الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثلاثين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، الذي ختم به النبيين،
وأكمل به الدين، وأرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الهادين المهديين، ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن العدد الأول من مجلتنا هذه قد صدر في العشر الأخير من شوال
سنة 1315 الموافق لشهر مارس (آذار) سنة 1898 ميلادية، بشكل صحيفة
أسبوعية ذات ثماني صفحات كبيرة، وفي السنة الثانية جعلناها مجلة أسبوعية
بشكلها الذي هي عليه الآن، وأصدرنا أول جزء من السنة الخامسة في أول المحرم
سنة 1320 - 10 أبريل (نيسان) سنة 1902 - واستمر ذلك إلى السنة السابعة
عشرة ، فقد صدر الجزء الثاني عشر منها بتاريخ ذي الحجة سنة 1332 (نوفمبر
سنة 1914) وكانت قد أُضرمت نار الحرب المدنية الكبرى، فاختل في أثنائها نظام
صدور المنار في أوائل سنيه وأواخرها، وجعلنا أجزاء السنة عشرة؛ لأن الورق
والحبر غلا سعرهما حتى تضاعف أضعافًا، وامتنع وصول الصحف المصرية إلى
كثير من الممالك والأقطار، وساءت معاملات الناس، ومن سنة 1333 إلى سنة
1347 لم يصدر من المنار إلا 12 مجلدًا في 15 سنة، فنقص من مجلداته ثلاثة
أُدْمِجَتْ أو أُدْغِمَتْ في هذه السنين، ولولا ذلك لوجب أن يكون المجلد الذي نفتتحه
اليوم المجلد الثالث والثلاثين.
ولكننا إذا اعتبرنا في تاريخه السنين الشمسية يكون هذا المجلد هو الحادي
والثلاثين، فالذي نقص من مجلدات المنار عن سنيه القمرية ثلاثة، وعن سنيه
الشمسية اثنان فقط، ونحمد الله تعالى أن قَدَّرَنَا على استمرار إصداره في تلك
السنين النحسات، فمن المعلوم أن أكثر قرائه المؤدين لحقوقه هم خيار المسلمين
المستنيرين، الذين يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حال أمتهم بالجمع بين سعادة
الدنيا وهداية الدين، وهم قليلون ومتفرقون، والموسرون منهم هم الأقلون، ومن
عداهم لا يؤدي الحق إلا ما دمت عليه قائمًا وكان المتقاضي له مُلازمًا {وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً} (الأعراف: 58) .
ونرجو من فضل الله تعالى أن نَثْبُت على هذا التاريخ في إصداره ما دمنا
متمتعين بالصحة، بعد أن مَنَّ علينا بدار صالحة للسكنى وللمطبعة، وقد تأخر
صدور بعض أجزاء المجلد الماضي لما عرض لنا من المرض في أول عامه والنقلة
في آخره.
وأما الذي نُذَكِّر به القراء في فاتحة المجلد الثلاثين من الشؤون الإسلامية على
عادتنا في هذه الفواتح، فهو أن الحملة على الإسلام قد اشتدت في هذا العهد من
خصومه في الداخل والخارج، أعني من قِبَل دول الاستعمار ودعاة النصرانية،
وهم طلائعها وحُداتها، ومن أعوانهم وأنصارهم وتلاميذهم في البلاد الإسلامية
نفسها، ولست أعني بهؤلاء من يستخدمهم المبشرون من نصارى القبط والسوريين
والأرمن وغيرهم، بل أعني من هم أشر منهم وأضر، وأدهى وأمر، من ملاحدة
المسلمين، من الترك والإيرانيين والأفغانيين، ودعاتهم وأخدانهم من المصريين،
وأشباههم من السوريين والعراقيين، ومن الهنود والأفريقيين، وسائر الشعوب
الإسلامية، الذين سممتهم التربية الإفرنجية، وأفسدتهم الآراء المادية، وخنثهم
الإسراف في الشهوات البدنية، ونحن نطلق لقب الإلحاد على كل من يسمي خطة
هؤلاء الكماليين في نبذ الشريعة الإسلامية برمتها من حكومتهم، والتمهيد لمحو
عقائد الإسلام وآدابه وعباداته من نابتة شعبهم، بمنع اللغة العربية من جميع بلادهم،
وترجمة القرآن بما لا يؤدي حقائق معانيه من لغتهم، وكتابته كغيره بالحروف
اللاتينية، للإجهاز على ألفاظه وأساليبه المعجزة، بل كل من يسمي هذه الخطة
إصلاحًا ويحسنها ويدعو إليها، فهو عدو للإسلام وولي لأعدائه، وعداوة الإسلام
أعم من الارتداد عنه والكفر به، فإن كان مع هذا زنديقًا يدَّعي الإسلام ويخفي
الكفر، فإفساده أعم وأكبر من إفساد الكافر الأصلي والمرتد، لأن الجاهلين بحقائق
الإسلام من المسلمين يغترون بكلامه، فيفتنهم عن دينهم أو يشككهم فيه.
وإننا نرى ملاحدة بلدنا هذا طبقات بددًا، تسلك طرائق قددًا:
(الطبقة الأولى) :
المجاهرون بالكفر والصد عن الدين، والطعن في عقائده، وإلقاء الشكوك
والشبهات فيها، بما يكتبون في الجرائد والمجلات المختلفة، ومنهم صاحب مجلة
ومطبعة في مصر معروف، وفي حلب مجلة حديثة مثلها يظهر أن صاحبها مقلد
ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم،
ويثني عليهم وينوه بآرائهم، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به
بإمضائه.
ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين، الذي كتب مقالات في تقبيح
النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام،
وطلب أن تكون حكومة معطلة (لا دينية) ومقالات في سن قانون مدني للأحوال
الشخصية، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الإسلامية، وقد كان من أركان محرري
السياسة، ويقال: إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود. وأفراد هذه الطبقة لا
يدّعون التدين ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل، بل منهم من يفتخر بذلك.
(الطبقة الثانية) :
الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويمتعضون إذا وُصفوا بالزيغ والإلحاد،
وهم مع ذلك يطعنون في أصوله، ويجحدون بعض ما هو مجمع عليه ومعلوم
بالضرورة منه، ويشككون في بعض آيات القرآن، وهم لأفراد من الطبقة الأولى
إخوان وأخدان وأعوان، ويسمون الترك الكماليين ومقلدتهم: مصلحين، ويدافعون
عنهم بألسنتهم وأقلامهم، أو أقلام أفراد الطبقة الأولى.
ورأي هؤلاء في الدين أنه رابطة اجتماعية سياسية يجب أن يكفي في
الاعتراف لأهلها به موافقتهم للجمهور في بعض الشعائر والمشخصات العامة،
كالتجمل والزيارات في الأعياد، وإن لم يصل صاحبها صلاة العيد، واحتفال
الجنائز ومآتمها، وقراءة القرآن فيها، وإن اشتمل ذلك على أعمال كثيرة يحرِّمها
الدين، وكزيارات ليالي رمضان وطواف المسحرين فيها، ولكن الصيام نفسه ليس
ركنًا من هذه الشعيرة، ولا شرطًا لها، وكذلك الصلوات الخمس - حتى الجمعة -
والزكاة لا يدخلان في هذا الدين الرسمي من باب ولا طاق، فإنهما عندهم من
الأمور الشخصية، وتُعَدُّ كاستباحة السُّكر والقمار وغيرهما من المنكرات والفواحش
مما تتناوله الحرية الذاتية، كما أن ما تقدم من الطعن في الدين وخلفائه وأئمته مما
تتناوله حرية الأفكار، ويباح الخوض فيه للألسنة والأقلام، ونشره في الكتب
والرسائل، والمجلات والجرائد. قال بعضهم ما معناه: إذا تكلمتُ بلسان الدين أقول:
إن ما في القرآن من كذا وكذا، صحيح مسلَّم، وإذا تكلمت بلسان العلم والعقل أقول:
إنه غير صحيح وغير مسلَّم، يعني أن هذا الذي يثبته القرآن صحيح في اعتقاد
المسلمين، صحيح ومسلَّم عندهم بمحض التقليد، ولكنه غير صحيح ولا ثابت بدليل
عقلي ولا علمي، بل ربما يبطله الدليل.
ولولا أن قائل هذا زنديق ذو لسانين يُسِر الكفر بوحي الله، وإن قال أحيانًا:
قال الله، قال رسول الله - لما استباح التشكيك فيه بمثل هذا من قوله، بل لكان إثبات
كتاب الله تعالى للشيء أقوى برهان عنده على ثبوته في نفسه، وإن لم يثبته أحد
من خلقه بنظريات فكره وما وصلت إليه مباحث علمه، فإن علم الله محيط بكل
شيء من خلقه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بإذنه، أي بما وهبهم من أسباب
كسبه من الحس والعقل، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل ما ثبت عند البشر
من هذين الطريقين الكسبيين لهم، كان مجهولاً قبل ذلك عندهم، وذلك لا يقتضي
عدم ثبوته في نفسه ولو لم يثبته الوحي الصحيح، فكيف إذا أثبته.
(الطبقة الثالثة) :
الغماليج الإِمعون من مرضى القلوب المقلدين، الذين يشايعون المؤمنين إذا
كانوا معهم، ويجارون الملحدين إذا وُجدوا بينهم، فلا يُعرف لهم رأي ثابت مستقر
ينصرونه ويردون ما خالفه، وأما سيرتهم في العمل فهي تابعة لتربيتهم في بيوتهم،
وحال عشرائهم من لداتهم وأترابهم، ورفاقهم في المدارس وجيرانهم، فتراهم
يجمعون بين الكفر والإسلام، ومنهم من يصلي الصلوات الخمس لأنه تربى على
ذلك، ثم يقر ما هو كفر بإجماع المسلمين، وينصر الملاحدة القائلين به، فإسلامهم
تقليدي، وإلحادهم تقليدي، والغالب على أمرهم من يكون أكثر معاشرة وارتباطًا
بهم، ومساعدة لهم على أهوائهم ورغائبهم، ومنهم منهوم المال، ومفتون الجاه.
وثَم طبقات أخرى مدغم بعضها في بعض، فيعسر الحكم عليها بالقطع، على
تفاوت الأفراد فيها في العمل والفكر.
وطالما ضربت مثلاً لمسلمي الأمصار المتفرنجة وطبقات الملاحدة: اختلاط
الماء الحلو بالماء الملح، في مثل شط العرب من جهة البصرة، وساحلي رشيد
ودمياط من مصر، فما كان بين العذب الفرات والملح الأجاج من المائين يتفاوت
على نسبة القرب والبعد من كل منهما، وهكذا نرى بعض المسلمين المتفرنجين،
منهم ما غلب عليه أجاج الكفر، فصار من أهله مُسرًّا له أو معلنًا، ومنهم المزُّ بين
عذوبة الإيمان وملوحة الإلحاد، والمزازة فيه على درجات، بعضها مقطوب لا
تكاد تشربه إلا مقطِّبًا، وبعضها مغلوب إذا تجرعته لا تكاد تسيغه إلا متهوعًا.
ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض، والخُبْر الطويل العريض، أن من أفراد
أولئك الملاحدة دعاة الكفر، وسعاة للصد عن الإسلام، وأن منهم من يأخذ على ذلك
جعلاً من جميعات التبشير بالنصرانية، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض
جماعات اليهود البلشفية والصهيونية، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ
أجره منها، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها،
ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتَّابهم الأحرار، والحظوة
عندهم، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا
لهم على أقوامهم، ألم تر إلى المستعمرين والمبشرين من السكسون واللاتينيين،
كيف نوَّهوا وينوِّهون بعلي عبد الرازق وكتابه المعلوم كما رأيت في البرقيات العامة
في إبان ظهوره، وكما ترى في المقال الأول من مقالات هذا الجزء مترجمًا عن
كتاب فرنسي جديد، أُلِّف للإغراء بهدم الإسلام وتنصير المسلمين.
كان المرحوم الأستاذ الشيخ محمد مهدي وكيل مدرسة القضاء الشرعي أول
من أنبأني بأنه وجد في مصر جماعة تتعاون على الصد عن الإسلام، بالطعن في
شريعته، وفي حكومته، وفي لغته، وفي أئمته، وفي كل من نوَّه بهم التاريخ من
الخلفاء، وكبار العلماء والأدباء، وفي جمهور سلفه في أرقى العصور، ثم ظهرت
آثارهم الخفية في بعض الصحف العامة، وفيما نشروا من المصنفات الخاصة،
وكان تعاونهم بمقتضى تعارفهم وتوادهم، وانتماء بعضهم إلى حزب سياسي
ينصرهم.
ألم تر أن الوزارة الائتلافية كادت تسقط ويتمزق نسيج وحدة الأمة بانتصار
أعظم أركانها لمؤلف ذلك الكتاب الرجس الذي جهر ملفقه بالطعن في القرآن،
ترجيعًا لأصوات بعض أعدائه من المبشرين بالإنجيل.
وقد أخبرنا من خبر حالهم، وعاشر رجالهم، بطرق الدعوة التي يفتنون بها
الشبان عن دينهم، ولا سيما الأذكياء الفصحاء منهم، وسنبينها في مقال آخر، ومما
بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد ثم وضعوه.
وقد علم الجمهور أنه كان قد تألف في مصر حزب لحرية الفكر، كان
الملاحدة هم المؤسسين له بالطبع، من حيث لا يدري كثير ممن انتظم في سلكه،
أو جعل نوتيًّا لتسيير فلكه ولكن بعضهم تجرَّأ فيه على كلام ساء بعض من حضره
من النصارى، فانتصروا لدينهم بالفعل، وكان ما كان من التشاجر الذي أفضى إلى
القضاء على ذلك الحزب.
وقد نشرت جريدة السياسة الأسبوعية في مارس سنة 1928 مقالاً لأحد
أركانهم صرَّح فيه بأنه يوجد في مصر تعصب ديني (إسلامي) ضار، وأن
جماعة كانوا ألَّفوا حزبًا لمقاومته وتوطيد دعائم الحرية، وهذه الجماعة لا تزال
تعمل لهذه الغاية.
ولما أُلِّفت في مصر جمعية الشبان المسلمين، عارضوها بتأليف (جمعية
الشبان المصريين) لأجل القضاء عليها بدعاية الوطنية، قبل أن تشب عن الطوق،
وتشب نارها، فلا يكون لهم بها طوق؛ ولكنهم لم يقاوموا جمعية الشبان
المسيحيين بقول ولا عمل، بل وُجد فيها من يكبر شأنها، ويلقي المحاضرات في
ناديها.
وليس الإلحاد في مصر بحديث العهد، بل نبت قرنه مع التفرنج منذ أكثر من
قرن، ومازال يرتفع ويقوى حتى طمع أهله بإطفاء نور الدين، وقد استباحه مَنْ
استباحه باسم الحرية، وفنَّد الأستاذ الإمام جهالتهم ببعض مقالاته في الوقائع
المصرية. كان غربيًّا غريبًا، فأصبح شرقيًّا قريبًا، أو كان سيلاً أتيًّا، فأمسى
ينبوعًا وطنيًا، وكان شر مظاهره وأشدها خطرًا ما فاه به بعض ملاحدة المسلمين
في مجلس النواب، من الطعن في الشرع وفي نفس القرآن، إذ فاه فض الله فاه،
وسلَّ لسانه من قفاه، ولا رحمه ولا رحم مجلسه الموؤد، بتلك الكلمة التي تقشعر منها
الجلود،: أنه لا يحترم - أو قال: يحتقر - كتابًا يبيح تعدد الزوجات. ولكن ذلك
الملحد الإباحي لا يحتقر قانونًا يبيح الزنا للرجال والنسوان، وتعدد البغايا والأخدان،
دع اعتراض آخر منهم على من طلب وقف الجلسة بعض دقائق لأجل فريضة
المغرب، وتصريحه بأنهم لا يبغون الصلاة مطلقًا أو في ذلك المجلس، ووافقه
الجمهور على ذلك، فكان الأفراد الذين يحافظون على الصلاة على قلتهم يتسللون من
الجلسات فيصلون فُرادى ويعودون إليها.
وإنما الحديث عندنا هو تأليف الأحزاب وتعاون الجماعات على بث الدعوة
إلى الإباحة والإلحاد، ونشر الجرائد والمجلات لمقالاتهم المسمومة، وإلقاء
المحاضرات في ذلك ونشر الكتب الملعونة، حتى إنني كتبت في المنار أنه لا فرق
بين ملاحدة الترك الكماليين، وملاحدة هذه البلاد المفتونين والمقلدين، إلا أن أولئك
أولو قوة عسكرية، فينفذون إلحادهم بالقوة القهرية، ولا سلاح هنا إلا بيد السلطة
الأجنبية، ولقد كان بمجلس النواب في الآستانة مسجد خاص يصلي فيه الأعضاء
وتقام فيه الجماعة، كما كان يوجد في دور الحكومة مساجد يصلي فيها أهلها جميع
الصلوات التي تدركهم فيها.
تجديد ملاحدتنا وتجديد الإفرنج:
إن ما فعله ملاحدة الترك من هدم معالم الإسلام من حكومتهم، وما ظهر في
حكومتي الأفغان والإيران من بوادر الاقتداء بهم، وما ذكرنا القارئ به مما حدث
في مصر، بل سرت عدواه إلى كل قطر، هو الذي أطمع المستعمرين ودعاة
النصرانية في أوربة بالإجهاز على الإسلام، والتذفيف على ما بقي من مظاهر
الحكم الإسلامي في جميع بلاد الإسلام، وتجديد النصرانية وتعزيزها في الغرب
والشرق، وهاك إشارة إلى بعض ما فعلوا في تجديد دينهم مما يعد أكثره ذريعة
للتعدي على ديننا:
(1)
عقد دعاة البروتستانتية من الإنكليز وغيرهم مؤتمرًا بعد آخر في
القدس مهد النصرانية للتشاور في تعميم تنصير المسلمين، ونشرت جمعية لهم في
لندن بيانًا ذكرت فيه أنه لم يبق للإسلام رسوخ ولا ثبات إلا في جزيرة العرب،
وأنها تحتاج إلى مائة مبشر من المجاهدين لنشر النصرانية في هذه الجزيرة
والقضاء عليه في مهده الأول، ومعقله ومأرزه الأخير.
(2)
أعادت الدولة الفرنسية للجمعيات الكاثوليكية ما كانت صادرته من
أموالها وأوقافها تنشيطًا لها على نشر النصرانية في مستعمراتها الأفريقية وسورية.
(3)
أُلِّفت كتب جديدة باللغة الفرنسية وغيرها في الطعن على الإسلام،
والحث على تنصير المسلمين ولو بالقهر والإكراه، وقد نشرنا فصول بعض هذه
الكتب في هذا الجزء وفيما قبله، وسننشر بعضها فيما بعده.
(4)
صالحت الدولة الإيطالية دولة الفاتيكان الكاثوليكية، وأعادت للبابا
سلطانه السياسي في دائرته ومئات الملايين مما كانت اختانته من أموال دولته،
فتجدد للكنيسة الرومانية بعض سيادتها وسياستها، وهذا بدء انقلاب جديد في تجديد
النصرانية في الشرق والغرب، وذلك لا يضيرنا إلا إذا اعتدوا علينا، وهو أهون
من التعطيل والإلحاد عندنا.
(5)
نشطت الجمعيات التي تدعو إلى توحيد كنائس المذاهب النصرانية في
الشرق والغرب وسارت في سعيها خطوات إلى الأمام.
(6)
إن حركة تجديد الدين في إنكلترة تلي في العناية حركة إيطالية، وقد
اشتهر ما كان من اقتراح تعديل كتاب الصلاة المتبع في الكنيسة الرسمية ورد مجلس
الأمة (البرلمان) له المرة بعد المرة. وقد أُلِّفتْ جمعيات أخرى للبحث في العقائد
المسيحية، وتقاليد الكنيسة، وتقريب ذلك من العلم، واستعداد العصر.
(7)
تبارت الأمتان الإيطالية والإنكليزية في الرجوع إلى آداب الدين في
أزياء النساء وعاداتهن، ومقاومة ما أحدثن من الإسراف في التبرج والخلاعة،
المفضية إلى الإباحة، فكتب بعض كبار الكتاب من الإنكليز في ذلك مقالات نشرت
بعضها الجرائد المصرية.
وأما إيطالية فقد منع رجلها المجدد ووزيرها الأكبر كثيرًا من هذا الإسراف في
الأزياء والرقص والسباحة تجديدًا للدين والأخلاق لتجديد قوة الأمة وعظمتها، وذلك
مما يحمده كل فاضل له ولها.
العبرة في تجديد أوربة وتجديد ملاحدتنا:
وأما ملاحدة بلادنا ودعاة الكفر والإباحة فيها، فالتجديد الذي يدعون إليه هو
هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها، ويجمع كلمتها، ويهذب أخلاقها، من روابط
الدين والمحافظة على العرض، ويسمون الكفر والفجور وإباحة الأعراض تجديدًا
طريفًا، ومدنية وتقدمًا وترقيًا، ويسمون ما يقابل ذلك من التقوى والعفة والصيانة
قديمًا باليًا، وقد استشرى عيثهم وفسادهم، وعظم خطرهم بكثرة الجرائد والمجلات
التي ينفثون فيها سمومهم، على صغر شأنهم، وسوء سيرتهم الشافّ عن خبث
سريرتهم، فإنه لا مزية لأحد منهم في علم نافع، ولا عمل صالح، وإنما هي خلابة
الألفاظ التي وافقوا فيها أهواء كبار الفساق وصغار الأحداث، وإن أهل الرأي
والبصيرة عندنا يجزمون بأن جُل زعزعة العقائد وفساد الأعراض وإباحة النساء،
يناط بفساد أكثر الجرائد والمجلات، فيا حسرتا على جريدتي المؤيد واللواء،
ويا حسرتا على شعب يُعَدُّ من أرقى شعوب الشرق ثروة وحضارة وعلمًا ووطنية،
تعجز الأكثرية الساحقة فيه عن إيجاد جريدة يومية، تدافع عن عقائده وشريعته وآدابه
الملية، على حين نرى لكل الأقليات الملية المتعددة فيه جرائد متعددة تقوم بهذه
الوظيفة حق القيام! وهذه الأقليات بجملتها لا تبلغ عُشْر هذه الأكثرية الساحقة لها،
وإنما تفوقها في ثروتها النسبية وجامعتها.
خطر إباحة النساء أو تحريرهن:
إن مسألة فوضى النساء التي يعبر عن دعايتها بتحرير المرأة، وتفضيل
تهتكها - المعبَّر عنه بالسفور - على صيانتها وعفتها المعبر عنهما بالحجاب، قد
هبطت بالقطر المصري وغيره من شعوب الشرق المتفرنجة إلى مهواة من أشد
المهاوي خطرًا على أعراضها وتكوين بيوتها (عائلاتها) وعلى ثروتها وصحتها،
وإن سمى المفسدون دعاة الإباحة والدياثة هذا الخطر تجديدًا وتمدينًا، فقد صار النساء
من ربات البيوت والأمهات، ومن العذارى المتعلمات، يمشين في الشوارع بالليل
والنهار، مخاصرات للرجال، ويغشين الملاهي والمتنزهات، وهن كاسيات عاريات
، مائلات مميلات، ومنهم من يسبحن في البحر حيث يسبح الرجال أو معهم، وحيث
يراهن المارون بقرب الشواطئ منهم، ومنهن من يختلفن إلى المراقص المشتركة
فيرقصن معهم، وهن أشد من الأجنبيات عريًا وتهتكًا وخلاعة ومجونًا ورقاعة،
ومنهن من يدخلن في خلوات الحلاقين حيث يقصون لهن شعورهن ويحلقون لهن
أقفيتهن، ويزينون لهن نحورهن وصدورهن، وهنالك يلتقين بأخدانهن، ولا تسل عن
حديثهما جهرًا، وتواعدهما سرًّا، دع ذكر تعدد المواخير السرية، على كثرة الجهرية،
ومن المخادنات الشخصية، والجرائد والمجلات الكثيرة تغري بهذا أو تذكر من
وقائعه ما يجرئهن عليه.
وكان أول ما أعقبه هذا الفساد من الخطر قلة الزواج، المهدد للأمة بالوقوف
عن النماء، فالانقراض والفناء.
إن خصوم الإسلام القاعدين له كل مرصد يضحكون سرورًا مما أصابه من
الخزي بأهله، الذين يمهدون لهم السبل لاستعبادهم، والاستعمار لسائر بلادهم،
ويرقبون كل نبأة للإصلاح تخرج من فم أحد حكمائهم، أو حركة للتجديد الحق
يختلج بها بعض أعضائهم، فيبادرون إلى تحذير دولهم منها، وحضهم على تلافي
ما يخشى من تأثيرها، ثم إنهم يطعنون فيمن صدرت عنه لصد المسلمين الغافلين
عنها، كما ترى في مقال (ما يقال عن الإسلام في أوربة) من هذا الجزء نقلاً عن
(جول سيكار) العسكري الفرنسي (والأب لامنس) القس الجزويتي، والدكتور
(سنوك) السياسي الهولندي، من كلامهم في الأستاذ الإمام وصاحب المنار، وما
قاما به من دعوة الإصلاح، ورأيهم في المجلة وتفسيرها، ورسالة التوحيد وتحقيقها،
وتعزية أنفسهم بأن حركة التفرنج العصرية، قد أخذت تنتقص الأصول الدينية،
وبأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان لها المجال
الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم الجامدين، قالوا
(ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم، لقلة
عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) .
بشائر الإصلاح:
وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون بالإسلام والمسلمين،
معتمدين على مساعدة الملاحدة المتفرنجين بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها
على رؤوس المصلحين، وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام،
ونوابغ مريديه الأعلام، وهو الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ
الجامع الأزهر، وقد لقي من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة، بقدر ما كان
يلقى الشيخ محمد عبده نفسه من المناهضة والمعارضة، فصارت ميزانية الأزهر
تبلغ مئات الألوف من الجنيهات، وصار للمتخرجين فيه نصيب من مصالح
الحكومة، فنكس الجامدون على رؤوسهم، وارتكست فتنتهم بين جراثيم شيوخهم،
وانطلقت في المعاهد الدينية ألسنة العلماء المستقلين، وصارت رسالة التوحيد تُدَرَّس
في الأزهر للقسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي
التفسير فيه، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية متغلغلة في أحنائه ومناحيه، بل صارت
مرجعًا للفتاوى الرسمية، وأخذ ببعضها في إصلاح الأحكام الشخصية للمحاكم
الشرعية.
هذا وإن مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، معدود
من هؤلاء المريدين، وكذلك رئيس المجلس الإسلامي الذي أنشئ أخيرًا في بيروت.
وهنالك بشارة أخرى في تحول الأحوال، ونصر حزب الله على أحزاب
الشيطان، من الشيوخ الجامدين، والمتصوفة الخرافيين، والمتفرنجين الملحدين
الفاسقين، وهو تأليف جمعية الشبان المسلمين، وتعدد فروعها في الأقطار العربية
من شرقية وغربية، وفوق ذلك كله يقظة الأمة العربية في جزيرتها، وشروعها في
تنظيم قوتها، واتفاق إماميها في الجنوب والشمال على شد أواخي وحدتها باليمين
والشمال، والأمم إذا عرفت نفسها وتعارفت شعوبها، تعذر على غيرها القضاء
عليها والاستبداد فيها، فلا يستعجلن سيكار الفرنسي وسنوك الهولندي وأمثالهما
بإغراء دولهما بسرعة القضاء على المسلمين، فربما كان هذا الاستعجال قضاء
على سلطان مجترحيه فيهم لا عليهم ولو بعد حين، وربما كانت محاسنتهم،
والتوسعة عليهم في حرية دينهم، ومساعدتهم على تنمية ثروتهم، أقرب إلى طول
العهد على الاستفادة منهم.
وليعلموا أن المنار ليس عدوًّا لدولة من الدول، ولا خصمًا لشعب من الشعوب،
ولا لعلوم الغرب وفنونه المنزهة عن فسقه ومجونه، كما يقول سيكار وأمثاله؛
وإنما هو صديق لأمته ولمن يصدق في ودها، وليسأل إن شاء مسيو (روبير
دوكيه) أشد خصم للمسلمين في سورية وأقوى داعية إلى استعمارها، عما نصحت
به له ودللته عليه في سنة 1920 عن الطريق المعقول لكسب فرنسة مودة المسلمين
عامة والعرب خاصة، وسورية بالأخص بما يُعلي نفوذها الأدبي والاقتصادي في
الشرق كله، وعن قوله لي أن هذا مشروع معقول لا خيالي، وأنه يمكن تنفيذه إذا
وُجد منا ومنكم من يقول به.
ثم ليسأل مسيو (هانوتو) عما كتبته إليه بهذا المعنى في جنيف سنة 1921،
فإذا علم هذا وعقله حكم بأنه يوجد فيمن يعدونهم أعداء لفرنسة من هم خير لها من
بعض ضباطها وقسوس جزويتها، الذين يسخرون نفوذها لمنافعهم دون مصلحتها.
والعاقبة للتقوى، والسلام عن من اتبع الهدى.
هذا وإننا على ما عهد قراء المنار منا وهو ما عاهدناهم عليه منذ سنته الأولى
من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهم أول من يتلقاها
منهم، ويدخل في ذلك الدفاع بيان حقائق التنزيل، وما بيَّنه من سنة الرسول،
ومقاومة البدع والخرافات، وإبطال شبهات الزندقة والإلحاد والتحذير من أخطار
الاستعمار، والدمدمة على ضلالات المبشرين، وفضيحة مخازي المتفرنجين.
وتزييف مغالطات الماديين، وتأييد حرب الإصلاح والمصلحين والإصغاء لانتقاد
المخلصين، ونرجو من أهل الغيرة على الأمة والحرص على إحياء مجد الملة من
إخواننا العلماء، وسائر أفراد القراءة أن يشدوا أزرنا، ويؤدوا لنا حقنا، فقد آن لهم
أن يعتبروا بتعاون الملحدين والمفسدين على باطلهم، وتظاهرهم على من يَرُدّ على
أحد منهم، بل آن لحزب الإصلاح - الوسط بين حزب الجمود والتقليد، وحزب
التفرنج الملقب بالتجديد - أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا شتيتهم، ويتعارف شرقيهم
بغربيهم، وجنوبيهم بشماليهم، فإن يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية، وأرجو أن يكون آخر المنار خيرًا من أوله، وأن يزيده الله توفيقًا
بإحسانه وفضله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
_________
الكاتب: شكيب أرسلان
ماذا يقال عن الإسلام في أوربة
ووجوب إطلاع المسلمين عليه
لأمير البيان، ومدرة سلائل عدنان وقحطان
الأمير شكيب أرسلان
(1)
سبق لنا مقالة في المنار عن بعض الكتب التي أُخْرِجَتْ حديثًا في أوربة بشأن
الإسلام والمسلمين، ومن جملتها كتاب لرجل يقال له (جول سيكار) من كبار
تراجمة الجيش الفرنسي في المستعمرات الفرنسية سماه (العالم الإسلامي في
المستملكات الفرنسوية) .
وقد رددنا على شيء مما تضمنه هذا الكتاب، ووعدنا بإكمال البحث ونشر ما
قاله المؤلف المذكور عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، وعن خلفه
الأستاذ الحجة صاحب المنار أمتع الله ببقائه.
قال في الصفحة 73 تحت عنوان (الطور الديني الجديد) ما يأتي:
(إن المسلمين الحاضرين هم من حيث السواد الأعظم على مذهب السنة
والجماعة، إلا أن روح الحرية والنزوع إلى المبادئ العصرية قد ظهر في أكثر من
نقطة واحدة في العالم الإسلامي.
وقد كان مبدأ هذه الحركة في الهند ثم في فارس ومنها سرت إلى مصر وإلى
السلطنة (العثمانية) المنحلة. وسواءً أكان هناك أم هنا يجتهد المسلمون الأحرار
أن يثبتوا الوئام الواقع بين الإسلام والترقي، وبين العقيدة القرآنية والمقتضيات
العصرية، ومن سمع كلامهم خال أنه ليس ثمة إلا سوء فهم أدى إلى التناقض،
وأنه من الخطأ البيِّن الاهتمام ببعض جزئيات ليست لها إلا مكانة ثانوية، وأن يظن
أن بعض الأصول التي أولدها الاحتياج في وقت معين تعد قواعد سرمدية، وأن
يغفل عن سنة التحول التي عليها مدار الاجتماع البشري.
وهؤلاء العصريون Modernists الذين يليق بهم اسم (المعتزلة الجدد)
ينتقدون انتقادًا لا غبار عليه شدة جمود المقلدين وعماية هؤلاء، ويحاولون تخليص
قواعد الإسلام الأساسية وتطبيقها على مقتضيات الحياة والعلم الحديث، وقد امتاز
في هذا المشرب رجلان أحدهما (أمير علي) في الهند، والآخر - وهو الأهم -
الشيخ محمد عبده الطائر الصيت في جميع شمالي أفريقية مؤلف رسالة التوحيد.
فالشيخ محمد عبده (1849-1905) مفتي مصر الأكبر هو أنبغ تلاميذ
المحرك الأفغاني جمال الدين (1897-1939) باعث فكرة الجامعة الإسلامية،
وله طريقة خاصة به في تحقيق مصدر العقيدة وهي طريقة صارمة في ذاتها كما
يقر هو بذلك؛ لأنه لا يسلِّم بصحة شيء من مصادر الدين (إلا ما كان في القرآن
مع عدد قليل من الأحاديث المتعلقة بحياة الرسول) وخلاصة مذهبه وجوب التسامح
بين جميع مذاهب الإسلام المختلفة.
وأما فلسفته الأدبية فمستمدة من المذاهب الحرة لا سيما مذهب الغزالي المتكلم
الكبير المتوفى سنة 1277 (مسيحية) الذي له أكثر اليد في التسامح بين مذاهب
الإسلام المختلفة، وهذه الفلسفة مشتقة من الاعتزال الذي هو وليد المحاكمة العقلية
في علم الكلام الإسلامي، والذي يقول بالاختيار المطلق، لكنه مذهب اضمحل أخيرًا
على إثر المصارعة الهائلة التي وقعت بين حزب المفكرين وبين الجماعة المتشددة
التي كان لها الغلبة في نهاية الأمر.
(والشيخ محمد عبده كان أبصر الخطر الذي أحدق بعقيدة المسلمين من جراء
زحف العلوم الغربية (نقل المؤلف هذه العبارة بنصها من الأب لامنيس المستشرق
اليسوعي) فنشط إلى إجراء تمييز ينقذ به مذهب السنة والجماعة وشرع بإلقاء
دروس في الأزهر استجلبت الأنظار أولاً إلا أنه توقف عنها على إثر مقاومة العلماء
الجامدين، فعند ذلك أسس بمساعدة تلميذه المقدم السوري السيد محمد رشيد رضا
طريقة إصلاحية لسان حالها مجلة شهرية اسمها (المنار) ومنزع هذه الطريقة في
الدين هو تجديد المذهب الوهابي الذي لا يزال رشيد رضا يؤيده بمعارفه بالسنة،
وأما في السياسة فهي مبنية على الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، وبالحريّ:
على عداوة الأجانب، ولك أن تقول: على مقاومة الغرب.
وهي تميل إلى فكرة العصريين بتعديل الشريعة الإسلامية على ما يوافق
ضرورات الوقت؛ ولكنها تنشد أعتادها في مسلحة الوهابيين، وتستمد من مذهبهم
حججها على (المتفرنسين) فمن الوهابيين تأخذ مقاومة الخرافات الحشوية والتدمير
على المعتقدين بتأثير الأولياء، وعلى الطرق الصوفية، والمنار تطبع وتعيد طبع
تآليف ابن تيمية التي كانت منسية والتي هي أشد الكتب تهييجًا، هذا ورشيد رضا
هو سيد، أي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو نفسه يعلن كونه عربيًّا قرشيًّا.
والمنار في استمساكه بالجامعة العربية مقيم على إيجاب إعادة الخلافة، كما
أنه في مخالفته للمنازع القومية التي تخالف برنامجه الإسلامي العربي يشير بتوحيد
مذاهب الفقه الأربعة في مذهب واحد، وضم شتات الفرق الإسلامية إلى جماعة
كبرى يمكنها أن تقاوم أوربة، وأن تقاتل ثقافتها المتقدمة.
وهو يعترف بانحطاط الإسلام؛ لكنه يزعم معالجة دائه بالرجوع إلى عقيدته
الأصلية على أن يفهمها الناس حق الفهم مستمدة من الكتاب والسنة، ويقول: لماذا
نلجأ إلى علم الغرب الموجب للشبهات؟ فكل شيء هو في القرآن، والمنار ينشر
تفسيرًا لا بأس به، فيقول - مثلاً - عندما يشير كتاب الله إلى الصاعقة: يلزم أن
نفهم منها الكهربائية، كذلك المنار يشير بالاهتداء بأشعة (رونتجن) لتقوم مقام
(العِدة) وهي مدة الثلاثة الأشهر التي يأمر بها القرآن أن تكون فاصلة بين طلاق
المرأة وزواجها من غير زوجها الأول (هذا غير صحيح) ولما كانت العلوم العصرية
لا تستغني عن التصوير اللازم في التعليم وفي إدارة الجيش وفي إدارة الأمن العام،
فالمنار يستنتج جواز ذلك للمسلمين، وهو يوجب على الطرق الصوفية الاشتغال
بالمصالح العامة من مؤاساة وتعليم
…
إلخ.
وبهذه الأفكار الجريئة الشاذة (تأمل أيها القارئ) تزعم مجلة القاهرة (أي
المنار) متابعة طريقة المصلح الذي هو الشيخ محمد عبده، وصرف النظر عن
تعصبها الوهابي وشنآنها للأجانب، فهذا هو التجديد بالمقلوب (تأمل أيضًا) .
فالإسلام إذًا هو على ملتقى الطرق، ونراه غير شاعر كثيرًا بأنه أصبح
مضطرًّا أن يطرح من وسقه لينجو.
فأما ما كان من أمر الخلافة فالذي ألحظه أن التضحية بها تمت بدون ضوضاء،
ومثل ذلك تم العدول عما كان الهنود المسلمون يطالبون به من الأمور المتعلقة بهذه
الفكرة الجبروتية.
بقيت الأحوال الشخصية (تعدد الزوجات والميراث والعقود) فهذه هي التي
تمنع المسلمين في البلدان غير الإسلامية من الاستفادة من المساواة التامة المفروضة
عليهم، فكتاب الشيخ المصري علي عبد الرازق يشير عليهم بأن يتقدموا براحة
وجدان إلى قبول تشريع جديد بناء على كون النبي لم يلحظ جميع الأمكنة ولا جميع
الأزمنة، وهذا هو رأي كثير من مفكري الإسلام، فهل يتغلب رأي هذه الطبقة
المفكرة فيجر معه جماهير الإسلام، أم يبقى دون بلوغ الغاية؟ الجواب أن أوربة
تخطئ بعدم مراقبة سير هذه الحركة عن كثب، وقد تجد أوربة في هذا الرأي ما
يساعدها على سياسة إسلامية ذات فائدة حقيقية، ولو لم يكن منها سوى الاستغناء
عن سن قوانين مأخوذة من شريعة الإسلام لكفى، وهي المسألة التي تورطت فيها
فرنسة في أفريقية، ونشبت منها منشب سوء) انتهى ما نقله سيكار عن المستشرق
اليسوعي لامنيس.
ولنذكر هنا رأي المستشرق الشهير سنوك هور كرونجه الهولندي [1] الذي قال
في هذه المسألة قوله الفصل.
(إن الشريعة الإسلامية سواء من جهة النص أو من جهة الروح تعتمد على
القهر والإكراه في نشر العقيدة (تأمل أيها القارئ) لأن هذا الدين يُعِدُّ كل الناس
غير المؤمنين أعداء لله، ويوجد اليوم عصابة صغيرة من المسلمين تحاول تطبيق
الإسلام على الأفكار العصرية؛ لكن هؤلاء النفر تمثيلهم للدين الذي ولدوا فيه لا
يزيد على تمثيل (المجددين) Modernists للدين الكاثولوليكي، والحقيقة أنه لا
يوجد فرق في هذا الموضوع بين فقهاء المذاهب المختلفة) .
***
ماهية إصلاحيات الشيخ محمد عبده
يقول أحد مادحيه: إن المزية التي اشتهر بها الأستاذ هو الدقة النادرة التي يميز
بها بين ما هو في الديانة جوهري وما هو عرضي أو طارئ على الدين، وهو في
أشد اقتراحاته جرأة لم يتعرض بشيء للقسم الجوهري من العقيدة، ولا ترك نفسه
يهاجم أركان الدين الأساسية نظير كبار مصلحي القرن التاسع عشر كميرزا علي
محمد الباب المولود في فارس سنة 1821 مؤسس البابية، وبهاء الله مؤسس
البهائية في تركيا الذي صلبته الحكومة الفارسية سنة 1850 (هذا خلط عظيم،
فالذي صلبته الحكومية الفارسية هو الباب لا بهاء الله، وهذا قد توفي حتف أنفه في
عكا منذ نحو أربعين سنة) أو ميرزا غلام أحمد في الهند. بل الشيخ محمد عبده
بقي دائمًا ضمن حظيرة الإسلام بل ضمن مذهب السنة والجماعة [2] ؛ وإنما كان
عمله الوعظ والحث على التسامح الديني، والدفاع عن حقوق العقل، وإحياء
فضائل الدين، وتطبيق الإسلام على العلم الحديث.
ومما لا جدال فيه أن الشيخ محمد عبده قد دافع عن الإسلام دفاعًا شديدًا ذاهبًا
إلى حد ترجيحه على النصرانية، فهو ينتقد ما في النصرانية من الحث على الغلو
في حب القريب، وإماتة الحواس والزهد في الدنيا، غافلة عن طبيعة الإنسان
والغرائز التي هو مفطور عليها.
وهو يقول: (إنه لما جاء الإسلام خاطب العقل والإدراك، وأشركهما في
العواطف والحواس آخذًا بيد الإنسان إلى سعادة الدنيا والأخرى) .
ولكن الشجرة تعرف بثمارها، وهذه الجملة تكفي في هذا المختصر على الأقل
لتفنيد انتقادات الشيخ محمد عبده، فهل مآثر الإسلام تتحمل القياس مع مآثر
النصرانية، لا شك أن التاريخ الذي لا ضلع له يجاوب جوابًا فصيحًا على هذه
المسألة، وإن أراد القراء المسلمون الأدلة والوثائق فما عليهم إلا أن يختاروا، فإن
الكتب الحديثة المنوهة بمآثر النصرانية جديرة بالاعتبار.
(وذكر المؤلف سيكار في الحاشية اسم كتاب في تاريخ الأديان، وكتاب آخر
في بيان فضائل الدين الكاثوليكي؛ ولكن الجواب عن هذه القضية وهي أن الشجرة
تعرف بثمارها والتي معناها عزو تقدم أوربة إلى النصرانية، وعزو تأخر المسلمين
إلى الإسلام هذا الجواب سهل علينا وسنذكره بعد الانتهاء من ترجمة هذا الفصل،
وهما قد رأيا فيه حجج الأستاذ الإمام) .
ولم يغب عن الشيخ أن حالة المسلمين الحاضرة هي بعيدة جدًّا عن الصورة
التي يعطيها هو عن الإسلام، وفي الفصل الذي عنوانه (إيراد سهل لا يراد) تجد
منه أمرّ انتقاد لهذه الحالة إلا أنه يعزو هذا الانحطاط إلى انحراف المسلمين عن
جادة دينهم ويقول: إنهم طيلة ما كانوا سائرين بمقتضاه كما يجب كانت جيوشهم لا
تعرف إلا الغلبة والظفر، وكان سلطانهم فائقًا في اللمعان كل ما تَقَدَّمه من المدنيات،
وكان مفكروهم في مقدمة الحركة الفكرية التي كانت في عصرهم.
***
صدى الحركة العصرية في شمالي أفريقية
إن الحركة العصرية قد أخذت تنتقص المبادئ الدينية؛ ولكن انتقاصًا محدودًا
وبمقدار مختلف بين تونس والجزائر ومراكش، فأفكار الشيخ عبده تغلغلت في
عقول المفكرين ووجدت مجالاً واسعًا لدى الشبان على حين نرى أرباب العمائم
منكرين لها أشد الإنكار، ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن
يجهروا بأفكارهم نظرًا لقلة عددهم ولشدة مقاومة الجامدين لهم (لكن نفوذهم هو
الغالب حتى غلب على الأزهر ولله الحمد) .
وهؤلاء الجامدون [3] بعداوتهم لكل ما ليس به نص صريح في القرآن ينقمون
أشد النقمة على أتباع الطرق الصوفية تقديس الأولياء والطواف حول قبورهم،
وكل مقصدهم هو تطهير الدين من جميع الخرافات، ومن جميع الشعائر التي
يعدونها نصف وثنية، والتي قد شوهت عقيدة الإسلام الأصلية، وهي التي نجاحها
قد كان بسبب شدة تنزيهها الباري تعالى عن مشابهة مخلوقاته، فالشيخ محمد عبده
يقول: إنه إذا كان لا يجوز لمسلم أن يتشكك في النبوءة والمعجزات التي ثبت
وقوعها على يد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حر أن يعتقد أو أن لا يعتقد كرامات
الأولياء.
ثم إنه يضاف إلى ما تقدم من الملاحظات كون مسلمي شمالي أفريقية لا
يبرحون أمناء للإسلام، وإن كان بعض الفتور قد بدأ يظهر في عقيدتهم نفسها،
وهذا الفتور إن هو لم يخالط العقيدة فقد ظهر في الشعائر، مثل ذلك صوم رمضان
الذي كان يتمسك به أقلهم تحمسًا بالدين قد مالت اليوم حباله إلى الارتخاء.
ثم إن سيكار صاحب الكتاب عقد فصلاً نحو صفحتين لخص فيه كتاب الشيخ
علي عبد الرازق في أصول الحكم والخلافة، ولما كان هذا الكتاب معروفًا عند
القراء لم نجد حاجة إلى ترجمة كلامه. ثم انتقل إلى موضع آخر أهم من كل ما
تقدم وهو تنصير المسلمين، وهل هو مستحب أم لا؟ وهل هو ممكن أم لا؟ وقد
كانت النتيجة التي وصل إليها بعد مباحث أخذت 15 صفحة أن تنصير المسلمين
مستحب، وفيه من الفوائد الدينية والسياسية ما لا يخفى، كما أنه ممكن أيضًا خلافًا
لما يذهب إليه بعضهم من استحالته، وإن كان في حد نفسه أصعب من تنصير
الوثني، وفي كلامه لوم ظاهر للحكومة الفرنسوية التي لم توجه إلى هذا الأمر
الجلل العناية الكافية بزعمه.
هذا ما ذكره هذا الضابط الفرنساوي المسمى جول سيكار المترجم الكبير في
الجيش الفرنسي في أفريقية الذي ليس بقس ولا راهب، بل هو من مأموري حكومة
تعلن أنها لا دينية أو (لاييكية)
…
فتأمل.
وسنرسل الفصل المتعلق بتنصير المسلمين إلى المنار لأجل البحث فيما
تضمنه لأنه يحتوي مباحث كلامية، أو على رأيهم لاهوتية، صاحب المنار أولى
بالحكم فيها، أما أنا فإني أعلق على الفصل الذي ترجمته الملاحظات الآتية:
أولاً: ليس لسيكار، وبخاصة ليس للراهب لامنس اليسوعي أن يتكلم عن
قضية جمود الإسلام، ولا عن مخالفة نصوص كتابه للعلم الحديث، فليس في
القرآن ولا في الشريعة ما يخالف العلم الحديث، بل القرآن ملآن بالحث على العلم
مطلقًا لا يختص به نوعًا من الأنواع، وليس في الدنيا كتاب دعا إلى النظر والسير
وتدبر أسرار الكون ما دعا إليه القرآن، فهل يقدر أن يقول لامنس اليسوعي
والضابط سيكار شيئًا من ذلك عن الكتب المقدسة عندهما؟ وهي التي ألَّف علماء
من المسيحيين مؤلفات ذات أجلاد ضخمة على تناقض نصوصها وقواعدها مع
قواعد العلم الطبيعي الحديث؟ أيريان القذى في أعين غيرهما ولا يريان الخشبة
التي في أعينهما؟ أيتكلمان في الجمود وينسيان كل ما أورده المسيحيون من تاريخ
الكنيسة في محاربة العلم؟ لم نكن نود التعرض إلى هذا الموضوع لو لم يحرجانا
فيخرجانا إليه لأن الذي يقرع الباب يسمع الجواب.
ثانيًا: قضية أن (الشجرة تُعرف من ثمارها) لا تنطبق على ما نحن فيه،
فنحن لا يخطر لنا على بال أن ننكر ما في الإنجيل الشريف من مبادئ سامية وفضائل
بمثلها يرتفع قدر الإنسانية، وأن المسلمين يجب عليهم دينًا أن يقدسوا الإنجيل المنزَّل
ومبادئه الثابتة، ويؤمنوا بصاحبه صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بمحمد وإبراهيم
وموسى ونوح صلوات الله عليهم جميعًا، ولكن نسبة تقدم أوربة وتفوقها على غيرها
في الأعصر الأخيرة إلى ثمرات الدين المسيحي ونسبة انحطاط العالم الإسلامي
الحاضر إلى ثمرات التعليم الإسلامي كلاهما محض خطأ، فلو كان ذلك كذلك للزم أن
تتقدم أوربة وتترقى منذ دانت بالنصرانية، والحال أنه كان مضى عليها ألف
وخمسمائة سنة - مدة نظنها كافية للتأثر والتأثير - وهي دائنة بالدين المسيحي،
وكانت لا تزال متأخرة متقهقرة، لا بل قسم منها كان يعد متوحشًا فأين كانت ثمار تلك
الشجرة طيلة ألف وخمسمائة سنة؟ ومن الغريب أن أوربة لم تبدأ بالترقي - وهو
رقي لا يعدو في الحقيقة المادة والصناعة - إلا بعد أن تراخت فيها حبال العقيدة
المسيحية بخلاف الإسلام الذي كان راقيًا فائزًا يوم كان أهله شديدي الاعتصام به،
وأصبح متقهقرًا ضعيفًا عندما قعد أهله عن القيام بعزائمه، ثم إن المدنية اليونانية قبل
النصرانية كانت أعلى جدًّا من المدنية اليونانية بعد أن تنصر اليونان، فهل يريد
سيكار ولامنس أن ينسبا ذلك إلى تأثير الديانة؟ إذًا تكون الميتولوجيا اليونانية أعلى
من النصرانية! وهذا غير معقول، وأن مدنية رومة كانت لعهد وثنيتها أرقى جدًّا من
مدنيتها بعد أن تنصرت، لا بل كان دخول رومة في النصرانية موافقًا عهد بداية
انحطاطها، أفنقول كما قال بعض مفكري أوربة، ومنهم أتاتول فرانس: إن ظهور
النصرانية كان وَقفًا لسير المدنية في العالم، وأن بوار الدولة الرومانية كان من آثار
ديانتها الجديدة؟ نحن لا نعتقد ذلك، بل نذهب إلى أن لانقراض الدولة الرومانية
عوامل أخرى، كما أن انحطاط المدنية الأوربية في القرون الوسطى لم يكن المسئول
عنه الإنجيل، وكما أن انحطاط الإسلام الحالي ليس بالمسئول عنه القرآن، بل هناك
عوامل كثيرة، وأن نسبة درجة رقي الأمم إلى تأثير الديانة تفضي بنا إلى القول بأن
ترقي اليابان الحالي هو من ثمرات مذهب شينتو، هذا ما عدا المدنيات القديمة كمدنية
الصين والهند والمدنيات البائدة نظير مدنية بابل ونينوي والنبط والفينيقيين، وكل
هؤلاء كانوا وثنيين، فهل نجعل الوثنية مصدر هذه الثمرات؟ إذًا لم يبق فضل
للنصرانية على الوثنية.
إذًا البرهان على انحطاط الإسلام من جهة انحطاط المسلمين اليوم هو برهان
ساقط بأدنى تأمل، وليس الإسلام بمسئول في القرون الأخيرة عن انحطاط
المسلمين أكثر مما كانت النصرانية مسئولة عن سقوط رومة وانحطاط الأوروبيين
في القرون الوسطى، ولو عمل المسيحيون حق العمل بمقتضى مبادئ الإنجيل،
ولو عمل المسلمون حق العمل بأوامر القرآن ونواهيه لأفلحت كل من الأمتين في
الدنيا والعقبى، ونالتا سعادتي المادة والمعنى.
(ثالثًا) : الكلام المنسوب إلى (سنوك هور كرونجه) المستشرق الهولندي،
مستغرب من جهة الزعم بأن الإسلام يعتمد في نشر عقيدته على الإكراه، وذلك أن
قاعدة الإسلام النظرية والتي جرى العمل بها من صدر الإسلام هي {لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) نعم قاتل النبي صلى الله عليه
وسلم لأول الأمر المشركين لأنه نهاهم عن الشرك بالله، وعن عبادة الأصنام فلم
ينتهوا منها، وكان دعاهم إلى ذلك بالحسنى والقول اللين فلم يستمعوا له، بل ثاروا
به وقاتلوه فاضطر أخيرًا أن يقاتلهم بالسيف دفاعًا، وأن يحطم أصنامهم بالسيف
حتى يكون الدين كله لله، ومن المصائب أن بعض الناس يقرءون القرآن فتمر بهم
آيات لا يفهمون معناها أو يؤولونها بغير معناها الحقيقي إما عن ضعف ملكتهم
بالعربية - وهي ملكة لابد منها لمن أراد أن يفهم القرآن العزيز - أو لعدم اطلاعهم
على أسباب النزول والوقائع التي من أجلها وقع الوحي، وهذه المعرفة ضرورية
لمن أراد أن يفهم كتاب الله حق الفهم، فينشأ من جهل هؤلاء بهذين الأمرين خلط
كثير رأيناه في أكثر التآليف التي صنفها غير المسلمين في أمر القرآن.
أما المستشرق الهولندي سنوك هور كرونجه فهو من أعرف الأوربيين بالكلام
العربي والشرع الإسلامي، فإذا كان صدر كلام كهذا عنه فهو عن تجاهل لا عن
جهل، وعن تمام عن الحقيقة لا عن عماية، فسنوك هور كرونجه يريد قبل كل
شيء أن يخدم سياسة هولاندة التي من مقتضاها لأجل استتباب سلطتها على الجاوي
وسومطرة توهين العقيدة الإسلامية واستئصالها، مذهب الحيلة لا مذهب بالبطش،
فيقول: إن من الخطل العظيم أن تسن الدول الاستعمارية للمسلمين الذين استولت
على بلادهم قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية بمعنى أن هذه الشريعة فيها من
المرونة ما تسع معه احتياجات هذا العصر، بل يجب على الدول الاستعمارية أن
تعدل عن هذه الخطة، وتجتهد في إقناع المسلمين بأن شريعتهم أصبحت ثوبًا باليًا لا
يقيهم حرًّا ولا بردًا، فإن أرادوا أن يعيشوا كسائر الأمم المتمدنة لم يكن لهم مندوحة
عن طرح الإسلام تدريجًا؛ وبذلك تكون دول أوربة الغالبة اليوم على الإسلام اتقت
خطر انتفاض المسلمين عليها، وأمنت مستقبل سلطتها عليهم.
وفي كلامه هذا الذي لخصناه في حواشي (حاضر العالم الإسلامي) شيئان
جديران بالتقييد (أحدهما) أن سن قوانين عصرية مستمدة من الشريعة الإسلامية
غير موافق لا من جهة عدم مرونة هذه الشريعة، أو عدم اتساعها لذلك، بل من
جهة أنه لا ينبغي أن تسن لإدارة أمور المسلمين أنظمة عصرية يوقنون بها
أن شريعتهم قد تتلاءم مع العصر الحالي، فيزدادون بها تمسكًا وعليها عضًّا بالنواجذ،
والحال أنه يجدر بالدول المستعمرة أن تبذل كل جهدها في إقناع المسلمين بأن
شريعتهم أصبحت لا تصلح أصلاً لهذا الزمان، فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما
أن يموتوا، وإما أن ينبذوا شريعتهم، فالمسألة إذًا ليست حقيقة علمية، بل حيلة
سياسية.
(والأمر الثاني) هو في كلام هذا الرجل الاعتراف بأن الخطر الوحيد الذي
يتهدد الاستيلاء الأوروبي ليس روح القومية، بل روح الإسلام، فإذا ذهبت روح
الإسلام من الأمم المسلمة هان عليها خنوعها للأجانب، ولم يتكاءدها فقد استقلالها.
وبعبارة أخرى: إن رابطة الاستقلال في العالم الإسلامي متوقفة على حياة
الدين الإسلامي، فإن ذهب الاستقلال وأمن المستعمرون شر الانتقاض في المستقبل،
فهذا الاعتراف من مستشرق عظيم نظير سنوك هور كرونجه ثمين جدًّا، يزيد قيمته
اعتبارًا أنه لسان حال دولة أوربية مستضعفة لـ 45 مليونًا من المسلمين.
بقي نقطة ثالثة في كلام هذا المستشرق الهولاندي وهي قوله (أن بعض
المجددين الذين عندهم أفكار عصرية من المسلمين لا يمثلون الدين الإسلامي أكثر
مما تمثل فرقة العصريين Modernists في النصرانية الكنيسةَ الكاثوليكية) .
يريد أن يقول: إن التعاليم الكاثوليكية مخالفة للمبادئ العصرية، وإن الذين
يحاولون هذا الأمر من الكاثوليك يحاولون المحال تقريبًا.
فليس إذًا لسيكار ولا للامنس أن يتكلما في عدم انطباق الدين الإسلامي على
العلم الحديث وعلى الأوضاع العصرية، ويكونان قد احتجا بكلام رجل شهادته
جاءت على الكاثوليكية كما جاءت على الإسلام أو أشد، ولهذا قلنا إنه ليس لهذين
وأمثالهما أن ينعتا الإسلام بالجمود وحب التقليد، ونضيف إلى ذلك أنه ليس لسنوك
هوركرونجه أيضًا، ولا للهولنديين ولا للبروتستانت أن ينبزوا المسلمين بالجمود،
فإن البروتستانت المفتخرين على الكاثوليك بالأخذ بالمبادئ العصرية وبالعمل بالعلم
الحديث، لا يفترقون عن الكاثوليك في شيء من جهة أساس العقيدة المسيحية، وأن
أكثر ما بين الفريقين من الخلاف إنما هو في عقائد ثانوية، ولسنا الآن في حاجة
إلى تفصيل هذه الأمور، إذًا هذه الفرقة مثل تلك الفرقة من جهة الجمود على القديم
وحب التقليد؛ ولكنهم أولعوا بنقد الإسلام والمسلمين ونسوا أنفسهم.
وفي هذا الفصل الذي ترجمناه مظان أخرى تركنا الملاحظة عليها لفهم القارئ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شكيب أرسلان
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: هو الذي كان ادعى الإسلام، وجاور في مكة المكرمة يطلب العلم في الحرم الشريف عدة سنين لاختبار بواطن المسلمين لتكون دولته على بصيرة في معاملة عشرات الملايين منهم، وهو ممن يفترون الكذب على الإسلام وهم يعلمون.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
(2)
هذا هو الذي أسخط المستشرقين الهولندي والفرنسي على إصلاح الأستاذ الإمام، وكانا يودان كأمثالهما خروجه عن الإسلام كالباب والبهاء أو عن بعض أصوله كالقادياني.
(3)
كذا، وهو مخالف للإصلاح فإن المصلحين هم الذين ينقمون من أهل الطرق خرافاتهم الوثنية، وأما الجامدون فيتأولون لهم بل يوافقونهم على أكثرها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
(4)
نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية
أول شيء نقله الرافضي العاملي في طعن العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية
كلمة للفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهي دعوى التجسيم.
فنقول في الكلام عليها (أولاً) هل يعد الرافضي العاملي كلام ابن حجر هذا
في الدين ورجاله حكمًا صحيحًا مع علمه بما قاله في كتابه الصواعق، وفي كتابه
مناقب معاوية في بدع الشيعة وتضليلهم
…
إلخ، أم يقبل قوله في ابن تيمية وحده
دون معاوية ودون الشيعة كلهم كما هي عادة أمثاله من المتعصبين الذين لا يقبلون
إلا ما يوافق أهواءهم؟
نحن لا ننكر أن ابن حجر الهيتمي طعن في ابن تيمية، وما هو من طبقته في
علم من العلوم: لا علوم الحديث ولا التفسير ولا الأصول والكلام ولا الفقه أيضًا،
فابن حجر هذا فقيه شافعي مقلد لمذهب الشافعي غاية شأوه بيان ما قاله مَن قَبله في
المذهب، وبيان الراجح من المرجوح والصحيح وغيره، وأما ابن تيمية فمن أكبر
حفاظ السنة، ومع كون طبقته في فقه الحنابلة أعلى من طبقة ابن حجر في فقه
الشافعية فهو حافظ لفقه الأئمة، ومن أهل الترجيح بينها، بل هو مجتهد مطلق كما
اعترف له أهل الإنصاف من علماء عصره ومن بعدهم، وإن أنكر عليه بعضهم
بعض المسائل المخالفة لمذاهبهم، وما من إمام مجتهد إلا وقد أنكر عليه المخالفون
بعض أقواله وهم خير ممن يقلدونه ويعدونه كالمعصومين في عدم مخالفته في شيء
مما ثبت عنه.
ومع هذا نعتقد أن ابن حجر الهيتمي هذا لم يطلع على كتبه؛ وإنما قال فيه ما
قال اعتمادًا على ما أشاع عنه خصومه من المبتدعة ومتأولة الأشاعرة ومغروري
المتصوفة، فمن أعظم سيئاته عند هؤلاء رده على الشيخ محيي الدين بن عربي
وبيانه لضلالة وحدة الوجود المشهورة عنه وعن أمثاله.
وأما قوله بإظهاره للعامة على المنابر دعوى الجهة والتجسيم فهو مقلد فيه
لأولئك الخصوم في تسميتهم إثبات العلو لله تعالى جهة مستلزمة للتحيز والتشبيه -
للتنفير والتشهير بشناعة الألفاظ كتسميتهم لإثبات الاستواء على العرش والنزول إلى
سماء الدنيا ونحوهما تجسيمًا أي بطريقة اللزوم، فإن كان يلزم من إثبات نصوص
الكتاب والسنة ما ذكروا كما زعموا فهل يترك المسلمون نصوص الكتاب والسنة
لأجل نظرياتهم في هذه اللوازم؟ ثم هل يقولون بضلال سلف الأمة وحصر الهداية
بالمبتدعة المتأولين، مع العلم بأن مذهب السلف ونصيرهم ابن تيمية نفى هذه
اللوازم كلها؟ .
وهذا عين ما ناظره فيه العلماء الذين شكوا أمره إلى سلطان مصر، قالوا: إنه
يذكر للعوام آيات الصفات وأحاديثها من غير تأويل، وطلبوا منه هو عدم التصريح
بذلك للعوام فأبى عليهم ذلك؛ لأنه كتمان لما أنزله الله، والله تعالى يقول في كتابه
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ
أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) وأي طعن في الدين وجناية
عليه أعظم من القول بوجوب كتمان صفات الله المنزلة في كتابه بناء على أن
المبتدعة ومغروري المتكلمين قالوا بوجوب تأويلها.
وقد قال الرافضي العاملي بعد نقل ما ذكر عن ابن حجر الهيتمي: وقال ابن
حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حُكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم
من نسبه إلى التجسيم
…
إلخ.
ونقول في هذه الكلمة: (أولاً) إن ابن حجر صاحب الدرر الكامنة ليس ابن
حجر الهيتمي المكي كما يدل عليه قوله: (أيضًا) بل هو الحافظ ابن حجر
العسقلاني وكتابه (الدرر الكامنة) تاريخ له في أعيان المائة الثامنة، وهو مشهور
وإن جهله الرافضي العاملي المدعي، فما أجهل هذا الرافضي برجال أهل السنة
وكتبهم! .
(وثانيًا) إن الحافظ ذكر في تاريخه هذا ما تقوَّله الناس على ابن تيمية،
وما طعنوا به عليه كما يذكر هو وغيره من المؤرخين مثل ذلك في غيره من الأئمة
حتى المعصومين عند الشيعة؛ ولكنه هو يثني عليه أجلَّ الثناء، وقد رأيت كلامه
في الانتصار لمذهب الحنابلة، وهو مذهب السلف في الصفات الإلهية، ومنها صفة
العلو، وكذا في مسألة الحرف والصوت في شرحه للبخاري الذي نقلناه آنفًا؛ ولكن
الرافضي يعمى عن رؤية ذلك، ويوهم قراء كتابه أن الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام
وأستاذ أشهر العلماء والحفاظ في عصره يطعن في ابن تيمية ويقول بكفره، لعدم
تأويله للآيات والأحاديث الواردة في صفات الرب تعالى، كما أوهم مثل ذلك في
الحافظ الذهبي إذ قال بعد ما تقدم نقله عنه في ص 132 من كتابه ما نصه:
(ورَدَّ أقاويله وبيَّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر
الكامنة، والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين) .
(وثالثًا) ننقل من ترجمة الحافظ ابن حجر لابن تيمية، ومن ترجمة الحافظ
الذهبي فيها ما يُعرف به الحق من الباطل في مزاعم هذا الرافضي الكذاب فنقول:
ترجمة
شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره
للحافظ ابن حجر في تاريخه الدرر الكامنة [1]
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية
الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين بن مجد الدين.
وُلد سنة إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة سبع وستين
وستمائة، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأريلي والمسلم بن علان وابن أبي
عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود، وحصل الأجزاء،
ونظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتميز، وتقدم، وصنَّف، ودرس،
وأفتى وَفَاقَ الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع
في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.
وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين
وستمائة: قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع
من الكلام، ثم حضر القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال
الدين: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئًا عزّرناه.
ثم ذكر ما وقع له من الاضطهاد والحبس والإطلاق بتواريخه مفصلاً، فعلم منه
أن سببه سعاية بعض الجامدين على التقاليد الأشعرية والفقهية والمتصوفة إلى
السلطان في انتصاره لمذهب السلف، وفي إنكاره على الصوفية ولا سيما ابن عربي،
وفي مسألة الطلاق الثلاث حتى اتهموه بطلب الخلافة كما سيأتي ذكره وأن جميع
الحنابلة كانوا يضطهدون معه، وكان بعض المنصفين ينتصرون له لما امتازوا به من
الاستقلال في العلم، حتى إن الحكومة أكرهت الحنابلة كلهم على الإقرار بأنهم على
معتقد الإمام الشافعي، وذكر أن ابن تيمية نفسه كتب بخطه أنه على معتقد الشافعي،
وهذا تخلص حسن إن صح فالشافعي كان على مذهب السلف في اعتقاده بلا شك،
وذكر أن ممن انتصر لابن تيمية في دمشق قاضي الحنفية شمس الدين الحريري.
وأنه توفي معتقلاً في القلعة لعشرين ليلة خلت من رجب سنة 728 ثم قال:
قال الصلاح الصفدي: كان كثيرًا ما ينشد:
تمرت النفوس بأوصابها
…
ولم يدر عواها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي
…
أداة إلى غير أحبابها
وأنشد له على لسان الفقراء:
والله ما فقرنا اختيار
…
وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى
…
وأكلنا ما له عيار
يسمع منا إذا اجتمعنا
…
حقيقة كلها فشار
وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره
كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه، وكابن الوكيل وغيرهما، قال: ورثاه محمود
بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين
بن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين
بن فضل الله العمري وزين الدين بن الوردي وجمع جم، وأورد لنفسه فيه مرثية على
قافية الضاد المعجمة.
قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل
الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما
رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها، ولا أشد
استحضارًا للمتون وعزوها منه ! كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة
رشيقة لا يسبقه بها غيره وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير
والتوسع فيه.
وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع
ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذّ النفس؛ ولعل فتاويه في الفنون
تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم (ثم قال)
ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى
التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده.
وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن
عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت،
فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم (قال) ولم أر مثله في
ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا اعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له
في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه
وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وسطة
للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان لحلمه إجماع، فإن
كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بتفوقه، مقرون بندور خطئه وأنه بحر لا
ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ
من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال) وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا،
لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا
كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسألة من التشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل
يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر
على خطئه، وأجران على إصابته.
إلى أن قال: تمرّضَ أيامًا بالقلعة بمرض حاد إلى أن مات ليلة الإثنين،
العشرين من ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يُضرب بكثرة من
حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا.
قال الشهاب بن فضل الله: لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة
سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد، وأغلظ القول
للسلطان والأمراء، ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة طعام، فلم
يقبل من ذلك شيئًا، وأرسل له السلطان بقجة قماش فَردَّها.
(قال) ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل،
ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا
…
داع إلى الله فردٌ ما له وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا
…
خير البرية نور دونه القمر
حَبرٌ تسربل منه دهره حِبرًا
…
بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
…
مقام سيد تميم إذ مضت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست
…
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ
…
هذا الإمام الذي قد كان ينتظر [2]
قال: ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويه،
فناظره أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد ذا ماله، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر.
(قال) وحجَّ ابن المحب سنة 24 فسمع من أبي حيان أناشيد، فقرأ عليه
هذه الأبيات، فقال: قد كشطتها من ديواني ولا أذكره بخير، فسأله عن السبب في
ذلك فقال: ناظرته في شيء من العربية، فذكرت له كلام سيبوبه، فقال: يفشر
سيبويه، قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما
كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما
تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره (البحر) بكل سوء،
وكذلك في مختصره (النهر) ورثاه شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة،
وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى، ورثاه زين الدين بن
الوردي بقصيدة لطيفة طائية.
وقال جمال الدين السرمري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل
زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب يطالعه مرة، فينتقش في ذهنه وينقله في
مصنفاته بلفظه ومعناه.
وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين
والفرائض والحساب وفنون أخر، وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه
متقاربان. قال الطوفي: سمعته يقول: من سألني مستفيدًا حققت له، ومن سألني
متعنتًا ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته. وذكر تصانيفه، وقال في كتابه
إبطال الحيل: هو عظيم النفع، وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع
الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد
أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه، فيأخذ منها ما يشاء، ويذر
منها ما يشاء، ومن ثم نسبت أصحابه إلى الغلو فيه، واقتضى له ذلك العجب بنفسه،
حتي زها على أبناء جنسه، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء
وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء، فبلغ الشيخ
إبراهيم الرقي، فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق علي: أخطأ
في سبعة عشر شيئًا (كذا) ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها
زوجها أطول الأجلين.
وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سب الغزالي فقام
عليه قوم كادوا يقتلونه، ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه
بكلام قوي، فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ.
واتفق أن الشيخ نصرًا المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس
الجاشنكير فيه، فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي [3] لأنه كان يعتقد فيه أنه
مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه،
فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابًا طويلاً نسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة
الإلحاد [4] فعظم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد
مغيرة وقعت منه في قواعده وفتاويه، فذكر أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر
درجتين وقال: كنزولي هذا [5] فنسب إلى التجسيم. ورده على من توسل بالنبي
صلى الله عليه وسلم واستغاث، فأُشخص من دمشق في رمضان سنة 698 فجرى
عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك
يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصرًا قام على الشيخ كريم الدين الأيلى شيخ
خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من
تدريس الشريفية، فيقال إن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يومًا، فلم يخرج حتى
زالت دولة بيبرس، وخمل ذكر نصر، وأطلق ابن تيمية إلى الشام.
وافترق الناس فيه شيعًا [6] فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة
الحموية والواسطية وغيرها، من ذلك قوله في اليد والقدم والساق والوجه: صفات
حقيقية لله، وأنه مستوٍ على العرش بذاته، فقيل: يلزم من ذلك التحيز والانقسام،
فقال: إنا لا نسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز
في ذات الله تعالى.
ومنهم من نسبه إلى الزندقة لقوله: النبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به،
وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس
عليه في ذلك النور البكري، فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض
الحاضرين: يعزر، وقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصًا يقتل،
وإن لم يكن تنقيصًا لم يعزر.
ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله: إنه كان مخذولاً
حيثما توجه، وأنه حاول الخلافة مرارًا ولم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة،
ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وأن عثمان كان يحب المال، ولقوله في أبي بكر
أسلم شيخًا لا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيًّا والصبي لا يصح إسلامه على قول،
وبكلامه في قصة خطبته بنت أبي جهل وما بها من الثناء، وقصة أبي العاص بن
الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه
وسلم: (لا يبغضك إلا منافق) .
ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى؛ فإنه كان يلهج بذكر ابن
تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدًا لطول سجنه، وكان له وقائع شهيرة وكان إذا
حوقق وألزم يقول: لم أرد هذا؛ وإنما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيدًا.
(قال) وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن
بكر السكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمي في إنكار القدر أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكم
…
تحير دلوه بأعظم حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
…
ولم يَرضَه مني فما وجه حيلتي
فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل
أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتًا أولها.
سؤالك يا هذا سؤال تعنت
…
يخاصم رب العرش باري البرية
وكان يقول: أنا ما قرأت في الأقفاص.
وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح العمري في ترجمة ابن تيمية: حدا بي
(يعيش المزي) على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك
من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل
رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه
وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من
درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه
مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويروون من بحر
علمه العذب المنير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه
من أهل بلده داء الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد،
فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه
خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع
طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق ناظر منها
وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة
الأولى من منازعيه، واستغاثت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء
أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألَّبوا الرويبضة [7] للسعي
بهاتين للأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقل وأُوْدِع
السجن ساعة حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشروا لذلك قومًا من
عمار الزوايا وسكان المدارس، ما بين مجامل في المنازعة، ومخاتل في المخادعة،
ومجاهر بالتكفير مبادر بالمقاطعة، ليسوموه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن
صدورهم وما يعلنون، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل وقد دب إليه
عقارب مكره، فردَّ الله كيده في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على
أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم يزل ينتقل طول عمره من محنة إلى
محنة، إلى أن فوَّض أمره إلى بعض القضاة، فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل
بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله تُرجع الأمور،
وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودًا ضاقت
بجنازته الطريق، وأتى لها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقوم
الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.
قال الذهبي مترجمًا في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل
وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين،
وصنَّف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفه نحو
أربعة آلاف كراسة وأكثر.
وقال في موضع آخر: وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن
المذاهب الأربعة فليس له نظير.
وفي موضع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقل أن يذكر مسألة
إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنَّف فيها
واحتج بالكتاب والسنة.
ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض
مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن
يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين.
وقال في موضع آخر: بصير بطريق السلف، واحتج له بأدلة وأمور لم
يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء
المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه
إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات
مصرية وشامية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجَّاه الله تعالى، وكان دائم الابتهال،
كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش، له أوراد وأذكار يديمها يومية وجُمعية.
وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه،
ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبر قدره،
وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه
في كل فن، ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في
نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع والديانة،
ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض في هذا سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه
بذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله الزمان بل من أزمان.
وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في بيت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء
الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين
شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه
أحسن الطريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقرت الأمم كافة
أن هممها عن حصرها قاصرة، متعنا الله تعالى بعلومه الفاخرة، ونفعنا به في الدنيا
والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني، والحبر البحر القطب النوراني، إمام
الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد
علماء الدين، شيخ الإسلام، فخر الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتكلمين، قامع
المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن،
أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على
العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق،
علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون
البديعة، أبو العباس ابن تيمية.
وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدِّث حلب، قال: اجتمعت بالشيخ شهاب
الدين الأذرعي سنة 79 لما أردت الرحلة إلى دمشق، فكتب لي كتبًا إلى الباسوقي
والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك، فحصل لي بذلك
منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية وأثنى عليه وذكر
لي شيئًا من كراماته، وذكر أنه حضر جنازته، وأن الناس خرجوا من الجامع من
كل باب، وخرجت من باب البريد، فوقعت سرموذتي فلم أستطع أن أستعيدها،
وصرت أمشي على صدور الناس، ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموذة، وذلك
من بركة الشيخ رحمة الله تعالى انتهى.
(يقول أبو محمد شفيع صاحب المنار) هذا ما قال الحافظان الذهبي وابن
حجر وما نقلاه من ثناء الحفاظ والمؤرخين المنصفين في شيخ الإسلام أحمد تقي
الدين بن تيمية، وما نقلاه من تقولات حُساده وخصومه من المشايخ المقلدين
الجامدين، وما حققه بعضهم من أسبابها، ومنه يعلم كنه كذب السيد محسن العاملي
الرافضي وتعصبه وجهله؛ فإنه أوهم قراء كتابه الملفق أن الحافظين الذهبي وابن
حجر كانا يطعنان في عقيدته، وأنه لم يوجد في المسلمين من زكاه إلا تلاميذه، ثم
الشيخ محمد عبد الوهاب ثم صاحب المنار، وحسبنا هذا في بيان كذبه وافترائه
عليه وعلى العلماء وعلى الوهابية عن عمد وعلى جهل، وما زال غلاة الشيعة
أكذب الفرق وأبعدها عن طلب الحق في خلافها لغيرها كما قال أحد علماء الألمان
المستشرقين.
وأما طعنه علينا فإننا نفوض إلى الله تعالى أمر جزائه عليه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج: 38) .
(تمت الرسالة الأولى)
_________
(1)
كان عندنا أصل من هذه الترجمة منقول من نسخة من الدرر الكامنة في بغداد، كثيرة التحريف والتصحيف صححناه على نسخة دار الكتب المصرية ونسخة الأزهر.
(2)
وفي نسخة:
كنا نحدث عن حبر يجيء بها
…
أنت الإمام الذي قد كان ينتظر.
(3)
لعله سقط من هنا شيء.
(4)
قد نشرنا في المنار كتاب ابن تيمية للشيخ نصر هذا من قبل.
(5)
الصحيح أنه قال: (لا كنزولي هذا) كما نقله بعض المؤرخين، وهو الموافق لما صرح به في مواضع من وجوب الجمع بين إمرار النصوص ونفي التشبيه، فحرف كلامه أعداؤه، ولعل بعضهم لم يسمع حرف (لا) فنقله مثبتًا.
(6)
اقتصر الرافضي العاملي من هذه الترجمة الحافلة على ذكر هذه المطاعن المنقولة التي سيأتي فيها ما يدل على بطلانها من كلام العلامة العمري، وقد شاهدنا في عصرنا مثلها في شيخنا الأستاذ الإمام وشيخه السيد جمال الدين.
(7)
العبارة غير واضحة وهي اشارة إلى حديث ورد في أمارات الساعة منه: (وأن ينطق الرويبضة، قيل: وما الرويضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة) قال في النهاية:
والتافه: الخسيس الحقير، والمراد أن أدعياء العلم المقلدين الحاسدين صاروا يتكلمون في ذم إمام كشيخ الإسلام نابغة الأعصار.