الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
أنباء العالم الإسلامي
مشروع فرنسي عظيم الشأن في الحجاز
رأينا في بعض الجرائد الفرنسية أن بعض مسلمي أفريقية الفرنسية طلبوا من
الدولة الفرنسية أن تبني للحجاج منهم دارًا فرنسية كبيرة في مكة المكرمة، وأخرى
في المدينة المنورة يأوون إليهما، ويجتمعون فيهما مدة وجودهم في البلدين
المكرمين لأداء مناسك الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقت الدولة هذا
الطلب بالقبول والارتياح، وكان أول من تبرع له بالمال وزارة الحربية في باريس
تبرعت بمائة ألف فرنك.
نبأ عجيب غريب، وتبرع أعجب وأغرب، متى كان مسلمو المستعمرات
الفرنسية يعتقدون أن فرنسة تحرص على تسهيل أداء فريضة الحج لهم، وتهتم
براحتهم ورفاهتهم في سفرهم إلى الحجاز وإقامتهم فيه، وهم يرون بأعينهم
ويسمعون بآذانهم ما كانت تضعه من العواثير في سبيل أداء هذه الفريضة، وما
فعلته بأوقافهم وبتعليمهم الديني وغيره في الجزائر وما تفعله الآن في المغرب
الأقصى؟ وهل يُعقل أن يطلبوا منها أن يكونوا في البلاد المقدسة الحرة مستظلين
بعلمها وتحت مراقبة جواسيسها كما يكونون في بلادهم؟ لا يعقل بشر أن يُحبوا هذا
ويطلبوه.
ثم ما شأن وزارة الحربية الفرنسية من هذا المشروع فتتبرع له؟ أليس لأن
المرجع إليها في حفظ العَلَم الفرنسي وكرامته والدفاع عنه إذا أهين حقيقة أو ادعاء
عند الحاجة إلى هذا الادعاء، وأنه تمهيد لتدخلها في شؤون الحجاز؟
لا يرتاب عاقل في أن هذا الطلب تدبير سياسي في هذه الدولة نفَّذه لها بعض
صنائعها من المغاربة كالسي قدور بن غبرايط. وهي معذورة في السعي إلى سبق
دول أوربة كلها إلى تأسيس مكان نفوذ لها في البلاد المقدسة التي لا يبيح الإسلام
لأحد من غير المسلمين أن يملك شبرًا من أرضها، أو أن يدخلها زائرًا أو تاجرًا أو
عابر سبيل؛ ولكن يُستغرب أن يُطلب مثل هذا من الملك عبد العزيز آل سعود مع
العلم بصلابته في دينه وشجاعته وعدم إمكان التسلط على إرادته بشيء من
الترهيب أو الترغيب! لهذا نقول: إن الذين دبَّروا لفرنسة هذه المكيدة لم يحسنوا
التدبير، ولو أحسنوه لوضعوه في صورة غير مشوهة كهذه الصورة، ولأقنعوها
بأن تقدم بين يديه توددًا أمثل من التودد الذي كانوا شرعوا فيه مع الملك حسين لمثل
هذا الغرض، وهو ما حملته بعثة الحج المغربية من الهدايا.
كان من المعقول أن تمهد فرنسة بالاعتراف لحكومة الحجاز بأن سكة الحديد
الحجازية هي وقف إسلامي على مصالح الحرمين لتسهيل الحج، وأن الحق في
إدارتها واستغلالها لهذه الحكومة، وأن تقدم لها حاصل ريع ما استولت عليه منها
في سورية من عهد إدارتها له إلى اليوم، وأن تعترف لها أيضًا بحق صافي ريع
أوقاف الحرمين في تونس والجزائر والمغرب الأقصى، وتُطْلِعَهَا على حساباتها،
وتؤدي إليها ما فضل منها ولو بعد ما أنفقته على مسجد باريز.
بعد مثل هذا التودد تطلب أو تشترط على حكومة الحجاز أن تبني من ريع
هذه الأوقاف معهدًا صحيًّا لحجاج المغاربة في مكة المكرمة، وآخر في المدينة
المنورة يكون خاصًّا بهم، لا تباح الإقامة فيه لغيرهم بتقديمه عليهم إذا وُجدوا، وأن
يكون الحق في إدارته لمصلحة الأوقاف الحجازية، وحسْب فرنسة من فائدته سهولة
مراقبة حجاج المغاربة في الحجاز على من يتولون تدبير أمورهم في السفر إلى
الحجاز، واستمالتها للمسلمين بالعناية المعقولة بأمرهم. مثل هذا يُحتمل أن تقبله
الحكومة السعودية لما يظهر فيه من أمارات حسن النية، وأمن سوء العاقبة التي
عرفت من الأوربيين وسائلها ومقاصدها، ومنها أن التساهل معهم بإباحة الانتفاع
بشيء ما من بلاد الشرق يجعلونه حقًّا لهم إلى الأبد، ومن هذا القبيل ما يسمونه
بالامتيازات الأجنبية في مصر وسائر البلاد التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية
بالفعل أو تحت سيادتها، ومنه وجود قناصلهم في جدة، وأعجب منه مسألة زيارة
اليهود لجدار المسجد الأقصى المسمى بالبراق، كان تساهلاً من المسلمين ورحمة
باليهود الذين لم يرحمهم أهل ملة في الأرض غيرهم، والآن يحاولون أن يجعلوه
بنفوذ الدولة الإنكليزية حقًّا لهم، ووسيلة إلى ما هو أعظم منه.
تعليم البنات ونفقته على الوالد
تناقلت الجرائد في هذه الأيام أن أحد قضاة الشرع في مصر حكم لامرأة على
رجل بنفقة ابنته منها إلا أجرة تعليمها في المدرسة، فقد أثبت في الحكم أنها ليست
عليه شرعًا! فكان هذا الحكم مدعاة الاستغراب والقيل والقال؛ لأن تعليم البنات صار
في هذا العصر من أهم الواجبات عند جميع طبقات الناس، فترى بعضهم يقدح في
هذا القاضي، وبعضهم وهم الملاحدة يقدحون في الشرع نفسه، وكل منهما جاهل
مسيء، ولا يمكن العلم بخطأ هذا القاضي إلا من نص الحكم الذي كتبه ونطق به
فإن من تعليم البنات ما هو واجب مفروض شرعًا، ومنه ما هو فضيلة مندوب
شرعًا، ومنه ما هو محرَّم أو مكروه شرعًا، وما يدرينا لعل هذا القاضي علم أن
تلك الوالدة تعلِّم بنتها في مدارس الراهبات أو غيرها من مدارس دعاة النصرانية
التي يُلَقَّن فيها التلاميذ عقائد دين أهلها، ويُجبرون على حضور عباداته في كنيسة
المدرسة، فهل يقول مسلم يؤمن بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم: إن
التعليم في هذه المدارس شرعي يوجب الشرع نفقته على والد البنت؟ كلا إنه لا
يقول هذا إلا ملحد في الإسلام أو جاهل لعقائده وأحكامه كالذين يعلِّمون بناتهم
وأبنائهم في هذه المدارس، ولا يبالون ما تجنيه على دينهم.
وإذا بحث المسلم العالم بدينه عن كثير من مدارس البنات التي تُسمى إسلامية
يجد في تعليمها من المنكرات الشرعية ما لا يسعه القول بإباحته، وقد بلغنا أن خير
هذه المدارس في أصل وضعها وهي مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية لا يمرن
فيها البنات على صلاة الفريضة، فماذا يقال في غيرها؟
احتج بعض الجرائد على حكم هذا القاضي بحديث (طلب العلم فريضة على
كل مسلم) وزادوا فيه نقلاً عن أمثالهم من الجاهلين بالحديث (ومسلمة) وما هي
منه ولكنها مرادة كسائر نصوص الشرع العامة التي يذكر فيها (المسلمون أو
المؤمنون) من باب التغليب، فالأصل في جميع أحكام الشرع أن تكون للمؤمنين
والمؤمنات إلا ما خص بأحدهما كأحكام الحيض والنفاس الخاصة بالنساء، وأحكام
الجهاد الخاصة بالرجال مثلاً، وقد بيَّنا ذلك في مواضع آخرها مقالات (المساواة
بين الرجال والنساء) التي تنشر في جريدة كوكب الشرق، وفي المنار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة مصر والسودان
ومشروع المعاهدة بين مصر والإنكليز
علم الإنكليز بما علمتهم ثورة مصر سنة 1919 أن قولهم: إننا ندير الأحكام في
مصر برجال - أي بآلات - من أهلها، قد بطُل وتعذر بقاؤه، فوطنوا أنفسهم على
الاعتراف باستقلال مصر المقيد بما علمنا، والاستقلال بالحكم في مملكة السودان
الشاسعة الواسعة، وطرد المصريين منها مع الاستمرار على أخذ المال الكثير من
خزينة مصر باسم السودان في كل سنة، فافترصوا الوقت المناسب لتنفيذ ذلك
فنفذوه، وأما مصر فسلكوا في معاملتها مسلك المضايقة لحكومتها في كل تصرف،
والمعارضة لما يقرره (برلمانها) حتى في الأمور الداخلية حتى رموها بالشلل،
وكان ما كان من إفضاء ذلك إلى إلغاء حكومة الدستور وتعطيل البرلمان وتأليف
وزارة محمد محمود باشا سليمان زعيم الحزب الدستوري الذي يعتمدون عليه
بمصر، وفي إثر ذلك سقطت وزارة المحافظين البريطانية المثيرة لهذه المشاغبات،
والمدبرة لهذه المضايقات، والمديرة لهذه المكايدات، وتبعها إلجاء المندوب السامي
البريطاني المنفذ ما أشرنا إليه من السياسة السوءى إلى الاستقالة من منصبه، ثم
وضع أساس الاتفاق على حل عقد المشكلة المصرية بمعاهدة تُعقد بين الحكومتين
كما بيَّنا ذلك كله في أجزاء منار هذا العام (الهجري) الثاني والثالث والرابع.
ورأى الإنكليز أن المعاهدة التي عرضوا مسائلها على محمد محمود باشا
وتراضوا معه عليها لا تكون شرعية إلا إذا وافق عليها برلمان مصري، ومن ثم
سعوا إلى تغيير الوزارة (الدكتاتورية) وإعادة الحكم الدستوري إلى مصر بعد أن
آنسوا من رئيس الوفد المصري ميلاً إلى الاتفاق معهم على هذا الأساس في الجملة،
وقد كان ذلك أمرًا مفعولاً، فتألفت وزارة مؤقتة برياسة عدلي باشا يكن لإعادة
انتخاب النواب المصريين، فكان ذلك وكانت الأكثرية العظمى في مجلس النواب
الجديد للوفد المصري وكذلك مجلس الشيوخ، ومن ثم تألفت الوزارة الدستورية
الجديدة برياسة مصطفى باشا النحاس رئيس الوفد وتلا ذلك تأليف وفد من وزارته
لمفاوضة الحكومة البريطانية في المعاهدة الجديدة على ذلك الأساس بعد الاتفاق على
ما يعرضه الوفد من التحوير والتعديل الذي أشرنا إليه في جزء المنار الرابع (ص
315 م 30) بقولنا في المشروع: (ومن الناس من يظن كما نظن أن البرلمان
الوفدي لا يرده ردًّا ولكنه يتوخى خدمة البلاد بما يبين به ما فيه من إجمال،
ويوضح ما فيه من إبهام، ويقيد ما تخشى مغبته من إطلاق) وقد كتبنا هذا قبل
تأليف البرلمان الجديد.
ذهب وفد المفاوضة إلى لندن للمفاوضة، فتلقته الحكومة البريطانية بالحفاوة
والإكرام والمآدب، وكان من إكرامه مقابلة (الملك صاحب الجلالة البريطانية) له
بالمجاملة، ثم دارت المفاوضات بينه وبين حكومة العمال، وتواترت الأنباء البرقية
اليومية بأن الفريقين المتفاوضين حريصان على الاتفاق لم يظهر منهما إلا حسن
النية التي تبشر بكل خير، حتى إذا ما جاء دور البحث في السودان تصادما فيه
تصادمًا كاد يحبط كل ما تقدمه من تساهل، ويعيد مصطفى باشا النحاس بخفي
حنين كما عاد سلفه سعد باشا قبله.
ظهر للوفد المصري أن الإنكليز يريدون الانفراد بالحكم في السودان، أي
جعله بريطانيًّا محضًا لا حظ لمصر من الشركة الفعلية فيه، وأن يكون ذلك بإقرار
الوفد، وتصديق البرلمان المصري على الحالة الحاضرة فيه، ويأبون أن يكونوا
شركاء لمصر فيه بالمساواة الفعلية، وهو حق مصر وحدها وليس لهم أدنى حق
قانوني بهذه الشركة التي عقدوها سنة 1899 مع بطرس باشا غالي الذي كان وزير
الخارجية المصرية، إذ لا حق له بعقد هذه الشركة، وكان لورد كرومر أراد يومئذٍ
أن يحمل مجلس النظار المصري على عقد تلك الشركة، فكلَّم رئيسه مصطفى
فهمي باشا في ذلك فأجابه أن الفرمانات السلطانية بالاستقلال الإداري لمصر لا تبيح
للحكومة المصرية ذلك فهو حق السلطان العثماني وحده، فلما لم يمكن جعل عقد
الشركة بقرار من مجلس النظار بناء على أنه لا حق له في عقدها رضوا بما دونه،
وهو عقدها مع وزير الخارجية.
وقد قلنا في آخر الجزء الثالث (ص420 م 30) بعد بيان مشروع الاتفاق
الذي حمله محمد محمود باشا ما نصه (مسألة السودان أهم مسائل هذا الاتفاق على
الإطلاق؛ لأن مصر لا حياة لها بدون السودان، فهو منها بمنزلة القلب من البدن،
والنيل الآتي منه بمنزلة الدم الذي يغذي الجسد ويحفظ حياته) .
فأي خزي أخزى من إعطاء مصر السودان العظيم الشأن للإنكليز بصفة
رسمية تتفق عليها الحكومة والأمة الممثلة في برلمانها؟ وحرمان نفسها من هذه
المملكة العظيمة التي هي أصل وجودها ولا بقاء لها إلا بها؟
نعم إن الإنكليز مستولون على السودان بالقوة التي مكنها فيه إهمال مصر
السابق من عهد إرسال إسماعيل باشا إليه (غوردون) الإنكليزي وإعطائه حق
التصرف فيه وإعانته على ذلك بالمال؛ ولكن هذا الاستيلاء غصب همجي لا حق
قانوني، فإذا لم يقرِّه البرلمان المصري فلمصر الحق في كل وقت بالمطالبة به
بلسان القانون الدولي والحق الطبيعي، ثم بالقوة عند سنوح الفرصة، ولا ييأس من
فرص الزمان إلا الجبناء الجاهلون، كما أنه {لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ
الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .
لا يخفى على أحد من رجال الوفد ولا غيرهم أن هذه المعاهدة التي تدور
المفاوضة بشأنها مقيدة لاستقلال مصر بقيود ثقيلة فيها خطر كبير، وأن النص فيها
على انتهاء الاحتلال لا معنى له في الواقع إلا انتقال الجيوش المحتلة من القاهرة
إلى منطقة الإسماعيلية وما وراءها إلى السويس من أهم المواقع العسكرية في البلاد،
وأنها تتضمن خطرًا آخر هو شر من التحفظات الأربعة التي قيد به تصريح
فبراير سنة 1922 المشهور، وهي القيود العسكرية المعروفة، وما عدا ذلك من
المزايا فيها كالدخول في عصبة الأمم وحماية الأجانب وإلغاء المحاكم القنصلية فهو
قليل ضئيل حقير، إذا بيع به السودان العظيم الضخم الكبير.
لذلك نجزم بأن قطع المفاوضات وفشل مشروع المعاهدة خير وأبقى على
مصر، وأضمن لحياتها في المستقبل من إعطاء السودان للإنكليز عطاء رسميًّا.
إن طبيعة الاجتماع البشري سائرة سيرًا سريعًا إلى القضاء على استعباد
أقوياء الشعوب لضعفائها باسم الاستعمار وغيره من الأسماء الخادعة كالحماية
والانتداب، وإذا كانت الهند مصدر ثروة الإنكليز وعظمتهم وهيكل إمبراطوريتهم قد
هبت تطلب الاستقلال المطلق، وهي تسير إليه سيرًا طبيعيًّا لا شك في وصولها
إلى الغاية منه، فهل يليق بمصر أن تهب السودان لهم هبة رسمية؟
إن هذا لا يعقله أحد أوتي مسكة من العقل والشرف.
_________