وما يلقونه من حماية بعض
الدول الآن.
اليهود والإسلام والمسلمون
(3)
من الحقائق الثابتة المعروفة في السيرة النبوية والتاريخ الخاص والعام
أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجر من مكة إلى المدينة أقرَّ من كان في أرضها
من قبائل اليهود على دينهم، وآمنهم على أنفسهم وأموالهم، على أن لا يوالوا ولا
ينصروا عليه مشركي مكة وغيرهم من قومه، وكتب بينه وبينهم كتابًا في ذلك
كانوا به أهل عهد وميثاق؛ ولكنهم كانوا (ينقضون عهدهم في كل مرة)
وينصرون المشركين عليه في القتال، والمساعدة بالمال، حتى اضطر إلى قتالهم
وإخراجهم من جواره؛ ولكن أصحابه ومن بعدهم من قومه لما فتحوا البلاد
وسادوا العباد، أنقذوا اليهود من الاضطهاد وما كانت تسومهم الدول والأمم من
الظلم والاستعباد، فلم يذوقوا من طعم العدل في القرون الماضية بعض ما ذاقوا في
ظل الحكومات العربية وغيرها من الدول الإسلامية، فقد كانوا مساوين للمسلمين
في الحقوق وكانوا يتلقون ما يشاءون من العلوم في المدارس والمساجد ببغداد
والأندلس في صفوف المسلمين وحلق دروسهم كأنهم منهم.
اليهود وسلطان الكنيسة
(4)
من الحقائق الثابتة المعروفة في تاريخ القرون الأخيرة أن اليهود الذين
تلقوا العلوم في الأندلس، ولا سيما تلاميذ الفيلسوف ابن رشد كانوا من حملتها إلى
أوربة ومن أسباب انتشارها فيها، وأنهم استطاعوا بتكافلهم وكيدهم أن يثأروا
لأنفسهم ولأساتذتهم العرب من سلطان الكنيسة الكاثوليكية التي اضطهدتهم هم
والعرب في الأندلس بالتقتيل والتشريد والإكراه على النصرانية، وذلك بما ألفوه من
العصبية للعلوم وحرية الفكر التي ناصبت الكنيسة العداء في أوربة، وأثارت عليها
القتال حتى ثلت عرشها وقوضت سلطانها السياسي من العالم.
اليهود والماسونية والمال
(5)
من الحقائق الثابتة الخفية أن الجمعية الماسونية التي ثلت عروش
الحكومات الدينية من أمم أوربة والترك والروس هي من كيد اليهود، وهم أصحاب
السلطان الأعظم فيها، وإن كان ذلك يخفى على كثير من أهلها أو أكثر المنتمين
إليها، ومن غرائب كيد اليهود وقدرتهم التي فاقوا بها جميع شعوب البشر أن
الغرض السياسي النهائي لهم من هذه الجمعية هو تأسيس دولة يهودية دينية في مهد
الدولة الإسرائيلية التي أسسها داود وأتمها سليمان باني هيكل الدين اليهودي في
أورشليم على جبل صهيون، ولهذا سموها جمعية البنائين الأحرار، ويريدون بهم
الذين بنوا هيكل سليمان، وأكثر أفراد هذه الجمعية يجهلون السبب الصحيح لهذه
التسمية، فهل وجد في العالم أعجب وأغرب من قوم يهدمون ما عند غيرهم من
سلطان ديني لأجل بناء مثله لأنفسهم، ويسخِّرون أولئك الأغيار بمكرهم في الأجيال
الكثيرة والقرون العديدة لما لا يعلمون ولا يعقلون؟
(6)
من الحقائق الاجتماعية التاريخية أن اليهود هم الذين وضعوا النظام
المالي الذي هو قطب رحى المدنية الغربية الحاضرة في العالمين القديم والجديد،
وأن لهم به النفوذ الأعلى في جميع الدول والأمم (الرأسمالية) كما يقال في عرف
هذا العصر، ومن عجائب كيدهم واقتدارهم أن أخفوا أنفسهم بصفتهم المالية أن
تظهر في مملكة المال ظهورًا يمكن به لغيرهم أن يسلبوا ثروتهم، أو يغلبوا عليها
بعصبية دينية أو وطنية، كما أمكنهم إخفاء شخصيتهم الملية في الجمعية الماسونية
السياسية السابقة، وكذا الرمزية اللاحقة.
الجزويت والماسونية
(7)
من الحقائق الثابتة التاريخية أيضًا أنه لم يوجد جماعة من جماعات
البشر الدينية والسياسية عرفت كنه كيد اليهود ومكرهم في الأمم ومقاصد الماسونية
وأهلها وتصدت لمقاومتهم وإسقاط نفوذهم - إلا جمعية الجزويت الكاثوليكية، وذلك
أن الكاثوليك يدينون بوجوب الخضوع الديني والسياسي لأحبار رومية رؤساء
الكنيسة المعصومين عندهم، ويعلمون أن اليهود هم الذين ثلوا عرشها بنفوذ الجمعية
الماسونية التي انتظم في سلكها الملايين من النصارى ومن غيرهم وأكثرهم لا
يشعرون، لذلك بذلوا جهدهم في السعي لكشف الأستار عن أسرارها، وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم لصد تيارها، بتتبع عوارها، وتقليم أظفارها، وتحريم الدخول فيها
على من يدينون دينهم الكاثوليكي ويقلدونهم في فهمهم وعملهم به، وقد توسلوا إلى
معرفة أسرارها بعقيدة الاعتراف الديني الذي استباح به كثير من الكاثوليك الحنث
بالأيمان المغلظة، ونقض العهود الموثقة بترجيح العقيدة الدينية، على ما عاهدوا عليه
الجمعية، ولا سيما وقت الاحتضار، حيث يغلب خوف النار على ذلك العار.
من خفي عليه نفوذ اليهود في أحرار أوربة الغربية والوسطى وملاحدتهم وما
كان من حربهم للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، فلا أراه يخفى عليه ما كان
من نفوذهم في ملاحدة الروس الذين أضعفوا سلطة الكنيسة الأرثوذكسية بمجلس
الدوما، ثم أسقطوها بثل عرش القياصرة - دعاتها وحماتها - وتأسيس حكم البلشفية
في تلك الممالك الواسعة، وما كان من نفوذهم في ملاحدة الترك بإسقاط نفوذ الخلافة
التركية العثمانية، ثم بهدم الشريعة الإسلامية من المملكة التركية، وجعل حكومتها
إلحادية تسعى لمحو الإسلام من الشعب التركي ومن الشعوب الأعجمية الإسلامية
التي كانت تابعة لها كالألبان والبوشناق وغيرها كالإيرانيين والأفغانيين.
وهم - أعني اليهود - لا يزالون يدينون الله تعالى بتأسيس ملك ديني مدني
في فلسطين، يكون ملكهم فيه المسيح الذي ينتظرونه منذ ألوف السنين، كما ينتظر
جماعة النصارى والمسلمين المسيح الحق عيسى بن مريم عليه السلام، الذي ورد
في الأحاديث أنه سيقتل مسيح اليهود الدجال - أي الذي ينصبونه في فلسطين -
فعقائد الملل الثلاث في هذه المسألة متعارضة؛ ولكن المسلمين والنصارى فيها
متفقان على تكفير اليهود بجحود المسيح الحق - وهو عيسى بن مريم البتول عليه
وعليها السلام - والطعن فيهما، وكل منهم يؤمن به، على الاختلاف المعروف بينهما
في صفته، وإنما نقول هذا لبيان الواقع المعروف لا لتحريض الفريقين عليهم، على
أنهم استخدموا دول النصارى فظاهرتهم على المسلمين.
(8)
كان اليهود متكلين على ما في كتب أنبيائهم من الإنباء بمجيء مسيح
(مسيا) يعيد مُلك إسرائيل سيرته الأولى ويجمع أشتات أسباطهم
…
ويعتقدون أن
مجيئه سيكون بقوة إلهية فوق قوى البشر، كما يعتقد أكثر المسلمين في المسيح
والمهدي المنتظر، فلهذا لم يكونوا يستعدون لاستعادة الملك بسعي الشعب، فلما
طال عليهم الأمد، وكثر فيهم أحرار الفكر الذين لا يؤمنون بهذا الوعد كما انتشر
واستقر، أسسو الجمعية الصهيونية للسعي إلى ذلك بقوة الشعب اليهودي المالية
والمعنوية، وبجعل الاعتقاد التقليدي حاديًا لهم في هذا السعي وقوة روحية تؤيد
سائر القوى الكسبية، وهذا ما نبهنا له المسلمين في أمر المهدي في كتابنا (الحكمة
الشرعية) ثم في المنار، وأين المسلمون من علم اليهود وحزمهم وتكافلهم؟
تأسيس الصهيونية ومؤسسها
إن المؤسس للصهيونية كاتب من يهود بلاد المجر كان من علماء القانون
(اسمه تيودور هرتزل) أنشأ في سنة 1896 صحيفة باسم (دولة يهودية) للدعوة
إلى تأسيس هذه الدولة في فلسطين، فتقبلها الكثيرون من اليهود في أقطار العالم
بالبهجة والأمل، وارتاب كثيرون منهم في نجاح هذا العمل، وتأسست الجمعية
الرسمية لها في العام التالي لإنشاء الصحيفة، وطفقوا يجمعون لها الأموال
ويؤسسون الفروع ويعقدون المؤتمرات، حتى إنهم أسسوا لها مصرفًا ماليًّا خاصًّا
وصنفوا لها (دائرة معارف) خاصة، وقد قرر المجمع أو المؤتمر الصهيوني
الأول ما وضعه (هرزل) من غرضها وغايتها وعبر عنه بأنه إنشاء وطن شرعي
للشعب اليهودي في فلسطين تعترف به الدول، فيكونون فيه كالإنكليز في الجزائر
البريطانية، والفرنسيين في فرنسة
…
إلخ، فيؤسسون الدولة اليهودية (استعدادًا
لمجيء مسيا المنتظر، الذي تخضع له شعوب البشر) وقرر الوسائل لذلك، وهي
البدء باستعمار فلسطين (1) بامتلاك الأرض وعمارتها بالزراعة والصناعة وسائر
الأعمال الاقتصادية والمهن الحرة، و (2) بجمع كلمة الشعوب اليهودية في
الشرق والغرب واتحادهم للتعاون على هذا العمل لتلك الغاية، بإنشاء الجمعيات في
كل قطر بما لا يخالف قوانين حكومته، و (3) بإحياء الشعور الإسرائيلي الملي
وتقوية آماله في مآله، و (4) بالسعي لدى الدول لنيل عطفها على الصهيونية
ومساعدتها على تحقيق أمنيتها.
وقد افترص الصهيونيون انفجار براكين الحرب العامة في العالم، فكان من
دسائسهم فيها ما بيناه من قبل من خدمة الدولة البريطانية وحملها مع حلفائها على
مكافأتهم على ذلك بالتأييد الرسمي لمقصدها ففعلت، وهذه ترجمة الوثيقة الرسمية
بذلك المعروفة (بوعد بلفور) مثير الفتن، وموقد نار الثورة، وموقظ الأمة العربية
والشعوب الإسلامية من رقادها، كما بلّغه لزعيم اليهود المالي الأكبر:
عهد بلفور الجائر
نظارة الخارجية في 2 تشرين الثاني 1917
عزيزي اللورد روتشيلد:
إني بملء المسرة أنقل إليكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي
المفعم بالشعور مع مطامح اليهود الصهيونية، والذي طُرح على هيئة الوزارة
وصدق عليه
أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين الرضا إلى تأسيس وطن قومي للشعب
اليهودي في فلسطين، وهي ستبذل الجهد لتسهيل السبل الموصلة إلى تلك الغاية
على شرط أن لا يحدث ثم شيء يؤدي إلى الإجحاف بحقوق بقية السكان غير اليهود
دينيًّا ومدنيًّا، أو يعبث بالحقوق والسنن السياسية التي يتمتع بها اليهود في أية بلاد
أخرى
وأكون في غاية الامتنان إذا تفضلتم بإطلاع الاتحاد الصهيوني على هذا
التصريح.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
لكم بإخلاص
…
...
…
...
…
...
…
... أرثور جيمس بلفور
اليهود والهيكل في حكم النصارى فالإسلام
(9)
كانت الحكومات المسيحية قد طردت اليهود من مدينة المسيح الحق،
واضطهدتهم أشد الاضطهاد، وجعلت مكان الهيكل الذي دمره طيطس أخيرًا مزبلة
حتى غمرت الصخرة المقدسة في أعلاه بالأقذار، فلما جاء الإسلام المكمل لدين الله
الذي شرعه على ألسنة أنبيائه وآخرهم موسى وداود وسليمان والمسيح برسالة محمد
خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام - أعاد المسلمون تشريف ذلك المكان الذي سماه
الله تعالى في كتابه بالمسجد الأقصى، وأسرى بعبده ورسوله إليه في أوائل بعثته،
وقبل ظهور أمره، فنظفوه من الأقذار، وبنى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه مسجده هنالك، ثم كان ما كان من أمر تشييد بني أمية للمسجد الكبير
ولقبة الصخرة، وأنفقوا عليه خراج مصر كله بضع سنين، فكان ذانك البناءان
من أعظم مفاخر الصناعة والهندسة في الأرض، وكان المسجد الأقصى أول
القبلتين وثالث الحرمين، وسيبقى كذلك ما دام الإسلام والعرب في الأرض.
وكان من عدل المسلمين ورحمتهم أن رفعوا الاضطهاد عن رؤوس اليهود
وعاملوهم بالعدل والرحمة، حتى إنهم صاروا يأذنون لبعضهم بالإقامة في بيت
المقدس مع تحديد العدد القليل، وكذا بزيارة الجانب الغربي من سور المسجد
الأقصى (البراق) بطلبهم، وكانوا لا يستحلون تجاوزه بمقتضى تقاليدهم، إلى أن
يجيء المسيح الذي ينتظرونه لإعادة الهيكل كله إليهم، وإقامة الشعائر والقرابين
الموسوية فيه بإعادة ملك سليمان لهم، بالرغم من أنوف جميع المسلمين والنصارى
في العالم؛ وإنما كانوا يأذنون لأفراد قلائل منهم بما يتخذون لذلك من الوسائل حتى
المالية، فيقفون أمام ذلك الجدار للذكرى وإحياء الشعور الملي مع البكاء والندب
…
فقوي أملهم بالتكاثر والتملك في المدينة المقدسة وفي سائر بقاع فلسطين، تمهيدًا
لامتلاكها، واستعدادًا لظهور المسيح مجددًا ملك اسرائيل فيها؛ ولكنهم استعجلوا
الشيء قبل أوانه، فعوقبوا بحرمانه.
الصهيونية والعرب
(10)
ما زال هذا الأمل يقوى ويضعف، ويطفو ويرسب، حتى طمعوا
في عهد السلطان عبد الحميد بإباحة الهجرة والامتلاك بلا شرط ولا قيد، ثم طمعوا
على عهد دولة جمعية الاتحاد والترقي (التي أسقطت هذا السلطان وملكت على من
بعده الأمر بمساعدتهم) في شراء فلسطين من الجمعية ببضعة ملايين من الجنيهات،
ولما علمنا بهذه المساعي توخيت أن ألقى معتمد الجمعية الصهيونية بمصر
فأستعرف له وأعترفه الحقيقة وأُعرِّفه برأي الجمعيات العربية في الأمر، واهتديت
إلى ذلك بسعي بعض معارفي من اليهود. وكان مما كاشفت به المعتمد الصهيوني
أن عزم جمعيتهم على شراء فلسطين من إخوانهم في الماسونية زعماء جمعية
الاتحاد والترقي قد بلغ زعماء العرب المشتغلين بالسياسة وترقية الأمة العربية،
وقرروا فيما بينهم أنه إذا تحقق هذا النبأ ووقع بأي شكل من الأشكال فلا وسيلة
عندهم لمقاومته إلا تأليف العصابات المسلحة من البدو وغيرهم لمقاومة هذا الاعتداء
على بلادهم بكل ما يمكن من وسائل المقاومة المعهودة عند الشعوب الأخرى في
أوربة بإغراء دولها الكبرى وإرشادها، وأنه خير لليهود إذا كانوا يريدون أن يكثروا
في البلاد العربية (فلسطين وغيرها) ويكونوا فيها أحرارًا آمنين متمتعين بما يتمتع
به سائر أهلها من الحقوق المدنية والشخصية أن يتفقوا مع زعماء العرب أنفسهم
على ذلك من وسائل ومقاصد، وأرى أن ذلك ممكن
…
ولما فصلت له هذا الرأي
أعجبه وبلَّغه لجمعيتهم وظهر له أثر في مؤتمر (بال) الصهيوني إذ صرح بعض
أعضائه بالخطر الوحيد الذي يستقبلهم من قبائل العرب البدوية.
ثم ذاكرت في هذا الموضع زعيم الصهيونية الكبير الدكتور (وايزمن) بعد
الحرب العالمية والشروع في تنفيذ عهد بلفور في إثر مذكرات أخرى مع بعض
رجال الجمعية في مصر والقدس وقف هو على تفاصيلها كلها، وكان يريد المجيء
إلى مصر قبل الحرب للبحث فيه معي، ومما قاله لي أن رأيي في اتفاق العرب مع
أبناء عمهم العبرانيين ممكن غير خيالي بشرط أن يرضى به أمراء العرب وحكامهم
المستقلون
…
ثم انقطعت المذاكرة في هذه المسألة لاعتماد الصهيونيين على قوة
الإنكليز في إعادة مُلك إسرائيل لهم، وكل منهما يمكر بالآخر.
خلاصة القول في قوة اليهود وضعفهم
خلاصة القول في اليهود أنهم شعب من أعظم شعوب البشر يمتازون
بخصائص في العلم والعمل والاقتصاد والاتحاد والتكافل والتعاون والحزم والعزم
ونظام خاص في عمل البر والمعروف والمكر والدهاء والصبر والثبات واحتمال
المكاره وعدم اليأس من مقصدهم الأسمى - وهو المُلك - وإن تعذرت أسبابه وعظمت
صعابه، وإذا كانوا لم ييأسوا في أشد العصور إذلالاً لهم، وأعتى الأعاصير في
تمزيق شملهم، فكيف ييأسون في هذا العصر وهم سدنة هيكل المعبود الأكبر للأمم
والدول العظمى وهو المال، وهم الذين استعبدوهم له، وما لهم بهذا المال في العالم
المدني من النفوذ والصحف والقدرة على الدعاية التي تقلب الحقائق، وتلبس الحق
بالباطل؟
ولكنهم على كل ما أوتوا من هذه القوى المعنوية، ليسوا بأولي قوة حربية؛
لأنهم كما قال الله تعالى فيهم: {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) وقد
فقدوا ملكات الملك والاستقلال، وليس لهم من البراعة في الزراعة واستغلال
الأرضين عشر معشار ما لهم من استغلال النفوذ، فهم يعتمدون فيما يرومون من
الاستقلال في الوطن القومي في فلسطين على قوة الإنكليز تحميهم، وعلى استغلال
أهلها العرب في تعمير ما يسلبونهم من رقبتها بجعلهم أجراء فيها، ولا يهولن أحدًا
طلب عشرة آلاف من شبانهم الأمريكيين إذن حكومتهم لهم أن يذهبوا إلى فلسطين
لقتال العرب؛ لأن الذي جرَّأهم على هذا هو ظل الدولة البريطانية، لا ظل الدولة
اليهودية والراية الصهيونية، ولا شك أن الأمة العربية الحربية بالطبع أقوى منهم
مهما يكن جمعهم وهجرتهم، وقد جمع اليهود وعدوانهم أشتات الشعوب العربية في
أوطانها ومهاجرها، فاتفقوا على الدفاع عن عرب فلسطين وحفظ وطنهم لهم،
واجتمعت كلمة العالم الإسلامي كله على تأييدهم، بل الأمر أعظم من ذلك، ولا قبل
للدولة البريطانية بعداوة العرب والمسلمين، وإن كانت لا تزال مصرة على ظلمها
في فلسطين.
(12)
لقد كان الخطر الصهيوني على هذه البلاد عظيمًا لو جروا فيه على
النهج الذي أشرنا إليه من أعمالهم في الأمم، من دس السم في الدسم، والصبر
الطويل، مع إخفاء القصد البعيد، بنصب الحبائل الاقتصادية لابتياع الأرض
بالتدريج، وجعل الهجرة إليها بالسير البطيء، ولكنهم استعجلوا، وقد يكون مع
المستجعل الزلل، واغتروا باستخدام القوة الإنكليزية وضمها إلى قوتهم، وقد يحبط
الغرورُ العملَ، وناهيك بغرور الماديين منهم بالمال، وغرور المتدينين منهم
ببشارات الأنبياء، وغرور السياسيين منهم بما أوتوا من المكر والدهاء، ثم ناهيك
بتأييد الدولة البريطانية لهذه القوى كلها بقوتها العظمى قوة التصرف في الأمم،
والنفوذ في الدول، إذ أعطتهم بها وطنًا من أوطان الأمة العربية التي تعدها من
ميراثها، وعند هذه الأمة من بشارة نبيها في الظهور على اليهود ما هو أصرح من
بشارات أنبياء اليهود المبهمة، كما صرَّحنا به في العام الماضي وسنعود إليه
بالتفصيل.
(وسنبين في الفصل الثاني من هذا المقال كنه حال الإنكليز وسياستهم مع
العرب واليهود) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الفتنة في نجد - أسبابها ونتائجها
قد صار من المعروف عند جماهير الواقفين على شؤون الأقطار العربية
وأهلها أن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود قد عمل في جزيرة العرب
عملاً لم يسبق له نظير إلا في صدر الإسلام من تحويل الأعراب من عصبية
جاهلية ووثنية وأمية إلى التوحيد والعلم والحضارة بالتدريج، جدد بذلك ما كان قد
رث واخلولق من الإصلاح الديني والنهضة العلمية التي قام بها الشيخ محمد عبد
الوهاب، وأعاد بناء ما كان قد تهدم من دولة أجداده بعداوة الدولة العثمانية لهم
ومجاهدتهم إياهم بالسيف والنار، ثم بالدعاية المنفرة عن إمارتهم بدعوى كونها
ناصرة لمذهب مبتدع جديد مخالف للسنة، خوفًا من تجديدها لملك الأمة العربية،
وانتزاعها منها ما تدعيه من منصب الخلافة الإسلامية، بل وسع تلك الدولة حتى
استقام له الأمر في معظم الجزيرة العربية، فأقام فيها الدين، وأحيا سنة الخلفاء
الراشدين، بما نصب من قسطاس العدل المستقيم، ومد من ظل الأمان الوارف
الظليل، فأغنى الحاج عن الحرس والبذرقة [1] وهيَّأ لهم وسائل الصحة والراحة.
وكان مما حاوله ولما يدرك فيه كل ما أمَّله، إبطال البداوة من نجد وملحقاتها،
وإزالة جهالاتها ومنكراتها، فبنى لهم المهاجر، وهيَّأ لهم فيها أسباب الزراعة
والعمران، بقدر ما في الإمكان، ولقد كان كل ما في الإمكان قليلاً، لم ينتزع من
قلوبهم ما رسخ فيها من جفوة البداوة، ولم يثقف من طباعهم ما ورثته من حمية
الجاهلية؛ وإنما صبغها التعليم الناقص بصبغة دينية، فصار ما ألفوه من الغزو لأجل
السلب والنهب، واستباحة سفك الدماء لأخذ الثأر، أو شفاء حفائظ الصدر، مشوبًا
بقصد نشر التوحيد وإزالة الشرك، ولا يتم هذا إلا بمعرفة ما يتوقف عليه من أحكام
الشرع.
وهم لم يعرفوا كلهم من تلك الأحكام وجوب طاعة الإمام في المنشط والمكره،
وتحريم الأثرة عليها والاستبداد دونه في الجهاد والأمان، وإقامة الحدود وتقرير
العقوبات، فظل الراسخون في البداوة الجاهلية، والعصبية العمية، يخضع كلٌّ
لرئيس قبيلته، ويقاتل تحت رايته، ويطيع الإمام صاحب البيعة بطاعته، لا بأمر
الله واتباع شريعته، وهذا عين العصبية التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم،
وتبرأ من فاعلها بقوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على
عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن
مطعم رضي الله عنه، ولم يعلموا أيضًا بحظر الغلو في الدين، ولا أنهم كانوا من
الغالين بتكفير من لم يثبت كفره، أو عقاب من لم تشرع عقوبته، ولا أن حق إقامة
الحدود وعقوبات التعزير للإمام أو نائبه، وكذلك إزالة المنكر والنهي عنه إذا لم
يكن من المجمع عليه، وأما أهل الحضر منهم فيعلمون أكثر هذه الأحكام.
وقد علم قراء المنار ما كان من أمر فيصل الدويش وقومه في غزو أطراف
العراق والكويت بدون أمر الإمام، ومن إصرارهم على ذلك بعد نهيه اياهم عنه،
ومن عقده مؤتمر الشورى العام في الرياض عاصمة نجد في العام الماضي،
واقتراحه عليهم أن يبايعوا غيره إذا لم يكونوا راضين بحكمه، وحثهم على انتقاد
كل ما يرونه من أعماله مخالفًا لشرع الله أو لمصالحهم، وما كان من مصارحة
بعضهم إياه بما أنكروه من أخذه ببعض مستحدثات الصناعة المدنية كالسيارات
والتلفون لجهلهم بحقيقتهما، ومن اقتناعهم بعدم حظر ذلك وأمثاله كما أفتى بذلك
علماؤهم، ومن إجماعهم على إنكار ما فعلته حكومة العراق من إقامة الحصون في
مراعي نجد ودون مياهها، وتفويضهم الأمر إليه في السعي لإزالة هذه الحصون
بكل وسيلة ممكنة حتى القتال، وما تلا ذلك من تجديد مبايعته، وإيجاب طاعته،
وشذ عن ذلك غلاة المعتدين بإغواء زعيمين من شيوخهم هما فيصل الدويش
وسلطان بن بجاد، وأذاعوا أن الإمام عبد العزيز بن سعود أبطل فريضة الجهاد
وقتال المشركين فوجب عصيانه، حتى اضطر إلى قتالهم وإخضاعهم في العام
الماضي بالقوة؛ ولكن فيصل الدويش هذا فر واختفى حتى ظن أنه قُتل.
ولما عاد الإمام إلى الحجاز بعد هدوء الحال في نجد عاد هذا الخارجي
المتعصب إلى بث الدعوة لعصيانه، وثبت عند حكومة نجد والعارفين من أهلها أن
أعداء ملكهم افترصوا هذه الفتنة فأرسلوا دعاتهم من العراق والكويت إلى نجد
يحملون الألوف الكثيرة من الريالات والروبيات لمساعدة العصاة وتعميم الدعاية إلى
الخروج عليه، فانتشرت في القبائل والهجر أو المهاجر التي لا تزال تغلب على
أهلها أخلاق البداوة وعاداتها، ولكن باسم الدين ودعوى مخالفة الإمام عبد العزيز
لأحكامه بموالاة المشركين من أهل العراق والإنكليز حماتهم، ومنع المسلمين من
مجاهدتهم (ويعنون بالمسلمين أنفسهم) وكذا إقراره مشركي الحجاز وغيرهم من
أهل الأمصار على ما هم عليه، وسماحه لهم بالحج من غير أن يستتيبهم من
الشرك، ويلقنهم التوحيد الخالص
…
وحاولوا نشر هذه الدعاية في بدو الحجاز كما
نوَّه بذلك ناشرها في مصر، وبنوا على ذلك الدعوة إلى ترك الحج في هذا العام.
وللمسلمين في هذه الفتنة عدة عبر:
(1)
أن سيئي النية من النجديين في هذه الفتنة هم أفراد من الزعماء
كفيصل الدويش، هذا الذي منعه الإمام ابن السعود من استغلال قوته في السلب
والنهب، والتلذذ بما ألفوا من الغزو، وقد ذكر الملك في كتاب أرسله إلي في العام
الماضي أنهم اثنان فقط (يعنى الدويش وابن بجاد) ولعلهم زادوا في هذا العام فكان
منهم بعض شيوخ عتيبة والعجمان وغيرهم ممن أظهروا الخروج على الإمام،
وهذا من الأدلة على ما هو مقرر في الشرع وجميع قوانين الأمم من وجوب توحيد
السلطة، وحظر وجود زعماء في المملكة، يمكنهم الانفراد بالحرب أو أي عمل من
أمور الدولة، بدون أمر الممثل للسلطة العليا من إمام أو ملك أو رئيس.
(2)
أن العلم الناقص المعبَّر عنه بالجهل المركب قد يجني على الأفراد
والأمة ما لا يجني عليها الجهل البسيط؛ فإن عوام القبائل النجدية التي خُدعت
بدعاية رؤسائها الطامعين، وأعدائها الدساسين، لا تعلم أن الإسلام الذي تحبه
وتتفانى في الدفاع عنه يحرِّم عليها الخروج على الإمام، وتفريق كلمة الأمة وإن لم
يفض إلى القتال، فكيف إذا جُعل وسيلة لسفك الدماء، وقتل المسلمين الموحدين
بعضهم لبعض؟ كما فعل الدويش وأمثاله في نجد، فالدويش يدَّعي أن الامام ابن
سعود أخطأ وعصى الله تعالى في منعهم من قتال أهل العراق والكويت، وأن علماء
نجد شايعوه على ضلاله وعصيانه، ولو كان لخواص قومه - ولا أقول لكل قومه -
علم بشريعة الإسلام، لعرفوا أنه هو المخطئ لا الإمام، وأنه لا يمكن أن يكون
أعلم من علماء نجد الموافقين للإمام بالشريعة، ولعرفوا أن مذهب أهل السنة أنه لا
يجوز الخروج على الإمام بمثل هذا الخطأ إن صح أنه خطأ.
ولو كان لهم عقل ورأي لعلموا أنه ليس من الدين ولا من العقل ولا من
مصلحة أمتهم وبلادهم أن يقتتلوا لخلاف وقع بين إمامهم وشيخ قبيلتهم؛ لأن هذا
يفضي إلى ضعف أهل التوحيد كلهم، وتمكين الكفار من إزالة ملكهم أو إضعافه.
(3)
أنما منع الملك عبد العزيز آل سعود هؤلاء الغزاة من أهل بلاده أن
يغزوا العراق والكويت وشرق الأردن حبًّا في السلم وحرصًا على الوحدة العربية
والجامعة الاسلامية، فكان جزاؤه من رؤوس هذه البلاد أن يغروا هؤلاء الغزاة
أنفسهم بقتاله، ويساعدوهم على إيقاع الاختلال في بلاده، أملاً في ثل عرشه،
وعودة الحجاز إلى عشاق المُلك من بيت حسين بن علي بمساعدة الإنكليز الذين
ولُّوهم مُلك العراق وشرق الأردن، ويرجون أن يفوا بوعدهم إياهم بسائر البلاد
العربية، وقد تناقل المشتغلون بالقضية العربية عن بعض أفراد هذا البيت وأشدهم
صراحة في عداوة ابن السعود أنه قال جهرًا عندما تجددت فتنة نجد في الصيف
الماضي وقبل علم الجمهور بها: إن عبد العزيز بن سعود لن يعيش أكثر من شهر
بعد هذا اليوم، فعُلم من ذلك أنه كان من جملة الدسائس السعي لاغتياله.
وتناقلوا أيضًا أن عليًّا ملك جدة الغابر، وعبد الله ملك شرق الأردن الحاضر،
لم يزورا والدهما حسينًا ملك العرب أو الحجاز السابق، إلا لإقناعه بالانتقال إلى
العراق حيث فيصل ملكها اللاحق، أو معان التي سلخها نجلاه من المملكة الحجازية،
ووضعاها تحت تصرف الجلالة البريطانية إلا ليتولى إدارة هذه الفتنة، وأنهما
سعيا لدى الإنكليز للإذن بهذه النقلة.
وتناقلوا أيضًا أن سفر الأمير عبد الله من شرق الأردن إلى بغداد لعقد المؤتمر
السري مع أخويه الملكين علي وفيصل في وقت اشتعال فتنة فلسطين وتهيج عرب
شرق الأردن لمساعدة إخوانهم في القدس على اليهود - إنما كان لأجل التدبير الذي
يجب التعاون عليه في مسألة نجد، ولا شك عندنا في براءة حكومة العراق وزعماء
العراق من هذه الأعمال والدسائس، وفي كراهتهم لها؛ لأنهم من أخلص زعماء
العرب لأمتهم، وأكبر رجائها في تأسيس وحدتهم.
وقد صرَّح داعية هؤلاء الحجازيين في مصر أمام بعض من كلمه فيما يذيعه
من تكبير أمر هذه الفتنة بأنهم متفقون مع فيصل الدويش فيها.
وأما شيخ الكويت الغني (المصحَّف) فهو يحمل غلاًّ وإحنة على ملك الحجاز
ونجد؛ لأنه أمر بتحويل تجارة نجد عن ثغر الكويت إلى ثغور بلاده في الحسا هربًا
من المكس (الجمرك) الذي تأخذه حكومته عليها، وهو حق شرعي قانوني لا
يختلف فيه اثنان، وهذا منتهى شوطه في الانتقام، إلا أن يريد الإنكليز تضحيته
في هذا الميدان، كما ضحوا بكثير من الملوك والأمراء في الشرق والغرب كانوا
أقوى منه وأغنى، وأعلم بالسياسة وأدرى.
(4)
لم تكتف الدعاية الشريفية الحجازية، بما ذُكر من الأعمال السياسية،
لاستعادة ملك الحجاز إلى الإمبراطورية البريطانية، بل نشط عمالها لإعادة الدعوة
إلى ترك الحج التي كانوا بدءوا بها في السنة الأولى لاستيلاء ملك نجد على الحجاز،
وقد بثوا هذه الدعوة في جميع الأقطار التي لهم أعوان وعمال فيها، ولو وصلت
فتنتهم إلى الحجاز، وأمكنهم إثارة بعض بدوها للقتال والاعتداء، لراجت دعوتهم
بدعوى الخطر على الحجاج، وأما احتجاجهم السابق عليها بالطعن في مذهب أهل
نجد وملكهم فلم يعد له أدنى تأثير عند أحد من المسلمين، بعدما تواتر بنقل مئات
الألوف من حجاج جميع الأقطار في هذه السنين أن الحجاز في عصر ابن السعود
خير مما كان في عصور الدول السابقة من الأمويين والعباسيين إلى الترك
العثمانيين، أمانًا وراحة وصحة وحرية شرعية لجميع المذاهب الإسلامية، بل لا
يُسئل هنالك أحد عن مذهبه.
الآراء في هذه الفتنة
إن الناس قد اضطربوا في أخبار هذه الفتنة لتعارض أخبارها باختلاف
مصادرها، فأهل الغيرة على الإسلام، ودعاة الوحدة العربية، ومحبو الرابطة
الشرقية، وأعداء السياسة الاستعمارية، وخصوم الدولة البريطانية منهم خاصة -
كلهم يتمنون النجاح لابن السعود في القضاء على هذه الفتنة بمنتهى السرعة؛ لأن
كل فريق منهم يعلم حق العلم أنه الركن الركين لمصلحتهم وسياستهم، وما قرأت
لأحد ولا سمعت من أحد ولا عن أحد منهم غير ذلك، إلا عن شيخ واحد من أكبر
سدنة القبور المعبودة أظهر التمني لانتصار الخارجي على إمامه الشرعي، جاهلاً
أن ذنب إمامه عنده أنه منعه هو وغلاة أتباعه من قتال القبوريين، وأنه يسمح لهم
بالحج والعمرة، وجاهلاً بما يخشاه أولئك المسلمون من عرب وعجم، والعرب من
مسلمين ونصارى، من أن تكون الدسائس الإنكليزية هي المحركة أو المغذية
للخوارج على ابن السعود بعد فشلها في محاولة الإيقاع بينه وبين عرب العراق
وشرق الأردن، وبعد أن أظهر العطف على عرب فلسطين، وأعلن رسميًّا أنه
يسره ما يسرهم، ويسوءه ما يسوءهم، وساعدهم بالمال، وخشي أن يساعدهم
بالرجال، وإنني أرى المتمرسين بالسياسة والملمين بها في بلدنا هذا لا يشكُّون في
هذا، ويعدون من آياته ما ذاع من سعي بعض الإنكليز لنصب الأمير عبد الله ملكًا
على فلسطين في ظل الانتداب البريطاني، المقيد بالوطن القومي اليهودي
الصهيوني، ولم يغتر أحد من الذين يعرفون كنه هذا الأمير وأسرته بما أنذر به
السلطة الإنكليزية في القدس من عاقبة هيجان عرب شرق الأردن على اليهود،
ورغبتهم في الزحف لمساعدة إخوانهم في فلسطين بالسلاح - وبدوهم لا يزالون
مسلحين - وغرضه من هذه السلطة التي هو موظف تحت سيادتها، إما التعجيل
بإطفاء نار الفتنة، وإما إرسال جيش إنكليزي إلى شرق الأردن لصد قبائله المسلحة
عن الزحف إلى فلسطين لقتال اليهود، فإن من المعلوم بالبداهة عند العارفين أن
الباعث على هذا الإنذار والاقتراح هو خوف الأمير عبد الله المذكور على إمارته
وعلى نفسه إذا استمرت الثورة، وعجز عن الاستمرار على صد هذه القبائل عن
الزحف كما فعل أول مرة.
وقد كثر سؤال الناس إياي عن رأيي في الفتنتين، وعاقبة الثورتين، حتى
أنه جاءني في ذلك بعض الكتب من الشرق الأدنى والمغرب الأقصى.
فأما ثورة فلسطين فقد فضحت أسرار اليهود ومكرهم، وشوَّهت دسائس
الإنكليز وظلمهم، وأيقظت شعور الجامعة الإسلامية، وأحيت عصبية الأمة العربية،
فاتحد المسلمون والنصارى لأول مرة في جميع البلاد التي يقيمون فيها من أوطانهم
ومهاجرهم، وأما اليهود فلم يتفقوا على تأييد الأوهام الصهيونية، بل كثر المنكرون
عليها، إرضاء لأوطانهم التي يتمتعون بالنعيم فيها، وقد شرعنا في كتابة مقال طويل
في المسألة نشرنا الفصل الأول منه في هذا الجزء وسيأتي الرأي الناضج فيما بعده.
وأما ثورة نجد فقوة الثائرين فيها لا تُذكر تجاه قوة حكومة البلاد ونفوذ ملكها
الديني والشخصي، الذي عرف العالم من أمره في حادثة المحمل المصري ما كان
مثار عجب وإعجاب ومدعاة ثناء بإطناب، إذ خرج عبد العزيز آل سعود ليلاً مع
بعض آل بيته، فصاح بالنجديين وهم ثمانون ألفًا أو يزيدون، وقد ثاروا للانتقام
من حرس المحمل الذي أطلق النار عليهم برعونة من أميره، فردهم بكلمة منه عما
كان يتوقع من قطع دابر ذلك الحرس الضعيف، بقوة ذلك الحشد النجدي الكثيف،
وطالما انتصر قليلهم على الجيش العثماني القوي الكثير.
نعم إن هذه الثورة كانت عليه نفسه، لأجل زلزال هذه السلطة الروحية له،
أو إزلتها من قومه، وأنها تغلغلت في أحشاء البلاد لما تقدم وكما تقدم في صدر هذا
المقال؛ ولكنه قضى على ما كان منها في داخل البلاد، ولم يبق إلا اللاجئون إلى
الكويت يعتصمون بحماية الإنكليز لها، ويستمدون الميرة والسلاح والكراع منها،
لولا عجزهم وخوفهم لما آووا إليها، لعلمهم بأنه مقيد في المعاهدة بينه وبين الدولة
البريطانية بعدم الاعتداء عليها، على أنهما مقيدان معًا بأن لا يقع في البلاد
الخاضعة لنفوذ كل منهما أي دعاية أو عمل عدائي للآخر، ولهذا يجب التفاوض
بين الحكومتين في هذه المسألة قبل تحكيم السلاح فيها.
وأنا لا أظن كما يظن الكثيرون أن الإنكليز ينقضون عهدهم مع ملك الحجاز
ونجد بما اعتادوا من تأويل العهود، ونقض العقود، وإخلاف الوعود، عندما يرون
ذلك من مصلحتهم، إذ لا اظن أن هذا من مصلحتهم الآن، وأما الدسائس الخفية
التي اشتهروا بها، فلا أستطيع أن أنفيها ولا أن أثبتها، ومقتضاها القضاء على
سلطان ابن السعود قبل استكمال قوته وتجديد وحدة العرب بحكمته، فإن لم يقدروا
لم يكن لهم مندوحة عن استبقاء مودته، والاكتفاء من الطمع في البلاد العربية
بالمنافع الاقتصادية والأدبية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
البذرقة: الجماعة تتقدم القافلة للحراسة، معربة أو مولدة، وبالمعجمة أو المهملة أو بهما معًا، أقوال كما في المصباح.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاستفتاء في حقيقة الربا
لبعض كبار علماء الهند
(تابع ما نُشر في الجزء الرابع)
لبعض الأعلام ههنا كلام، فلابد علينا أن نذكره مع ما له وما عليه، وهو أن
القرض ليس غير البيع ومباينًا له بل داخل فيه؛ لأن القرض مبادلة انتهاء كما
صرَّح به بعض الفقهاء فهو قسم من أقسام البيع لا غير؛ وإنما جوَّز فيه النسأ مع
كونه من الأموال الربوية للضرورة ودفع حاجة الفقراء، وهذا لا يخرجه عن البيع.
قال القاضي ابن رشد الحفيد المالكي: فإن العقود تنقسم أولاً بقسمين: قسم يكون
معاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة
ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) يختص بقصد المغابنة، وهي البيوع والإجارات
والمهور والصلح والمال المضمون بالعقد وغيره (والقسم الثاني) لا يختص بقصد
المغابنة؛ وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض [1](والقسم الثالث) فهو ما
يصلح أن يقع على الوجهين جميعًا أعني قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة
والإقالة والتولية [2] قال الشاه ولي الله في حجة الله البالغة في ذيل البيوع المنهي
عنها: وكذلك الربا وهو القرض [3] على أن يؤدي إليه أكثر وأفضل مما أُخذ سحت [4]
باطل؛ فإن عامة [5] المقترضين بهذا النوع هم المفاليس المضطرون، وكثيرًا
ما لا يجدون الوفاء عند الأجل، فيصير أضعافًا مضاعفة لا يمكن التخلص منه أبدًا،
وهو مظنة لمناقشات عظيمة، وخصومات مستطيرة، وإذا جرى الرسم باستنماء
المال بهذا الوجه أفضى إلى ترك الزراعات والصناعات التي هي أصول المكاسب
ولا شيء في العقود أشد تدقيقًا واعتناء بالقليل وخصومة من الربا، وهذان الكسبان
(أي الميسر والربا) بمنزلة السُّكر مناقضان لأصل ما شرع الله لعباده من المكاسب
وفيهما قبح وشناعة، والأمر في مثل ذلك إلى الشارع، إما أن يضرب له حدًّا
يرخص فيما دونه ويغلظ النهي عما فوقه، أو يصد عنها رأسًا، وكان الميسر
والربا [6] شائعين في العرب، وكان قد حدث بسببهما مناقشات عظيمة لا انتهاء لها
ومحاربات، وكان قليلهما يدعو إلى كثيرهما، فلم يكن أصوب ولا أحق من أن
يراعى حكم القبح والفساد موفرًا فنهى عنهما بالكلية [واعلم] أن الربا على وجهين:
حقيقي [7] ، ومحمول عليه، أما الحقيقي فهو في الديون [8] وقد ذكرنا أن فيه قلبًا
لموضوع المعاملات، وأن الناس كانوا منهمكين فيه في الجاهلية أشد انهماك، وكان
حدث [9] لأجله محاربات مستطيرة، وكان قليله يدعو إلى كثيره فوجب أن يُسد بابه
بالكلية؛ ولذلك نزل في القرآن في شأنه ما نزل (والثاني) ربا الفضل والأصل
فيه الحديث المستفيض (الذهب) -الحديث -هو [أي ربا الفضل] مسمى بربا
تغليظًا وتشبيهًا [10] له بالربا الحقيقي على حد قوله عليه السلام: (المنجِّم كاهن)
وبه يُفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة)[11] ثم كثر في
الشرع استعمال الربا في هذا المعنى حتى صار حقيقة شرعية فيه أيضًا [12] والله
أعلم. انتهى [13] .
وكذا قال العلامة الإمام ابن الهمام الحنفي بعدما فسر الربا بقوله هو من البيوع [14] المنهي عنها قطعًا قال: بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران: 130) أي الزائد [15] في القرض [16] والسلف على القدر المدفوع
والزائد في بيع الأموال الربوية عند بيع بعضها بجنسه، وسنذكر تفصيلهما، ويقال
لنفس الزيادة أعني بالمعنى المصدري، ومنه {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) أي حرَّم أن يزاد في القرض والسلف على القدر المدفوع، وأن
يزاد في بيع تلك الأموال بجنسها قدرًا ليس مثله في الآخر [17] وذلك الكلام أتى
في كتاب الصرف بحديث عمر (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء) ثم قال: وقيل:
معنى قوله (ربا) أي حرام بإطلاق اسم الملزوم على اللازم، ولا مانع من حمله في
حقيقته شرعًا، وأن اسم الربا تضمن الزيادة من الأموال الخاصة في أحد العوضين
في قرض أو بيع اهـ الظاهر من مجموع كلامه أن الزيادة في القرض ربا،
والربا من البيوع المنهي عنها، فيفهم منه أن القرض من البيوع.
وفي الملتقى: الربا هو فضل مال خالٍ عن عوض شرط لأحد العاقدين في
معاوضة مال بمال - وذكر العلامة الشيخ زادة في شرح العاقدين: أي البائعين أو
المقترضين [18] فعلى هذا يكون الربا في القرض أيضًا فيكون بيعًا، وكذلك الفقهاء
بأجمعهم يذكرون الربا في كتاب البيوع والربا في القرض أيضًا، فيكون القرض
بيعًا. قال العلامة العيني في شرح البخاري واختلف في عقد الربا هل هو منسوخ لا
يجوز بحال، أو هو بيع [19] فاسد إذا أُزيل فساده صح بيعه؟ فجمهور العلماء على
أنه بيع منسوخ، وقال أبو حنيفة: هو بيع [20] فاسد إذا أزيل فساده انقلب
صحيحًا [21] قال شيخ الإسلام المرغيناني في باب البيوع الفاسدة من فتاوى التجنيس
والمزيد: رجل طلب من آخر قرض عشرة دراهم بأكثر: لا يجوز؛ لأن فيه ربا
اهـ[22] . يمكن أن يتوهم من هذه العبارات أن القرض فيه الربا، ولا ربا في غير
البيع.
والجواب عنه أولاً تصريح العلماء والفقهاء بأن القرض غير البيع، قال
الشيخ ولي الله عليه رحمة الله في شرح الموطأ بالفارسية: (معنى قرض تمليك
شيء) است بآن شرط كه رد كند بدل أو وآن بيع نيست لمكه عقد يست كه ابتداء
معنى تبرع دارد واخرا معنى مبادلة [23] قال ابن الهمام إن القرض تبرع لأنه صلة في
الابتداء وإعارة حتى يصح القرض بلفظ أعرتك اهـ (فتح القدير) قال الشاه ولي الله
رحمة الله عليه: مبنى القرض على التبرع من أول الأمر وفيه معنى الإعارة [24] .
قال ملك العلماء في البدائع: لأن القرض للحال تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله
عوض للحال؟ فكان تبرعًا فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع، وكذا قال في
مبحث تأجيل القرض: لأن القرض تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، وأنه
لا يملكه من لا يملك التبرع؟ وقال الحداد في شرح القدوري في هذا المبحث: لأنه
(القرض) اصطناع معروف، وفي جواز تأجيله جبر على اصطناع المعروف،
وقال الحداد في البيوع: والبيع في اللغة: مبادلة مال بمال آخر، وكذا في الشرع؛
لكن زِيد فيه قيد التراضي لما في التغالب من الفساد {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 205) ويقال: هو في الشرع عبارة عن إيجاب وقبول في مالين ليس فيهما
معنى التبرع، وهذا قول العراقيين كالشيخ (أي أبي الحسن القدوري) وأصحابه،
وقيل: هو عبارة عن مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع، وهو قول الخراسانيين
كصاحب الهداية وأصحابه اهـ.
فالقرض على رأي الجمهور عقد تبرع كما مر بخلاف البيع؛ فإنه ليس فيه
تبرع على كلا الحدين، فغير التبرع لا يكون تبرعًا، بل هما متباينان وأحكامهما
مختلفة، فالقرض معروف هو صدقة وتبرع وعبادة، والبيع ليس كذلك، والقرض
عارية في الابتداء، والبيع ليس بعارية لا في الابتداء ولا في الانتهاء، فالقرض
شبيه بالعارية من حيث الابتداء وشبيه بالبيع من حيث الانتهاء، ووجه الشبه
المبادلة؛ لكن تكون في البيع ابتداءً وانتهاءً، وفي القرض حين الأداء وبه لا
تخرج عنه كونها تبرعًا، قال السرخسي في شرح السير الكبير [25] هو كلام
يحتمل القرض، ويحتمل الصدقة فكل واحد منهما تبرع، والقرض أقل التبرعين؛
لأنه يوجب البدل اهـ. ففيه تصريح أن البدل لم يُخْرِج القرض عن كونه تبرعًا.
والحق أن المبادلة في البيع ركن، وفي القرض ليست بركن، نعم تستلزمه،
وفرق ما بين الالتزام واللزوم؛ لأن مقصود المشتري هو المبيع، ومقصود البائع
هو الثمن، وغرض كل منهما إخراج ما في ملكه وتحصيل عوضه، والأحكام
تترتب على الالتزام لا على اللزوم، قال ملك العلماء: إن البيع مبادلة شيء مرغوب
فيه بشيء مرغوب فيه [26] ، وقال في (كتاب البيوع) أما ركن البيع فهو مبادلة شيء
مرغوب بشيء مرغوب، وذلك قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل اهـ. وظاهر أن
القرض ليس فيه مبادلة شيء بشيء مرغوب فيه، بل الغرض الأصلي الذي وضع له
القرض هو إنجاح حاجة المحتاج إليه، ولذا قال الشيخ ولي الله رحمه الله أن القرض
تمليك الشيء ليسترد [27] مثله وهو ليس ببيع، بل هو عقد في أوله تبرع، وفي آخره
مبادلة [28] قال ابن عابدين رحمه الله: ههنا أصلان (أحدهما) أن كل ما كان مبادلة
مال بمال يفسد بالشرط الفاسد كالبيع وما لا فلا [29] كالقرض [30] وأيضًا قال العلامة
المذكور في نشر العرف: في دليل محمد رحمه الله؛ لأن القرض أسرع جوازًا من
البيع؛ لأنه مبادلةٌ صورةً، وتبرعٌ حكمًا [31] فهذا تصريح منه أن القرض ولو كان
مبادلةً صورةً، لكن ليس له حكم المبادلة شرعًا، قال القاضي سناء الله في تفسيره:
لأن الشرع اعتبره عارية كأن المؤدى عين المدفوع. ولعله باعتبار مقاصد العاقدين
لأن الاعتبار في العقود للأغراض والمعاني لا للصورة، ومن ذهب إلى أنه مبادلة
انتهاء فهو صرَّح أيضًا أنه تبرع في الابتداء، والبيع ما يكون مبادلة في الابتداء كما
هو مبادلة في الانتهاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله إنه إعارة وصلة في الابتداء حتى
يصح بلفظ الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي، ومعاوضة في
الانتهاء، وكذا قال الحداد في شرح القدوري، والقرض ليس هو بمبادلة في الابتداء
اهـ. فعلى هذا لا يكون بيعًا؛ لأن الفقهاء صرَّحوا أن البيع مبادلة ابتداء كما هو
مبادلة انتهاء، وإذا فات عن أحد الطرفين كونه مبادلة يفوت كونه بيعًا، قال ملك
العلماء في البدائع في دليل قول الإمام: إن ولي الصغيرة لا يملك الهبة بالعوض بدليل
أن الملك فيها يقف على القبض، وذلك من أحكام الهبة؛ وإنما تصير معاوضة في
الانتهاء، وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد هبة فلا يتصور أن تصير معاوضة بخلاف
البيع؛ لأنه معاوضة ابتداء وانتهاء وهو يملك المعاوضة [32] .
اعلم أن ملك العلماء أخرج الهبة بالعوض عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة
في الابتداء فبعين هذا الدليل يخرج القرض أيضًا من البيع؛ لأنه ليس بمعاوضة في
الابتداء بالاتفاق كما مر عن العلامة الشامي أن القرض وإن كانت صورته صورة
المبادلة لكن هو في حكم التبرع شرعًا، قال العيني في شرح الهداية: والمعول على
النكتة الأولى [33] لا على النكتة الثانية [34] لأن على النكتة الثانية يلزم أن لا يصح
القرض أصلاً اهـ. قال صاحب العناية: وهذا يقتضي فساد القرض لكن ندب الشرع
إليه وأجمعت الأمة على جوازه فاعتمدنا على الابتداء [35] وقلنا بجوازه بلا لزوم (باب
المرابحة والتولية) .
والحق في هذا الباب ما نقل القهستاني عن النهاية وغيره لأنه موافق للدراية،
وهو أن القرض ليس فيه مبادلة أصلاً لا في الابتداء ولا في الانتهاء بل في كليهما
عارية، لفظه: إلا أن التعويل على أنه عارية ابتداء أو انتهاء [36] قال الشلبي إن
بدل القرض في الحكم كأنه عين [37] المقبوض إذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة
الشيء بجنسه نسيئة وهو حرام، وإذا كان كذلك يكون عارية ابتداء وانتهاء [38]
ويحصل من هذه أن الأصل في البيع أن يكون غرض العاقدين التزام المبادلة، ولا
يكون القصد والغرض من طرف إلا المبادلة، وأما العقود التي لا يكون غرض
المتعاقدين فيها التزام المبادلة بل يلزمها المبادلة، فهي ليست ببيع كما في القرض؛
لأن فيه ليس غرض المقرض ليتبادل دراهمه، بل غرض الطرفين إنجاح الحاجة
فقط ولزوم المبادلة من غير قصد والتزام، فلا يصير من هذا اللزوم بيعًا، كذا
صرَّح ابن القيم في الأعلام، لفظه: وأما القرض فمن قال إنه خلاف القياس فشبهته
أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخر القبض، وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع
بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة فقال: (أو منيحة
ذهب أو منيحة ورق) وهذا من باب الإرفاق لا من باب المعاوضات فإن باب
المعاوضات أن يعطي كل منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه، وباب القرض
من جنس العارية والمنيحة وإفقار الظهر لما يعطى فيه من أصل المال ليتنفع فيه
أصل المال بما يستخلف منه ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلا فنظيره ومثله،
فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار، وتارة بمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم
يعيدها، أو شجرة ليأكل ثمرها ويسمى عريَّة فإنهم يقولون: أعاره الشجر وأعاره
المتاع ومنحه الشاة وأفقره الظهر وأقرضه الدراهم واللبن والتمر، ولما كان
يستخلف شيئًا بعد شيء كان بمنزلة المنافع، ولهذا كان في الوقف يجري مجرى
المنافع وليس هذا من باب البيع في شيء، بل هو من باب الإرفاق والتبرع
والصدقة، وإن كان المقرض قد ينتفع أيضًا بالقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا
كرهها من كرهها، والصحيح أنها لا تكره لأن المنفعة لا تخص [39] المقرض، بل
ينتفعان بها جميعًا [40] فالعلامة ابن القيم صرَّح فيه بأشياء (الأول) من شبه
القرض بالبيع فقد غلط فإذا كان تشبيهه بالبيع غير صحيح فكونه بيعًا أولى أن
يكون غير صحيح (والثاني) أنه تبرع (والثالث) أنه ليس من باب المعاوضات
(والرابع) أن المعاوضة أصلها أن يعطي شيئًا على وجه لا يعود إليه، والقرض
ليس على هذا الوجه، فظهر بهذا تسامح ابن رشد حيث عدَّ القرض من باب
المعاوضات.
وثانيًا: بأن جمهور [41] الفقهاء يستدلون على حرمة منافع القرض بحديث
سوار المتروك: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) فلو كان القرض بيعًا لم يحتاجوا
إلى هذا الدليل الضعيف، بل الطريق الواضح والحجة المستقيمة أن القرض بيع،
والزيادة في بيع الأموال الربوية ربا، فاستدلالهم بهذا الحديث الضعيف، وعدولهم
عن الصراط السوي دليل على أن القرض ليس بيع، ولو كان بيعًا عندهم ما تركوا
هذا الدليل القوي والحجة المستقيمة، وأيضا يعلم من استدلالهم بهذا الحديث
الضعيف أنه ليس في هذا الباب حديث صحيح يحتج به وهو أحسن وأقوى من هذا
كما مر بيانه.
وثالثًا: بأن العلامة الكاساني قد استدل على حرمة المنافع بدليلين، الأول
حديث سوار المتروك، والثاني أن لهذا شبهًا بالربا حيث قال: وأما الذي يرجع إلى
نفس القرض فهو أن لا يكون فيه جر منفعة، فإن كان لم يجز لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جر نفعًا؛ ولأن الزيادة المشروطة تشبه
الربا لأنه فضل لا يقابله عوض، والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب [42] ، فإن كان القرض بيعًا فكان الفضل (أي نفعه) ربا حقيقة لا شبيهًا له.
وقد سلَّم بعض الأعلام لما شافهتهم في هذه المسألة أن القرض المطلق ليس
ببيع؛ لكن إذا زيد فيه شرط النفع يصير بيعًا لأنه حينئذ يفوت فيه كونه تبرعًا
وصدقة، فإذًا يكون بيعًا، وإذا صار بيعًا يجري فيه جميع أحكام بيع الأموال
الربوية، فيكون الفضل أيضًا ربا، أما قولنا: فإذًا يكون بيعًا، فلأن القرض
معاوضة حقيقة؛ لكن لكونه تبرعًا في الابتداء خرج عن حكم المعاوضات، فإذا
اشترط فيه النفع من أول الأمر فلم يبق إذًا التبرع فيعود إلى حقيقته، فيصير بيعًا
لأنه يصدق عليه إذًا أنه معاوضة ابتداءً وانتهاءً.
وفيه (أولاً) إنا لا نسلِّم أن يصدق عليه أنه معاوضة ابتداء وانتهاء؛ لأنه لا
عوض له في الحال كما مر عن ملك العلماء، وقد أخرج ملك العلماء الهبة بالعوض
عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة في الابتداء، وإن كانت معاوضة في الانتهاء
فهذا الدليل يجري ههنا أيضًا، ويخرج القرض عن البيع بعين هذا الدليل، قال:
بدليل أن الملك فيها يقف على القبض، وذلك من أحكام الهبة؛ وإنما تصير
معاوضة في الانتهاء وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد، فلا يتصور أن تصير معاوضة
بخلاف البيع [43] .
(وثانيًا) أن ملك العلماء قد ذكر: أما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب
بشيء مرغوب اهـ. وفي القرض الطلب والرغبة عن (؟) الطرفين مفقودان
ألبتة، فلا يمكن أن يوجد البيع عند فوات ركنه على أن في القرض يعطي المقرض
ولا يريد ألا يعود إليه ما أعطى بخلاف البيع؛ لأن كلاًّ منهما يريد وينوي أن لا
يعود إليه ما خرج عن يده.
(وثالثًا) أن القرض وإن اشترط فيه الزيادة فلا يصير بيعًا أيضًا لأمور
(الأول) أن هذا الشرط خلاف مقتضى العقد؛ لأن مبنى القرض على التبرع وإذا
اشترط فيه الزيادة فات عنه كونه تبرعًا، ومن الأصول أن الشرط إذا كان خلاف
مقتضى العقد يفسده؛ ولكن القرض من العقود التي لا تفسد بالشروط الفاسدة، بل
الشرط يصير ملغى والعقد صحيحًا فإذا بقي القرض على صحته لم يصر بيعًا، قال
الشاه ولي الله رحمة الله عليه: وجائز نيست اقراض بشرط زيادة يارد صحيح
عوض مكسريا آنكه در شهر ديكر بدهد درين صورتها شرط لغوشود زيراكه عبد
الله بن عمر بإبطال شرط فرمودندنه ببطلان عقد [44] قال شيخ الإسلام في الهداية:
لأن الشرط الفاسد في معنى الربا، وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات
(كتاب الهبة) قال الإمام السرخسي في المبسوط: لو قال أقرضني عشرة دراهم
بدينار فأعطاه عشرة دراهم بدينار فعليه مثلها، ولا ينظر إلى غلاء الدراهم
ورخصها، وكذلك كل ما يكال ويوزن، فالحاصل هو أن المقبوض على وجه
القرض مضمون بالمثل، وكل ما كان من ذوات الأمثال يجوز فيه الاستقراض،
والقرض لا يتعلق بالجائز من الشروط، فالفاسد من الشروط لا يبطله؛ ولكن يلغو
شرط رد شيء آخر فعليه أن يرد مثل المقبوض [45] فهذا تصريح منه أن الشروط
الفاسدة لا تبطل القرض، بل يكون القرض باقيًا على أصله وتبقى قرضيته ولا
تزول، أي لا ينقلب بالشروط الفاسدة إلى البيع، وقال في موضع آخر: ولو
استأجر منه ألف درهم أو مائة بدرهم أو ثوب لم يجز، قال لأنه ليس بإناء ويريد
ألا ينتفع به مع بقاء عينه، ومثله لا يكون محلاًّ للإجارة؛ وإنما يُردُّ عقد الإجارة
على ما ينتفع به مع بقاء عينه، وقد بيَّنا أن الإعارة في الدراهم والدنانير لا تتحقق،
ويكون ذلك قرضًا فكذلك الإجارة [46] ، فإذا لم تنقلب إجارة الدراهم والدنانير بشرط
النفع إلى البيع، فالقرض أولى بل لا ينقلب إليه وإن اشترط فيه النفع.
(والأمر الثاني) أن الفقهاء يصرِّحون أن النفع المشروط في القرض شبيه
بالربا، فلو يستحيل القرض بشرط النفع إلى البيع لصار هذا النفع ربا حقيقة لا
شبيهًا به.
(والأمر الثالث) لو صار القرض بشرط النفع بيعًا لكان بيع الصرف،
وبيع الصرف إذا لم يكن فيه تقابض البدلين في المجلس أو يكون فيه شرط الزيادة -
يفسد، ويتعين النقد في الصرف إذا فسد بيع الصرف، فلا تكون هذه الدراهم والدنانير
ملكًا للمستقرض، فلا يكون الربح والمنفعة الحاصلة منه طيبًا مع أن الفقهاء
صرَّحوا بأنه طيب. في العالمكيرية: من استقرض من آخر ألفًا على أن يعطي
المقرض كل شهر عشرة دراهم، وقبض الألف وربح فيها طاب له الربح [47] .
(والأمر الرابع) أن القرض إذا اشترط فيه النفع يكون مكروهًا عند الفقهاء
قال محمد رحمة الله عليه في كتاب الصرف أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره
كل قرض جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد بأن
أقرض غلة ليرد عليه صحاحًا أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في
العقد فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به (عالمكيري) وأخرج الزيلعي
عن عطاء: كانوا يكرهون كل قرض جر منفعة اهـ. فلو ينقلب القرض من شرط
النفع إلى البيع لكان نفعه حرامًا لكونه ربا لا مكروهًا؛ لأن المكروه غير الحرام
ودليلاهما متغايران، قال العيني: أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من
الكبائر [48] قال ابن الهمام وأحسن ما هنا عن الصحابة والسلف مارواه ابن أبي شيبة
في مصنفه: حدثنا خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كل قرض
جر منفعة [49] ، أي الصحابة يكرهون النفع المستحصل من القرض، فهذا دليل على
أن الصحابة أيضًا يفرقون بين النفع المستحصل من القرض وبين الربا حيث يجعلون
الأول مكروهًا والثاني حرامًا، هذا ومن ادعى أن القرض مطلقًا بيع أو بشرط النفع،
فلابد عليه من البيان ودعوى البداهة في موضع الخلاف غير مسموعة، وقد [ظن
بعضهم] أن بيع خمس ربابي بست ربابي يكون ربا بالاتفاق، لكن إذا أقرض خمس
ربابي بشرط أن يرد عليه ست ربابي كيف لا يكون هذا ربا مع أنه لا فرق بينهما إلا
في اللفظ؟ [ويزال] بأنه لا مجال للقياس فيما ورد به النص لأن الشارع
عليه السلام [50] جعل الأول بيعًا وربا لا الثاني. قال ابن قيم الجوزية: وكذلك صورة
القرض وبيع الدراهم بالدراهم إلى أجل صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا
معصية باطلة بالقصد [51] .
وكذا [ما ظن] أن نفع القرض ربا حقيقة وداخل في نص القرآن، وهو أمر
بديهي لا يحتاج إلى البيان [مدفوع] بأن لو كان أمرًا بديهيًّا، لا يمكن أن يخفى على
الأئمة والفقهاء دخول هذا النفع في نص القرآن، ولم يحتاجوا إلى الاستدلال عليه
بالحديث الضعيف تارة، وبالقياس على ربا البيع تارة، وبالقياس على ربا الجاهلية
مرة وبالآثار حينًا، وكذلك ما يختارون في حده ومسائله يعارض هذه الدعوى، فهذا
كله دليل على أنه ليس بمندرج في نص القرآن عندهم ويؤيده أيضًا عدم ورود النقل
عن واحد من الائمة بأن هذا النفع هو ربا منصوص.
وهذا المسلك - أعني أن آية الربا مجملة - هو ما عليه الأئمة المجتهدون
والفقهاء المحققون؛ لكن في الآية مسلك آخر وهو أن الآية ليست بمجملة حتى تحتاج
إلى التفسير، بل هي مفصلة واللام في (الربا) للعهد، وأشير بها إلى ما هو
المتعارف عند نزول القرآن بينهم أي ربا الجاهلية.
وفي هذا المسلك (أولاً) أنه لم يتبين إلى الآن بسند صحيح مرفوع ربا
الجاهلية في أي شيء كان، فهو مجهول، ولعل هذا وجه عدول الأئمة والمحققين عن
هذا المسلك، نعم آثار التابعين تدل على تعيين ربا الجاهلية، فبعضها يدل على أنه
كان في البيع كما روى الطبري عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة [52] أن ربا
أهل الجاهلية أن يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند
صاحبه قضاء زاد وأخر عنه، فقال جل ثناؤه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} (البقرة: 275) ..
إلخ قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد [53] قال: كانوا يتبايعون إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا
عليهم وزادوا في الأجل فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} (آل عمران: 130)
…
إلخ،
وفيه أيضًا: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك [54] في قوله تعالى:
{اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة: 278) قال: كان
ربا يتبايعون به في الجاهلية فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم اهـ. قال
ابن جرير: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: 280)
هذا في شأن الربا وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون فلما أسلم من أسلم منهم أمروا أن
يأخذوا رؤوس أموالهم، قال الإمام الشافعي في تفسير أخذ رؤوس الأموال إنه يكون
فسخًا للبيع الذي وقع على الربا [55] وقال الزرقاني في شرح الموطأ وهو أيضًا
يشبه حديث زيد بن أسلم [56] في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا
للذي عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم
في حقوقهم، وزادوهم في الأجل، وقال السيوطي في الدر المنثور عن سعيد بن
جبير [57] يعني الذين نزل فيهم أنهم {قالوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة:
275) كان الرجل إذا حل ماله على صاحبه يقول المطلوب للطالب: زدني في
الأجل وأزيدك على مالك، فإذا فعل ذلك قيل لهم هذا ربا، قالوا سواء علينا إن زدنا
في أول البيع أو عند محل المال، دليل على أن المراد بالمال ههنا هو ثمن المبيع
وإلا كان الجواب منهم: سواء علينا اشتراط الزيادة في أول العقد أو عند محل المال،
في الفتح: أن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم
يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخَّر عنه.
و (أما ما قال) الجصاص الرازي الحنفي: والربا الذي كانت العرب تعرفه
وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة ما استقرض على ما
يتراضون به ولم يكونوا [58] يعرفون البيع بالنقد ومتفاضلاً إذا كان من جنس واحد
هذا ما كان المتعارف المشهور بينهم اهـ. وقال أيضًا: فأبطل الله تعالى الربا الذي
كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبًا أُخر [59] من البياعات وسماها ربا اهـ. وقال
أيضًا: إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلاً بزيادة مشروطة اهـ. وقال
أيضًا: فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية، وهو القرض
المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض [60](فلم يرد بها أثر) ولا دليل
عليه بل في قول هذا الإمام ما يخالفه وهو دليل على أن المراد بالقرض هو الثمن
المؤجل.
وخالفه المفسرون أيضًا - صراحة - كما قال ابن العربي المالكي: اختلفوا
هل هي عامة في كل تحريم ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟ والصحيح
أنها عامة لأنهم كانوا يتبايعون ويربون وكان الربا عندهم معروفًا، يبايع الرجل
الرجل إلى أجل فإذا حل الأجل قال: أتقضي أم تربي؟ يعني: أم تزيدني على مالي
عليك وأصبر أجلاً آخر؟ اهـ ثم أتى بأدلة على هذا المدعى ثم قال: وتبين أن
معنى الآية وأحل الله البيع المطلق الذي فيه العوض على صحة القصد والعمل
وحرم منه ما وقع على وجه الباطل، وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم، فتزيد
زيادة لم يقابلها عوض، وكانت تقول إنما البيع مثل الربا، أي إنما الزيادة عند حلول
الأجل آخرًا مثل أصل الثمن في أول العقد، فردَّ الله تعالى قولهم وحرم ما اعتقدوه
حلالاً عليهم (أحكام القرآن) .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران:
130) قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئًا، قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون
البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل
{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130)(أحكام القرآن)
ودلالة كما نقل عن حبر الأمة وسيد المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله
عنه في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) الزيادة
في آخر البيع بعدما حل الأجل كالزيادة في أول البيع إذا بعت بالنسيئة {وَأَحَلَّ
اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) الزيادة الأولى (وحرم الربا) الزيادة الأخيرة،
قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في درج الدرر {قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) قاسوا أن الزيادة في آخر العقد كهي في أول العقد، قال
الواحدي في تفسيره الوجيز {إِنَّمَا البَيْعُ} (البقرة: 275) وهو أن المشركين
قاسوا أن الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة في الربح.
وقال الواحدي في تفسير قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران:
130) قال المفسرون: هو أنهم كانوا يزيدون على المال ويؤخرون الأجل كلما أخر
عن أجل إلى غيره زيد زيادة. قال مجاهد: يعني ربا الجاهلية [61] وقال في تفسير
{إِنَّمَا البَيْعُ} (البقرة: 275) وذلك أن المشركين قاسوا الزيادة على رأس المال
بعد محل الدين كالزيادة في الربح في أول البيع اهـ.
وفي فتح البيان: أي إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند
حلوله؛ فإن العرب لا تعرف ربا إلا ذلك [62] وفي نيل المرام: ومعنى الآية أن الله
أحل البيع وحرَّم نوعًا من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا اهـ. قال العلامة
الطحاوي في شرح معاني الآثار تحت تفسير حديث (إنما الربا في النسيئة) إن
ذلك الربا إنما عنى به القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وذلك أن الرجل كان
يكون له على صاحبه الدين فيقول له أجلني منه إلى كذا وكذا درهمًا أزيدكها في
دينك اهـ. فالعلامة الطحاوي يقول: إن اللام في (الربا) الذي رواه أسامة في
الحديث للعهد، والمراد به ربا القرآن فعنده هذا الحديث لا يحمل على العموم، بل
أُخْرِج مخرج التفسير في تفسير ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وقد عرفت
أن النسيئة لا تكون إلا في البيع وهو الثمن المؤجل فتعيين العلامة الطحاوي ربا
الجاهلية بربا البيع موافق للتفسير الذي أثر عن ابن عباس في الربا أنه زيادة في آخر
البيع بعدما حل الأجل إذا بيع نسيئة.
وبعض الآثار تدل على أن ربا الجاهلية كان في دين مؤجل وحق إلى أجل،
وجميع هذه الآثار متفق على أنه كان في دين مؤجل، والدين المؤجل ليس بقرض
لغة. قال الإمام الرازي في تفسيره: قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأن القرض
أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حَبًّا أو تمرًا وما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه
الأجل، والدين يجوز فيه الأجل اهـ. ثم قال: والقول الثاني إنه (أي الدين)
القرض هو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن فيه أن يشترط فيه الأجل، والدين
المذكور قد اشترط فيه الأجل، وفي المغرب هو (القرض) مال يقطعه الرجل من
أمواله فيعطيه عينًا فأما الحق الذي يثبت له دينًا فليس بقرض، وفي الكليات لأبي
البقاء والدين بالفتح عبارة عن مال حكمي يحدث في الذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما
وإيفاؤه واستيفاؤه لا يكون إلا بطريق المقاصة عند أبي حنيفة والدين ما له أجل
والقرض ما لا أجل له اهـ. ثم أورد ما قال صاحب المغرب وقال: وهو المعول
عليه اهـ (تحت لفظ الدين) وقال: وأما إطلاق لفظ الأداء والقضاء على الدين فليس
لاتحاد معناهما، بل باعتبار أن له شبهًا بتسليم العين وشبهًا بتسليم المثل اهـ (تحت
لفظ الرد) فشرط الأجل منافٍ لحقيقة القرض، فالقرض لا يندرج في الدين المؤجل
فلا يجوز أن يراد بالدين القرض إذا كان فيه أجل، وأما ما ذكر الراغب الأصفهاني
وابن الأثير ووجيه الدين التهانوي أنه يشمل القرض، ففيه أولاً أنه خلاف التحقيق،
ومع هذا لا يدل على أن الدين المؤجل أيضًا يشمل القرض.
والحجة القوية على أن المراد في كلام الذين ذكروا في تفسير ربا الجاهلية
لفظ الدين مطلقًا هو الثمن المؤجل هي أن شراح قولهم قد فسَّروه به، قال البيهقي:
فيقول له صاحب الدين: أتقضي أم تربي؟ فإن أخَّره زاد عليه وأخَّره، ثم نقل في
توضيحه ثانيًا (قول الشافعي وأحمد) وهذا فيما رواه مالك بن أنس في الموطأ عن
زيد بن أسلم أنه قال: كان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل
فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذ وإلا زاده في حقه
وأخَّر عنه في الأجل (قال الشافعي) فلما رد الناس إلى رؤوس أموالهم كان ذلك
فسخًا للبيع الذي وقع على الربا [63] .
ظهر من كلام الشافعي أمران: الأول أن ربا الجاهلية كان في البيع، والثاني
أن المراد برأس المال الذي ورد في القرآن هو الثمن الذي جُعل في ابتداء البيع،
وكذا المراد من حق إلى أجل هو الثمن المؤجل وكذا العلامة الزرقاني أتي برواية
زيد بن أسلم في البيع حيث قال: وهو أيضًا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل
الجاهلية: إنهم كانوا إذا حلَّت ديونهم قالوا للذي عليه الدين إما أن تقضي وإما أن
تربي فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل اهـ.
وأما (ما قال الإمام الرازي) وتبعه النيسابوري: أما ربا النسيئة فهو الأمر
الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن
يأخذوا كل شهر قدرًا معينًا ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حل الدين طالبوا
المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا
الذي يتعاملون به اهـ - فلا ثبوت له من النقل وهو أيضًا خلاف ما صرَّح به نفسه
من أن الآية مجملة والدين غير القرض.
هذا، فإن سئل عن حكم النفع المشروط في القرض شرعًا عند الفقهاء يجاب أن
نفع القرض مكروه، كما قال عطاء: كانوا يكرهون كل قرض جرَّ منفعة، وكما نقل
الإمام محمد رحمه الله في العالمكيرية بلفظ: قال محمد رحمه الله في كتاب الصرف
أن أبا حنيفة رحمه الله كان يكره كل قرض جرَّ منفعة. قال الكرخي: هذا إذا كانت
المنفعة مشروطة في العقد بأن أقرض غلة ليرد عليها صحاحًا أو ما أشبه [64] ذلك فإن
لم تكن المنفعة مشروطة في العقد فأعطاه القرض أجود مما عليه فلا بأس به اهـ.
واستدل [65] عليه بوجوه: الأول قياسه على الربا المنصوص والمقيس عليه
عند البعض الربا الذي يكون في بيع الشيء بجنسه متفاضلاً والأمر المشترك
المبادلة، وهو كما يكون في البيع يكون أيضًا في القرض، فكما يكون هذا الفضل
في البيع ربا كما صرَّح به ملك العلماء الكاساني وعند البعض المقيس عليه ربا
الجاهلية، والأمر المشترك الزيادة في مقابلة الأجل؛ لأن في ربا الجاهلية كما تكون
الزيادة بمقابلة الأجل إذا لم يقض الثمن عند حلول الأجل كذا في القرض كما صرَّح
به ابن رشد، وفيه نظر وهو أن القياس لا يصح عند الشارع، فكيف يصح هذا
القياس مع هذا الفارق؟ وأما في الثاني فلأن الزيادة في الجاهلية كانت بعد حلول
الأجل لا في ابتداء العقد والكلام في الزيادة التي تكون من أول العقد وليس هذا من
ذاك.
(والثاني) حديث [66](كل قرض جر منفعة) وهو وإن كان ضعيفًا غير
صالح لثبوت الربوية؛ لكن أدناه أن تثبت به الكراهة.
(والثالث) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القرض صدقة) وقال ابن
عمر: السلف على ثلاثة أوجه: سلف تريد به وجه الله فلك وجه الله. وفي المدونة:
قال ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن ابن شهاب وأبي الزناد وغير واحد
من أهل العلم أن السلف معروف، أجره على الله فلا ينبغي لك أن تأخذ من صاحبك
في سلف أسلفته شيئًا ولا تشترط إلا الأداء - فعلى هذا أي إذا كان القرض عبادة
وصدقة فحكم الاستئجار والاستنفاع عليه كحكم الاستئجار على الصدقات والعبادات
كالاستئجار على تعليم القرآن وتعليم الفقه والحديث والاستئجار على قرآن التراويح
والاستئجار على سائر أمور الدين من الوعظ والتذكير والإفتاء وخدمة المدارس
الدينية والأذان والإمامة وغيرها، وعلم الصواب عند الله.
ما قولكم أيها العلماء الكرام في أجوبة الأسئلة المذكورة؟ هل هي صحيحة
أم لا؟ بيِّنوا ونوِّروا قولكم بالدليل
الأسئلة
(1)
لفظ الربا في آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275)
مجمل أم لا؟ سيما عند الأحناف، وعلى الإجمال: ما التفسير الذي ورد عن
الشارع؟ أعني في القرآن والحديث الصحيح.
(2)
بيِّنوا معنى الربا عن القرآن والأحاديث الصحيحة؟
(3)
النفع المعيَّن المشروط في القرض ربا منصوص أم لا؟
(4)
النفع المشروط في القرض لو قيل هو ربا، فما الدليل عليه من الأدلة
المعتبرة عند الفقهاء الكرام؟
الأجوبة
هو المصوَِّب
(1)
الربا المذكور مجمل عند الأحناف وغيرهم من الأئمة حتى يصح أن
يقال اتفقت عليه الأمة، وحديث عبادة وغيره تفسير له عند الجمهور (انظروا ص
274-
278 ج 4 المنار) .
(2)
الربا هو الفضل الخالي عن العوض [67] في البيع (مبسوط - عناية
شرح هداية - انظروا ص 281و282 منه) والدليل على هذا المعنى ما رواه
عبادة وغيره (الحنطة بالحنطة)
…
إلخ (انظروا ص 278و279 منه) .
وعلى هذا المعنى تدل أيضًا آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) لأن على تقدير إجمال الربا وكون الحديث تفسيرًا لها لا يكون ربا القرآن
غير ربا السنة، فربا القرآن عين ما ثبت كونه ربا بالحديث (انظروا ص 282
منه) .
(3)
النفع المشروط في القرض ليس هو ربا منصوصًا لعدم ثبوته من
القرآن ومن حديث صحيح (انظروا ص 283 إلى ص 291 منه) .
(4)
النفع المشروط في القرض لما لم يثبت كونه ربا بالقرآن والحديث
استدل على كونه ربا تارة بالقياس (انظروا ص 436 ج 6 منه) وتارة بحديث
(كل قرض جر منفعة) وفي كليهما نظر، أما في الأول فلأنه قياس مع الفارق
(انظروا ص 437) فلا يصح، وأما في الثاني فلأنه ليس بصحيح بل هو ضعيف
فغير صالح للاحتجاج ولو سلم بصحة القياس ففيه أن الأحكام القياسية [68] تقبل
التغير بتغير الأزمان كما هو ثابت في موضعه، ومن كان له وقوف على حال هذا
الزمان وخبرة بأهله، فلا محيص له بدون أن يفتي بجوازه كما في الاستئجار على
تعليم [69] القرآن والأذان والإمامة وغيرها والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن
السلف، ففيه أن التعامل مبني على القياس لا على غيره من الأدلة، ومن ادّعى
فعليه البيان والله أعلم بالصواب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المستفتى
…
...
…
...
تكملة
لما تنبه الشيخ سناء الله رحمه الله على أن نفع القرض المشروط لا يدخل في
الربا المحرم بالنص على المسلكين، فقال مخالفًا لما عليه الجمهور: إن المراد بالربا
معناه اللغوي وهو الزيادة، وهي عبارة عن فضل يعلو على المماثلة والمساواة [70]
فأوجب تعالى في المبايعة والمقارضة المماثلة والمساواة، فالمعتبر فيها المماثلة
بالأجزاء كيلاً أو وزنًا إن اتحد جنس البدلين، وكانا من ذوات الأمثال وعند
اختلاف الجنس تكفي المماثلة المعنوية وهي القيمة، وجعلت القيمة مماثلة للبدل لأن
مالكي البدلين رضيا عليه عند المبادلة فيصير كل من البدلين مثلاً لمجموع [71]
البدل الآخر باصطلاحهما.. انتهى ملخصًا عن عبارته الشريفة في التفسير
المظهري، ويختلج في صدري أنه على هذا لا يجوز للمشتري أن يبيع ما اشتراه
بأكثر من الثمن الذي اشتراه به؛ لأنه الفضل لغة مع أنه جائز باتفاق الأمة وعند
الشيخ أيضًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لما جعل القاضي القرض قسمًا للبيع، فهو دليل على أن القرض عنده غير البيع فلا يصح به الاستشهاد على كون القرض بيعًا؛ لكن أوردناه ههنا لأنه صرَّح بأن المعاوضة تكون في القرض أيضًا، ويمكن أن يتوهم منه أن كل عقد تكون فيه المعاوضة هو قسم من أقسام البيع.
(2)
(بداية المجتهد ص 121 ج-2) .
(3)
هذا حد للربا غير مأثور عن السلف ولا دليل عليه، بل هو خلاف القرآن والسنة الصحيحة وجمهور العلماء.
(4)
لابد أن يقوم عليه دليل من الشارع عليه السلام والأداء أكثر وأفضل مما أخذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق صحيحة مطلقًا.
(5)
لا يكفي أمثال هذه التدقيقات الفلسفية لإثبات حكم شرعي، بل لابد أن يكون عليه نص عن الشارع عليه السلام.
(6)
لا شك أن الربا كان شائعًا في العرب؛ لكن الكلام في تعيينه ولم يظهر عن الآثار المنقولة عن التابعين إلا أنه كان في البيع أو الدين، ولا أُثر عن أحد منهم أنه كان في القرض، والفرق بين البيع والقرض والدين سيأتي إن شاء الله.
(7)
والعجب أن ما يدَّعي أنه ربا حقيقي فلا ذكر له على لسان الشرع، وأما المحمول عليه والمشبه به فهو مروي عن جماعة من الصحابة، وكذلك الفقهاء لا يذكرون الربا الحقيقي إلا تبعًا واستطرادًا، ويأتون جميع الفروع والتفاصيل في باب الربا الغير الحقيقي.
(8)
لا إنكار من أن ربا الجاهلية كان في الديون كما يدل عليه بعض روايات التابعين؛ لكن المراد من الديون في كلامهم ديون البيع، أي إذا ابتاعوا نسيئة فما ثبت في ذمتهم من الثمن المؤجل هو الدين كما جاء مصرحًا في بعض الروايات، وكما صرَّح بها الإمام الشافعي والبيهقي والزرجاني حيث حملوا الدين المطلق على ديون البيع كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله.
(9)
لم نر له أثرًا في أيام العرب ووقائعهم لا في الجاهلية ولا في الإسلام، ووقائع هذه الأيام لا تعرض علينا؛ لأن أعظم أسباب الخلاف والمناقشة هو نظام السياسية الحالية، ولذا ترى أن كثرة الوقائع والمقدمات لا تختلف بهذا الباب.
(10)
قال ذلك تبعًا لابن القيم من أن الربا الثابت بالحديث ربا غير حقيقي، وهذا ليس بصحيح؛ لأن جمهور العلماء قالوا بإجمال الآية، ويكون الحديث مفسرًا للآية فهذا يكون ربا حقيقيًّا؛ لأنه ليس في القرآن ربا سوى ما ثبت كونه ربا بالسنة فلا نجترئ على أن نقول إن ما ثبت كونه ربا من القرآن والحديث هو ربا غير حقيقي والذي لم يرد فيه حديث ولا أثر خالٍ عن العلة يكون ربا حقيقيًّا.
(11)
لعله أراد بها القرض وليس بصحيح؛ لأن النسيئة في اللغة هي الثمن المؤجل لا كل ما يكون في الذمة من الدين أو القرض.
(12)
لفظ (أيضًا) ليس على محله؛ لأن في الشريعة ليس ربا إلا ما ثبت كونه ربا من الحديث.
(13)
ص 99 ج - 2.
(14)
هو موافق لما عليه الجمهور من أن الربا داخل في البيع.
(15)
هذا خلاف ما قال أولاً من أن الربا بيع، وأيضًا هو صرَّح بنفسه في التحرير أن الآية مجملة والحديث يفسرها، فكيف يصح منه هذا القول؟ .
(16)
وكذا فسَّر الآية الشيخ سناء الله في تفسيره تبعًا له.
(17)
فتح القدير باب الربا.
(18)
زاد بعضهم في تفسير العاقدين تحت حد الربا لفظ المقرضين؛ لكن هذه الزيادة خلاف ما عليه المحققون ولا دليل عليها ويأباها قولهم: في معاوضة مال بمال.
(19)
لا يصح به الاستشهاد، بل هو دليل على أن الربا بيع ويؤيده صنيع العلماء، أعني ذكر الربا بأحكامه في البيوع لا في الفرض.
(20)
هذا يدل على أن أبا حنيفة رضي الله عنه ذهب إلى أن الربا بيع.
(21)
(كتاب البيوع ص 435 ج 5) .
(22)
ليس فيه أنه ربا منصوص، فيمكن أنه أراد به ربا قياسيًّا؛ لأن الفقهاء لا يذكرون الأحكام الثابتة عن القياس مفصولة عن الأحكام الثابتة بنص القرآن أو بنص الحديث.
(23)
مسوى (ص 357 ج2) .
(24)
حجة الله (ص 105 ج 2) .
(25)
(ص 268 ج 4) .
(26)
بدائع كتاب الأشربة ص 115.
(27)
فيه دلالة على أن المبادلة ليست فيه.
(28)
معربًا عن المسوى شرح الموطأ الفارسية ص 357 ج 2.
(29)
فيه دلالة على أن القرض ليس فيه مبادلة، والإلزم فساده بالشرط الفاسد مع أنه لا يفسد بالشرط الفاسد، بل يلغو الشرط ويبطل.
(30)
رد المحتار، باب ما يبطل بالشروط الفاسدة ولا يصح تعليقه.
(31)
ص 122 حكم الشارع عليه السلام على كونه تبرعًا، ولم يحكم بأنه مبادلة ولم يعتبرها.
(32)
(ص 153 ج 5) .
(33)
هي العارية.
(34)
هي المبادلة.
(35)
(أي العارية) .
(36)
(جامع الرموز ص 406 ج 2) .
(37)
فلا يتصور الربا في القرض؛ لأن الربا هو الفضل والفضل والمساواة إضافة تقتضي الطرفين، بحيث لا يمكن وجودها بدون الطرفين، ولما كان في القرض رد المثل في حكم رد العين كما صرَّح به الفقهاء لا يتحقق في القرض الطرفان فلا يتحقق الفضل.
(38)
حاشية تبيين الحقائق شرح كنز قبيل باب الربا.
(39)
يوهم ظاهره أن المنفعة لو تخص المقرض لا تجوز ففيه أنها كما تجوز فيما لم يخص المقرض، كذا تجوز إذا خصت بالمقرض ومن فرق فلا بد عليه من فارق.
(40)
(ص 145 ج 1) .
(41)
وكذا العلامة البغوي والمفسر الصوفي الشهير بالخازن قد أخرجا حكم نفع القرض عن ربا البيع، وأثبتا له حكمًا من دليل؛ لكنه غير دليل ربا البيع فتفريق الدليلين يدل على أن القرض عندهما أيضًا ليس ببيع.
(42)
بدائع الصنائع (ص395 ج 7) .
(43)
بدائع (ص 153 ج 5) .
(44)
مسوى ص 357.
(45)
(ص 30 ج 4) .
(46)
(ص 39 ج 4) .
(47)
(274 ج 3) .
(48)
عمدة القاري (ص 434 ج 5) .
(49)
فتح القدير كتاب
الحوالة.
(50)
مثاله كمن باع خمس ربابي بخمس ربابي نسيئة لا يجوز بخلاف من أقرض خمس ربابي ليعيدها بعد أيام، فالأول بيع وفيه ربا وهو حرام ومعصية، والثاني ليس ببيع وليس فيه ربا بل هو قربة وصدقة.
(51)
أعلام (ص 53 ج 2) .
(52)
قال أحمد: قتادة أعلم بالتفسير وباختلاف العلماء، وأحفظ أهل البصرة ووصفه بالحفظ والفقه وأطنب، وقال: قلَّ من تجد أن تقدمه، قال الثوري: أوكان في الدنيا مثل قتادة؟ قال الذهبي: مع حفظ قتادة وعلمه كان رأسًا في العربية واللغة وأيام العرب والنسب.
(53)
الإمام المكي المقري المفسر الحافظ لزم ابن عباس مدة وقرأ عليه القرآن، وكان أحد أوعية العلم، قال: عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ قال قتادة وخصيف: أعلمهم بالتفسير مجاهد، وقال ابن جريج: لأن أكون أسمع من مجاهد أحب إلى من أهلي ومالي، قال مجاهد: ربما أخذ لي ابن عمر بالركاب.
(54)
قال سفيان: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك (إتقان) قال الذهبي لولا تأخر موته لذُكر مع وكيع بل مع ابن المبارك روى عنه البخاري وخلق ولنبله وعقله يلقب بالنبيل، قال ابن شبة والله ما رأيت مثله.
(55)
كتاب المعرفة للبيهقي باب الربا - قلمي.
(56)
الفقيه المدني كان له حلقة للعلم بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
(57)
الفقيه الكوفي المقري أحد الاعلام إذا حج أهل الكوفة وسألوه يقول: أليس فيكم سعيد بن جبير؟ ويقال له: جهبذ العلماء، قال ميمون: مات سعيد بن جبير وما على الأرض إلا وهو محتاج إلى
علمه، قال قتادة: كان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير.
(58)
هذه قرينة على أن المراد بالقرض ههنا هو الدين لا القرض الذي يوجد من غير بيع لأن الدراهم المثمنة في بيع النسيئة دين على ذمة المشترين وليست بقرض وكذلك التأجيل قرينة على ذلك كما سيأتي.
(59)
علم منه أن ههنا أنواعًا باطلة من البيوع فكونه بيعًا قرينة على أن المراد بالدراهم هي الدراهم المثمنة وبالقرض الدين.
(60)
(أحكام القرآن ج1 ص 464 إلى 469) .
(61)
(حاوي مجمع المعافى قلمي ص159) .
(62)
(ص 336 ج-1) .
(63)
كتاب المعرفة باب الربا.
(64)
أي بأن رد زائدًا على القدر المدفوع.
(65)
ولا يجوز أن يستدل على حرمة نفع القرض بأنه حرم في التوراة وشرائع من قبلنا حجة عند الحنفية؛ لأنها حجة بشرط النقل في شرعنا وعدم الرد عليها، وهو لم ينقل في شرعنا فلا حجة فيه.
(66)
وأثر عبد الله بن سلام مضطرب ومعلول كما مر تفصيله، وأما الآثار الأخر فضعاف كلها وبعضها مع ضعفه لا يدل على كون المنافع ربا، والكلام في حجية الآثار مشهور لا سيما إذا كان مدركًا بالقياس، وأما إتيانها موضع تفسير إجمال القرآن فلم يقل به أحد.
(67)
زاد الفقهاء في تعريفه قيد المشروط لكن ينبغي تركه كما مر.
(68)
في مجلة الأحكام (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) وفي شرحه: كغلق باب المسجد في غير وقت الصلاة يجوز في زماننا صيانة عن السرقة - قال ابن عابدين في رد المحتار وأنت خبير بأن أكثر الأحكام تغيرت لتغير الأزمان (كتاب الصوم ج 2 ص 147) وقال في نشر العرف: فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام (ص125 رسائل ابن عابدين ج2) وأيضًا، وقد أسمعناك ما فيه الكفاية من اعتبار العرف والزمان واختلاف الأحكام
باختلافه (128) ونقل في هذه الرسالة أن العلامة شمس الأئمة نقل عن الإمام الفضلي في نزع الناس عن عاداتهم حرج، ثم قال ولقد صدق الفضلي في قوله ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج فهو نظر إلى أن ذلك غير ممكن عادة، فأثبت الضرورة وقال: إن المستحيل العادي لا حكم له، وإن أمكن عقلاً 140.
(69)
مع أن حرمة الاستئجار في البعض منصوصة ولكن بحسب حاجة الناس، أفتى الفقهاء الكرام بجوازه، فعلى هذا النفع المشروط في القرض أولى بأن يفتى بجوازه لأنه ليس منصوصًا عليه بالحرمة (إذ الناس ناس والزمان زمان) .
(70)
قد مر أن المماثلة لا توجد في القرض لأنه ليس فيه وجود الطرفين.
(71)
فيه أن القرض ليس فيه المبادلة عند الشرع، وهذا الشيخ أيضًا أقام عليه الأدلة، ثم قال: أعطى الشرع لمثله حكم عينه (تفسير مظهري)
(انتهى الاستفتاء وسنبين رأينا فيه في الجزء الآتي) .
الكاتب: اليزيدي
ملاحظات على كتاب المسيو درمانغام
المُعَنْوَن بحياة محمد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
مقدمة وتمهيد:
حياة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اشترك في درسها الكُتاب والفلاسفة
والمؤرخون ورواة الأخبار منذ ما ينيف على العشرة قرون، وإن منهم إلا من بخسه
حقه، وقصر عن وصف نقطة من بحر مزاياه، ومع هذا فلا لوم عليهم ولا عتاب
مهما تفاوتت مداركهم، واختلفت أساليبهم، وتباينت مذاهبهم ومللهم؛ لأنه عظيم بل
أعظم من أظلته السماء، ولا ترتقبوا مني دليلاً على ما أدعي فإني أقصر باعًا ممن
تقدمني لهذا الباب، والقصور لا يمنع من ابتلي به عن إدراك النقص فيما يرى أو
يسمع، فها أنت ذا تأخذ على ممثل التصنعَ في القول أو تعيب عليه الخفةَ في
الحركات؛ ولكنك لا تستطيع أن تأتي بأحسن من صنعه، وهذا مثل واضح ضربته
حتى تعلم أنه ليس من شروط المنتقد أن يكون أعلم ممن تصدي لانتقاده أو - على
الأقل - في درجته، فإذا فهمته حق فهمه علمت أنني لا أدعي تفوقًا أو علمًا؛ وإنما
ألاحظ أن خزائن الكتب العربية خالية من تأليف يحتوي على درس دقيق لحياة
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس كل ما كتب إلى الآن في هذا الموضوع إلا
بمثابة مواد يجب على طائفة من العلماء أن يحللوها، ثم يرتبوها ويبوبوها بعد أن
يضيفوا إليها ما غفل عنه المتقدمون، وعند ذلك يضعون بين يدي الخاص والعام
أحسن تعريف بذلك النبي العظيم الذي لم يأت التاريخ بمثله.
فهو الرسول الوحيد الذي استطاع أن يأتي أمته في ظرف عشرين سنة بخير
دنياها وسعادة أخراها: شرَّع لها العبادات - سنَّ لها قوانين الزواج والطلاق
والإرث - شرح لها طرق الكسب والمعاش - أشرع لها منهج المعاملات - علمها
سياسة البلاد - قرر لها أنواع الأحكام - بيَّن لها آداب الأكل واللبس والزيارة -
زرع في قلوب أهلها الرأفة والشفقة - وحَّد صفوفهم - حرَّم عليهم ما فيه مضرتهم،
على حين كان مشتغلاً بحاجات بيته الطاهر، ناشرًا لدعوته الصادقة محاربًا
للمشركين الذين كانوا يكيدون له الكيد ليل نهار.
أرجو أن يسمع علماء المسلمين ندائي على خمول مصدره، فيصنفوا لنا كتابًا
تستنير به بصائر الجاهلين، وترتاح إليه قلوب الحائرين، ويزيد المهتدين إيمانًا
مع إيمانهم.
بمثل هذا الكتاب ينقطع سيل الحملة التي أرسلتها الكنيسة على الملة الإسلامية
بأن قلدت الجيوش من الدجالين أمضى ما لديها من الأسلحة وأوعزت إليهم أن ينالوا
من الديانة الإسلامية ما استطاعوا حتى تبطئ في السير أو ترجع القهقرى.
أنا مستيقن وأنتم معي - معشر المسلمين - بأنهم لن يصيبوا منها شيئًا؛ لأن
الله يأبى إلا أن يُظهرها على الدين كله بالرغم من المعاند والملبس، ومع هذا يجب
علينا - وخصوصًا العلماء منا - أن نعارض خطة الكنيسة في هذا الصدد، وأن لا
نغفل عن جماعة المفسدين المضلين الذين يريدون أن يزعزعوا بسطاء العقول
والجهلة ويزيغوهم عن معتقداتهم ثم يقودوهم إلى النصرانية.
فالتدارك التدارك قبل أن يتسرب الخراب إلى الطائفة المحمدية؛ لأن
خصومنا لا يذرون طريقًا مستقيمة ولا معوجة إلا سلكوها، ولا تركن إلى ما
يدَّعونه من اللادينية والتسامح والإخلاص للعلم وغير ذلك من زخرف القول وخادع
الألفاظ، فما فرَّط في دينهم اليوم إلا المسلمون، وما جاوز حدود التسامح إلا هم،
فلو أنهم أقاموا شعائره واتبعوا أوامره لما تجاسر أحد أن ينسب إليه الجمود، بل أن
يطعن فيه وفي صاحبه عليه الصلاة والسلام، فيدَّعى أن القرآن المرسوم في
المصاحف غير القرآن المنزَّل من السماء، وأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم
كان يأخذ عن اليهود والنصارى.
نعم ذلك ما جاء في كتاب ظهر منذ عام باللغة الإفرنسية بعنوان (حياة محمد)
صلى الله عليه وسلم، وقد سبقني إلى انتقاده صديقي أحمد بلافريج حيث نشر
عنه في العدد 146 من مجلة الفتح الغراء كلمة لاحظ فيها على المؤلف - مسيو
درمنغام (Dermcnghem. E. M) خطأين عظيمين، ثم بيَّن كلاًّ منهما
وناقش مرتكبهما الحساب، وبذلك أدى واجبه نحو الأمة الإسلامية فجزاه ربنا خيرًا.
وأنا أريد أن أقتفي أثره وأعرض على قراء المنار الكرام ما بدا لي من
الملاحظات عند تلاوة (حياة محمد) صلى الله عليه وسلم.
اقتنيت هذا المؤلَّف وأملي أن أجد فيه ما لم أقف عليه في غيره من الكتب لما
عُرف به أدباء الغرب اليوم من البحث والتنقيب، فلم يخب ظني إذ عثرت فيه
حقيقةً على آراء هي - في نظر المؤلف - أنفس من أن تسكن بطون كتبنا القديمة،
وقد أشرت إلى البعض منها آنفًا، وبقي علي أن أنقل إلى القارئ كلام المسيو
درمانغام فيها، ثم أعلق عليه ما خطر لي من الأفكار عند تلاوته، وسأقتصر في
انتقادي على نقطتين بارزتين في الكتاب، ولو أردت أن أُبيِّن كل ما احتوى عليه
من الزلات كبائرها وصغائرها لما اكتفيت بضعف صحائفه وليس ذلك من المتيسر
لي.
قال في صفحة 135 عند كلامه على كتاب الله العزيز (القرآن أقرب إلى
المسيحية من السنة على ما هو عليه الآن، وأما إذا اعتبرنا كيفية تدوينه فيمكننا أن
نتساءل هل كان أصله (كذا) يزيد شبهًا بها من الفرقان الموجود الآن؟ وعلى كل
حال فالحديث هو الذي حفر هوة بين الديانتين) .
ثم خط على صفحة 276 ما معناه (غير صعب على عقولنا وهي أشد معرفة
بأفعال الله من معاصري النبي عليه السلام ومن علماء المسلمين [1] أن نؤمن
بوجود فرق بين كلام الله القديم وبين الفرقان المحفوظ في الصدور المرسوم على
الأوراق، وقد يظهر ذلك الفرق بعد الدرس والتفكير وربما برز عند مجرد النظر) .
ثم كتب على صفحة 283 (لم يدون القرآن إلا بعد نزوله بمدة، وقد ضعفت
عندئذ ذاكرة القوم وكثر بينهم الخلاف فيه، وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله
عليه وسلم بسبعين سنة) .
وقال في الصفحة التي بعدها (بأية وسيلة يمكننا أن نتوصل إلى معرفة
الشروح والتأويلات التي أدرجت في القرآن وما هي نسبتها منه؟ ترى هل هو
مجرد عن الحديث النبوي؟)
تلك آراء المسيو درمانغام في القرآن الكريم، وإلى هذا الحد وصل سوء ظنه
بالصحابة الأجلاء الذين يأبى حتى البليد أن يتهمهم بتحريف أو تزوير في كتاب
الله [2] لِما عُرفوا به من الإخلاص لهذا الدين الحنيف والاعتصام بحبله والاعتناء
بقانونه ودستوره الذي هو القرآن العزيز، لا شك أنه لا ينكر هذا كما أنه لا ينازع في
قوة الحافظة عند العرب لرواية أخبارهم وأشعارهم مع الغريب من ألفاظها والمعقَّد من
معانيها، فكيف وما ذكرتَ يجوِّز في حقهم نسيان آيات من كتاب نزل عليهم من عند
الله واستولى على حواسهم بفصاحته وسلاسة معانيه وعذوبة ألفاظه وصدق روايته؟
وكيف ننسب إليهم زيادة أو نقصًا فيه، وهم يعلمون أن من بدَّل منه حرفًا يصلى
سعيرًا؟ عار على المفكر أن يرميهم بشيء من ذلك لمجرد شكوك ساورت عقله أو
شبه ضعيفة تراءت لخياله.
على أنهم كانوا رضي الله عنهم يكتبون القرآن عند نزوله، إما من تلقاء
أنفسهم وإما بأمر صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وقد جمعه كثير منهم إلا
أن ثلاثة مصاحف هي التي اختصت وقتئذ بالثقة، منها: مصحف سيدنا زيد بن
ثابت، وقد كان عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر حياته ووافق
عليه، وزيد هذا هو الذي كُلِّف من لدن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أيام
خلافته بكتب المصحف، وبقي ذلك المصحف عند أبي بكر حتى مات رحمه الله،
ثم انتقل إلى عمر رضي الله عنه حتى توفي، فبقي عند ابنته أم المؤمنين حفصة
إلى أن طلبه منها سيدنا عثمان رضي الله عنه، ثم أمر زمرة من الصحابة الأعلام
أن يأخذوا منه عدة نسخ ليفرقها في أنحاء المملكة.
وكل ذلك مبسوط في محله؛ وإنما أوردته لأبين للمسيو درمانغام أن القرآن
جُمع أول مرة بعد ممات النبي عليه السلام بنحو سنتين، وثانيًا بعده بما دون
العشرين، وأما حديث السبعين عامًا فلم يقله إلا هو، وله أن يراجع التاريخ
الإسلامي ليتأكد لديه صحة ما ذكرت، وعليه أن يدرس حياة سادتنا أبي بكر وعمر
وعثمان رضوان الله عليهم ليعلم أنه يستحيل في حقهم أي تحريف أو تبديل في
القرآن، أليس عمر هو الذي كاد يقضي على أعرابي سمعه يتلو آيات بقراءة
مخالفة لما أخذه هو عن رسول الله؟ بلى هو ذاك الفاروق الذي لو روى لنا القرآن
وحده لما ارتبنا في صحته؛ لأننا لا ننقاد لسلطان الخيال وندع نور الحق جانبًا،
ولأننا لا نعقل وجود (فرق بين كلام الله القديم وبين القرآن المحفوظ في الصدور) .
ولكنا نعلم أن في نفس المسيو درمانغام حاجات يحول دون الوصول إليها
القرآن، وقد حسب أنه ينال مقصوده بالتكلم في الذكر الحكيم والطعن في خاتم
المرسلين، وما غايته إلا تقريب الديانة الإسلامية من الملة المسيحية حتى يسهل
على أصحاب الأولى أن يمروا إلى الثانية؛ لأنه من المخلصين لها (دينًا أو سياسة)
فكأنه يقول: الإسلام فرع من النصرانية، وقد كان القرآن (الأصلي) أقرب
إليها من الفرقان الموجود الآن، وإنما بعد عنها بتحريف من الصحابة والفقهاء،
فالأوفق والأنسب الرجوع إلى الأصل [3] .
وهذه مكيدة من سياسة الكنيسة اليوم في التبشير فقد أمرت خدامها أن لا
يصادموا المسلم بادئ بدء بدعوته إلى النصرانية، بل أن يقوضوا دعائم الإسلام
واحدة فواحدة، ويشككوا بسطاء العقول من أهله في معتقداتهم حتى إذا ما بقوا
حيارى ومرت بهم قافلة أخرى من المبشرين ساقتهم معها إلى الصليب.
غير أن المسلمين لا ينخدعون لها ولا يخالجهم ريب في القرآن {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) لأنهم يتلون ويسمعون {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فيقولون: صدق الله العظيم.
ولو أقامت الكنيسة الإنجيل كما أُنزل من عند الله لكُنا وأهلها أمة واحدة؛
ولكن رجالها بدَّلوا فيه وغيَّروا [4] ثم أبوا أن يرضوا عن سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم حتى يتَّبع ملتهم، فنهانا الله تعالى أن نؤمن لهم.
وأما مسيو درمانغام فنظره أن مسألة الصلب وحدها هي التي أبعدت الإسلام
عن النصرانية، وهو لا يستعبد أن تكون تلك المسألة من المحرفات في الكتاب قال
في صحيفة) 130 (130) .
(إذا اعتبرنا أن القرآن لم يُجمع إلا في عهد عثمان والحجاج (كذا)
…
وأن الألفاظ لم تكن مشكولة بنقط أو حركات بحيث كان في الإمكان النطق بها
بكيفيات مختلفات يبقى لنا أن نتساءل فيما إذا كانت هذه الآية {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ....} (النساء: 157) تكفي لأن تكون سدًّا مانعًا بين ديانتين متحدتين
في كل ما سوى هذه المسألة، زد على ذلك أن تلك الآية تناقض ما جاء في سورة
آل عمران {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ....} (آل عمران:
55) وفي سورة المائدة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة:
117) وفي سورة مريم {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ....} (مريم:
33) اهـ.
نحن لا نرى تناقصًا بين آيات (الوفاة) وبين آية نفي (الصلب) وقد قال
بعض المفسرين: إن الله توفى المسيح قبل أن يرفعه، وهو تأويل معقول المعنى؛
لأن سيدنا عيسى عليه السلام كان لابد له من الموت؛ لأنه إنسان يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق ويتعب كسائر الناس، والموت لا يقتضي أن يكون بسبب
الصلب أو القتل، بل المتبادر من التوفي أنه عليه السلام مات حتف أنفه بدون فعل
أحد، وذلك لا ينافي الرفع، ألم تر أن الله يقول:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) فلم العناد إذًا، وقد ذُكر في القرآن أن اليهود قتلوا أنبياءهم
كيحيى وزكريا؟ ثم هب أننا عمدنا إلى آية الصلب فغيرناها حسب رغبتك،
أفتظن أن ديانتينا تصيران متشابهيتن؟ كلا إننا نقول (الله أحد) وقومك يقولون:
الله ثالث ثلاثة، ونحن نقول: إن عيسى المسيح عبد الله ورسوله وهم يقولون (إن
الله هو المسيح عيسى بن مريم) وقد قال الله تعالى لرسوله محمد خاتم النبيين
{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) فأينك وما أحدثته - في زعمك - آية الصلب من التباين؟
وأينك وتآخي الديانتين والمسلمون لا يزالون يتلون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (المائدة: 51) .
أتكون كل هاته الآي وما في معناها مما ذكره مزيدة في القرآن بقصد إبعاده
عن المسيحية؟ أم تريد أن تحذف كل ما في هذا المعنى من القرآن لنندمج في
النصارى؟ ذلك ما لسنا بفاعليه وإن بدل الهلال غير الهلال؛ لأن الخلاف بيننا في
أس الاعتقاد أعني (التوحيد) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) .
اللهم اجعلنا من المخلصين في الإيمان بك والاتباع لرسولك إلى الأبد.
والآن سأرجع بك أيها القارئ إلى الصحيفة 117 من كتاب المسيو درمانغام،
حيث يستخدم قوة خياله وسوء نيته في الحط من قدر صاحب الشريعة عليه السلام.
قال هنالك (والذي لا ريب فيه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تأثر بديانة
المسيح، بل إن الرهبان والنصارى المقيمين بمكة وبعض المفكرين من العرب
كزيد بن ثابت هم الذين الذين زرعوا فيه العاطفة الدينية قبل عهد الرسالة) [5] .
هذا مما لا يشك فيه كاتب (حياة محمد) ولكن ما أدلته وحججه؟ أَنَزَل عليه
الوحي بذلك؟ أم تسار مع النبي صلى الله عليه وسلم بطريق استحضار الأرواح؟
ذلك ما أهمل ذكره، وكل ما برهن به على ما ادعى هو زعمه وجود بعض
النصارى بمكة وضواحيها! مع أنه لا يجهل أن الإنجيل كان في ذلك العهد محفوظًا
عند رجال الكنيسة بحيث كان يستحيل أن تجد من بين مطلق المسيحيين من يروي
شيئًا من تعاليمه، وإليك كلامه عن ذلك في الصحيفة 63 (63) : (كان محمد
صلى الله عليه وسلم يميل إلى ديانة المسيح غير أنه كان لا يعرف عنا إلا شيئًا نذرًا،
وما كان يمكنه أن يأخذ عن النصارى المقيمين بمكة؛ لأنهم جهلاء لا يتفقون على
رواية) .
الله أكبر، الآن حصحص الحق وظهر تناقض المؤلف وخباله! فمن جهة
يزعم أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام كان يأخذ عن النصارى الذين كانوا بمكة،
ومن جهة كان يثبت أنه ما كان يمكنه الأخذ عنهم لأنهم يجهلون تعاليم المسيح ولا
يتفقون على شيء منها، اللهم إن عقولنا تعجز عن الجمع بين هذين المعنيين، بيد
أنها تعلم أن جل النصارى اليوم لا يعرفون من الإنجيل شيئًا مع تعدد طرق النشر
وأساليبه، فما بالك في عهد لم تكن فيه مطبعة ولا جريدة؟
…
وعليه فعمَّن أخذ
صلى الله عليه وسلم التفاصيل عن أخبار الأمم السالفة، ندع الجواب للمسيو
درمانغام، وربما يجيبنا بأنه كان عليه السلام يتلقى ذلك من طريق الوحي حيث
إنه لا ينكر تلك المعجزة، وإن حاول غير مرة في كلامه عنها أن يظهر لنا نبينا في
صورة (درويش هندي) أو (فقير صوفي) في لجة الارتباك، قال في صحيفة
62 (62) ما معناه (انقطع محمد عليه السلام عن الناس وحببت إليه الخلوة،
وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقيين، فكأنه كان بتأمله وبطول تفكيره في
خلوته يستجمع قواه العقلية وينمي حاسة الاختراع فيه؛ وبذلك لا يصيبه تعب ولا
ملل من بعد
…
وبعبارة كان محمد صلى الله عليه وسلم مقر أزمة وكان يفزع إلى
الجبال ليحلها) .
مفهوم هذا الكلام أنه عليه السلام كان يعتزل الناس ليخترع لهم دينًا جديدًا وإلا
فما معنى؟ قوله (وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقين..) نعم نحن لا ننكر أنه
كان قبيل إبان الوحي يتردد إلى غار حراء ولكن عسير علينا - والله - أن ندرك ما
كان يدور في خلده آنئذ وإن كنا من الشرقيين الذين ينسب إليهم واسع الخيال، فإن
استطاع المسيو درمانغام أن يأتينا بحجة على ما يقول فإنا مستعدون لقبولها بل
ولقبول ما جاء في الصحيفة (66) من كتابه وإليك ترجمته:
(علم محمد صلى الله عليه وسلم من طريق نصارى سورية ومكة أن هناك
دينًا سماويًّا، وأن الله كان يبعث بأوامره لبعض الأمم ليلقنهم الحقيقة، وذلك
بواسطة رجال يصطفيهم ليرشدوا الناس ويردوهم إلى الجادة كلما حادوا عنها، كما
علم أن ذلك الدين كان واحدًا؛ وإنما الناس يحرفونه في مدة الفترة، وطالما تمنى
أن يقيض الله للأمة العربية من يرشدها لأنها كانت تائهة في فيافي الضلال) .
فعاطفة مثل هاته غير مستحيلة في حق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام مع
ما عُرف عنه من مكارم الأخلاق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) كما أننا
لا نشك أن الدين الذي أتى به كل الرسل واحد في أصوله الاعتقادية، وهي توحيد
الله والوحي والبعث والجزاء وأصوله العملية وهي الفضائل والأعمال الصالحة،
وإنما يختلفون في الفروع والشرائع العملية {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) وقد أمرنا بأن نؤمن بهم، وأن لا نفرق بين أحد منهم، فما جاء به
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو عين ما أنزل على كل من سادتنا نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم أجمعين في أصوله، إلا أن
قومهم من بعدهم حرَّفوه حسب أهوائهم وأغراضهم وإلا لاتبع اليهود والنصارى
سيدنا محمدًا عليه السلام ( {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157)
وأما دعواه أن النبي عليه السلام علم ذلك من طريق نصارى سورية فهي من
الغرابة بمكان، بل مثال متناه في الجسارة على البهتان.
وبعد هذا كله إذا فرضنا أنه عليه السلام أخذ ذلك عنهم، فمن أين يا ترى
تلقى ما يحويه الفرقان من الحكم والأحكام والآداب؟ إذا كان من طريق الوحي
وهو الحق واعترف به المسيو درمانغام، فإذًا ما وجه الحاجة إلى النصارى أو
غيرهم؟ أليس الذي علَّمه ما ذكر بقادر على أن يقص عليه أخبار الأمم الماضية؟
بلى! وهو العليم القدير.
فكفوا معشر المسيحيين عن غلوكم وتحاملكم وحوِّلوا جهودكم شطر الهمج من
الوثنيين، وأما المسلمون فهم لا يرضون بدينهم بديلاً لما يجدون فيه من خير
الدارين، ولقد كانوا أرقى الأمم وأعزها وأكرمها وأشدها بأسًا يوم كانوا متمسكين به،
ولديهم من المجلدات القناطير المقنطرة شهادة على ذلك، وهذه الآثار لا تزال
قائمة ناطقة في كل بلد فتحوها؛ ولكنهم اشتغلوا بعد ذلك بالسفاسف وتمسكوا
بالقشور من أمر دينهم فحقت عليهم كلمة العذاب، ولئن لم يستدركوا ما فاتهم بأن
يعلِّموا أولادهم تعليمًا دينيًّا عربيًّا؛ فإنهم لا يلبثون أن يصبحوا مذبذبين بين الإسلام
والنصرانية والإلحاد، لا إلى هذا ولا إلى تلك ولا إلى الآخر، والوقت حرج لا
يدع مجالاً للتردد، فإما علينا وإما لنا.
…
...
…
...
…
...
…
الرباط (المغرب الأقصى)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
اليزيدي
في (8) جمادى الأولى عام (1348) ، (12) أكتوبر (1929)
(المنار)
إذا كان درمانغام هذا يؤمن بالله تعالى ويعقل أفعاله وحكمه أحسن
مما كان يعقلها الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما ادعى - فليخبرنا
بالبرهان الذي قام عنده على نبوة موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعته
وآخرهم المسيح عليهم السلام، وعلى أنها وحي من الله دون نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم وشريعته، مع أن القرآن أعلى من التوارة وغيرها من كتبهم في العلوم
الإلهية والتشريع الأدبي والمدني، وإخباره بالغيب أصح من إخبارهم رواية وأصرح
منها وأثبت، وقد كان أميًّا نشأ بين أميين من حيث نشأ موسى في بيت ملك كان
أرقى ما في الأرض علمًا وتشريعًا، فإن كان يعقل هذا ويتكلم عن اعتقاد ورغبة في
الجمع بين الديانتين فعليه أن يدعو النصارى إلى الإسلام مصلح النصرانية،
وخاتمة الأديان الإلهية.
_________
(1)
المنار: وغير صعب على عقول المسلمين أن يؤمنوا بأن هذا الكاتب وأمثاله يفترون ويقولون
في القرآن والحديث ما لا يعملون وما لا يعتقدون لتشكيك المسلمين وإضعاف دينهم ليخنعوا لهم
ويقبلوا ظلمهم، فإن بناء سياستهم على الكذب والخداع أمر مشهور يعرفه حتى الرعاع، ودعواه
أنهم أعلم بأفعال الله تعالى من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم غرور باطل ودعوى لا تقوم
عليها بينة، فهم أجهل الخلق بأفعال الله.
(2)
المنار: لا شك أن هذا الرجل سيئ النية، متعمد للكذب لتشكيك قراء كتابه من عوام المسلمين، فما كتبه تقولات - لا آراء - أملاها الجهل وقلة الحياء، وأي جهل ووقاحة أشد من دعوى من
يزعم أن القرآن كُتب بعد انتهاء مدة الخلفاء الراشدين ويزيد ومعاوية الأصغر ومروان أي في عهد عبد الملك و4 من بني أمية أي في عهد عبد الملك بن مروان فهل كان المسلمون في هذه المدة بغير قرآن؟ .
(3)
المنار: لا حاجة إلى مزاعم هذا الرجل في إرجاع المسلمين إلى القرآن، فعقيدتهم التى يكفر عندهم كل من خالفها أنه هو الأصل القطعي، وأن الحديث الذي يخالفه مخالفة حقيقية لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ ولكن هذا الأصل ينقض النصرانية المعروفة بأشد مما تنقضها الأحاديث كما يأتي.
(4)
المنار: إن النصارى أضاعوا الإنجيل الذي أوحاه الله تعالى إلى عيسى عليه السلام؛ وإنما هذه الكتب المسماة بالأناجيل عندهم تاريخ أو تواريخ له، فيها شيء من ذلك الإنجيل الذي نقل عنه لوقا ذكره بقوله (16: 15 وقال لهم اذهبوا إلى العالم، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) اهـ. وقال الله تعالى:[وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ](المائدة: 14) فالقرآن هو المهيمن على هذه الكتب كلها، وهو دين الله الأخير المكمل لما جاء به جميع الأنبياء من دين الله الواحد في أصوله وأهمها وأعظمها التوحيد، والناسخ لجميع ما خالفه من شرائعهم وهو الذي حفظ دونها، فالنصرانية هي التي يجب أن ترجع إليه دون العكس الذي يحاوله المبشرون بدين الكنائس، بل بأديانها المتعارضة، وإنجيل برنابا أصح عندنا من هذه الأناجيل الكنسية، وهو ناطق بالتوحيد وبراهينه وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
(5)
المنار: من حسن حظ المسلمين أن هؤلاء الذين يطعنون في دينهم يفضحهم في كذبهم وافترائهم جهلهم بالإسلام وتاريخه، فزيد بن ثابت الذي زعم هذا المفتري أنه كان يزرع عاطفة النبوة والرسالة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنصاري من يثرب كان عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة طفلاً فيها، ولم يره قبلها، وقد استصغر يوم بدر فلم يؤذن له بالقتال لصغره! ! .
الكاتب: محمد رشيد رضا
ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها
حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب
والرأي في مستقبل العرب والشرق
(2)
حقيقة حال الإنكليز
قد بيَّنا في الفصل الأول من هذا المقال حقيقة حال اليهود: ما يعدُّ لهم وما يعد
عليهم، ومنه ما هو خفي عن أكثر الناس.
وأما الإنكليز فأمرهم مشهور عند قراء الصحف وغيرهم لكثرة خوضها في
سياستهم وأعمالهم، ونقلها مناقشات برلمانهم فيها، ونقل أقوال صحفهم وصحف
الأمم الأخرى في نقدها مدحًا وذمًّا، وإنما تخفى على الكثير منهم أخلاقهم وصفاتهم
العامة، وما طرأ عليها من تغير، فنذكر ما يعنينا من ذلك.
كان القوم مشهورين بالصدق والعدل والحزم والتدبير ومراعاة حرية الناس في
أديانهم وآرائهم، وبالوفاء بالوعود والعهود في معاملاتهم الشخصية والدولية، كما
اشتهروا بالدسائس والحيل والكيد والمكر، والعجب والكبر، والرياء والإفك [*] ،
ولم يكن كل ما يقال في الشهرتين حقًّا ولا كله باطلاً؛ وإنما مرجع أكثر ما يوصفون
به من فضيلة إلى أخلاق الأفراد ومزايا الشعب يفيض شعاعه على الحكومة، كما أن
مردَّ أكثر ما يوصفون به من رذيلة إلى الحكومة، وقد يثور غباره في وجوه الشعب،
وما كانت تمدح به حكومتهم وحدها، فمنه ما هو حق إلا أنه نسبي لا تام في الغالب،
ومنه ما هو من تأثير الدعاية (البوربغنده) التي لم يتقنها أحد كإتقانهم، ولا تنفق في
سبيلها دولة كإنفاقهم، وأعني بالنسبي أمرين (أحدهما) ما يكون من المقايسة بين
الإنكليز وغيرهم من المستعمرين ولا شك أنهم أمثل وأعقل وأنبل (وثانيهما) ما
يكون من التوازن بينهم وبين الحكومات الوطنية للبلاد التي يتولون أمرها بالأسماء
المختلفة أو المختلَقَة التي يضعونها لها كغيرهم (كالحماية والاحتلال والإجارة
والانتداب) وما غُلب أولو سلطان وإمارة على حكمهم وانتُزعت منهم بلادهم، إلا
بظلمهم وإسرافهم في أمرهم، فهؤلاء القوم يتحرون أن يكونوا أقل منهم ظلمًا، وأمثل
حكمًا، ولو لم يفعلوا إلا النظام في الظلم، والمساواة بين كبير الناس وصغيرهم في
الحكم، لكفى ذلك مروِّجًا للدعاية لهم، والتنويه بفضلهم على غيرهم، على أنهم لا
يساوون أنفسهم بغيرهم من أهل هذه البلاد، ولا يتنزهون عن محاباة صنائعهم
وأعوانهم على تمكين نفوذهم فيها، ولا يتقون ظلم أي زعيم وإذلال أي عزيز يطالب
باستقلالها، أو يأنسون منه خطرًا على حكمهم، أو اشمئزازًا من ظلمهم.
وللإنكليز مزية أخرى على غيرهم من المستعمرين، ولا سيما اللاتين وهي -
كما قال لنا الدكتور يعقوب صروف من دعاتهم وسماسرة سياستهم - أنهم يسمحون
لأهل البلاد التي يسوسونها بشيء من ثروتها ومظاهر الحكم والجاه فيها يتمتعون به
في ظلهم، من حيث يعترق الآخرون لحمها، وينتقون المخ من عظمها، ويستأثرون
بالكبير والصغير من الحكم والنفوذ فيها، وقد قلدتهم دولة أخرى في نصب تماثيل
للحكم في بعض مستعمراتها من أهلها؛ لكنها لم تدع لهم أدنى نصيب من مسمى
الأسماء التي تفضلت عليهم بها، فكانت أضر على أهل بلادهم منها على أهل البلاد
التي لم تنصب فيها شيئًا من هذه التماثيل.
وأما فضيلة الإنكليز العليا فهي أنهم أدنى إلى مراعاة سنن الاجتماع، ومسايرة
ما يتجدد فيه من الأطوار والأحوال؛ ولكن بعد طول الروية والاختبار، والتنازع
بين طرفي التفريط والإفراط، كما يعلم من الفرق البيِّن بين إدارتهم في مصر
والسودان، وفي الهند وزنجبار، بسبب اختلاف حال كل من القطرين الزوجين
المتقابلين في العلم والجهل، والقرب والبعد من قوة الرأي العام، وكما ظهر أخيرًا
من التفاوت في تصرفهم وسياستهم في القطرين العربيين المتجاورين، فلسطين
وشرق الأردن من جهة والعراق من جهة أخرى بسبب التفاوت بين حاليهما في القوة
والضعف، ففي العراق مئات من الألوف الشاكي السلاح، وألوف كثيرة من
الضباط العلماء بفنون القتال، وقد أضرموا نار ثورة قُتل فيها عشرات الألوف من
الرجال، وأُنفق فيها الملايين من المال، ومن ورائهم زعماء سياسيون يعرفون
كيف يطالبون بالحرية والاستقلال، وقد قربوا منهما، ولن يرضوا بما دونهما.
فأما أهل شرق الأردن فقد سيموا من الخسف والاستعباد، ما لا نظير له في
بلد من البلاد، إذ باعهم أميرهم لملك الإنكليز بيعًا سياسيًّا بعقد معاهدة لا يطيق ذلها
أحد، ولا يقيم على خسفها إلا عير الحي والوتد، فاكتفى أذكاهم فهمًا وأقواهم عزمًا
باسترحام الأمير لتعديل بعض مواد العقد، وتخفيف وطأة ما فيه من أحكام الرق، وهم
قادرون الآن على تمزيق ذلك الصك، ونبذ ما انتحله عاقده من حق المُلك، وهي قدرة
لا تدوم لهم، إذا طال أمد هذا الحكم عليهم.
وأما أهل فلسطين، فقد انحصر همهم في مقاومة الوطن القومي للصهيونيين،
ومطالبة الإنكليز بنظام حكم نيابي يساوي بينهم وبين غرباء اليهود المعتدين، ونرى
الإنكليز لا يسمعون لهم شكوى، ولا ينصفونهم في دعوى، بل يحابون اليهود
وينصرونهم عليهم، ويمهدون لهم انتزاع رقبة أرضهم من أيديهم، والاستيلاء على
مرافقها ومنافعها، والاستئثار معهم بمصالح حكومتها، وغرضهم الباطن من ذلك
تفريق الوحدة العربية في قلب بلادها، وإيجاد أعداء للعرب من غير الإنكليز
يشغلونهم بهم عن عداوتهم، ويعلِّقون أمل الفريقين ببقاء حكمهم عليهم.
وأما سببه الظاهر فهو أن اليهود أقوى من العرب أهل البلاد مالاً واتحادًا
ونفوذًا ماديًّا ومعنويًّا في إنكلترة وسائر أوربة وفي الولايات المتحدة الأمريكية
وغيرها، لا الوفاء بما يسمى (وعد بلفور) والإبرام لعهده، فكم من وعد أخلفوه،
وكم من عهد نكثوه؟ كوعودهم لمصر ومعاهدة السودان معها، ولقد وعدوا العرب بما
عاهدوا عليه الملك حسينًا من قبل أن يَعِدوا اليهود، وكان وعدهم له باستقلال جميع
البلاد العربية بحدودها الطبيعية الشاملة لجزيرة العرب والعراق وفلسطين وسورية
ومنها كليكية صريحًا جليًّا مع استثناء لعدن وتحفظ في سواحل سورية الشمالية
(لبنان) والبصرة، وأن للعرب لقوة في بلادهم أعظم من قوة اليهود؛ ولكنهم كانوا
يجهلون قدرها وإقامة البرهان المقنع للإنكليز عليها، وهي قوة الوحدة فيما لهم من
الكثرة، وسنبين قيمتها في الفصل الثالث من هذا المقال.
فالإنكليز كغيرهم من أهل أوربة لا يعرفون حقًّا إلا للقوي، ولا يفون بوعد
ولا عهد إلا للقوي، ولا يعدلون في حكم إلا مع المتساوين في القوة أو الضعف،
فإن تنازع الأقوياء مع الضعفاء كانوا مع الأولين على الآخرين، بل أقول: إنهم لا
يحترمون ولا يخافون ولا يرجون إلا القوة، ولا يستحيون من وصف الشرقيين
عامة والعرب خاصة بهذه الصفة، ولعمري إنها عامة في البشر؛ ولكنها في
الغربيين أقوى وأظهر، وأعم وأشمل، لاستحواذ الأفكار المادية عليهم، وانحلال
عرى الملكات الأدبية من قلوبهم، حتى إن أحد كتاب فرنسة طعن في الجيوش
المغربية الإسلامية التي استبسلت في الدفاع عن وطنه وقومه بأن الدافع لهم إلى ذلك
حب الشهرة بالشجاعة والنجدة، لا الإخلاص لدولته في الطاعة والمحبة،
فالأوربيون يحتقرون الشرقيين ويسخرون منهم، كلما رأوا أثرًا من آثار السلطة
الأدبية في أعمالهم.
ولقد شهد فيلسوف الإنكليز ومفخرهم، بل شيخ فلاسفة أوربة كلها في علوم
الأخلاق والاجتماع بأن الأفكار المادية التي ظهرت أولاً في الشعب اللاتيني فأفسدت
أخلاقه قد دب دبيبها إلى الشعب الإنكليزي، فطفقت تفتك بأخلاقه، فهي تعدو في
سيرها فيه المرطى، وتنهزم من طريقها الفضيلة فترجع القهقرى، حرب ساحقة
ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم، وقد وقعت هذه الحرب من بعده، وكان فتكها
بأخلاق الشعوب وفضائلها، أضعاف فتكها بجحافل جيوشها وفصائلها، وصياصيها
ومعاقلها، وأساطيلها الحربية والتجارية، بل سرت عدوى هذا الفساد إلى جميع
الأمم في سائر البلاد.
كان لكل من إنكلترة وفرنسة اسم سمي ومقام علي في العالم بما نبغ في
بلادهما من العلماء والأدباء والشعراء والمخترعين والفنيين، وبما كانتا تبثان من
الدعاية لأنفسهما في برقيات شركاتهما وصحفهما وكتبهما، وألسنة من يتربى ويتعلم
في مدارسهما، وكذا ألسنة من يستميلون ويصطنعون في البلاد المختلفة وأقلامهم،
وقد كان من الإفراط والغلو في هذه الدعاية في مدة الحرب على طولها ما أعقب رد
الفعل على مدى أطول وسوء تأثير أعرض وأعمق.
كانوا يذيعون في كل يوم أن الدولة الألمانية دولة عسكرية قاسية القلب، فظة
الطبع، مسرفة في الطمع والجشع، والضراوة بسفك الدماء، والنهم بسلب الأموال،
وأنها لا تبغي من هذه الحرب إلا استعباد البشر، والاستبداد في حكم الأمم.
وأما هم فلا يبغون من قتالها إلا الدفاع عن أنفسهم وعن إخوانهم في الإنسانية،
ووقايتهم من الخطر الذي يتهدد حريتهم، واستقلال جميع الشعوب كبيرها
وصغيرها، قويها وضعيفها؛ لأن الحرية القومية كالحرية الشخصية حق طبيعي
عام للبشر، فإن ظفروا كانت العاقبة سعادة جميع البشر، وإن خسروا حاق الشقاء
بجميع البشر! ! وقد كان القدح المعلى في تعميم هذه الدعاية للدولة البريطانية،
وكان ممن خدع بها دولة الولايات المتحدة، وكان أول مخدوع رئيس حكومتها
الدكتور ولسن ذو النزعة الدينية، والعاطفة الإنسانية الأدبية، فانبرى لمساعدتهم؛
وإنما كان النصر الأخير لهم بمساعدته المادية، وبما وضعه للصلح من القواعد
(الأربع عشرة) السياسية الأدبية، وكان أول من خُدع بهذه القواعد الاشتراكيون
والعمال من الألمان ومنهم بحارة الأسطول، فأكرهوا دولتهم على طلب الصلح،
حتى إذا ما قضي الأمر، قلب الحلفاء للرئيس ولسن ودولته ولجميع البشر ظهر
المجن، وظهر من طمعهم وقسوتهم وضراوتهم وجشعهم ونهمهم أضعاف ما كان من
قبل.
أخلفوا الوعود، ونقضوا العهود، وكان جزاء العرب من الانضواء إليهم،
والخروج معهم على دولتهم العثمانية طلبًا لاستقلالهم، أن عاملتهم إنكلترة وفرنسة
شرًّا مما عاملت به جميع أعدائها من استعباد واستبداد، وسفك دماء وسلب أموال،
حتى إنهم كانوا يدمرون القرية الآمنة المطمئنة من البلاد التي كانت تحارب دولتها
تحت رايتهم على من فيها من رجال ونساء وأطفال لتهمة واهية لم تقرن ببحث ولا
تحقيق، وحتى إنهم سلبوا من مملكة الحجاز سكة الحديد الإسلامية التي جعلها
الشريف حسين تحت تصرفهم في الحرب، وكان جيشه يدمر بديناميتهم جسورها
ويقلع حديدها في أرض الحجاز نفسها، معتقدًا أنها تبنى بأموال الإنكليز بعد الحرب
وتكون له هي والبلاد المنشأة فيها! ! فلا غرو أن يزول كل ما كان لهاتين الدولتين
من حرمة ومكانة أدبية في الشرق، وأن يعتقد شعوبه أنهم شر البشر على البشر،
وأنه لا حرية ولا حرمة ولا حياة للإنسانية إلا بنقض غزلهم، ونكث فتلهم، بل
بتقليص ظلهم الاستعماري من الوجود، وهذا ما أفادت الحرب شعوب الشرق في
مقابلة ما خسروا بها.
كان سبب نجاح الإنكليز في الاستعمار الذي استولوا به على ما يقرب من
ربع البشر أنهم لم يكونوا يدخلون قطرًا إلا بدعوى قصد الخير له ولأهله: تارة
لإنقاذ الشعب من ظلم أمرائه وحكامه، وتارة لحفظ عروش أولئك الأمراء من
الثورات والفتن والفوضى، كما كان سبب نجاحهم في السياسة أنهم لم يكونوا
ينقضون عهدًا أو يتفصون من عقاله إلا بضرب من التأويل يظهرون فيه أنهم على
حق، كما قال أعظم ساسة أوربة في القرن التاسع عشر البرنس بسمارك وزير
ألمانية ومؤسس وحدتها للسنيور كريسبي وزير إيطالية في حديث لهما في تسيير
سياسة أوربة: وماذا نفعل بإنكلترة؟ قال كريسبي: نقيدها بمعاهدة، قال بسمارك:
ولكن الإنكليز أبرع الناس في التفصي من عُقَل المعاهدات بالتأويل
…
ونقول نحن:
إنهم إنما يحتاجون إلى التأويل مع الدول القوية، وأما الشعوب الضعيفة كالعرب فلا
يحتاجون معهم إلى تأويل، على أنهم سمُّوا استعباد البلاد العربية التي وعدوها
الاستقلال: انتدابًا يراد به المساعدة على النهوض بأعباء الاستقلال بعد زمن غير
طويل! !
لكن هذا الظلم والاستبداد الذي ابتدعوه في فلسطين شيء غريب في تاريخهم
وتاريخ الاستعمار والاستعباد، لم يخلق مثله في البلاد، وهو لا يتفق في صورة من
الصور ولا معنى من المعاني التي وضع لها لفظ الانتداب.
هو خَلْق شعب جديد يُجتلب من أوشاب أوطان كثيرة في مشارق الأرض
ومغاربها إلى وطن شعب آخر لينزعه منه ويحل محله فيه، وتمكينه من ذلك بالظلم
والمحاباة في هاتين السنتين، ولا سيما أثناء الثورة الفلسطينية ما عجب منه
واستغربه جميع الناس في جميع أقطار الأرض.
فلئن كان هذا من غرائب ظلم الإنكليز، فأغرب منه قدرة اليهود على
توريطهم فيه، وإصرارهم عليه بعد ظهور فضيحتهم، وهتك سريرتهم، ولهذا
يخاف اليهود أن لا يدوم هذا الإصرار، وأن يُكره الشعب الإنكليزي حكومته على
إنصاف العرب والاعتراف بحقوقهم في يوم من الأيام، وهذا ما جرَّأهم على محاولة
انتزاع هذا الوطن من العرب بالمناجزة، دون ما ألفوه هم والإنكليز من نيل مآربهم
بالمطاولة، فأوقدوا نار الثورة الحاضرة، ظانين أنه يمكنهم إقناع الشعب البريطاني
وسائر شعوب المدنية من وضع تبعته على العرب بالدعاية الكاذبة، فبدا لهم من الله
ما لم يكونوا يحتسبون، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وظهر للشعب الإنكليزي
ولغيره ما لم يكونوا يعرفون، وكانت هذه الفتنة نصرًا من الله للعرب والمسلمين،
إذ نبهت شعوبهما كلها إلى التعاون على حفظ حقوقهما الوطنية والدينية في فلسطين.
وجملة القول في الإنكليز أنهم لا يزالون أقرب إلى العقل والفضيلة من
غيرهم، وبذلك يمكن الاستعانة بشعبهم على حكومتهم، وقد كان اليهود أقدر من
العرب على ذلك إلى أن أحبطت الثورة التي أثاروها عملهم، وعلَّمتْ العرب كيف
يظهرون له حقهم، ثم وُجد في هذا الشعب مَن بحث حتى عرف حق العرب واعترف
به في بعض جرائده الكبرى، وأخذ يقيم الحجج على ما للدولة من المصلحة في
اتباعه، ثم على العرب دون غيرهم إقناعها بالقول والعمل، بما في مودتهم من
النفع، وبما في عداوتهم من الضرر بل الخطر، وإنهم لفاعلون إن شاء الله تعالى.
(3)
ماضي العرب وحضارتهم
(1)
العرب أعرق الأمم في التاريخ ذكرًا، وأرسخهم في الحضارة قدمًا،
فقد ثبت عند المحققين من علماء التاريخ والآثار واللغات، الذين يستمدون علومهم
من العاديات أن قدماء المصريين والكلدانيين والفينقيين كانوا من جزيرة العرب،
وهم مؤسسو أقدم الحضارات، وأن شريعة حمواربي التي عثر عليها منقبو الآثار
في العراق من الألمان عربية، وهي أقدم الشرائع التامة المدونة، وكان معاصرًا
لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم من أنباط العرب القحطانيين، وجد
العرب العدنانيين، إخوة العبرانيين، فبنو إسرائيل فرع من الأرومة العربية
السامية.
ذلك أصل الحضارة القديمة التي استمد منها اليونان فالرومان مدنيتهم، وأما
الحضارة الحديثة فواضعو أساس علومها وفنونها هم العرب العدنانيون في العهد
الإسلامي، كما يشهد لهم بذلك الحكماء والمؤرخون المنصفون من علماء الإفرنج
على ما بينهم وبين الدول الأوربية ودعاة الدين من التنازع والتخاصم.
ولا ننكر أن العرب استمدوا من كُتب اليونان والفرس والهنود الذين كانت
حضاراتهم قد درست وعفت رسومها ودُفنت كتبها في أرماس خزائن الملوك
والبيوتات، فنبشوا تلك القبور، وأحيوا تلك الرمم، وصححوا واستدركوا، وزادوا
واستنبطوا، وقرنوا العلم بالعمل، واستقلوا في ذلك حتى صار لهم فن مستقل
خاص بهم، ووضعوا من العلوم ما لم يكن لغيرهم، وكان ذلك كله في وقت قريب
خارق للعادة، فقد حقق حكيم الاجتماع الفرنسي الأكبر الدكتور (غوستاف لوبون)
في كتابه (تطور الأمم) أن ملكة الفنون لا تحصل في الأمم إلا في ثلاثة أجيال:
جيل المقلدين وجيل المخضرمين وجيل المستقلين، قال: وشذ العرب وحدهم
فاستحكمت لهم ملكتها في جيل واحد صار لهم فيه فنون خاصة بهم، وفي كتابه
(حضارة العرب) الذي صنَّفه قبل هذا الكتاب بعشرات السنين تفصيل لهذه الشهادة
والدلائل عليها والرسوم الممثلة لها، وقد صرح فيه وفي غيره ولا يزال يصرح
بأن العرب أساتذة أوربة في مدنيتها الحاضرة.
أنبياء العرب وملوكهم
(2)
قد كان في العرب أنبياء مرسلون، وكان فيهم ملوك استشاريون
مقيدون، كملكة سبأ التي قالت لرجال الدولة {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً
أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: 32) وكان الدين هو المرشد الأول إلى الحضارة
فيهم وفي جميع الأمم، وأكثر ما بقي من آثار فنون الأقدمين وصناعاتهم عليه
الصبغة الدينية الباعثة عليه كأهرام مصر وبرابيها ونواويسها، وكذلك شرائعهم
وآدابهم، وإنما كانت تغلب البدع الوثنية على عقائد الدين الصحيحة وأحكامه التي
يجمعها الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ومن أهم أركان العمل الصالح
العدل والصدق والأمانة، كما أن أعظم أركان الإيمان التوحيد، وفي آثارهم
المنقوشة ومخلفاتهم الباقية ما يدل على جميع ذلك، وممن حفظ لنا القرآن ذكرهم
من أنبياء العرب هود وصالح وشعيب حمو موسى الكليم مؤويه مدة فراره من
فرعون، واختلف العلماء في نبوة تُبَّع، وذي القرنين أعظم ملوك الحضارة
والفنون والسياحة في الأرض ولقمان الحكيم، وحسب العرب أن منهم محمدًا
رسول الله وخاتم النبيين، وهو الذي أكمل الله به الدين، وأتم نعمته ورحمته على
العالمين {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) .
منهج الإسلام والعرب في إصلاح شأن البشر
(3)
إن منهج الإسلام في رفع شأن البشر هو أن إصلاح الأنفس بالعقائد
الصحيحة الداحضة للأوهام والخرافات، والأعمال الصالحة الصادة عن الفواحش
والمنكرات، والأحكام العادلة المساوية بين الناس في الحقوق والمعاملات - مقدَّم
على الترقي في العلوم والفنون والصناعات.
وهذا المنهج هو الذي سار عليه العرب المسلمون في أنفسهم وفي غيرهم في
أثناء الفتوحات، وقد شهد لهم به المؤرخ الصادق، والاجتماعي المنصف
(غوستاف لوبون) بكلمة تشبه كلمات بلغائهم في إيجازها وسعة معانيها وهي قوله
(ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) ويؤيد هذه الشهادة العقل
كالنقل، فإنه لولا فضائلهم - ورأسها العدل والرحمة - لما أمكنهم أن يثلوا عرش
كسرى وقيصر في الشرق في أقصر مدة، وكانت حكوماتهما أرقى حكومات
الأرض قوة وحضارة وثروة ونظامًا؛ وإنما ثل العرشين التليدين الراسخين أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب بسيوف الصحابة رضي الله عنهم في الربع الأول من
القرن الأول للهجرة، ثم امتدت الفتوحات في الشرق والغرب، وقبل أن يتم
القرن حاصروا الروم في القسطنطينية وفتحوا كاشغر من ممالك الصين ودخلوا
أرضها من أقصى الشرق، وفتحوا أفريقية ومراكش والأندلس من أقصى
الغرب، فلولا عدلهم وفضلهم، وتفضيل جميع الشعوب إياهم على حكامهم، لما
أمكنهم ذلك مع البعد الشاسع عن وطنهم، ومهد سلطانهم في جزيرة العرب، بل
كانت تلك الفضائل هي السبب في دخول الناس من جميع الشعوب في دين الله
أفواجًا طائعين مختارين، وتبع ذلك تعلمهم اللغة العربية لغة هذا الدين وشريعته
وناشريه بمحض الرغبة، لا بدعاية الجمعيات ولا بإلزام الحكومة أو نفوذها (كما
يفعل الإفرنج في هذا العصر) .
المانع من استيلاء العرب على العالم كله
(4)
لقد كان مقتضى هذا الإصلاح الإسلامي العربي أن يعم الأرض
ويملك أهله من العرب، سائر ممالك الشرق والغرب؛ ولكن حال دون ذلك تعارض
المانع والمقتضي، أما المقتضي فقد عرَّفناه إجمالاً بما تقدم، وأما المانع الذي حال
دونه فهو (على قاعدة تقابل العدم بالملكة) عدم الاستقامة على ذلك المنهج
الإصلاحي الذي شرعه الإسلام وسار عليه الرسول وخلفاؤه الراشدون، وكان أول
من سنَّ الخروج عنه معاوية بن أبي سفيان، ببغيه على أمير المؤمنين علي عليه
السلام والرضوان، ثم بإكراهه الناس على بيعة ولده الفاسق يزيد، واحتكار
السلطان لبني أمية، فهدم بذلك الحكم الإسلامي الشوروي المبني على أساس سلطة
الأمة، وأقامه على الأساس الوراثي المبني على تغلب القوة، فما زالت القوة تعمل
عملها حتى سلبتهم هذا المُلك المغصوب، وتغلغل نفوذ أعاجم الفرس في الدولة
العباسية، ثم قضى عليها همج الشعوب التركية، فتفرقت السلطة، وتمزقت الوحدة،
وزلزلت العدالة، وزالت الخلافة.
من ثم قال أحد علماء الألمان المتعصبين لجنسيتهم أنه ينبغي لنا أن نقيم
لمعاوية تمثالاً من الذهب في أعظم ساحة من عاصمتنا (برلين) وينبغي مثل ذلك
لجميع شعوب أوربة، إذ لولاه لكانت هذه الشعوب كلها عربية تدين بالإسلام، وبين
ذلك بنحو ما قلناه آنفًا؛ ولكن قال أحد أحرار فرنسة ما معناه: لقد كان من سوء
حظ أمتنا أن كان أكثر الجيش الذي فتح به العرب القسم الجنوبي من بلادنا من
بربر أفريقية الذين لم يتمكن الإصلاح الإسلامي من أنفسهم فكانوا ينقضون العهود
ويعتدون على الكنائس وغيرها، حتى أثاروا العصبية والنخوة في أنفسنا، وراجت
دعوة الاستنفار العام لقتالهم وإخراجهم من ديارنا، ولو كان أكثرهم من العرب الذين
عرفنا سيرتهم العادلة في الشرق والأندلس لما وقع من ذلك العدوان شيء، ولما
راجت الدعوة إلى قتالهم وإخراجهم، وإذًا لسبقنا أوربة في الحضارة بضعة قرون.
إسقاط حرمة الخلافة وإضاعتها
(5)
كان إسقاط حرمة الخلافة أولاً بقتل الخليفة الثالث، ثم بالخروج على
الرابع، من مقدمات سقوط وحدة السلطة العربية التي انتهت بتعدد السلاطين ودول
الطوائف، وكان اتساع دائرة الفتوحات في الشرق والغرب وصعوبة المواصلات
مما يتعذر معه وحدة السلطة بدون خضوع ديني لمقام الخلافة يملك على النفس
وجدانها وعملها، فيحول بذلك دون الخروج على الحكومة والاستبداد دونها، ولئن
رتق بنو أمية ما فتقوا بتمكنهم من جمع الكلمة، وتوحيد السلطة، وتوجيه المسلمين
إلى الجهاد في الكفار، وفتح الأمصار، وحمد لهم الجمهور هذا على كراهته لفسوق
أكثرهم، فلقد كان رتقهم له بالعصبية مع الإسراف في الترف والتفريط في العلم
والتقوى رتقًا واهيًا، ولمقام الخلافة منافيًا، ولذلك كان أمده قريبًا.
قضى بنو العباس على بني أمية بقوة العصبية التي ابتدعوها، ثم قضوا بها
على خلافة النبوة التي تقلدوها، واعتمدوا فيها على الأعاجم فكانت بذلك شرًّا مما
قبلها، وإنما امتاز أوائلهم بالعلم، فبلغ الذروة في عهد المأمون، كما كان لهم مزيد
حرمة عند الأمة بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن شان عِلمَ المأمون
نصرُه للبدعة، وما كان ينبغي للخليفة أن يتعدى حدود قطعيات الكتاب والسنة،
ويضطهد حرية الاجتهاد في العلم والدين، بنصر فريق على فريق من الباحثين،
فالملك يجب أن يكون - كما يقول ساسة هذا العصر - بمعزل عن المذاهب
والأحزاب، ثم ما زال يضعف العلم ويتضاءل نفوذ النسب، وتتفرق قوى العرب،
وتحل محلها عصبية العجم، حتى صار الخليفة شبحًا من أشباح اللعب، يُزين
بالحرير والذهب، ويُستنطق بما لا يريد أو بما لا يفهم، ويوقع على ما لا يقرأ أو
على ما لا يعلم، ويتحرك بتحريك البطانة والحاشية والحرس، وإنما يُعظَّم تعظيمًا
صوريًّا، ويُمَكَّن من اللذات البدنية ما دام مواتيًا، فإن نبا أو أبى قتلوه ونصبوا شبحًا
آخر مكانه، لا يرى وسيلة لاستدامة اللذة والفخفخة والزينة، إلا التجرد من الأمر
والنهي والرأي والإرادة.
سعي الفرس لإسقاط مُلك العرب
(6)
بدأ زنادقة الفرس بالسعي لهدم مُلك العرب لاستعادة دولتهم الفارسية
وملتهم المجوسية، من طريق الدسائس الدينية والسياسية، وإحياء العصبية
الشعوبية، وتوسلوا إلى ذلك بتفريق الكلمة من طريق التشيع لأئمة البيت من آل
علي وفاطمة عليهم السلام، فشعر بذلك آل العباس رضي الله عنهم فنجحوا
باستمالة دعاية الثورة والقوة، وبقيت للعلويين دعايتا الألوهية والعصمة، وقد فطن
الخليفة العباسي الأول لخطر زعامة الثورة وإدارة الحكومة، فاحتكروا موارد
الأموال، واصطنعوا الرجال، وتم هذا الأمر للبرامكة منهم في عهد الرشيد أو كاد؛
ولكنه فطن لذلك فبطش بالبرامكة تلك البطشة الكبرى، بيد أن قوة الترك الجندية
الوحشية، قد قدرت على ما عجزت عنه سياسة الفرس الدينية والأدبية، فإنما
أثمرت دسائس شيعتهم الباطنية في إفريقية دون بلادهم وما يقرب منها، فكانت
الدولة التي أسسوها بمصر- هي الفاطمية أو العبيدية - عربية محضة باقتضاء
موقعها، ولم تستطع التغلب على الدولة العباسية بتعميم دعايتها، وأما الذين سلبوا
ملك العرب وقوضوا هيكل حضارة العرب فهم الترك، وكان الجاني الأكبر في
إدخالهم في الدولة والاعتماد على جندهم في حفظ سلطان الخلافة - هو المعتصم
الجاهل بالسنة والناصر للبدعة، وأنى له أن يفهم مغزى قول الرسول صلى الله
عليه وسلم: (اتركوا الترك ما تركوكم) أو يحذر ويتقي مضمون قوله صلى الله
عليه وسلم: (أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) يعني الترك.
سلب الترك لمُلك العرب
(7)
مهد التتار السبيل لبني عمهم الترك باجتياح سلطنة الخلافة العباسية
العربية بالتقتيل والتدمير والتتبير، وكان الفرس قد سبقوا إلى إضعافها بالتفريق
والتدبير، أفرطوا في تقديس الخلفاء العباسيين وتفخيمهم بالألقاب والزينة
والاحتفالات الرسمية؛ ولكنهم فرَّطوا في طاعتهم، وأزالوا ما كان من حصر وحدة
الرياسة فيهم، ففرَّقوا السلطة، واستبدوا بالدولة، وغلبوا الخليفة على أمره، وافتاتوا
عليه في حكمه، حتى تجرأوا على قتله، فوهت قوة الوحدة، وكثر السلاطين في
الدولة، ووقف سير العلم والحضارة؛ لأن العلم كان عربيًّا وكان المرشد إليه القرآن
العربي، وكان العرب هم الذين أحيوا منه ما أماته الزمان، وجددوا ما أخلقته صروف
الحدثان، وجاراهم فيه مواليهم وتلاميذهم من الفرس والسُّريان، وكانت الحضارة
عربية بالتبع للعلوم والفنون العربية، وكان الترك أبعد شعوب البشر عن العلم
والحضارة؛ وإنما عندهم من آلة المُلك: الحرب والعصبية، فكانت دولتهم دولة حرب
وفتح، لا دولة علم وفن.
وكان أكبر سيئات الترك العثمانيين إيثار لغتهم الهمجية، على اللغة العربية،
لغة الدين والعلم والأدب والحضارة، وتحريهم إضعاف الأمة العربية واستذلالها لئلا
يعود إليها حقها في الخلافة الإسلامية وحكم المسلمين؛ فإن الله تعالى بعث رسوله
محمدًا خاتم النبيين في الأمة العربية، وأنزل عليه كتابه المعجز للبشر باللغة
العربية، فجعل هدايته لهم عربية وحكمهم به عربيًّا فقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً
عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) ولذلك انتهت عداوة دولتهم للغته بعداوتها له، وهؤلاء
خلفاؤهم الكماليون يعدون التكلم بالعربية والتعلم للعربية وكتابه التركية نفسها
بالحروف العربية من أكبر الجرائم السياسية التي يعاقب قانونهم مجترحها، فلا
غرو أن يقول رسول الله النبي العربي فيما يعد من دلائل نبوته بخبر الغيب (أول
من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) وهو يدل بالإشارة أو فحوى
العبارة إن لم يكن بنصها على أن سالبي ملك أمته لا يعدون منها، وقال الحافظ ابن
حجر في شرح البخاري أن المراد هنا بالأمة أمة الجنس لا أمة الدين. ونحن لا
نطعن في إسلام الشعب التركي نفسه؛ وإنما نطعن في جهل دولته وعصبيتها،
التي انتهت بضعف دينها ودنياها، ثم بما يشكو منه كل مسلم منهم ومن غيرهم من
نبذ خلفها لكتاب الله وشرعه ظهريًّا.
استقلال العرب وحالهم بعد الحرب
(8)
تغلب الترك العثمانيون على الدولة العباسية في الشرق، وخذلوا
الدولة الأموية في الغرب (إذ استنصرت بهم على الأسبانيين فلم تنصرهم)
واستولوا على مهد الحضارة العربية في العراق وسورية ومصر، فأضعفوا
الحضارة والعلم في هذه البلاد؛ ولكنهم لم يستطعيوا إماتة اللغة العربية فيها، ولا
الإدالة للغة التركية منها، ودان لهم أمراء الحجاز؛ ولكنهم ظلوا أصحاب السيادة
والنفوذ فيه وحاولوا بعد ذلك كله قهر عرب الجزيرة وإخضاعهم لحكمهم فظلوا
يقاتلونهم عليها أربعة قرون ونيف، فنقصوها من أطرافها، واستولوا على ثغورهم
البحرية؛ ولكنهم عجزوا عن قهر أئمة اليمن وأمراء نجد وإخضاعهم لحكمهم،
فالعرب الصرحاء الخُلَّص ظلوا في عقر جزيرتهم مستقلين في حكم أنفسهم، لم
يقهرهم الترك عليها، بل ظلوا يدافعونهم عنها وينتصرون عليهم فيها، حتى إذا
مزقت الحرب الأخيرة سلطنتهم الواسعة، ظهرت جزيرة العرب في الوجود مستقلة
تامة الاستقلال سالمة من كل نفوذ أو امتياز للدول الأجنبية فيها، إلا ثغر عدن الذي
اغتصبته الدولة البريطانية في القرن الماضي والمقاطعات التسع اليمنية التي تدَّعي
حمايتها ولا تتدخل في أمر حكوماتها، وإلا ما كان وهبه الملك علي بن حسين من
أرض مملكة الحجاز لإمارة شرق الأردن، وهو ثغر العقبة المنيع على البحر
الأحمر والمنطقة الممتدة منه إلى معان أهم المحطات لسكة الحديد الحجازية، فكل
من هذا وذاك موضع نزاع بين الإنكليز والدولتين العربيتين المستقلتين في جزيرة
العرب: مملكة اليمن الإمامية ومملكة الحجاز ونجد الملكية، وقد اعترفت الدولة
البريطانية بالاستقلال التام المطلق لهذه الدولة دون تلك، وعقدت معها معاهدة على
قاعدة المساواة؛ ولكن بقيت منطقة العقبة ومعان موقوفة لتحل عقدتها بالمفاوضة
السياسية، وأما الاعتراف باستقلال اليمن فقد تعددت فيه المراسلات والمفاوضات
بين الدولتين البريطانية واليمانية، ولابد أن تنتهي قريبًا برجوع الأولى عن كل حق
تدعيه فيما عدا منطقة عدن، فإنه يستحيل تركها إياها لليمن.
حال الممالك العربية اليوم
(9)
ذلك شأن مهد الأمة العربية ومنبت أرومتها، ومعقل قوتها، لم يغلبها
عليه كله أحد، فهي لا تزال فيه عزيزة النفس، قوية البأس، مرفوعة الرأس،
وأما ما يتصل به من مواطن حضارتها وعمرانها، وعواصم خلافتها أو سلطانها،
وهي مصر وسورية والعراق فقد احتل أكثره الإنكليز وبعضه الفرنسيس قبل
الحرب وبعدها، وجعلوا حكوماتها العربية تحت سيطرتهم العسكرية بدعوى
مساعدتها على إصلاح شؤونها إلى أن تقوى على النهوض بأعباء استقلالها المعترف
لها به بنفسها، ولا تزال هذه الشعوب العربية تنازع هاتين الدولتين في دعواهما ما
تسميانه حق الاحتلال والانتداب، ولابد من وصولهما إلى حقهما في الاستقلال
المطلق في يوم من الأيام.
(ولا ننسى الممالك العربية الإفريقية الأربع فهي لابد من استقلالها أيضًا؛
فإن استعباد الأمم الكبيرة بالقهر العسكري لن يدوم إذا هي عرفت نفسها وحال العالم
وسنن الاجتماع فيه؛ ولكن كلامنا الآن ليس فيها) .
استحالة ظهور اليهود على العرب
(10)
عُلم مما تقدم أن الأمة العربية أقوى وأعز وأفضل من الشعب
اليهودي ماضيًا وحالاً، وأرجى منه استقبالاً، فهي لا تزال ذات مُلك وسلطان،
وممالك وأوطان، ولغة حية، وشرع نافذ وعادل، فإن كانت ثروة اليهود النقدية
أكبر؛ فإن ثروة العرب الطبيعية أعظم، ألا وهي ثروة الأرض التي هي أصل كل
ثروة بأقواتها ومعادنها، وهم يملكون عشرات الألوف والأميال منها، وإن كان
اليهود أقدر على تسخير القوة البريطانية بدهائهم ومكرهم وأموالهم، فالعرب أقدر
على إبطال كيدهم هذا بكثرتهم، إذا هم جمعوا كلمتهم، وبنفوذهم في العالم
الإسلامي الذي يعطف عليهم لأنهم قوم نبيهم، وأرومة دينهم، وحفظة قبلتهم،
وعُمَّار مساجدهم الثلاثة المقدسة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى،
فإن لم يقدروا على ذلك بالإقناع البرهاني الذي يفضلونه، فسيقدرون عليه بالدفاع
الحربي الذي لا يخافونه، وقد علم زعماء الأمتين، أن ما بذلتاه من الدماء والأموال
في سبيل الدفاع عن الدولتين، لو بذلتاه في سبيل حريتهما واستقلالهما، لكان كافيًا
لهما، وأن تلك الملايين من رجالهم التي سخرتها الدولتان لأنفسهما في الحرب ما كان
يمكنهما تسخيرها بالقوة، وأنها لو ثارت عليهما في وقت ضعفهما لما فقدت في قتالهما
عُشْر ما فقدته في قتال أعدائهما، وإذًا لخسرتا الحرب وفاز بها أعداؤهما.
وقد رأوا بأعينهم، وخبروا بأنفسهم، ما كان من تأثير الثورة المصرية
الصغيرة العزلاء على بريطانية العظمى بعد الحرب الظافرة هي فيها على حين كان
جيشها من جميع الأسلحة يموج في أرض مصر، كما تموج أساطيلها في كل بحر،
وعلموا أنه لولاها لم ترفع تلك الحماية التي ضُربت عليها، ولم يعترف لهم
بالاستقلال المقيد فيها، ثم رأوا ثورة العراق التي فتحتها الدولة البريطانية فتحًا،
وأخذنها عنوة لا صلحًا، وجعلتها تابعة للإمبراطورية الهندية، وكيف كانت سببًا
لتأسيس حكومة وطنية فيها كما تقدم قريبًا، ثم رأوا الثورة السورية، وما أبلت في
القوى الفرنسية، على قلة الموقدين لنارها، وقلة ما أتيح من الوقود لها، وكونها
كانت في دائرة ضعيفة من البلاد لم تتعد النار إلى غيرها.
فهل تظن هذه الطغمة من اليهود الصهيونيين أنهم ينتزعون من قلب هذه الأمة
العزيزة قطرًا من أشرف أقطارها وأعزها، بعد أن استيقظت من رقدتها، وشعرت
بقيمة نفسها، وهبت لاستعادة وحدتها، على اختلاف مواطنها وعقائدها وتربيتها؟
وما كان ضعفها الماضي إلا بتفرقها وجهلها بقوتها ومكانتها، ومتى كان الغنى
والثراء، والمكر والدهاء، والكيد والرياء، من الضعفاء الجبناء، يطرد الأمم
القوية من أوطانها، ويغلبها على ملكها وسلطانها، والحق لها، والسيف بيدها؟
وهم إنما يعتمدون على قوة غيرهم، ولن يدوم لهم تسخيرهم، وعلى تفرق
خصومهم وقد زال، ولم يبق لاتحادهم إلا النظام وهو إن شاء الله قريب المنال.
تأثير ثورة فلسطين في العرب والمسلمين
(11)
لقد كانت الثورة التي أوقد اليهود الصهيونيون نارها في فلسطين بعد
تلك الثورات الموضعية على أقوى دول الأرض، وبعد تلك اليقظة الشرقية العامة
التي أحدثتها الحرب، وبعد خيبة آمال بعض الشعوب الشرقية، التي كانت
مخدوعة ببعض الدول الغربية - آخر صيحة داعية إلى وحدة الشعوب العربية،
وتعاطف الشعوب الإسلامية، فقد اضطرب لها المسلمون والنصارى جميعًا في
سورية ولبنان والعراق والحجاز ونجد واليمن ومصر وتونس والجزائر ومراكش،
واهتز لها المهاجرون من العرب في العالم الجديد من الشمال إلى الجنوب، وظهر
أثر ذلك جليًّا قويًّا في جرائد هذه البلاد وجماعاتها بالاحتجاج والانتصار وجمع
الإعانات، وهي أول حركة عربية سياسية أظهر العطفَ عليها ملوكُ العرب
المستقلون، فقد أرسل صاحب الجلالة السعودية عدة كتب وبرقيات في إظهار
عطفه وعطف أهل مملكته النجدية والحجازية على عرب فلسطين - على بعده
واشتغاله بقمع ثورة داخلية في نجد - منها ما هو باسم سماحة زعيمها السيد أمين
الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين، ومنها ما هو
للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر (وسننشر ذلك) ومنها ما هو
لصاحب الجلالة البريطانية ملك الإنكليز، وقد تبرع لمنكوبي العربَ في هذه الثورة
بخمسمائة جنيه، وتبرع نجله ونائبه في الحجاز بمائة جنيه، وأُلفت بأمره لجنة
لجمع الإعانات بمكة جمعت مبلغًا يعد كبيرًا من أهل الحجاز، وتبرع صاحب
الجلالة اليمانية الإمام يحيى حميد الدين بثلاثمائة جنيه، وشارك العرب في هذا
الشعور والعطف على أهل فلسطين مسلمو الأعاجم، ولا سيما في الهند وجاوة
بالاحتجاج والإعانات، بل شارك الهندوس مسلمي الهند في عطفهم هذا، وتمنى
الجميع لو يرسلون جيشًا منهم إلى فلسطين لحماية المسجد الأقصى وأهله من عدوان
اليهود.
بل هذه أول مرة صرَّح فيها شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية في مصر
بالعطف على المسلمين في أثناء ثورة سياسية بينهم وبين شعب أجنبي تؤيده الدولة
البريطانية، بعد أن أجرَّت السلطة المصرية ألسنة علماء الأزهر وألجمتهم،
وحرَّمت عليهم ما هو مباح لجميع المصريين من إبداء رأيهم في الأمور السياسية،
وقد كانوا من قبل أصحاب الرأي الأعلى والقدح المعلى في جميع المصالح الإسلامية
والوطنية، حتى إنهم هم الذين ولَّوا محمد علي باشا على مصر.
ومما يصح أن يذكر بالإعجاب أن صوت الأستاذ الأكبر محمد مصطفى
المراغي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية قد ارتفع في هذه المسألة في
وقت خرست فيه ألسنة جميع أمراء مصر وكبرائها الأحرار حتى غير المقيدين
بسياسية الحكومة ومشربها، لا الوزراء والرؤساء الرسميين وحدهم، وهو من
كبارهم، فهذا فتح جديد في النهضة العربية واليقظة الإسلامية معًا (وسننشر
كلامه) .
وقد كنت اقترحت على سلفة المرحوم الشيخ أبي الفضل الجيزاوي في أول
العهد بظهور الطمع الصهيوني في المسجد الأقصى، والعثور على صورة لقُبة
الصخرة يعلوها العلم الصهيوني - أن يكتب فتوى على سؤال في ذلك تتضمن ما
يجب على المسلمين من استنكار ذلك، ووجوب حماية المسجد الأقصى عليهم
…
فاعتذر رحمه الله فألححت عليه وأكثرت من اللوم حتى غضب، فقال: يا سيد
رشيد أتظن أنه ما بقي أحد يغار على الإسلام غيرك؟ والله إننا نغار مثلك؛ ولكنك
أنت مطلق ونحن مقيدون، وأنت تعلم أننا ممنوعون من كل شيء يتعلق بالسياسية !
مستقبل العرب مع الإنكليز
(12)
إننا نرجو أن يحيط الشعب الإنكليزي العاقل بما ذكرنا وذكر غيرنا
من الحقائق، فنجد منه عونًا على حكومته بتغيير سياسته مع الأمة العربية،
والجلاء عما تحتله من بلادها الحجازية واليمنية وغيرها، والاتفاق مع حكوماتها
على ما يضمن له مصالحه الاقتصادية ونفوذه الأدبي في جميع بلادها، فوالله لو أن
في الشعب الفرنسي من الروية والتدبير مثل ما في الشعب الإنكليزي لأمكنه إكراه
دولته على تأليف دولة سورية واحدة تقضي على نفوذ الدولة البريطانية في الأمة
العربية كلها، ثم في سائر الشعوب الشرقية المتصلة بها.
كان من آفات الظفر في هذه الحرب أن الغرور قد استحوذ على عقول
الظافرين، وإن كان ظفرهم بقوة غيرهم لا بقوتهم، فلولا الولايات المتحدة
لاستولت ألمانية على جميع ممالكهم، وكان من آفات هذا الغرور أن الدولة
البريطانية ظنت أن قوة السلاح خير لها من قوى التدبير والعقل والإصلاح، وأنها
قد ورثت جميع السلطنة (الإمبراطورية) العثمانية باحتلال القسطنطينية، وأنها
ستملك بلاد إيران والأفغان بالأساطيل الجوية، كما رسخ قدمها في مصر وسائر
البلاد العربية، وأنه قد تم ما كانت تحلم به من امتداد إمبراطوريتها من حدود برقة
إلي حدود الصين من الغرب إلى الشرق، ومن الإسكندرية إلى الكاب من الشمال
إلى الجنوب، فبدا لها من جميع هذه البلاد ما لم تكن تحتسب، بل بدا لها من الهند
ينبوع ثروتها الثرور، وسوق تجارتها التي لا تبور، ما لم يكن يخطر لها ولا
لغيرها ببال، إذ هب مئات الملايين فيها يطلبون الاستقلال، وينذرون الدولة قرب
الزوال، وطفق الباحثون من علمائها يبحثون في هِرمها، ويقدرون ما بقي من
عمرها، على قاعدة قول الشاعر:
إذا تم شيء بدا نقصه
…
ترقب زوالاً إذا قيل تم
ولكن هذا كله قد كبح جماح ذلك الغرور، وتغلب حزب العمال المعتدل على
حزب المحافظين المغرور، وجنح حزب الأحرار إلى العمال، فمن ثم قويت الآمال
بمراعاة هذه الدولة العظيمة لمقتضى الحال، وطول بقائها في أوربة كلسان
الميزان.
بشارات أنبياء اليهود في المسيح والمُلك
(13)
اليهود الماديون واللادينيون يتكلون على إنكلترة في إعادة ملك
سليمان وهيكله إليهم كما تقدم؛ ولكن دين الإنكليز وشرفهم ومصالحهم المرتبطة
بأربعمائة مليون من المسلمين ومن العرب غير المسلمين أيضًا تأبى عليهم ذلك، على
تقدير قدرتهم عليه.
واليهود المتدينون يعتمدون على بشارات أنبيائهم، وهذه البشارات مبهمة
ومشروطة باتباعهم لوصايا التوراة كلها، وقد تركوا هذا عندما كان ممكنًا، وقد
أصبح غير ممكن، ثم إنه مقيد بمجيء المسيح وجريان ذلك على يديه، وقد جاء
المسيح الحق عليه السلام فكفر أكثرهم به، فأيد الله تعالى من آمن به على من كفر
كما قال عز وجل في آخر سورة الصف {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت
طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14) وقد
كتبنا مقالاً طويلاً في بيان تلك البشارات وما كان من قيودها وشروطها وما تقتضيه من
حرمانهم من أرض الميعاد والمُلك إلى الأبد، سننشرها في الجزء الآتي إن شاء الله
تعالى.
أنباء خاتم النبيين في أمر اليهود مع المسلمين
(14)
إن عندنا معشر المسلمين بشارات من خاتم النبيين وواسطة
المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أوضح وأفصح وأصرح من بشارات أنبياء
اليهود، كأخبار المسيح الدجال الذي يظهر فيهم، فيتعصبون له ويقاتلون المسلمين
والنصارى في فلسطين وغيرها، فيُخذلون ويغلبون على أمرهم، ومنها ما رواه
البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (تقاتلكم اليهود فتُسلَّطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا
يهودي ورائي فاقتله) وله روايات أبسط من هذه الرواية، فاحذروا أيها
الصهيونيون المتهورون أن تعجِّلوا بفتح باب البلاء على أنفسكم، بل احذروا وقد
فتحتموه أن تصروا عليه، وأرجئوه إلي مجيء مسيحكم، فإنا له مرجئون،
وانتظروا فإنا منتظرون.
_________
(*) الإفك: صرف الشيء عن وجهه الحق إلى غيره.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السيد عبد الباسط فتح الله
وفاته وملخص ترجمته
في غرة جمادى الأولى من هذا العام رزئت مدينة بيروت، بل القطر
السوري، بل الأمة العربية والملة الإسلامية بوفاة فرد من أفرادها، وبدل من أبدالها،
وشهيد من شهداء الحق، وحجج الله تعالى على الخلق، صديقنا الوفي وأخونا في
الله عز وجل، وأحد تلاميذ شيخنا الأستاذ الإمام ومريديه في ديار الشام، وبتربيته
وإرشاده كان من أركان الإصلاح في العلم والعمل، والأخلاق والأدب، ومن الكُتاب
المجيدين، والخطباء المؤثرين - الأستاذ السيد عبد الباسط فتح الله رحمه الله تعالى
وأثابه، وأحسن مرجعه إليه ومآبه، ثم أحسن عزاءنا وعزاء أهله ووطنه عنه،
وعظَّم أجرنا جميعًا بمصابنا فيه، توفاه الله تعالى عن ستين سنة هجرية كاملة، إثر
مرض طويل أعيا الأطباء، وتعذر الشفاء. وقد كبر مصابه على عارفي فضله،
فأبَّنوه عند دفنه، ثم أقاموا له حفلة تأبين في اليوم الأربعين من تاريخ فقده، تبارى
فيه خطباء بيروت وشعراؤها في رثائه، وذكر مناقبه نظمًا ونثرًا.
وإننا نقتبس ترجمته التاريخية مما ألقاه في تلك الحفلة صديقنا وصديقه الأستاذ
الشيخ أحمد عمر المحمصاني الشهير، وهو مأخوذ من ترجمته لنفسه التي نشرتها
مجلة المجمع العربي في دمشق ومما عرفه المترجم بنفسه منه وعنه بطول المعاشرة
في القرب، وكثرة المكاتبة في البعد، كُنا قد كلفناه كتابة ذلك لأجل نشره في المنار،
فكتبه وألقاه في حفلة التأبين ثم أرسله إلينا فلخَّصنا بعضه وتركنا أقله وأثبتنا أكثره
بحروفه
فمما ذكره المترجم أن كلاًّ من والديه رحمهما الله تعالى (من أسر بيروت
القديمة ولنسبهما صلة بأهل البيت النبوي الكريم) ومما بلغنا من صفة والده أنه كان
رجلاً صالحًا تقيًّا، وحدَّثنا الفقيد عنه أن الشيخ يوسف النبهاني (الخُرافي الحشوي
المعروف) حمله عند سفره إلى الحج بعض كتبه لأجل توزيعها في المدينة المنورة
فكان من أمره أنه قبل وصوله إلى المدينة بليلة واحدة - على ما أذكر - رأى النبي
صلى الله عليه وسلم في منامه فأمره ألا يدخل مدينته بتلك الكتب، وفهم منه أنه
صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنها، فألقاها أو دفنها في مكان قبل دخولها، ولما
عاد من الحج جاء الشيخ النبهاني للسلام عليه في داره وكان عنده كثير من الزائرين،
فلما دخل عليه ودنا منه ليعانقه لم يملك لسانه أن قال له: يا شيخ يوسف إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم غير راض عنك، فبُهت النبهاني وأحجم لقوله، واستغرب
الحاضرون ذلك ووجموا لسماعه، فذكر لهم رؤياه المذكورة، ثم قال المترجِم:
(نشأته) ولد عام 1288 هجرية، وتعلم القراءة والخط وأوليات الحساب
في مدرسة المرحوم الشيخ حسن البنا، ثم في سنة 1300 دخل المدرسة السلطانية
التي فتحت في بيروت، فتعلم فيها العربية والتركية والإفرنسية وما إليها من الفنون،
وكان من أساتذته فيها أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده، وعنه أخذ علوم
البيان والمنطق والتوحيد والأحكام العدلية (مجلة الأحكام الشرعية) وكانت له به
عناية خاصة، فقرأ له في بيته أثناء العطلة المدرسية وليالي رمضان فصولاً من
متن التهذيب في علم الكلام والسيرة النبوية.
(ولما اضطرب نظام المدرسة بتدخل السلطة العسكرية في إدارتها برحها
الأستاذ الإمام، فتبعه المترجَم ولزم مجلسه حتى أشار عليه بدخول الكلية البطركية
لإتمام ما كان حصَّله في المدرسة السلطانية من اللغة الإفرنسية والفنون، فدخلها
عام 1888 وحضر فيها دروس أستاذ اللغة العربية الشيخ إبراهيم اليازجي،
ودروس غبطة الحبر العلامة البطريرك ديمتريوس القاضي في الآداب الإفرنسية
والتاريخ القديم والحكمة الطبيعية، واكتسب من ميل هذا الحبر ورعايته، ما لا يقل
عن اهتمام الأستاذ وعنايته، ثم خرج من هذه الكلية وقد نال شهادتها العلمية، مع
جائزة الشرف في العلوم العربية) .
(وكان يختلف أثناء العطلات المدرسية، وفي أوقات الفراغ بعدها إلى
مجالس الأستاذ المحدث الشهير الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت السابق
رحمه الله، فسمع منه مع فريق من طلبة العلم جملة صالحة من صحيح البخاري) .
وهنا ذكر المترجِم شيئًا من سيرته في حياته العلمية ثم قال:
(خدمته للعلم) بيد أن مشاغله الإدارية والتجارية لم تكن تمنعه مما يهوي
إليه فؤاده من خدمة العلم ونشره، فقد دعاه الأستاذ الناهض المقدام الشيخ أحمد
عباس إلى معاونته على تأسيس مدرسته الشهيرة (بالمدرسة العثمانية) فلبَّى الدعوة،
ونشط للخدمة، إذ وجد فيها متسعًا لتحقيق أمانية في الإصلاح، وظل يتبرع
بمشاطرة الأستاذ - المشار إليه - تدبير مدرسته وتنظيمها، ويلقي فيها المحاضرات
الأدبية، ويعطي الدروس في الجغرافية والطبيعيات والتعريب، إلى أن قضت
السياسة التورانية بإقفالها أوائل أيام الحرب.
(على أن سعيه نحو غايته من بث العلم لم يكن لينحصر في سبيل تعليم
البنين وتربيتهم، بل كان تثقيف البنات والوفاء لهن بحقهن من العلم والتهذيب مناط
همه الأكبر، فبالرغم من المصاعب الجمة التي كانت تعترض الساعين في تنوير
الأمة (خصوصًا العربية) أيام عبد الحميد قد وُفِّق مع طائفة من المفكرين
الناهضين لتأسيس (جمعية ثمرة الإحسان) بُغية تحسين حالة الأنثى المسلمة،
وأنشأوا لها مدرسة حَوَت العدد الجم من البنات، ومن تلميذاتها اليوم من تدير إحدى
مدارس الحكومة، واشترك كذلك مع فريق من أصحاب الشأن في تأسيس (جمعية
مآثر التربية) التي غايتها معاونة الطلبة المعوزين على تحصيل العلم العالي أو
الإخصاء في أحد فروعه في كليات بيروت أو جامعات أوربا، ومن أبنائها من هم
اليوم في عداد الأطباء، والمحامين وأهل القضاء.
وانتُخب لعضوية (جمعية المقاصد الخيرية) وما زال يدأب في خدمة
مدارسها وأنظمتها على نحو خدمته للمدرسة العثمانية، ومدرسة ثمرة الإحسان من
قبل، كما أنه قام بتدريس الديانة والتهذيب للصفوف المؤلفة من البنات المسلمات
في المدرسة السورية الأهلية) .
(أثر قلمه) تراه وهو في غضون تلك الأعمال السابقة يغتنم الفرصة،
ويفترص المناسبة لبث الأفكار الصحيحة والمبادئ السليمة، ويلفت الأنظار إلى
حقائق الأمور وتعرُّف المصلحة العامة والاعتدال في الأخذ بالجديد والمحافظة على
القديم، عاملاً بسنة أستاذه الإمام في الدعوة إلى ترك الجمود على التقليد الضار،
وخلط الدين في كل شأن من شؤون الدنيا.
(تلك المقاصد والموضوعات تراها منبثة في مقالاته وخطبه جارية من بيانه
مجرى الدم من جثمانه، فمن غرر مقالاته المشهورة: النهضة الاقتصادية، الألفة،
التمدن، الصدق، التعصب، العلم روح المدنية، والمدنية معنى الإنسانية، الميسر
وأضراره، ذكرى من سفر في وصف قلعة بعلبك، المداواة الحديثة، تأثير السجايا
في الأعمال، لبوس الصيف والنسيج الوطني، الرقيقة إمبراطورة (كتبها عن
هنري إمبراطورة الصين) العافية نور على هام الأصحاء لا يدركه إلا الضعفاء،
غريبة في عالم الصناعات، العبادة عادة والدين المعاملة، بحث في الصحافة،
اللجان الخيرية، في الكستنا أو الشاه بلوط، الإسلام (مقالة رد فيها على مقال
للمسيو كولرات نُشرت في جريدة الدبيش كولونيال بعنوان ضد الإسلام) تصويت
النساء، في شأن المرأة، في المدافعة الملية، الهرم، وصية منتحر، احتفال
الجمعية الكيماوية، الحكم على الكلاب بالإعدام (يداعب فيها البلدية) المحاميات،
عبد الله باشا فكري والهيئة الجديدة (قرَّظ بها رسالة عبد الله باشا فكري وزير
معارف مصر في المقارنة بين الهيئة الجديدة وتطبيقها على النصوص القرآنية)
ذكرى العاقل وتنبيه الغافل (قرَّظ بها رسالة بهذا العنوان للأمير الكبير السيد عبد
القادر الجزائري) مجالس الوعظ في رمضان، الظاهر المألوف من المفروش
والملبوس، كلمة في بلدية بيروت، وهذه نشرت في جريدة ثمرات الفنون مع كثير
من المقالات.
وله مقالة عنوانها (التجارة محور السياسة) نُشرت في الثمرات عدد
1284 أتى فيها بالعجب العُجاب في بيان سر الاقتصاد عند الأمم الراقية، وأن
التجارة هي حفظ السعادة وقوام العمارة، إلى أن ختمها بقوله: ولو بحثت من
الأمور السياسية في أدقها وما قد لا يُشتم منه ريح التجارة لتحققت أن التجارة سره
ولبابه، مهما اختلفت مظاهره وتلونت أثوابه، ولأدركت أن التجارة هي غاية السلم،
غاية الحرب، محور السياسة، فضلاً عن أنها قطب رحى الحياة المدنية.
وله مقالة عنوانها (الإصلاح من طريق العلم والتهذيب) نشرت في العدد
الأول من مجلة الكشَّاف، ومما يناسب أن يخص بالذكر في هذا المقام دلالة على
شعوره الأدبي ما كتبه بُعيد خروجه من المدرسة في بيان حاجة العربية إلى تأسيس
مجمع علمي ينقسم إلى شعب تتفرغ كل منها للعمل في سد جانب من عوز اللغة
(الأمر الذي لم يتم لنا إلا بعد ثلاثين سنة) .
وإذا تأملت في مقالاته فإنك تجد رجلاً اجتماعيًّا يخوض في مواضيع شتى،
وهو هو بقلمه المتين، وعبارته الجيدة، وحجته الناصعة، فبينا تراه يكتب في
موضوع أخلاقي يشبعه درسًا، فإذا به في مقال آخر يصف شيئًا فيقربه إليك كأنك
تراه ماثلاً أمامك، وتارة تجده في موضوع أدبي أو علمي أو اجتماعي أو زراعي
أو تاريخي يوضح لك المحجة، ويقرع الحجة بالحجة.
وأما خطبه الممتعة فحدِّث عن البحر ولا حرج، ومن الذي لا يذكر مواقفه
في المدرسة العثمانية (الكلية الإسلامية الآن) وأقواله التي تملك الآذان بلا
استئذان، مع ثبات جأش، وقوة عارضة، ومتانة في الجمل والكلمات، ورقة في
الأسلوب والعبارات، والذين شهدوا خطبه في معنى المسلم وفي الأخوة الدينية،
وعن المدرسة الإسلامية في أول نشأتها، وفي الروايات الأدبية وتأثيرها،
ومحاضرته عن أبي العلاء المعري وعن التمثيل وفوائده يعرفون المواهب التي
وهبه الله إياها، ويدركون عظيم الخطب بفقد الأمة له، وهي في أشد الحاجة إلى
العاملين المخلصين المصلحين) .
رحم الله منك نفس كريم
…
وقليل من النفوس الكرام
ثم ذكر مما ترجمه بالعربية عن الفرنسية (كتاب التدريس العلمي ليولبرت
أحد نظار المعارف الإفرنسية، وكتاب فلسفة السياسة لغوستاف لوبون، وكتاب
الرين ووستفاليا لجول هوره، وترجمة فصل من كتاب سر تقدم الألمان، وهذه
الأربعة لم يتمكن من إتمامها، وقد أتم تعريب رسالة (مسألة النساء) لأرنست
لوكوفي وجعل لها مقدمة جليلة جدًّا.
ومن أهم مميزات الفقيد: الإنصاف في المناظرة والمحاورة، وهذا مما
امتاز به وعرفه له مخالطوه ومعاشروه، كما أنه من أكبر الأدلة على المتانة
والرسوخ في العلم، ومن أجل المواهب التي يؤتاها النابغون، ولا يوجد بعد العلم
حلية لأهل العلم مثل الإنصاف فيه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 35) .
ومن أعظم مميزاته اعتناؤه الكلي بالتنظيم في الأعمال التي أدارها
وبالأخص فيما يتعلق بالعلم والتعليم، وما دخل في مصلحة إلا وكان له فيها الأثر
الخالد.
…
وقد ظهرت هذه الميزة في رئاسته لنادي رأس بيروت فقد وضع نظامه
وأحكم أساسه، وتولى بنفسه إلقاء المحاضرات الممتعة والمواضيع النافعة مع بعض
إخوانه، ولو قُدِّر لهذا النادي البقاء لكان من مفاخر بيروت الجميلة، ومن أهم
الأندية في البلاد؛ ولكن مداهمة الحرب العامة ذهبت بكل ما كان يُنتظر من هذا
النادي الجليل في الإصلاح المطلوب.
إن الفقيد بسيرته هذه وعلمه الجم، وعلمه الخالص الأتم، كان حجة الله
على كثير ممن عرف العلوم العصرية واللغات الأجنبية، ولم تكسب أمته من علمه
ومعرفته شيئًا يرقيها ويفيدها بنقل أو تعريب، أو دفاع عن حوزتها وكيانها وعمّا
يتهمها به الأعداء من الطعن في معتقداتها أو الحط من مفاخر أسلافها.
وحجة الله أيضًا على كثير ممن تذوقوا العلم فوقفوا عند القشور، واشتغلوا
بسفاسف الأمور، ولم ينفذوا إلى اللباب، فأضاعوا أنفسهم وأمتهم وضاعوا عن
الصواب.
حياة كلها علم وعمل، وجهاد وأمل، ودعوة إلى الحق، وثبات وصدق،
وصبر واحتمال، وسير حثيث إلى الكمال، مع إنصاف في المناظرة، وأنس في
المحاورة، ووقوف عند الحدود الشرعية، ودعاء إلى السنة السنية، ونفور من
البدع، لا تأخذه في الحق لومة لائم.
فهذه آثار ناطقة بسمو مداركه وعلو مكانته، في أي بحث طرقه، أو أي
موضع تناوله، كان ابن بجدته، فقد جمع ما تفرق في غيره اهـ.
هذا وإنني أختم هذه الترجمة بالتنويه بمقال كتبه لنا باقتراحنا عن سيرة
الأستاذ الإمام في بيروت ليُنشر في الجزء الأول من تاريخنا له، فرحمهما الله تعالى
وحشرنا وإياهما مع {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} (النساء: 69) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فريضة الحج
ودعاية ملاحدة السياسة الشريفية لتركها
بفتاوى يفترونها
لما ولَّى الله إمام السُّنة الملك عبد العزيز بن سعود أمر حرمه وحرم رسوله،
لم يجد أعداؤه وسيلة للحيلولة بين العالم الإسلامي وبين رؤية عدله وإقامته لشرع
الله وإحيائه لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا دعوتهم إلى ترك فريضة الحج
وهدم هذا الركن العام من أركان الإسلام انتقامًا منه لهدمه هياكل الوثنية التي بنيت
على قبور آل البيت والصالحين برغم السنة النبوية.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الله فرض الحج بنص كتابه
المحكم على من استطاع إليه سبيلاً، وقال عقب ذلك: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) فمن استحل تركه بغير فقْد هذا الشرط
(الاستطاعة) فهو كافر خارج من دين الإسلام؛ ولذلك لم تؤثر تلك الدعاية إلا في
بعض الجاهلين، والحجاج يزدادون عامًا بعد عام، وينشرون فضل ابن السعود في
العالم.
وقد علمنا في هذه الأيام أن دعاة بيت المُلك المفقود من الحجاز جددوا هذه
الدعاية نفسها، وأرسلوا الكتب من مصر إلى جاوة وسنغافورة وعدن واليمن
والهند وسائر الأقطار الإسلامية التي لهم معارف فيها يحثونهم على صد الناس عن
الحج، بدعوى أن مُلك ابن سعود في الحجاز وفي نجد أيضًا على وشك السقوط
بانتصار بعض الخارجين عليه في نجد بقيادة ابن الدويش، ويستندون في هذه
الدعوى على ما ينشرون في جرائد مصر من الأراجيف؛ ولكنهم من جهة أخرى
يشيعون أن الدويش هذا متفق مع أولاد الملك حسين والإنكليز على ثل عرش ابن
سعود ليعيدوا الحجاز إلى الملك حسين أو نجله علي، فإن كانوا واثقين بهذا وبقرب
وقوعه فالمعقول أن يدعوا الناس إلى الإقبال على الحج لا على تركه.
وقد ورد عليَّ اليوم كتاب من بعض المسلمين الغيورين على دينهم في عدن،
ذكروا فيه أن دعاة هدم ركن الإسلام العام عادوا إلى الدعاية الأولى بتفنن جديد في
الكذب، فقد جاءوا فيه بعد رسم المخاطبة:
(لا يخفاكم يا سيدي أنه جاء أخيرًا إلى هذه البلدة فرقة من الناس أذلهم الله
وأصابهم بداء البغض لجلالة الملك عبد العزيز آل السعود أيَّده الله، ولا عمل لهم
إلا التجول في الأسواق وثلب هذا الملك الجليل الوافر العرض، وكنا لا نلتفت إليهم
ولا نأبه بما يقولون حتى ابتدءوا ينشرون الفتاوى بأن الحج لا يجب في هذه الأيام
بسبب وجود الحكومة النجدية في البلدان المقدسة.
وأخيرًا أظهروا للناس أنهم كاتبوكم وأقنعوكم بالأدلة وأجبروكم على
الموافقة على فتواهم هذه.
أما نحن فإننا أخبر بهم، ونعلم أنه لا يرضى بقولهم إلا مخبل؛ ولكن
خشينا على عامتنا أن يسري إليهم هذا الداء، أي داء بغض العرب الناشئ عن
بغض مليكها الجليل.
فبادرنا بكتابة هذه الأسطر إليكم راجين منكم جوابًا تخدمون به الدين
والدولة، ونرجو أن يكون ردكم على صفحات الشورى الغراء؛ لأنها أشهر الجرائد
هنا وتطَّلع عليها أكثر أهالي هذه البلدة، وفي الختام اقبلوا فائق الاحترام) اهـ.
(الجواب) كنت أود لو أرسل إليَّ هؤلاء الغيورون نسخة من الفتوى التي
أشاروا إليها لنرى على أي قاعدة من قواعد الجهل والكفر استحل هؤلاء المساكين،
هدم هذا الركن الإسلامي الركين، وأي نص من نصوص الكتاب والسنة أو من
اجتهاد الأئمة أوردوا في فتواهم استدلالاً على أن وجود الحكومة السعودية في
الحجاز مُسْقِط لفريضة الحج عن المستطيع خلافًا لنص كتاب الله تعالى؟ إذ لا يبعد
أن تدل الفتوى على أن فرض استقبال الكعبة المشرفة في الصلاة قد سقط عن
المصلين بوجود هذه الحكومة هنالك، وولايتها على بيت الله تعالى! فإن الجهل
ليس له حد يقف عنده.
يسهل علينا أن نقنع كل مسلم، وإن كان عاميًّا جاهلاً بضلالة هؤلاء الداعين
لهم إلى هدم بعض أركان دينهم اتباعًا لأهواء السياسة والملك، إذ لا يجهل أحد منهم
أن الحج من أركان الإسلام المفروضة على كل مستطيع له، وكتاب الله وكتب
السنة الصحيحة موجودة بين أيديهم فكذبهم عليهما مفضوح، وإذا كان كذبهم علينا
ظاهرًا أنكره العقلاء بدلالة عقولهم، وها نحن أولاء نظهره لغيرهم على صفحات
هذه الجريدة وغيرها، فكيف بكذبهم على الله ورسوله وأئمة المسلمين؟
وأما الذي يصعب إظهار كذبهم وافترائهم فيه فهو ما يرجفون به في تعظيم
أمر ثورة الدويش في نجد على ملكه وإمامه، وبيان أن ما يتوقعونه من الشر
ويفرحون به ليس خيرًا لهم، بل هو شر لهم ولغيرهم، ولماذا يصعب إظهار
افترائهم فيه؟ لأنهم يدعون أن ما يقوله كل أحد غيرهم كذب، وأن ما يقولونه هم
هو الحق والصدق وحده، فليس علينا إلا أن ننتظر قليلاً كما انتظرنا كثيرًا في
حادثة حصر الإمام ابن سعود لجدة والمدينة المنورة وما كانوا يذيعونه من أخبار
ضعفه وقرب طرده من الحجاز، فظهر كذبهم وإرجافهم للعالمين، والعاقبة للمتقين.
(علاوة) هذا ما كتبناه في اليوم الذي وصلت إلينا فيه رسالة عدن ونشرناه
في جريدة الشورى إجابة لطلبهم، وقد كتبنا في الجزء الماضي مقالة مستقلة في
فتنة نجد: أسبابها ونتيجتها وأهمها الدسائس الشريفية، ومن توفيق الله تعالى لابن
السعود حماقة أعدائه وجهل دعاتهم التي تنتهي دائمًا بظهور خذلان الله تعالى لهم
{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية
استبشر طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وجناحيها من الشرق والغرب بما
ظهر من الشيخ محمد مصطفى المراغي منذ ولي أمر الأزهر من فكر ثاقب، وعقل
راجح، وعلم واسع، وهمة عالية، وشجاعة أدبية ظاهرة، وما أنتجت هذه المزايا
من قانون للإصلاح مبيِّن لأقوم مناهجه، وأرفع معارجه، وأبعد مقاصده، وما بذل
من جهد، وأنفق من وقت في السعي لإقرار الحكومة إياه، وصدور المرسوم
الملكي بتنفيذه، ثم راعهم في آخر يوم أو آخر ساعة من هذه المرحلة أن علموا أن
الاستاذ الأكبر قد استقال من منصبه؛ لأن جلالة الملك توقف عن إصدار المرسوم
به، فوجمت النفوس، وضاقت الصدور، وأكبر الناس الأستاذ المراغي في
استقالته، وعدم مبالاته بجاه المنصب الرفيع وما يتقاضاه من ألوف الجنيهات فيه،
أضعاف ما أكبروه فيما أشرنا إليه من مزاياه، إذ به ثبت لهم أن الرجل قد وقف
حياته على خدمة دينه وإن بذل في سبيله دنياه، وعلى رفعة شأن ملته وأمته، لا
على منفعة نفسه وأهله وولده، وأن نفسه الزكية نسخة من نفس شيخه الأستاذ الإمام،
وأنه لابد للمسلمين أن يستفيدوا من مواهبه في يوم من الأيام، وقد نوَّهت بذلك
الجرائد وعدُّوا استقالته إحدى الكبَر، والنذر والعِبر.
ويظن الكثيرون أن لدسائس خصوم الإصلاح تأثيرًا في الصد عنه اليوم كدأبهم
بالأمس؛ ولكننا نعلم أن ذلك القانون الإصلاحي هو رغيبة جلالة الملك فلا قنوط
بما عرض دونه ولا يأس، وقد عادت الحياة الدستورية إلى البلاد، ولن ترضى
الأمة أن يظل الأزهر على ما انتهى إليه أمره من اضطراب.
ولما أصر الأستاذ المراغي على استقالته بعد مراجعة أولي الشأن له في
الرجوع عنها صدرت إرادة جلالة الملك بجعل صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد
الظواهري شيخًا للأزهر، ورئيسًا للمعاهد الدينية، وهو من تلاميذ الأستاذ الإمام
أيضًا فلا يخفى عليه شيء من حاجة الأزهر إلى الإصلاح؛ ولكنه يؤثر التريث
فيما يراه منه، ومداراة المعارضين فيه، ونسأل الله تعالى أن يوفقه ويوفق ولاة
الأمور إلى ما فيه الخير للمسلمين، واغتنام الفرص قبل فواتها آمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
كتب التاريخ العصرية في مصر وسورية
كنا من أول العهد بهجرتنا إلى مصر منذ ثلث قرن نعجب لتقصير المصريين
في تأليف كتب لتاريخ هذا القطر وغيره على الطريقة العلمية الحديثة، التي
درسوها وعرفوا فلسفتها ومناهجها وأساليبها، ثم زال العجب فرأينا القوم ينسلون
للتأليف في أنواع هذا التأريخ من كل حدب، وقد قرَّظنا في العام الماضي كتاب
(حوليات مصر السياسية) لصاحب السعادة صديقنا أحمد شفيق باشا، ثم صدر في
هذه الأيام (الحولية الثالثة) من هذه الحوليات، وهي تدخل في المجلد السادس من
تاريخه الكبير، إذ كانت الأولى والثانية في الجزأين 4و5 وهما لحوادث سنتي
1924 و1925، فالثالثة لحوادث 1926 وثمن هذا الجزء ثلاثون قرشًا يُضاف
إليها أجرة التجليد والبريد لمن طلبه من الخارج وهو يباع في مكتبة المنار.
(تواريخ سعادة أمين سامي باشا)
أمين سامي باشا عالم نحرير، ومؤرخ محقق، ومهذب متدين، ولعله فاق
جميع علماء فن التربية والتعليم عندنا في الجمع بين العلم به والعمل، وقد خدم
وزارة المعارف عشرات السنين خدمة جليلة من أهمها نظارة مدرسة دار العلوم التي
يتخرج فيها معلمو الدين والفنون العربية في جميع المدارس الأميرية، فكانت
التربية في عهده خيرًا مما آلت إليه من بعده، على ما كان من مراقبة الإنكليز
للمدارس التي كان من مقاصدها الخفية إطفاء نور الإسلام، والوقوف بالعلم عند
حدود التقليد ومظاهر النظام؛ ولعله لو ظل ناظرًا لها إلى اليوم لما تفرنج طلابها
في الأزياء، ولما نزعوا العمائم وتركوا الصلاة! لا أقول كلهم، بل أكثرهم أو
كثير منهم.
وقد أخرج للناس في شيخوخته كتابين جليلين لم يسبقه إلى مثلهما سابق،
وهيهات أن يدركه في موضوعهما لاحق:
(الأول: كتاب التعليم في مصر)
وهو كتاب جامع لما يهم العلماء والخواص معرفته من أحوال التعليم في
مصر في العصور الأولى بالإجمال، وفي هذا العصر بالتفصيل، وقد وضع فيه
لحالة المدارس في أيامنا إحصاء دقيقًا في جداول متنوعة يرى المطلع عليها عدد
المشتغلين بالتعليم ونسبتهم إلى الألف على مقدار انتشار التعليم في كل محافظة أو
مديرية بالنسبة إلى سكانها، وعلى نسبة المصريين والمصريات الذين في
مدارس الأجانب، ونسبة الأجانب الذين في المدارس المصرية، ونسبة
المحرومين من التعليم إلى المتعلمين من بالغي سن التعليم الأولي والابتدائي إلى
غير ذلك من البيانات المفيدة التي تظهر من الجداول الإحصائية الموضوعة بدقة لا
يعادلها إلا الحذق في استخراج النتائج منها، وفيه بيان مناهج التعليم كلها ولوائح
الشهادات والدبلومات من وقت تقريرها إلى الآن، ويزدان بعشرات من الصور
لولاة الأمور ووزراء المعارف وأعضاء البعثات التي أرسلتها الحكومة إلى أوربة،
فهو كتاب لا نظير له، ولا غنى عنه، وهو مطبوع في المطبعة الأميرية على ورق
جيد من القطع الكامل، ومجلد بالقماش تجليدًا حسنًا، وثمنه جنيه مصري.
(الثاني: كتاب تقويم النيل وعصر محمد علي باشا)
وهو جزآن: الأول منه مؤلف من مقدمة في 134 صفحة ما عدا الخرائط
تضمنت كل الحقائق المتعلقة بأمر النيل، وفيها رسوم (خرائط) ملونة تمثل
حركات الرياح، وضغط الجو، وبحيرة تسانا، ومخارج الأنهر التي تسبب
الفيضان، ووقوع الأمطار، ويلي المقدمة المقصد الأول من الكتاب وهو تقاويم النيل
من ابتداء السنة الأولى من الهجرة إلى سنة 922هـ 622م، ويليه المقصد الثاني،
وهو الفوائد التاريخية الصحيحة وسلسلة تاريخ مصر على التفصيل وتاريخ الخلافة
الإسلامية على الوجه العام في ذلك الزمن كله، وصفحاته 251 وهو كسابقه طبعًا
وقطعًا وتجليدًا، وثمنه جنيه مصري.
(الجزء الثاني منه) وهو يشتمل على ما علم من أمر النيل في كل سنة
ابتداء من سنة 923هـ لغاية سنة 1264 هـ (1517 م إلى 1848م) وصحفه
حافلة بالفوائد التاريخية المحققة الدقيقة الصحيحة في ذلك الزمن، وبالأخص عصر
محمد علي باشا، الذي أُنقذت مصر في عهده من وهدة الانحطاط التركي، وارتقت
مرتبة عالية من مراتب الرقي.
وهو مزدان بإحدى وخمسين صورة من صور محمد علي باشا، وصور
رجال عصره النادرة مع نهاية الإتقان والوضوح، وصحفه 622 صفحة، وطبعه
كسابقه من كل وجه، وثمنه 150 قرشًا، وتُطلب هذه الكتب كلها من مكتبة المنار
في شارع الإنشاء بمصر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
جوابنا عن أسئلة الربا في الفتوى الهندية
أشهد أن رسالة الاستفتاء في مسألة الربا رسالة نفيسة، وأن كاتبها المستفتي
المفتي قد حقق الموضوع أحسن تحقيق في مذهب الحنفية، فهو حقيق بأن يُعَدُّ بها
مجتهدًا في المذهب - لا في الكتاب والسنة - على سعة اطلاعه في التفسير
والحديث، وإننا نبين رأينا مجملاً مختصرًا في المسائل الأربع التي لخص بها
الرسالة، وأفتى فيها وعرض فتواه على علماء المسلمين في الأمصار مستفتيًا عنها،
ثم نعود إلى تحقيق البحث بما أرانا الله تعالى من فقه الإسلام، غير مقيد بمذهب
من مذاهب أئمته الأعلام؛ لأن الموضوع من المسائل التي تنازعوا فيها في جملتها
والله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وأخونا
العلامة الهندي الفقيه الحنفي قد حاول هذا وأراده؛ ولكنه نظر في أدلة الكتاب
والسنة بمنظار الفقه الذي انطبع في نفسه، وغلبت عليه ملكته، فأقول متوجهًا إلى
الله تعالى داعيًا ضارعًا أن يلهمني الصواب، ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب:
الفتوى الأولى
(قال) الربا المذكور (يعني في آية البقرة) مجمل عند الأحناف وغيرهم
من الأئمة، حتى يصح أن يقال: اتفقت عليه الأمة، وحديث عبادة وغيره تفسير له
عند الجمهور.
(أقول) قوله: إن الربا المذكور مجمل عند الأحناف، صحيح، وقوله:
باتفاق الأمة عليه، غير صحيح، وقوله: إن حديث عبادة وغيره (الحنطة بالحنطة)
تفسير له، غير مسلّم، بل المتبادر منه بحسب القواعد أن الألف واللام فيه للعهد،
والمعهود من الربا عند المخاطبين به في عصر التنزيل شيئان (الأول) ربا الجاهلية
الذي وضعه وأبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله تحت قدميه كدماء الجاهلية
وثاراتها، وهذا ما سمي في اصطلاح النحاة بالعهد الخارجي (الثاني) قوله تعالى
(3: 13){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران:
130) فهو قد نزل قبله بلا نزاع لأنهم قالوا: إن آيات أواخر سورة البقرة في الربا
وقوله تعالى بعدها {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: 281) الآية آخر
ما نزل من القرآن، وإن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم توفي ولم يفسرها لنا، ولو كان حديث عبادة وغيره تفسيرًا لها لما قال عمر
هذا، وهو من رواة هذا الحديث والعاملين بمضمونه كما هو مقرر في كتب السنة،
وإنما يعني رضي الله عنه أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يقل فيها شيئًا زائدًا على ما
كانوا يعلمونه من آية سورة آل عمران، ومن ربا الجاهلية وإبطاله صلى الله عليه
وسلم له، وهذا الربا هو الربا الذي يصدق عليه تعليل التحريم بقوله
تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)
والقاعدة أن المعرفة إذا أعيدت يكون المراد بالثاني عين الأول.
الفتوى الثانية
(قال)(الربا هو الفضل الخالي عن العوض في البيع) وذكر أن الفقهاء
زادوا فيه قيد (المشروط) وأنه لا حاجة إليه، واستدل عليه بحديث عبادة وبالآية
بناء على تفسير الحديث المذكور لها.
(أقول) هذا الحد غير مسلَّم؛ لأن ما بني عليه وجُعل دليلاً له غير مسلَّم
كما تقدم، وقد ذكر هو في رسالته كغيره حدودًا أخرى أعم منه حتى علماء الحنفية
أنفسهم لم يقيدوا فيها الربا بالبيع.
الفتوى الثالثة
قال: (النفع المشروط في القرض ليس هو ربا منصوصًا لعدم ثبوته من
القرآن ومن حديث صحيح) .
(أقول) لو كان يريد بكونه غير منصوص نص القرآن لسلَّمنا قوله؛ فإن ربا
القرآن خاص بربا النسيئة الذي تكون الزيادة فيه لأجل تأخير الدين، لا في العقد
الأول؛ فإن الزيادة فيه عوض مقابل للانتفاع بالمال، لا لأجل الإنساء وتأخير
القضاء؛ ولكنه يريد ما هو أعم منه، وقوله (ومن حديث صحيح) يعني به (ولا
من حديث صحيح) كما يعلم من القرائن (وهو على سعة فقهه غير دقيق في اللغة
العربية كما هو شأن علماء الأعاجم الذين يتعلمون العلوم الشرعية والفنون العربية
بترجمة كتبها ولا يدرسونها دراسة مستقلة) وقد بنى هذا على ما جزم به من أن
القرض غير الدين، كما أنه لا يدخل في معنى البيع الذي حصر الربا فيه، فهو
موافق لاصطلاح الفقه عندهم؛ ولكن القرض في اللغة العربية دين [*] ، والأصل
في الربا أن يكون في الديون سواء كان أصلها ثمن مبيع أو عينًا كما سنحققه، وآفة
العلم بالكتاب والسنة المانعة من الاستقلال في فهمهما تحكيم الاصطلاحات الفقهية
الحادثة وغيرها من الاصطلاحات في لغتهما العربية التي كان يفهمها أهلها منهما،
وحديث النهي عن بيع النقدين وأصول الأقوات إلا يدًا بيد مثلاً بمثل ليس تفسيرًا
لربا القرآن، ولا حصرًا للربا في البيع؛ وإنما هو لسد الذريعة لارتكاب ربا القرآن،
وإلا فهو لذاته ليس فيه من المفسدة ما يقتضي هذا الوعيد الشديد في آيات البقرة.
الفتوى الرابعة
(قال) النفع المشروط في القرض لما لم يثبت كونه ربا بالقرآن والحديث،
استُدل على كونه ربا تارة بالقياس وتارة بحديث (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
وفي كليهما نظر، أما في الأول فلأنه قياس مع الفارق فلا يصح، وأما في الثاني
فلأنه غير صحيح بل هو ضعيف فغير صالح للاحتجاج، ولو سلم صحة القياس
ففيه أن الأحكام القياسية تقبل التغيير بتغير الأزمان كما هو ثابت في موضعه، ومن
كان له وقوف على حال هذا الزمان وخبرة بأهله فلا محيص له بدون (كذا) أن
يفتي بجوازه كما في الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها،
والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن السلف، ففيه أن التعامل مبني على القياس
لا على غيره من الأدلة، ومن ادعى فعليه البيان والله أعلم بالصواب اهـ.
(أقول) الظاهر أن هذه الفتوى هي المقصودة بالذات من وضع هذه الرسالة،
وخلاصتها أن النفع المشروط في القرض ليس من الربا المنصوص في القرآن،
ولا الثابت بحديث صحيح، ولا بقياس صحيح، وعلى فرض صحة القياس تجوز
مخالفته للضرورة أو الحاجة إليه في هذا الزمان، كما هو الشأن في الأحكام القياسية،
وقد أورد بعض أقوال الفقهاء على هذا في الحاشية، وهو اجتهاد في مسألة
اختلف فيها الفقهاء له وجه فقهي ظاهر، وحسبنا هذا بيانًا لرأينا في الفتوى،
وسنبين رأينا في أصل مسألة الربا في مقال خاص كما وعدنا، والله الموفق.
(رأينا في رسالة الفتوى من مراجعتها بعد الطبع أغلاطًا بعضها من الأصل
ولعل بعضها من الطبع، وسنبين ذلك في جدول مع أغلاط أخرى عثرنا عليها في
الأجزاء السابقة) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) قال في حقيقة الأساس: ودنت وتدنيت واستدنت: استقرضت، ودنته وأدنته ودينته: أقرضته اهـ، ونصوص سائر كتب اللغة في ذلك معروفة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة مختلفة من بيروت
بسم الله الرحمن الرحيم
(س 39 - 46) من صاحب الإمضاء في بيروت
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام، مفتي
الأنام، ومرجع العلماء الأعلام، شيخ الإسلام، الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد
أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنني لما رأيت الأحوال الحاضرة
في مصر من التهتكات الموبقة التي تصرع شرف الإنسانية وتهدم دعائم الفضيلة
تزداد حينًا بعد حين، وتفشو في تلك البلاد من أدناها إلى أقصاها دفعتني الغيرة
الدينية إلى استجواب فضيلتكم عما يأتي:
(1)
إن تهتك النساء وتلبسهن بجميع أنواع التبرج الشائن من لبس الرقيق
الشفاف، والضيق الذي يجسِّم أعضاءهن ويصفها، فضلاً عن القصير الذي تبدو
دونه السيقان والسواعد والأعناق وأعالي الصدور مع كمال زينتها وتمام تحليتها -
لمن أكبر دواعي الفساد، وأقوى أسباب الفتنة في الدين والأخلاق والحياة، وإنه
يتفاحش إلى حد مستفظع، فلمَ تغض الحكومة المصرية الإسلامية الطرف عن ذلك
وما معنى كونها إسلامية؟ ألم يكن من واجبها كبح جماح الفتن، وقضم علائق
الفحش الذي يؤدي إلى ضعف قوتها ووهن شوكتها بانغماس رعيتها فيه؟
(2)
أليس من الواجب على علماء هذا القطر أن يقوموا بصد ذلك التيار
الجارف بكل ما استطاعوا من قوة سواء لدى الحكومة أو الشعب الغافل؟ ألم يكن
سكوتهم عن ذلك ذنبًا عظيمًا وإثمًا مبينًا؟
(3)
ما السبب الداعي لسكوت الحكومة والعلماء عن ذلك مع أنه أكبر
ضرر وأعظم خطر على الأمة المصرية وما جاورها من البلاد الإسلامية كالسودان
وكذلك الحجاز ونجد وغيرها؟
(4)
إن مجلتكم المنار من الأمور المهمة التي تبث في نفوس المسلمين في
جميع الأقطار روحًا إسلامية عالية، وتنفي عنها كل جرثومة من الرذائل حتى
غدت مطمح أنظار المسلمين جميعًا، ومحط آمالهم في جميع الأصقاع والأنحاء
فكان عليها أن لا تألو جهدًا في محاربة كل هذه النقائص والمنكرات بعزيمة لا
تعرف الفتور، وهمة لا يعتورها وهن، فما سبب الإحجام عن الاستمرار في ذلك
الجهاد الشريف مع أنها عنوان الفضائل الإسلامية؟
(5)
إن انتشار الإلحاد بصورة هائلة في جميع العالم الإسلامي ليدعو إلى
الدهشة والحيرة فما سبب ذلك؟ على أنه يوجد في تلك البلدان التي وقعت تحت
أنياب الإلحاد علماء إسلاميون بكثرة لا تقع تحت حصر، فهل العلماء يقومون
بواجبهم الديني في الإغارة على جنود المادة والطبيعة بكل وسيلة تُستطاع تحصينًا
للدين وحفظًا له أن يمسه شرر ذلك وخطره منها؟ قد اعتنق الجم الغفير من
المسلمين هذه العقيدة الباطلة ونبذوا الدين وراءهم ظهريًّا، أما كان الواجب على
العلماء الفطاحل أن يتخذوا جميع الاحتياطات اللازمة في تفنيد آرائهم، وبيان فساد
معتقداتهم، حتى يتضح الحق ويزهق الباطل ليكون ذلك حصنًا منيعًا لحفظ الدين
في نفوس أبنائه؟
(6)
هل يحسن من المسلمين أن يأخذوا أزواجهم إلى البلاد الأوربية للنزهة،
فيتزينون بزيهم ويخلع النساء عن أنفسهن ثياب الحشمة التي هي من شعائر الدين
والفضيلة، ولا ندري ما يكون سبب ذلك من أضراب المنكر فما حكم هذا؟
(7)
فما دواء كل ذلك؟ وما هي الطريقة التي يجب على الحكومة والعلماء
عملها لمنع هذه المسائل كلها؟
(8)
إن في مصر، بل في جميع البلاد الإسلامية مدارس أجنبية أنشئت
للدعاية إلى الإلحاد أو المسيحية ومقاومة الإسلامية، وآثارها الفاسدة ظاهرة للعيان،
فما السبب الداعي لانكباب المسلمين عليها ووضع أبنائهم وبناتهم تحت نيرانها
وضلالها؟ حتى أنه يبلغ عدد البنات المسلمات في هذه المدارس مبلغًا عظيمًا،
رأيت ذلك وأنا في مصر ورأيتهن لابسات القبعة (البرنيطة) سافرات عن وجوهن
وغير ذلك، فما الواجب على المسلمين تجاه هذه الحالة؟
(9)
هل يجوز للعامي الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا مطلقًا أن يقرأ الكتب
الدينية الإسلامية ككتب الفقه وفتاوى العلماء وغيرها لأجل أن يعمل بها وهو يلحن
في القراءة أم لا؟ تفضلوا بالجواب على صفحات مجلة المنار الأغر ليكون النفع
عامًّا؛ ولكم الأجر والثواب.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد علي
…
اليماني
…
... الطالب سابقًا بالأزهر الشريف
أجوبة المنار، على هذه الأسئلة على ما فيها من التكرار، الموجب للاختصار
39-
تهتك النساء وإقرار الحكومة المصرية له
تهتك النساء في مصر يفحش ويتفاقم شره، ويستشري ضره عامًا بعد عام
حتى صار يخشى منه انفصام عرى الأُسر (العائلات) وانتكاث فتل الأمة، وأما
سبب سكوت الحكومة المصرية عليه وإقرارها له فهو يرجع إلى التفرنج وسيطرة
الإفرنج على البلاد بامتيازاتهم وبمساعدة أعوانهم المتفرنجين من رجال الحكومة
وغيرهم.
والإفرنج المستعمرون يعنون بإفساد دين الأمة وأخلاقها لتنحل جميع الروابط
التي تكون بها أمة لها كون خاص، ومقومات ومشخصات تحيا بها وتأبى بطبعها
أن تكون مستعبدة مستعمرة لغيرها، وكان بدء هذا الفساد الديني الأخلاقي في عهد
إسماعيل باشا أي قبل الاحتلال البريطاني، فكان ممهدًا لكل ما فعله رجاله من
مقاومة التعليم الديني على ضعفه في مدارس الحكومة، ومن حرية الفسق والفجور،
وقد صار الألوف من رجال الحكومة ملاحدة معطلِين أو فاسقين لا يصلون ولا
يصومون ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله من السُّكر والزنا والقمار، بل منهم من
يهزءون بمن يرونه يصلي ويصوم، ويعدونه متأخرًا أو رجعيًّا! !
وأما تسمية الحكومة إسلامية فمعناها أنها تمثل شعبًا أكثر أفراده مسلمون،
فهي تراعي شعائرهم ومواسمهم وتقاليدهم الدينية سواء كانت ثابتة في أصل دينهم
أو مبتدعة فيه كالموالد وبناء المساجد والقباب على قبور الصالحين وتشييدها
ووضع السرج عليها من أموال الأوقاف، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة لعن من
يفعلون هذا، وليس معناه أنها حكومة إسلامية كحكومة الخلفاء السابقين أو الحكومة
السعودية في نجد والحجاز والحكومة الإمامية في اليمن - تقيم الشريعة وتلتزمها في
سياستها وجميع قوانينها، وتمنع المنكرات الدينية كلها.
وجملة القول: إن ما فشا في البلاد من تبرج النساء وتهتكهن ما كان ليفشو إلى
هذه الدركة السفلى لولا استحسان الكثيرين من رجال الحكومة، ومن في طبقتهم من
الأغنياء المترفين له، ومجاهرتهم في اقترافه.
40-
ما يجب على العلماء من مقاومة هذا الإلحاد والفساد
إن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وأنكره الإلحاد والفساد - من
الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، وهذه الفريضة هي سياج الدين وحفاظ
الفضيلة في الأمة ووقايتها من الرذيلة أن تفشو فيها، بل إنكار المنكر واجب في
الإسلام باليد فاللسان فالقلب، وهذا أضعف الإيمان كما ثبت في الحديث الصحيح
المشهور، والعلماء أول المطالبين بإقامة هذه الفريضة لعلمهم بوجوبها وشدة خطر
تركها وما لها من أحكام؛ ولأن كلامهم أجدر بالقبول والتأثير، وسبب تقصير
أكثرهم في إقامتها ضعفهم في الدين والأخلاق، وامتهان الحكام لهم بامتهانهم
لأنفسهم، كما قال شاعرهم الحكيم:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظَّموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنَّسوا
…
محياه بالأطماع حتى تجهما
وقد كان من سيرتنا في المنار من سنته الأولى (سنة 1315) إلى اليوم
مطالبتهم بإقامة هذه الفريضة والإنحاء عليهم باللائمة لتقصيرهم فيها، حتى أنهم
كرهونا وقاومونا وصاروا يصدون العامة عن قراءة المنار لأجل ذلك، وكان أول
من لامنا واعتذر عن العلماء في سكوتهم عن إنكار المنكرات شيخنا الأستاذ العالم
العاقل الشيخ حسين الجسر عفا الله عنه، فقد رد علينا في جريدة طرابلس،
واضطررنا إلى الرد عليه في المجلد الثاني من المنار من غير تصريح باسمه،
ونحمد الله تعالى أن كثر في هذه السنين العلماء والوعاظ الذين يقاومون الإلحاد
والفساد، وينهون عن الفواحش والمنكرات الفاشية والبدع والخرافات المزمنة،
ووزارة الأوقاف تساعدهم على ذلك، وهذا من فوائد كون دين الحكومة الرسمي
الإسلام، وإن تألفت في مصر جمعيات تعنى بذلك كجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية،
وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية في القاهرة، وقد سبقتها ولحقتها
جمعيات أخرى في البلاد المصرية تدعو إلى هداية السلف الصالح وترك البدع كلها،
وإننا ولله الحمد نساعد أكثر هذه الجمعيات ولنا فيها الإخوان والمريدون
المخلصون، وأنشئت لبعض هذه الجمعيات ولبعض الأفراد مجلات وجرائد تقوم
بهذا الواجب أيضًا.
41-
عمل مجلة المنار وما وصفها به السائل من الإحجام
إننا قد أنكرنا تبرج النساء وتهتكهن مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة في مجلدات
المنار المتعددة، ولا نزال نعود إلى الإنكار عند سنوح المناسبة، كما ننكر دائمًا
على سائر المعاصي والبدع، ونرد على أهل الإلحاد والشيع، ونفنِّد شبهات
المبشرين، وزيغ الماديين، ونبين في مقابلة هذا الكفر والضلالة، ما جاء به
الإسلام من الهداية، وكونها هي السبب الوحيد لسعادة الدنيا والآخرة، والجامع
الأعظم لكل ما يجب من تخلية وتحلية، هو تفسيرنا للكتاب الحكيم، الذي شهد له
العلماء في مصر وغيرها، العارفون بما يحتاج إليه المسلمون وسائر البشر في هذا
العصر من الإصلاح بأنه خير تفسير لكتاب الله عز وجل، الذي أكمل الله به الدين،
ويليه باب الفتاوى العامة التي نشرح فيها ما يسألنا عنه القراء من جميع الأقطار
من حل المشكلات، والترغيب في الواجبات، والترهيب عن المنكرات، ويليه
باب المقالات الشارحة لأهم ما يهم المسلمين من أمر دينهم وأمتهم وحكومتهم
…
إلخ،
وكثيرًا ما لامنا القراء على عدم فتح أبواب في المنار للمباحث الأدبية واللغوية
والفنية وغيرها مما يحبه جماهير الناس، فيكون مرِّغبًا في قراءته؛ لأنهم يملون
بالطبع من جعل جميع مباحثه في المسائل الإسلامية التي يُقصد منها إحياء هداية
الدين والدفاع عنه، فلا نجد فيه سعة لما يقترحونه وإن كان فيه مصلحة لنا.
فإذا كان السائل يرى من الواجب أن نكتب في كل جزء منه مقالاً في إنكار
تبرج النساء وتهتكهن، وأن ترك هذا إحجام عن الواجب - فنحن لا نوافقه على هذا
الرأي ولا نظن أن أحدًا من أهل الرأي يوافقه عليه، وقد ثبت في الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول الناس بالموعظة خشية السآمة والملل من
التكرار.
42-
سبب فشو الإلحاد وما يجب على العلماء من مقاومته
أما سبب فشو الإلحاد فقد بيَّناه في المنار مرارًا، وهو أمران أهمهما عدم
التعليم الإسلامي الصحيح الذي يقتضيه حال هذا العصر، وعدم التربية الملية
الوجدانية على هدايته، والثاني فشو الأفكار المادية والشبهات العلمية على الدين في
المدارس المصرية من أجنبية وأميرية وتولي المتخرجين فيها لأمور الحكومات
وسائر المصالح العامة.
وأما ما يجب على العلماء من مقاومة ذلك وصد تياره، فالقول فيه كالقول في
مسألة مقاومة البدع والمنكرات، أكثر العلماء الرسميين المقلدين يعجزون عن
مقاومة شبهات الإلحاد، إما لأنهم لا يفهمونها ولا يفهمون الدين كما يجب أن يفهمه
من يقوم بذلك بالحجة والبرهان، وإما لضعفهم في البيان أو في الغيرة على الدين،
على أنه قد وجد فيهم وفي غيرهم أفراد يقومون بهذا الواجب على قوة أو ضعف
ولو تم للإستاذ الإمام رحمه الله تعالى ما كان يحاوله من إصلاح الأزهر ولم يصده
عنه الجمود والاستبداد، أو لو تم لنا ما قمنا به بعده من إنشاء جمعية ومدرسة
للدعوة والإرشاد، ولم يقض عليها نفوذ الاستعمار وفشو الإلحاد، لما خطر هذا
السؤال لملقيه علينا ببال.
43-
سفر النساء المسلمات إلى أوربة مع أزواجهن
…
إلخ
من الغريب أن يسأل مسلم: هل يحسن هذا الأمر أم لا؟ وأن يسأل عن حكمه
مع علمه بما فيه من المنكرات التي ذكر بعضها، وأن من النساء من صرن يسافرن
إلى أوربة منفردات أو مع أخدانهن من الرجال، وأمثال هؤلاء لا يخطر لهم الدين
ببال، ولا مراعاة أحكامه في حرام ولا حلال، ويقل فيهم من يسافر مع امرأته
ويكون ملازمًا لها في سفرها، فلا يخالف أحكام الإسلام وآدابه إلا فيما يجب عليها
من الستر وعدم الخلوة بأجنبي، وعدم حضور مجالس السكر ورقص الخلاعة
وأمثال ذلك.
44-
تعليم أبناء المسلمين وبناتهم في المدارس الأجنبية
من إلحادية وتبشيرية
تقدم أن أحد سببي فشو الإلحاد والإباحة في المسلمين تعلمهم في هذه المدارس
مع تركهم لتعلم دينهم وتربيتهم، وأما سبب انكبابهم عليها فثلاثة أمور (1)
الشعور العام بأن ما فيها من العلوم والفنون ضروري للحياة المدنية الراقية في هذا
العصر (2) الجهل بما فيه من الضرر والفساد الديني والقومي مع ظهور نتائجه
(3)
عدم وجود حكومة إسلامية أو جمعيات إسلامية راقية تكفل لهم تحصيل ما
يشعرون بأنه لا بد منه من العلوم والفنون على الوجه الذي يُرجى نفعه، ويُؤمن
ضرره، بإنشاء مدارس راقية في تعليمها وتربيتها ونظامها، تشتمل على التعليم في
جميع مراتبه لجميع العلوم النافعة، وما وجد من المدارس الإسلامية لبعض الأفراد
أو الجمعيات، لم يقصر المسلمون في الإقبال عليها، وإن لم تبلغ درجة الكليات
والجامعات الأجنبية في استعدادها ومرغباتها.
وهنالك سبب رابع هو أعم الأسباب، وهو التقليد والتيار الاجتماعي الذي
يجرف الجماهير، إلى حيث لا يعلمون من المصير، وقد سألت رجلاً عطارًا: لمَ
ترسل ابنتك إلى المدرسة وما تقصد أن تستفيد منها؟ قال: لا أدري! أنا أعمل كما
يعمل الناس.
45-
الدواء لجميع هذه العلل
والواجب على الحكومة والعلماء عمله
قد طرقنا أبواب هذا البحث مئات من المرات منذ أنشئ المنار إلى اليوم - أي
في مدة ثلث قرن - بعنوان الداء والدواء وباسم الاصلاح وبغير هذا من الأسماء،
ولا يزال المسلمون يتساءلون عنه، ولا يفقه أكثرهم ما كتب ولا ما قيل، وذلك أنه
ليس لهم حكومة إسلامية ولا هيئات إسلامية تقوم بما يجب من ذلك، والخلاصة
المختصرة التي نجيب بها هذا السائل أن الدواء الوحيد لذلك هو قيام حكومة إسلامية
راشدة توفَّق لأعوان من عقلاء العلماء بكل مصلحة من المصالح، ولا سيما التعليم
والإرشاد، ومساعدة العالم الإسلامي لها أينما وجدت، وكان هذا رأي حكيم الإسلام،
وموقظ الشرق الأكبر السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى الذي سعى طول
حياته لأجله، فإن لم توجد هذه الحكومة فالدواء تربية عدد كثير من المسلمين
وتعليمهم ما يجب من مداواة الداء والعمل بعد الشفاء، وكان هذا رأي حكيم الإسلام
الثاني شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) وقد بيناهما مرارًا.
هذا وإننا نرى في آفاق الأقطار الإسلامية المظلمة، وما يحيط بها من
الأخطار نورًا يبشرنا بتحقيق أمل حكيمينا المصلحين كليهما، فأما أمل الثاني فما
أشرنا إليه في هذه الأجوبة من وجود أفراد من العلماء المصلحين وجماعات للهداية
الصحيحة وأكثرهم من تلاميذه أو الآخذين عنهم، وأما أمل الأول فهو وجود
الحكومة السعودية في نجد والحجاز، فإذا كان ما ظهرت آياته في الأقطار الإسلامية
من التنبه والشعور بالحياة الملية والإصلاح الإسلامي قويًّا؛ فإنه يؤيد هذا الرجل
النادر المثال في استعداده للإصلاح الاسلامي الديني المدني (ألا وهو عبد العزيز
آل السعود) يؤيده بالرجال وبالمال وبالرأي العام.
46-
قراءة العامي لكتب الدين
قد سبق أن سُئلنا هذا السؤال وأجبنا عنه، وخلاصة ما يقال فيه أنه لا ينبغي
للعامي أن يعتمد على فهمه في قراءة كتب الفقه والعقائد، بل عليه أن يتلقى ذلك عن
العلماء، ثم يطالع ما يسهل فهمه مع مراجعتهم فيما يشكل منه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
حكم من يتجسس على المسلمين من توبة وإمامة وغيرهما
(ص 47 - 53) من صاحب الإمضاء في الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حضرة صاحب الفضيلة العلامة شيخ الإسلام الأستاذ سيدي محمد رشيد رضا
حرسه الله تعالى وحفظه لدين الإسلام، آمين.
بعد واجب السلام والاحترام، فأرجو من فضيلتكم الجواب عن الأسئلة الآتية:
ما حكم الشرع في رجل مسلم كان في أثناء الحرب العظمى متوظفًا عند دولة
أوربية مسيحية إمامًا يصلي على قتلى رعاياها من المسلمين، ثم هذه الدولة
المسيحية أرسلته جاسوسًا لها في بلاد إسلامية، وقد علمت دولة إسلامية بتجسسه
وعزمت على إلقاء القبض عليه وشنقه، ومع الأسف قد علم بذلك وهرب إلى تراب
الدولة المسيحية التي يتجسس لها، ثم بعدما قضت هذه الدولة مآربها به أرجعته
لوطنه وأعطته في مستعمرتها وظيفة إمام في مسجد إسلامي جزاء لخدمته إياها وهو
إلى الآن يصلي خلفه المسلمون ويُدعى مصلحًا! ! !
(1)
هل من فعل هذه الجرائم يُقبل إسلامه؟ (2) هل يقتله الشرع
الإسلامي؟ (3) هل تجوز الصلاة خلفه؟ (4) هل توبته (وفيها ريب) تقبل
بعدما تجسس لدولة مسيحية على إخوانه المسلمين؟ (5) هل صلاته وصومه
يكفر عنه هذه السيئات، ويعد مؤمنًا بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟
(6)
هل يجوز للمسلم أن يتجسس على إخوانه المسلمين لينال حطام الدنيا، ثم
بعد ذلك يتوب توبة نصوحًا؟ هل تُقبل منه وتُغفر سيئاته؟ (7) هل يجوز للمسلمين
أن يسمعوا إرشادات خائنين مثل هذا الجاسوس التائب؟
نرجو من فضيلتكم الجواب الكافي، لقد كثر بوطننا أنواع هذا الخائن لأمتهم
ودينهم حتى تكشف خزعبلات هؤلاء الجناة وينقطع تيارهم، فهم أكثر سبب
مصائبنا ودمارنا، ولولا هؤلاء الخائنين لما وصلنا إلى ما نحن فيه، وإننا منتظرون
الجواب بالمنار الأغر ودمتم للإسلام والمسلمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
السائل
…
...
…
...
…
...
…
... عبد القادر الجزائري
(ج) من يرضى لنفسه أن يكون جاسوسًا لأعداء المسلمين في حربهم لهم
يبين لهم عورات المسلمين ومواضع ضعفهم وقوتهم وغير ذلك مما يُعَدُّ من أسباب
فتكهم بهم وانتصارهم عليهم - لا يُعقل أن يكون مؤمنًا صادقًا؛ لأن هذه ولاية لأعداء
المسلمين عليهم في الحرب {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51) فهو في الغالب منهم في دينهم ومذهبهم أو منافق يُعَدُّ
منهم في الكفر الجامع بينهم والفاصل بينه وبين الإسلام، كما قال تعالى في منافقي
المدينة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ
أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} (الحشر:
11) الآية.
وقد استدل عمر بن الخطاب على نفاق حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله
عنهما) بإرساله كتابًا إلى مشركي مكة يخبرهم فيه بعزم النبي صلى الله عليه وسلم
على فتح مكة ليتخذ له يدًا عندهم، مع اعتقاده أن الله تعالى لابد أن ينصر رسوله
عليهم علموا أو لم يعلموا، واستأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فلم يأذن له
بذلك، لما ثبت عنده صلى الله عليه وسلم من إيمان أهل بدر (وكان حاطب منهم)
ومن مغفرة الله لهم، وسأل حاطبًا عن سبب إرسال الكتاب فاعتذر له وقبل عذره،
وفي هذه المسألة نزلت صورة الممتحنة، ويؤخذ منها أن بعض القرائن التي تدل
على الكفر والنفاق قد تكون دلالتها غير قطعية في الباطن، مهما تكن واضحة في
الظاهر؛ لأن صاحبها قد يكون متأولاً، وقد تكون له نية صحيحة في التجسس بأن
تكون لدرء الضرر عن المسلمين الذين يتجسس عليهم، فهذا الفعل نفسه معصية لا
كفر، ولكن قد يكون سببه الكفر، ولا يجوز لأحد من الناس قتله بسابق عمله؛
وإنما يرجح حسن الظن في الرجل الذي يكون حاله في الاعتصام بدينه قبل ذلك
وبعده قويًّا ظاهرًا، وقليل ما هم.
حدَّثني المعاون المسلم لوالي (بنارس الهندية) في بنارس وكنت ضيفًا عنده،
وهو أفغاني الأصل أن حكومة الهند الإنكليزية جعلته من الرجال الذين يقومون
بخدمة الأمير حبيب الله خان أمير الأفغان مدة زيارته لبلاد الهند، وأن غرضها من
ذلك أن يكون جاسوسًا عليه.
قلت له: وكيف اعتمدت عليك حكومة الهند في هذا وأنت مسلم مستمسك بعروة
دينك وأفغاني الأصل، وهي تعلم أن الأفغان من أشد الناس تعصبًا لدينهم ولجنسهم
كما علمنا نحن من حكيمهم بل حكيم الإسلام والشرق السيد جمال الدين الحسيني
رحمه الله تعالى؟ قال: نعم إن الحكومة كانت تعلم أنني لا يمكن أن أخبرها بشيء
يضر الأمير، وتعلم مع هذا أنني لا أكذب، فكل فائدتها أن أقول الحق فيما لا يضر
فإنه ينفعها في تمحيص ما يخبرها به سائر الجواسيس الذين كانوا يحفُّون من حول
الأمير.
وأما توبة الجاسوس من ذنبه، والمنافق من نفاقه، والكافر من كفره فهي
صحيحة مقبولة إذا كانت توبة نصوحًا، ويترتب عليها صحة صلاته والصلاة خلفه؛
ولكن لا يجوز لمسلم أن يُقْدِم على مثل هذا التجسس طمعًا في حطام الدنيا
واعتمادًا على التوبة بعد ذلك، كما أنه لا يجوز فعل أي ذنب ومعصية اتكالاً على
التوبة والمغفرة؛ ولكنه إن فعل وكان صحيح الإيمان على ضعف فيه فلا يبقى
أمامه إلا التوبة والإكثار من الأعمال الصالحة رجاء في قوله تعالى: {إِنَّ
الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) .
وأما سماع المسلمين لإرشاده ونصحه بعد علمهم بما سبق من جرمه، فيتوقف
على ما يظهر لهم من حاله بعد التوبة، فمن ثبت عنده صدق توبته وحسن حاله
بعدم اجتراحه لما يجعله محلاًّ للتهمة فلا بأس بسماعه لنصحه وإرشاده فيما لا محل
له فيه للشك والتهمة، ومن كان لا يزال يسيء الظن به فهو بالضرورة يعرض عن
سماع نصحه، وينبغي للجمهور أن يظهروا المقت من سابق عمله فيما لا مفسدة فيه
ليكون ذلك عبرة لغيره.
***
تفسير الشيخ طنطاوي جوهري
(س54) من حاضرة تونس لصاحب الإمضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن عبد الله، وآله
ومن والاه.
حضرة صاحب الفضيلة العالم الهمام، مرشد الأنام لحقيقة الإسلام، سيدي
محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء، حاطه الله بالرعاية وأطال له البقاء،
آمين.
بعد إهداء طيب سلامي، وأداء لائق احترامي، لسامي مقامكم، وشريف
قدركم الأسنى، فأنهي لجنابكم الأعلى، أني طالعت بعض ما كتبه الشيخ سيدي
طنطاوي جوهري المحترم على سورة البقرة ووسمه بالتفسير، وبما أن نفسي لم
تطمئن لبعض ما قرأته فيه لتطبيقه الآيات على الاختراعات العصرية، والسنن
الطبيعية، مما يظهر لمثلي القاصر أن آي الذكر الحكيم، وحديث رسوله الكريم،
بعيدة كل البعد عن هذا المسلك الذي سلكه الشيخ المذكور، وبناء على ظني بأنكم
اطلعتم على كله أو جله لاهتمامكم المتزايد وغيرتكم على السنة والكتاب الحكيم
وتسرون بخدمتها الخدمة المرضية، كما أنكم تفحمون من يتنكب الصراط السوي،
تقدمت لفضيلتكم مؤملاً أن تبينوا لنا ولجميع قراء المنار الأغر رأيكم وحكم الله في
التفسير المذكور بيانًا شافيًا واضحًا حتى يصح لنا أن نقول بأن كل ما خطه قلم
الشيخ طنطاوي الموقر وجزم بأنه مأخوذ من الآيات القرآنية، ومستمد من الأحاديث
النبوية، هو في محله موافق لما أراد الله من الآية، مطابق لمغزى حديث رسوله
صلى الله عليه وسلم مقبول من لدن العلماء الفضلاء ولا محل لنقده، ولا سبيل
لتفنيده، بل عمله هذا مصيب فيه كل الإصابة، الجائز عليه الثواب والإثابة،
يوجب من المسلمين له الشكر والثناء الجزيل، ويرغب النشء وغيرهم مطالعته،
والتعويل على كتابته، مع إدامة النظر والاعتبار في دقائقه، وختامًا نكرر القول
بأننا نترجى الجواب السريع الشافي، والحكم النزيه الوافي، من رأيكم المصيب،
وإنصافكم المعهود، ولكم من الله جزيل الشكر والإحسان، والثواب والإعانة من الله
الرحمن.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد خوجه
(ج) إنني كنت رأيت الجزء الأول من هذا التفسير في دار صديق لي منذ
بضع سنين، وقلبت بعض أوراقه في بضع دقائق فرأيته أحق بأن يوصف بما
وصف به بعض الفضلاء تفسير الفخر الرازي بقوله: فيه كل شيء إلا التفسير،
وقد ظُلم الرازي بهذا القول فإن في تفسيره خلاصة حسنة من أشهر التفاسير التي
كانت منتشرة في عصره، مع بعض المباحث والآراء الخاصة به، كما أن فيه
استطرادات طويلة من العلوم الطبيعية والعقلية والفلكية والجدليات الكلامية التي بها
أعطي لقب (الإمام) لرواج سوقها في عصره. والأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم
بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر،
ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم
لن يقووا ويثروا ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها
مع محافظتهم على عقائد دينهم وآدابه وعباراته وتشريعه، ويعتقد حقًا أن الإسلام
يرشدهم إلى هذا، بل يوجبه عليهم، فألَّف أولاً كتبًا صغيرة في الحث على هذه
العلوم والفنون والتشويق إليها من طريق الدين وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم
توسع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم،
ومحبي العلم إلى هدي القرآن في الجملة والإقناع بأنه يحث على العلم، لا كما
يدعي الجامدون من تحريمه له أو صده عنه؛ ولكن الأمر الأول هو الأهم عنده،
فهو لم يعن ببيان معاني الآيات كلها وما فيها من الهدى والأحكام والحِكَم بقدر ما
عني به من سرد المسائل العلمية وأسرار الكون وعجائبه (ولهذا قلنا إنه أحق من
تفسير الرازي بتلك الكلمة التي قيلت فيه) .
ولا يمكن أن يقال إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمى تفسيرًا له، ولا أنه
مراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا، إذ يصح أن يقال حينئذ إنه
يمكن تفسير كلمة {رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) بألف سفر أو أكثر من الأسفار
الكبار تضعه جمعيات كثيرة كل جمعية تعنى بعالم من العالمين، فتدون كل ما يصل
إليه علم البشر فيه، ولا يمكن أن يقال إنه لا يمكن انتقاده، بل الانتقاد على ما فيه
من التفسير ومن مسائل العلوم ممكن {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76)
وقد قلنا إنه لم يعن بقسم التفسير منه كثيرًا ولا سيما التفسير المأثور، وأما هذه
العلوم فالبشر يتوسعون فيها عامًا بعد عام، فينقضون اليوم بعض ما أبرموا بالأمس،
فليس كل ما دوَّنه أهلها صحيحًا في نفسه، فضلاً عن كونه مرادًا لله من كتابه،
وإنما أُنزل الكتاب هدى للناس لا لبيان ما يصلون إليه بكسبهم من العلوم
والصناعات؛ ولكنه أرشد إلى النظر والتفكر فيها ليزداد الناظرون المتفكرون إيمانًا
بخالقها، وعلمًا بصفاته وحكمه.
وأما السؤال عن رضاء الله عنه وإثابته عليه فلا يقدر بشر على الجواب عنه
بالتحقيق؛ لأن علمه عند الله تعالى وحده؛ وإنما نقول بحسب قواعد الشرع الإلهي
إنه إذا كان قد ألَّفه لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته فإن الله تعالى يثيبه عليه، فما
أصاب فيه فله عليه أجران، أجر الإصابة وأجر الاجتهاد وحسن النية، وما أخطأ
فيه فله عليه الأجر الثاني مع رجاء العفو عن الخطأ، وهذا ما نظنه فيه.
وجملة القول إن هذا الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا
الجواب، وصاحبه جدير بالشكر عليه والدعاء له؛ ولكن لا يُعوَّل عليه في فهم
حقائق التفسير وفقه القرآن لمن أراده؛ فإنه إنما يذكر منه شيئًا مختصرًا منقولاً من
بعض التفاسير المتداولة، ولا يُعتمد على ما يذكره فيه من الأحاديث المرفوعة
والآثار لأنه لا يلتزم نقل الصحيح، ولا ذكر مخرِّجي الحديث ليُرجع إلى كتبهم
فلابد من مراجعتها في مظانها، وما ينفرد به من التأويلات فهو يعلم أنه يخالف فيه
جماهير العلماء وهم يخالفونه؛ وإنما راجعت بعضه في أثناء كتابة هذا الجواب
فزادني ثقة بما قلته فيه من قبل، والله أعلم.
***
جدال في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
ودعائه والاستغاثة به
(س 55) من صاحب الإمضاء في عدن
حضرة السيد الفاضل الأجلّ العلامة السيد محمد رشيد رضا، أمتع الله بحياته
الإسلام والمسلمين.
سلامًا واحترامًا، سيدي العلامة الفاضل، أولاً أرجوكم أن تعذروني ولا
تؤاخذوني إذا وجدتم في كتابي هذا لحنًا أو ركاكة أو سوءًا في التعبير لأني قبل كل
شيء عدني، والتعليم عندنا لا يكاد يكون له وجود.
كثر عندنا في هذه الأيام لفظ المتوهبين - لا الوهابيين - وزاد، وليس عندنا
من ينكر على الإمام محمد بن عبد الوهاب مذهبه؛ ولكن لسوء الحظ أوقع القدر لهذا
المذهب بين ناس يجهلون حقيقته حق الجهل، وإليكم ما صار اليوم في محفل كان
يضم جمعًا من الناس.
قام رجل من القوم بعد جلوس طويل أضناه قائلاً: يا رسول الله أنت لها.
فاعترضه أحد المتوهبين بقوله: إن الرسول له الشفاعة لا غير، قال له نعم،
قال ولا يمكن لرسول الله أن يشفع إلا بإذن ربه، قال نعم، ثم رجع قائلاً الرجل
الأول إن رسول الله هو الشفيع المشفع يوم القيامة ورددها نحو مرتين أو ثلاثًا، إلا
أن ذلك الرجل المتوهب كما يسمي نفسه كلما سمع ذلك الرجل يلفظ بهذه الكلمات
ويأتي إلى يوم القيامة إلا ويلحقه: بإذن ربه، وهكذا عدة مرات فردَّ عليه بأن
الشفاعة حقيقة بإذن الله، وهذا معلوم أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، فلم يرق هذا
الجواب في عين صاحبنا المتوهب، وقال: لا يمكن أن تلفظ بتلك الكلمات ما لم تلفظ
بالإذن، فأجاب ذلك الرجل على متوهبنا: حسبما يظهر أن تعقيبك (بإذن الله) هو
كرهك لأن تسمع هذه الخصوصيات خالية من ذكر (بإذن الله) مع أنه معروف،
فأجابه لا، ولكن بقي ذلك الرجل يردد كلمات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
هو الشفيع المشفع فلم يتركه ذلك الرجل إلا لاحقًا به في كل مرة: (بإذن الله) .
فما الذي يفهمه سيادة مولانا من هذا الرجل بلفظه تلك الكلمات خالية من (بإذن
الله) محذور عليه فيها؟ وهل مجبور ذلك بتلفظها؟ وهل يُفهم من حضرة المتوهب
أنه يريد إفهام من حضر أنه لا يمكن للرسول أن يشفع إلا بإذن الله مع معرفتهم
لذلك ومصارحتهم له به مرارًا؟ أو المراد به أنه لا يطيق هذا سماع تلك الكلمة
خالية من (بإذن الله) لئلا يتوهم أن النبي يشفع بدون إذن الله؟
ثم طار البحث إلى أن توصلوا إلى فضل رسول الله وجاهه العظيم عند الله
وأن الله سبحانه وتعالى يغار على رسوله من كل ما يمس كرامته، فلم يسع ذلك
المتوهب إلا أن قال لأحد الحاضرين عندما قام من مجلسه وقال (يا رسول الله) إلى
أن قال له ماذا تعني بذلك؟ أتظن أن رسول الله يقدر ينفعك أو يرد عنك أي مُلمة؟
ها أنا الآن في مُلمة ادع رسول الله الآن يحضر يريحني منها، وهل في وسعه ذلك؟
فلم يسع أولئك القوم عندما سمعوا ذلك التهكم إلا أن قالوا إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يضر ولا ينفع، وأن النافع والضار هو الله، وإنما محبتنا للرسول
دائمًا تجعلنا نناديه ونصلي عليه، وما كان أليق بك يا حضرة الواهب تطلب
حضور رسول الله لأن يدفع عنك الملمة لتمتحن اقتداره وقدرته، هذا ما صار
بحضورنا وجمع من الناس ورجانا من سيدي الإمام حرسه الله أن يفيدنا بما يراه في
كلام الفريقين، وهل يليق التعريض لكرامة الرسول إلى هذه الدرجة؟ أفيدونا حزتم
خير الدنيا والآخرة سواء بالكتابة إلينا حسب عنواننا أو في مجلتكم الغرَّاء حفظكم
الله.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الداعي لكم بالخير
…
...
…
...
…
... جعفرعلي
(ج) هذه الملاحاة والمجادلة والمماراة قبيحة يمقتها الله تعالى والمؤمنون
العارفون بدينهم، وقد أخطأ فيها الفريقان: أخطأ هذا الرجل الذي تسمونه المتوهب
في صفة إنكاره العنيف، وفي قوله إنه لا يجوز لأحد أن يسند الشفاعة إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا مقترنة بكلمة (بإذن الله تعالى) وإننا نجد علماء السنة
من الحنابلة الوهابيين ومن سائر المنتمين إلى المذاهب والمجتهدين يذكرون شفاعته
صلى الله عليه وسلم عند المناسبة بدون وصلها بهذا القيد الذي يعتقدونه لقوله تعالى:
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) كما يعتقدون أن المشفوع
له لابد أن يكون ممن ارتضى له هذه الشفاعة لقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ
ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) فلماذا لم يوجب هذا الرجل هذا القيد أيضًا؟
وأما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما يُعَدُّ منافيًا لكرامته عرفًا ولو بالأسلوب
دون النص ففيه خطر عظيم على الإيمان، وقد حرَّم الله تعالى أن يُدعى باسمه في
حياته، ولم يكن الأعراب الذين كانوا ينادونه (يا محمد) يقصدون الإخلال
بالتعظيم الواجب له صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه مخل به في عرف أدباء الحضارة
ولذلك علمهم الله تعالى ما يجب عليهم من الأدب بنهيهم عن ذلك في قوله: {لَا
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63) وكون النافع
الضار بالذات هو الله تعالى لا ينافي نفع المخلوقات بالسببية قال الله تعالى:
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وقال حكاية عن امرأة
فرعون التي شهد بإيمانها {عَسَى أَن يَنفَعَنَا} (القصص: 9) تعني موسى عليه
السلام، وقد نهى الله ورسوله عن المضارة، وهي المشاركة في الفعل الضار.
وأخطأ ذلك الرجل في ملاحاته ومماراته المثيرة للغضب بالتكرار وباتهامه
بأنه لا يحب أن يسمع وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالشفيع
…
إلخ،
وكلمته الأولى التي أنكرها المتوهب وهي (يا رسول الله أنت لها) لا يفهم منها
الشفاعة يوم القيامة إلا بقرينة سابقة، وهي تستعمل عند الجاهلين بحقيقة التوحيد
المصابين بدخائل الشرك، بمعنى الاستغاثة والدعاء الذي هو عين العبادة بنص
الحديث ونصوص القرآن أيضًا.
فدعاء الأنبياء والصالحين بعد موتهم لقضاء الحاجات عبادة لهم؛ لأنه ليس
من الأسباب التي يكون فيها الدعاء والطلب من العادات، وهو غير دعاء الأحياء
فيما هو داخل في العادات والأسباب كما شرحناه مرارًا كثيرة، وهذا هو الذي أنكره
الرجل لما يعهده من كثير من الجاهلين من جعله كدعاء الله تعالى؛ لأنه في غير
الأسباب التي مكَّن الله الناس منها.
وجملة القول أن دعاء المخلوق للمخلوق لكشف ضر أو جلب نفع إن كان دعاه
لأمر عادي داخل في سنة الله في الأسباب والمسببات كأن يدعو رجلاً حيًّا لمساعدته
على رفع حمل وقع، أو إطفاء نار اشتعلت في داره أو متاعه أو للصدقة عليه،
فهذا يسمى دعاء عادة وسبب لا عبادة للمدعو، وإن كان لأجل ضر أو نفع ليس مما
يقدر عليه المدعو بكسبه أو دعاء لميت قد انقطع عمله الدنيوي بموته؛ فإن دعاءه
يكون عبادة للمدعو سواء كان يعتقد أنه يقدر أن يقضي حاجته بنفسسه أم أنه
يقضيها بوساطته عند الله تعالى، وثبوت الشفاعة يوم القيامة عند الله تعالى بإذنه
لمن ارتضى لا يبيح للمسلم أن يدعو من كان أهلاً لهذه الشفاعة، كما يُدعى الله فيما
لا يقدر عليه إلا الله من أمور هذا العالم، بل هو عين ما أنكره في التنزيل من
المشركين في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ
هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) فالرجل المتوهب خاف على منادي
الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشرك الفاشي فأنكر عليه، فأغلظ كل منهما
فيما ينكر عليهما وعلى من يشاركهما في جدلهما، فعسى أن يتوب كل منهم إلى الله
تعالى.
***
حكم الأعياد السياسية والوسامات الدولية
(س 56 و 57) من الحجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحكم الشرعي في عيد جلوس الملك ابن السعود
الأستاذ الحكيم والعلامة العظيم، مولانا السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة
المنار الغرَّاء لا زال في مقام كريم آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فلما كان سيادتكم الركن الركين للسلفيين أهل السنة والجماعة جئت
مسترشدًا عن جواز عمل الحكومة الحجازية بإحداث عيد ثالث سموه (عيد جلوس
الملك الإمام عبد العزيز السعود) أيَّده الله آمين، وإن ما ورد في السنة من إبطال
النبي صلى الله عليه وسلم للأعياد السابقة وجعله للأمة الإسلامية عيدين: عيد
الفطر والأضحى، وما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه
اقتضاء الصراط المستقيم والإمام ابن شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع
والحوادث) رحمه الله تعالى لا يخفى على فضيلتكم، فأرجو بيان الحكم الشرعي
في المسألة لأن بعض الإخوان السلفيين منكرون لإحداث هذا العيد فعسى أن يظهر
لنا الحكم فيه.
إحداث الأوسمة من غير النقدين الذهب والفضة
هل يجوز إحداث أوسمة مثل سائر الدول تكون من المعدن الجيد غير الذهب
والفضة؛ فإنه يحسن بالحكومة الحجازية النجدية أن تُحْدِث أوسمة تعطيها لمن قام
يخدمها من رجالها ورجال الدولة فهل يسوغ شرعًا أم لا؟
مستفيد من الحجاز
(ج) بلغني أن بعض الإخوان الذين أشار إليهم السائل قالوا بتحريم فعل
هذه الحكومة الإسلامية ما تفعله سائر الحكومات من إحداث الأعياد السياسية، كعيد
جلوس ملك البلاد في الحكومات الملكية، وعيد الجمهورية في الحكومات الجمهورية،
وعيد الاستقلال في البلاد التي استقلت بعد عبودية، وإني لأعجب من جرأة كثير
من العلماء المتقدمين والمتأخرين على التحريم الذي جرَّأ العوام على مثل ذلك،
وهو تشريع ديني من حق رب الناس على عباده، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل:
116) الآية، وقال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقد عرَّف علماء الأصول التحريم بأنه (خطاب الله المقتضي
للترك اقتضاء جازمًا) والدليل على اشتراطهم كون دلالة الخطاب الإلهي على
وجوب الترك قطعية - أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم
يعُدُّوا قوله تعالى في الخمر والميسر: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة:
219) تحريما قطعيًّا على الأمة، وفي حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى في خيبر أن يقرب المسجد من أكل شيئًا من
الثوم، فقال الناس: حرمت حرمت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
(أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي؛ ولكنها شجرة أكره ريحها) ولكن
الذين يتجرءون على تحريم ما أحل الله تعالى لا يتدبرون هذه الآيات والأحاديث،
وحديث أبي سعيد هذا صريح في أن أكل الثوم مما أحل الله تعالى، والظاهر أنه
أحله بالآيات العامة في إباحة ما أخرجته الأرض، وهي الدليل على كون الأصل
فيها الإباحة من غير نص على كل نوع منها.
فإن استدلوا على تحريم هذه الأعياد السياسية بحديث أنس عند النسائي وابن
حبان: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان في كل سنة يلعبون فيهما،
فقال: (قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى) قلنا إن
الحديث لا يدل على ذلك دلالة قطعية ولا ظنية راجحة، بل غايته أنه أراد صلى
الله عليه وسلم أن يجعلوا العيدين الإسلاميين بدلاً من ذلك العيد الجاهلي، وما ندري
ماذا كانوا يعملون في ذلك اليوم من منكر، وحسبنا أن نعلم أنه من عادات الجاهلية،
وأن من المصلحة إزالتها ونسيانها، والاستغناء عن عيدهم فيها بالعيدين
الإسلاميين اللذين يجمع فيهما بين ذكر الله تعالى بالتكبير وصدقة الفطر والأضاحي،
وبين السرور واللهو المباح كغناء الجاريتين وضربهما الدف عند عائشة رضي
الله عنها بإذنه صلى الله عليه وسلم ورضاه، واللعب المباح كلعب الحبشة في
المسجد.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر حديث أبي سعيد هذا في الفتح وقفى عليه بقوله:
واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص
الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيمًا لليوم فقد
أشرك اهـ. فأمثال هذا الحنفي من الفتانين من المنفرين عن الإسلام بتشديداتهم
بغير علم.
ولا يصح بحال من الأحوال أن تقاس الأعياد السياسية الدنيوية على أعياد
المشركين الدينية؛ وإنما يظهر القياس عليها في أعياد الموالد التي يحتلفون فيها
بتعظيم الأنبياء والصالحين، فيجعلونها من قبيل الشعائر الدينية الإسلامية فهذا من
قبيل التشريع الذي لم يأذن به الله، والأعياد السياسية ليس فيها من هذا المعنى
شيء؛ وإنما يحكم عليها بما يفعل في احتفالاتها، فإن كان فيه منكرات محرمة
كشراب الخمر مثلاً كانت حرامًا وإلا فلا.
فإن قيل: وما تقول في إنفاق المال فيها؟ فالجواب أن إنفاق المال في المباح
مباح، وفيما فيه مصلحة راجحة مستحب، وهذا ظاهر في إنفاق الأفراد لأموالهم،
وأما إنفاق الحكام لأموال الأمة فلا يظهر فيها الأول، بل لابد في حل الإنفاق لولي
الأمر أن يكون فيما يرى فيه مصلحة للأمة.
وكذلك إحداث ما يدل على خدمة بعض الأفراد للأمة وحكومتها من وسام
وغيره إذا ثبت لأولي الأمر أن فيه مصلحة كان جائزًا لهم، أو مستحبًّا، وإن اشتمل
على مفسدة محرمة كان محرمًا، وإن لم تكن فيه مصلحة ولا مفسدة كان عبثًا
مكروها والله أعلم.
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
السيرة النبوية
بقلم المسيو مونته المستشرق السويسري
تقدم لنا في الجزء الماضي من المنار كلام على ترجمة جديدة للقرآن بقلم
المسيو مونته مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، ونقلنا إلى العربية المقدمة
التي صدَّر بها هذه الترجمة.
وترانا الآن ناقلين بعض فصول مما حرَّره الأستاذ مونته بعد المقدمة لما فيها
من الآراء الجديرة بالمطالعة، ولما فيها من الإنصاف وإن كنا ننبه القراء إلى أن
المسيو مونته لم يكن مسلمًا، وأن شهادته بحق الإسلام لا يمكن أن تُحمل على تأثير
عقيدة أو تربية إسلامية.
تكلم المسيو مونته على العرب قبل الإسلام توطئة لموضوع البعثة المحمدية
فقال: جاء الإسلام في الشرق انقلابًا عميقًا إلى أقصى ما يمكن في الأفكار السياسية
والدينية والفلسفية والأدبية قد قلب الأدب الذي كان في الشرق رأسًا على كعب،
بحيث نجد من الضروري أن نبين ببعض لمحات كيف كانت بلاد العرب مهد
الإسلام قبل أن قام محمد بالإصلاح الذي قام به.
إن التقاليد العربية قد هضمت كثيرًا من حق الدور العربي الذي سبق الإسلام
وحقرت الأجداد الذين كانوا وثنيين، ولم تنظر إلى الأحوال الاجتماعية التي كانت
عليها بلاد العرب القديمة، وأطلقت على ذلك الدور لقب (الجاهلية) وليس هذا
مطابقًا للواقع [*] .
فيكفي أن نذكر تلك (المعلقات) الخالدة طرائف إبداع أولئك الشعراء الوثنيين،
وأن نروي أشعار امرئ القيس وطرفة وزهير وعنترة
…
إلخ؛ لنحكم بظلم
هذه التقاليد، كلا لا يجوز أن نسمي الدور الذي فيه ارتقت الفصاحة العربية هذا
الارتقاء كله، وبلغت فيه لغة العرب درجة الكمال (جاهليًّا) .
ثم أورد الأستاذ مونته شواهد على عبقرية أولئك الشعراء من كلام عنترة،
وأخذ يبين ما فيها من إبداع وانتهى إلى القول (بأن الروايات التقليدية والأشعار
الباقية من الدور المتقدم على الإسلام والأغاني الهُذَلية أناشيد شهيرة طبعها مع
ترجمتها فلهاوزن الألماني سنة 1881 قد تُظهر عرب الجاهلية بمظهر أمة غير
قارئة ولا كاتبة وغير مهذبة، بل أمة من بعض الجهات بربرية، إلا أنها أمة كانت
على بعض أخلاق عظيمة هي الأصل في عظمة الأمة العربية في كل عصر) قال:
إن العرب قبل الإسلام كانوا بحسب هذه التقاليد ماديين لا يعرفون سوى
الحرب والعشق والخمر والميسر، وإنه لم يكن ثمة مبادئ عالية يلوون عليها، وفي
ذلك بدون شك مبالغة لأننا في الحقيقة نجد في جانب هذه المعيشة المادية الخشنة
عند العرب عاطفة شديدة للحرية تجعل هذا الشعب محبوبًا عندنا، وإن فضائل
الأنفة والحمية هي كلها من مزايا العرب، فالعربي يبذل حياته بلا مبالاة دفاعًا عن
قضية يراها حقًّا، ويرى على نفسه فرضًا لا محيد عنه أخذ ثارات ذوي قرباه،
وإنك تجد حس الشرف والحياء بالغًا عنده الحد الذي ليس وراءه حد، وقد قال أحد
شعراء الحماسة: إن الشجرة لا تعيش إلا إذا دامت لها قشرتها، وإن الإنسان لا
حياة له إلا إذا بقي فيه الحياء.
نعم بجانب هذه الفضائل الباهرة ظلمات شديدة، مثل إباحة تعدد الزوجات
بدون تحديد، والإذن للرجل بالطلاق بدون أدنى قيد، والنظر إلى المرأة بنظر
احتقار زائد، ووأد البنات، والغزو والسلب وقتل الإنسان للإنسان لأخذ ماله،
فأما الديانة فعبادة أوثان فظة وعادات مناسبة لهذه العبادة، وكانوا يعبدون الأشجار
والأحجار، وكانت الكعبة هي مركز الوثنية وفيها ثلاثمائة وستون صنمًا من أصنام
القبائل المتعددة، وكانت قريش سادة مكة وأسواقها، تحرص على سدانة هذا المعبد
لأجل أن تستجلب إليها العرب بواسطته.
ثم ذكر مونته الأصنام وعدَّد أسماءها كاللات والعزى ومناة وسواع
ويغوث
…
إلخ؛ ولكنه قال: إن عبادة هذه الاصنام قبل الإسلام بقليل كان عراها
الفتور، وأصبحت من قبيل العادة، وكانت الشكوك تحوم حول مسألة الآخرة؛
وإنما كانوا يزورون القبور ويقولون للميت: لا تبعد! .
ثم ذكر أنه مذ القرن السادس للمسيح ظهرت روح دينية كان يقال لأصحابها
(الحنفاء) فكانوا يؤمنون بإله يجعلونه فوق كل شيء [1] ، وكانت اليهودية
والنصرانية دخلتا إلى جزيرة العرب؛ وإنما كان يمثلهما بعض تجار لا سيما تجار
الخمر، وكان منهما بعض نساك متعبدين مبعثرين في الفلوات لكن لم يكن لهم تأثير
من جهة مصير الأمة العامة، وبالإجمال كانت حالة العرب الاجتماعية من الجهة
الدينية والأدبية من الانحطاط الشديد بحيث كان من الضروري لها (ظهور مصلح
كبير) .
ثم ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وذكر معنى اسمه المشتق
من الحمد، وروى قصة أبرهة وغزو مكة على فيل أبيض، إلى أن قال:
إن عبد المطلب كان قد مسه الفقر بسبب ما كان ينفقه على الحجاج في مكة،
فلما مات عبد الله والد محمد بعد ولادة ابنه بقليل لم يترك له من الإرث سوى بيت
سكن وجارية وخمسة جِمَال، وبحسب عادة القوم أُعطي محمد صلى الله عليه وسلم
إلى مرضع بدوية ورُبي في البادية، ولما كان في السادسة من عمره تُوفيت أمه،
فكفله جده عبد المطلب، ولما مات عبد المطلب بعد ذلك بسنتين كفله عمه أبو طالب،
ورعى محمد الغنم في حداثة سنه، ولما صار في الرابعة والعشرين من عمره
اتجر لخديجة أرملة كانت موسرة، فكان يذهب بقوافلها ويأتي فأحسن العمل حتى
مالت خديجة إليه وتزوجت به وهي في الأربعين من العمر، وكان هو ابن خمس
وعشرين سنة، ومع هذا الفرق في العمر كان الزواج سعيدًا جدًّا حتى أن عائشة
التي تزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فيما بعد كانت تغار من خديجة بعد موتها
لشدة ما كانت تسمعه من تذكر محمد صلى الله عليه وسلم لخديجة، وكان محمد
صلى الله عليه وسلم معروفًا بالاستقامة، وكان الجميع يلقبونه بالأمين.
(وليس في أيدينا صورة خِلقية حقيقية لمحمد تمثل لنا شكله، بل جميع
الصور والتماثيل التي نشرت عنه - الإفرنج المولعون بالصور والتماثيل جعلوا منها
أيضًا للنبي صلى الله عليه وسلم هي من عمل الخيال) .
إلى أن قال:
(إن الروايات العربية تركت لنا عنه هذه الصورة، وهي أنه كان مهيبًا
عظيم الرأس، عريض المنكبين، مستدير الوجه، يُشْعِر وجهه الصدق، أسود
العينين، مستطيل الحواجب، أقنى الأنف، كث اللحية، وكان زائد الشعور رقيق
الإحساس إلى الدرجة القصوى) .
(وقد زعم بعضهم أن شدة إحساس محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت
تحصل له منه نوبات شديدة قد تحولت إلى مرض عصبي هو مرض الصرع،
وليس في اليد ما يثبت هذا القول الذي منشؤه رواية عربية لم تسمع إلا بعد عصر
محمد بمدة طويلة وآراء بعض المؤرخين البيزنطيين المعروفين بالعداوة لشريعته،
فلا نجد في هذه الأقاويل شيئًا متينًا نبني عليه) .
قال: (وكان محمد صلى الله عليه وسلم معروفًا ببساطة المشرب، محبوب
الأخلاق، حلو الحديث، ذا تأثير خاص في حديثه، وكان من أخص مزاياه صحة
الحكم وصراحة القول وشدة الاقتناع) .
ثم ذكر مونته ما قاله أبو الفدا من شمائله صلى الله عليه وسلم مما لم نجد
لازمًا ترجمته لأن أصله عربي جدير بالقارئ أن يراجعه في تاريخ أبي الفدا بنصه
الأصلي؛ ولكننا نقول: إن على كل من يعنى بتهذيب النشء وبطبع الشبان على
الأخلاق الفاضلة أن يقرأ لهم هذه الشمائل النبوية التي ليس في تحريرها شيء من
المبالغة المعهودة في وصف الأنبياء والرسل؛ وإنما هي حكاية أحوال النبي الكريم
كما كانت بدون زيادة ولا نقصان، ولعمري لا يقرؤها من كانت له صفحة نفس
صافية شفافة ويتأمل فيها إلا استهل الدمع من محاجره.
ثم أشار مونته إلى تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقال إنه اجتمع
له إحدى عشرة زوجة، وذلك أن العرب يومئذ كانوا يكثرون جدًّا من الزوجات،
قال: (فلا يصح لنا أن نشتد في الحكم من هذه الجهة، ونطبق عليها قاعدة الزوجة
الواحدة التي هي عمدة المدنية الحديثة) ثم ذكر الأستاذ مونته أنه مع عاطفة محمد
صلى الله عليه وسلم إلى النساء لم يكن يرى فيهن درجة الرجال؛ وإنما وصف
منهن بالكمال آسية امرأة فرعون، ومريم أم عيسى وخديجة زوجته الأولى
وفاطمة ابنته.
قال: (ولم يوح إلى محمد حتى بلغ الأربعين من العمر إلا أنه كان قبل ذلك
كثير التأمل في الخلوات، وكانت تعتريه نوبات عصبية [2] يشهد أثناءها مشاهد
إلى أن تَمَثَّلَ له المَلَك السماوي، ولا شك أن هذه الحوادث الروحية التي وقعت له
إنما جرت من ثورة نفسه القوية في أعماق ضميره على عبادة الأوثان، وعلى حطة
الآداب اللتين كان عليهما أهل عصره) .
إن المسيو مونته ليس مسلمًا ليعتقد في البعثة ما نعتقده نحن بتمامه؛ لكنه في
كلامه هذا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء زعمه من نفسه بدون
أن يعتقده، وهذا خلافًا لكثير من مؤلفي الإفرنجة الذين كانوا يطعنون في محمد
صلى الله عليه وسلم ويجعلونه قائلاً ما لا يعتقد، ولقد ضعف هذا الرأي في
الأعصر الأخيرة ومال أكثر المؤرخين من عهد كارليل الإنكليزي إلى اليوم إلى
الرأي الذي عليه الأستاذ مونته، وهو أن محمدًا كان صادقًا وأنه لم يُحَدِّث بما لم
يشهد ولم يسمع، وأننا إذا أمعنا النظر في عبارة مونته نفسها لا نجد فيها شيئًا
ينافي نزول الوحي من الله على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في قوله (إنه كانت
تَحْدُث له نوبات عصبية تتمثل له في أثنائها الملك) لا يفيد بالضرورة أن النوبات
العصبية هي نفسها التي مثَّلت الملك.
وكذلك في قوله (إن نفس محمد صلى الله عليه وسلم ثارت في أعماق ضميره
على ما كان فيه أبناء عصره من عبادة الأصنام وانحطاط الآداب) لا يوجب أن يكون
الوحي هو عبارة عن ثورة نفسية لا غير.
بل الحق عز وجل الذي له خرق العوائد في المعجزات له أن يهيئ المعجزة
بأسباب طبيعية تمشي على النواميس الكونية إلى أن تتجلى أخيرًا بالأمر الإلهي
المباشر [3] ، فالله تعالى الذي أراد أن يهدي البشر، وأن يردعهم عما كانوا
منغمسين فيه من إلحاد في الدين وإباحة في العرض، قد أراد أن يؤيد رسالاته
السابقة إليهم التي طال عليها الأمد وقست من بعدها قلوبهم، وأن يعززها برسالة
جديدة مبنية على العقل الذي ليس وراءه للمرء مذهب، وأن يجعل هذه الرسالة
خاتمة الرسالات كما كان العقل هو خاتمة الأدوات التي بها يعرف المخلوق خالقه،
فكذلك ابتعث من البشر أشدهم قبولاً للوحي السماوي وأعظمهم ثورة على عبادة
الأوثان وأكثرهم استعدادًا (فطريًّا لا كسبيًّا) لإدراك طرف من خزائن الغيب الذي
لا يعلمه بأجمعه إلا الله، وما تمثل المَلَك إلا للذي أوجد فيه الله هذا الاستعداد التام،
فأنت ترى أن كلام مونته وإن لم يكن مسلمًا لا يناقض عقيدة الإسلام في كيفية
الوحي الذي أوحاه الله لرسوله.
ثم قال مونته ما ترجمته بالحرف:
(فالرسول الإلهي الملك جبريل تجلى على محمد لأول مرة في جبل حراء
بقرب مكة وبيده ورقة وقال له مرتين (اقرأ) فأجابه محمد (لست بقارئ) فتلا
جبريل الآيات الآتية التي تجدها في السورة السادسة والتسعين {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) السورة [4] )
(ثم غاب الملك بعد أن ألقى هذه الكلمات، فذعر محمد صلى الله عليه وسلم
من هذه الرؤيا، ولم يعرف ماذا يقول عنها ولجأ إلى زوجته خديجة التي وجد
عندها المعونة الروحية التي كان ينشدها، ولما لم تكرر عليه هذه الرؤيا في المدة
التالية لتلك الليلة الخالدة الذكر خشي أن يكون قد مسه الشيطان لأن الاعتقاد بقوة
الأرواح الخفية وتأثيرها كان منتشرًا في بلاد العرب، ولقد كان محمد في أوقات
أخرى معتقدًا بأنه مظنة لطف مخزون خاص، وأن كل ما كان يراه كان حقًّا، إلا
أنه أخذته الشكوك هذه المرة ووقع في الحيرة، فأصبح لا يعلم أهناك رسالة إلهية أم
أصابه مس؟ ففي هذا الدور الذي تطاول نحو ثلاث سنوات كانت زوجته خديجة
واسطة إلهية في إنعاشه وتسرية ما به وإقصاء الأفكار السيئة عنه وتشجيعه على
القيام بتأدية الرسالة التي كان يعتقدها في نفسه)
(وفي أثناء هذه الأزمة ظهر له الوحي ثاني مرة بواسطة جبريل، الذي
بحسب الروايات ناداه: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فجاء إلى زوجته خديجة
وقد ثقلت عليه الأفكار إلى حد أن أخذ يرتجف، وقال لخديجة أن تغطي رأسه أملاً بأن
يتفادى ثقل ما يرى، وإذ ذاك سمع صوتًا إلهيًّا يقول له: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ
فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: 1-3) السورة [5] .
ومن ذلك الوقت تتابع الوحي وكانت وحدانية الله ورسالة محمد هما قاعدة ذلك
الوحي الذي كان محمد مقتنعًا أنه نزله الله عليه) .
انتهى كلام الأستاذ مونته في هذه المسألة فلنقابل به كلام علمائنا أنفسهم ولنتخذ
مثالاً طبقات ابن سعد، قال:
الروايات في بدء الوحي
(أخبرنا محمد بن حميد أبو سفيان العبدي [6] عن معمر عن قتادة في قوله:
{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 87) قال: هو جبريل، أخبرنا محمد بن عمر
قال: حدثني معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، قالت: فمكث على ذلك ماشاء الله
وحُبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه منها، وكان يخلو بغار حراء يتحنث
فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله (تحنث وتحنف بمعنى تعبد) ثم
يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، أخبرنا محمد
ابن عمر قال حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن
عكرمة عن ابن عباس قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو
بأجياد إذا رأى ملكًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء يصح:
يا محمد أنا جبريل يا محمد أنا جبريل، فذُعر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك
وجعل يراه كلما رفع رأسه إلى السماء، فرجع سريعًا إلى خديجة فأخبرها خبره
وقال يا خديجة والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئًا قط ولا الكهان، وإني
لأخشى أن أكون كاهنًا، قالت: كلا يا ابن عم لا تقل ذلك، فإن الله لا يفعل ذلك بك
أبدًا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وإن خلقك لكريم. ثم
انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهي أول مرة أتته فأخبرته ما أخبرها به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: والله إن ابن عمك لصادق، وإن هذا لبدء نبوة،
وإنه ليأتيه الناموس الأكبر فمُريه أن لا يجعل في نفسه إلا خيرًا.
أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا خديجة إني أرى ضوءًا، وأسمع صوتًا لقد
خشيت أن أكون كاهنًا، فقالت: إن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله، إنك تصدق
الحديث، وتؤدي الأمانة، وتصل الرحم) ثم أورد ابن سعد روايات أخرى كلها في
هذا المعنى وبألفاظ لا تكاد تفترق عما ذكرناه. [7]
ثم أورد ابن سعد الروايات عن كيفية بدء التنزيل، فحذفنا الأسانيد حبًّا
بالاختصار واعتمادًا على تواتر ذلك، قال: كان أول ما أُنزل على النبي صلى الله
عليه وسلم: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) فهذا صدرها
الذي أُنزل على النبي يوم حراء، ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله.
ثم روى روايات متعددة حذفنا أسانيدها: بأن رسول الله لما نزل الوحي عليه
بحراء مكث أيامًا لا يرى جبريل، فحزن حزنًا شديدًا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة
وإلى حراء مرة يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك
عامدًا لبعض تلك الجبال إلى أن سمع صوتًا من السماء فوقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم صعقًا للصوت، ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء
والأرض متربعًا عليه يقول: يا محمد أنت رسول الله حقًّا وأنا جبريل، قال:
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وربط جأشه، ثم تتابع
الوحي بعدُ وحمي.
والحاصل أن ما ذكره مونته يطابق روايات أصحاب السير التي اتفقوا عليها
وتواترت ولم يفعل مونته ومن في ضربه من مؤرخي الإفرنج المتأخرين ما كان
يفعله مؤرخوهم في القرون الوسطى، أو ما يفعله المكابرون منهم اليوم الذين
يريدون إيجاد الحوادث على وفق هواهم فيوردون في تواريخهم ما يوافق مقصدهم
وينبذون ما يخالفه أو يكذِّبونه بدون دليل أو بأدلة واهية كأدلة لامنس اليسوعي.
فالأستاذ مونته يقول بالحرف:
(كان محمد نبيًّا صادقًا كما كان أنبياء إسرائيل القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا
ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين فيه، كما كانتا
متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه، فتُحْدِث فيه كما كانت تُحْدِث فيهم هذا الإلهام
النفسي، وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يوجدان في العقل البشري المَرائي
والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي هي من بابها) .
فالأستاذ مونته لا يتهم مقدار ذرة محمدًا بعدم الصدق والأمانة، وكأنه يقول
لأهل أوربة: لماذا لا تعتقدون بمحمد ما دمتم معتقدين بنبوات أنبياء التوراة؟ فإن
نبوتهم مثل نبوته، ونبوته مثل نبوتهم. نعم إن مونته يريد أن يكون الوحي واقعًا
بأسباب طبيعية من قبل شدة الاعتقاد وانفعال النفس بمؤثرات خارجية من جهة
استفظاع عبادة الأوثان وما أشبه ذلك؛ ولكن هذا التعليل لا ينفي وقوع الوحي
بالأمر الإلهي وتهيئة ما يتمثل للأنبياء بالأمر الإلهي، وأن ما ينفث في روعهم ويقع
في أسماعهم إنما هو بالأمر الإلهي [8] وإذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه {أَلَا لَهُ الخَلْقُ
وَالأَمْرُ} (الأعراف: 54) .
ثم تساءل مونته عما إذا كان محمد تلقى علمًا وما العلم الذي تلقاه؟ وأجاب أنه
يستحيل الجواب على هذا السؤال، وإنما بحسب القرآن والسنة ينبغي أن يكون
أرقى أهل عصره وقطره، ثم بحث في أمية النبي الكريم وذكر ما قيل فيها وذهاب
بعضهم إلى كونه أميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة وذهاب الآخرين إلى أنه يبعد أن
يكون أميًّا من نطق بمثل هذا الكتاب البالغ حد الكمال البياني.
وعلماؤنا متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا؛ لأنهم لم يجدوا
دليلاً ولا شبهة على أنه كان يحسن القراءة والكتابة، وليس إعجاز القرآن البياني
بالذي يُصادم روايات أمية الرسول، فإن شعراء العرب الكبار كأصحاب المعلقات
مثلاً بلغوا أمد الفصاحة الأقصى الذي يمكن البشر، ولم يكونوا يقرءون ولا يكتبون،
فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن ينزل على لسانه هذا الكلام الأعلى، وأن
يبقى مع ذلك أميًّا لا يقرأ ولا يكتب [9] .
قال مونته:
(ومن أشد الآيات سطوعًا في دعوة محمد الدينية أن الذين آمنوا به قبل كل
الناس كانوا أهله وأقرب الناس إليه، وهو بين مؤسسي الديانات الوحيد الذي كان
له الامتياز على الجميع بأن يستجلب إلى عقيدته أقرب الخلق إليه بالدم أو بالمودة،
فقد آمنت به قبل الجميع خديجة امرأته ودُعيت بحق أم المؤمنين، ثم ابن عمه علي
ابن أبي طالب ومعتقه زيد أحب الناس إليه وصديقه عثمان وأبو بكر أبو امرأته
عائشة) انتهى.
وهذا الرأي في أن الإيمان بمحمد من أقرب الناس إلى محمد هو من أنصع
الدلائل على صدقه؛ لأنه لو كان ثمة أقل داعٍ للشبهة لكان هؤلاء الخلطاء الملازمون
الأقربون أجدر بأن يلحظوه - هو رأي عدد كبير من الباحثين والمؤرخين والعلماء
الاجتماعيين المعاصرين، ومنهم المستر ولز الإنكليزي الشهير الذي أخرج في سنة
1926 كتابًا عظيمًا في التاريخ العام، ولم يخلُ في كلامه على السيرة النبوية من
بعض أوهام إلا أنه أنصف في كثير من المواضع من جملتها هذه النقطة، وسننقل
إلى المنار طائفة من كلام ولز عن الرسول وعن الخلفاء الراشدين وعن مدنية
العرب الباهرة، كما أننا سنعود إلى كتابي الأستاذ السويسري مونته وعلى الله
التوفيق.
لوزان 5 يناير سنة 1930
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
_________
(*) المنار: قد بيَّنا مزايا العرب قبل الإسلام بما لم يبلغ موسيو مونته أقله، ونقول مع هذا أن المراد بتسميتهم جاهليين: وثنيتهم وأميتهم، فهي جاهلية بالنسبة إلى الإسلام وما نالوا من سيادة وحضارة وعلم.
(1)
المنار: الحنيفية هي دين إبراهيم وإسماعيل، والثاني هو الذي بثها في العرب، ثم طرأت عليها الوثنية.
(2)
المنار: الحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تعتريه قبل النبوة نوبات عصبية إلخ؛ وإنما صار يعرض له في حالة تجلي الملك له ما يشبه ذلك وهو ما عبر عنه ابن خلدون بالانسلاخ من البشرية والاتصال بالملكية، وكان عند انجلاء هذا التجلي يتلو ما تلقاه فيه من القرآن، وقد يكون سورة طويلة كسورة الأنعام، وما كان للنوبات العصبية أن تثمر في أثنائها هذا العلم والعرفان، وفي عاقبتها هذه القوة في الإيمان والإيقان، والمضاء في إصلاح العقول والأرواح والأبدان، وكل ما يرفع قدر الإنسان.
(3)
المنار: في هذه العبارة غموض سيأتي بيان الحق فيه (ص533) والأصل في المعجزات أن تكون خرقًا للعوائد ومخالفة للأسباب الطبيعية مع جواز أن تكون جارية على سنن ونواميس غيبية.
(4)
الذي نزل منها يومئذ هو الآيات الخمس الأولى وآخرها [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ](العلق: 5) .
(5)
المنار: الذي نزل منها يومئذ سبع آيات آخرها [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ](المدثر: 7) .
(6)
كذا في الأصل والصواب (المعمري) نسب إلى شيخه معمر؛ لأنه رحل إليه ولازمه.
(7)
المنار: رواية الصحيحين في هذه المسألة أوسع وأتم وأصح ومنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: (لقد خشيت على نفسي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلّ، وتُكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) .
(8)
هذه العبارة أوضح مما سبق في معناها في ص 529، ويظهر منها أن الكاتب أراد أن يوجه كلام مونته فيما فهمه في معنى الوحي، ويجعله غير منافٍ لما نعتقده من معناه، ولعلنا نوضح هذا باصطلاحاتنا العلمية إذا قلنا إن مونته يجعل وحي النبوة والرسالة حالة نفسية، أو كوحي الإلهام فإن كلاًّ منهما عبارة عن معنى يلقى في نفس الإنسان في حالة وجدانية خاصة يثق بها ويعمل بموجبها غير متردد كما وقع لجان دارك الفرنسية، وكما ينطلق النحل بوحي غريزة في عمله المنظم، وكل من هذا وذاك يُسند إلى الله تعالى لأن كل شيء في الكون بخلقه، قال تعالى:
[وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً](النحل: 68) إلخ، وقال في الإلهام:[وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ](القصص: 7) إلخ؛ ولكن وحي الرسالة والتشريع فوق وحي الإلهام من عدة وجوه، أولها صفة الوحي بالمعنى المصدري، وثانيها متعلقه أي المعنى الحاصل بالمصدر، ثالثها وضوح هذا المعنى وهو الموحى به وكثرته ودوامه واشتماله على علم كثير كله فوق علم الموحى إليه وأعلى من جميع خواطره النفسية، رابعها علمه القطعي بمصدره، وأنه الله تعالى وضبطه إياه وعدم تفلت شيء منه، خامسها وهذا ما عناه الأمير بالأمر الإلهي، ولعلنا نشرح ذلك كله في مقال خاص مع بيان الطرق الثلاثة للمعنى الأول المبينة في قوله تعالى:[وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ](الشورى: 51) .
(9)
هذا التعليق غير كافٍ، بل يجب أن يعلم مونته أن كونه صلى الله عليه وسلم أميًّا أمر قطعي رواية وعقلاً؛ فإنه منصوص في عدة آيات من القرآن المتواتر، والمعقول الذي لا يُعقل غيره أنه لو كان القرآن من كلام (محمد) بإلهام أو بغير إلهام لما صح عقلاً أن يصف فيه نفسه بهذا الوصف إذا كان غير صحيح، وأن يحتج به على المكذبين له بمثل آية [وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ] (العنكبوت: 48) ولأنه لو احتج عليهم بهذا وهم يعلمون خلافه لأعطاهم حجة على تكذيبه في أنفسهم وألسنتهم، وأما قول مونته بذهاب آخرين إلى أنه يبعد أن يكون أميًّا من نطق بهذا الكتاب البالغ حد الكمال البياني، فيقال فيه إنه رأي لا رواية، والمثير لهذا الرأي إرادة الهرب من البرهان اللازم اللازب على كون هذا القرآن لا يمكن أن يصدر عن أمي فلا مفر لمن يؤمن بالله عن الإيمان بأنه وحي من لدنه، وأنه ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم شيء منه إلا وعي هذا الوحي وحفظه وما كان يلقى إليه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة
في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
(في كلية الحقوق من الجامعة المصرية)
وقعت هذه المناظرة بالصفة المبينة في المقالة الأولى من المقالات الآتية،
فكان لها تأثير عظيم في جميع الطبقات المصرية في العاصمة وسائر البلاد، وظهر
لنا من هذا التأثير بما رأيناه منه وما سمعناه عنه وما قرأناه بشأنه في الصحف: أن
ما كان يذيعه دعاة الإلحاد من انتشار إلحادهم في النابتة العصرية المتعلمة حتى كاد
يكون عامًّا فيهم - كذب وبهتان، بل السواد الأعظم من شباننا سليم العقيدة يؤمن
بالله وبكتابه العزيز المعجز للبشر إلى آخر الدهر، ورسوله محمد خاتم النبيين
صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، ويغارون على الإسلام ويؤيدون من يدافع عنه،
على ضعف تعليم الدين في المدارس كلها، وإهمال تربيته الصحيحة فيها وفي أكثر
البيوت أيضًا، وعلى ما في هذه البلاد ولا سيما عاصمتها من حرية الكفر والفسق.
وإننا ننشر هذه المقالات التي كتبناها ونشرناها في جريدة كوكب الشرق
الشهيرة إجابة لاقتراح بعض طلاب الجامعة الغيورين، وسننشر بعدها بعض ما
نُشر في الجرائد في موضعها وما كان من تأثيرها.
المقالة الأولى
في صفة المناظرة
كان بعض طلبة كلية الحقوق من الجامعة المصرية زاروني في مكتبي
وأخبروني أن لجنة الخطابة والمناظرات للجامعة تختارني لمناظرة الأستاذ عبد
الوهاب عزام في موضوع (حرية المرأة كالرجل) إذا كنت أقبل أن أكون
المعارض له فيه، فقلت: لا مانع لدي من القبول.
ثم زارني اثنان آخران بعد المغرب من يوم الثلاثاء (سابع شعبان ويناير معًا)
وألقيا إليَّ طائفة من رقاع الدعوة من تلك اللجنة (لحضور مناظرتها الأولى التي
تقام في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء 8 يناير سنة 1930 بكلية الحقوق
بحدائق الأورمان بالجيزة برياسة النائب المحترم محمد توفيق دياب موضوعها
(يجب مساوة المرأة بالرجل)[1] .
(وسيؤيد الرأي الدكتور محمود عزمي والآنسة هانم محمد الطالبة بكلية
العلوم، وسيعارض الرأي حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا ومحمد
أفندي شوكت التوني الطالب بكلية الحقوق) هذا نص الدعوة.
فلم أجد بدًّا من قبول الدعوة مع العتاب على ترك استشارتي في الأمر قبل
يومين أو ثلاثة أيام، لعلمي [2] أنها مناظرة بين الدين والإلحاد.
وقد ذهبت قبيل الموعد، ولما دخلنا حجرة المناظرة ألفينا مدارجها مكتظة بطلبة
كليات الجامعة وغيرها من المدارس وبعض مجاوري الأزهر الشريف وفي أدناها
كثير من كبار الفضلاء والأستاذِين، كان تجاهي منهم صديقنا أحمد شفيق باشا من
عشاق العلم والعمل، ثم اشتد الزحام حتى كثر الواقفون في أثناء المدارج وجوانبها
وأعلاها وفي طريقها أيضًا وقدَّرهم الرئيس بألف نسمة أو أكثر.
وما زال الناس يهرعون حتى غص بهم المكان وصاروا يتدافعون في الأبواب،
وكاد يتعذر حفظ النظام؛ ولكن الرئيس الموكول إليه ذلك تمكن بحزمه وفصاحته
وصوته الجهوري من تسكين المتحركين، وتسكيت المتكلمين، ثم من كف تصدية
المصفقين، وافتتح الكلام ببيان موضوع المناظرة والتعريف بالمتناظرين: الموجب
منهم للموضوع، والسالب المعارض له، والمؤيد لكل منهما، وما للسامعين من
حق إبداء الرأي بالكلام في كل من جانبي السلب والإيجاب، وبيان الوقت المحدد
لكل متكلم، وهو عشرون دقيقة لكل من الأولين، وخمس عشرة دقيقة لكل من
الرديفين، وخمس دقائق لمن يريد تأييد أحد الجانبين.
ثم طريقة أخذ الأصوات، وهي أن يخرج الذين يرون عدم المساواة من الباب
الأيمن، ويخرج الذين يرون وجوب المساواة من الباب الأيسر، فيجد كل منهم
صندوقًا خارج الباب يضعون فيهما البطائق المطبوعة التي وُزعت عليهم بعد أن
يكتب كل منهم فيها اسم من يؤيده ويرى رأيه، وإمضاءه هو، ثم على لجنة
المناظرت أن تحصي بطاقات أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وتعلن النتائج لمن
شاء الانتظار، ومن لم يشأ قرأها في الصحف غدًا.
ثم أذن للدكتور محمود عزمي بالكلام.
خطاب محمود عزمي
كان هذا الخطاب مكتوبًا بالأسلوب الخطابي الذي يُقصد به التأثير بخلابة
القول وما يزينها من المعاني الشعرية، ولعله ينشره في بعض الجرائد اليومية التي
يبث فيها دعايته وآراءه [3] وقد بدأه بقضايا ظن أنها كليات لأشكال منطقية يلزم من
تسليمها النتيجة المطلوبة، والحق أنها في عرف المنطق الصحيح إما شخصية وإما
جزئية لا يصح تأليف الأشكال المنتجة منها، وأن ما قد يضاف إليها من الكليات لا
يمكن أن يكون مسلَّمًا فيحتج بنتيجتها، وقد سماها منطقية وهي تسمية مردودة عند
من له إلمام بعلم المنطق، وما في باب الحجة والقياس من الشروط في تأليف
الأشكال المنتجة للبرهان.
ذلك أنه ذكر أسماء بعض النساء في أوربة وفي الشرق من معاصرات
وغابرات (كمدام كوري وملكة هولندة وأميرة لوكسمبرج وخالدة أديب والأميرة
نازلي هانم وهدى هانم ومي وسيزا نبراوي وإحسان أحمد وأم المحسنين وأم
المصريين من المعاصرات، وكسارة وهاجر ومريم وفاطمة وعائشة وكليوبترة
وشجرة الدر وغيرهن من نساء التاريخ)
فالقضايا التي تتركب من هذه الأسماء تسمى في المنطق قضايا شخصية لا
يصح أن يتألف منها منفردة ولا مجتمعة قياس برهاني على وجوب مساواة النساء
للرجال في جميع الحقوق والواجبات، وذكر أيضًا بعض أعمال النساء العامة في
أوربة وما كان من جهودهن في إبان الحرب العظمى، وهؤلاء وإن كن كثيرات لا
يصح الاحتجاج بهن على المطلوب؛ لأنها جزئيات لم تصل إلى حد الاستقراء التام
الذي يفيد البرهان اليقيني، ولا الاستقراء الناقص المنطقي الذي يفيد الظن دون
اليقين.
فالاستقراء عند المنطقيين: قول مؤلف من قضايا ناطقة بالحكم على
الجزئيات لإثبات الحكم الكلي، فإن كان الحكم فيها على جميع الجزئيات سمي
استقراء تامًّا، كقولنا: كل جسم متحرك بالقوة أو بالفعل. وإن كان الحكم فيه على
أكثر الجزئيات سمي استقراء ناقصًا، ومثَّلوا له بقولهم: كل حيوان يتحرك فكه
الأسفل عند المضغ، بناء على أن أكثر ما عُرف من أنواع الحيوان كذلك لا كلها.
وقد قال موجب المساواة بعد ذكر ما تقدم: إنه يدل عليها دلالة منطقية، ولهذا
ذكرنا الاصطلاح المنطقي في إبطال قوله، وأن المنطق لا يدل على ذلك دلالة
يقينية ولا ظنية، وأما أسلوبه الخطابي أو الشعري في منطقه هذا فهو أنه قال: ما
كنت أحسب وقد ملأت الدنيا أنباء الفُضليات من النساء اللاتي يضربن الآن بسهم
في مختلف نواحي النشاط البشري الراقي وفي الملك الدستوري النابه (؟) وفي
إدارة شؤون الدول وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب ولا يزال يطن في آذاننا جميعًا
دوي تلك الجهود الهائلة التي قام بها النساء خلال الحرب الكبري وقد استحلن عمالاً
خشنين (؟) يبرزن (؟) على الرجال في المعامل والمصانع المدنية منها
والعسكرية وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب وتعاليم التاريخ العام والخاص منتشرة
بينكم فتعرفون منها ما كان على البشرية من فضل لسارة وهاجر وأم هارون ومريم
وفاطمة وعائشة
…
إلخ - وأنتم تتبعون أثر الأميرة نازلي واجتماعات قصرها في
تكييف مَلَكَة التفكير العام عند من تدينون له بالزعامة فيما شهدت منكم من حركة
قومية
…
إلخ.
وما زال يقول (ما كنت أحسب) ويذكر جملاً حالية معروفة حتى جاء بإتمام
الجملة فقال: ما كنت أحسب وكل هذه الظروف تكتنفنا أن وجوب تسوية المرأة
بالرجل في الحقوق والواجبات يمكن أن يكون محل مناظرة!! لأنها في رأيه كما
نقل عن الأستاذ (لالند) قد (كانت يوم قال بها (المفتون الأول) خيالاً من
الخيالات؛ ولأنها أصبحت اليوم بدهية من البدهيات، وحقيقة من الحقائق العلمية
التي لا يماري فيها إنسان) .
ولعمري إن هذا قول لا يقوله إنسان يفهم معنى البداهة ومعنى الحقيقة العلمية
إلا على سبيل الخلابة، إذ ليست المسألة من البديهيات ولا من الحقائق العلمية في
عُرف هذا العصر، فالبديهي في عرف أهل المنطق ما لا يتوقف حصوله على نظر
ولا كسب كتصور الحرارة والبرودة والتصديق بأن النقيضين لا يجتمعان ولا
يرتفعان، ولو كانت كذلك لما احتيج إلى المناظرة فيها كما قال، ولما كانت نتيجة
التصويت فيها تأييد المعارضة ونبذ بدعة المساواة المطلقة بالأكثرية الساحقة الماحقة،
بل لما كانت هذه النظرية من البدع العصرية التي نجم قرنها في هذا القرن
المضطرب، الذي لم يستقر بعد على حال من القلق.
بعد إلقاء الدكتور عزمي لهذه المقدمات العقيمة، التي لا تنتج على تقدير
تسليمها، وما هي على علات بعضها بمُسلَّمة - شرع في بيان الحقوق فقال: إن
أولها حق الوجود واستنشاق الهواء كالرجل؛ لأنها كائن موجود مثله سواء، وإن
النتيجة المنطقية لذلك هي تمزيق الحجاب وهتك الستر والاختلاط مع الرجال في كل
مجال، فهو القاعدة الأولى لحق الوجود، وأفاض في مدح هذا الاختلاط وعدَّه من
مهذبات الرجل في ملبسه وزينته وكلامه وتفكيره، واستشهد على ذلك برحلته الأخيرة
إلى فرنسة فذكر أنه كان يحلق ذقنه كل يوم مرة أو مرتين لأجل الاجتماع بالنساء؟ !
وذكر أيضًا من مزايا هذا الاجتماع بهن التفكير الطاهر البريء! ! (سبحان
الله وبحمده) ثم ثنَّى بذكر حق تعلم المرأة لأجل التثقف وتهذيب نفسها وغيرها
كالرجل.
وانتقل منه إلى حق الحياة في المجتمع، ومنه أن يكون لها حق اختيار الزوج
وحق الطلاق، واتقاء ما يهدد حياتها من عواصف تعدد الزوجات.
وقفى عليه بحق الاشتراك مع الرجل في تربية الأولاد وتوجيه أنفسهم إلى
الأعمال.
وعطف على هذا حق الامتلاك بالإرث والكسب، فارتطم ههنا في حمأة
مصادمة الشرع، إذ زعم أنه يجب مساواة الأنثى للذكر في الإرث، فكان كعاصفة
على البحر، اضطرب جمهور الموجودين لها كاضطراب الموج، واصطخبوا
كاصطخابه عندما يتكسر على الصخر، وأرادوا منعه من الكلام، فقام الرئيس
ورفع عقيرته بالتضرع إليهم أن يحفظوا النظام، ولما أمكن إتمام القول لجأ إلى
التأويل، فزعم أن مسألة الإرث عند كثير من علماء الشرع ليست كمسائل العبادات
التي تجب المحافظة عليها والجمود على نصوصها، بل هي من مسائل المعاملات
المالية التي يجوز تعديلها وتغييرها بحسب تطور الزمان والمكان (! !)
قال: وإذا تعنت معنا أصحاب الجمود على الآراء الدينية فلماذا لا يتعنتون في
تعديل قواعد الحدود الشرعية كرجم الزاني والزانية، وقطع يد السارق ورجله من
خلاف (أو قال أيدي وأرجل وفيه ما فيه على كل حال) فإن الحدود قد عُطِّلت وهم
ساكتون، فليسكتوا إذًا على تغيير أحكام الميراث، والدليل على أن هذه الأحكام لا
يمكن الاستمرار عليها أن المسلمين أنفسهم قد شعروا بذلك فرأوا الخروج من هذا
الجمود بالوقف الذي هو عبارة عن حيلة يجيزها الإسلام الصحيح للخروج من
الشيء إلى ما هو أوسع منه، وقد جزم الحكم بأن أبناءنا سيرون هذا التغيير إن لم
نره نحن! !
وختم هذه الحقوق بالحق السياسي، وهو أنه لما كانت المرأة عنده كالرجل من
كل وجه وجب أن يكون لها الحق في جميع أعمال الحكومة ووظائفها والانتخاب
لمجالسها، وقد حال انتهاء مدة كلامه بيان إفاضته فيها، فسكت مسخوطًا عليه من
الكثيرين، وصفق له الأقلون، وقد علمت بعد الخروج أن أكثرهم من غير
المسلمين وأقلهم من ملاحدتهم، وقد عبَّر عن ذلك من نقل أخبار المناظرة لجريدة
الأهرام (أحمد الصاوي) بغير تدقيق بقوله (إلى هنا هتف الشباب لمحامي الشباب)
وما كان ثمة من هتاف، ولولا رواية الأهرام لم نذكر هذه المسألة.
ردنا الإجمالي
ما كان الوقت الذي وُقِّت لنا بالذي يتسع للرد التفصيلي، وبيان ما في هذه
المسائل من حق وباطل، ولا بالرد الإجمالي المفيد على كل منها، فاكتفيت بتفنيد
مقدماتها في فاتحة الكلام، وأرجئ الرد التفصيلي إلى المقالات التالية التي اقترحها
عليَّ الكثيرون من أولئك الطلاب النجباء، وأذكر أولاً ملخص الرد الإجمالي الذي
ألقيته في مجلس المناظرة، مع شرح قليل أميزه عنه لتعميم الفائدة.
قمت بإذن الرئيس، فقوبلت بتصفيق قوي شديد من جميع الجوانب طال أمده،
حتى تعبت مع حضرة الرئيس في التوسل إلى الجمهور بالكف عنه، وقد سكت
عن ذكر هذا راوية الأهرام، وما قاله عني بعضه غير صحيح، وبعضه غير دقيق،
كما يعلم من بياني الآتي له.
المقالة الثانية
في ردي الإجمالي في المناظرة
شهادة راوية الأهرام
أراد راوية الأهرام (أحمد الصاوي) أن ينصر ما خذل الله والمؤمنون من
دعاية الإلحاد، ويخذل ما أيَّد الله والمؤمنون من حق الدين وإصلاح الإسلام، فسمَّى
الداعي إلى ترك القرآن ونبذ الإسلام (محامي الشباب) وزعم أن الشباب هتفوا له،
وهذا يتضمن الشهادة على جميع أولئك الشبان بالإلحاد، وهي من شهادة الزور
التي يسجلها عليه الدكتور عزمي نفسه ويُبرئ منها ذلك الاجتماع، فقد قال لي
الدكتور عزمي على مسمع من الناس: إنك غلبتني، فإن الذين أعطوني أصواتهم
261 وليس لي غيرهم، وإن الذين أعطوك أصواتهم 363، وإن الأكثرين خرجوا
من غير أن يعطوا أصواتهم (إذ لم يكن معهم بطائق التصويت) ولو أعطوها
لكانوا كلهم معك ولعلهم 700 أو يزيدون، وهذا من حرية عزمي وصراحته النادرة.
ثم قال راوية الأهرام: وقام الأستاذ صاحب الفضيلة الشيخ رشيد رضا فكان
من اللباقة بحيث لا يصطدم بالصخر مغمض العينين، فاعتذر بأنه لم يحضر
الموضوع، وأنه لم يسمع به إلا يوم أمس، وما كان له نصف ساعة يستجمع فيها
ما هو بحاجة إليه من وثائق الدفع
…
إلخ.
وأقول: ما كان له لولا ما ذكرت من نزعته وشهادته أن يسمي دفاعي بالحجة
والبرهان، عن الحق الذي أنزله الله تعالى في القرآن: اصطدامًا بالصخر الجلمود،
ويزعم أنني اعتذرت عن ضعفي بعدم الاستعداد لهذا اليوم الموعود، فوالحق
الذي قام به الوجود، ما كان صخره عندي إلا زبدًا أو غثاء سيل، أو ضغثًا جمعه
حاطب ليل، وما ذكرت ما تقدم شرحه في صدر المقال الأول إلا بيانًا للواقع
ومخالفته للمعتاد، وسيعلم أنني قبلت لأنني لا أراني في حاجة إلى الاستعداد،
ويشهد لي طلبة الحقوق الذين كلموني في أول مرة أنني اشترطت عليهم أن أتكلم
بالارتجال، وذلك أن هذه المسائل قد قتلتها بحثًا بالقول والكتابة، والدرس والخطابة،
ومن فروعها مسألة الجمع بين الذكران والإناث في المدارس الثانوية والعالية،
وكانت الجامعة المصرية قد جعلتها موضوع مناظرة بيني وبين الدكتور محمود
عزمي نفسه في السنة الماضية، ثم أمرت الحكومة بمنعها قبل موعدها بساعة أو
نصف ساعة، فكتبت رأيي في مقال للمنار، وجعلته قبل نشره موضوع محاضرة
ألقيتها في جمعية الشبان المسلمين، فعسى أن تنشرها جريدة كوكب الشرق بعد
انتهاء هذه المقالات.
قاعدتان أساسيتان للرد
ذكرت قاعدتين أساسيتين لمعارضة الخصم (إحداهما) الحاجة إلى الدين
وفائدته في الأمم، وبيان نصوص الإسلام القطعية الدائمة التي لا يجوز فيه لأحد
نقضها ولا تغييرها ولا التبديل لأحكامها، والنصوص التي يجوز الاجتهاد فيها،
ومن النوع الأول آيات المواريث وبناؤها على كون الأنثى ترث نصف ما يرث
الذكر خلافًا لما زعمه الخصم من جواز تعديلها، وذكرت في هذا البحث حكمة
وجود أحكام ثابتة في الشرع وفائدته في ثبات الأمة، كما بيَّنت فيه حكم الضرورة
التي تبيح المحرَّم لذاته كأكل الميتة، والحاجة التي تبيح المحرَّم لسد الذريعة كرؤية
الطبيب لبدن المرأة وعورة الرجل.
(الثانية) معنى الحق والواجب، ومن يجعل الحق حقًّا على الناس والواجب
واجبًا؟ أأفراد الناس من الخطباء وغيرهم كمحمد رشيد ومحمود عزمي؟ أم رب
الناس وخالقهم؟ ومن شرع لهم الرب هذا الحق من أهل الحل والعقد الذين يمثلون
الأمة في سياستها ومعاملاتها الاجتهادية؟ وراوية الأهرام لم يفهم ما قلناه في هاتين
القاعدتين ولم يذكره كما قيل.
كلامنا الوجيز في الحقوق السبعة
قلت فيما ذكره الخصم في المقدمات من نابغات النساء: إن المرأة إنسان فلا
يستنكر أن يظهر في بعض النسوة عالمات فاضلات ومهذبات نابغات
…
إلخ،
أشرتُ بهذا إشارة يفهمها الذكي إلى أن وجود من ذكرهن ليس دليلاً على مساواتهن
للنابغين من الرجال على قلة أولئك وكثرة هؤلاء، أعني أن قداسة مريم أم عيسى
وفاطمة بنت محمد عليهما السلام هي دون قداسة عيسى ومحمد عليهما صلوات الله
وسلامه، وأن فقه عائشة رضي الله عنها لا يساوي فقه الخلفاء والعبادلة رضي الله
عنهم، وأن سياسة الأميرة نازلي لا تسمو فتصل إلى سياسة سعد باشا وإن زعم أن
اجتماعات قصرها كانت هي العاملة في (تكييف ملكات التفكير العام عنده) وإنني
أعرف تلك الاجتماعات وقد حضرت بعضها مع سعد وأستاذه وأستاذنا الإمام
رحمهم الله أجمعين) وإنما الفضل الأول لتكوين ملكات التفكير في عقل سعد هو
الأستاذ الإمام وكان سعد يعترف بهذا قولاً وكتابة، وقد نشرنا بعض مكتوباته له في
المنار، ونقلها عنا كوكب الشرق المنير، وعلى هذا يُقاس سائر النابغات في
الشرق والغرب.
بطلان كلامه في السفور والمخالطة
ثم قلت فيما سمَّاه (حق الوجود واستنشاق الهواء) إنه ثابت بنفسه في الواقع
وخلق الخالق، فالكلام فيه من تحصيل الحاصل، فلا يحتاج وجود النساء إلى
إثبات الخطيب لحقيته بالدلائل، فالنساء موجودات بدون حاجة إليه؛ وإنما الباطل
هو استدلاله به على وجوب تمزيق المرأة للحجاب والستور، الذي يعبرون عنه
بالسفور، واختلاط النساء بالرجال الذي ذقنا مرارته وتجرعنا غصصه بخروجهن
كاسيات عاريات يسبحن مع الرجل على شواطئ البحار، ويرقصن معهم في
مواخير الفساد، وكان من سوء تأثيره ما تردد الجرائد الشكوى منه من إعراض
الشبان عن الزواج، وأن عقلاء أوربا يشكون منه كما يشكو عقلاؤنا وفضلاؤنا،
ويخافون أن يقضي على تكوين الأسرة (العائلة) الذي يفضي إلى القضاء على
الأمة، ولا منجاة من هذا الخطر إلا بأحكام الإسلام وآدابه في الستر والصيانة كما
سنبينه في التفصيل الآتي:
حق المرأة في التعلم
وأما حق المرأة في التعلم فقد قلت فيه: إن الله تعالى فرض طلب العلم على
النساء كما فرضه على الرجال - فهو واجب عليهن في الدين، وحق لهن على
الوالدين والأولياء، ومن العلم ما هو واجب عيني على الصنفين، وما هو واجب
كفائي، ومنه ما هو واجب عيني على أحدهما دون الآخر كالأحكام الخاصة بالنساء
فيما هو خاص بطبيعتهن كبعض أحكام الطهارة المعروفة، وما يَحْرُم عليهن في تلك
الأحوال، فهي أحكام تجب على كل امرأة ولا تجب إلا على بعض الرجال حفظًا
للعلم
…
إلخ.
فكل علم تنتفع به المرأة في تهذيب نفسها وتربية أولادها وتدبير منزلها، فهو
حق مشروع، وقد جعل الشرع لها حق حضانة الأطفال دون الرجل، ولا يمكنها
القيام بها كما يجب إلا بمعلومات كثيرة تدخل في عدة علوم من أهمها على الصحة،
ولها أن تتعلم كل علم نافع للبشر وإن لم يكن مفروضًا عليها إذا كان لا يشغلها عن
المفروض من علم وعمل.
قلت: وما ظَلَمَ النساء مَن ظَلَمهن من الرجال إلا بسبب امتهان الأقوياء غير
المهذبين بتهذيب الدين للضعفاء، وذلك شأن كل قوي غير مهذب من ذكر وأنثى مع
من هو أضعف منه حتى الوالدين مع الأولاد، والعلم قوة يُحترم المتسلح بها بالطبع،
فتعلم النساء العلم الصحيح النافع يُثمر لهن احترام أزواجهن وغير أزواجهن لهن،
كما يحترم الوالدان الولد المتعلم المهذب، ويحتقران أخاه الجاهل الفاسد الأخلاق.
ومما أزيده على ذلك الإجمال في المناظرة أنني قد بيَّنت هذا الموضوع أحسن
البيان في مواضع من المنار أعمها ما قلته وما نقلته عن الأستاذ الإمام في تفسير
قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:
228) في الجزء الثاني من تفسير المنار وسأذكر بعضه في هذه المقالات.
وأما حق الحياة في المجتمع فقد بيَّنت حكم الشرع فيما ذكره منه، وهو حق
اختيار الزوج، وحق الطلاق كالرجل، وحق صيانة نفسها من ضرر تعدد الزوجات.
قلت: إن الرضا بالزوج حق شرعي قررته السنة الصحيحة للمرأة، وأن من
قال من الفقهاء بجواز إجبار الأب لبنته البكر على الزواج قد اشترطوا له شروطًا
ولصحته شروطًا منها الكفاءة وعدم العداوة الظاهرة بينها وبين الولي، وعدم العداوة
الظاهرة أو الباطنة بينها وبين الرجل الذي يراد تزويجها به، وقرأت أبياتًا فقهية في
هذه الشروط.
وأما الطلاق فلو جُعل حقًّا مطلقًا للنساء كالرجال لفسدت البيوت، وانقطع
سلك نظام (العائلات) بالإفراط فيه كما تُحدِّثنا الصحف عن أعظم أمم الغرب مدنية
ولا سيما الأميركان، على أن للمرأة أن تشترط في عقد النكاح أن يكون أمرها بيدها،
وهذا الشرط يعطيها حق تطليق نفسها، وقد فعل هذا كثيرات، ومن الفقهاء من
أباح للزوجة أن تشترط على الزوج أن لا يضارها بزوج أخرى، وسنبين هذا في
مقال آخر إن شاء الله تعالى.
وأما حق الامتلاك للنساء كالرجال، فالشرع الإسلامي فيه أوسع الشرائع
وأرحمها، ومن رحمته وحكمته أحكام الإرث، وقد تكلمت في ذلك حتى أسكتني
الرئيس بانتهاء الوقت، فلا أذكر مما قلته شيئًا في هذا الإجمال، بل أدعه للتفصيل
تفاديًا من التكرار، وكذلك الحق السياسي وحسبنا ما كتبناه اليوم.
(يُنظر الجزء التالي)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
وضع هذا العنوان خطأ من لجنة المناظرة لأنه حكم بالباطل في موضوع تطلب المناظرة فيه.
(2)
هذا تعليل لقبول الدعوة على شذوذها وعدم لياقة المناظرة بي، ووجهه أنني أريد إظهار ضلال هذه الآراء في المدرسة الجامعة.
(3)
كنت ظننت أنه ينشره ، ولعله لم يفعل لما ظهر من قوة حجتنا على بطلانه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مُلك اليهود وهيكلهم
ومسيحهم والمسيح الحق
(خلاصة تاريخية دينية في مُلك إسرائيل ومسيحهم، وحكم النصرانية
والإسلام فيهم، وما ورد في ذلك من أنباء النبيين، ننشرها إيضاحًا لما كتبناه في
مسألة الصهيونية وثورة فلسطين)
كان إسرائيل - وهو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام
يعيش هو وأولاده في براري فلسطين، ولما مكَّن الله تعالى لولده يوسف في أرض
مصر جذبهم إليها، فكثروا فيها حتى صاروا شعبًا كبيرًا؛ ولكنهم ظلوا محافظين
على نسبهم ومقوماتهم، فسامهم الفراعنة في مصر سوء العذاب، واضطهدوهم أشد
الاضطهاد، ولم يقووا على سحقهم، ولا على إدغامهم في قومهم، حتى أرسل الله
تعالى فيهم نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فنجّاهم بما أيده به من
الآيات من ظلم آل فرعون، ورباهم في التيه أربعين سنة رأوا فيها من آيات الله ما
لم يره غيرهم من الشعوب، وقاسى موسى في سياستهم من العناد واللدد، والإدلال
والصلف، ما يقضي التاريخ منه العجب، حتى إن التوراة وصفتهم عن وحي الله
تعالى بالشعب الصلب الغليظ الرقبة.
وكان استذلال الفراعنة لهم قد سلبهم الشجاعة والبأس، فجبنوا عن دخول
الأرض المقدسة إذ كان لابد من قتال أهلها الجبارين، فقضى التيه على أولئك
الجبناء الأذلاء، ونشأ فيه جيل جديد قوي الأبدان، قوي الجنان والإيمان، فقاتل
أهل البلاد المقدسة التي خرج من مصر ليتبوأها، فكتب الله له النصر عليهم فغلبهم
على وطنهم ليديل للتوحيد من الشرك، وللعدل من الظلم، وللفضيلة من الرذيلة،
وكان له هنالك تاريخ مجيد: أنبياء وملهمون، وقضاة عادلون، وملوك معمرون
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) .
ثم دب إليه الفساد فعبد الأوثان، وفسق عن أمر الديّان، وكفر بنعم الرحمن،
وقتل الأنبياء، وظلم الأبرياء، فسلط الله عليه الأمم القوية فانتقمت منه أشد الانتقام:
ثلت عرشه وخرَّبت عاصمة ملكه (أورشليم) وهدمت بيت الرب المعروف
بهيكل سليمان المرة بعد المرة، وسلبت ما كان فيه من القناطير المقنطرة من الذهب
والفضة، التي ضاعف قيمتها ما فيها من لطيف الصنعة، والأثارة الدينية والتاريخية
للملة والأمة، وسَبَتْ النساء والرجال والأطفال وأجلتهم عن الديار، وكان هذا تربية
بالشدة والذلة، بعد أن أبطرتهم تربية النعمة والعزة، ثم رحمهم الله تعالى فعطف قلب
مَلِك بابل عليهم فأعادهم إلى وطنهم، وأذن لهم بإعادة هيكلهم، وإقامة ما حفظوا من
شريعته وشريعتهم، كما قال تعالى:{وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) حتى إذا ما استمرءوا مرعى النعمة، وأنسوا من أنفسهم القوة
عادوا إلى طغيانهم وبغيهم، فعاد نزول العقاب الإلهي عليهم. وما زالوا كذلك حتى
أحاط غضب الله تعالى بهم، وقضى القضاء الأخير بزوال ملكهم، وتسجيل الذل
الدائم عليهم بجعلهم تابعين لغيرهم، كما أنذرهم أنبياؤهم وقص الله ذلك في آخر كتبه
السماوية الإنجيل فالقرآن على لسان آخر رسله عيسى فمحمد عليهما الصلاة والسلام
قال الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا
تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الآيات: 4- 8) سورة بني إسرائيل أو الإسراء.
أفسدوا أولاً بعبادة الأوثان والظلم فسلط عليهم البابليين الوثنيين فجاسوا خلال
مملكتهم وجعلوها تابعة لهم تؤدي إليهم الخراج، وكان ذلك في القرن السابع قبل
المسيح، ثم أعاد لهم الكرة وأمدهم بالمال والقوة فأفسدوا المرة الثانية، فأعاد انتقامه
منهم، وهو المراد بوعد الآخرة، ثم عطف عليهم بالرحمة، منذرًا لهم بأنهم إن
عادوا إلى الفساد عاد إلى النقمة، فعادوا فسلط الله عليهم الرومان الوثنيين
المصريين وغير المصريين، فالمسيحيين، فالمسلمين.
كانت أولى تلك النكبات الكبرى نكبة بختنصر ملك بابل في سنة 586 قبل
الميلاد بعد عصيان اليهود عليه وكانوا خاضعين لملكه، فأثخن في جيشهم فكان
يقطع أجساد العسكر إربًا إربًا وسمل عيني ملكهم، وأرسله إلى بابل ودمر المدينة
المقدسة (أورشليم) والهيكل وأحرقهما بالنار (وكان في الهيكل تابوت العهد وفيه
توراة موسى بخطه وألواح العهد) وقتل جميع أهلها إلا قليلاً منهم أرسلهم إلى بلاده
عبيدًا.
ولما عاد بعضهم من السبي إلى بلادهم سنة 535 قبل الميلاد بأمر ملك بابل
شرعوا في إعادة بناء الهيكل بمساعدة أهل الجوار، فلم يتيسر لهم فتركوه سنة
522، ثم عادوا إليه سنة 519 وأتموه سنة 515 قبل الميلاد، وحسنت حالهم بعد
السبي إذ كان خير تربية لهم فمقتوا عبادة الأوثان، ثم أحسن معاملتهم الإسكندر
المقدوني، وفي أيامه خلصوا من سلطة الفرس، ثم وقعوا بعده تحت سلطان مصر
تارة، وسلطان سورية أخرى، ولم يكن المصريون يعرضون لهم بشيء من أمور
دينهم؛ ولكن بطليموس الرابع غضب عليهم فأهانهم، ودخل قدس الأقداس في
هيكلهم فنجسه وأهان الدين فيه سنة 217، فدخلوا في حماية ملك سورية باختيارهم
فرارًا من ظلمه، وكانوا متقلبي الأحوال مع هؤلاء الحكام المجاورين حتى إذا ما
استولى الرومان على هذه البلاد كلها كانت بلاد اليهودية ولاية رومانية، فظلمهم
الروم أيضًا ظلمًا شديدًا لا يُطاق.
ولما عجزوا عن حمل أعباء الظلم يئسوا من الحياة وخرجوا على الروم
مستبسلين طالبين للاستقلال، وذلك في سنة 66 بعد الميلاد فضيَّق الروم عليهم
الخناق، وكانت البطشة الكبرى خاتمة هذا القتال إذ استولى (تيطوس) على
أورشليم سنة 70 وتبرها تتبيرًا، وتركها أكوامًا من الرماد السود وأحرق الهيكل مع
المدينة، ولم يُبق من تلك الأبنية الفخمة شيئًا إلا بعض أبراج السور تركها مراصد
للجيش الروماني، وذلك بعد حصار خمسة أشهر يقال إنه هلك في أثنائه ألف ألف
نفس ومائة ألف نفس، واسترق الباقي من اليهود، فهاجر كثير منهم إلى إيطالية
وجرمانية من أوربة واستوطنوها، وزال استقلال اليهود السياسي من الأرض فلم يقم
لهم بعد ذلك ملك مستقل، وقطَّعهم الله في أقطار الأرض كما أوعدهم على ألسنة
أنبيائه الذين يؤمنون بهم والذين كفروا بهم، أي من داود إلى عيسى ومحمد عليهم
الصلاة والسلام.
إنما تم عز القوم وبلغوا ذروة المجد في المُلك على عهد داود وسليمان عليها
السلام، وكانا نبيين مؤيدين بوحي الله وتوفيقه، وكان داود عليه السلام رجل حرب
وهو الذي فتح مدينة الرب (القدس) ووطد دعائم الملك، وبعد استوائه عليها جمع
الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك من أدوات البناء لأجل بناء بيت للرب تقام فيه
شعائر الدين، فأوحى الله تعالى إليه - كما في تاريخهم المقدس - بأن بيت عبادته
لا يبنيه رجل سفك دماء عباده؛ وإنما الذي يبني بيته هو ابنه وخليفته سليمان،
وكذلك كان، ذلك بأن الله لا يحب الفساد ولا سفك الدماء ولا يأذن بالقتال لرسله
وعباده المؤمنين إلا لضرورة الدفاع عن الحق والعدل، والإدالة لهما من البغي
والظلم، كما قال في كتابه العزيز: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ} (البقرة: 251) وكما قال في تعليل إذنه لنبينا صلى الله عليه وسلم
وأصحابه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:
39-
41) .
وكان داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء يوصون بني إسرائيل بإقامة شريعة
موسى ووصاياه، ويقيدون كل وعود الرب لهم بالأرض المقدسة والملك فيها - وهم
غرباء عنها - بإقامة هذه الوصايا كلها وينذرونهم فقد كل شيء بإخلالهم بشيء منها
وفاقًا واتباعًا لما جاءهم به موسى عليه السلام عن الله تعالى كما ترى في الفصل
(27 - 32 من سفر التثنية خاتمة التوراة) ومن تلك النذر بعد النذر واللعنات
التي تقشعر منها الجلود قوله بعده (28: 63 وكما فرح الرب ليحسن إليكم
ويكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتُستأصلون من الأرض التي أنت
داخل إليها لتمتلكها 64 ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى
أقصائها) وتكررت هذه الوصية والنذر التي علق الرب عليها إطالة أيام شعب
إسرائيل في الأرض التي وعدهم إياها أو عدم إطالتها، فهو - تعالى عن الظلم
والمحاباة - لم يهبهم إياها لذواتهم ولا لنسبهم، بل لإقامة الحق والعدل فيها فكانت
هبة مشروطة بشرط فسلبت بفقده.
وفي الفصل التاسع من سفر الملوك الأول أن الرب تراءى لسليمان بعد أن أتم
بناء بيت الرب (الهيكل) ووعده بأنه إذا سلك كما سلك أبوه داود بسلامة القلب
والاستقامة وعمل بجميع الوصايا وحفظ جميع الفرائض والأحكام؛ فإنه يجعل
كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد كما وعد أباه داود، وأنذره انتقامه منهم إذا كانوا
ينقلبون هم أو أبناؤهم ولا يحفظون وصاياه وفرائضه، ويذهبون فيعبدون آلهة
أخرى قال (7 فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها، والبيت
الذي قدسته لاسمي - أي الهيكل - أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في
جميع الشعوب 8 وهذا البيت يكون عبرة)
…
إلخ، وأعاد هذا بعينه في الفصل
السابع من سفر الأيام الثاني، ومثله في أسفار أشهر أنبيائهم، وكذلك كان، ومرت
على ذلك القرون بعد القرون، وهم لا يزالون يزعمون أن أرض فلسطين ملك لهم
بوعد ربهم، فهم يحفظون وعده وينسون شرطه ولا يحفظون وعيده، وهو الصادق
في وعده ووعيده، والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود بل
يجوز، فهم لا حق لهم في هذه البلاد لا بنصوص كتبهم ووعد ربهم ولا بعرف
سائر الشرائع وقوانين الأمم.
ومن أغرب أحوال هذا الشعب أنه استحوذ عليه الغرور والعجب بكتبه
وأنبيائه ورسله حتى صار يحتقر جميع البشر، بل حتى صار يرى نفسه فوق
الأنبياء والكتب التي لولاها ولولاهم لم يكن شيئًا مذكورًا، فقد خالف عقائد التوراة
وأحكامها ووصاياها ونُذُرها وتهديدها، ووصايا سائر أنبيائهم ونُذُرهم، وقد حل به
ما أنذروه من العقاب والشقاء المرة بعد المرة، حتى قضي عليه القضاء الأخير
الذي لا مرد له، وإننا نفصل ذلك بعض التفصيل.
إن القوم أَلِفوا الشرك وعبادة الأوثان في مصر فأخرجهم الله تعالى منها
ليعبدوه وحده مع نبيه موسى عليه السلام، خرجوا وجاوزوا معه البحر فرارًا من
فرعون وقومه بعد أن رأوا من آيات الله ما رأوا {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى
أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138) ولما ذهب موسى لمناجاة ربه في الجبل اتخذوا العجل الذهبي
وعبدوه حتى عاد وحرَّقه (سحقه بالمبرد) ونسفه في اليم نسفًا، ثم إن سلائلهم
الذين نشأوا في حجر التوحيد والمعجزات لما رأوا ما عليه أهل البلاد التي أعطاهم
الله إياها ونصرهم على أهلها ليقيموا التوحيد مقام الشرك - أعجبهم عبادتهم للأوثان
فعبدوها مثلهم وبنوا مذابح لصنمهم (بعل) وبعد أن ضعفت عبادة بعل وغيره في
زمن صموئيل وداود عليهما السلام عادت في أيام سليمان حتى جاء في سفر الملوك
الأول (11: 4) أن سليمان نفسه مال وراء الآلهة الغريبة، وكان لنسائه مذابح
وثنية خاصة؛ لأنهن كن وثنيات (برأه الله مما قالوا) ولما انقسمت المملكة بعده
إلى مملكتين - ليهوذا وإسرائيل - كان تاريخها جهادًا مستمرًّا بين عبادة الله وعبادة
الأصنام، حتى قيل: إنه لم يكن في زمن إيليا النبي في جميع إسرائيل من لم يسجد
لبعل إلا بضعة آلاف!
بشارة الأنبياء بالمسيح والنبي
كان أنبياء بني إسرائيل ينذرونهم سخط الله عليهم وعقابه على كفرهم وتركهم
لوصاياه، وكذلك كانوا يبشرونهم برفع عذابه عنهم إذا تابوا من ذنبهم، وأنابوا إلى
ربهم، ومما بشروهم به أنه تعالى سيرسل فيهم مسيحًا ملكًا يجمع شملهم، ويعيد
لمملكة صهيون مجدها، وأنه سيبعث نبيًّا رسولاً من بني إخوتهم (أي العرب)
كموسى - أي صاحب شريعة وسيف [*]- يجدد ملة إبراهيم وينصر التوحيد وأهله
على الشرك وأهله، فكانوا ينتظرون مسيحًا مبشَّرًا به يعبرون عنه (بالمسيح)
معرَّفًا، ونبيًّا مبشرًّا به يتناقلون خبره معرَّفًا أيضًا، وفي آخر نبوة ملاخي آخر
أنبيائهم قبل المسيح أن الرب سيرسل إليهم (إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم
والمخوف) وإيليا عندهم هو إلياس عليه السلام وكان قد خفي عليهم ما آل إليه أمره.
فكان اليهود ينتظرون إيليا والمسيح والنبي، ففي إنجيل يوحنا أنه لما ظهر
يوحنا أي الذي يلقبونه المعمدان (هو يحيى عليه السلام أرسل إليه اليهود من
أورشليم بعض الكهنة واللاويين ليسألوه من هو؟ فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا،
أإيليا أنت؟ قال: لا، آلنبي أنت؟ قال: لا، قالوا: أخبرنا من أنت لنجيب الذين
أرسلونا؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي
(1: 9 - 23) .
أما إيليا فلم يأت؛ ولكن النصارى يقولون: إن الوعد بمجيئه رمزي وقد
حصل، وأما المسيح فقد ظهر مؤيدًا بالآيات البينات فكذَّبه أكثرهم وطعنوا في والدته
الطاهرة، وحاولوا قتله كما قتلوا زكريا ويحيى من خيار أنبيائهم، فنجاه الله تعالى
منهم واشتبه أمره عليهم وعلى غيرهم، وكذلك النبي الأعظم (محمد صلى الله عليه
وسلم) الذي بشر به أشهر أنبيائهم وفاقًا لبشارة التوراة، ومن أوضحها بشارة إنجيل
عيسى عليه السلام في كثير من الآيات والأمثال التي ظهر مصداقها فيه دون غيره،
جاء مؤيدًا بالكتاب العزيز الذي هو آية في نفسه، متضمنه للآيات الكثيرة في نظمه
وأسلوبه وأخباره وعلومه وتشريعه، فكذبوه كما كذَّبوا عيسى وقاتلوه بعد أن حاولوا
قتله اغتيالاً كدأبهم في قتل الأنبياء من قبله، فنصره الله عليهم وفاقًا لأخبار التوراة
والنبوات أيضًا [تراجع نصوص البشارات التي أشرنا إليها في تفسير قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157) في الجزء التاسع من تفسيرنا (ص ج 9) ] .
ذلك بأنهم صاروا قومًا ماديين لا يهمهم من أمر الحياة إلا الغنى والملك، فلما
رأوا أن المسيح ليس هو الملك الذي يطلبونه كذبوه ورأوا أن ما ذكره الأنبياء عن
(مسيا) من الملك والسلطان لا تصدق نصوصه بحملها عليه، إذ كان يقول: إن مُلكه
ليس من هذا العالم. وإنما يريدون مُلكًا من هذا العالم، كما هو ظاهر بشارات داود
وأرميا وزكريا وغيرهم، ولولا الآيات الباهرة التي أيَّد الله بها عيسى عليه السلام
لكان تأويل المسيحيين لتلك البشارات مردودًا بالبداهة كما قال السيد جمال الدين في
مقام الاحتجاج على بعض النصارى أنهم فصَّلوا من قطع متفرقة من العهد العتيق
قميصًا وألبسوه لِيسُوعِهم.
وقد كانت نذره النبوية عليه السلام أوضح من نذر غيره من الأنبياء ومتأخرة
عنهم، إذ قال كما في إنجيل متَّى في سياق توبيخ الكتبة والفريسيين (23: 37
يا أورشليم يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، كم مرة أردت أن أجمع
أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا 38 هو ذا بيتكم يترك
لكم خرابًا) يعني الهيكل
…
وقال أيضًا (24: 1 ثم خرج يسوع ومضى من
الهيكل فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل 2، فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع
هذه؟ الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض) ثم أخبرهم بأنه
سيظهر كثيرون كل منهم يدعي أنه هو المسيح ويضلون كثيرين وتكون فتن كثيرة،
وتقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة
…
إلخ، ومثله في لوقا (121: 5)
…
إلخ.
وقد صدق قوله عليه السلام بما فعله تيطس بعد اجتماع الأسباط في أورشليم
من تدميرها وإحراق الهيكل (سنة 70م) كما تقدم، وصدق أيضًا فيما أخبر من
قيام المسحاء الكذبة وكان أشهرهم (ياركوكبة) الذي قام سنة 135 ب م، فثار معه
اليهود فقاتلهم الرومانيون حتى روي أنهم قتلوا منهم نصف مليون أو 600 ألف
نفس وخرَّبوا أورشليم وجعلوها مستعمرة رومانية، وبقي آخرهم وهو المسيح
الدجال الأكبر الذي يمهدون البلاد له.
وقوله عليه السلام: إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا ينقض - يقتضي
صدقه أن تيطس لم يُبق من بناء الهيكل شيئًا، وأن الذين يزعمون أنه قد بُني شيء
من بعض جدران السور الخارجي له كاذبون، وكل من صدقهم يكون مكذبًا للإنجيل.
وقد كانت أحداث الزمان مؤيدة لقوله عليه السلام وزيادة في إيمان المؤمنين
به وأعظمها أن الإمبراطور يوليانس أراد إعادة بناء الهيكل سنة 363 بعد الميلاد،
ونشط اليهود في تنفيذ إرادته فلما حفر الفعلة الأساس فاجأتهم براكين جهنمية
مزعجة أظلم المكان بما أحدثته من الدخان والغبار، وتكسرت أدوات العمل بما أثار
الانفجار من قذائف النار، فولوا الأدبار، ولم يعقبوا بعد ذلك الفرار، وحاول
اليهود العمل ثانية فشعروا بقوة خفية تدفعهم بعنف عظيم ذُعروا له فولَّوا مدبرين،
وتركوا أدوات العمل يائسين.
ومن ثم اعتقد النصارى أن جميع بشارات أنبياء بني إسرائيل انتهت بظهور
المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وأنه لن يعود لليهود ملك مستقل، ولا هيكل
تُقام فيه شعائر دينهم المنسوخ، وأن جميع تلك البشارات المخصصة لتلك النذر
والتخويفات قد انحصرت بمن اتبع المسيح الحق منهم إذ لا مسيح بعده، وصار
أتباعه هم شعب الله الخاص والكافرون به هم أعداء الله.
ثم جاء الإسلام فكان أعظم مظهر لبشارات المسيح ونُذُره من الوجوه التي
فهمها أتباعه الأولون قبل البدع والتقاليد التي أيدها ونشرها ونصرها الإمبراطور
قسطنطين ومَن بعده، فأورث الله أهله البلاد المقدسة وبنوا مسجد الله المسمى
بالأقصى في مكان الهيكل المدمَّر لإقامة عبادة الله تعالى وحده، فلم يصدهم عنه من
الموانع الخارقة للعادة التي صدت الإمبراطور يوليانس واليهود؛ لأن الإسلام جاء
مصدقًا لموسى وعيسى والنبيين الذين بشَّروا به، لا مكذبًا كاليهود.
ومما أخبر به الله تعالى في كتابه القرآن أنه جعل الذين آمنوا بالمسيح واتبعوه
فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة، وأنه ضرب على اليهود الذلة بفقد المُلك إلى
يوم القيامة، ومما أخبر به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر دجالون
يكون آخرهم الدجال الأكبر الذي يدعي أنه هو المسيح الموعود به فيتخذه اليهود
ملكًا يحاربون تحت رايته في البلاد المقدسة، وأن الله تعالى يُظهر المسلمين عليهم
فيقتلونهم تقتيلاً، ويُظهر المسيح الحق بما شاء الله فيقضي على المسيح الدجال،
وتظهر لجميع الأمم حقية الإسلام وبعد ذلك تقوم الساعة العامة الكبرى كما أنبأ
القرآن، دون ما ينتظر الأقوام.
ونتيجة ما تقدم كله أن اليهود الصهيونيين والمؤيدين لهم من المغرورين
يحاولون نقض عقائد المسلمين والنصارى، وتكذيب عيسى ومحمد عليهما الصلاة
والسلام وهم زهاء نصف البشر في الأرض وأصحاب الملك والملك في الشرق
والغرب، وكان من أعظم أسباب غرورهم تمكنهم من استخدام عظمى الدول
المسيحية في الأرض على التمهيد لهذا التكذيب وهي الدولة البريطانية.
إننا نعلم أن الإنكليز استخدموا اليهود لإضعاف العرب بإيجاد عدو لهم في
بلادهم يقطعون صلة بعضها ببعض، ويشغلون كلاًّ منها بالآخر متكلاً على الإنكليز،
وأقل فائدة لهم في ذلك أن يحولوا مقاومة العرب لاحتلالهم بلادهم إلى اليهود،
كدأبهم الذي ضربنا له مثل السيل يقذف جلمودًا بجلمود؛ وإنما عجبنا من سكوت
الدول والأمم المسيحية لهم على إيواء أعداء المسيح إلى بلده، وهو يستلزم تكذيب
نذره.
وأعجب من ذلك أن دسائس اليهود تمكنت من إغواء كثير من نصارى أوربة
وأمريكة وإقناعهم بأن الإيمان بالكتاب المقدس يقتضي مساعدتهم على العودة إلى
فلسطين وامتلاك أورشليم
…
إلخ، تصديقًا للأنبياء وتحقيقًا لظهور المسيح الذي
يختلف الفريقان في شخصه وعمله، فاليهود يعنون مسيحهم الملك الدنيوي الذي
يعيد ملك سليمان لهم، والنصارى يعنون المسيح عيسى بن مريم الذي يجيء في
ملكوته ليدين العالم.
وقد بلغ الهوس بجمعية تلاميذ التوراة أن نشرت في سنة 1920 كتابًا عنوانه
(ملايين من الذين هم أحياء اليوم لن يموتوا أبدًا) ملخصه أن نبوات العهدين القديم
والجديد تفسر بأن استعمار اليهود الصهيونيين لفلسطين تمهيد لتفسيرها كلها بإقامة
(مملكة مسيا) على حساب نظام اليوبيل اليهودي وأن هذا الأمر يتم سنة 1925،
فيقوم الأموات من قبورهم ويرجع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقدماء الأنبياء
المؤمنين إلى أورشليم، ويتم الأمر فلا يموت بعد هذا أحد! !
وسننشر بعض نصوص هذا الهوس المسيحي الذي كذَّبه الزمان بعد خمس
سنين من نشره؛ وإنما غرضنا هنا التنبيه لهذه الدسائس اليهودية والأوهام الدينية،
وإعلام الإنكليز بأن حكومتهم قد فتحت باب فتنة دينية دنيوية تكون عاقبتها شرًّا
عليهم وعلى البشر عامة مما يظنون ويقدرون، فاتفاق العرب مع الذين يريدون
سلب وطنهم وتقطيع روابط أمتهم، والجناية على دينهم ودنياهم - ضرب من المحال
وأنه لا علاج لهذه الفتنة إلا القضاء على هذه المطامع، وقد أعذر من أنذر.
_________
(*) في الفصل 18 من سفر تثنية الاشتراع يقول موسى (ع م) للشعب (17 قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا (18) أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيتكلم بكل ما أوصيه به) ولم يُقم الرب من بعد موسى نبيًّا مثله صاحب شريعة مستقلة غير محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع أنبيائهم كانوا تابعين لشريعته حتى عيسى عليه وعليهم السلام؛ وإنما نسخ الله تعالى على لسان عيسى قليلاً من أحكام التوراة (وفي الفصل 33 منه جاء الرب من سينا وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران) وفاران مكة كما يعلم من سفر التكوين 21: 21 إذ يقول في إسماعيل (21 واسكن في برية فاران) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(الجزء الثالث من كتاب الأعلام)
سبق لنا تقريظ لهذا الكتاب بعد صدور الجزأين الأول والثاني منه، وقد بُدئ
هذا الجزء بحرف الكاف، وأتم بحرف الياء، فبلغت صفحات الأجزاء الثلاثة به
1187 صفحة، فحق على جميع كتاب العربية ولا سيما المصنفين والمؤرخين
ومحرري الصحف أن يشكروا لمؤلفه أديب الشام وشاعرها الأستاذ (خير الدين
الزركلي) الشهير هذه المنة التي لا يستغني عنها أحد منهم، فلعمري إن حاجتهم
إلى هذا الكتاب كحاجتهم إلى معجم من معاجم اللغة، وينبغي أن لا يخلو منه مكتب،
وأن يكون بين الأيدي بجانب أساس البلاغة والقاموس ونحوه، كذلك خزائن
الكتب العامة والخاصة ينبغي أن يكون في كل منها عدة نسخ من هذا الكتاب؛ لأنه
كما ادّعى واضعه في فاتحته - وصدق - قد ملأ فراغًا في الخزانة العربية قد تُرك له
مدة هذه القرون الطويلة، بجمعه أسماء أشهر الرجال والنساء من العرب
والمستعربين من عهد الجاهلية وأول الإسلام إلى هذا العصر ما عدا الأحياء من أهله،
وضبط الأسماء والألقاب وحدد سني الوفاة لمن عُرفت سنة وفاته وهم الأكثرون
بالتاريخين الهجري والميلادي، وبيَّن أهم المزايا والكتب التي صنَّفها المصنفون منهم
مع الرمز إلى ما طُبع منها وما لم يُطبع، وأنه قد لخَّص ترجمة أعظم رجل ذُكر فيه،
بل أعظم رجل خلقه الله (محمد رسول الله وخاتم النبيين) في 3 صفحات وبضعة
أسطر فقط.
وقد وعد بوضع جزء رابع يستدرك به ما فاته في هذه الأجزاء، ولما كان قد
دعا قراء الكتاب إلى نقده، فالمرجو من قرائه من أهل العلم وأصحاب الاطلاع
على المطبوعات أن يبينوا له ما يعثرون عليه من سهو أو غلط ليدونه في جزء
المستدرك ليتم به ضبط الكتاب بالدقة اللائقة به.
وأذكر من ذلك أنه غلط في ترجمة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) فذكر
أنه وُلد في عين شمس وهو إنما سكنها في بضع السنين الأخيرة من عمره، وذكر
من مؤلفاته (تفسير القرآن الحكيم) وقال: إنه لم يتمه، والصواب أنه ليس له إلا
تفسير (جزء عم) فقط، وله كتب أخرى لم يذكرها، أشهرها كتاب (الإسلام
والنصرانية مع العلم والمدنية) و (رسالة الواردات) ومنها حاشيته على عقائد
الجلال الدواني وكلها مطبوعة.
وقد راجعت أخيرًا ترجمة الحافظ الذهبي فرأيته يضع عند ذكر كتابه (ميزان
الاعتدال) حرف (خ) للإشارة إلى أنه مخطوط لا مطبوع، والصواب أنه قد طُبع
في الهند ثم في مصر، ولعل هذا من غلط الطبع ولابد من تصحيحه في المستدرك.
***
صحف إسلامية عربية
يسرنا أن تكثر الصحف الإسلامية الرشيدة في أوطاننا العربية في هذا العصر
الذي طغى فيه طوفان الإلحاد، واستشرى وباء الفساد، وكثرت صحفهما في البلاد،
وجهر كُتَّابهما بالدعوة، مساعدة للمبشرين على نكث فتل الأمة، وتقطيع روابط
الملة، وإننا نذكر المهم من هذه الصحف:
(مجلة الشبان المسلمين)
(مجلة إسلامية علمية تهذيبية تصدرها جمعية الشبان المسلمين مرة في
الشهر، ويحررها نخبة من أعضائها، رئيس التحرير المسئول: الدكتور يحيى
أحمد الدردير) وإنه ليسرنا أن يوفق الله تعالى هذه الجمعية النافعة لإصدار
مجلة إسلامية تكون أكبر عون لها على ما تقصد من تأسيسها وهو التهذيب
الإسلامي مع العلم العصري والتربية الملية الوطنية، وهذا ضرب من التجديد
النافع المطلوب، المقاوم لتجديد الإلحاد والفسق والفجور، الذي تَنَحَّلَه أفراد مكنتهم
فوضى الآداب وحرية الفساد من انتحال لقب التجديد لأنفسهم، وهم لا يبغون منه
إلا الكسب بإفساد الشعب.
وإنه ليسرنا أن يكون صديقنا الدكتور أحمد يحيى الدردير رئيس التحرير لهذه
المجلة النافعة، فقد عرفناه من اختلافنا إلى نادي الجمعية لإلقاء بعض المحاضرات،
أو رد الشبهات، أو لسماع مثل ذلك، أو لمحض الزيارة والمذاكرة، أنه خير
أهل لهذه الخدمة بما له من الاطلاع الواسع على العلوم والفلسفة، ولا سيما علم
النفس والتربية، مع البصيرة والوجدان في الدين واليقين فيه، والغيرة عليه، وإنه
ليسرنا أيضًا أن تبارى أقلام خيار الكُتَّاب المسلمين في تحرير هذه المجلة، في
العلوم والأعمال المختلفة، فهي بذلك قد استكملت الأسباب العلمية الأدبية لها،
وقيمة الاشتراك السنوي في مصر 25 قرشًا لعضو الجمعية، و30 قرشًا لغير
العضو، وفي غير مصر 30 لعضو الجمعية، و40 لغير العضو، وهو مبلغ قليل
فنحث المسلمين كافة وطلاب العلوم وطوالبها خاصة على الإقبال على هذه المجلة
والاشتراك فيها وعلى الاشتراك في جمعيتها أيضًا.
وبهذه المناسبة يسرنا أن نعلن للعالم الإسلامي أنه صار لدينا بمصر ثلاث
مجلات لجمعيات إسلامية، تؤازرها مجلات أخرى في سائر الأقطار، وهي:
(مجلة مكارم الأخلاق)
وهي أقدمها لأنها تناهز عمر المنار في نشأتها الأولى، وقد جدد شبابها
تولي الأستاذ الشيخ محمود محمود من أستاذي مدرسة المعلمين العليا رياسة
تحريرها، وناهيك به علمًا وفضلاً وغيرة، فهي الآن خير مما كانت منذ وجدت،
و (مجلة الهداية) .
ولدينا في خارج مصر (مجلة الإصلاح) الحجازية و (مجلة الكويت) وقد
دخلتا مع مجلة الهداية جميعًا في السنة الثانية فنهنئهن بذلك، و (مجلة الشهاب)
الجزائرية و (جريدة الإصلاح) الجزائرية.
(الجامعة الإسلامية)
(صحيفة إسلامية: علم. أخلاق. أدب. تاريخ) تصدر في حلب مرتين في الشهر موقتًا، مديرها ومحررها الأستاذ محمد علي الكحال، قيمة الاشتراك السنوي فيها أربعون قرشًا مصريًّا ولطلاب العلم وطوالبه 32 قرشًا، وإنا لنتمنى لهذه الجريدة النجاح والفلاح.
(المستقبل)
(صحيفة نقد وأدب وفن ودعاية لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ إبراهيم
صالح شاكر) تصدر مرتين في الشهر في مدينة بغداد، وعسى أن يُقْبِل عليها قراء
العربية في جميع البلاد، فإنها تعنى بالدعاية العربية، بلغة فصيحة عربية، يتغلغل
الإخلاص للوحدة العربية في أحشائها، ويفيض من جميع جوانبها، وعسى أن تجد من
الإقبال ومن الحرية ما يمكِّن صاحبها الغيور من جعلها أسبوعية، ثم من تكبير حجمها
مع بقائها أسبوعية، ومن إبقاء اشتراكها على ما هو الآن: عشر روبيات في العراق
و15 روبية في سائر الآفاق.
_________
الكاتب: فؤاد صروف
المجمع المصري للثقافة العلمية
بيان عام
صحت عزيمة طائفة من المشتغلين بالعلم ونشره في هذا القطر على تأسيس
مجمع علمي يدعونه (المجمع المصري للثقافة العلمية) تكون أغراضه:
(أولاً) نشر الثقافة باللغة العربية.
(ثانيًا) ترقية اللغة العربية بكتابة المباحث العلمية بها ونشرها.
(ثالثًا) إنشاء رابطة للمشتغلين بالعلم من أبناء اللغة العربية.
والطريقة التي ينوي أن يجري عليها لتحقيق أغراضه هذه هي:
(أولاً) عقد مؤتمر سنوي لإلقاء الخطب العلمية وتلخيصها ونشرها ملخصة
في الصحف السيارة والمجلات، ثم طبعها كاملة في مجموعة توزع وتباع.
(ثانيًا) إلقاء خطب علمية دورية.
(ثالثًا) عدم تعرضه للسياسة والدين.
أما لغته فاللغة العربية، وأما مركزه فالقاهرة عاصمة المملكة المصرية.
وفيما يلي أسماء الفضلاء الذين قبلوا حتى كتابة هذه السطور أن ينتظموا في
هيئة مجلسه التأسيسي:
الدكتور علي إبراهيم بك - رئيس
…
الدكتور محمد رضا مدور
المجمع لسنة 1930
…
الدكتور كامل منصور
…
...
…
...
الدكتور محمد شاهين باشا
…
...
…
الدكتور جرجي صبحي
الدكتور فارس نمر
…
...
…
... الدكتور علي حسن
…
...
…
... الدكتور خليل عبد الخالق
…
...
…
الدكتور أحمد زكي أبو شادي
…
...
…
... الدكتور عبد العزيز أحمد
…
...
…
الدكتور شخاخيري
…
...
…
الدكتور علي مصطفى مشرفة
…
... الأستاذ إسماعيل مظهر
…
...
…
... الدكتور حسن بك صادق
…
...
…
الأستاذ سلامة موسى
…
...
…
... الدكتور محمد شرف
…
...
…
... الأستاذ فؤاد صروف سكرتير عام دائم
…
...
…
...
…
... الأستاذ كامل كيلاني مساعد سكرتير
وقد اجتمع المجلس التأسيسي، وقرر أن يعقد مؤتمره السنوي الأول في الثاني
من فبراير الذي يبتدئ في يوم الجمعة 7 فبراير، وينتهي في 14 منه، وسيعلن
عن برنامج هذا المؤتمر، وأسماء الخطباء وموضوعات خطبهم ومكان إلقائها في
أواسط يناير القادم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
فؤاد صروف
…
... السكرتير العام الدائم
(المنار)
استغربنا تأليف إدارة المقطم والمقتطف لهذا المجمع من الدكاترة الكرام،
وبعض الملاحدة المفسدين للأديان والآداب الذين جهر بعضهم بالدعوة إلى الإلحاد،
ولا سيما الطعن في الإسلام، وإلى إفساد الآداب الدينية والمدنية بما يسميه الأدب
المكشوف، وأما الأطباء فالخدمة التامة الخاصة بهم موضوعها حفظ أبدان البشر من
الأمراض ومعالجة ما يعرف لها منها، ويقل فيهم من يجد وقتًا للعناية بالثقافة التي
هي موضوع هذا المجمع إن كان مستعدًّا لها من قبل.
وكان يجب أن يكون أكثر أعضاء هذا المجمع من كبار المدرسين في
المدارس العالية ومنها الأزهر الشريف، ومن كبار الكتاب المحررين والعلماء
المؤلفين للكتب النافعة، وأن يكون فيها من يمثل الجمعيات الأدبية والأخلاقية ومنها
جمعيتا الشبان المسلمين والشبان المسيحيين، ولا يعقل أن تبحث اللجنة المؤسسة
لهذا المجمع عن عقائد من تعرف فيهم الصفات المؤهلة له، وتشترط فيها شيئًا،
ولكن يجب أن لا تقبل من يكون داعية للإلحاد والفوضى الإباحية في الآداب
مشهورًا بالطعن في رجال الدين، ولا من يكون معروفًا عنه أنه يبغي بالثقافة
العلمية نسخ الثقافة الدينية وإقامتها مقامها، ولا يكفي في تأمين المتدينين على
أديانهم أن يشترط في خطب المؤتمر عدم التعرض فيها للسياسة والدين؛ فإن أشد
المتعرضين للدين وقاحة وطعنًا يدعي عدم التعرف له.
ثم إن المقاصد التي ذكرت في البيان مجملة مبهمة وحاصلة بدون تأليف مجمع
خاص لأجلها إلا مسألة المؤتمر، وهي مسألة قد سبقت جمعية الرابطة الشرقية إلى
درسه والسعي له فما معنى افتئات هؤلاء عليها فيه؟ ولماذا لم يشتركوا معها في
سعيها؛ حتى إذا ما اجتمع المؤتمر اقترح عليه تأسيس المجمع اللغوي الأدبي
المطلوب، إن لم تسبق إلى تأسيسه الحكومة المصرية؟ وكذلك الرابطة بين رجال
العلم هو من موضوعها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاستفتاء في حقيقة
الربا
القطعي المحرم لذاته والربا الظني المنهي عنه
لسد الذريعة، والبيع والتجارة
(4)
ليس في الشريعة الإسلامية مسألة مدنية وقع فيها الخلاف والاضطراب منذ
العصر الأول، ثم مازالت تزداد إشكالاً وتعقيدًا بكثرة بحث العلماء إلا مسألة الربا،
فهي تشبه مسألة القدر في العقائد، فأما ما جاء من النصوص القرآنية في المسألتين
فبيّنٌ كالشمس لا مجال للشبهات فيه، وأما السنة العملية القطعية في مسألة الربا
فهي تنفيذ لحكم الكتاب الإلهي، وأما الأحاديث النبوية القولية فهي قسمان:(الأول)
نص صحيح الرواية قطعي الدلالة في حصر الربا فيما حرمه الله منه في كتابه وهو
(ربا النسيئة) الذي لم تكن العرب تفهم منه غيره؛ لأنه هو المعروف عندهم دون
غيره وهو حديث أسامة المرفوع المتفق عليه (لا ربا إلا في النسيئة) هذا لفظ
البخاري ولفظ مسلم (إنما الربا في النسيئة) و (الثاني) نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن البيوع التي قد تؤدي إليه لسد الذريعة دون ارتكابه (كنهيه صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية سدًّا لذريعة الزنا
المحرَّم بنص كتاب الله تعالى) وهو حديث عبادة وغيره الذي كرره المفتي الهندي،
وهذا هو الذي سموه (ربا الفضل) .
ولما حرَّم الله الربا في كتابه وتوعد عليه قرن تحريمه بحِلِّ البيع وحِلِّ التجارة
التي هي أعم من البيع، فعُلم من ذلك أن حقيقة الربا المحرم غير حقيقة البيع
والتجارة المحللين، وذلك أن البيع والتجارة معاوضات في الأعيان والمنافع بين
طرفين يتراضيان باختيارهما على المبادلة فيها - وأما الربا المنصوص في القرآن
فليس فيه معاوضة بين متعاقدين في شيئين، بل هو عين يأخذه أحد الطرفين من
الآخر بغير مقابل له من عين ولا منفعة، بل لأجل تأخير قضاء دين مستحق عليه
إلى أجل جديد لعجزه عن قضائه حالاً.
وقد بيَّن بعض العلماء المستقلين في الفهم هذه المعاني كلها؛ ولكن الذين
أولعوا بتكثير الأحكام في الحلال والحرام وضعوا لأنفسهم قواعد للاستنباط ومناطات
للتشريع أدمجوا بمقتضاها الربا المحرم القطعي بالنص الإلهي - المتوعد عليه فيه
بالوعيد الشديد لما فيه من الضرر الفظيع والظلم العظيم - في البيع المنهي عنه لسد
الذريعة، إذ لا ضرر فيه يقتضي الوعيد الشديد بحسب أصول الشرع وحكمة
الحكيم الرحيم فيه، ومنهم من سوَّى بينهما، ولم يكتفوا بذلك، بل وضعوا بآرائهم
أحكامًا جديدة في الربا ليس فيها نص من الشارع قطعي ولا ظني، ولا تتفق مع
أصول الدين ولا حكم التشريع، ولا تعليل النص لتحريم الربا بقوله عز وجل:
{وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) كقولهم
إن علة الربا هي كون ما يتبايع به الناس مكيلاً أو موزونًا، فكثَّروا بذلك مسائل
الربا وخرجوا بها عن محيط المعقول والمنقول معًا، فجعلوها من التعبديات التي لا
تثبت إلا بنص صريح قطعي من الشارع وخالفوا بهذا أئمتهم وسلفهم الصالح الذين
كانوا يتقون الجرأة على التحليل والتحريم بالاجتهاد والرأي لما ورد فيه من الوعيد
الشديد في كتاب الله تعالى.
قاعدة السلف في التحريم الديني
قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (النحل:
116) وقال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59) وقال جل جلاله:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:
33) وقال تبارك اسمه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) يعني أن شرع الدين هو حق الله تعالى وحده حتى أن جمهور
الأئمة المحققين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرِّم على الأمة شيئًا
برأيه، وأن ما ثبت عنه من تحريم شيء غير منصوص في القرآن فهو استنباط
من القرآن بما أراه الله تعالى فيه بإذن الله له فيه بمثل قوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) وقوله:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) مثال ذلك تحريمه
صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح أخذه صلى الله
عليه وسلم من تحريم الجمع بين الأختين لعلمه بأن علتهما وحكمتهما عند الله تعالى
واحدة، وتحريمه الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة أخذه من قوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) بجعل الإسراف فيما يلابس الأكل
والشرب كالإسراف فيهما كما يظهر لنا، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل
ذوات الناب والمخلب من الوحش والطير المخالف لنصوص القرآن من حصر
محرمات الطعام في أربع، فهو للكراهة لا للتحريم كما فصلناه في تفسير {قُل لَاّ
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (الأنعام: 145) الآية فكل ما
زاده الفقهاء على ما ذكر بقياس جميع أنواع استعمال الذهب والفضة على الأكل
والشرب ينافي هذا الاستنباط على مخالفته للنص، فمن اعتقده فله أن يعمل به في
نفسه؛ ولكن ليس له جعله حكمًا عامًّا للأمة، فيكون تشريعًا لم يأذن به الله، وهو
مما عدَّه الله تعالى شركًا في آية (الشورى: 21) وفي معناها قوله تعالى في أهل
الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) روى
أحمد والترمذي وابن جرير في حديث إسلام عدي بن حاتم وكان نصرانيًّا أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال له: إنهم لم يعبدوهم، فقال
صلى الله عليه وسلم: (بلى إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام
فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم) وله ألفاظ أخرى، وقال الربيع: قلت لأبي العالية:
كيف كانت تلك الربوبية في بني اسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما
يخالف قول الأحبار، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
وقال الرازي في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث والأثر في الآية: قال شيخنا
ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة
الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت
مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون
إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن
سلفنا وردت عن خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريًا في عروق
الأكثرين من أهل الدنيا اهـ.
وأقول: قد ذكرت في (رسالة اختلاف الأمة وسيرة الأئمة) التي بيَّنت فيها
مزايا كتابَي المغني والشرح الكبير في الفقه الإسلامي، ثم جعلتها خاتمة لكتاب
(يسر الإسلام وأصول التشريع العام) أن أئمة الأمصار وغيرهم من علماء السلف لم
يكونوا يجزمون بتحريم شيء على سبيل القطع وجعله تشريعًا عامًّا إلا إذا ثبت
عندهم بنص قطعي الرواية والدلالة، وأوردت الشواهد من سيرتهم في ذلك، ثم
إنني وجدت نصًّا لفظيًّا صريحًا في الموضوع أعم مما ذكرت، وهو ما في كتاب
الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في مسألة (سبايا الملك) من (كتاب
سير الأوزاعي) ما نصه (ص319 ج7) .
(قال أبو حنيفة رحمة الله تعالى: إذا كان الإمام قد قال: من أصاب شيئًا فهو
له - فأصاب جارية لا يطؤها ما كان في دار الحرب، وقال الأوزاعي: له أن
يطأها، وهذا حلال من الله عز وجل بأن - ولعله قال: فإن - المسلمين وطئوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابوا من السبايا في غزاة بني المصطلق قبل أن
يقفلوا، ولا يصح للإمام أن ينفل سرية ما أصابت ولا ينفل سوى ذلك إلا بعد
الخمس؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة كان ينفل في البدأة الربع،
وفي الرجعة الثلث.
(قال أبو يوسف: ما أعظم قول الأوزاعي في قوله: (هذا حلال من الله)
أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، إلا
ما كان في كتاب الله عز وجل بينًا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم
وكان أفضل التابعين أنه قال: إياكم أن يقول الرجل إن الله أحل هذا أو رضيه،
فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه، ويقول إن الله حرَّم هذا [1]، فيقول الله:
كذبت لم أحرم هذا ولم أَنْهَ عنه. وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه
حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا: هذا مكروه، وهذا لا
بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام، فما أعظم هذا؟) اهـ.
هذا ما نقله الشافعي عن أبي يوسف، ثم نقل عنه أن ما قاله الأوزاعي من
حِل السبية فهو مكروه، وهو تفسير لقول أبي حنيفة (لا يطؤها ما كانت في دار
الحرب) ولم يستحل أحدهما أن يقول: هذا حرام، وقد ردَّ الشافعي هذا القول
وصحح قول الأوزاعي؛ ولكنه لم ينكر ما نقله أبو يوسف عن السلف في التحليل
والتحريم؛ وإنما صحح قول الأوزاعي بأن دار الحرب لا تحرِّم ما أحلَّ الله من
السبي والغنائم في أول سورة الأنفال وفي آية الخمس منها، ثم قال: (فإن الخمس
في كل ما أوجف عليه المسلمون من صغيره وكبيره بحكم الله إلا السلب للقاتل في
الإقبال الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قتل اهـ. وتراجع عبارته
هنالك، فإنما غرضنا هنا أن الشافعي موافق مقر فيما يظهر لما نقله أبو يوسف من
سيرة السلف في اجتناب التحليل والتحريم إلا ما كان في كتاب الله بينًا بنفسه لا
يحتاج إلى تفسير، والشافعي ممن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل في
الدين شيئًا إلا من كتاب الله تعالى، على أنه لا يضيره أن يخالفه هو أو غيره
بالتحريم الديني بالقياس.
فالحق أن القياس غير حجة في التعبديات ولا إثبات عبادة ولا تحريم ديني لم
يرد به نص صريح من الشارع كما بيَّنا في التفسير وغيره ولا سيما كتاب (يسر
الإسلام وأصول الشرائع العام) .
وبهذا أخذ علماء الأصول في تعريفهم للفرض أو للإيجاب بأنه خطاب الله
المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، وتعريفهم للحرام بأنه خطاب الله المقتضي للترك
اقتضاء جازمًا، وقد مثلنا لهذا في تلك الرسالة وغيرها بأن آية البقرة في الخمر
والميسر تدل على طلب تركهما دلالة ظنية راجحة؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يجعلها تشريعًا عامًّا موجبًا لتركهما على الأمة حتى إذا ما أُنزلت آيات سورة
المائدة الصريحة في الأمر باجتنابهما تركهما جميع الصحابة رضي الله عنهم، وصار
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاقب من شرب الخمر، وكذلك خلفاؤه من بعده.
(فإن قيل) إن ما ذكرت مخالف لقول جمهور علماء الامة من أن الأدلة
القطعية إنما تشترط في العقائد وأصول الدين، وإن الأحكام العملية تثبت بالأدلة
الظنية، وإن علماء الأصول أدخلوا القياس في تعريف الإيجاب بأنه خطاب الله
المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، وتعريف التحريم بأنه خطاب الله المقتضي للترك
اقتضاء جازمًا بقولهم إنه دليل على خطاب الله تعالى المقتضي لذلك.
(قلت) إن القياس الأصولي المعروف ليس من خطاب الله تعالى الذي ذكره
الإمام أبو يوسف وغيره في موضوعنا، ولا مما هو أعم منه، وليس دليلاً عليه
أيضًا وأما ما أدخلوه في القياس الجلي من الأحكام التي نص الشارع على علتها أو
قطع فيها بنفي الفارق فمنكر وحجية القياس شرعًا لا يسمونه قياسًا، بل يدخلونه في
معاني النص من منطوق أو مفهوم، ويجد القارئ تفصيل هذا البحث في كتاب
(يسر الإسلام وأصول التشريع العام) وإنما ذكرناه هنا مقدمة تمهيدية وسيعاد عند
ذكر المسائل العملية المتعلقة بالربا في آخر هذا البحث، إذا تمهد هذا أقول:
ربا الجاهلية المحرَّم بالقرآن
كان الربا معروفًا عند العرب في الجاهلية بالمعنى الذي ذكرناه، وسننقل
الشواهد عليه فليس هو من الاصطلاحات الشرعية الحادثة في الإسلام، وقد ذكره
تعالى في سورة الروم المكية التي نزلت قبل الهجرة ببضع سنين بالذم مقرونًا بمدح
الزكاة قبل فرض الزكاة الذي كان في السنة الثانية من الهجرة وقبل تحريمه (الربا)
بالنهي الصريح عنه في أواخر سني الهجرة، ثم بالوعيد الشديد عليه في آخر ما
نزل من القرآن؛ وإنما جاء في السور المكية بيان أصول الواجبات والمحرمات
بوجه إجمالي (كآية الأعراف: 33) .
قال تعالى في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا
يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم:
39) .
ثم قال في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 130) قال بعض العلماء: إن
تحريم الربا كان سنة ثمان أو تسع من الهجرة، وأسقط النبي صلى الله عليه وسلم
ربا الجاهلية في حجة الوداع سنة عشر.
ثم نزلت آيات سورة البقرة المشتملة على الوعيد الشديد قبل وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم بقليل، فكانت مع آية الوصية العامة بالتقوى المتصلة بها آخر ما
نزل من القرآن كما رواه البخاري في كتاب البيوع وكتاب التفسير من صحيحه،
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم مكث بعدها سبع ليالٍ، وقيل تسعًا، وقيل 21
كما ذكره الحافظ في الفتح، وروى أحمد وابن ماجه نحو هذا عن عمر رضي الله
عنه، وزاد عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئًا.
هذا، وإن ومن أصول التشريع أن الوعيد الشديد لا يكون إلا على كبائر
الإثم والفواحش التي يعظم ضررها ومفاسدها؛ ولكن المفتي الهندي الحنفي اعتمد
في فتواه قول من قال من فقهاء مذهبه وغيرهم: إن لفظ الربا فيها مجمل بيَّنه النبي
صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الأجناس الستة إلا يدًا بيد مثلاً بمثل كما تقدم
شرحه، ومقتضاه أن من صرف قطعة الريال من الفضة بالأربع القطع المساوية لها
في الوزن مع تأخير القبض يكون ظالمًا محاربًا لله ولرسوله بنص القرآن وملعونًا
مرتكبًا لإحدى كبائر الموبقات بنص الأحاديث الصحيحة الواردة في حظر الربا -
فهل يُعقل هذا في دين الرحمة وسنة نبي الرحمة؟ فنحن نورد ما يخالف رأيه
والأقوال التي احتج بها، ثم نلخص الموضوع في مسائل معدودة، فنقول:
أقوال أئمة الفقه والتفسير والحديث في الربا والبيع
قد تقدم أن الاساس الذي بنى عليه المفتي الهندي الفاضل فتواه هو أن لفظ
الربا في آية البقرة مجمل لا يُعلم المراد منه إلا ببيان الكتاب أو السنة، وأن هذا
البيان هو حديث عبادة وأبي موسى وغيرهما في بيع الأشياء الستة كما تقدم،
ولذلك كان ربا القرآن هو عين الربا المراد بهذا الحديث لا معنى له غيره.
والحق أن القول بأن لفظ الربا في الآيات مجمل، قول ضعيف مرجوح، وأن
أكثر علماء الأمة المجتهدين والمنتسبين إلى المذهب المشهور على خلافه، فزعمه
اتفاقهم عليه باطل، بل ذكره بعضهم احتمالاً وردَّ الآخرون هذا الاحتمال وجزموا
ببطلانه، وأنه على فرض كونه مجملاً لا يصح أن يكون حديث عبادة في بيع
الأشياء الستة يدًا بيد مثلاً بمثل بيانًا له؛ لأن هذا الحديث في الصرف وما في معناه
ولا تنطبق عليه نصوص الآيات في أحكامها ولا في حكمتها، ولا في تعليلها، ولا
في وعيدها، فهو قد خرج بها عن موضوعها من كل وجه، وجمهور علماء السلف
والخلف على أن الربا في جميع الآيات مراد به ربا الجاهلية، وأنه كان في تأخير
الديون المؤجلة، فإن شمل غيرها فإنما يشمله بعموم اللفظ، ونحن نورد الشواهد
على صحة قولنا من الكتب المشهورة المعتبرة حتى كتب بعض الحنفية أنفسهم الذين
اعتمد المفتي الهندي على أقوال بعضهم دون بعض، ثم نحقق أصل الموضوع كما
وعدنا، وإن كنا قد سبقنا إلى هذا التحقيق في تفسيرنا للآيات من زهاء ربع قرن
كما يراه القارئ في الجزء الثالث من تفسير المنار، فعسى أن يكون ما نحققه أتم
وأبين بما فيه من التطبيق ورد الشبهات والرجوع إلى أصول التشريع.
(1)
ما قاله الإمام الشافعي في البيع:
ذكر بعض العلماء عن الإمام الشافعي أن لفظ (البيع) في القرآن مجمل بيَّنته
السنة، وقالوا عنه: إن لفظ (الربا) مجمل مثله، نقل ذلك المفتي الهندي عن
الرازي، وأنه اختاره؛ ولكن الشافعي ذكر في الأم أن لفظ (البيع) عام أُريد به
الخاص، ويُحتمل أن يكون مجملاً، وترجيحه للأول هو المصرح به في كتب فقهاء
الشافعية، وهذا نص عبارته في كتاب البيع (ص2ج3) :
أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي رحمه الله قال قال الله تبارك وتعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29) وقال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) (قال الشافعي) وذكر الله البيع في غير موضع من كتابه بما يدل على
إباحته، فاحتمل إحلال الله عز وجل البيع معنيين، أحدهما: أن يكون أحل كل بيع
تبايعه المتبايعان جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراضٍ منهما، وهذا أظهر معانيه.
(والثاني) أن يكون الله عز وجل أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد، فيكون هذا من
الجمل التي أحكم الله فرضها بكتابه وبيَّن كيف هي على لسان نبيه، أو من العام
الذي أراد به الخاص، فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أُريد بإحلاله منه وما
حرَّم، أو يكون داخلاً فيهما، أو من العام الذي أباحه إلا ما حرَّم على لسان نبيه
صلى الله عليه وسلم منه وما في معناه، كما كان الوضوء فرضًا على كل متوضئ
لا خُفين عليه لبسهما على كمال الطهارة، وأي هذه المعاني كان فقد ألزمه الله تعالى
خلقه بما فرض من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما قبل عنه فعن
الله عز وجل قبل؛ لأنه بكتاب الله تعالى قبل، (قال) فلما نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن بيوع تراضى بها المتبايعان استدللنا على أن الله عز وجل أراد
بما أحل من البيوع ما لم يدل على تحريمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم دون
ما حرَّم على لسانه.
(قال الشافعي) فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي
الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في
معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى
المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى
اهـ.
(2)
ما نقله الحافظ في عموم لفظ البيع:
قال الحافظ ابن حجر في شرح أول كتاب البيع وقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) وقوله: {إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} (البقرة: 282) من صحيح البخاري ما نصه: (والبيوع جمع
بيع، وجُمع لاختلاف أنواعه، والبيع نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبوله،
ويُطلق كل منهما على الآخر، وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه
لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه قد لا يبذله له، ففي
تشريع البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج، والآية الأولى أصل في جواز
البيع، وللعلماء فيها أقوال أصحها أنه عام مخصوص؛ فإن اللفظ لفظ عموم يتناول
كل بيع فيقتضي إباحة الجميع لكن قد منع الشارع بيوعًا أخرى وحرمها، فهو عام
في الإباحة مخصوص بما لا يدل الدليل على منعه، وقيل: عام أريد به الخصوص،
وقيل: مجمل بينته السنة، وكل هذه الأقوال تقتضي أن المفرد المحلى بالألف واللام
يعم، والقول الرابع: إن اللام في (البيع) للعهد، وأنها نزلت بعد أن أباح الشرع
بيوعًا وحرم بيوعًا فأريد بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) أي الذي
أحله الشرع من قبل، ومباحث الشافعي وغيره تدل على أن البيوع الفاسدة تسمى
بيعًا، وإن كان لا يقع بها الحنث لبناء الأيمان على العرف، والآية الأخرى تدل على
إباحة التجارة في البيوع الحالة، وأولها في البيوع المؤجلة اهـ.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لعله سقط من هنا: (أو نهى عنه) بدليل ما بعده.
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظرية داروين والإسلام
جواب إشكال ألقيناه في نادي الخطابة لجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة،
وكنت أردت أن أكتب في موضوعه محاضرة طويلة فلما لم أجد فراغًا لذلك،
اخترت نشره لأنه مفيد في موضوعه بالإجمال، وهذا نصه:
أعطاني أحد الشبان في الليلة التي تكلمت فيها على مسألة القدر في موقفي
على هذا المنبر ورقة وضعتها في جيب جبتي، ثم قرأتها بعد عدة أيام، إذ كنت
نسيتها فإذا فيها مقدمة فيما يسمى مذهب داروين يتلوها بضعة أسئلة يرى كاتبها أنها
من أقوى الحجج والبراهين القطعية الناقضة الهادمة لما عبَّر عنه (بنظرية الخلق
الإلهي) والحق المقرر عند علماء الكون المحققين من المتلقين لمذهب داروين
بالتسليم وغيرهم، أنه نظرية أو مجموع نظريات قابلة بذاتها للثبوت وللبطلان،
أي بصرف النظر عما يعارضها من نصوص الأديان المستندة عند أهلها على
أصول قطعية مؤيدة بالبراهين، ومن مذهب الروحانيين الذين لا يقتصرون في
تعليل أمور الخلق والتكوين على سننن المادة ونواميسها وحدها.
وأما خلق الله لكل شيء فليس مسألة نظرية إلا عند ملاحدة الماديين، وهم
شرذمة قليلة من مجموع الشعوب، والسواد الأعظم من علماء الكون والفلاسفة
وغيرهم من البارعين في جميع العلوم والفنون، ومن العوام السليمي الفطرة - يوقنون
بأن للعالم خالقًا عليمًا حكيمًا، ويقيمون على ذلك الدلائل العقلية والعلمية اليقينية،
والمِلِّيُون من أهل العلم والفلسفة يؤيدون بهذه الأدلة نصوص مللهم، وغير المليين
منهم وهم قليل فريقان: أحدهما ينكر بعض نصوص الأديان، والآخر لا يثبتها ولا
ينفيها، ومن هؤلاء عالم كبير من علماء الإنكليز نقل إلينا المقتطف عنه أنه سئل
قبل موته: هل يؤمن بالإله الخالق؟ فقال ما معناه: ليس عندي أدنى شك في وجود
إله للطبيعة؛ فإنه لا يمكن لعاقل أن ينظر في هذا الكون العظيم، وما فيه من دقائق
النظام وعجائب الإبداع ويعتقد أنه وُجد بالمصادفة، أو أنه يستند إلى مبدأ ضرورة،
فالمعقول الذي لا أعقل غيره أن للطبيعة - مادتها وقواها - خالقًا قادرًا ذا علم
وحكمة - وربما قال: عاقلاً - وأما إله الكنيسة فليس عندي ما يثبته ولا ما ينفيه
اهـ.
ولقد سبق هذا العالم الإنكليزي إلى مثل كلمته في إثبات وجود الخالق عالم من
كبار علماء الكلام في الإسلام، لا أذكر الآن أهو النسفي صاحب العقائد المشهورة أو
غيره؟ قال: اتفق البشر على الإيمان بوجود صانع خالق للعالم ما عدا شرذمة قليلة
ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو - أي زعمهم هذا - بديهي البطلان.
وقد انقسم علماء الغرب في نظرية داروين إلى أنصار يؤيدونها بمقالاتهم
ومصنفاتهم بمعنى أنها أقرب ما وصل إليه علم البشر من التعليل المعقول لاختلاف
الأنواع ونظام الخلق، لا بمعنى أنها حقائق قطعية كالقواعد الرياضية لا يمكن
نقضها، وكم نقض تقدم العلوم نظريات كانت مسلَّمة مثلها لأنها كانت أقرب ما
عُرف في موضوعها إلى العقل - وإلى خصوم يردون عليها ويوردون الشكوك
والاحتمالات في أصولها وفروعها، وقد كان الرجحان العلمي لأنصارها إلى عهد
قريب، إذ دخل العلم المادي في طور جديد، واتسعت دائرة علم النفس، وكثر أنصار
الروحيين الذين يثبتون بالاختبار ما أثبتته جميع الأديان من أقدم عصور
التاريخ، من أن للبشر أرواحًا مستقلة لها أعظم التأثير في خلقهم وتكوينهم وعلومهم
وأعمالهم.
إنني بعد قراءة تلك الورقة ذكرت هذه المسألة في أول مرة حضرت هذا
النادي، فلخصت المسألة وذكرت بالإجمال الموجز رأي علماء المسلمين فيها،
وصرحت بأنني مستعد لإلقاء محاضرة مفصَّلة فيها، فكان أن إدارة جمعية الشبان
المسلمين جعلت هذه الليلة موعدًا للمحاضرة بدون استشارتي، وطبعت ذلك وآذنتني
به أول من أمس، وأنا في شغل شاغل عن المراجعة والتفكر في الموضوع، وعن
كتابة ما ينبغي فيه؛ لأنه ليس من الموضوعات التي يكفي فيها الجواب عن الأسئلة
التي كتبها صاحب الورقة، والجواب عنها في غاية السهولة، بل هنالك أصول
وفروع تتعلق بها أهم من تلك الأسئلة أرى أن شبابنا في أشد الحاجة إلى تمحيصها،
ولما أجد فراغًا في هذين اليومين لكتابة محاضرة حافلة كاملة؛ لذلك رأيت أن
أكتفي الليلة بذكر نص الورقة المشار إليها، والأجوبة عن أسئلتها بالإجمال، وما لا
يدرك كله لا يترك قله.
نص الورقة
(لقد غفل المسلمون واستهتروا بدينهم حتى تركوا الملحدين يأخذون منه
مآربهم، وينالون منه ويتطاولون عليه بحججهم الناصعة الواضحة القوية يريدون
هدم صرحه، أولئك الذين غفل عنهم المسلمون وتركوهم يعملون بنشاط حتى تغلبوا
على الإسلام؛ وذلك مما دفعني لأن أقف موقفي هذا راجيًا من حضرة الأستاذ أن
يُدلي بواضح حججه وبيانه مجيبًا على ما سأقدمه من الأسئلة، ولا أريد تخلصًا من
الإجابة فقد تخلص مني الكثيرون لقلة اطلاعهم) .
(هنالك نظرية علمية حديثة ظهرت في القرن الماضي وشاعت الآن في
جميع أنحاء العالم لما لها من حجج وأدلة لا يمكن أن يخطئها أحد، تلك هي نظرية
التطور التي تقول: إن جميع الأجناس ترجع إلى أصل واحد، قامت هذه النظرية
وناقضت نظريتنا وهي نظرية (الخلق الإلهي)
(1)
هل خلق الله جميع الكائنات في عصر واحد أم استمرت عمليته إلى
عصور متفاوتة؟ وهل لا يزال الخلق مستمرًّا؟
(2)
ما معنى وجود حفريات جيولوجية مشابهة لحيوانات موجودة الآن مثل
(أوفبوس) Evobeppus التي تشبه الحصان، والهومتدرتال التي تشبه الإنسان
الحالي؟ وهل هناك صلة ما بين هذا الحصان مثلاً والحيوان الذي يشبهه مثل
الصلة بين الحصان والبغل؟
(3)
ما معنى وجود أعضاء في جسم الحيوان أو النبات لا وظيفة لها مطلقًا،
بل قد تكون هذه الأعضاء مضرة في الإنسان أكثر مما تفيده؟
(4)
ما معنى قدرة بعض الناس على حركة آذانهم وعجز الآخرين عن ذلك؟
(5)
ما فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر؟
(6)
لماذا يمر الجنين بأطور مختلفة من الحياة: تراه في حداثته جرثومة،
ثم يصير مثل الأسماك، ثم مثل الزواحف.. إلى أن يصل إلى شكله النهائي؟
وهل هذا يدل على أن هناك علاقة بين الإنسان وتلك الحياة التي مر بها الجنين؟
وإن صح ذلك كان هذا أقطع دليل على صحة نظرية التطور. اهـ بحروفه.
إنني قبل الجواب أنصح لإخواني وأبنائي في السن من السامعين - على حفظي
لدرجاتهم في العلم والفضل - أن يكون غرضهم من السماع لما أقوله هو التعاون بيني
وبينهم فيما أوتينا من علم وبيان على تحقيق ما بين هذه النظرية، وما بين نصوص
ديننا من خلاف ووفاق على قاعدتنا التي نقررها دائمًا، وهي أن من معجزات
الإسلام أنه قد جاء به نبي أمي مر على بعثته 13 قرنًا ونصف، ولم تقم حقيقة
علمية قطعية تنقض نصًّا من نصوصه القطعية، ولا تنفي أصلاً من أصوله
الاعتقادية، وإياكم ثم إياكم أن تعدوا الكلام الذي ألقيه من قبيل المناظرات العلمية أو
المذهبية بين خصمين يكون هم كل منهما الظهور على خصمه، وتتبع عثراته
ومؤاخذته في تقصيره، وسيعلم من لم يكن يعلم أنه ليس بين نظرية الخلق
التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي، كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة،
وأن اليهود والنصارى الذين يدينون لله تعالى بقداسة التوراة لم يكبروا أمر هذه
النظريات ودلائلها كما كبرها حضرة الفاضل الذي كتب هذه الورقة، ولا عدُّوها
قطعية ولا أبطلت ثقتهم بالتوراة.
ولعله ما كبَّرها هذا التكبير إلا لحفز الهمة للعناية بها وإقامة الحجج البالغة
على تأييد الدين الذي هو مناط سعادتنا في الدنيا والآخرة، بعد هذا أقول:
(أولاً) إن الملحدين لم ينالوا من المسلمين ما نالوا (بحججهم الناصعة
الواضحة القوية) كما قال، بل لأنهم يتلقون الكفر عنهم قبل أن يعرفوا الإسلام
معرفة صحيحة، وبدون أن يتربوا عليه تربية عملية تغذي المعرفة الصحيحة،
فمنهم من يتعلم ويتربى في مدارس دعاة النصرانية التي أُسست لأجل هدم الإسلام
وتحويل أهله عنه إلى النصرانية أو إلى الإلحاد، وقد قال موسيو جول سيكار
الفرنسي في كتابه الحديث (العالم الإسلامي في الممتلكات الفرنسية) ما معناه أن
المسلم يتعذر أن يتحول عن الإسلام إلى النصرانية، فالطريقة المثلى لتنصير
المسلمين إيقاعهم في الإلحاد والتعطيل أولاً؛ حتى إذا ما أصبحوا بغير دين وزال ما
للقرآن من السلطان على عقولهم سهل حينئذ تنصيرهم؛ لأن البشر لا يستطيعون
أن يعيشوا بغير دين.
ومنهم من يتعلم في المدارس المصرية وأمثلها مدارس وزارة المعارف،
وليس فيها من التربية الدينية شيء حتى أن الصلاة لا تُقام فيها، وقد قل من يصلي
فيها حتى أن الذين يناط بهم تعليم الدين فيها وهم خريجو مدرسة دار العلوم صاروا
يتركون الصلاة إلا قليلاً، ولا سيما الذين استبدلوا الزي الإفرنجي بالعمامة والجبة
والقباء.
(ثانيًا) إن الملاحدة ما تغلبوا على الإسلام كما قال، وإنما تغلبوا على
بعض التلاميذ والأحداث من المسلمين الجغرافيين، فانتزعوهم من حظيرة الملية
الإسلامية لما لهم في هذا من المقاصد الدينية والسياسية التي يجهلها هؤلاء التلاميذ
وآباؤهم الأغبياء.
(ثالثًا) إن قوله: إن الحجج والأدلة على نظرية التطور لا يمكن أن يخطِّئها
أحد، مخالف للواقع، فقد خطَّأها كثيرون بحق وبغير حق.
الأجوبة المجملة عن أسئلته
أما السؤال الأول فجوابه أن النصوص تدل على أن الله تعالى خلق الخلق
بالتدريج على نظام مقدر في علمه، مثاله أن الله تعالى قال في سورة الانبياء {أَوَ
لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) الرؤية هنا علمية معناها أو لم يعلموا، والرتق المادة
المتصل بعضها ببعض، وهي التي عبَّر عنها في سورة فصلت بالدخان، وهو اسم
للمادة الرقيقة الخفيفة التي دون الماء ومنها بخار الماء ودخان النار وغيره مما
يسمى في الاصطلاح العلمي بالسديم والغاز، ومنه قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 10-11) .
والفتق هو الفصل بين أجزاء المادة، فهذه الآية توافق رأي علماء الكون في
هذا العصر كما هو ظاهر، ولم يكن رأيهم هذا مما يخطر في بال أحد من العرب
الأميين، ولا من غيرهم في ذلك العصر، وهي جديرة بأن تُعَدَّ من معجزات القرآن
العلمية عند الذين استنبطوا هذا الرأي من مباحث علمية دقيقة بعد بطلان نظرية
قدماء علماء الهيئة من اليونان وغيرهم.
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام،
وفي بعضها زيادة {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} (هود: 7) واليوم في اللغة
العربية هو الزمن الذي يُعرف أو يُحد بوقوع شيء فيه طال أو قصر، وقد قال الله
تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقال:
{تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج:
4) ومنه أيام العرب المشهورة في وقائعهم وحروبهم كيوم ذي قار ويوم أوارات
…
إلخ، فالمراد بأيام خلق السموات والأرض عصور تم في كل عصر منها طور من
أطوار خلقها وقد فصلت بعض التفصيل في سورة فصلت، وهذه الآيات تتفق مع
مذهب النشوء دون نص التوراة الذي أذكره إن شاء الله في البحث التفصيلي إن قُدِّر
لي كتابة محاضرة فيه. ويقول الله تعالى في خلق الإنسان: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ
مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون: 12) وقال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح:
14) فهو تعالى لا يزال خلاقًا عليمًا حكيمًا.
وأما السؤال الثاني فجوابي عنه أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات
الجيولوجية بعضها مع بعض ولا مشابهة بعضها لبعض الحيوانات الباقية، كما
أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات التي لم يوجد ما يدل على وجودها في
عصور طبقات الأرض القديمة، وسبب التشابه بين النبات الذي من فصيلة واحدة
أو فصائل مختلفة كالتشابه بين ورق الزيتون وورق الرمان، ومذهب داروين في
تعليل أمثال هذا التشابه لا يقوم دليل قطعي ولا قريب من القطعي على صحته،
وإن كان أكثر ما فيه من تعليل يعد إلى الآن أقرب من غيره إلى إثبات حكمة الله
تعالى في نظام خلقه، وإذا فرضنا وصوله إلى درجة اليقين لم يكن ناقضًا لنص من
نصوص الدين القطعية ما دام لا ينافي كون الله هو الخالق لذلك بهذا النظام.
وإنه ليوجد بين بعض الجماد وبعض النبات من التشابه، وبين بعض النبات
وبعض الحيوان من التناسب ما تحار العقول في سببه، ويمكن استنباط أسئلة
لا تحصى من هذه الأمور لا يمكن الجواب العلمي عنها {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ
قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
ومما يقال فيه على غير طريقة داروين: إن الخالق الحكيم المختار جعل من
آيات النظام في خلقه هذا التشابه وهذا الاختلاف بين أنواع المخلوقات، وجعلها
درجات بعضها أعلى من بعض في الأجناس والأنواع الدنيا والوسطى والعليا
تشترك في بعض مقوماتها ومشخصاتها، وتختلف بالفصول التي تميز بعضها من
بعض كما يقول علماء المنطق، وقد قال بعض علمائنا من قبل وجود داروين: إن
المخلوقات في جملتها من جماد ونبات وحيوان وإنسان ومَلَك تقوم بنظام متناسب ذو
درجات ترتقي من الأدنى إلى الأعلى، فأعلى أفق الجماد يتصل بأدنى أفق النبات،
وأعلى أفق النبات يتصل بأدنى أفق الحيوان، وأعلى أفق الحيوان يتصل بأدنى أفق
الإنسان، وأعلى أفق الإنسان يتصل بأفق الملائكة الذين هم الواسطة بين الخالق
تعالى وبين عباده في الخلق والأمر؛ ولكن هذا التشابه والتناسب بين هذه الدرجات
لا يقتضي أن يكون بعضها قد تحول عن بعض؛ وإنما تقتضي هذه الوحدة في نظام
الوجود أن يكون صادرًا عن خالق واحد عليم حكيم {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن
تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) .
وأما الجواب عن السؤال الثالث، وهو: ما معنى وجود أعضاء في أجسام
الأحياء ليس لها وظيفة؟ فأقول فيه أولاً: إن عدم علمنا إلى اليوم بأنه ليس لها
وظيفة ولا فائدة لا يقتضي عدم وجود ذلك وإمكان الوقوف عليه في وقت من
الأوقات، وأن يكون غير قول داروين بأنها أعضاء أثرية، وقد كان مجهولاً إلى
القرن الماضي، وثانيًا أن العلم بسبب وجود هذه الأعضاء وحكمتها ليس من علم
الدين الذي يُسئل مثلي عنه، وإني لأعلم مما أقرأ من مباحث علماء الكون في
الكتب والصحف أنهم يعترفون بأن ما يجهلون من أسرار هذه الموجودات أضعاف
أضعاف ما علموا منها، وأنهم كلما ازدادوا علمًا بكشف شيء جديد منها علموا من
جهلهم ما لم يكونوا يعلمون، كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
كلما أدبني الدهـ
…
ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا
…
زادني علمًا بجهلي
ويعجبني قول الدكتور يعقوب صروف في مقالة له في أعجب ما وصل إليه
علماء العصر من عجائب علم الفلك وغيره، أنهم لا يزالون مع هذا يجهلون كنه
حبة الرمل، ومخ النمل، علم واسع وجهل مطبق، يدل على سعة علم الخالق عز
وجل.
(وثالثا) يقولون: إنها كانت أعضاء تؤدي وظيفتها في طور من أطوار
الحياة للحاجة إليها فيه، ثم زالت هذه الحاجة فزالت الوظيفة كما يقولون في المِعى
الذي لا يهضم إلا النبات، وهذا - وإن صح - لا ينقض عقيدة من عقائد الإسلام،
ولا يعارض نصًّا من نصوصه القطعية، كما أنه ليس برهانًا قطعيًّا على تحول نوع
من أنواع الحيوان إلى آخر، ولا سيما الإنسان الذي هو سيد عوالم هذه الأرض،
وإن دارون وأمثاله من العلماء الذين عرفوا كثيرًا من أسرار خلقته الجسدية
الحيوانية، قد جهلوا ما هو أعظم منها من أسرار حياته الروحية والعقلية، وكذا
مزية النطق التي عدَّها الحكماء الأولون هي الفصل الظاهر المميز له على جميع
الحيوانات حتى القريبة الشبه الحيواني منه، ويصدق عليهم قول المتنبي في الخيل:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
…
وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وأما الجواب عن السؤال الرابع، وهو: ما معنى قدرة بعض الناس على تحريك
آذانهم دون بعض؟ فجوابه أن معناه أنه يوجد في الناس من يتمرنون على تحريك
بعض أعضائهم بأعمال بما يعجز عنها من لم يتفق له ذلك، والأقرب أن مسألة
تحريك الآذان من هذا القبيل، وقد يكون سبب سهولته على بعض الناس دون
بعض أن بعض أجدادهم كانوا يعيشون عيشة يحتاجون فيها إلى إصغاء شديد يؤثر
في الأذن. والاستدلال به على كون الإنسان كان حمارًا أو حصانًا أو قردًا، ثم صار
إنسانًا، وقد بقيت في بعضه هذه المزية من مزايا أصوله السابقة - استدلال ضعيف
وسخيف، فإذا لم تصل تلك التعليلات المعقولة في نفسها والمبينة من نظام الكون
وحكمة الخالق فيه ما ليس في غيرها إلى كونها دليلاً على نظرية التحول، فهل
يصح أن تدعم بتحريك بعض الناس لأذنيه؟ ولماذا لم يكن هذا التحريك عامًّا إذا
كان سببه ما ذكر؟ وإنني لما علمت بهذه المسألة منذ سنين كثيرة حاولت أن أمرن
أذني على الحركة، فصعب علي ذلك؛ ولكنني كررت المحاولة فحركتهما.
وأما جواب السؤال الخامس عن فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر
فهو ما قاله بعض أئمة سلفنا: من قال لا أدري فقد أفتى، وإنني لست من علماء
هذا الشأن، وقد قلت فيهم ما نقلته عن جمهورهم من أن ما يجهلون من أسرار خلق
الإنسان وغيره حتى حشرتي النمل والنحل أضعاف ما يعلمون؛ ولكن من استطاع
أن يقيم لي من جوابه عن هذا السؤال حجة أو شبهة على بطلان نص من نصوص
كتاب الله؛ فإنه يجدني مستعدًّا لدحض حجته، أو بطلان شبهته، إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: غوردون كاننج
الانتداب في البلدان العربية
بقلم الكابتن غوردون كاننج
آراء حرة حكيمة في إمكان الجمع بين مصالح الإنكليز والعرب ترجمت
بالعربية، ونشرت في جريدة العهد الجديد البيروتية خادمة القومية العربية منذ
أشهر، فاخترنا نقلها إلى المنار مع توجيه أنظار الدولة السعودية العربية إليها،
وهذا نصها:
كان من أعظم أسباب سقوط الإمبراطوريات القديمة إسراف القوة الرئيسية
تدريجًا بالتوسع المطرد في الممتلكات، ونرى في عصرنا هذا أن الإمبراطورية
الفرنسوية في خطر الانحلال لهذا السبب نفسه، إن مستشاري الإمبراطوريتين
ويلوح أنهم من طراز قديم (سابق لتاريخ البشر) ممن لهم خبرة بفنون الحرب
يصرحون أن الضرروة تقتضي بصيانة الممتلكات الموجودة بضم ممتلكات أخرى.
معلوم أن زيت البترول بات من أهم مطالب العالم في هذه الأيام، فأصبحت
موارده من الضرورات الأولية لكيان الدول العالمية، فالبترول إذا كان من العوامل
التي اجتذبت إنكلترا إلى العراق وفلسطين وإيران التي اضطرت بحكم أحوال
خصوصية إلى الانسحاب منها، ومتى كانت إنكلترة موطدة في العراق وفلسطين،
ففرنسا لا يمكنها أن تتخلى عن بقعة مجاورة ترتكز إليها وتتخذها قاعدة لحماية
مصالحها، وهذا ما بعث على عقد اتفاق (سيكس - بيكو) وتنفيذ هذا الاتفاق كان
مضرًّا بالاتفاق الذي عُقد بين الملك حسين والحكومة البريطانية مع أنه كان في
تاريخ سابق لاتفاق (سيكس- بيكو) ومما يدل على أن إنكلترة قد سلَّمت أنها حنثت
(في يمينها ونقضت عهدها) مع الملك حسين أنها أوجدت عرش العراق للملك
فيصل بعدما طردته السلطات الفرنسية من سورية.
وقد أثر ذلك تأثيرًا سيئًا في سمعة إنكلترا وهيبتها في الشرق الأدنى والشرق
الأوسط؛ لأن العناصر العربية أدركت أنها بيعت لمشترٍ أقوى وأقدر، فقد كانت
مقتضيات مواصلة الحرب أهم من كل شيء، وفوق كل شيء حتى أن الشرف
البريطاني ترك جانبًا وعُد من سقط المتاع، وكانت هذه الاتفاقات الحربية المختلفة
هي السبب الأكبر الذي جعل معاهدة فرساي وغيرها من المعاهدات شؤمًا وهولاً
وأسبابًا للقلق الحالي.
والغاية من مقالتي هذه أن أقترح علاجًا لمسألة بلدان الانتداب في الشرق
الأدنى والشرق الأوسط التي عانت هول تلك المعاهدات، وفي أي علاج يتناول
مصالح عدة أمم لا يمكن لأية أمة منها أن تكون راضية كل الرضاء، ولا بد من
مراعاة مبدأ الأخذ والعطاء من كل جانب.
وللبحث في هذه المسألة لا أرى من الضرورة الدخول في تفاصيل إدارة
شؤون بلدان الانتداب خلال السنوات الثماني الأخيرة؛ لأن هذه الوجهة من المسألة
كانت موضوع البحث في عدة جرائد ومؤلفات، فالغلطات التعسة والأخطاء
المحزنة التي ارتكبتها فرنسة وإنكلترة قد اعتُرف بها، وليست المصاعب التي جابهها
كلاهما مما يستحق العطف؛ لأنها من المصاعب التي أوجدتها إنكلترا وفرنسا، وقد
أصلحت إنكلترة جانبًا عظيمًا من أخطائها ولا سيما علاقاتها مع العراق، وأخذت
فرنسا بإرشاد المسيو بونسو تحاول إصلاح عواقب إداراتها الوضعية في سورية.
إن الغلطة الرئيسية التي ارتكبها كل من إنكلترة وفرنسة هي عدم العمل
بمقتضى البند الثامن والعشرين من عهد جمعية الأمم، وقالت المس هويت في
كتابها عن الانتداب ما يلي:
(أما إذا كانت هذه الرغائب قد نفذت، فأمر مبهم غامض، وأما إذا كان هنالك
لأولئك الناس رغائب جلية فأمر أغمض وأكثر إبهامًا، وبالحقيقة وواقع الأمر أن
أهل بلدان الانتداب لم يُستشاروا) والأسلوب الذي اتبع في هذه البلدان في تقسيمها
إلى دويلات أوجد على سطح الكرة الأرضية بلقانًا آخر، وهو أسلوب سقيم من
الوجهة الاقتصادية نظرًا للتعريفات الجمركية بين تلك الدويلات وعرقلتها لحركة
التجارة.
وبلدان الانتداب المعروفة بحرف (أ) هي كما يلي:
1-
العراق: وضع انتدابه في شهر إبريل سنة 1920، ووافقت عليه جمعية
الأمم في سبتمبر سنة 1924، ويبلغ عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة.
2-
سوريا: وضع انتدابها في شهر إبريل سنة 1920 ووافقت عليه جمعية
الأمم في يوليو سنة 1922، ويبلغ عدد سكانها 000،250،2 من المسلمين،
و000،40 من الدروز، و 000،400 من المسيحيين منهم 000،150 ماروني.
3-
فلسطين: وضع انتدابها في شهر إبريل سنة 1920، ووافقت عليه
جمعية الأمم في شهر يوليو سنة 22، ويبلغ عدد سكانها 000،75 نفس 87 في
المئة منهم عرب.
4-
شرقي الأردن: ويبلغ عدد سكانه 000،200 نفس.
وفي شبه جزيرة العرب بلدان تحت الحماية البريطانية وهي عدن وعمان
والكويت، وبلدان مستقلة وهي نجد والحجاز والعسير واليمن وحضرموت،
ومجموع عدد سكان هذه البلدان كلها يتراوح بين خمسة عشر مليون نسمة (هي لا
تقل عن 25 مليونًا) .
أما إذا كان إصلاح الانتداب قد وُضع على قاعدة المثل الأعلى أو ابتُكر
كمرادف للضم والتملك فليس من موضوع البحث في مقالتي هذه؛ ولكن الأرجح أن
جانبًا عظيمًا من عدد السكان المبين آنفًا متحد في مطالبه ورغبته في التخلص من
الوصاية الأجنبية وإن كان مختلف الأجزاء غير متفق على شكل الحكومة التي يجب
أن تحل محل حكومة الانتداب أو دولة الحماية.
فهل مقتضيات الإمبراطورية البريطانية تتطلب أن تكون إنكلترة في فلسطين
والعراق وشرقي الأردن؟ وهل من الضروري أن تكون فرنسة في سوريا؟
إن جواب البلدين [1] هو (نعم) فإذا كانت إحدى الدولتين في سورية لابد أن
تكون الأخرى في فلسطين والعكس بالعكس، وتقول إنكلترة: نعم لأدافع عن قناة
السويس ضد مهاجميها من الشرق، ولأدافع عن مصالح بريطانيا في بترول
الموصل والمحمرة، وتقول فرنسا: نعم لأدافع عن خط أنابيب البترول وسكة الحديد
المزمع مدها إلى الموصل وبغداد ومن كل منهما إلى حيفا وهذه الفكرة الثانية لتنمية
التجارة ومصالح الصناعات، ويتبعها ويترتب عليها الحماية العسكرية، وهكذا
تظل الدول الأوربية الإدارية تثير كتلة متجمعة من الرأي العدائي في تلك البلاد
التي قد تصبح بقوة الاتحاد قوة خطرة خطيرة، فالأفضل والحالة هذه الاعتماد على
عقل سكان البلاد، وعلى عهد صداقة يقوم على قاعدة التعاون التجاري والكسب
المتبادل.
السبب الأول يمكن درؤه باتفاق متبادل يعقد بين إنكلترة وفرنسا للانسحاب في
وقت واحد من سورية وفلسطين وشرقي الأردن، ولكن فرنسا تقول: محال عليَّ
أن لا أحمي الأقلية المسيحية، ونحن نرى اليوم أن هذه الأقلية المسيحية هي أيضًا
تطلب جلاء فرنسة عن البلاد.
وتقول إنكلترة: إن ذلك مستحيل، لا يمكننا أن ننسحب وندع الإسرائيليين
تحت رحمة العرب، والحال أن اليهود والعرب كانوا في عهد تركية عائشين معًا
في وفاق تام، وأن تصريح بلفور هو سبب الاضطراب الحالي بين العرب واليهود
وتأسيس هذا الوطن القومي لليهود لم يلق تعضيدًا حقيقيًّا من زعماء اليهود، فقد
أيدوا الفكرة عن غير طيبة خاطر ماليًّا وأدبيًّا، ولم يوافقوا قط على فكرة مغادرة
مَواطن إقامتهم للإقامة بذلك الوطن القومي.
وكان معظم المهاجرين من اليهود القاطنين في شرقي أوربا الذين ذاقوا الذل
والهوان، وعانوا الشيء الكثير من الاضطهاد والظلم، وقد برهنت الأيام على أن
الصهيونية صناعة خائبة عقيمة وجناية سياسية، فالصهيونيون المقيمون الآن
بفلسطين قد وُجدوا هناك بمساعي إنكلترة وجهودها، ولا بد من الاعتراف بهم
وحمايتهم ومساعدتهم.
يعتقد معظم الناس أن العرب يعجزون عن إظهار مقدرتهم بتقديم خطة إنشائية،
وأما أنا فأعتقد أنهم قادرون، ليس بناء على تاريخ عنصرهم الماضي فقط، بل
لما يحرزه أبناء العرب المهاجرون من النجاح الباهر في المراكز الصناعية
والتجارية العصرية في بونيس أيرس ونيويورك وغيرها من أنحاء العالم المتمدن،
وليس من الضروري الرجوع بالقارئ إلى الحكومات العربية السديدة الخطوات في
العهود الغابرة، وحسبي أن أقول: إنه في القرن الثامن بعد الميلاد في عهد الخلفاء
الراشدين [2] ببغداد كان في وسع التاجر المتجول أن يسافر من البصرة إلى دمشق
مثقلاً بالسلع والنضار بغير أن يعتدي عليه أحد، وفي عام 980 ميلادية كان
المسافر يقطع الشقة بين المهدية [3] والقاهرة بلا خوف ولا وجل من قطاع الطرق،
فإذا كان العرب قد استطاعوا في تلك الأيام تأمين الطرق بهذه الكيفية فمن الأكيد
المحقق أنهم قادرون على ذلك في هذه الأيام [4] ولا بد لنا من تسليم أنهم يحرزون
هذه المقدرة بالإرث، ولكن هل يحرزون الإرادة والعزيمة على إظهار هذه المقدرة؟؟
إن على العرب أن يبرهنوا على ذلك الآن، ولا يكفي أنهم شديدو الرغبة في
طرد المعلم من بلادهم فهذا لا يعدو سياسة الهدم؛ ولكن يجب عليهم أن يظهروا
مقدرتهم على التعمير والإنشاء.
أما فيما يتعلق بالمخاوف التي قد تتطرق إلى قلوب الإنكليز بأن الأقليات
المسيحية واليهودية لا تطيق الأغلبية الإسلامية، فلا بد من قول شيء في ذلك:
إن الأقليات المسيحية واليهودية كانت تُعامَل على الدوام خير معاملة في
البلدان الإسلامية إلى أن تأتي دولة أوربية وتستخدم تلك الأقليات لقلب الحالة كما
حدث في مسألة الأرمن والأتراك [5] ، نعم إنه في الأنحاء البعيدة المنعزلة من العالم
الإسلامي قد لا يخلو الأمر من تعصب ضد المذاهب الأخرى؛ ولكن هذا كان كذلك
بين مختلف الطوائف المسيحية، على أن زعماء العرب في هذا العصر وفي
العصور السابقة كانوا دائمًا يعملون على تلافي هذا التنافر وإصلاح ذات البين، فإذا
كان التعصب الديني قد أخذ مجراه في زمن من الأزمنة فقد كان المسلمون من غير
مذهب الحاكم ينالهم من الاضطهاد ما ينال المسيحيين، ومن الواجب أن تتخذ مبادئ
نجران كالمثل الأعلى للزعيم المسلم، وكلمة الإمام علي:(إن دم الذمي كدم المسلم)
هي أيضًا خير مثال.
واليوم نرى الموارنة في لبنان والمسيحيين العرب في فلسطين ومسلمي الشام
وفلسطين والعراق قد أخذوا يُعرضون عن الفوارق في المذاهب والعقائد، ويجنحون
إلى المثل الأعلى والمذهب العميم، وهو أننا جميعًا إخوان في الإنسانية، وأول
خطوة في هذا السبيل هي السعي إلى توحيد بلاد العرب، وقد أخذ أبناء العرب
المثقفون المتنورون في هذه الأيام يتطلعون إلى هذه الغاية، ويبثون الدعوة إليها في
عدة أنحاء، وزعماء العرب أدرى مني بالمنهج الذي يجب أن ينهجوه للحصول
على الوحدة العربية والتخلص من وصاية الأجنبي والتقدم الحثيث في التعاون مع
خير الطبقات الأوربية، وإني أقترح ما يلي على سبيل التجربة:
أولاً - المبادرة إلى عقد مؤتمر في القاهرة يُدعى إليه مندوبون من جميع
البلدان العربية.
ثانيًا - ينتخب هذا المؤتمر مجلسًا دائمًا يكون مقره في القاهرة أو جدة أو
الشام (ولما كانت القاهرة مركزًا حسنًا تتوفر فيها أسباب المواصلات مع جميع بقاع
الأرض العربية قد تكون لائقة لأن تصبح بمثابة جنيف للغرب) .
ثالثًا - على هذا المجلس الدائم أن يظل على اتصال وثيق بالبلدان العربية،
وأن يعمل على عقد مؤتمر كل سنة أو سنتين.
رابعًا - على هذا المؤتمر السنوي أن يتخذ الإجراءات اللازمة لإيجاد اتحاد
عربي، وأن ينتخب زعماءه ويتفق على زعيمه الأكبر.
خامسًا - تكون مهمته توحيد الأمة العربية ببث دعوة مبنية على الفطنة
والحصافة.
سادسًا - يجب وضع خطة للتعليم تمكِّن كل دولة في خلال الخمس عشرة
سنة المقبلة من الحصول على سبيل مطرد من الشبان المتدربين على فن الإدارة
الحكومية والعلوم والفنون والشؤون الصحية وما إلى ذلك.
فإذا استطاع العرب أن يصلوا إلى هذا التوحيد فيحتمل أن تتمكن إنكلترة من
رفع حمايتها عن جميع البلدان العربية عدا عدن، وأن تعقد معاهدة ومحالفة بين
سلطات الاتحاد العربي والإمبراطورية البريطانية، وإني أعتقد أن حلاًّ كهذا يكون
أفضل ضمان لسلامة المواصلات الإمبراطورية، وتوطيد أركان القوة في هذه
البلدان من الشرق الأوسط وتوحيدها بتخليص الإمبراطورية البريطانية من إنفاق
عدة ملايين من الجنيهات كل عام.
ويغلب على ظني أن العرب يجب ألا يتصوروا - وهم يتصورون - أنه يتسنى
لهم الوصول إلى هذه الغاية بغير مساعدة من الغرب، ويجب ألا يغرب عن بال
إنكلترة وفرنسة أن أمة تحت التدرب والتعليم لا يمكن أن تحرز المسئولية اللازمة إلا
بالممارسة والاختبار، وبهما دون سواهما تتعلم هذه الأمة اجتناب الأخطاء والوصول
إلى مستوى مرضٍ من الحكم الذاتي.
وزعامة الدعوة إلى الوحدة العربية يجب أن تخرج من دمشق، وربما قبل
مضي وقت طويل يعود العالم العربي إلى ازدهاره ويناعته، ويدهش العالم بثقافته
وعلمه كما كان في سالف الأحقاب.
وما هو تأثير هذا كله في إنكلترة فيما يتعلق بالإمبراطورية البريطانية،
الجواب عن ذلك من الوجهة السلبية أنه يوجد القوة العسكرية في مركز واحد،
ويقلل من تبعة التورط، ويؤدي إلى اقتصاد المال، ومن الوجهة الإيجابية
الابتكارية يضم جميع العنصر العربي إلى دائرة الصداقة الخالصة، ويوجد زبائن
أقوياء أغنياء بالتقادم في المعيشة المصرية وبالتعاون التجاري الوثيق مع الغرب،
وحيث كان زبون واحد في الماضي يقوم اثنا عشر زبونًا جديدًا محله.
إن مشروعًا هكذا يتطلب وقتًا للنضوج؛ ولكن الوقت لا يجدي ولا يغني فتيلاً
إذا كان زعماء العرب في هذا العصر لا يعدون التربة ويتعهدونها بسماد العقل
والفطنة وينثرون فيها بذور الاتحاد والوئام.
لإنعاش هذا المشروع وإبلاغه طور الإزهار والإيناع يجب أيضًا أن تنقى
أرضه من الأعشاب البرية، وأن يروى ويسقى ليس بمساعي زعماء العرب
الشجعان فحسب، بل بمساعي الأوربيين أيضًا، ولا سيما رجال الإنكليز ذوي
البصيرة النيرة والنية الحسنة.
ولكي ينتج هذا المشروع خير النتائج من الضروري الحصول على تعضيد
إنكلترة ومعاونتها، فللعرب أن يقتبسوا العلوم عن الألمان والفنون عن الفرنسويين؛
ولكن العلوم السياسية، وفن معاملة المذاهب المختلفة، وتحمل الفوارق الدينية
وواجبات الشرف والنزاهة يجب أن يتعلموها من إنكلترة ومن الرجال الإنكليز.
وقد يطول العمر على ثقافة إنكلترة وتبقى مكرمة محترمة مرغوبًا فيها خلال
أجيال كثيرة مقبلة، ويكون مثلها في هذا العصر مثل ثقافة الرومان والعرب من قبل.
وأختم مقالي هذا بكلمات أوناموتو: إني أقصد الحث وإذكاء وطيس الحماسة
والاقتراح لا الإرشاد والتعليم.
نعم يجب الوصول إلى اتفاق متبادل بين فرنسا وإنكلترة تتفقان فيه على
سحب كل شيء فيه شبهة للعسكرية من سورية وفلسطين وشرق الأردن، وأن تقدما
للبلاد خبراء لتنمية فن الإدارة الحكومية والفنون والصناعات عندما يطلب منهم
العرب ذلك بأنفسهم.
والحامية البريطانية التي تُسحب من مصر وفلسطين يمكن أن تعسكر لمدة 15
سنة في جوار بورت فؤاد بعد استئذان الحكومة المصرية، فتكون منها قوة مركزية
متأهبة في أية لحظة للدفاع عن مصالح بريطانيا العظمى في شرقي البحر الأبيض
المتوسط وللتعاون مع الحكومة المصرية على حماية القناة ودرء الاعتداء على حرية
الشعب المصري.
ولكن قبلما يتسنى نقل هذا الاقتراح إلى حيز الفعل يجب على العرب أن
يمدوا أيديهم للعمل، ويقدموا برهانًا حاسمًا على استطاعتهم إيجاد مشروع ابتكاري
يتسنى به ملافاة حدوث الفوضى عندما تنسحب القوات البريطانية والفرنسوية من
البلاد، فعلى نواب العرب أن يقدموا مشروعًا يبينون به ما يلي:
1-
أنهم أهل لإدارة شؤون بلادهم بأنفسهم، وأن الانتداب غير لازم.
2-
أن جميع المشروعات التجارية مثل سكك حديد بغداد - حيفا، ومنابع
البترول في الموصل والمحمرة تقدم لها التسهيلات اللازمة لترقيتها وإنمائها وأن
يسمح للمشروعات الأوربية بالاشتراك مع المشروعات العربية أن ترقي مؤهلات
البلاد التجارية والصناعية تحت شروط عادلة مرضية للجميع.
3-
أن تستطيع الحكومات العربية تقديم الضمان الوافي لتأمين معاملة الأقليات
المسيحية في سورية، والأقلية اليهودية في فلسطين، وتنفيذه. وأن تمنح الوطن
القومي اليهودي قسطًا معينًا من الحكم الذاتي، وهذا الوطن القومي يجب أن يكون
مثالاً مصغرًا لمركز روحي تثقيفي فقط.
4-
أن يستطيع زعماء نواب العرب أن يقدموا برهانًا حاسمًا على موافقتهم
على إنشاء اتحاد دول عربية تحت سيطرة ابن سعود إذا كان ذلك ممكنًا.
(المنار)
هذا كلام كله حسن لو أيَّده العمل من جانب إنكلترة وفرنسا! وأما
زعماء العرب فإنه يسهل عليهم كل ما اقترحه الكاتب المنصف عليهم، ولعلهم
عندما قرأوه تبادر إلى أذهان أكثرهم المثل (اقرأ تفرح جرب تحزن) وإن كانوا
يعلمون أنه خير لهم وللدولتين معًا؛ لأن الوحدة العربية المشار إليها لابد أن تكون
لأن جميع أهل الرأي والمكانة في الأقطار السورية والعراقية والحجازية والنجدية
متفقون على بذل الأنفس والنفائس في سبيلها، فإن لم يوجد في عقلاء الدولتين
أحدهما أو كلتيهما من يواتيهم على ذلك بالسلم والمودة، فسيكون سببًا لسفك دماء
غزيرة وإضاعة ملايين كثيرة {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
_________
(1)
يعني أن جواب الدولتين معًا أن وجود كل منهما في موضعها يقتضي الأخرى؛ لأن مقتضى الشركة في الحرب الاشتراك في الغنيمة، وفي انفراد إحداهما غبن وخسار للأخرى، وذكر بعد هذا الجواب المشترك ما تقوله كل منهما في الاحتجاج لنفسها، ومنه ما تدَّعيه أو تُوجِده من الشقاق بين الأقلية والأكثرية من الأهالي لتبني عليه أن العدل والرحمة توجب عليها أن تبقى في البلاد لمنع القوي بكثرته من ظلم الضعيف بقلته! والحال أن هذه الدعوى إن صحت تكون من دفع الظلم القليل المحتمل بالظلم الكثير العام المحقَّق، وهو ظلم جميع أهل البلاد باستذلالهم وسلب استقلالهم والتصرف في رقبة بلادهم! ! .
(2)
لعل الأصل (العباسيين) لأنه هو الصواب.
(3)
بلد بتونس.
(4)
هذا الدليل القياسي الصحيح مستغنى عنه الآن بتأمين الملك السعودي ما بين خليج فارس إلى الأحمر، مثل ذلك التأمين أو أشد وأكمل، وهو ما لم تصل إلى مثله فرنسة ولا إنكلترة.
(5)
مازلنا منذ أنشأنا المنار نبين أن هذا التعصب لم يكن العرب يعرفونه في عصور الدول العربية؛ وإنما أوجده الأعاجم ولا سيما الإفرنج، وكل ما جهر به نصارى لبنان وحكومتهم من ذلك في هذا العهد، فالفرنسيون هم الداعون لهم إليه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة
في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
(في كلية الحقوق من الجامعة المصرية)
- 3 -
رأي الآنسة هانم محمد
نهضت الآنسة هانم محمد الطالبة في كلية العلوم لتأييد الأستاذ محمود عزمي
في وجوب المساواة [*] ، فصفق لها الجمهور تصفيق الترحيب والتكريم، فشرعت
في قول كان مكتوبًا واضطرت إلى الخروج عنه أو الزيادة فيه للرد عليَّ، فكانت
مظهر الأنوثة المهذبة في خشوع الصوت ولين القول وضعف الحجة، وحكاية
الأقوال المشهورة في الموضوع، كقولهم: إن النساء نصف الأمة، فإذا مُنعن من
العلم والعمل كالرجال كان هذا المنع قضاء على نصف الأمة بالشلل، وحينئذ يتعذر
عليها العمل، وضربت مثلاً قول الغربي للشرقي: (محال يا صاحبي أن تلحقني
وأنا أسير إلى المحطة متكئًا على ذراع زوجتي، وأنت تسير حاملاً زوجتك على
ظهرك) .
واحتجت أيضًا بمساواة نساء الفلاحين لرجالهم في جميع الأعمال الزراعية،
ومثل هذا وذاك ليس في شيء من وجوب المساواة التي هي موضوع المناظرة،
وإن أُخِذ على ما صوَّرته به، فجُعل من القضايا المسلّمة، فالآنسة كانت بحالها
ومقالها وجدالها آية بينة على تفاوت استعدادَيْ الذكر والأنثى وعدم جواز تساويهما
في جميع الحقوق والواجبات.
وأحسن ما قالته بداهة، وألطفه في الجدال موقعًا، وأدله على ثبات الجأش
وتعود محاورة الرجال كلمة لها أزالت بها سوء تأثير كلمة قبلها استنكرها السامعون
منها فابتدروها يتنادرون عليها، فصاح بهم رئيس الجلسة صيحة منكرة ورفع
عقيرته بعذلهم والتثريب عليهم، وإننا نشير إلى هفوتها ألطف إشارة، ليدرك
القارئ حسن موقع تلك العبارة.
ذلك أنها أرادت أن تحتج على وجوب المساواة في الحقوق والواجبات
بالمساواة في القوة والحواس والملكات، فذكرت المساواة في الأعضاء، بعبارة
ساذجة تسيغها غرارة العذراء، دون أبناء البلد من الأدباء، إلا أن تكون بحضرة
النساء، وكأن الذين اضطربوا لها، وتهامسوا يتنادرون عليها، قد راعوا عقيدتها
ومذهبها في مساواتهم، فجعلوها كواحد منهم؛ ولكن رئيس الجلسة خالفهم في ذلك
واشتد في الإنكار عليهم كما تقدم، وهذا دليل على أنه لا يرى وجوب المساواة
المطلقة ولا جوازها.
وبعد أن سكنت الزعازع، وسكت المنازع، جهرت الفتاة بكلمتها ملقية إياها
بهدوء وسكينة وهي (لو كنتم معتادين على الاختلاط لما حدث مثل هذا الضجيج)
وإنما يصح هذا القول في الرجال الذين اعتادوا مخالطة النساء وهم يعتقدون أن ما
بينهم وبينهن من الفرق - بل الفروق - في المدارك والعواطف وغيرها لا يبيح لهم
من الحرية في حضرتهن ما يستبيحونه عادة فيما بينهم، ولعمري إن الرجل الذي
يتفق له حضور مجلسهن وهو غير معتاد له لأجدر بالأدب والحياء فيه من غيره؛
وإنما ترجُّل المرأة ومزاحمتها للرجل فيما يعده من خصائص الرجال هو الذي
يُذهب كرامتها النسائية من نفسه حتى يظهر ذلك في معاملته لها، وقد حدَّثونا عن
ظهور هذه المعاملة لهن في أوربة في هذا العهد الذي قوين فيه على مباراة الرجال
في الكسب، وزاحمنهم بالمناكب بما اضطرتهم إليه ضرورات الحرب،
وللضرورات أحكام تُقَدَّر بقدرها، ولا يجوز أن تتجاوزها فتُجعل أصلاً دائمًا.
كتب بعضهم مقالاً في استقلال المرأة الغربية الاقتصادي الذي انتزعت به حق
الاستقلال السياسي، فصارت ترى نفسها مساوية للرجل في كل شيء قال فيه:
(يدهش الرجل الشرقي منا إذا زار أوربة، وكان يسمع أن المرأة عندهم محل كل
تبجيل واحترام- يدهش إذ يرى في قطار مزدحم امرأة تفتش عن محل خال فلا
تراه، والرجال من دونها قعود لا يخلون لها محالهم) أي خلافًا للمعهود معهن من
قبل ولا يزال معهودًا عندنا من إيثار الرجل المرأة على نفسه في مكان جلوسه.
ثم إن الآنسة طفقت تردُّ عليَّ حتى في إنكار سباحة النساء مع الرجال
ورقصهن معهم، وكان خيرًا لها لو لم تفعل، بل كان خيرًا لها وأليق بها أن تقول:
إن هذا إسراف من الفريقين في الشر، ونحن إنما نريد المساوة في العلم الصحيح
والعمل النافع للأمة، وإن أطلقته وجعلته عامًّا.
وأما الطلاق فقد ذكرتْ في الرد عليَّ أن الرجل كثيرًا ما يرسل إلى المرأة
كتاب طلاقها وهي لا تدري له سببًا، وأنا لا أنكر وقوع هذا وقبحه؛ ولكني أقول
لو أعطيت المرأة حق الطلاق أيضًا، وهي أكثر من الرجل انفعالاً وأسرع هربًا مما
يسوء إذا استطاعت إليه سبيلاً - فإن هذا الطلاق القبيح الضار يتضاعف أضعافًا،
وهو مخرب البيوت، ومقطع سلك النظام.
رد شوكت أفندي التوني
ولما انتهى وقت الآنسة هانم محمد نهض الشاب الأديب شوكت أفندي الطالب
في كلية الحقوق فاستقبله الشبان بتصدية الفتوة والقوة؛ لأنه من أفصحهم لسانًا،
وأقواهم جنانًا، فاستهل رده عليها بأسجاع فصيحة بدأها بذكر ما كان من عادته
وآدابه في تكريم النساء ومقابلته لمن تلقاه منهن بالاحترام والود، ونثره بين يديها
زهر النرجس وورق الورد (وكأنه ذكر ورقه دون زهره اجتنابًا لشوكه وإن كان
هو نفسه شوكة وردية) وأنه لما رآهن قد شببن عن طوقهن، وخرجن من قرارة
ضعفهن وضؤولتهن، اضطر أن يصارحهن بحقيقة حالهن.
وما كاد ينطق بهذه الألفاظ حتى استشاط الرئيس غضبًا، وألقى عليه من
سماء الرياسة شهبًا، وحرَّم عليه أن ينطق بمثل هذه الألفاظ التي تخدش منهن
ملمس الكرامة، فاعترض عليه كثير من الشبان، وعدُّوا هذا المنع تحكمًا منافيًا
لحرية الكلام! فأجاب بأنه يحترم الحرية كل الاحترام، بشرط أن لا تمس الكرامة،
وتعد من الإهانة.
ثم عاد الخطيب إلى سياق دفاعه، مصرحًا بطاعته لحضرة الرئيس في
أسلوبه مع إصراره هو على رأيه، وطفق يرد على الدكتور عزمي أولاً فبيَّن أن
العلماء والأطباء متفقون على أن المرأة أضعف من الرجل جسمًا وعقلاً وأعجز عن
إتقان الأعمال ولا سيما الشاقة، وأن النابغات منهن لا يبلغن شأو النابغين من
الرجال ولا يقربن منهم، ولما شرع في التفصيل بدأ بذكر من تولين الملك والحكم،
فعارضه الرئيس بما بدأ به من وصف مذموم لهن، رأى أنه لا يليق ذكره في ذلك
المجلس الذي يحضره جماعة العقائل والأوانس، وهذا مبني على عدم جواز
المساواة بين الرجال والنساء، فهو يتضمن ترجيحه لرأينا، وإن استنبط بعض
الحاضرين من جملة مسلكه أنه كان علينا لا على الحياد، وقد كلمني بعضهم في
ذلك فلم أوافقه عليه، فانا موافق للرئيس شعورًا ووجدانًا على تقييد حرية اللسان في
مجالس النساء، بحيث لا يُذكر فيه كل ما يُذكر عادة في مجالس الرجال، وإن كان
النساء يقبلن مثله وأكثر منه في مجالسهن الخاصة.
وأرى مع هذا الشعور الذي مكَّنته في نفسي التربية والعادات أن النساء
اللواتي يدّعين مساواة الرجال ويناظرنهم في ذلك ويزاحمنهم بالمناكب، لا يكرهن
أن يقال على مسامعهن كل ما يقال على مسامعهم، وأن من تكره منهن ذلك أو ترى
فيه امتهانًا لها لا ينبغي لها أن تكون مترجلة ولا طالبة مساواة، ولا تعذر في
مطالبة الرجل بهذا الأدب معها، ولا في لومه على تركه وحسبانه إهانة لها.
وجملة القول إن شوكت أفندي ما جاء شيئًا فريًّا في مناظرته، ولا خرج عن
حد المعقول في نظريته، ولا تعدى قوانين علمه (الحقوق) في مرافعته، وإنما
خالف فيها شعور الذين يبالغون في التفرقة بين الرجال والنساء، ومذهب الذين
يحرِّمون تمزيق الحجاب بينهما ولا يبيحون المخالطة المطلقة حتى في الرقص
والسباحة والسياحة والخلوة عملاً بحكم الدين فيهن، وصيانة لأمزجتهن الرقيقة
وعواطفهن الدقيقة عن مهاب الأهواء التي يخشى عليهن من عواقبها ما هو شر
وأدهى وأمر مما يخشى على الرجال، وإنما خالف هذا الشعور وهو من أهله،
وخرج عن جادة هذا المذهب وهو مذهبه ليقنع طوالب المساواة المطلقة وأنصارهن،
أنها شر لا خير لهن، وأن أنصارهن لا يطيقون احتمال عواقبها فضلاً عنهن،
وإلا فلماذا أنكروا على جمهور الشبان انتقاد هفوة الفتاة وهم يعترفون بأنها هفوة،
ولم يعذروا الفتى فيما أداه إليه اجتهاده من جفوة؟
وأختم هذا الوصف الإجمالي للمناظرة بانتقاد لجنة المناظرات في الجامعة
على تقصير وقت المتناظرين في الموضوعات الكبيرة، ذات القضايا الكثيرة، مع
عدم حصر الموضوع وبيانه لكل منهما قبل الدخول فيها، وقد اضطر الرئيس
الحافظ للنظام في مناظرتنا إلى منع السامعين من بيان آرائهم في تأييد كل منا
لضيق الوقت، وضياع طائفة كبيرة منه في الإخلال بالنظام، وسأتكلم في سائر
فصول هذا المقال في تفصيل ما أجملت من المسائل كما وعدت.
- 4 -
تأثير المناظرة والآراء فيها
لخَّصت في مقالاتي الثلاث الأولى ما دار في مجلس المناظرة، ثم عرض لي
من الشواغل ما صرفني عن الشروع في التحقيق التفصيلي الذي اقترحه علي بعض
طلاب الجامعة النجباء، ولا سيما طلاب كلية الحقوق منهم، وقد زارني في هذه
الأيام بعض الأفاضل من أستاذي المدارس الثانوية والعالية وغيرهم شاكرين
ومهنئين بالفلج والظفر في نصر الحق على الباطل، والدين على الإلحاد،
ومستحسنين لنشر الموضوع في جريدة كوكب الشرق، ومقترحين لنشره في المنار
أيضًا، وجاءتني مكتوبات وبرقيات في ذلك في بعضها إطراء لي وإغراق في
الطعن والزراية على مناظري، ورأيت من المتكلمين معي في ذلك من يعتقدون أن
هذه المناظرة كانت ممالأة مدبرة من دعاة الإلحاد والإباحة على الدين ورجاله،
أعدوا لها عدتهم، ولم يخبروني بها قبل موعدها بيوم واحد إلا لأخذي على غرة
حتى لا أجد وقتًا للاستعداد، ولا للاستشارة، ولا لدعوة من أعلم أنهم على عقيدتي
ورأيي، وهذا خلاف للمعروف والمألوف وللأدب أيضًا، وأنه لولا (طيبة القلب)
لما قبلت، وأنه كان ينبغي لي أن أدعو إخواني وتلاميذي لحضور المناظرة لتكثير
الأنصار وإن كان الوقت الذي أُعطي لي قصيرًا لا يتسع لرؤية كثير منهم أو
مخاطبتهم بالتيلفون - وأن أشترط إخراج الفتاة من المناظرة
…
إلخ.
قلت لأخلص أصدقائي من هؤلاء الذين كلموني في مكتبي: أما إجابة الدعوة
بالقبول فلم يكن منه بدٌّ ولا عنه مندوحة بعد طبع اللجنة لرقاع الدعوة ونشر خبرها
في الصحف، لما يتوقع لردها من سوء التأويل، وكثرة القال والقيل.
وأما ما ذكرتم من التدبير والسعي من جماعة الملاحدة فمعقول، ومن دلائله ما
علمته علم اليقين من توزيع بعض أركانهم لرقاع الدعوة على من يختارون قبل أن
أراها وأن أعلم بموضوعها وموعدها، ومن براهينه ما صرَّح به مناظري بعد
انتهاء المناظرة لبعض أصحابه من أن فلانًا - من غلاة دعاتهم إلى ترك الشريعة
الإسلامية - هو الذي لقّنه ما قاله في مجلس المناظرة من أن بعض علماء الإسلام -
ويعني نفسه - يقولون: إن جميع أحكام المعاملات الشرعية يجوز للمسلمين تركها إذا
رأوا ذلك من مقتضيات الزمان والمكان، وأما الذي لا بد منه في الإسلام فهو
العبادات فقط، ولا يبعد أن يكون من آيات ذلك أنهم لم يرسلوا لي إلا عشر رقاع
من رقاع الدعوة، بناء على أن حضور المناظرة مباح لا يتوقف على حملها، وقد
أعطيت بعضها لبعض من قبل من أعضاء مجلس إدارة الرابطة الشرقية عندما
أُلقيت إليَّ (وعلمت أن بعضهم كان يحمل طائفة منها! !) وبقي سائرها عندي إلى
الآن.
هذا وإنني بعد أن عدت من نادي الرابطة الشرقية إلى الدار رأيت فيها ورقة من
بعض طلبة الأقسام العالية في الأزهر الشريف يطلبون مني أن أضع لهم في مكتبة
المنار طائفة كبيرة من تلك الرقاع ليحضروا المناظرة مؤيدين لي لعلمهم بأنني
أنصر الدين وما شرعه الله تعالى للناس - وكانوا قد أرسلوا إلى المكتبة بعض
إخوانهم لطلب الرقاع قبل أن أعلم بخبرها، على أنني لم أترك لهم شيئًا من القليل
الذي بقي معي.
ولعل من آيات ذلك التدبير ما ظهر عند أخذ بطائق التصويت ممن حضر
المناظرة من الأزهريين على قلتهم وغيرهم أن أكثرهم لم يُعطوا منها شيئا، ويمكن
الرد على هذا الاحتمال بأن رئيس الجلسة خاطب جمهور الحاضرين على مسمع منا
بأن من لم يكن أخذ منها قبل المناظرة يمكنه أن يأخذ بعدها، ولكن تبين أن هذا لم
يكن ممكنًا.
وأما طعن من ذكرت آنفًا على محمود عزمي أفندي نفسه بالإلحاد وسوء النية
فقد شاركهم فيه كثيرون من طلبة الجامعة الذين مشوا معي بعد الخروج من مجلس
المناظرة، وطعنوا في أستاذ آخر من إخوانه ومدرسي الجامعة وناقشهم في ذلك
بعض الطلبة من القبط، وأنكروا عليهم رميهم للأستاذين بسوء النية وكونهما
يتقاضيان على الطعن في الإسلام أجرًا، فرد عليهم الطلبة المسلمون بقولهم: وماذا
يعنيكم منا في دفاعنا عن ديننا وأنتم أقباط لا علاقة لكم بذلك؟
مع هذا كله ومع العلم بأن بعض الجرائد الإفرنجية انتصرت للأستاذ محمود
عزمي أفندي عليَّ، وطعنت على الجمهور الذين أيدوني بما يطعن به الإفرنج على
كل مسلم معتصم بدينه - مع هذا وذاك لا أزال مصرًّا على ما كتبته من إعجابي
بحرية الرجل وصراحته وإنصافه فيما صرح به أمامي وأمام غيري من الثناء علي
والإعجاب بما قلت في الرد عليه، ومنه قوله لي على مسمع من صاحب جريدة
كوكب الشرق، وعبد الخالق باشا مدكور، وعبد الله بك البشري في إدارة الكوكب:
إننا نبالغ فيما نطلب للنساء من الحقوق في مقابلة ما نعلم من مبالغة رجال الدين في
هضم حقوقهن لنصل إلى الاعتدال الذي يقول به مثلك، أو نحن نعلم أنه لا سبيل إلى
إجابتنا إلى كل ما نطلب لأنه من المحال - أو ما هذا مؤداه.
نعم لقد أكبرت من إنصافه في هذا المقال، وزاد إعجابي به ما علمته من أنه
قال هذا أو ما يقرب منه في مجالس أخرى، ومنه ما كتبه عنه صديقه صاحب
جريدة الشورى الغراء، فقد كتب في العدد الذي صدر في 15 شعبان (ويناير)
خبر المناظرة، وكان من حاضريها ثم قال في آخر ما كتبه:
(وجاء الأستاذ عزمي ثاني يوم الاجتماع إلى إدارة الشورى مسرورًا مبتهجًا،
فقلنا وكيف تُسر وقد انتصر عليك السيد رشيد بالأمس؟ فقال إنني لم أستغرب
هذا وكنت أتوقعه؛ ولكنني طلبت للمرأة كل شيء ليصرِّح رجال الدين الإسلامي
للمرأة ولو ببعض الشيء، وقد رأيت أن السيد رشيد كان عظيمًا جدًّا في رده علي،
إذ أنه أجاد وأحسن، وكان مثلاً لمشايخ المسلمين، ولولا الضجة التي قامت في
النهاية لألقيت كلمة في الثناء عليه) اهـ. فأنا أثني على نيته هذه كما أثنيت على
كلماته المنصفة، وما رأيت له شبهًا في دعاة الإلحاد إلا زعيمهم السابق الدكتور
شبلي شميل، فقد كان يعترف بما يظهر له من الحق في المسائل ولو كان مخالفًا
لرأيه، وأما الإلحاد فهو مجاهر بشر أنواعه وهو التعطيل المطلق لا نبذ الشرائع
الإلهية فقط، ويروى أنه لما سأله رجال الإحصاء عن دينه قال اكتبوا (لا ديني)
ويقال إن زوجه اليهودية الأصل مثله.
وقد كثر كلام الناس في رئيس الجلسة النائب المحترم توفيق أفندي دياب
أيضًا فانتقدوا شدته وحدته في الإنكار، وضعفه في حفظ النظام، ورموه بالمحاباة
للفريق الموجب لمساواة النساء بالرجال بما حباه من عطف، على الفريق السالب
بما قابله به وقابل مُظهري الميل له من عنف.
فأما الشدة والحدة، فقد اعتذر هو عن بوادرها في الجلسة، وأما الضعف في
حفظ النظام الذي أثار الشدة والحدة، فسببه شذوذ كثير من حاضري المناظرة في
إظهار ما استحسنوا وما استهجنوا بما لا يبيحه النظام في أثناء المناظرة، وعدم
طاعتهم له بما به أمر من معروف، وما نهى عنه من منكر، فمن لم يسمع منهم
نئيم جرس المدرسة الصغير الذي كان يدقه بيده، فقد صخ سمعه جرس صوته
الخارج من حنجرته؛ وإنما سبب هذا الشذوذ كثرتهم وقلة حضور بعضهم لأمثال
هذه المناظرات في مثل هذا المكان، وعدم تعود ما يلزم فيها من نظام.
وأما المحاباة لخصمنا علينا وإظهار ضلعه معه فلا أوافق لامزيه بتوخيه له؛
وإنما كان الذي أظهره علنًا هو ما بينته من قبل من استنكاره الشديد لأي مغمز أو
ملمز للنساء جنسهن وأفرادهن، كاللائي ولين أمر المُلك في غابر التاريخ فيما
حظره على شوكت أفندي حظرًا باتًّا لا هوادة فيه، وهذا أدل على إنكار فطرته
وذوقه لمساواة النساء بالرجال منه على وجوب المساواة المطلق كما بينته في المقالة
الثالثة، وكنت أريد الاقتصار على ما تقدم في شأن المناظرة ورئيسها وخصمي فيها،
بيد أن كثرة كلام الناس فيها وكتابتهم أيضًا أوجبا عليَّ هذا البيان، وسأشرع غدًا
في التحقيق التفصيلي في الموضوع إن شاء الله تعالى.
التحقيق التفصيلي في موضوعات المناظرة
- 5 -
معنى الحق وموضوعه وأقسامه:
كتبت منذ أربع وعشرين سنة مقالة طويلة عنوانها (الحق والباطل والقوة)
نشرتها في (ج1 م9 من المنار الذي صدر في غرة المحرم سنة 1324) قلت فيها:
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع، والباطل هو ما لا
ثبوت أو لا تحقق له في نفسه، وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يمحق ما كان ثابتًا
متحققًا، كما هو الشأن في الموجود والمعدوم، والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا
مجال فيه لاختلاف العقلاء، إن يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية،
والدينية والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك
حق وباطل.
ثم بيَّنت أن الحق والباطل يتنازعان في الفلسفة والنظريات العقلية والوجود
والسنن الكونية (أي الطبيعية) والسنن الاجتماعية والقوانين والمواضعات العرفية
والدين والشريعة الإلهية، وفصَّلت القول في هذه الأمور الكلية تفصيلاً بالبينات
والدلائل.
والذي يقتضيه المقام من الكلام في الحقوق هنا أن ما جعله الله تعالى حقًّا
بالخليقة والفطرة لا يدخل في موضوع بحثنا ولا مناظرتنا؛ لأنه لا نزاع فيه كما
بيَّناه في ردنا على ما سماه مناظرنا (حق الوجود واستنشاق الهواء) ومنها ما جعله
الله تعالى حقًّا فيما شرعه لنا من الدين، وهذا لا يتنازع فيه اثنان ممن يدين الله
بالدين الذي جعله حقًّا ما داموا يؤمنون به؛ وإنما يجوز لهم التنازع فيما تختلف فيه
أفهامهم من أدلته إذا لم تكن قطعية كما سنبينه، ولهذا قلنا إن المناظرة التي دعينا
إليها مناظرة بين الدين والإلحاد، وما أجبنا الدعوة إليها على ما كان من شذوذ لجنة
المناظرة والخطابة معنا فيها إلا للدفاع عن الدين، وبيان علو حقه على باطل
الملحدين والمعطلين {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ *
لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ} (الأنفال: 7-8) وأما ما يُسمى
حقًّا بالعرف العام أو الخاص أو القوانين الوضعية فإن أهله يلتزمونه ما دام
الاصطلاح والعرف متبعًا والقانون نافذًا، وقد يكون في نفسه حقًّا بموافقته للمصلحة
وإقامة العدل، وعدم منافاته لهداية الدين وقطعيات الشرع، وقد يكون باطلاً
باشتماله على شيء من المفاسد أو الظلم، فتحسن المناظرة فيه للتمييز بين الحق
والباطل، وإقناع أهل العرف أو الحكومة الواضعة للقانون بالرجوع إلى ما يقوم
الدليل على أنه هو الحق، إذ لا يمكن تقرير الحق فيه إلا بإرجاعهما عن اقتناع،
فأما الحكومات فيسهل إقناعها على العالم بالأصول التشريعية التي تعتمد عليها في
وضع قوانينها، وأما الأمم فلا بد في إقناعها من معرفة عقائدها وتقاليدها ومراعاتها
في ذلك، على أن إرجاعها بالعقل عن عرف عام بمجرد إقامة الدليل على كونه
باطلاً أو ضارًّا غير ممكن فلا بد من الاستعانة على ذلك بالتربية والتعليم.
وأما الحق في النظريات العقلية والفلسفة فسبيله أدق، ومسلكه أعسر،
والاتفاق عليه أعز، والذين يقتنعون به أقل؛ وإنما تفيد هذه النظريات في التقوية
عند بعض الناس دون جمهورهم لما فيها من الخلاف وكثرة المذاهب، وكدورة
المشارب.
الحقوق العشرة المدعاة للنساء:
بعد هذا التمهيد أقول: إننا إذا لفتنا نظرنا عن تعبيرات مناظرنا الضعيفة،
ومؤيدته النحيفة فيما سماه حق الوجود واستنشاق الهواء، وحق الحياة في المجتمع،
وحصرناه في الحقوق الشرعية والعملية التي تقابل الواجبات، ألفيناه قد ادَّعى
للنساء الحقوق العشرة الآتية لتحقيق مساواتهن للرجال التي يدعي وجوبها، وهي:
(1)
رفع الحجاب وتمزيق الأستار (2) الاختلاط بالرجال بلا شرط ولا قيد
(3)
تعلم المرأة ما يتثقف به وتثقف غيرها (4) الاشتراك مع الرجل في تربية
الأولاد (5) الامتلاك بالإرث والكسب (6) المساواة بين الذكور والإناث في
الميراث (7) وجوب الاعتراف بما تشاء (8) جميع أعمال الحكومة ومصالحها
(9)
التصويت في انتخاب المجالس البلدية والتشريعية وغيرها (10) عضوية
هذه المجالس ورياستها، هذا ما قرره محمود أفندي عزمي؛ ولكنه أجمل القول في
الحقوق الانتخابية والتشريعية لانتهاء الوقت المحدد له كغيره.
إن بعض هذه الأمور حق لا نزاع فيه، وبعضها منكر دينًا وشرعًا وعقلاً
وأدبًا وقانونًا وعرفًا، وبعضها منكر في بعض هذه المناطات للحقوق دون بعض،
ومن العجيب أن مناظرنا الموجب للمساواة بين الجنسين ومؤيدته فيه لم يذكرا
الوظائف الطبيعية التي تخالف فيها المرأة الرجل فتكسبها من الحقوق ما ليس له،
وتفرض عليها من الواجبات ما لا تفرضه عليه كالحمل والولادة والرضاعة، ولم
يُلما بالسنن الاجتماعية التي هي قوام تكوين الأسرة التي هي قوام تكوين الأمة،
وهي تقتضي توزيع الأعمال المنزلية وغيرها بين النساء والرجال.
ولكن الشرع الإسلامي الذي هو نظام دين الفطرة لم ينسهما، فأعطى كلاًّ من
الرجل والمرأة من الحقوق وفرض عليه من الواجبات ما يناسب فطرته وقواه
البدنية والعقلية، وهما وأمثالهما من النساء الثوائر والرجال الثائرين على الدين
المطلق، يجهلون هذا الدين القويم وهذا الشرع العادل أصوله وفروعه.
ألم تر أن محمود عزمي أفندي، وهو من حملة لوائهم يقول: إننا نطلب للمرأة
كل شيء ليسمح لها رجال الدين ببعض الشيء، ويقول بعبارة أخرى: إننا نبالغ
ونغلو في حقوقها في مقابلة مبالغة رجال الدين في هضم حقوقها؟ وهو يخص
علماء الأزهر في هذا بالذكر، وإن لم ننقله عنه، وعلماء الأزهر لا يقولون إلا بما
في كتب المذاهب الأربعة المتبعة المشهورة، وهذه الكتب تبالغ في حقوق النساء
مبالغة لا يعد ما يقابلها من الواجبات عليهن فيها شيئًا، وسنشير إلى ذلك في محله..
وجملة القول إن الشرع الإسلامي قد أبطل كل ما كان عليه جميع أمم الأرض
من هضم حقوق النساء وإهانتهن واحتقارهن وأعطاهن من الحقوق ما لم يسبق له
نظير في دين ولا شرع ولا عُرف أمة من الأمم، وما لم يبلغ شأوه فيه قانون مدني
إلى هذا العهد، وإن هذا الغلو فيهن الذي ابتدع في هذا العهد شر لهن سيظهر فساده
الكبير وضرره الخطير بعد حين.
وإننا قبل بيان الحق التفصيلي في ذلك نقول كلمة في معنى الدين ووجه حاجة
البشر إليه، وما في الاعتصام به من المصالح، وما في ترك هدايته من المفاسد،
وما يهدد مصر من الخطر في دعاية الإلحاد والإباحة التي فشت فيها في هذا العهد،
وموعدنا المقالة الآتية.
هداية الدين وجناية الإلحاد
- 6 -
لا شك في أن الذين يدعوننا إلى المساواة المطلقة بين النساء والرجال حتى
في أحكام المواريث والطلاق، وإلى إباحة الاختلاط بينهما في كل شيء حتى
الرقص والسباحة في البحر - يقصدون بهذه الدعوة أن نترك ديننا وننبذه وراءنا
ظهريًّا، وربما كان هذا هو المقصد الأصلي لهم وكان ذاك وسيلة له أو مقصدًا
ثانويًّا؛ فإن هذه الدعوة ليست كدعوة أحد الفساق صاحبًا له إلى شرب الخمر أو
لعب القمار معه، أو دعوة أحد الأشقياء لآخر منهم إلى مساعدته على سرقة دار أو
قتل نفس؛ فإن كلاًّ من هذين الفاسقين يعلم أنه يدعو إلى شر محرَّم له فيه منفعة
متوهمة أو مظنونة، وقد يتوب من العودة إليها في يوم من الأيام، وربما تلومه
نفسه أو يحيك في صدره استقباح فعله في أثناء اقترافه له، وهو على كل حال لا
يدَّعي أنه يعمل حسنًا أو أنه يدعو إلى خير.
وأما أولئك الدعاة إلى مخالفة الدين حتى فيما هو قطعي من نصوصه،
ومجمع عليه بين أهله، فيدّعون أنهم يدْعون الأمة إلى ما هو خير لها وأصلح
لأمورها، وأنهم لا يريدون على ذلك جزاء ولا منفعة، ولا يصدقهم أحد من العقلاء
في هذه الدعوى؛ فإنهم يعلمون أنه لا توجد أمة من الأمم مجردة من الدين، بل
يعلمون أن الأمم الإفرنجية التي يوهمون الأغرار من الشبان والشواب أنهم يقلدونها
ويتبعون خطوات حضارتها - هي أشد أمم الأرض عصبية لدينها وعناية بنشره،
وأنهم ما أسسوا المدارس الكثيرة في بلادنا إلا لأجل دعوتنا إليه وإدغامنا فيه، وهم
يبذلون في سبيل ذلك الملايين من الجنيهات على جمعيات الدعوة إليه والتبشير به.
الدين هداية روحية، لا تتم تربية الأنفس على الأخلاق الكريمة والفضائل
وصدِّها عن الرذائل وتثقيفها بالعمل الصالح بدونه، لما سنشير إليه في هذا المقال
وطالما بسطناه في التفسير والمنار، وهم يبغون حرماننا من ذلك كله.
الدين رابطة من أقوى الروابط البشرية، وجامعة من أعظم الجامعات
السياسية، وفصل من الفصول المنطقية المقومة للشعوب التي يتألف منها أو ينقسم
إليها نوع الإنسان، ودين الإسلام أقواها في هذه الروابط والجوامع والمقومات،
فهو يهب كل فرد من أفراده ملايين من الإخوة الروحيين يعطفون عليه ويحنون إليه
في كل قطر من الأقطار التي يقيمون فيها كما جرَّبنا ذلك في سياحاتنا الواسعة،
وهؤلاء الدعاة إلى الإلحاد يريدون حرماننا من هذا كله.
الدين حاجة من حاج الفطرة البشرية، بل ضرورة من ضروراتها الاجتماعية،
بل غريزة من غرائزها النفسية، فإن اختلف بعض الحكماء في بعض هذه الثلاث،
فلن يتفقوا على إنكارها كلها، وقد قال حكيمنا الإسلامي المصري الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده قدَّس الله روحه في رسالة التوحيد: (فبعثة الأنبياء صلوات الله
عليهم من متممات كون الإنسان ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع،
منزلة العقل من الشخص) .
وجد أفراد من البشر في أمم مختلفة اهتدوا بعقولهم إلى كثير من الفضائل
والآداب ودعوا إليها وهم الذين يسمون الحكماء؛ ولكنهم لم يبلغوا من القداسة
والهداية أدنى ما بلغ الأنبياء، ولم تهتد أمة من الأمم وتصلح وتتهذب بعلوم أحد
منهم وفلسفته، كما اهتدت كل أمة باتباع رسول الله إليها ما دامت متبعة له،
وهؤلاء الملاحدة يتوخون إبعادنا عن هذه الهداية.
إن من أصحاب العلم الناقص كثيرًا من المعجبين بعلوم هؤلاء الحكماء
القاصرين عن إدراك علو رتبة الأنبياء عليهم، إذ لم ينقل عن الأنبياء من العلوم
والفنون الكسبية ما نُقل عنهم؛ ولكن الحكماء المهتدين بالدين الذين يعقلون ما له من
العلو والسلطان على العقول وعلومها الكسبية يدركون ذلك.
كان للفيلسوف الإسلامي الأكبر الرئيس أبي علي بن سينا (الذي لُقِّب المعلم
الثاني عند من يُلقِّبون فليسوف اليونان الأكبر أرسطو بالمعلم الأول) خادم ذكي
لزم خدمته في السفر والحضر لإعجابه بعلومه ومعارفه الواسعة، حتى إنه كان
يفضله على الرسول الأعظم ومصلح البشر الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم،
وكان لا يخجل من مصارحته بذلك ومكاشفته بتعجبه منه لاتباعه لمن يزعم هو أنه
دونه، فصبر عليه الفيلسوف إلى أن وجد فرصة لإقناعه بضلاله.
ذلك أنه كان في أصفهان في ليلة من ليالي الشتاء الشديدة البرد، فأيقظه من
نومه ليأتيه بماء يتوضأ به، فاعتذر لكسله وتألمه من البرد بأن الليل لا يزال طويلاً،
فأيقظه مرة ثانية فاعتذر، فأيقظه الثالثة في وقت آذان الصبح إذ كان المؤذن
يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله. وسأله: ما هذا الذي نسمع؟ قال: الأذان، قال:
ماذا يقول المؤذن؟ قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال له الرئيس حينئذ ما معناه:
لقد آن لي أن أفهمك الفرق بيني وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستمع لما أقول: إنني لم أر أحدًا من الناس معجبًا بي كإعجابك وأنت خادمي وأنا
أدعوك في داخل الدار لإتياني الماء المرة بعد المرة، وأنت تخالفني وتعتذر لي،
وهذا المؤذن الفارسي يقف في هذا البرد القارس في أعلى المنارة يشيد بالشهادة
لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة احتسابًا لوجه الله تعالى بعد وفاته بزهاء
أربعمائة سنة، فتاب ذلك الخادم المغرور وأناب؛ ولكن ملاحدة زماننا لا يتوبون
بمثل حجة الرئيس ابن سينا، ولا بما هو أنصع منها، ولا يعقلون سر سلطان
النبوة على الأنفس.
وأراني ههنا قد وجدت مناسبة قوية لبيان حقيقة يجهلها هؤلاء المغرورون
ببعض قشور الفلسفة التقليدية لبعض علماء الإفرنج، وهي أن الدين لم يكن له من
التأثير في هداية البشر وإصلاحهم ما ليس للعلوم والفلسفة البشرية إلا لأن مصدره
السلطان الإلهي الأعلى الذي هو فوق قوى البشر العقلية والحسية، ذلك بأن الإنسان
يشعر بغريزته أن كل ما هو تحت إدراك عقله ومشاعره فهو دونه، وهو لا يدين
لما هو دونه ولا لمن هو مثله؛ وإنما يدين لمن هو فوقه لا في شخصه فقط، بل
في نوعه وجنسه الأعلى ذي السلطان الغيبي الذي يشعر به وجدانه، ولا يحيط به
عقله وجنانه، وهو لا يتم تهذيبه وصلاحه بإقناع أمثاله من البشر له باتباع الحق
والهدى وترجيحهما على الباطل والهوى، إن أمكن هذا الإقناع، ووقع عليه
الإجماع، فكيف إذا اختلفت فيه الآراء، وعصفت بأهلها الأهواء، كدأب البشر في
كل آرائهم ونظرياتهم في الآداب والسياسة وشؤون الاجتماع، قلما يتفقون وقلما
يعملون بما يتفقون على حسنه إذا خالف شهواتهم النفسية، أو عارض مصالحهم
القومية أو الدولية؛ وإنما تذعن الأنفس البشرية للحق إذا كان إيمانًا وجدانيًّا، وتقف
عند حدود الفضائل إذا كان وضعها وحيًا إلهيًّا، وتطيع الأمر بالخير والنهي عن
الشر إذا كان الوازع فيهما نفسيًّا، ولا معنى للدين إلا هذا، ولهذا لا يكون إلا
وضعًا إلهيًّا، وقد وضع بعض فلاسفة أوربة قواعد جميلة معقولة سموها الديانة
الطبيعية؛ ولكن لم يتدين بها أي شعب من شعوبها ولا فرد من أفرادها.
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) يجب أن تعلم هذه الفتاة هي وأهلها أنها إذا كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه المساواة،
وتنكر حقية ما قرره الإسلام وحسنه، فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها ولا ترث المسلمين ولا
يرثونها.
الكاتب: طنطاوي جوهري
تفسير الشيخ طنطاوي
حضرة الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار:
قرأت ما كتبتموه تحت عنوان (تفسير الشيخ طنطاوي جوهري) وشكرتكم
على حسن ظنكم بما أفضتم من الثناء كقولكم ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا
وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلهم العلوم
…
إلخ) .
فهذا بعض ما أشكركم عليه؛ ولكني لا يتسنى لي أن أغض الطرف عما جاء
مخالفًا لما ذكرتم كقولكم (إنه لا يعول عليه في حقائق التفسير فإنه إنما يذكر شيئًا
مختصرًا منقولاً من بعض التفاسير المتداولة
…
إلخ) ما ذكرتم بعدما قلتم (ويعتقد
حقًّا أن الإسلام يرشدهم إلى العلوم، بل يوجبها عليهم) وقلتم: (وجملة القول أن هذا
الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا الجواب وصاحبه جدير
بالشكر عليه والدعاء له) .
وإذن أقول: يظهر لي أن الأستاذ إذ جمع بين الثناء والنقد رمى لثلاثة
أغراض (الغرض الأول) أنه يهيج بالأول أذكياء الأمة وعقلاءها لقراءته (الثاني)
أنه يثير بالنقد حمية الجامدين الذين هو يجاهدهم إذ يطمعون أن يجدوا فيه مواطن
ضعف أو نقص فيقرأوه وتكون النتيجة انتشار العلم عند الطائفتين لأن الحقيقة
يخدمها الضدان مَن هو لها ومن هو عليها.
(والغرض الثالث) أن يحثني أن أكتب في المنار مقاصد الكتاب بدليل أنه
صرح فيه بأنه ما قرأ إلا بعض أوراق في بضع دقائق.
ولا ريب أن الذي انتشر الآن من تفسير الجواهر خمسة عشر مجلدًا انتهت
إلى آخر سورة السجدة، فإذن وجب عليَّ أن أبين ما في الكتاب، فإذا وسع المنار ما
أسطره في صحائفه كنت شاكرًا للأستاذ؛ ولذلك أقول: إن صاحب الدار أدرى بما
فيها، والضيف الذي لا يمكث فيها إلا بمقدار زمن يشرب فيه الشاي له العذر فيما
يصفها به؛ ولذلك أقول: إن طريقتي في التفسير أن أقسم كل سورة أقسامًا كل قسم
منها تذكر آياته أولاً مشكلة، ثم أقفي بالتفسير اللفظي ملخصًا مستوفيًا مفصِّلاً جميع
الأحكام وهي قليلة في القرآن ومبينًا التفسير المأثور، وقد نبذت خلاف الفرق
الضالة والجدل الممقوت، فهذا لا سبيل إليه؛ لأنه ضياع لوقت هذه الأمة، بل أوفق
بين الأقوال بقدر طاقتي، ولست أذكر من الإعراب إلا ما تمس الحاجة إليه بأسلوب
يوافق ذوق العقلاء المسلمين في زماننا، وعدلت عن الطريقة العتيقة إلى طريقة
مدرسية صالحة لفهم المسلمين؛ وإنما نهجت هذا المنهج ليكون الأسلوب سهلاً يسر
القارئين، لا معقدًا يقعد بهمم الكثيرين.
ثم بعد ذلك التفسير لكل قسم أُبيِّن ما يشير إليه من الحقائق العلمية الصادقة
وأُبيِّن كيف يكون تكذيب الخرافات ليرتقي الشعب الإسلامي مراقي الفلاح؛ وإنما
اخترت ذلك ليأخذ كل قارئ من التفسير ما شاء، فمن شاء التفسير المتداول فلديه
خلاصته منقاة مصفاة، ومن أراد العلم وجماله فإنه يجده في مكان خاص غير
ملتبس بالتفسير اللفظي.
وأنا أحمد الله عز وجل إذ وفقني أن أُبيِّن للمسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها أن العلوم التي غفل عنها المتأخرون، وامتلأت بها الأقطار ونبذها
المسلمون وكرهوها - ظنوها ضد الدين، وهذه هي المصيبة الدهياء التي حلت بديار
الإسلام كما ذكره الأستاذ ووافقني عليه، أليس هذا بعينه هو فقه التفسير؟
أفلم يقل بهذا المتقدمون مثل الإمام الغزالي ونصه (أن من زعم أنه لا معنى
للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في
الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي
حده ومحطه، بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا لأرباب الفهم،
قال علي رضي الله عنه: (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) فإن لم يكن
سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم؟ وقال أيضًا: إنه صلى الله عليه وسلم دعا
لابن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل) فإن كان
التأويل مسموعًا كالتنزيل ومحفوظًا مثله فما معنى تخصيصه بذلك؟
وقال أيضًا: أعظم علم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته، إذ لم
يدرك أكثر الخلق منها إلا أمورًا لائقة بأفهامهم، ولم يعثروا على أغوارها، وأما
أفعاله فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها. إلى أن قال: ولهذا إذا قرأ التالي:
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة: 63){أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة:
58) {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (الواقعة: 68) {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي
تُورُونَ} (الواقعة: 71) لا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني
فليتأمل في المني، وهو نطفة متشابهة الأجزاء، ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى
اللحم والعظم والعروق والكبد والعصب، وكيفية تشكيل أعضائها بالأشكال المختلفة
من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات
الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها، ثم إلى ما ظهر منها من الصفات
المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والتكذيب والمجادلة. إلى أن قال: فليتأمل
هذه العجائب ليترقى منها إلى أعجب العجائب، وهو الصفة التي صدرت منها هذه
الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع، إذًا أقول: لقد استُوفيتْ هذه
المباحث وأمثالها في التفسير واضحة بالصورة الشمسية ظاهرة للعيان مورثة لليقين.
ثم ذم من يقتصر من فهم ملكوت السموات والأرض على أن يعرف لون السماء
وضوء الكواكب، فقال: وذلك مما تعرفه البهائم
…
(وأقول: حرام علي أن أسمع
هذا القول، ولا أرفع هذا العار والجهل عن هذه الامة التي هي خير أمة أخرجت
للناس) .
ثم قال: ولله تعالى في ملكوت السموات والأنفس والحيوانات عجائب يطلب
معرفتها المحبون لله تعالى؛ فإن من أحب عالمًا فإنه لا يزال مشغولاً بطلب
تصانيفه اهـ. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: إنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا
الجهل والغفلة عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعم إلا بعد معرفتها، ثم إنهم إذا
عرفوا النعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه الحمد لله، الشكر لله
…
إلخ) .
أنا لا أود أن أطيل النقل فأكابر العلماء المتقدمون في القرون الأولى لما رأوا
صغار علماء زمانهم ليس لهم إلا حفظ الروايات والجدل والفتاوى والاقتصار على
علم الفقه، وأنهم اتخذوه سُلمًا لتولي القضاء والإفتاء في ذلك الزمن - تبرءوا منهم
وأخذوا يقولون للمسلمين: كلا أيها المسلمون، إن هؤلاء يقصدون الدنيا، هم
طلاب مال، لا تقفوا عند حدهم. هنالك اجتمع صغار العلماء وكادوا لهم، وسلَّطوا
عليهم ضعاف الملوك حسدًا وبغيًا، فأمر الخليفة العباسي في بغداد رجلاً يُسمى
(ابن المارستانية) فأحرق كتب الفلك والنبات والحيوان وغيرها في الرحبة ببغداد،
فأزال الله مُلك أولئك الجاهلين بدخول التتار لما جهلوا علوم القرآن.
ولما حسد علماء المغرب الإمام الغزالي إذ انتشرت كتبه في بلادهم أيام
حكم المرابطين - أمر علي بن تاشقين فأحرق تلك الكتب، فمزَّق الله ملكهم وخَلَفَهم
الموحدون، فلما أمر الله بغروب شمس الدولة لهؤلاء أيضًا في القرن السادس نفى
أميرُ المؤمنين العلامة ابن رشد لأنه قال: أيها المسلمون هذه العلوم يطلبها القرآن
وهي تفسير لآياته، فحسده فقهاء زمانه فصار الأمير يقرأ كتبه سرًّا ويأمر جهرًا ألا
تُقرأ، فلهذه الأسباب نشر تلاميذ ابن رشد بعد اضطهادهم هذه العلوم في ألمانيا أولاً
ثم في سائر أوروبا وصارت بلاد الإسلام قفرًا منها وحوشًا يبابا (اقرأ ما كتبه
العلامة سديو الفرنسي والأستاذ سنتلاته التلياني: الأول في كتابه خلاصة تاريخ
العرب، والثاني في كتابه تاريخ الفلسفة العربية) .
ومن عجب أن دولة العباسيين بالمشرق، ودولتي المرابطين والموحدين
بالمغرب كانوا على وتيرة واحدة، فهم جميعًا في أول الدولة أحرص الناس على
العلوم فترتقي الدولة، وفي آخرها أزهد الناس فيها فيزول الملك، تشابهت قلوبهم،
ومثلهم في ذلك دولة الترك البائدة كما جاء في كتاب كشف الظنون نقلاً عن رسالة
الخبايا في الزوايا.
يقول طنطاوي الذي احترق فؤاده أسفًا على الأمة المحمدية: لقد قرأت هذا
التاريخ في كتب مختلفة، فتقطع قلبي أسى وحسرة، وعرفت أن الناس يسارعون
إلى الجهل كابرًا عن كابر، وهم يتلاحقون غافلين، ويظن قوم أن العلم شيء
والدين شيء آخر، وهذا جهل فاضح، وهذا هو الذي جعل المسلمين - في مصر
وفي غير مصر - أقل الأمم علمًا بهذه العلوم، فالمتعلمون من المسلمين القراءة
والكتابة في بلادنا يُعدُّون على الأصابع في كل قرية من القرى، وهذا لأن وعاظنا
لم يحثوهم على ذلك كما يحث الواعظون من الأمم الأخرى في سائر الأقطار، ولقد
وفقني الله عز وجل وسهَّل لي تعلم هذه العلوم في المدارس أولاً، ثم قرأتها في كتب
عربية، وأخرى أجنبية، أفلا يجب عليَّ نشرها؟ ألم يكن ظهور التصوير الشمسي
آية كبرى في زماننا؟ حتى تمكنت به من إظهار عجائب تشريح الإنسان وتبيان
الأعضاء الباطنة مصورة كالكبد والطحال والبنكرياس، وهكذا عجائب النبات
وإلقاحه المصوَّر المفسِّر لآية {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49) وآية {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) وبهذه الصور
ظهر في تفسير الجواهر معجزات جمة في هذا الزمان مصداقًا لقوله تعالى: {أَوَ
لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) أفلا ترى صورًا
جميلة من العجائب في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم:
22) بكسر اللام، فإن هذه لم تظهر حق ظهورها للخاصة إلا في هذا الزمان.
ومن ذا كان يظن أن جبال الثلج تظهر مرسومة في الجو ومعها الطيارة في
زماننا، وترسم في الجواهر تفسيرًا لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ
فِيهَا مِن بَرَدٍ} (النور: 43) وقد كان المفسرون قبلنا يؤولونها، أليست هذه
معجزة إسلامية لم تعرف عيانًا إلا الآن في تفسير الجواهر؟ أليس هذا وأمثاله من
أسرار القرآن كانت خافية فظهرت؟ فأنا أحمد الله وأقول: وجب عليّ نشرها،
وعلى كل من قرأ هذا التفسير.
ولما رأى المسلمون في الأقطار صور النبات وأوراقه الموضوعة وضعًا
هندسيًّا بدرجات محددة، مرسومًا على هيئة دوائر أفقية تارة، ورأسية تارة أخرى
لآية {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: 19) ورأوا الوزن ظاهرًا
في الكيمياء العضوية للذرات الداخلة في تركيب النبات في جداول موضحة في
(الجواهر) طلبوا المزيد من هذه العجائب، فهل يتسنى لي أن أنام عن نشر هذه
العلوم التي أنعم الله عليَّ بها، وجعل أفئدة من المسلمين تهوي إلى تفسير الجواهر،
ووفقني أن أكون على منهج السلف الصالح، وأن أكسر هذا الجمود المخيم على
العقول وأتباعد عن المناقشات اللفظية والمجادلات المخزية التي انحطت بها المدارك
في الأمم الإسلامية، وأن أفسر القرآن باليقين لا بالظن، ولا أضيع على المسلمين
أوقاتهم بتضارب الروايات، وأن أرجع بالأمة إلى سبيلها أيام مجدها وأنا واثق بما
أقول؟ وإذا لم يكن هذا أسرار القرآن وفقه القرآن فهل يكون فقهه في آيات الفقه
المعروف وحدها، وما هي إلا مائة وخمسون آية من نحو ستة الآف؟ كلا والله كلا،
الفقه علم واحد، والعلوم تُعَدُّ بالعشرات موزعة على آي القرآن وتركها يجعل جميع
المسلمين آثمين.
إني إذا ما كتمت هذا العلم خوفًا من حاسد أو جاهل مقلد، فإني أخاف الله رب
العالمين، ومن نكب عن هذه الطريقة فذلك لأنه مقتصر على ما غلب عليه ونافع
بوجهته {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) هذا ما أشهد الله عليه
وأشهد خواص المسلمين أن هذه الطريقة قد أرضت الخواص في الشرق والغرب؛
حتى إنهم في الهند وبلاد جاوى وسومتره وشمال إفريقيا والفرس وبلاد العراق
وبلاد البوسنة والهرسك ببلاد النمسا حفزوني أن أزيد هذه المباحث إيضاحًا، فلبيت
طلبهم وقرأت {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: 108)
الآية فهي هدى وشفاء للذين أوتوا العلم، والمقلدون والجهال لا يعلمون، وها هو ذا
الأستاذ صاحب المنار فتح لهم الباب بالأسلوب الحكيم الذي لأجله كتبت هذا المقال،
وسأتبعه بآخر متى اتسع لي الوقت واتسع صدر المنار إن شاء الله تعالى.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
طنطاوي جوهري
(المنار)
إنني لا أبخل على هذا الكتاب بنشر هذا الإعلان الطويل له حبًّا
في العلم، ومن حق العلم عليَّ أيضًا أن أقول: إنني قد راجعت هذا التفسير بعد
إعطاء مؤلفه صديقي هذه الرسالة؛ حتى إنني سهرت إحدى الليالي في تصفح
الجزء الأول الذي ذكرته في الفتوى، فرأيتني قد ازددت علمًا بصحة ما كتبته ولم
يظهر لي أنني أخطأت في شيء منه؛ وإنما ذكرت أحسن ما علمت من فائدة،
ورأيت كل ما ذكره من المزايا هنا تفصيلاً لما أجملت واقتصرت في انتقاد ما قصر
فيه على كلمة وجيزة لئلا أكون منفرًا عن كتاب صديق أكرمه وأحسن الظن بعمله
وإخلاصه، ورأيت أن ما كتبه في انتقادها أو الجواب عنها، لا ينقض حرفًا منها،
وبيانًا لهذا أقول الآن ما يوضح تلك الكلمة في هذا التفسير:
الجزء الأول منه يحتوي تفسير الفاتحة والبقرة وهما زهاء جزئين ونصف من
أجزاء القرآن الثلاثين، وفيهما من أصول الدين وفروعه ما ليس في عدة أجزاء منه،
وصفحات هذا الجزء 238 صحفة كبيرة أكثر ما فيها لا يصح أن يرجع إليه في
حقائق تفسيرها؛ ولكنه نافع في نفسه، ومنه ما ليس له مناسبة قوية بالموضع الذي
وضع فيه ولبعضه مناسبات قوية في سور أخرى، فأول ما ذكره في تفسير البسملة
أنه جعل متعلق الظرف في (بسم) التبرك وفسَّر (الرحمن) بالمنعم بجلائل النعم
و (الرحيم) بدقائقها، وهذا هو المشهور الذي يذكره شراح الكتب لخطبها وليس من
التحقيق في شيء، وقد بيَّنا التحقيق في الظرف ومعنى الاسمين الكريمين في تفسير
المنار، ولم يذكر حقيقة معنى صفة الرحمة أيضًا. هذا مَثَل للتقصير في تفسير أول
آية في كتاب الله تعالى.
ثم إنه شرع بعد هذا التفسير المختصر المنقول في الكلام على عجائب
الحشرات من الإكسيلوكوب والنحل والنمل والعنكبوت وغيرها
…
وكان المناسب
أن يؤخر الكلام في عجائب النحل والنمل إلى السورتين المسمَّاتين باسميهما.
وأما تفسير سورة البقرة، فكان يجب أن نجد فيها البيان المفصل الأوفى لتفسير
آيتي التحدي بإعجاز القرآن منها، وهي قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23)
…
إلخ، ورأيته قد
اقتصر من تفسيرها على كلمة وجيزة ثانوية في موضعها تقل عن سطر واحد فقال:
(ولما لم يكن من المعاندين من العقل والمعرفة ما به يعرفون نظام هذا العالم،
ويدركون أن الأصنام لا تستحق العبادة - أخذ يصف لهم ما جاء على لسان الرسول
من البلاغة، ويتحدى بما يعجزهم كأنه يقول: إذا عجزتم عن إدراك ما أبدعته في
الأرض والسماء، ولم تبلغ عقولكم كنهه، وغلبت عليكم الجهالة ولم تفهموا إلا ما دار
في أنديتكم من أحاديث البلاغة وآيات الفصاحة، فاسمعوا لهذا القرآن، وإلا فائتوا
بمثله، فلما عجزوا أوعدهم بالنار ووعد المتقين بالجنة) اهـ.
فهل يصح أن يُعَدَّ هذا من حقائق تفسير الآيتين اللتين هما أهم آيات السورة،
بل أهم آيات القرآن كلها في إثبات حقية الرسالة وصدق خاتم النبيين فيما جاء به
عن الله تعالى بالبرهان القطعي؟ اللهم لا، بل ليس هذا مبينًا لمعنى ألفاظ الآيتين
ونظمهما، ولا مما يفهم منه معناهما الإجمالي فضلاً عن بيان ما به كانت سورة من
القرآن معجزة، وبيان القطع بأنهم لن يأتوا بسورة من مثله.
ولما كان هذا التحدي بالقرآن قد ذُكر في سورتي يونس وهود أيضًا راجعت
ما كتبه في تفسيرهما لعله استدرك فيه ما فاته في تفسير آيتي البقرة، فلم أجد فيهما
غناء.
ولو شئت أن أورد كثيرًا من الشواهد على قولي بأنه لا يُرجع إليه في حقائق
تفسير الآيات، لفعلت ولا محاباة في العلم والدين.
وأما ما يورده في التفسير من الأحاديث والآثار فهو ينقله من أي كتاب رآه
فيه، لا يلتزم كتب أئمة الحديث، ولا يلتفت إلى تخريجهم وتصحيحهم، فيكون منها
ما ليس بحديث أصلاً كالموضوعات ومنها الضعاف والواهيات، ولا حاجة إلى
إيراد الشواهد على ذلك إلا إذا أنكره الأستاذ علينا.
وإذا كان الأستاذ لم يُعن بالتزام الأحاديث الصحيحة والحسنة فيما يورده في
تفسيره مع سهولة ذلك بالرجوع إلى كتب الصحاح والسنن وكتب الجرح والتعديل -
فأجدر به أن لا يُعنى بتمحيص التفسير المأثور عن التابعين ومن بعدهم، ولا
باجتناب الإسرائيليات الباطلة منها أو التنبيه على بطلانها، كما ترى في تفسيره
لقصة البقرة وهاروت وماروت والذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم والذي أماته الله
مائة عام ثم بعثه.
ومما أشرنا إلى انتقاده بعض التأويلات التي انفرد بها، ونذكر منها تأويله
لمسألة الشفاعة في الجزء الأول، فهو قد ذكر تأويلاً لابن عربي في غير محله،
ووعد بأن يرد إليه الآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ولم يفعل، وقد حررنا
هذا في تفسيرنا غير مرة ولا حاجة إلى بسطه هنا، وأما تأويله لنزول المسيح فلم
ينفرد به، وكان حسبه منه أنه ليس مما ثبت في القرآن.
وجملة القول إن مزية هذا التفسير الصحيحة هي ما بيَّنا في الفتوى التي ينتقد
صديقنا بعض ما فيها، وكنت أظن أنه يعتمد ذلك لما كتبه في تقريظ الجزء التاسع
من تفسير المنار، وهو أن من المفسرين من جعل جل عنايته في مباحث اللغة
والبلاغة، ومنهم من جعلها في الأحكام الفقهية أو الكلامية وما يتعلق بها
…
إلخ،
فأراد هو أن يجعل جل عنايته في التذكير بعجائب صنع الله تعالى في الخلق،
وحث المسلمين على العلوم التي تتوقف على إتقانها سيادة الدنيا وعزة الأمة وقوتها
فيها، ويدل على هذا ما يضعه من الفهارس للأجزاء؛ فإن المؤلف يكتب في فهرس
كتابه أهم مسائله عنده، وأنت تجد أول فهرس الجزء الأول الحث على العلوم
الكونية في الخطبة، وعجائب الحيوان والحشرات والنبات في تفسير الفاتحة
…
إلخ؛
ولكن لا ترى فيها ذكرًا لإعجاز القرآن والتحدي به، ولا لهدايته، ولا لأهم
أصول التشريع التي بيَّناها بالعدد في أول تفسير السورة من الجزء الأول من
تفسيرنا.
ثم إنه ذكر أنه اقتدى في طريقته هذه في التفسير بالإمام الغزالي، أي ما قاله
في كتابه جواهر القرآن وكتابه الإحياء. ونقول: إنه قد فاته منه غرضه الأسمى،
وهو ما يسميه الغزالي فقه الدين، وهو غير فقه الفقهاء الذي يعنون به الأحكام
العملية من ظواهر العبادات ووسائلها والمعاملات التي هوَّن صديقنا أمرها تبعًا له،
وظن أنه عني بما فضله عليها وهو الفقه الحقيقي عنده؛ ولكنه لم يعط هذا حقه فيما
نرى.
ذلك أن الذي أُشربه قلبنا من كتب الغزالي من نشأتنا العلمية الأولى هو أن فقه
الدين ولبابه هو ما شرع الله الدين وأنزل القرآن لأجله، وهو الهدى والتقوى
وتزكية النفس بمعرفة الله تعالى وخشيته والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة،
وتفسير صديقنا لا يُعنى بهذا كما يجب، وما ينقله من كتب علماء الكون من
عجائب المخلوقات فجله غير موجه إلى هذا الغرض الأسمى؛ وإنما هو موجه إلى
الترغيب في هذه العلوم من جهة كونها وسيلة إلى ترقي الحضارة والعمران وأسباب
الاستقلال والملك، ولعمري إن هذا من فروض الكفايات وهو مطلوب في الإسلام
كعلم الأحكام العملية؛ ولذلك حمدناه منه وشكرنا له، وحسبنا هذا التذكير، وعسى
أن يكون سببًا لاستدراك أخينا الأستاذ المفسر لما قصر فيه فيما بقي منه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عيد الجلوس لملك الحجاز ونجد
احتفلت الحكومة الحجازية والشعب الحجازي في شهر شعبان الماضي بذكرى
مبايعة الحجاز للملك عبد العزيز آل سعود احتفالاً رسميًّا دعيت إليه كبرى صحف
مصر اليومية، فأرسلت كل منها مندوبًا من محرريها إلى الحجاز حضر الاحتفال،
وعاد ينظم عقود الثناء على ما رأى وسمع في جدة ومكة من الإصلاح المدني
والديني، وعلى شمائل الأمير فيصل نائب ملك الحجاز (والده) وفضائله، وقد
كان هذان الثناءان اللذان اتفق فيهما أولئك المندوبون الذين تختلف آراؤهم ومذاهب
جرائدهم في كل شيء ذا قيمة عظيمة وتأثير حسن جدًّا في مصر، وفي قراء هذه
الجرائد في غير مصر بالطبع بسبب الاتفاق من المختلفين في الرأي والسياسة عليه
من ناحية، وعدم شبهة المصانعة والمداهنة من الناحية الأخرى، فكان من الدعاية
المفيدة التي جاءت من نفسها.
وقد أنكر بعض إخواننا السلفيين من هذه الحكومة الشرعية السنية مجاراة
الحكومات الدنيوية في ابتداع الأعياد السياسية لذاتها، ولما يلزمها من المنكرات
عادة كإنفاق المال في غير المصارف الشرعية، وتكليف الرعية بعض النفقات
والأعمال التي ربما لا يفعلونها مختارين، وقد رأى القراء الاستفتاء الذي نشرناه
عن بعضهم في الجزء الماضي، وأن بعضهم أسرف فقال بتحريمه مطلقًا، فأنكرنا
هذا الإطلاق الذي يتجرأ على مثله كثير من المتدينين بغير علم وفيه من الخطر
على الدين فوق ما يدعون تحريمه (كما يُعلم مما نقلناه عن الإمام أبي يوسف في
باب الفتاوى من هذا الجزء) ولا يتضمن إنكارنا هذا أننا لم ننكر ذاك، بل أنكرناه
وإن لم نحرمه تحريمًا، وكتبنا إلى بعض رجال الحكومة بذلك وخصصنا إنفاق
المال بالذكر، ولو كان لنا رأي فيه لنهينا عنه؛ لأننا نعلم أن جماهير أهل الدين
والرأي من المسلمين ومن غيرهم من العقلاء يرون أن التزام هذه الحكومة
الإسلامية السذاجة والقصد واجتنابها للفخفخة ومظاهر العظمة الدنيوية، وتقليد
المفتونين بها - هو خير لها ولشعبها، وأرجى لما يحب جميع المسلمين من قوتها
وعزتها.
وأقول على سبيل الاستطراد: إنني أحب لهذه الدولة وإمامها وآله ورجال دولته
أن لا يعنوا بسائر الاحتفالات الدنيوية، وما يكون فيها من المدائح الشعرية، فوالله
إن عمر بن الخطاب كان أعظم في أنفس العرب والعجم من جميع الأمم من معاوية
وغيره من ملوك الأمويين والعباسيين الذين فتنتهم زينة الحياة الدنيا.
وإننا نقرأ في أخبار العالم عن العلماء والكُتَّاب الذين لقوا الإمام عبد العزيز آل
سعود أنهم قد أكبروا من أخلاقه وشمائله التواضع والسذاجة العربية التي تقرب من
البداوة مع عنايته بأسباب الحضارة النافعة للشعب، كالعمران وتسهيل المواصلات
ومراعاة الصحة ونشر التعليم، وما نحن في نصيحته بمتهمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتنة نجد - عاقبتها
كتبنا في الجزء الخامس الذي صدر في سلخ جمادى الأولى من هذا العام مقالة
عنوانها (الفتنة في نجد - أسبابها ونتائجها) بيَّنا فيها ما ينبغي أن يعتبر به
المسلمون منها، وما للناس ولا سيما أصحاب الصحف من الآراء المختلفة فيها،
وأن الذين كبروها في نظر غير العارفين بكنه قوة ملك الحجاز ونجدهم (دعاة
الهاشميين) كمحرري جريدة القبلة للملك حسين من قِبَل عبد الرؤوف الصبان
وطاهر الدباغ، فالأول تولى كبر الإرجاف في مصر، والثاني تولى كبره في
سنغافورة وجاوة، وكان لسان حالهم في مصر جريدة الأهرام، وفي جاوة جريدة
حضرموت، وكانت الأهرام تنشر مقالات بإمضاء (عربي مطلع) قلما كتب أحد
في الاختلاق ومكابرة الحقائق مثلها، وقد انتهت الفتنة وقُبض على فيصل الدويش
وجريدة حضرموت تنشر مقالات الدباغ الخبيثة.
وفي أثناء هذا النصر المبين نشر مراسل الأهرام (عربي مطلع) أن كل ما
ينشر من أخبار انهزام فيصل الدويش، ومن قرب استيلاء ابن السعود عليهم، كذب
وإرجاف، وأن الفتنة قد عمت نجد كلها ووصلت إلى الحجاز! ! فيا لله العجب من
جرأة هذا الجاهل، ولكن من نشر عجوز الصحف العربية له هذا البهتان المفضوح
الذي لا يخفى على محرريها.
وكان من أهم مقاصد هؤلاء الناشرين صرف قلوب المسلمين عن أداء فريضة
الحج بإيهامهم أن أعراب الحجاز قد شرعوا في التألب على الحكومة السعودية،
وإيقاد نار الثورة عليها بالتبع لقبائل نجد، وأنه لا يجيء موسم الحج في آخر سنة
1348 إلا وقد تقلص ظل الحكومة السعودية عن الحجاز ونجد معًا، وربما بقي
للحرب والقتال بقية تحول دون أداء الفريضة! !
ثم نشرنا في الجزء السادس الذي نشر في سلخ جمادى الآخرة استفتاء من
عدن ذكر مرسلوه أن بعض دعاة الفتنة من أعداء ابن السعود شرعوا في نشر فتاوى
زعموا فيها أن الحج لا يجب في هذا العام على المسلمين، أو ما دام علمه - علم
التوحيد - منشورًا في الحجاز، وقد فنَّدنا زعمهم وبيَّنا أن من يستحل صد الناس عن
أداء فريضة الحج يكون مرتدًّا عن الإسلام.
وقد كثر سؤال الناس إيانا في أثناء الفتنة بالمشافهة والمكاتبة عن حقيقة الأمر
فيها، وما نرى من عاقبتها؟ ومما كنا نقوله إن الله تعالى يقول:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) وستعلمون لمن تكون هذه العاقبة؟ ومما كتبناه من الأجوبة
في المنار أننا لا نظن كما يظن الكثيرون أن الإنكليز ينقضون عهدهم مع ملك
الحجاز ونجد، وكذلك كان ألَّف الملك عبد العزيز جيشًا من حضر نجد يبلغ زهاء
أربعين ألفًا، فطاردوا العصاة حتى فروا إلى حدود الكويت والعراق، ثم اضطر
فيصل الدويش وابن مشهور من زعماء الدولة، وابن حثلين أكبر زعمائهم إلى
تسليم أنفسهم للإنكليز حماة الكويت والعراق، وطلبوا أن يكونوا تحت حمايتهم ومن
رعيتهم، وهكذا يكون أهل الدين الخارجين على إمامهم بدعوى منعه إياهم من جهاد
الكافرين والمشركين! ! وكان من هنالك من رجال الإنكليز يريدون حمايتهم وجاء
في البرقيات العامة أنهم قرروا إرسالهم إلى الهند وجعلهم ضيوفًا سياسيين في
جزيرة سيلان؛ ولكن ملك الحجاز ونجد ألح في طلبهم ولم يمكن إقناعه بما دون
ذلك، فجاءت الأوامر من حكومة لندرة بإسلامهم له، فحملوا إلى معسكره لدى
الحدود في طيارة عسكرية فتسلمهم معتقلين، أذلاء صاغرين مخذولين، وكان ذلك
اليوم يومًا مشهودًا أعز الله فيه عبده وهو العزيز المقتدر الذي وعد بنصر من
ينصره، وكانت العاقبة للمتقين، كما كنا نقول بهداية الكتاب المبين، وكان تأثير
ذلك في معسكره، ثم في سائر نجد وغيرها من بلاد العرب عظيمًا جدًّا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاتفاق العربي
بين مملكة الحجاز ونجد ومملكة العراق
قد كان بدء خروج فيصل الدويش على ملكه وإمامه اعتداؤه على نجد بغزو
القبائل والسلب والنهب كدأب قبائل الأعراب في كل حياتهم البدوية، وكان كثير من
الناس يظنون أن ذلك العدوان بإيعاز خفي من الملك عبد العزيز وإن أنكره وتنصل
منه في الظاهر، ثم ظهرت الحقيقة فكانت عاقبة نجاح الملك في تأديب الخارجين
وما خسره في ذلك من المال، وما أدت إليه الفتنة من سفك الدماء النجدية من
الجانبين - حجة حسية قطعية على حسن نية الملك عبد العزيز ورغبته في الاتفاق
وحسن الجوار بين الممالك العربية ولا سيما العراق، وبذل السعي من قبله وقبل
الحكومة العراقية، في أثناء وجوده بقرب الحدود لعقد مؤتمر عربي يضع قواعد
لهذا الاتفاق، وأوعزت الحكومة البريطانية إلى ممثليها في العراق والخليج
الفارسي أن يدخلوا في ذلك، وأن يجتمع ملك الحجاز ونجد وملك العراق ويعقدا
رابطة الاتفاق بحضرتهم، بل في بارجة بريطانية حتى لا يفوتهم شيء مما يجري
بينهما، بل يكون كل شيء بموافقتها وكذلك كان، فالتقى الملكان العربيان في
بارجة إنكليزية في ثغر الكويت فتعانقا وتبادلا عبارات الود والأخوة، واجتمع
رجالهما فوضعا بمراجعتها مواد مكتوبة لتكون أساسًا لكتابة معاهدة رسمية بين
الحكومتين مبنية على اعتراف كل منها بالأخرى، وتبادل المفوضين الرسميين
بينهما، ومنع تعدي قبائل كل منهما على الأخرى، وتبادل تسليم المجرمين، وتنقل
العشائر، وحل ما يقع من المشكلات على الحدود بالتحكيم، وأما المشكلة الكبرى
ومنشأ كل خلاف وتنازع بينهما وهو ما بنته حكومة العراق من المخافر أو المعاقل
العسكرية في المنطقة المختلف عليها بين العراق ونجد، فقد تقرر إرجاؤها ستة
أشهر لتأليف لجنة تحكيم من الفريقين يكون حكمها فيه قطعيًّا يقبله كل منهما، إن لم
يتفق كل منهما فيه بالمفاوضة، وقد سرَّ جميع زعماء الأمة العربية وأهل الرأي
فيها ومحبيها من غيرها هذا الاتفاق، وكانوا يودون أن لا يكون للأجنبي شأن في
ذلك؛ ولكن هذا فوق الإمكان.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة شيخ الأزهر السابق
في حوادث فلسطين
نوّهنا في مقالنا الذي نشرناه في جزء المنار السادس في موضوع ثورة
فلسطين أن أعظم رجال الإسلام في الحكم والعلم قد أيدوا مسلمي فلسطين تجاه
عدوان اليهود عليهم، ولا سيما ملك الحجاز ونجد وشيخ الأزهر، وإننا نسجل هنا
حديثًا للثاني نُشر في المقطم الذي صدر في 15 ربيع الآخر سنة 1348 تحت
عنوان (رأي ناضج) في حوادث فلسطين وهذا نصه:
كتب أحد مندوبي المقطم في الإسكندرية يقول:
رأيت اهتمام الناس في مصر شديدًا بما هو واقع في جارتنا فلسطين من
الحوادث الجسام الموجبة للأسف، فخطر لي أن أقصد حضرة صاحب الفضيلة
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وأكبر رأس
بين مسلمي الشرق لأستطلع رأي فضيلته في الحوادث المذكورة.
قصدت وزارة الأوقاف ببولكلي حيث يشتغل فضيلة الأستاذ من أوائل هذا
الصيف في أعماله الخطيرة، فلما دخلت مكتبه وكان مُكبًّا على ما بين يديه من
الأوراق المكدسة، رفع رأسه وقابلني بابتسامته العذبة الخلابة.
ولما كنت أعلم أن وقت فضيلته ثمين لا يتسع للتحيات المألوفة، بادرته
بإعلان الغرض الذي جئت لأجله، ثم وجهت إلى فضيلته ما عنَّ لي من الأسئلة
التي أجابني عليها بصراحة وبلا تردد، وقد دوَّنت ما دار في شكل حديث استأذنت
فضيلته في نشره على صفحات المقطم، فتفضل وأذن لي بذلك خدمة للمصلحة
العامة، وإظهارًا لرأي يمثل الرأي العام في مصر في هذا الشأن، وهذا نص
الحديث:
س - ما رأي فضيلتك في حوادث فلسطين؟
ج - إن حوادث فلسطين مأساة تدعو إلى أشد الأسف والحزن.
س - هل ترى أن سبب هذه الحوادث يرجع إلى الدين؟
ج - لا أعتقد هذا، فإن المسلمين وَسِعوا مخالفيهم في الدين في جميع
العصور الماضية، وعاملوهم بمنتهى الكرم حتى كانت هذه المعاملة من أهم
الأسباب الباعثة على انتشار الدين الإسلامي؛ ولكن أرى أن أسبابًا مدنية خُلطت أو
سُترت بأسباب دينية، فأثارت كوامن الحقد والخلاف الديني سواء كان حقيقًا أم
مصطنعًا يفعل في الجماهير ما لا تفعله الأسباب المدنية وحدها.
ويظهر أن العرب والمسلمين في فلسطين يرون نفوذهم يتقلص في بلادهم
ويخشون عاقبة خروج البلاد من أيديهم ووقوع الآثار المقدسة والمسجد الأقصى
تحت سلطان غيرهم، وهذا في نظرهم موت مادي وأدبي.
س - ما هو طريق استئصال هذه الفتن؟
ج - لقد عهد الناس في الدولة البريطانية المحافظة على التقاليد واحترام
العقائد والعواطف، والرجاء معقود بأن تعمل بريطانيا العظمى على استئصال أسباب
الخلاف ليعيش الناس في سلام، وتهدأ تلك النفوس الثائرة، والمسلمون لا يحتملون
أي اعتداء كان على المسجد الأقصى، ومن شأن ذلك أن يستفز عواطفهم في جميع
الأقطار الإسلامية.
س - قيل إن العلماء يريدون بحث الحالة والاحتجاج على حوادث فلسطين؟
ج - لا شك أن علماء الأزهر يشاركون إخوانهم العرب في مصائبهم وآلامهم
ويستنكرون الاعتداء عليهم؛ ولكنهم لا يريدون الإسراع في حكمهم، ويفضلون
انتظار نتيجة التحقيق الذي نؤمل أن يتم بطريقة منزهة عن الغرض بعيدة عن
التحيز، وأن يؤدي آخر الأمر إلى إصدار حكم في مصلحة العرب والمسلمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تهنئة المنار لجريدة الفطرة الإسلامية
لما وصلت إلينا الأعداد الأولى من جريدة الفطرة - بعد جعلها يومية - بادرنا
إلى تهنئتها بكتاب خاص، ولم نحب أن نؤخر التهنئة إلى أن يصدر جزء من المنار
يفتح فيه باب التقريظ، فنشرت كتابنا مع مقدمة له تتضمن ذكر التعاون بين
الصحيفتين، فرأينا أن ننشر ذلك لهذا الغرض نفسه، وهذا نص ما جاء فيها:
كتاب كريم من علامة أكرم
ورد علينا الكتاب الكريم، الذي سنتشرف بنشره في هذه الصحيفة، من
حضرة العلامة المفضال والفهَّامة الأسنى الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ
مجلة (المنار) الإسلامية وصاحبها، التي نشاركها في بث الدعوة الإسلامية جهارًا،
ونزاملها في قطع دابر الزندقة والزنادقة، والإلحاد والملحدين من بني قومنا وسواهم،
ويرى حضرة القارئ شدة تيقظ الأستاذ الرشيد الجليل إلى صحيفتنا وشدة طربه
بظهورها يوميًّا، وتقديره قدرها من الجهاد في تعزيز المبادئ الإسلامية، والغاية
التي فيها مجد هذه الملة الحنيفية، ما لو شاركه فيه بقية العلماء لكان في مصر اليوم
صحيفة يومية إسلامية تتفوق على أكبر جريدة في العالم.
على أنَّا نحن أعرف الناس بما يقيم حضرة الأستاذ من إقامة الدين الحق
والجهاد في تعزيزه، وما يكابده في تلك الشرعة العظمى من الجهاد الدائب والنصب
ما هو من شمائل أولي العزم الذين لا تلويهم لاوية عن نصرة هذا الدين الذي كثر
محاربوه اليوم حتى ممن يدَّعون الانتساب إليه.
على أن ما يلاقيه جناب الأستاذ الأكبر من مثالب عباد الوسطاء والشفهاء
وأهل الغلو في الدين، والمبتدعة من نابتة التفرنج، وعشاق التبرج الجاهلي
المسمى بالتجدد العصري للخنا والفجور، لا يمكن أن يكافحه ويجالده إلا من كان
مثله صابرًا مرابطًا معتمدًا في جهاده على العزيز العليم، وقد اندمجنا في طريقته
(طريقة أهل اليقين) ونحن على وثاق في أننا سنكون الغالبين إن شاء الله؛ لأن هذا
هو وعد الله، وإن وعد الله حق وهو أصدق القائلين {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: 56) .
ننشر كتاب جناب الأستاذ الذي رفعنا به - بفضله ومحض كرمه - ونحن
نحض جميع الغيورين على التضافر في الاشتراك بمجلة (المنار) التي يجاهد فيها
الأستاذ ويناضل عن الدين وفضائله، والإسلام ومجده وآدابه في سائر مرافق الحياة
الراقية، ونأمل من كل من يستلمها من قبل، أن يكون عند الحد المفروض على كل
شهم ذي مروءة، فيبعث لجنابه بالاشتراك فورًا ويسلفه به، وبكل متأخر في الذمة،
إيفاء بالحق وقيامًا بالواجب.
وهذا هو كتاب فضيلته حقق الله له ولنا كبار الآمال، وأمدَّنا بروح منه، إنه
هو الكبير المتعال، قال حضرته لا فض فوه ولا كلَّ في الحق قلمه:
مصر في 19 جمادى الأولى سنة 1348 هجري، الموافق 22 تشرين 2
سنة 1929م.
حضرة الزميلين الكريمين خادمي الملة الإسلامية والأمة العربية صاحب
ورئيس تحرير صحيفة الفطرة الغرَّاء:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد فإنني أهنئكما بما وفقتما له،
وما صادفتماه من الفوز بجعل (الفطرة) جريدة يومية، وأشكر لجاليتنا الكريمة في
الأرجنتين مساعدتها الثمينة على ذلك، ولا سيما المتبرعين بالدراهم، وأتمنى
(للفطرة) دوام التوفيق والارتقاء، وأحمد الله تعالى أن رأيت إخواننا المسلمين قد
تنبهوا لما كانوا غافلين عنه من أسباب ضعفهم في دينهم ودنياهم، وما بين سعادتي
الدارين من الارتباط والاشتراك في الإسلام على فشو الإلحاد والفسق في هذا الزمان،
ولقد شَرَعتُ في إيقاظ المسلمين ودعوتهم إلى الإصلاح الديني والمدني والسياسي
منذ ثلث قرن، فلقيت منهم مقاومة وإيذاء شديدًا، وبقيت إلى السنة الخامسة من
إنشاء المنار مدينًا لبعض الأصدقاء بشيء من المال، ولم ألق من أحد من أغنيائهم
وكبرائهم مساعدة مالية تذكر، فالحمد لله ثم الحمد لله أن أحياني حتى شاهدت
الصحف التي تخدم الإسلام تؤيد وتعضد، وإن كانت (الفطرة) لم تصر جريدة يومية
إلا بعد سلخ سبع سنين كاملة في مضيق الأسبوع، فإن هذا ليس بكثير في جالية
قليلة لا يبلغ عدد المسلمين فيها عدد مدينة كبيرة من مدن القطر المصري، وقد
عجز مسلمو مصر إلى اليوم عن إنشاء جريدة يومية تخدم الإسلام وتناضل دونه،
وإن لم تكن دينية محضة كما كانت جريدة المؤيد، والسلام عليكم وعلى من لديكم
من الأعوان والإخوان.
…
...
…
...
…
... من الزميل المخلص منشئ المنار
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________