الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسائل وفتاوي للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين
…
رسائل وفتاوى
(الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ جمعان بن ناصر زاده الله علماً وفهماً، ووهب لنا وله حكماً، ووفّقنا وإيّاه لسلوك صراطه المستقيم، ورزقنا وإيّاه الاستقامة، وجنّبنا طريق الضّلال أصحاب الجحيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
فموجب الخط إبلاغ المحبّ جزيل السّلام والسّؤال عن الأحوال لا زلتم بخيرٍ وخطكم الشّريف وصل، أوصلكم الله إلى الخيرات. ومن طرف ما ذكرت من الأخبار فالحمد لله ربّ العالمين حمداً كثيراً كما هو أهله وكما ينبغي لعزّ جلاله وكرم وجهه. ومن طرف الأخبار البيعدة فلم نتحقّق إلى الآن أمراً بيّناً والطّائفتان متقابلتان. نسأل الله أن يصلح مَن في صلاحه صلاح المسلمين، ويهلك مَن في هلاكه صلاح المسلمين. وما أشرت إليه من أنّا مستوجبون لما هو أعظم مما ذكرت، فالأمر كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، [الشّورى: 30] .نسأل الله العفو والعافية لنا ولجميع المسلمين: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، [القصص، من الآية: 68] .
ويا أخي، دفعنا إلى هذا الزّمان الذي ترى القابض فيه على دِينه كالقابض على الجمر، والقائم فيه بالحقّ كأنّما يجرع النّاس كأس المرّ، نفوس استحلّت مذاق الباطل، وقلوب استولى عليها حبّ العاجل، وأكثر طلبة العلم اليوم صاروا إمّا في الإفراط أو التّفريط. نسأل الله لنا ولكم الهدى والسّداد.
وأيضاً يا أخي لما أراد الله
سبحانه ما ترى فالذي ينبغي لمثلنا حثّ النّاس على الخير حسب الاستطاعة، واستعمال الرّفق والمداراة من غير مداهنة، والفرقة عذاب، والجماعة رحمة. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: الجماعة رحمة والفرقة عذاب. وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبّون في الفرقة، ونسأل الله أن يصلح مَن في صلاحه صلاح المسلمين، وأن يهلك مَن في هلاكه صلاح المسلمين. وما ذكرت من المسائل:
المسألة الأولى: فيمَن استأجر أرضاً لغرسٍ أو بناءٍ مدّةً معلومةً الخ؟
فالمذهب كما ذكرتم أنّ مالك الأرض يخيّر بين تملّك الغراس أو البناء بقيمته أو تركه بأجرة المثل مدّة بقائه أو قلعه وضمان نقصه، فإن اختار صاحب الغراس أو البناء قلعه فله ذلك وليس لربّ الأرض منعه إذا أراده. وهذا ما لم يشترط قلعه عند انقضاء المدّة.
وأمّا صفة تقويمه إذا اختار ربّ الأرض أخذه بقيمته، فقال في المغنِي والشّرح: لا يمكن إيجاب قيمته باقياً؛ لأنّ البقاء غير مستحقّ ولا قيمته مقلوعاً؛ لأنّه لو كان كذلك لملك القلع مجاناً، ولأنّه قد لا يكون له قيمة إذا قلع قالا ولم يذكر أصحابنا كيفية وجوب القيمة.
والظّاهر أنّ الأرض تقوّم مغروسة ومبنية ثم تقوّم خالية فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء. انتهى.
وجزم بذلك ابن زرين في شرحه وتبعه في الإقناع وشرحه. وكذا في شرح المنتهى، وبيان ذلك إذا قوّمت الأرض خالية بمائة ومغروسة أو مبنية بمائتين مثلاً، صار قيمة الغراس أو البناء مائة، فإن اختار مالك الأرض القلع مع ضمان النّقص وقيمة الأض خالية مائة وقيمتها مغروسة مائتان
فقيمة الغرس أو البناء مائة، فإذا قلع صارت قيمته عشرين مثلاً، تبيّنّا أنّ النّقص بالقلع ثمانون يدفعها صاحب الأرض لصاحب الغراس أو الباء، وهكذا الحكم لو اشترى أرضاً فغرس فيها أو بنى ثم فسخ العقد بنحو عيبٍ أو إقالةٍ. قال في الإنصاف: على الصّحيح من المذهب. قال: وأمّا البيع بعقدٍ فاسدٍ إذا غرس فيه المشتري أو بنى فالصّحيح من المذهب أنّ حكمه حكم الستعير إذا غرس أو بنى. ذكره القاضي وابن عقيل والمصنّف في المغنِي وقدّمه في الفروع. انتهى.
وأمّا العارية التي لم يشترط فيها القلع على المستعير عند رجوع المعير فمالك الأرض يخيّر بين القلع وضمان النّقص وبين أخذه بقيمته لا تبقيته بالأجرة بغير رضا المستعير، قالوا: فإن أبى المالك من أخذه بقيمته وقلعه وضمان نقصه ولم يتراضيا على تبقيته بالأجرة بيع عليهما إن رضيا أو أحدهما ويجبر الممتنع منهما إذا طلب صاحبه البيع وقسم الثّمن بينهما يقسط على الأرض والغراس كما تقدّم. ولم يقولوا بالبيع والحالة هذه في صورة الإجارة السّابقة، إلاّ أنّ صاحب الغاية قال: ويتّجه لو أبى صاحب الأرض الثّلاث، ومالك الغرس أو البناء قلعه بيعت الأرض بما فيها كعارية. انتهى.
وقول صاحب المحرّر في العارية: إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته ومن قلعه مع ضمان نقصه بقي في أرضه مجاناً. وهذا وجه في المذهب.
والوجه الثّاني: وهو المشهور، أنّه إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته ومن قلعه مع ضمان نقصه ولم يتراضيا على أجرة بيع عليهما بطلب أحدهما، وما ذكرتم من عبارة التّحفة فيحتمل أن يكون مراده بالتّقويم كما ذكرنا ويحتمل أنّه يريد أن يقوّم الغرس وحده قائماً كما هو قول لبعض أصحابنا.
وقال الشّيخ تقيّ الدّين ـ ر حمه الله ـ: ليس لأحد أن يقلع غراس المتسأجر وزرعه وبناءه صحيحةً كانت الإجارة أو فاسدةً. بل يبقى وعلى ربّه أجرة المثل ما دام قائماً فيها. وقال فيمَن احتكر أرضاً بنى فيها مسجداً أو بناء وفقه عليه فمتى فرغت المدّة وانهدم البناء زال حكم الوقف وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائماً فيها فعليه أجرة المثل. قال في الإنصاف: وهو الصّواب، ولا يسع النّاسع إلاّ ذلك.
وإذا بقي الغراس أو البناء بأجرةٍ لم يشترط تقدير المدّة؛ لأنهم لم يذكروا ذلك، وهو ظاهر. بل يشترط تقدير أجرة كلّ سنة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسألة الثّانية: نكاح الرّجل المرأة في عدّة أختها أو خالتها ونحوهما، ونكاحه خامسة في عدّة رابعة؟
فإن كان الطّلاق رجعيّاً فهذا النّكاح باطل عند جميع العلماء. وإن كانت العدّة من طلاق بائن ففيه خلاف مشهور. والمذهب التّحريم. قال في الشّرح الكبير: إذا تزوّج الرّجل امرأة حرمت عليه أختها وعمّتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها تحريم جمع، وكذلك إذا تزوّج الحرّ أربعاً حرمت عليه الخامسة تحريم جمعٍ بلا خلاف. فإذا طلّق وزجته طلاقاً رجعيّاً فالتّحريم باقٍ بحاله في قولهم جميعاً. وإن كان الطّلاق بائناً أو فسخاً فكذلك حتّى تنقضي عدّتها. روي ذلك عن عليّ وابن عبّاس وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد والنّخعي والثّوري وأصحاب الرّأي. وقال القاسم بن محمّد وعروة ومالك والشّافعي وأبو عبيد وابن المنذر له نكاح جميع مَن سمّيناه من تحريم.
المسألة الثّالثة: في الفرق بين الباطل والفاسد؟
فقال في مختصر التّحرير
وشرحه: وبطلان وفساد مترادفان يقابقلان الصّحّة الشّرعية، أي: فيقال: لكلّ ما ليس بصحيحٍ باطل وفاسد سواء كان عبادة أو عقداً. قال: وفرّق أبو حنيفة بين البطلان والفساد، وفرّق أصحابنا وأصحاب الشّافعي بين الفاسد والباطل في الفقه في مسائل كثيرة.
قال في شرح التّحرير. قلت: غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد إذا كانت مختلفاً بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجمعاً عليها أو الخلاف فيها شاذ، قال ثم وجدت بعض أصحابنا. قال: الفاسد من النّكاح ما يسوغ فيه الاجتهاد والباطل ما كان مجمعاً على بطلانه.
المسألة الرّابعة: قول الزّوج لزوجته: طلّقي نفسك. وقوله لها: أمرك بيدك، ما الفرق بينهما مع كون كلّ من اللّفظين توكيلاً في الطّلاق؟
فأمّا قوله: طلّقي نفسك، ونحو هذا اللّفظ، فهذا وكالة صريحة كما لو قاله لغير زوجته. وقوله: أمرك بيدك، كناية في التّوكيل في الطّلاق يحتاج إلى نيّة الزّوج إن كان مراده تفويض أمرها إليها والفرق من جهة العربية أنّ قوله: أمرك بيدك يقتضي توكيلها في جميع أمرها؛ لأنّ قوله: أمرك اسم جنس مضاف، فيتناول الطّلقات الثّلاث أشبه ما لو قال: طلّقي نفسك ما شئت. وكذا لو قال لأجنبي: أمر زوجتي بيدك، ملك تطليقها ثلاثاً. قال في الشّرح: وإن قال لامرأته: طلّقي نفسك، فلها ذلك كالوكيل، فإن نوى عدداً فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نيّة لم تملك إلاّ واحدة؛ لأنّ الأمر المطلق يتناول أقلّ ما يقع عليه الاسم، وكذلك الحكم لو وكل أجنبيّاً فقال: طلّق زوجتي فالحكم على ما ذكرنا.
قال أحمد فيمَن قال لامرأته: طلّقي نفسك، ونوى ثلاثاً فطلّقت نفسها
ثلاثاً فهي ثلاث. وإن كان نوى واحدةً لم تطلق إلاّ واحدةً؛ لأنّ الطّلاق يكون واحدةً ويكون ثلاثاً فأيّهما نواه فقد نوى بلفظه ما يحتمله، وإن لم ينو تناول اليقين، وهو واحدة.
ثم قال الشّارح: ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة إلاّ أن يجعل ذلك إليه، لأنّ الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، إلاّ أن يجعل إليه أكثر من واحدةٍ بلفظه أو نيّته. نصّ عليه. والقول قوله في نيّته؛ لأنّه أعلم بها.
ثم قال الشّارح: إذا قال لامرأته: أمرك بيدك، كان لها أن تطلق ثلاثاً، وإن نوى أقلّ منها. هذا ظاهر المذهب؛ لأنّها من الكنايات الظّاهرة. روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عبّاس، وبه قال سعيد بن المسيب والزّهري. قالوا: إذا طلقت ثلاثاً؟ فقال: لم أجعل لها إلاّ واحدة لم يلتفت إلى قوله والقضاء قضت به، وعن ابن عمر وابن مسعود أنّها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم ومالك والأوزاعي. وقال الشّافعي: إن نوى ثلاثاً فلها أن تطلق ثلاثاً وإن نوى غير ذلك لم تطلق ثلاثاً والقول قوله في نيّته.
ثم احتجّ الشّارح للقول الأوّل بما ذكرناه أوّلاً من أنّ قوله:"أمرك"، اسم جنس مضاف فيتناول الطّلقات الثّلاث أشبه ما لو قال طلّقي نفسك ما شئت. انتهى.
فإن ادّعى الزّوج بأنّه لم يرد بقوله لزوجته أمرك بيدك تفويض الطّلاق إليها فالقول قوله: ما لم يقع ذلك جواباً بسؤالها الطّلاق ونحوه.
وأمّا قول العامّة قلطتك على نفسك، فالذي يظهر أنّ هذا كناية في الوكالة تملك به واحدة وتعتبر نيّته أيضاً أو يكون ذلك جواباً لسؤالها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في حكم الطّلاق في النّكاح الفاسد. قال في الإنصاف:
ويقع الطّلاق في النّكاح المختلف فيه كالنّكاح بلا وليٍّ عند أصحابنا. ونصّ عليه أحمد رحمه الله وهو المذهب. ثم ذكر وجهاً بعدم الوقوع، ثم قال: وحيث قلنا بالوقوع فيه فإنّه يكون طلاقاً بائناً. قال في الرّعاية والفروع والنّظم وغرها. قال: فيعايا بها. انتهى. فعلى هذا يحسب من الطّلقات الثّلاث.
المسألة السّادسة: في صفة تقويم المريض إذا أتلفه متلف. فقال المجد في شرح الهداية: مَن استهلك على رجلٍ زرعاً أخضر ضمن قيمته على رجاء السّلامة والعطب. قال: وهذا مذهب مالك وقياس مذهبنا في تقويم المريض والجاين ونحوهما. انتهى. إنّ صفة ذلك في تقويم المريض ونحوه أن يقال: يساوي إذا كان ترجى حياته ويخاف موته ثلاثين ريالاً مثلاً، وإن لم يخف عليه الموت من ذلك المرض ساوى خمسين مثلاً، وإن كان لا يرجى سلامته يساوي مثلاً عشرة، فإذا كان ترجى حياته ويخاف موته صارت قيمته ثلاثين، فهي الواجب فيه. والله أعلم.
المسألة السّابعة: إذا اقتتلت طائفتان لعصبيةٍ أو طلب رياسةٍ؟
فقال أصحابنا: وإن اقتتلت طائفتان لعصبيةٍ أو طلب رياسةٍ فهما ظالمتان، وتضمن كلّ واحدةٍ ما أتلفت على الأخرى. قال الشّيخ تقيّ الدّين: فأوجبوا الضّمان على مجموع الطّائفة وإن لم يعلم عين المتلف. قال: وإن تقابلا تقاصا؛ لأنّ المباشر والمعين سواء عند الجمهور. وإن جهل ما نهبه كلّ طائفة من الأخرى تساوتا. اهـ. فصرّح الشّيخ أنّ المباشر والمعين سواء عند الجمهور كقطاع الطّريق، وهذا ظاهر كلام الأصحاب لقولهم وتضمن كلّ طائفةٍ ما أتلفت على الأخرى. ومعلوم أنّه لا بدّ أن يكون فيهم غالباً مَن لم يباشر القتل أو النّهب.
ومعنى قول الشّيخ رحمه الله: وإن تقابلا تقاصا، مراده إذا تحققنا
أنّ ما أتلفته كلّ واحدةٍ على الأخرى يساوي ألفاً مثلاً تقاصا فلا يؤخذ من طائفةٍ ما لزمها ويدفع على الأخرى، وأمّا إذا اعترض جماعة رجلاً وبينه وبين بعضهم عداوة فثور عليه قتله فإن كان الذي معه ردأ له فحكمهم حكمه؛ لأنّهم قطاع طريق؛ لأنّ القطع في الصّحراء والبنيان سواء، فإن لم يكونوا قطاعاً بل كانوا ذاهبين في حاجة لهم مثلاً فرأى بعضهم من بينه وبينه عداوة أو شحناء فثور عليه فقتله اختصّ الحكم به إن لم يدفعوا عنه من أراده، وهذا يحتاج إلى نظرٍ وتفصيلٍ. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسألة الثّامنة: إذا استثنى صاحب النّخل ثمرة نخلةٍ أو أكثر خالصّة له دون العامل فالعقد فاسد لكن سوغ بعض فقهاء متأخري نجد فيما إذا كانت نخلة وقفاً على بكرة مثلاً أن يشرط للعامل جزءاً يسيراً من ثمرتها صحّ ذلك، وكذا لو شرط الواقف بأنّ هذه النّخلة على البركة أو السّاقي لا يزال عنها ذلك فلا يزال.
المسألة التّاسعة: ما نقله في الإنصاف عن عمد الأدلّة لابن عقيل بعد ذكر التّحكيم أي بعد أن تكلّم على مسألة ما إذا حكم المتنازعان بينهما رجلاً صالحاً للقضاء. قال وكذا يجز أن يتولّى متقدمو الأسواق والمساجد الوساطات والصّلح عند الفورة والمخاصمة الخ. فالذي يظهر أنّ المراد بقوله: متقدمو الأسواق والمساجد؛ الذين يفوض إليهم وليّ الأمر النّظر على أهل الأسواق بإلزامهم بالشّرع وإنصاف بعضهم من بعضٍ ونحو ذلك، وكذلك الذي يجعل لهم النّظر على المساجد بصيانها وإصلاحها والاحتساب على المصلّين بها والمؤذّنين ونحو ذلك، فمَن فوّض إليه شيء من ذلك جاز له
على ما ذكره ابن عقيل تولّي الوساطات، والذي يظهر أنّ المراد بالوساطات التّوسّط بين المتنازعين والصّلح عند الفورة، لعلّ المراد أنّه إذا حصل تنازع بين أهل السّوق أو المسجد يجوز لهم التّوسيط والصّلح بين المتنازعين فوراً حال التّنازع لأجل كف الشّر في الحال. والله أعلم.
وأمّا قولهم: فعل الحاكم حكم كتزويج يتيمة الخ.
فهذه مسألة مستقلّة ومعناها: أنّ الحاكم إذا فعل ذلك صار حكماً منه يرفع الخلاف؛ لأنّ حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف، فكذا فعله نحو ما إذا زوّج صغيرة بإذنها كبنت تسع صار حكماً منه بصحّة النّكاح فلا يجوز لِمَن لا يرى جواز تزويج الصّغيرة فسخ هذا النّكاح ونحو ذلك من المسائل المختلف فيها، فلا ينقض من حكم حاكمٍ إلاّ ما خالف نصّ الكتاب أو نصّ السّنة أو إجماعاً قطعيّاً أو إذا حكم بخلاف ما يعتقده. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا تضمين مَن نهب مال مسلم في مثل هذه الحادثة فالذي نعتقده وجوب ردّه على صاحبه وتضمينه إن تلف. والله سبحانه وتعالى أعلم.
نسأل الله تعالى صلاح أحوال المسلمين، وأن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضّالّين.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ الحبيب والشّيخ المفهم الأديب جمعان بن ناصر أسبغ الله علينا وعليه من نعمه باطنها وظاهرها، وأوزعنا جميعاً شكرها.
..
…
...
…
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
فموجب الخط إبلاغكم جزيل السّلام والاستخبار عن الأحوال أصلح الله أحوالنا وإيّاكم في الدّنيا والآخرة، والخط الشّريف وصل، وبه الأنس والسّرور حصل، حيث أفادنا عن صحّة أحوالكم وظهور الحقّ في بلادكم، والحمد لله على ما أولى من النّعم وصرف من النّقم، وفهمنا ما تضمنه كتابكم من البحث عن المسائل التي تضمنها. نسأل الله لنا ولكم التّوفيق والسّداد، وأن يهب لنا جميعاً ولكم حكماً ويلحقنا بالصّالحين.
المسألة الأولى: إذا كسدت السّكة بتحريم السّلطان لها أو بغيره أو رخصت.
فقد بسط القول في هذه المسألة ناظم المفردات وشارحها فنتحفك بنقل كلاهما ملخّصاً. قال النّاظم:
والعقد في المبيع حيث عينا
…
وبعد ذا كساده تبينا
بل قيمة الفلوس يوم العقد
…
بها فمنه عندنا لا تقبل
نحو الفلوس ثم لا يعامل
…
والقرض أيضاً هكذا في الرّدّ
…
أي: إذا وقع العقد بنقدٍ معيّنٍ كدارهم مكسرة أو مغشوشة أو بفلوس ثم حرّمها السّلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها لم يلزم البائع قبضها بل له الطّلب بقيمتها يوم العقد، وكذلك لو أقرضه نقداً أو فلوساً فحرم السّلطان المعاملة بذلك فردّ المقترض لم يلزم المقرض قبوله ولو كان باقياً بعينه لم يتغيّر وله الطّلب بقيمة ذلك يوم القرض وتكون من غير جنس النّقد إن أفضى إلى ربا الفضل، فإذا كان دراهم أعطى عنها دنانير وبالعكس لئلا يؤدّي إلى الرّبا:
ومثله مَن رام عود الثّمن
من ردّه الْمبيع خذ بالأحسن
قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور
…
والنص في القرض عيانا قد ظهر
أي: مثل ما تقدم مَن اشترى معيباً أو نحوه بدراهم مسكرة أو مغشوشة أو فلوس وأقبضها للبائع فحرمها السّلطان ثم ردّ المشتري المبيع لعيبٍ ونحوه وكان الثّمن باقياً فردّه لم يلزم المشتري قبوله منه لتعيبه عنده والأصحاب ذكروا هذه الصّور بالقياس على القرض، والنّصّ عن الإمام إنّما ورد في القرض في الدّارهم المسكرة. قال: يقوّمها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه. وقال مالك واللّيث والشّافعي: ليس له إلاّ مثل ما أقرضه؛ لأنّ ذلك ليس بعيبٍ حدث بها فهو كرخص سعرها، ولنا أنّ تحريمها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها.
والنّصّ بالقيمة في بطلانها
…
لا في ازدياد القدر أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحرى
…
كدانق عشرين صار عشرا
يعنِي: أنّ النّصّ في ردّ القيمة إنّما ورد عن الإمام فيما إذا أبطلها السّلطان فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التّعامل بها وعدم تحريم السّلطان لها فيردّ مثلها سواء غلّت، أو رخصت، أو كسدت إلى أن قال:
وشبخ الاسلام فتى تيمية
…
قال قياس القرض عن جلية
الطّرد في الدّيون كالصّداق
…
وعوض للخلع والإعتاق
والغصب والصّلح عن القصص
…
ونحو ذاطر بلا أختصاص
ونحو ذاطراً بلا اختصاص
أي: قال شيخ الإسلام بحر العلوم أبو العبّاس تقيّ الدِّين ابن تيمية رحمه الله في شرح المحرّر: قياس ذلك أي: القرض فيما إذا كانت مسكرة أو فلوساً وحرّمها السّلطان وقلنا يردّ قيمتها في جميع الدُّيون في بدل المتلف
والمغصوب مطلقاً والصّداق والفداء والصّلح عن القصاص والكتابة. انتهى. قال: وجاء في الدَّين نصّ حرّره الأثرم إذا يحقّق يعنِي: قال ابن تيمية إنّ الأصحاب إنّما ذكروا النّصّ عن أحمد في القرض وكذلك المنصوص عن أحمد في سائر الدّيون. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سُئِلَ عن رجلٍ له على رجلٍ دراهم مسكرة فسقطت المكسرة. قال: يكون له بقيمتها من الذّهب.
وقولهم إنّ الكساد نقصا
…
فذاك نقص النّوع عاقب رخصا
قال ونقص النّوع ليس يعقل
…
فيما سوى القيمة ذا لا يجهل
يعنِي: أنّ تعليل القاضي ومَن تابعه من الأصحاب بوجوب ردّ قيمة الفلوس إذا كسدت لمنع السّلطان التّعامل بها بأنّ الكساد يوجب النّقصان، وهو نوع عيب معناه: عيب النّوع؛ إذ ليس المراد عيب الشّيء المعيّن؛ فإنّه ليس هو المستحق وإنّما المراد عيب النّوع والأنواع لا يعقل عيبها إلاّ نقصان قيمتها. هذا معنى كلام الشّيخ تقيّ الدِّين في الاستدلال لما ذكره المصنّف عنه في البيتين المذكورين كما ستقف عليه بعد ذلك إلى أن قال:
وخرج القيمة في المثلى
…
بنقص نوعٍ ليس بالخفي
واختاره وقال عدل ماضي
…
خوف انتضار السّعر بالتّقاضي
…
ثم نقل الشّارح كلام الشّيخ إلى أن قال: فإذا أقرضه أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته فهو نقص النّوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً فيرجع إلى القيمة. وهذا هو العدل؛ فإنّ المالين إنّما يتماثلان إذا استوت قيمتهما. وأمّا مع اختلاف القيمة فلا تماثل. قال: ويخرج في جميع الدَّين من الثّمن والصّداق والفداء والصّلح عن القصاص مثل ذلك كما في الأثمان. انتهى ملخّصاً.
وكثير من الأصحاب تابعوا الشّيخ تقيّ الدِّين ـ رحمه الله تعالى ـ إلحاقاً لسائر
الدّيون بالقرض.
وأمّا رخص السّعر فكلام الشّيخ صريح في أنّه يوجب ردّ القيمة أيضاً. وهو أقوى. فإذا رفع إلينا مثل ذلك وسطنا بالصّلح بحسب الإمكان هيبة للجزم بذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله رحمه الله: أو غصبه الخ.
فهذا اختاره أيضاً بأنّ نقص قيمة المغصوب مضمون على الغاصب، وهو رواية عن أحمد في المغصوب.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن باع بيّعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الرّبا ".فهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود. قال الشّيخ تقيّ الدِّين رحمه الله للنّاس في البيِّعتين في البيعة تفسران:
أحدهما: أن يقول: هو لك بنقدٍ بكذا وبنسيئة بكذا، كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقةٍ، قال سماك: هو الرّجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا. رواه الإمام أحمد. وعلى هذا فله وجهان: أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهماً ويتفرّقان على ذلك. وهذا تفسير جماعة من أهل العلم لكنه يتعذر من هذا الحديث؛ فإنّه لا مدخل للرّبا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنّما هي صفة واحدة بثمنٍ مبهمٍ.
والثّاني: أن يقول: هي بنقدٍ بكذا وأبيعكها بنسيئة بكذا؛ كالصّورة التي ذكرها ابن عبّاس. قال: إذا استقمت بنقدٍ فبعت بنقدٍ فلا بأس، وإذا استقمت بنقدٍ فبعت بنسيئة فلا خير فيه. ومعنى استقمت، أي: قوّمت السّلعة، يعنِي: إذا قوّمت السّلعة بنقدٍ فلا تبعها بنسيئة، معناه: إذا قوّمتها بنقدٍ بعشر مثلاً فلا تبعها بأكثر نسيئة، يعنِي: إذا قلت هي بنقدٍ بكذا وأبيعها بنسيئة بكذا، فيكون قد جمع صفتي النّقد والنّسيئة في صفقةٍ واحدةٍ، وجعل
النّقد معيار النّسيئة. وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم:"فله أوكسهما أو الرّبا"، فإنّ مقصوده حينئذٍ هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحقّ إلاّ رأس ماله. وهو أوكس الصّفقتين، وهو مقدار القيمة العاجلة، فإن أخذ الرّبا فهو مربي.
التّفسير الثّاني: أن يبيعه الشيء بثمنٍ على أن يشتري المشتري منه ذلك الثّمن وأولى منه أن يبيعه السّلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك. وهذا أولى بلفظ البيِّعتين في بيعةٍ، فإنّه باع السّلعة وابتاعها أو باع الثّمن وباعه. وهذه صفقتان في صفقةٍ، وهذا بعينه هو العينة المحرّمة، وما أشبهها مثل أن يبيعه نساء ثم يشتري بأقلّ منه نقداً، أو بنقدٍ ثم يشتري بأكثر منه نساء، ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصّفقتين إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت إليه فلا يكون له إلاّ أوكس الصّفقتين، وهو النّقد. فإن ازداد فقد أربى. انتهى كلام الشّيخ ملخّصاً على هذا الحديث.
وقد صحّ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه نهى عن بيِّعَتين في بيعةٍ. وقال:"لا يحلّ سلف وبيع".وقد ذكر العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ لذلك صوراً كثيرةً، وضابطها: أن يشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقداً آخر.
وقد نصّ الإمام أحمد رحمه الله على صورٍ من ذلك نحو: أن يشترط أحدهما على صاحبه سلماً أو إجارة أو بيعاً أو قرضاً أو شركةً أو صرفاً للثّمن أو غيره. قال الأصحاب: وكذلك كلّما كان في معنى ذلك، مثل: أن يقول: بعتك كذا بكذا بشرط أن تزوّجنِي ابنتك أو أزوّجك ابنتِي. وكذا على أن تنفق على عبدي أو دابّتي أو نصيبِي من ذلك قرضاً أو مجاناً وذكروا صوراً أخر.
فإذا عرفت ضابط المسألة تبيّن لك تفصيلها وأنواعها، فإذا آجره أرضه
أو زارعه عليها وشرط عليه أن يقرضه أو يبيعه كذا، أو ساقاه على نخله وشرط أن يبيعه أو يسلم إليه كذا، ونحو ذلك من اشتراط عقد في عقد آخر، فهذا ونحوه من نحو بيِّعتين في بعيةٍ وصفقتان في صفقةٍ. وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقةٍ.
وأمّا مَن مات ولم يحجّ فهذا إن كان قد وجب عليه الحجّ قبل موته لاستكمال شروط الوجوب في حقّه مع سعة الوقت وجب أن يحجّ عنه من رأس ماله أوصى به أو لا. وإن كان الميّت لم يجب عليه الحجّ قبل موته لعدم تكامل شرائط الوجوب في حقّه في حياته لم يجب أن يُحَجّ عنه من مال إن لم يوص به، فإن أوصى به فمن ثلثه. هذا ما ذكره أصحابنا وغيرهم.
قال أصحابنا من لزمه حجّ أو عمرة فتوفي قبله وجب قضاؤه فرط أو لا، من رأس ماله كالزّكاة والدَّين ولو لم يوص به. واحتّجوا بحديث ابن عبّاس أنّ امرأة قالت: يا رسول الله إنّ أمِّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت، أفأحج عنها؟ قال:"نعم. حجّي عنها، أرأيت لو كان على أمِّك دين أكنتِ قاضيته؟ قافضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء".رواه البخاري.
وأمّا ثبوت الجائحة في إجارة الأرض ونحوها فاختيار الشّيخ تقيّ الدِّين معلوم لديكم وأكثر العلماء على خلافه، قال في المغنِي: فإن استأجر أرضاً فزرعها فتلف الزّرع فلا شيء على المستأجر نصّ عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافاً؛ لأنّ المعقود عليه منافع الأرض ولم تتلف إنّما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثياباً فتلفت الثّياب فيها. انتهى.
فظاهر قوله: فلا شيء على المؤجّر يتماول الأجرة وغيرها، لكن قال في الاختيارات لما ذكر إثبات الجائحة في أجرة الأرض: وبعض النّاس
يظنّ أنّ هذا خلاف ما في المغنِي من الإجماع وهو غلط، فإنّ الذي في المغنِي أنّ نفس الزّرع إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزّرع لا يكون كالثّمرة المشتراة، فهذا ما فيه خلاف، وإنّما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها فيكون كما لو انقطع الماء عن الرّحى. انتهى.
وقد ذكر الشّيخ عن اختياره أنّه خلاف ما رآه عن أحمد ولم يحك صاحب الإنصاف إثبات الجائحة في صورة الإجارة عن غير الشّيخ إلاّ ما حكاه عن أبي الفضل بن حمزة في الحمام. وفرّق الأصحاب بين الثّمرة المشتراة وبين الأجرة بأنّ المعقود عليه في الإجارة نفع الأرض فالتّالف غير المعقود عليه، والمعقود عليه في الثّمرة المشتراة هو نفس الثّمرة فهي التّالفة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
والذي نعتمده في المسألة هو الإلزام بجميع الأجرة إن تعذر الصّلح بين الخصوم.
وأمّا حديث:"الخراج بالضّمان"، وفي لفظٍ آخر:"الغلة بالضّمان"، فهذا الحديث وإن كان وارداً في صورة ردّ المبيع بالعيب فيتناول بعمومه صوراً كثيرةً، ذكرها الفقهاء في مواضعها؛ وكالنّماء الحاصل في مدّة الخيار، وكذا المبيع إذا رجع بالإقالة، وقد حصل منه غلّة أو نماء عند المشتري، وكذا الشّقص المشفوع إذا أخذه الشّفيع والعين عند المفلس إذا استردها بائعها، وكذا هبة الأب لولده إذا رجع فيها وقد نمت عند الولد، وكذلك الصّداق إذا نمى بيد الزّوجة ثم رجع نصفه إلى الزّوج بطلاق قبل الدّخول ونحوه، وغير ذلك من الصّور يعرفها مَن تتبّع مظانها من كتب الفقه. والله أعلم.
وأمّا تأثير الخلطة في غير الماشية في الزّكاة فالخلاف في ذلك مشهور
بين القائلين بتأثير الخلطة في الماشية فالمشهور في مذهب أحمد عدم تأثير الخلطة في غير الماشية، وهو مذهب مالك في غير المساقاة، فخلطة المساقاة تؤثّر عند مالك. رحمه الله.
وعن أحمد رواية أخرى بتأثير خلطة الأعيان في غير السّائمة وهو مذهب الشّافعي المشهور عنه، وعلى هذا فهل تؤثّر خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان للأصحاب ودليل كلّ من القولين مذكور في محلّه، وإن كانت حجّة القول الأوّل أظهر والقائلون به أكثر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا ضمّ ثمرة العام الواحد وزرعه بعضه إلى بعضٍ لتكميل النّصاب فامّا الثّمار فلا يضمّ جنس منها إلى آخر كالتّمر إلى الزّبيب بإجماع العلماء، وتضمّ أنواع الجنس بعضها إلى بعض، وأمّا الزّرع فالمشهور من مذهب أحمد أنّه لا يضم جنس منه إلى آخر وهو مذهب الشّافعي وهو قول الحنفية.
وعن أحمد رواية أخرى بضم الحنطة إلى الشّعير والقطاني بعضها إلى بعض، واختاره هذه الرّواية الخرقي وأبو بكر وهو مذهب مالك، وعن أحمد رواية ثالثة بضم الحبوب بعضها إلى بعضٍ مطلقاً. والله أعلم.
والقطاني اسم لحبوب كثيرة منها الحمص والعدس واللّوبيا والدّخل والزّر والباقلا.
وأمّا المسألة الأخيرة وهي ما إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع على عروض بذلته وقبله الزّوج. وقال الله يرزقك ونحو ذلك من ألفاظ العامّة، فهذه مسألة مشكلة جداً؛ لأنّ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ذكروا كنايات الخلع والطّلاق ولم يذكروا فيها شيئاً من نحو هذه الألفاظ، وقالوا إنّ مالاً يدلّ على الطّلاق من نحو: كلّي واشربي، وبارك الله عليك ونحو ذلك لا يقع
به طلاق ولو نواه؛ لأنّه لا يحتمل الطّلاق فلو وقع به الطّلاق وقع لمجرّد النّيّة، وكذا كنايات الخلع فمقتضى قولهم هذا أنّ قائل: الله يرزقك ونحوه ناوياً به طلاقاً أو خلعاً لا يقع به شيء من ذلك؛ لأنّ هذا اللّفظ ونحوه ليس من الكنايات المذكورة، فلو أوقعنا به طلاقاً أو خلعاً لكنّا قد أوقعناه بالنّيّة، ولكنّهم قد كروا من كنايات الطّلاق (أغناك الله) بلفظ الماضي ولم يذكروه بلفظ المضارع، كالله يغنيك، فيكون مثله الله يرزقك ونحوه، ولم يذكروا في ألفاظ الكنايات لفظ مضارعاً. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولو ذهب ذاهب إلى وقوع الخلع بقول العامي: الله يغنيك ونحوه، ناوياً به طلاقاً أو فسخاً مع بذل العوض وقبوله لم يبعد؛ لقول الشّيخ تقيّ الدِّين ـ رحمه الله تعالى ـ المنقول عن أحمد وقدماء أصحابه ألفاظهم كلّها صريحة في أنّ الخلع بلفظ البيع فسخ وبأي لفظٍ كان.
وقال أيضاً بعد أن ذكر ألفاظ العقود في الماضي والمضارع واسم الفاعل واسم المفعول، وأنّها لا تنعقد بالمضارع، قال وما كان من هذه الألفاظ محتملاً فإنّه يكون كناية حيث تصحّ الكناية كالطّلاق ونحوه، ويعتبر دلالات الأحوال. قال: وهذا الباب عظيم المنفعة خصوصاً في الخلع وبابه. انتهى.
وأفتَى بعض متأخري الأصحاب النّجديّين بأنّ الزّوجة إذا طلبت التّخلية على عوضٍ بذلته لزوجها، فقال: خلعت جوازك صحّ. قال: لأنّ ذلك لغة أهل بلدنا، قال: والعبرة في ذلك ومثله بلغة المتكلّمين به. انتهى.
وقد ذهبت طائفة من العلماء ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أنّ الخلع يصحّ بمجرّد بذل المال وقبوله من غير لفظٍ من الزّوج، وإلى ذلك ذهب أبو حفص
وابن شهاب العكبريان من أصحابنا، واحتجا بما رواه ابن منصور عن أحمد. قال: قلت لأحمد: كيف الخلع؟ قال: إذا أخذ المال فهي فرقة. وقال إبراهيم النّخعي: أخذ المال تطليقة بائنة. وروي عن الحسن نحوه. وروي عن عليّ رضي الله عنه مَنْ قبل مالاً على فراقٍ فهي تطليقة بائنة. وبكلّ حالٍ ففي هذه المسألة إشكال وعدم إيقاع الطّلاق أو الفسخ بنحو هذا اللّفظ أسلم. والله سبحانه تعالى أعلم.
وأمّا إيقاع الطّلاق الثّلاث بكلمةٍ واحدةٍ سواء كان في خلع أو غيره، فمذهب الشّيخ تقيّ الدِّين وكثير من أتباعه معلوم لديكم أنّ الزّوج إذا طلق امرأته ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ أو بكلمات متفرّقة قبل رجعه أنّه لا يقع إلاّ طلقة واحدة. والمفتى به في المذهب الأربعة خلاف ذلك، ونصوص الأئمة الأربعة بخلاف قول الشّيخ معروفة. ولا ينبغي مخالفتهم في ذلك، ولم نرَ أحداً مِمَّن أدركناهم يفتي بقول الشّيخ في هذه المسألة.
وأخبرنِي بعض تلامذة الشّيخ محمّد ـ رحمه الله تعالى ـ أنّه قال: لم أفتِ بقول الشّيخ تقيّ الدِّين ـ رحمه الله تعالى ـ في هذه المسألة إلاّ مرّة واحدة، ثم لم أفتِ إلاّ بقول الجمهور رحم الله الجميع ورضي عنهم، وجمعنا وإيّاهم في جواره في جنّته. آمين يا ربّ العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ الشّيخ جمعان بن ناصر وفّقه الوليّ القاهر وأمّنه مما يخشى ويحاذر.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
موجب الخط إبلاغ السّلام،
والسّؤال عن الأحوال أصلح الله حال الجميع في الدّنيا والآخرة، والخط وصل أوصلك الله إلى ما تحبّ، وسرّنا ما ذركت أتم الله علينا وعليكم نعمته، وأوزعنا شكرها. ومن أمر المسائل:
الأولى: فيما أشكل عليكم من عبارة المختصر في المزارعة حيث قال: وتصحّ إجارة أرض بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها الخ.
مراده: أنّه يصحّ إجارة الأرض إجارة حقيقية بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها. وهذا إذا وقع العقد بلفظ الإجارة؛ كأن يقول استأجرت منك هذه الأرض لزرعها مدة كذا بنصف الخارج منها، أو ربعه ونحو ذلك، ويكون ذلك إجارة حقيقية لازمة فيتشرط له شروط الإجارة من تعيين المدة وغيره.
وقد نصّ الإمام أحمد رحمه الله في رواية جماعة من أصحابه فيمَن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أنّه يصحّ. فقال أبو الخطاب ومَن تبعه: هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فمعنى قوله: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أي: زارعتك بثلث عبر عن المزارعة بالإجارة على سبيل المجاز، وهذا على الرّواية التي يشترط فيها كون البذر من ربّ الأرض. وقال أكثر الأصحاب عن نصّ أحمد المتقدم: هي إجارة؛ لأنّها مذكورة بلفظها، فتكون إجارة حقيقية، وتصحّ ببعض الخارج من الأرض كما تصحّ بالدّارهم.
قال في الإنصاف بعد حكايته نصّ أحمد الذي ذكرناه: اختار المصنّف وأبو الخطاب وابن عقيل أنّ هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فعلى هذا يكون ذلك على قولنا: لا يشترط كون البذر من ربّ الأرض، كما هو مختار المصنّف وجماعة. قال: والصّحيح من المذهب أنّ هذه إجارة، وأنّ الإجارة تصحّ بجزءٍ معلومٍ مشاعٍ مما يخرج من الأرض المؤجّرة نصّ عليه، وعليه جماهير
الأصحاب. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: تصحّ إجارة الأرض للزّرع ببعض الخارج منها. وهذا ظاهر المذهب، وهو قول الجمهور إلى أن قال صاحب الإنصاف: وعنه لا تصحّ الإجارة بجزءٍ مما يخرج من المؤجّر. اختاره أبو الخطاب والمصنّف.
قال الشّارح: وهو الصّحيح. قال فعلى هذا المذهب يشترط لها شروط الإجارة من تعيين المدّة وغيره. انتهى ملخّصاً.
فتبيّن أنّ الصّحيح من المذهب صحّة إجارة الأرض للزّرع بجزءٍ معلومٍ مشاعٍ مما يخرج منها خلافاً لأبي الخطاب والموفّق والشّارح. وهذا معنى قوله في شرح الزّاد: تصحّ إجارة الأرض بجزءٍ مشاعٍ مما يخرج منها، فتكون إجارة حقيقة يثبت لها حكمها من اللّزوم وغيره.
والمذهب أيضاً صحّة المزارعة بلفظ الإجارة، وهو مراد شارح الزّاد بقوله: تصحّ مساقاة ومزارعة بلفظ إجارة وتكون مزارعة حقيقة لها حكمها.
وقولهم: فإن لم تزرع سواء قلنا: إنّها إجارة أو مزارعة نظر إلى معدل المغل، أي: المغل الموازن لما يخرج منها لو زرعت، فيجب القسط المسمَّى فيه، فإذا قيل: لو زرعت حصل من زرعها مائة صاع والعقد وقع على نصف الخارج منها فيجب لصاحبه خمسون صاعاً.
وأمّا إذا فسدت المساقاة أو المزارعة لشرطٍ شرط أوجب فساده ثم أسقط المشترط شرطه طلباً لصحّة العقد، فإنّ العقد لا يعود صحيحاً بعد فساده. وهذا ظاهر.
وقد علّل الفقهاء رحمهم الله بقاء عقودٍ فاسدةٍ على فسادها بأنّ العقد لا ينقلب صحيحاً بعد فساده. والله أعلم.
المسألة الثّالثة: فيما إذا قال لزوجته: أنتِ طالق إلى مكّة
…
الخ.
فعبارة الإنصاف والإقناع وشرحه كما ذكرت مطلقة، قال في الإنصاف: لو قال: أنتِ طالق إلى مكّة، ولم ينوِ بلوغها طلّقت في الحال. جزم به بعض المتأخرّين. وإن قال: أنتِ طالق بعد مكّة طلقت في الحال، وكذا عبّر في الفروع والإقناع والمنتهى وغيرها. وإطلاققهم يدلّ على أنّها تطلق واحدة فقط. وهذا ظاهر. ولله الحمد، لأنّ اللّفظ لا يقتضي عدداً كقوله: أنت طالق إلى شهر.
الرّابعة: إذا ادّعت المرأة بعد دخول الزّوج بها عدم الإذن في العقد وادّعى زوجها أنّها أذنت.
فذكر أصحابنا أنّها لا تصدق. قالوا: لأنّها لو كانت صادقة لم تمكن نفسها، فتمكينها من الوطء دليل على الإذن، فكان القول قول الزّوج؛ لأنّ الظّاهر معه. هذا إذا كان اختلافها مع الزّوج.
وأمّاإذا اختلفت هي ووليّها في الإذن وعدمه بعد دخول الزّج بها.
فقال في الفروع: يتوجّه في دعوى الولي إذنها كذلك، وذكر شيخنا قبول قبول قولها. انتهى. وأن ما شهدت البيّة أنّها زوجة مكرهة أو بغير إذنها وهي مِمَّن يعتبر إذنه تبيّنّا بطلان العقد بشهادة البيّنة لا تصديقاً للمرأة، ولأنّهم علّلوا قبول قول الزّوج بأنّ الظّاهر معه، وهذا مما يقدم فيه الظّاهر على الأصل، فإذا شهدت البيّنة بما يخالف الظّاهر عمل بها، كما أنّ القاعدة في الدّعاوى أنّ القول قول مَنِ الأصل أو الظّاهر معه، فإذا وجدت بيّنة تخالف ذلك قدّمت ووجب العمل بها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم والشّيخ المفهم جمعان ابن ناصر، لا زال محفوظاً بكلاءة القادر محفوفاً بعناية اللّطيف القاهر.
سلام عليكم أيّها الأخ المْكرّم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
فموجب الخط هو إبلاغ المحبّ السّلام. رفع الله قدره بين الأنام وأسكننا وإيّاه بجواره في دار السّلام.
والمحب يحمد إليك الله على ما أولى من النّعم وصرف من النّقم، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من الشّاكرين لنعمه، ومشرفكم الشّريف وصل وأقرّ العين، وبه السّرور حصل لا زلتم بنعم الله محفوفين وبحراسته محفوظين، ولا تنسنا يا أخي من المراسلة والدّعاء بظهر الغيب كما هو منا لكم كذلك وما أورد المحب من المسائل فهي موضحة. ولله الحمد في كتب الفقهاء لِمَن نظر فيها:
المسألة الأولى: هل بين النّكاح الفاسد والباطل بعد الدّخول فرق في وجوب المهر والعدة ولحوق النّسب؟
فالجواب: نعم. بينهما فرق في الجملة فيستقرّ المهر بالخلوة في النّكاح الفاسد على المذهب، بخلاف الباطل، فيجب للجهالة بالتّحريم فيه مهر المثل بالوطء فقط، ويجب في الفاسد الْمسَمَّى لا مهر المثل على الصّحيح من المذهب. قال في الإنصاف فيمَن نكاحها فاسد: وإن دخل بها استقرّ الْمسمَّى. هذا المذهب. نصّ عليه.
قال في القواعد الفقهية: وهي المشهورة عن أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى واختارها القاضي وأكثر أصحابه. وعنه يجب مثل المهر. قال المصنّف: وهي أصحّ. وهو ظاهر كلام الخرقي واختاره الشّارح. وقال في الإنصاف أيضاً: ويستقرّ بالخلوة في النّكاح الفاسد. هذا المذهب نصّ عليه. وعليه جماهير الأصحاب وهو من مفردات المذهب.
لكن هل الواجب الْمُسَمَّى أو مهر المثل؟ مبني على الذي قبله. انتهى.
وقال أيضاً: إذا كان نكاحها باطلاً فهي كمكرهة على الزّنا في وجوب المهر وعدمه على الصّحيح من المذهب، قدمّه في الفروع وغيره. وجزم به في الكافي والرّعاية وغيرهما. وفي التّرغيب رواية يلزم الْمُسَمَّى. انتهى. ومراده بوجوب المهر إذا لم تكن عالمة بالتّحريم، والواجب للمكرهة على الزّنا مهر المثل. قال في الإنصاف: هو المذهب مطلقاً. وعيله جماهير الأصحاب.
قال المصنّف والشّارح: هذا ظاهر المذهب. وعنه يجب للبكر خاصّة اختاره أبو بكر. وعنه لا يجب مطلقاً. ذكرها واختارها الشّيخ تقيّ الدِّين. وقال: هو خبيث. وقال في الشّرح: فأمّا مَن نكاحها باطل بالإجماع كالمزوّجة والمعتدّة، إذا نكحها رجل فوطئها عالماً بالتّحريم وتحريم الوطء، وهي مطاوعة عالمة فلا مهر؛ لأنّه زنى يوجب الحدّ، وهي مطاوعة عليه، وإن جهلت تحريم ذلك، أو جهلت كونها في العدّة فلها المهر؛ لأنّه وطء شبهة، وفيه أيضاً: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة بغير خلافٍ علمناه.
وقال في الإقناع وشرحه: وإذا تزوّج معتدّة من غيره وهما أي: العاقد والمعقود عليها عالمان بالعدّة.
قلت: ولم تكن مَن زنا وعالمان بتحريم النّكاح فيها أي العدّة، ووطئها فيها أيّ العدّة، فهما زاينان عليهما حدّ الزّنا، ولا مهر لها؛ لأنّها زانية مطاوعة، ولا نظر لشبهة العقد؛ لأنّه باطل مجمع على بطلانه، فلا أثر له بخلاف المعتدّة من زنا، فإنّ نكاحها فاسد، والوطء فيه حكمه حكم وطء الشّبهة للاختلاف في وجوبها، أي: ومحلّ سقوط مهرها إن لم تكن أمة، فإن كانت أمة لم يسقط؛ لأنّه لسيّدها فلا يسقط بمطاوعته لها، ولا يلحقه النّسب؛ لأنّه من زنا، وإن كانا ـ أي: النّاكح والمنكوحة ـ
جاهلين بالعدّة أو جاهلين التّحريم، ثبت النّسب، وانتفى الحدّ، ووجب المهر؛ لأنّه وطء شبهةٍ، وإن علم هو دونها فعليه الحدّ للزّنا، وعليه المهر بما نال من فرجها، ولا يلحقه النّسب؛ لأنّ زانٍ، وإن علمت هي دونه فعليها الحدّ، ولا مهر لها إن كانت حرّة؛ لأنّها زانية مطاوعة، ويلحقه النّسب؛ لأنّه وطء شبهة وصرّحوا بلحوق النّسب في النّكاح الباطل ووطء الشّبهة.
قال في الفروع: ويلحق في كلّ نكاحٍ فاسدٍ فيه شبهة نقله الجماعة. وقيل: إن لم يعتقد فساده. انتهى. وكذلك قال في الإنصاف. وقال أيضاً: ويلحقه الولد بوطء الشّبهة كعقد. نصّ عليه. وهو المذهب قدمه في المغنِي والشّرح والفروع وغيرها.
قال المصنّف والشّارح: هذا المذهب. وذكره الشّيخ تقيّ الدِّين، وقال أبو بكر: لا يلحقه. قال القاضي: وجدت بخط أبي بكر: لا يلحق به؛ لأنّ النّسب لا يلحق إلاّ في نكاحٍ صحيحٍ أو فاسدٍ أو ملكٍ أو شبهة ملكٍ، ولم يوجد شيء من ذلك. انتهى. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله كلّ مَن درأت عنه الحدّ ألحقت به الولد.
وأمّا العدّة فتجب في النّكاح الفاسد بمجرّد الخلوة، وكذا تجب عليها عدة الوفاة على الصّحيح من المذهب فيهما، ولا تجب العدّة في النّكاح الباطل إلاّ بالوطء إجماعاً، ولا تجب به عدّة الوفاة.
قال في الإنصاف: وإن كان النّكاح مجمعاً على بطلانه لم تعتدّ للوفاة من أجله وجهاً واحداً، وذكر قبل ذلك وجوب العدّة بالخلوة في النّكاح الفاسد. قال: وهو المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. ونصّ عليه الإمام أحمد. قال ابن حامد: لا عدّة في الخلوة في النّكاح الفاسد بل بالوطء كالنّكاح
الباطل إجماعاً. وفي الإنصاف أيضاً وإذا مات عن امرأة نكاحها فاسد كالنّكاح المختلف فيه. قال القاضي: عليها عدّة الوفاة. نصّ عليه أحمد في رواية جعفر بن محمّد. وهو المذهب. اختاره أبو بكر وغيره. وقدّمه في الفروع والرّعايتين والحاوي والمحرّر والنّظم وغيرها. وقال ابن حامد: لا عدّة عليها للوفاة. انتهى.
وقال في الشّرح لما تكلّم في حكم النّكاح الباطل: كمَن نكح ذات محرّم أو معتدّة من غير الخلوة بها كالخلوة بالأجنبية لا يوجب عدّة، وكذلك الموت عنها لا يوجب عدة الوفاة، وإن وطءها اعتدّت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها، كالمزني بها من غير عقدٍ، فأمّا إن نكحها نكاحاً مختلفاً فيه فهو فاسد، فإن مات عنها فنقل جعفر بن محمّد أنّ عليها عدّة الوفاة، وهو اختيار أبي بكر. وقال أبو عبد الله بن حامد: ليس عليها عدّة الوفاة. وهو مذهب الشّافعي؛ لأنّه نكاح لا يثبت فأشبه الباطل، فعلى هذا إن كان قبل الدّخول فلا عدّة عليها، وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء، ووجه الأوّل أنّه نكاح يلحق به النّسب فوجبت به العدّة كالنّكاح الصّحيح بخلاف الباطل؛ فإنّه لا يلحق به النّسب. انتهى.
وأمّا عبارة المنتهى، وهي قوله: لا فرق في عدّة وجبت بدون وطء
…
الخ.
فلا إشكال فيها؛ لأنّ العدّة تجب بمجرّد الخلوة بدون وطء على المذهب، ولا معارضة في ذلك للآية.
وأمّا قولك: وقد أجمعوا على أنّ المطلقة قبل المسيس لا عدّة عليها.
فليس ذلك بصواب. وأظنّ سبب الإيهام أنّ هذه العبارة عندكم مختصر الشّرح هكذا كما هي فيه عندنا كذلك، وسقط من العبارة لفظ الخلوة.
فالصّواب في العبارة: أجمعوا على أنّ المطلقة قبل المسيس والخلوة لا عدّة عليها، وعبارة الشّرح: كلّ امرأةٍ فارقها زوجها قبل الخلوة فلا عدّة عليها أجمع العلماء على ذلك. ثم قال بعد ذلك: ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس.
فأمّا إن خلا بها، ولم يصبها ثم طلّقها، فإنّ العدّة تجب عليها. روي ذلك عن الخلفاء الرّاشدين وزيد وابن عمر. وبه قال عروة وعلي بن الحسين وعطاء والزّهري والثّوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرّأي والشّافعي في قديم قوليه. وقال في الجديد: لا عدّة عليها، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، [الأحزاب، من الآية: 49] .وهذا نصّ؛ ولأنّها مطلقة لم تمس فأشبهت مَن لم يخل بها.
ولنا إجماع الصّحابة. فروى الإمام أحمد والأثر بإسنادهما عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الرّاشدون أنّ مَن أرخى ستراً أو أغلق باباً فقد وجب المهر، ووجبت العدّة، ورواه أيضاً عن الأحنف عن عمر وعليّ وعن سعيد بن المسيب عن ابن عمر وزيد بن ثاب رضي الله عنهم. وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعاً. وضعّف أحمد ما روي في خلاف ذلك؛ ولأنّه عقد على المنافع فالتّمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام كعقد الإجارة، والآية مخصوصة بما ذكرنا، ولا يصحّ القياس على مَن لم يخل بها؛ لأنّه لم يوجد التّمكن. انتهى.
وقال في الإنصاف: وإن خلا بها وهي مطاوعة فعليها العدّة سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطء كالإحرام والصّيام والحيض والنّفاس والمرض والجبّ والعنة، أو لم يكن. هذا المذهب مطلقاً بشرطه الآتي، سواء كان
المانع شرعيّاً أو حسيّاً كما مثّل المصنّف. وعليه جماهير الأصحاب إلى أن قال: إلاّ أن لا يعلم بها كالأعمى والطّفل فلا عدّة عليها، وكذا لو كانت طفلة. وهذا هو المشار إليه في قوله بشرطه الآتي.
وأمّا صور النّكاح الباطل منها ما ذكرتم وكنكاح المرأة على عمتها أو خالتها، ونكاح مطلقة ثلاثاً من قبل أن تنكح زوجاً غيره، ونكاح الوثنية والنّكاح الخالي من الولي والشّاهدين جميعاً وغير ذلك.
المسألة الثّانية: في قتل الجماعة بالواحد بشرطه الآتي. هو المذهب وهو قول جمهور العلماء. قال في الشّرح: ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كلّ واحدٍ منهم لو انفرد أوجب القصاص عليه. روى ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عبّاس رضي الله عنهم. وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة. وهو مذهب مالك والثّوري والأوزاعي والشّافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرّأي. وعن أحمد رواية أخرى: لا يقتلون به. وتجب عليهم الدّيّة. والمذهب الأوّل إلى أن قال:
ولنا إجماع الصّحابة. فروى سعيد بن المسيب أنّ عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقلتهم جميعاً، وعن عليّ رضي الله عنه أنّه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً، وعن ابن عبّاس أنّه قتل جماعة بواحدٍ ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفاً، فكان إجماعاً. ولأنّها عقوبة تجب للواحد على الجماعة كحدّ القذف. وتفارق الدّية فإنّها تبعض والقصاص لا يتبعّض. ولأنّ القصاص لو سقط بالاشتراك أدّى إلى تسارع القتل به فيؤدّي إلى إسقاط حكمة الرّدع والزّجر
…
إلى أن قال:
ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التّساوي في سببه،
لو جرحه أحدهما جرحاً والآخر مائه أو أوضحه أحدهما، وشجّه الآخر آمة أو أحدهما جائفة والآخ غير جائفة كانا سواء في القصاص والدّية؛ لأنّ اعتبار التّساوي يفضي إلى سقوط القصاص على المشتركين؛ إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كلّ وجهٍ، ولأنّ الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة، ومن غير الجائفة دون الجائفة
…
إلى أن قال:
وإذا اشترك ثلاثة في قتل فقطع واحد يده والآخر رجله، وأوضحه الثّالث فمات فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدّية، فيأخذ من كلّ واحدٍ ثلثها، وله العفو عن واحدٍ فيأخذ منه ثلث الدّية، ويقتل الآخرين، وأن يفعو عن اثنين فيأخذ منها ثلثي الدّية ويقتل الثّالث، وإن برئت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الأخيرين، فله أن يقتصّ من الذي برئ جرحه بمثل جرحه، ويقتل الآخرين أو يأخذ منها دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخرين نصف الدّية. وله أن يعفو عن الذي برئ جرحه ويأخذ منه دية جرحه إلى أن قال:
وإن فعل أحدهما فعلاً لا تبقى معه الحياة كقطع خشونه أو مريئه أو ودجيه ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأوّل ويعزر الثّاني، وإن شقّ الأوّل بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثّاني عنقه، فالثّاني هو القاتل، وعلى الأوّل ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدّية. انتهى.
وقال في الإنصاف: وتقتل الجماعة بالواحد، هذا المذهب بلا ريب عليه جماهير الأصحاب. قال في الهداية: عليه عامّة شيوخنا، وعنه لا يقتلون به نقلها حنبل إلى أن قال:
فعلى المذهب من شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحاً للقتل به، قاله الأصحاب إلى أن قال:
ولو قتلوه بإفعالٍ لا يصحّ واحد منها لقتله نحو أن يضربه كلّ واحدٍ سوطاً في حالة أو متوالية فلا قود، وفيه عن تواطؤ وجهان في التّرغيب واقتصر عليه في الفروع.
قلت: الصّواب القود ـ إلى أن قال:
قال المصنّف رحمه الله والشّارح إن فعل ما يموت به يقيناً وبقيت معه حياة مستقرّة كما لو خرق خشوته ولم يبنها ثم ضرب آخر عنقه كان القاتل هو الثّاني؛ لأنّه في حكم الحياة لصحّة وصية عمر رضي الله عنه. قال في الفروع: ويتوجّه تخريج من مسألة الذّكاة أنّهما قاتلان. قلت: وهو الصّواب.
قال في الفروع: ولهذا اعتبروا إحداهما بالأخرى. قال: ولو كان فعل الثّاني كما فعل الأوّل لم يؤثّر مثل غرق حيوان في الماء يقتله مثله بعد ذبحه على إحدى الرّواتين. انتهى.
وقال في الإقناع وشرحه: وتقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كلّ واحدٍ منهم صالحاً للقتل به لو انفرد، وإن لم يصلح فعل كلّ واحدٍ من الجماعة للقتل كما لو ضربه كلّ واحدٍ منهم بحجرٍ صغيرٍ فمات فلا قصاص عليهم؛ لأنّه لم يحصل من واحدٍ منهم ما يوجب القود ما لم يتواطأوا على ذلك الفعل ليقتلوه فعليهم القصاص لئلا يتّخذ ذرية إلى ردّ القصاص إلى أن قال:
وإن قتله جماعة اثنان فأكر بأفعال لا يصلح واحد منها لقتله نحو أن يضربه كلّ واحدٍ سوطاً في حالة أو متوالية فلا قود فيه عن تواطؤ وجهان قاله في التّرغيب، والصّواب وجوب القود. انتهى ملخّصاً.
ومعنى قولهم: أن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحاً للقتل به أي:
أن يكون فعل كلّ واحدٍ صالحاً؛ لأن يكون سبباً لموت المجنِي عليه، لا أنّه يغلب حصول الموت من تلك الجناية؛ لأنّهم مثلوا بالموضحة مع أنّ حصول الموت بها نادر. وصرّحوا بأنّ القصاص إنّما يجب على المباشر بالشّرط المذكور. فخرج المشير والآمر، فلا يجب عليهما القصاص لاسيما وقد صرّحوا بعدم وجوب القصاص على الآمر في جملة. وإن كان بعض الأصحاب حكى رواية بوجوب القصاص على الآمر. فالمذهب خلافها.
قال في الشّرح: وإن أمر كبيراً عاقلاً عالماً بتحريم القتل فقتل فالقصاص على القاتل لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنّه قاتل ظلماً فوجب عليه القصاص كما لو لم يأمر. ثم ذكر حكم ما إذا أمر السّيّد عبده بقتل رجلٍ وما فيه من التّفصيل المذكور في كتب الفقه إلى أن قال:
وإن أمر السّلطان بقتل إنسانٍ بغير حقٍّ مَن يعلم ذلك فالقصاص على القاتل، وإن لم يعلم فعلى الآمر. فإذا كان المأمور يعلم أنّ الإنسان المأمور بقتله لا يستحقّ القتل فالقصاص عليه؛ لأنّه غير معذورٍ في فعله؛ فإنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق".وعنه عليه الصلاة والسلام:"مَن أمركم من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه ".فلزمه القصاص كما لو أمره غير السّلطان. وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور؛ لأنّ المأمور معذور بوجوب طاعة الإمام في غير المعصية. فالظّاهر أنّه لا يأمر إلاّ بالحقّ.
وإن كان الآمر غير السّلطان فالقصاص على القاتل بكلّ حالٍ علم أو لم يعلم؛ لأنّه لا تلزمه طاعته وليس له القتل بخلاف السّلطان، فإنّ إليه القتل في الرّدّة والزّنا، وقطع الطّريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص للنّاس، وهذا ليس له شيء من ذلك. انتهى.
وقوله رحمه الله: وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور، هكذا قال جماعة من الأصحاب. وقال الشّيخ تقيّ الدِّين رحمه الله: هذا بناء على وجوب طاعة السّلطان في القتل المجهول. وفيه نظر. بل لا يطاع حتّى يعلم جواز قلته. وحينئذٍ فتكون الطّاعة له معصية لاسيما إذا كان معروفاً بالظّلم، فهنا الجهل بعدم الحلّ كالعلم بالحرمة. انتهى.
وما في شرح رسالة ابن أبي زيد: أنّه إذا باشر القتل بعضهم وحبسه البعض قتلوا جميعاً، فهذا مذهب مالك وهو رواية عن أحمد، واحتجّ بعض مَن قال بقتل الممسك بقول عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، أي: تعاونوا، والممسك له ليقتل معِين للقاتل. وأجاب الآخرون عن قول عمر: لو تمالأ عليه، أي: لو تشاوروا في قتله.
قال في الشّرح: وإن أمسكه له ليقتله مثل أن أمسكه له حتّى ذبحه فاختلف الرّواية فيه عن أحمد، فروي عنه أنّ الممسك يحبس حتّى يموت. وهذا قول عطاء وربية. وروي عن عليّ رضي الله عنه. وروي عن أحمد أنّه يقتل أيضاً. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة والشّافعي وأبو ثور يعاقب ويأثم ولا يقتل. وأمّا القاتل فيقتل بغير خلافٍ.
فقوله رحمه الله وإن أمسكه له ليقتله. يدلّ من كلامه على أنّ هذا الحكم مخصوص بما إذا أمسكه له ليقتله لا ما إذا أمسكه له ولم يعلم أنّه يريد قتله، وهكذا قيّد كثير من الأصحاب.
قال في الإنصاف: شرط في المغنِي في الممسك أن يعلم أنّه يقتله. وتابعه الشّارح. قال القاضي: إذا أمسكه للعب أو الضّرب، وقتله القاتل فلا قود على الماسك. وذكره محلّ وفاق. وقال في منتخب الشّيرازي: لا مازحاً
متلاعباً. انتهى. وظاهر كلام جماعة الإطلاق. انتهى.
وقال في الإقناع وشرحه: وإن كان الممسك لا يعلم أنّ القاتل يقتله فلا شيء عليه؛ لأنّ موته ليس بفعله ولا بأثر فعله بخلاف الجارح؛ فإنّه لا يعتبر فيه، قصد القتل؛ لأنّ السّراية أثر جرحه المقصود له. انتهى.
وأمّا الرّدء فلم يذكروه هنا لم يعطوه حكم المباشر في هذا الباب. وإنّما جعلوا حكم ردء قطاع الطّريق حكم مباشرهم للعلة التي علّلوا بها.
قال في الشّرح في (باب قطاع الطّريق) وحكم الرّدء حكم المباشر. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشّافعي: ليس على الرّدء إلاّ التّعزير؛ ولأنّ الحدّ يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلّق بالمعين كسائر الحدود.
ولنا أنّه حكم يتعلّق بالمحاربة فاستوى فيه الرّدء والمباشر كاستحقاق الغنيمة؛ وذلك لأنّ المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكّن المباشر من فعله إلاّ بقوّة الرّدء بخلاف سائر الحدود، فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حقّ جميعهم، فيجب قتل الكلّ، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الأمرين واحد منهم. انتهى.
وقال في الإقناع وشرحه: وردء للمحارب وهو المساعد والمغيث له عند احتياجه إليه كمباشر وطليع وهو الذي يكشف للمحاربين حال القافلة. ليأتوا إليها كمباشر كما في جيش المسلمين إذا دخلوا دار الحرب وباشر بعضم القتال وأخذ المال ووقف الباقون للحفظ والحراسة مِمَّن يدهمهم من ورائهم أو أرسل الإمام عيناً ليتعرّف أحوال العدو، فإنّ الكلّ يشتركون في الغنيمة، وذكر أبو الفرج السّرقة كذلك. فإذا قتل واحد منهم ثبت
القتل في حقّ جميعهم فيجب قتل الكلّ؛ لأنّ حكم الرّدء حكم المباشر، وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم قتلوا كلّهم وجوباً. انتهى.
قال في الإنصاف: وحكم الرّدء حكم المباشر. هذا المذهب. وعليه الأصحاب. قال في الفروع: وكذا الطّليع. واختار الشّيخ تقيّ الدِّين يقتل الآمر كردء، وإنّه في السّرقة كذلك. انتهى.
وقول عمر رضي الله عنه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، أي: لو تعاون، وفي رواية: لو أنّ أهل صنعاء شركوا في قتله لقتلته أجمعين.
قال بعض العلماء في الكلام على أثر عمر المذكور: قوله: (تمالأ) مهموز ـ أي: تعاون ـ قال عليّ رضي الله عنه وأرضاه ـ: والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت في قتله ـ أي: عاونت ـ قال الخطابي في تصاحيف الرّواة: هو مهموز من الملأ، أي: صاروا كلّهم ملأ واحداً في قتله. قال: والمحدِّثون يقولونه بغير همز. والصّواب الهمز؛ لأنّ (الملأ) مهموز غير مقصور. انتهى.
واشترط الفقهاء المباشرة للقتل من الجميع وأن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحاً للقتل به، ومالك رحمه الله يلحق الممسك بالمباشر يدلّ على أنّهم حملوا قول عمر رضي الله عنه على التّعاون فقط، لا على التّشاور.
المسألة الثّالثة: إذا ادّعى شخص عند الحاكم بأنّه حكم له بكذا ولم يذكره الحاكم فشهد به شاهدان.
فالمذهب أنّه تقبل شهادتهما ما لم يتيّقن صواب نفسه. وهذا مذهب مالك. وقال أبو حنيفة والشّافعي: لا يقبل شهادتهما. ولا يرجع إلى قولهما حتّى يذكر أنّه حكم به. وظاهر كلام الأصحاب أنّه لا بدّ من شاهدين فلا يكفي الشّاهد ويمين المدّعي للحكم، وقد احتجّو لما ذكروه بقصة ذي اليدين واقصتارهم على الشّاهدين دليل على أنّه لا يكتفي
بغيرهما ولم يذكر في الفروع ولا في الإنصاف خلافاً. فدلّ على اعتبار الشّاهدين لاسيما والخلاف في عدم قبول الشّاهدين مشهور. والفقهاء يحكون الخلاف في قبول الشّاهدين وعدمه ولم يذكروا الشّاهد واليمين فدلّ على أنّه لا خلاف في عدم قبول الشّاهد مع اليمين. والله أعلم.
المسألة الرّابعة: ما صفة العدالة باطناً؟ وهل يعتبر اليوم في الشّاهد ما ذكروه في صفة العدل من الشّروط أم لا؟
فالجواب: أنّه ليس مرادهم باطناً معرفة ما في القلوب، فهذا أمر لا يعلمه إلاّ الله. لكن مَن طالت صحبته لإنسان أو كثرت معاملته عرف من أحواله ما يستدلّ به على حسن باطنه. فهذا معنى العدالة في الباطن، ولهذا قالوا: يشترط في التّزكية خبرة المزكّي للشّاهد خبرة باطنة بصحبته ومعاملته ونحوهما.
قال في الشّرح: يحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه أنّ الحاكم إذا علم أنّ المعدل لا خبرة له لم يقبل شهادته بالتّعديل كما فعل عمر رضي الله عنه، ويحتمل أنّهم أرادوا لا يجوز للمعدل الشّهادة بالعدالة إلاّ أن تكون له خبرة باطنة، فأمّا الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتّعديل فله أن يقبل الشّهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر فحسن. انتهى.
قال الزّركشي: لا يقبل التّعديل إلاّ مِمَّن له خبرة باطنة ومعرفة بالتّعديل والجرح غير متّهمٍ بعصبيةٍ ولا غيرها. قال: ومعنى الخبرة الباطنة كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنّه أتى بشاهدين، فقال: لست أعرفكما ولا يضرّكما إن لم أعرفكما جيئا بِمَن يعرفكما، فأتيا برجلٍ فقال له عمر: أتعرفهما؟ قال: نعم. فقال عمر: صَحِبْتَهما في السّفر الذي يبيّن فيه جواهر النّاس؟ قال: لا.
قال: عَامَلتَهما في الدّنانير والدّراهم التي تقطع فيها الرّحم؟ قال: لا. قال: كُنْتَ جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال يا ابن أخي لسْتَ تعرفهما. جيئانِي بِمَن يعرفكما.
وأمّا اعتبار الصّفات المكذورة في كتب الفقهاء في الشّاهد فلا يمكن اعبتارها في هذه الأزمنة إذ لو اعتبرت لم يمكن الحكم بين النّاس. قال أبو العبّاس رحمه الله العدل في كلّ زمانٍ ومكانٍ وطائفة بحسبها فيكون الشّهيد في كلّ قومٍ مَن كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدلاً على وجهٍ آخر. وبهذا يمكن الحكم بين النّاس، وإلاّ فلو اعتبر في كلّ طائفةٍ ألا يشهد عليهم إلاّ مَن يكون قائماً بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصّحابة لتعطلت الشّهادات كلّها أو غالبها.
وقال أبو العبّاس في موضعٍ آخر: إذا فسر الفاسق في الشّهادة بالفاجر أو بالمتّهم فينبغي أن يفرّق بين حال الضّرورة وعدمها، كما قلنا في الكافر. وقال في موضعٍ آخر: ويتوجّه أن تقبل شهادة المعروفين وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضّرورة مثل: الجيش وحوادث البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل، وله أحوال منها شهادة أهل الذّمة في الوصيّة في السّفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعضٍ في قول، وشهادة النّساء فيما لا يطّلع عليه الرّجال. انتهى. ويشهد لكلام الشّيخ رحمه الله ما ذكروه في القاضي إذا تعذرت عدالته.
وقد قال الشّيخ رحمه الله: الولاية لها ركنان: القوّة والأمانة. فالقوّة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله. قال: وهذه الشّروط تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل.
وقال: على هذا يدلّ كلام أحمد وغيره فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلّهما شرّاً، وأعدل المقلّدين وأعرفهما بالتّقليد، قال في الفروع: وهو كما قال. وقال في الإقناع وشرحه بعد أن أورد كلام الشّيخ هذا: وهو كما قال. وإلاّ لتعطلّت الأحكام واختل النّظام.
قال القرافي: ونصّ ابن أبي زيد على أنّا إذا لم نجد في جهة العدول أقمنا أمثلهم وأقلّهم فجوراً للشّهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاء وغيره لئلا تضيع المصالح. قال القراقي: وما أظنّ أحداً يخالفه في هذا. فإنّ التّكليف مشروط بالإمكان.
المسألة الخامسة: إذا تعذّر حصول الأرش الواجب على العاقلة لعدمهم أو فقرهم وتعذر الأخذ من بيت المال، فهل يلزم به الجاني أم لا؟
الصّحيح من المذهب السّقوط والحالة هذه. ولا يطالب الجاني بذلك. قال في الإنصاف: هو المذهب. وعليه أكثر الأصحاب بناء على أنّ الدّية وجبت على العاقلة ابتداء، وجزم به الخرقي وصاحب الوجيز والمنور ومنتخب الآمدي وغيرها. قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب. وقدّمه في المحرّر والنّظم والرّعايتين والحاوي الصّغير والفروع وغيرها. وهو من مفردات المذهب. ويحمل أن تجب في مال القاتل.
قال المصنّف رحمه الله هنا: وهو أولى فاختاره يعنِي: اختاره المصنّف، وهو الشّيخ موفّق الدِّين ابن قدامة. هذا القول الثّاني. قال في الشّرح: فإن لم يمكن الأخذ من بيت المال فليس على العاقلة شيء، وهذا أحد قولي الشّافعي، ولأنّ الدّية لزمت العاقلة ابداء بدليلٍ أنّها لا يطالب بها غيرهم إلى أن قال: فعلى هذا إن وجد بعض العاقلة حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحدٍ.
قال شيخنا: ويحتمل أن تجب في مال القاتل إذا تعذر حملها عنه. وهذا القول للشّافعي لعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، [النّساء، من الآية: 92] .ولأنّ قضية الدّليل وجوبها على الجاني جبراً للمحلّ الذي فوته، وإنّما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحلّ، فإذا لم يوجد ذلك بقي واجباً عليه بمقتضى الدّليل، ولأنّ الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول وبين إيجاب ديته على المتلف لا يجوز الأوّل؛ لأنّ فيه مخالفة للكتاب والسّنة وقياس أصول الشّريعة فتعيّن الثّاني. ولأنّ إهدار الدّم المضمون لا نظير له وإيجاب الدّية على قاتل الخطأ له نظائر. وأطال الكلام في تقوية هذا القول. واختار هذا القول الثّاني أيضاً الشّيخ تقيّ الدِّين.
قال في الاخيتارات: وتؤخذ الدّية من الجاني خطأ عند تعذّر العاقلة في أصحّ قولي العلماء. قال في شرح الإقناع: وعنه تجب في مال القاتل. قال في المقنع: وهو أولى، أي: من إهدار دم الأحرار في غالب الأحوال؛ فإنّه لا يكاد توجد عاقلة تحمل الدّية كلّها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدّماء.
المسألة السّادسة: إذا لم تنقص الجناية المجني عليه بعد البرء ولا حال جريان الدّم.
فالمشهور في المذهب أنّه لا شيء فيها، سوى التّعزير. فقد صرّحوا بوجوب التّعزير في ذلك. قال في الإنصاف في هذه المسألة: فإن لم تنقصه شيئاً بحال أو زادته حسناً كإزالة ليحة امرأة أو إصبع زائدة ونحوه فلا شيء فيها. هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب.
قال في المحرّر: فلا شيء فيها على الأصحّ. قال في الفروع: فلا شيء فيها في الأصحّ. وكذا قال النّاظم وصحّحه في المغنِي والشّرح وغيرهما.
وقيل: بلى. قال القاضي: نصّ أحمد على هذا. قال المصنّف: فعلى هذا يقوم في أقرب الأحوال إلى البرء، فإن لم ينقص في ذلك الحال قوّم حال جريان الدّم؛ لأنّه لا بدّ من نقص للخوف عليه. ذكره القاضي. وجزم بهذا القول في الهداية. والمذهب والخلاصة. انتهى.
وعلى القول الأوّل: يعزّر الجاني؛ لأنّهم صرّحوا بوجوب التّعزير في جناية لا قصاص فيها؛ كالصّفع والوكز ونحو ذلك، مع أنّ في اللّطمة ونحوها رواية بثبوت القصاص في ذلك. قال في الإنصاف: لما ذكر عدم وجوب القصاص في ذلك، وقال: إنّه المذهب وعليه الأصحاب. قال: ونقل حنبل والشّالنجي القود في اللّطمة ونحوها.
ونقل حنبل عن الإمام أحمد والشّعبي والحكم وحماد قالوا: ما أصاب بسوطٍ أو عصا وكان دون النّفس ففيه القصاص. قال أحمد: وكذلك أرى. ونقل أبو طالب لا قصاص بين المرأة وزوجها في أدب يؤدّبها به، فإن اعتدى أو جرح أو كسر يقتص لها منه. ونقل ابن منصور إذا قتله بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجرٍ يقتل بمثل الذي قتل به؛ لأنّ الجروح قصاص، ونقل أيضاً كلّ شيءٍ من الجراح والكسر يقدّر على القصاص يقتصّ منه للأخبار. واختار ذلك الشّيخ تقيّ الدِّين وقال: ثبت عن الخلفاء الرّاشدين. انتهى. والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين إلى الأخ حسين بن عليّ.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
موجب الخط إبلاغك
وأمّا القنوت إن كان إماماً جهر به، وأمن المأمومون جهراً.
وأمّا الأجرة على الأذان فقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه:"اتّخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أرجاً".
وأمّا الأذان قبل الوقت فلا يجزئ بل يعاد في الوقت.
وأمّا بيع القهوة بطعام نسيئة فبعض أهل العلم يمع من هذا الجنس، وبعضهم يبيحه.
وأمّا أخذ الطّعام عن دراهم ثمن سمن فالخلاف في مثل هذه المسألة مشهور في زمن السّلف. هذا إذا كان الطّعام حاضراً ليس مؤخّراً وأرى في مثل هذه المسألة الغفلة عن الفاعل.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ عليّ بن عثمان سلّمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
نذكر لك من جهة الذي تذكر أنّه يأخذ عن الدّراهم ثمن الغنم زاداً، فهذا لا بأس به إن شاء الله. فإن كان الدّراهم ثمن لحمٍ فلا ينبغي أخذ الزّاد عنها خروجاً من الخلاف.
ومن جهة شهود الطّلاق هل يجوز نقل شهادتهم، فإذا جاز نقل الشّهادة فشهود الطّلاق وغيرهم سواء، ونذر الطّاعة يلزم الوفاء به ويجبر عليه الممتنع، والمرأة إذا كانت رشيدة يصحّ تصرّفها في مالها ولا يمنعها زوجها من التّصرّف في مالها.
وأمّا اشتراط الرّجل على زوج ابنته عند العقد، فهذا جائز بخلاف غير الأب.
وأمّا قضاء رمضان فلا يجب فيه التّتابع. والله أعلم.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشّيخ أبو بطين: وهذه الصّور التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيع نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن السّنور، وكسب الحجام، وبيع الخمر، وكلّ ما حرم أكله وبيع الميتة، وبيع الأصنام، وبيع الحرّ، وبيع عسب الفحل، وبيع فضل الماء، وبيع الكلأ، وبيع الحصاة، وبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة والمزابنة، والمحاقلة والمخابرة والمعاوضة والثّنيا، وبيع الثّمر قبل الصّلاح، وبيع الطّعام قبل قبضه، والبيع على بيع أخيه، والنَّجش والتّصرية، وبيع حاضر لبادٍ، وتلقي الرّكبان، والغشّ والكذب، والاحتكار، وأكل الرّبا، وتوكيله، وبيع الذّهب بمثله متفاضلاً، وبيع الفضّة بمثلها متفاضلةً، والبرّ بالبرّ متفاضلاً، والذّهب بالذّهب نساء، والفضّة بالفضّة نساء، والتّمر بالتّمر نساء، والشّعير بالشّعير نساء، والبرّ بالبرّ نساء، والملح بالملح نساء، والذّهب بالفضّة نساء، والتّمر بالبر نساء، والتّمر بالشّعير نساء، والتّمر بالملح نساء، والبرّ بالشّعير نساء، والبر بالملح نساء، والشّعير بالملح نساء، واشتراط ما ليس في كتاب الله، وكلّ ما تقدّم في الصّحيحين أو أحدهما.
قوله: المزانبة: وهي أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعاماً، نهى عن ذلك كلّه، ويورى المزابنة أن يباع ما في رؤوس النّخل بتمرٍ كيلاً مُسمَّى إن زاد فلي وإن نقص فعلي.
قوله: نهى عن المخابرة والمحاقلة، فالمحاقلة: أن يبيع الرّجل الزّرع
بمائة فرق حنطة، والمزابنة أن يبيع الثّمر في رؤوس النّخل بمائة فرق مثلاً، والمخابرة: كراء الأرض بالثّلث أو الرّبع، والمعاومة: أن يبيع حمل الشّجر المستقبل أعواماً.
قوله: المنابذة: وهي طرح الرّجل ثوبه للبيع إلى الرّجل قبل أن يقبله أو ينظر إليه.
قوله: الملامسة: هي لمس الثّوب لا ينظر إليه.
قوله: حبل الحبلة: وكان بيعاً يبيعه أهل الجاهلية، كان الرّجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج النّاقة ثم أن تنتج التي في بطنها، وقيل: إنّه كان يبيع الشّارف وهي الكبيرة بالمسنة بنتاج الجنين الذي ببطن ناقته.
وقوله: بيع الحصاة، وهو: أن يقول: أيّ موضعٍ وقعت عليه هذه الحصاة من هذه الأرض فهو لي بكذا وكذا. اهـ.
فائدة لأبي بطين:
إذا غلب حكم الكفر في بلدةٍ صارت دار حربٍ، وعند أبي حنيفة: لا تصير دار حربٍ إلاّ باجتماع ثلاثة شروط: ظهور أحكام الكفر، وأن لا يبقى فيها مسلم ولا ذميّ بالأمان الأصلي، وأن تكون ملحقة بدار الحرب. اهـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المحبّ الشّيخ عثمان ابن عيسى وفّقه الله لطاعته وحفظه بحراسته.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
تذكر من حال كتاب الحاكم
برؤية الهلال، وما ذكر لك عبد الرّحمن النّميري أنِّي ذكرت لك شيئاً في ذلك عن العسكري فعبد الرّحمن يثبت لكن ما حضرنِي الآن. والذي يظهر لي العمل به والاعتماد عليه في ذلك؛ لأنّ الفقهاء ذكروا أنّه إذا رئي هلال رمضان بمكان لزم جميع النّاس الصّوم، وإنّما يثبت ذلك غالباً في حقّ غير أهل موضع الرّؤية بإخبار الثّقات فرعاً عن أصل وخطوط القضاة، بل أهل موضع الرّؤية ليسوا كلّهم يأتون إلى الشّاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على إخبار بعضهم بضعاً عن الشّاهد؛ كشهادة الفرع على الأصل، فإذا تقرّر قبول خبر الفرع أو شهادته في ذلك، فكذا كتاب القاضي؛ لأنّ الفقهاء ذكروا أنّه لا تقبل الشّهادة على الشّهادة إلاّ فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأنّ كتاب القاضي حكمه كالشّهادة على الشّهادة، وكلامه في الكافي صريح في قبول الشّهادة على الشّهادة في ذلك لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان. قال في تعليل الوجه الثّاني: وهذا لا يقبل فيه شهادة الفرع مع إمكان شهادة الأصلن فدلّ كلامه على قبول شهادة الفرع مع عدم الإمكان، ونظره صاحب الفروع بقوله: كذا قال. والذي يظهر لي أنّ تنظيره إنّما هو اعتباره لقبول شهادة الفرع إمكان شاهد الأصل، كما قدّمنا أنّ المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه. والله سحبانه وتعالى أعلم.
ولعلّك وفقت على قول شارح الإقناع عند قول المتن في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حدّ الله كالزّنا ونحوه. قال الشّارح: وكالعبادات ووجه ذلك؛ أنّه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: أمور الدِّين والعبادات المشتركة لا يحكم فيها إلاّ الله ورسوله إجماعاً.
قال في الفروع عقبه: فدلّ على أنّ إثبات سبب الحكم كرؤية الهلال والزّوال ليس بحكم الخبر، فدلّ ذلك على أنّ كتاب القاضي بإثبات رؤية الهلال ليس حكماً في عبادةٍ ولا إثباتاً لها. وإنّما هو لإثبات سببها فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادةٍ ولا يحكم فيها، وقد صرّحوا بأنّه لا مدخل لحكمه في عبادةٍ أو وقتٍ، وإنّما هو فتوى فدلّ كلامهم على أنّ إثبات رؤية الهلال مثلاً فتوى، والفتوى يعمل فيها بالخط، وإن كان كتابه شهد عندي فلان وفلان مثلاً، برؤية الهلال، ففرع على أصلٍ لا فتوى. مطلقاً. والله سبحانه وتعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بطين إلى الأخ عثمان بن عيسى.
قال بعد السّلام:
وما ذكرت من حال المرأة التي استدخلت ذكر زوجها وهما محرمان، مرادكم وهو نائم، هل يجب عليه الكفارة أم لا؟ وهل تتحملها عنه الزّوجة كالنّفقة أم لا؟
فالظّاهر وجوب الفدية عليه؛ لأنّ هذا نوع إكراه، والمكره تجب عليه الفدية على الصّحيح من المذهب. قال في الإنصاف في باب ما يفسد الصّوم
…
الخ: فتبيّن بذلك أنّ المذهب وجوب الكفارة على مَن استدخلت زوجته ذكره، وهو نائم، وأنّها لا تتحملها عنه على الصّحيح من المذهب.
وأمّا مَن قيل له: لم ضربت غلامك ولم أدميته؟ فقال: إن كان ظهر منه دم فهو حرّ، هل يعتق بذلك التّعليق إذا وجد الشّرط وهو ظهور الدّم؟
فالظّاهر أنّه يعتق إذا كان قد وجد الشّرط، وهو ظهور الدّم، والتّعليق
على الماضي معلوم من الكتاب والسّنة، ونحو هذا التّعليق يُسَمّى حلفاً؛ لأنّ التّعليق الذي يقصد به الحنث على فعلٍ أو المنع منه أو يراد به تصديق خبرٍ أو تكذيبه يُسمَّى حلفاً. وأمّا التّعليق الذي لا يقصد به شيء من ذلك فلا يُسَمَّى حلفاً على الصّحيح من المذهب. فلو قال: إن كنت فعلت كذا فزوجتِي طالق، وكان قد فعله حنث، وكذا لو قال: إن لم أكن فعلت كذا فزوجتِي طالق، أو فعبدي حرّ، وكان لم يفعله حنث إن لم يتأوّل حيث جاز التّاويل كما ذكره في باب التّأويل في الحلف. وما ذكرتموه من كلام منصور بأنّ المعلّق عليه لا يكون ماضياً، فلعلّ مراده إذا تجرّد الشّرط عن لفظ كان، كما قال القاضي فيما روي عن أحمد في رجلٍ قال لامرأته: إن وهبت كذا فأنت طالق، وإذا هي قد وهبته. قال الإمام: أخاف أن يكون قد حنث.
قال القاضي: هذا محمول على أنّه قال: إن كنت قد وهبته، وإلاّ فلا يحنث حتّى تبتدئ هبته. انتهى. فإذا اتّصلت كان بأداة الشّرط جاز كون المعلّق عليه ماضياً وحالاً.
وقال م. ص: وقد يكون المعلّق عليه موجوداً في الحال، وقد يكون مستقبلاً ولا يكون ماضياً، ولذلك تقلب أدوات الشّرط الماضي إلى الاستقبال، فدلّ قوله: وكذلك
…
الخ على أنّ مراده بقوله: ولا يكون ماضياً، إذا تجرّد من كان؛ لأنّ الماضي إذا اقترنت به كان لا يكون مستقبلاً، بل يبقى على مضيه، وهي إنّما تقلب الماضي إلى الاستقبال إذا لم تقترن بكان أو يكون أو مضارعاً، فدلّ قوله: ولذلك الخ، تقلب أدوات الشّرط، آخر ما وجد من هذه الرّسالة. والله أعلم.
وله أيضاً رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم ـ رفع الله قدركم ـ في ريع وقف عقار انتقل من طبقة إلى طبقة أرضاً أو نخلاً من مزارعة أو مساقاة أو إجارة بعد ظهور الثّمرة، ومتى تستحقّ الطّبقة الثّانية لذلك، وهل بين مَن كان يستحقّها بوصفٍ أو مقابلة عملٍ فرق، أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، الكلام في هذه المسألة كالكلام في الحمل في أنّه يتجدّد حقّه من الوقف بوصعه لا قبله من ثمرٍ وزرعٍ، كتجدّد حقّ المشتري. هذا هو المشهور في المذهب. ومن المعلوم أنّه إذا بيعت أرض وفيها زرع كبر ونحوه أنّه للبائع ما لم يشترط مشترٍ. وكذا إذا بيع نخل قد تشقّق طلعه أنّه للبائع ما لم يشترطه المشتري. فهكذا حكم الحمل المستحقّ للوقف بعد وضعه. قال في المغنِي: ومَن وقف على أولاده أو أولاد غيره وفيهم حمل لم يستحقّ شيئاً قبل انفصاله. قال أحمد في رواية جعفر بن محمّد فيمَن وقف نخلاً على قومٍ وما توالدوا، ثم ولد مولود فإن كان النّخل قد أُبِّرَ فليس له فيه شيء، وهو للأوّل، وإن لم يكن قد أُبِّرَ فهو معهم، وإنّما قال ذلك؛ لأنّها قبل التّأبير تتبّع الأصل في البيع، وهذا الموجوب يستحقّ نصيبه فيتبعه حصته من الثّمر كما لو اشترى ذلك النّصيب من الأصل، وبعد التّأبير، لا تتبع الأصل، ويستحقّ مَن كان له الأصل، فكانت للأوّل؛ لأنّ الأصل كان كلّه له فاستحقّ ثمرته كما لو باع هذا النّصيب منها، ولم يستحقّ المولود منها شيئاً كالمشتري. وهكذا الحكم في سائر ثمر الشّجر الظّاهر، فإنّ المولود لا يتستحقّ
منه شيئاً، ويستحقّ مما ظهر بعد ولادته. وإن كان الوقف أرضاً فيها زرع يستحقّه البائع فهو للأوّل، وإن كان مما يستحقّه المشتري فللمولود حصّته منه؛ لأنّ المولود يتجدّد استحقاقه للأصل كتجدّد ملك المشتري فيه. انتهى كلامه.
وهذا التّعليل الذي علّل به ظاهر في أنّ حكم الطّبقة الثّانية حكم الحمل. وهو واضح. ولله الحمد.
قال في الإنصاف: تجدّد حقّ الحمل بوضعه من ثمرٍ وزرعٍ لمشترٍ نقله المروذي وجزم به في المغنِي والشّرح والحارثي. وقال: ذكره الأصحاب في الأولاد وقدمه في الفروع. ونقل جعفر يستحقّ من زرع قبل بلوغه الحصاد، ومن نخل لم يؤبّر، فإن بلغ الزّرع الحصاد، وأُبِّرَ النّخل لم يستحقّ شيئاً إلى أن:
قال في الفروع: ويشبه الحمل إن قدم إلى ثغر موقوف عليه فيه أو خرج منه إلى بلد موقوف عليه فيه، نقله يعقوب. قال: وقياسه من نزل في مدرسته ونحوه. قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول: ليس كذلك؛ لأنّ واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السّنة كالجعل على اشتغال مَن هو في المدرسة عاماً، فينبغي أن يستحقّ بقدر عمله من السّنة من ريع الوقف في السّنة لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهراً مثلاً فيأخذ جميع مغل الوقف ويحضر غيره باقي السّنة بعد ظهور الثّمرة، فلا يستحقّ شيئاً. وهذا يأباه مقتضى الوقوف. ومقاصدها. انتهى.
قال الشّيخ تقيّ الدِّين: يستحقّ بحصّته من مغله. وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ. وللورثة من المغل بقدر ما باشر مورثهم. انتهى.
قال في القواعد الفقهية: واعلم أنّما ذكرناه في استحقاق الموقوف عليه ههنا إنّما هو إذا كان استحقاقه بصفةٍ محضةٍ مثل كونه ولداً أو فقيراً ونحوه، أمّا إن كان استحقاقه الوقف عوضاً عن عملٍ، وكان المغل كالأجرة فيقسط على جميع السّنة كالمقاسمة
القائمة مقام الأجرة حتّى مَن مات في أثنائه استحقّ بقسطه وإن لم يكن الزّرع قد وجد. وبنحو ذلك أفتى الشّيخ تقيّ الدِّين. انتهى.
فظهر من كلامهم أنّ مَن كان استحقاقه بصفةٍ لكونه ولداً أو فقيراً ونحو ذلك أنّ حكمه في الاستحقاق من زرع الأرض الموقوفة، وثمر الشّجر الموقوف حكم المشتري. هذا هو المعمول به في المذهب.
وأمّا مَن كان استحقاقه في مقابلة عملٍ ففيه الخلاف، كما تقدّم. فصاحب الفروع قاس هذه المسألة قبلها، فقال: وقياسه مَن نزل في مدرسةٍ ونحوه وتبعه. في الإقناع وغيره وكلام الشّيخ تقيّ الدِّين وابن عبد القوي وابن رجب بخلاف ذلك. والعمل به أولى إن شاء الله تعالى.
وأمّا إن كان الوقف مؤجّراً فالذي ظهر لنا من كلامهم أنّ الأجرة تقسط على جميع السّنة، فَمَن مات من المستحقّين في أثناء السّنة فله من الأجرة بقدر ما مضى من السّنة. وهو صريح في كلام بعضهم، كما قال ابن رجب رحمه الله في أثناء كلامٍ له. قال: كما تقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثّاني، ولم تنفسخ إجارته أنّهم يستحقّون الأجرة من يوم الانتقال. انتهى.
فهذا يدلّ على القول بأنّها لا تنفسخ بموت المؤجّر من الطّبعة الأولى، وعلى القول الثّاني الذي هو الصّحيح عند ابن رجب وصحّحه أيضاً الشّيخ تقيّ الدِّين وصوّبه في الإنصاف أنّها تنفسخ، فإنّ المنافع تنتقل للطّبقة الثّانية، فتكون الأجرة لهم من حين انتقل الوقف إليهم.
قال ابن رجب أيضاً في أثناء كلامٍ له: وفي أمثلة ذلك الوقف إذا زرع فيه أهل البطن الأوّل أو مَن آجروه ثم انتقل إلى البطن الثّاني والزّرع قائم، فإن قيل: إنّ الإجارة لا تنفسخ وللبطن الثّاني حصّتهم من الأجرة فالزّرع مبقى لمالكه بالأجرة
السّابقة، وإن قيل: بالانفساخ، وهو المذهب الصّحيح فهو كزرع المستأجر بعد انقضاء المدّة إذا كان بقاؤه بغير تفريطٍ من المستأجر فيبقى بالأجرة إلى أوان أخذه، وقد نصّ عليه الإمام أحمد في رواية مهنا في مسألة الإجارة المنقضية، وأفتى به في الوقف الشّيخ تقيّ الدِّين. والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.
والمجيب هو: الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبا بطين. رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة: ما قول شيخنا ـ وفّقه الله ـ لإيضاح المشكلات في إنسانٍ اشترى قهوة من آخر مثلاً، واكتالها كيلاً جيداً، أو اشترط أنّه يكيلها فلان مثلاً، وأراد بعد ذلك بيعها فلما باعها، قال: أكيلها أنا، والحالة أنّ كيله هو أو فلان أنقص من ذلك الكيل الأوّل، هل يكون ذلك ممنوعاً في الشّرع المطهر أم لا؟
أيضاً ـ سلّمك الله ـ: إذا اشترط البائع على المشتري أنّه لا يكيلها إلاّ أنت أو فلان، والحالة أنّه هو أو فلان لا يحسنون الكيل الذي يساوي كيله أو لا والتزم له المشتري بذلك هو يسوغ له الشّرط أم لا؟ نلتمس من فيض إفضالكم تحرير الجواب باختصارٍ وإيجاز. ولكم من الله بذلك الثّواث الجزيل والمفاز.
وأيضاً ـ سلّمك الله ـ: حصل زيادة بين كيلٍ البائع وكيل المشتري بلا شرط على المشتري، والحال أنّ المشتري الأوّل شرط على البائع الأوّل أنّه يكيلها فلان والمشتري الثّاني لم يشترط كيل أحدٍ.
فأجاب ـ رحمه الله تعالى ـ: الذي أرى ـ والله أعلم ـ أنّه إذا قال المشتري:
أكيلها أنا أو فلان والحالة أنّ كيله أو كيل فلان أنقص من الكيل الأوّل الذي اكتاله البائع أنّ ذلك لا يمنع.
وأمّا إذا شرط البائع على المشتري أنّه لا يكيلها إلاّ أنت أو فلان، فهذا الشّرط غير صحيحٍ، ويجوز أن يتولّى الكيل غير المعيّن للمشروط، كما قالوا: إذا شرط في السّلم مكيالاً معيّناً له عرف أنّه لا يصحّ هذا الشّرط ولا يلزم التّعيين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فائدة: قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في بدائع الفوائد: الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصحّ له الحكم إلاّ بها: معرفة الأدلّة، والأسباب، والبيّنات. فالأدلّة تعريفه: الحكم الشّرعي لا الكلّيّ، والأسباب معرفة ثبوته في هذا المحلّ المعتبر وانتفاؤه عنه. والبيّنات معرفة طريق الحكم عند التّنازع. ومَن أخطأ واحداً من هذه الثّلاثة أخطأ في الحكم وجميع خطأ الحكام مداره على هذه الثّلاثة أو بعضها.
مثال ذلك: إذا تنازع اثنان في ردّ سلمة مشتراة فحكمه موقوف على العلم بالدّليل الشّرعي الذي سلط المشتري على الرّدّ، وهو إجماع الأمّة المستند إلى حديث المصراة، وعزاه على العلم بالسّبب المثبت بحكم الشّارع في هذا المبيع المعيّن، ويقولون هذا الوصف عيب سلط على الرّدّ أم لا؟ وهذا لا يتوقّف العلم به على الشّرع بل على الحسّ والعادّة أو العرف أو الجزاء ونحو ذلك، وعلى البيّنة التي هي طريق الحكم بين المتنازعين، وهي كلّ يبيّن ما له صدق أحدهما، أو ظنا من إقرار أو شهادة أربعة عدول، أو ثلاثة في دعوى الإعسار بتلف ماله على أصحّ القولين أو شاهدين، أو رجلٍ وامرأتين، أو شاهد ويمين، أو شهادة رجلٍ. انتهى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الولد المحبّ عليّ بن عبد الله القاضي ألهمه الله رشده وهداه، ووفّقه لما يحبّه ويرضاه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
موجب الخطّ إبلاغك السّلام. والخط وصل وصلك الله إلى ما تحب. ومن حال ما ذكرت من أخذ الرّجل من طول لحيته إذا كانت دون القبضة فالظّاهر الكراهة، لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:" اعفوا اللّحى"، وفي حديثٍ آخر:" ارخوا اللُّحى". والسّنة عدم الأخذ من طولها مطلقاً. وإنّما رخص بعض العلماء في أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، وبعض العلماء يكره ذلك لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:" اعفوا اللّحى ".
وأمّا حلق ما على الخدّين من الشّعر فلا شكّ في كراهته لمخالفته قوله صلى الله عليه وسلم:"اعفوا اللّحى".واللّحية في اللّغة اسم لمحلّ الشّعر النّابت على الخدّين والذّقن. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"اعفوا اللّحى"، أي: وفرّوها واتركوها على حالها مع أنّه ورد حديث في النّهي عن ذلك، فروى الطّبراني عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن مثّل بالشّعر ليس له عند الله من خلاق".قال الزّمخشري: معناه: صيّره مثلة بنتفه أو حلقه من الخدود، وقيل: نتفه أو تغيير بسواد. وهذا الحديث ظاهر في تحريم هذا الفعل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال أصحابنا: يباح للمرأة حلق وجهها وحفّه، ونصّ الإمام أحمد على كراهة حفّ الرّجل سوى وجهه، والحفّ أخذه بالمقراض والحلق
بالموسى. فإذا كره الحفّ فالحلق أولى بالكراهة. ويكفي ذلك أنّه يخالف سنة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في قوله:"اعفوا اللّحى".وفي الحديث:" وفّروا اللُّحى خالفوا المشركين ".الله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مسائل سُئِلَ عنها الشّيخ العالم العلاّمة البحر الفهّامة عبد الله ابن عبد الرّحمن أبو بطين رحمه الله وعفا عنه:
المسألة الأولى: إذا ترك السّاعي في الخرص لربّ المال شيئاً من كمال النّصاب كما إذا صار عنده خمسة أوسق فترك منها وسقاً فقد ذكروا إن كان ربّ المال أكل هذا الوسق المتروك فلا يجب عليه شيء في الأوسق الأربعة الباقية، وإن لم يأكل هذا الوسق المتروك زكى الأسوق الأربعة فقط.
الثّانية: وجوب الزّكاة في غلة الوقف فإن كان الوقف على معيّنٍ واحدٍ أو جماعةٍ وحصل لكلّ وحدٍ نصاب زكّاه، وإن كان الوقف على غير معيَّنٍ لم يجب شيء.
الثّالثة: إذا كان عند إنسانٍ نصاب في الشّتاء وبعض نصاب في القيظ أخرج زكاة نصاب الشّتاء ولم يجب عليه شيء في زرع القيظ إذا لم يبلغ نصاباً.
الرّابعة: إذا دبر عبده وأوصى بثلث ماله في جهة فزكاة الجميع تخرج من الثّلث؛ لأنّ التّبدير وصية على المشهور، وله الرّجوع في الوصية وبيع المدبّر على اختلاف في ذلك.
الخامسة: السّلم فلا يباع قبل قبضه ولا يؤخذ مِمَّن هو عليه عوض عن دَين السّلم في قول أكثر العلماء.
السّادسة: إذا مات الوصي أقام الحاكم عدلاً في ذلك من العصبة أو غيرهم، وليس للعصبة ولاية إلاّ مع عدم حاكمٍ أو وصي على قول غير مشهورٍ لكنه متوجّه مع عدم الحاكم.
السّابعة: إذا طلق الرّجل زوجته ثلاثاً فإنّها تقع الثّلاث ولو كان على عوضٍ.
الثّامنة: إذا قال الزّوج لزوجته: إن خرجت فأنت طالب وكرّرها ثلاثاً ثم خرجت فإنّها تطلق ثلاثاً ولو لم ينو شيئاً، وإن ادّعى أرادة الإفهام بالتّكرير قُبِلَ منه.
التّاسعة: إذا قال الرّجل لامرأته: أمرك بيدك، فإنّها تملك ثلاثاً، ولو قال: طلِّقي نفسك، لم تملك إلاّ واحدةً.
العاشرة: إذا وقف نخلة معيّنة فالذي نرى أنّ موضعها لا يكون وقفاً بذلك، فإذا سقطت النّخلة زال حقّ أهل الوقف، وقد صرّح بذلك الفقهاء فيما إذا أقرّ له بنخلة أو باعه إيّاها تناول ذلك الجذع فقط، فإذا سقطت لم يكن له إعادتها كما نصّ عليه الإمام أحمد فيما إذا أقرّ له بنخلةٍ. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم
مسألة: ما حكم ما يغرس أو ينبت من النّخل ونحوه على ماء الشّريك في المشاع إذا أراد الشّركاء القسمة؟
الجواب: الحمد لله. أمّا ما غرس الشّريك في الأرض المشاعة بغير إذن شريكه فقد صرّح الأصحاب بأنّ حكمه حكم غرس الغاصب، ونصّ
على ذلك الإمام أحمد، فإنّه سُئِلَ عَمَّن غرس نخلاً في أرض بينه وبين قوم مشاعاً، قال: إن كان بغير إذنهم قلع نخله. قال في الإنصاف:
قلت: وهذا مما لا إشكال فيه. قالوا: وكذا لو غرس نوى فصار شجراً فحكمه حكم الغرس لا كالزّرع على الصّحيح من المذهب.
وأمّا قول الشّيخ رحمه الله: مَنْ رَزَعَ بلا إذن شريكه، والعادّة بأن مَن زَرع فيها له نصيب معلوم ولربّها نصيب قسم غلة ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. فالظّاهر أنّ هذا في الزّرع خاصّة دون الغرس ولجريان العادّة بذلك.
وأمّا إذا نبت في الأرض المشاعة شجر بغير فعل صاحب الماء وإنّما نبت على مائه بغير فعلٍ منه، فلم أرَ في كتب الأصحاب ذكراً لهذه المسألة بعينها.
ورأيت جواباً للشّيخ عبد الله بن ذهلان النّجدي في هذه المسألة:
اعلم أنّ الغرس النّابت في الأرض المأجورة والموقوفة لم نظفر فيه بنصٍّ وتعبنا من زمن، وجاءنا فيه جواب للبلياني وأظنّه غير محرّر، وأرسلنا من زمنٍ طويلٍ للشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله الشّافعي المفتِي بالأحساء فيمَن استأجر أرضاً مدةً طويلةً فنبت فيها غراس الظّاهر سقوطه في مدّة الإجارة ونما من عمل مستأجر ما حكمه؟
فأجاب: إذا استجأر شخص مدّة طويلةً ووقع منه نوى في الأرض المذكورة ولم يعرض عنه كان النّابت ملكاً لمستأجر إن تحقّق أنّ النّوى ملكه، وإن لم يتحقّق أنّه ملكه أو أعرض عنه، وهو مِمَّن يصحّ إعراضه، فهو ملك لصاحب الأرض، وإنّما نما بعمل المستأجر. هذا جوابه.
ومن جواب محمّد بن عثمان الشّافعي: الودي النّابت في الأرض لمالكها لا للمستأجر. وإن حصل نمو بفعل المستأجر من سقيه وتعاهده. اهـ.
قال في الشّرح: وإن رهن أرضاً نبت فيها شجر فهو رهن؛ لأنّه نبات الأرض سواء نبت بفعل الرّاهن أو بغيره. وكذا قال في المغنِي وغيره، فتعليلهم أنّ النّابت من نماء الأرض ربّما يلحظ منه شيء. والله سبحانه وتعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
نقل من إملاء الشّيخ عبد الله أبي بطين:
ما قول العلماء هل للحيوان عهدة من جهة الجرب؟
فقال: وأمّا عهد الحيوان إذا بان فيه جرب بعد البيع بمدّة فقول أهل الخبرة بذلك أنّه يمكن حدوثه في هذه المدّة. وإنّما نعتقد تقدّمه على البيع أثبتنّا الرّدّ بفسخ البيع، وإن احتمل الأمرين أوجبنا اليمين على البائع بنفي تقدّم الجرب عملاً بإحدى الرّوايتين من أنّ القول قول البائع بيمينه على البتّ إذا اختلفا في حدوث العيب، وكان محتملاً لأمرين. انتهى.
قال في شرح الزّاد في باب الخيار: ويقبل قول قابضٍ في ثابتٍ من ثمنٍ وقرضٍ وسلمٍ إن لم يخرج عن يده ما صورته؟
الجواب: معناه: أنّه إذا ثبت في ذمّة عمرو لزيد عشرة آصع مثلاً، سواء كانت ثمن ميبعٍ باعه زيد على عمرو، أو قرضٍ أقرضه زيد عمرواً، أو دَين سلم في ذمّة عمرو لزيد، أو أجرة دار في ذمّته أو قيمة سلعة أتلفها عمرو لزيدٍ، فثبت غرمها لزيد فبعد ما قبضه زيد من عمرو ردّها زيد بعيبٍ وجده فيها،
وأنكر عمرو كون الآصع المردودة ليست هي التي دفعها، فإنّ القول في هذه الصّورة التي صوّرنا قول القابض للثّابت، وهو زيد بيمينه؛ لأنّ الأصل بقاء شغل الذّمّة بهذا الحقّ الثّابت.
والقاعدة: أنّ القول قول مدّعي الأصل وإنّما عبر بالقابض لشمل البائع والمقرض والمسلم والمؤجّر والمتلف ونحوهم. انتهى.
وقال أيضاً في الشّرح: ومَن اشترى متاعاً فوجده خيراً مِمَّا اشترى فعليه ردّه إلى بائع، وعبارة الحاشية على المنتهى لعثمان النّجدي: وفي الإقناع أيضا: لو اشترى متاعاً فوجده خيراً مِمَّا اشترى فعليه ردّه إلى بائعه، وكما لو وجده رديئاً كان له ردّه، ولعلّ محلّ ذلك إذا كان البائع جاهلاً به.
وفيه أيضاً: وإن أنعل الدّابة ثم أراد ردّها بعيبٍ مثلاً ينْزع النّعل ما لم يعيبها فيتركه إلى سقوطه أو موتها وليس له قيمته على البائع. انتهى.
ونقل أيضاً من حاشية عثمان على المنتهى على صورة البيع الذي لا يصحّ تصرّف المشتري فيه قبل قبضه سبع صور: المكيل والموزون والمعدود والمذروع إذا بيع ذلك بالكيل ونحوه، والبيع بصفة إذا كان معيّناً، والمبيع برؤية متقدمة. فهذه ستّ صور المبيع فيها معيّن ومع ذلك لا يصحّ تصرّف المشتري فيها بغير ما استثنى. وهو العبد والدّار ومثله في ذلك الثّمن إذا دفع بإحدى الصّور السّتّ.
والسّابعة: كلّ عوضٍ في عقدٍ تتوقف صحّته على القبض كالصّرف والسّلم؛ فإنّه لا يصحّ التّصرّف أيضاً في العوض قبل قبضه. وحاصل ما يكون للبائع على ما ذكره ثمان صور السّتّ المتقدّمة والثّمر على الشّجر وكلّ مبيع
منع البائع المشتري من قبضه، وقال أيضاً: فلو بيع أو أخذ بشفعة
…
الخ في العبارة صورتان:
الأولى: قوله: فلو بيع، صورتها: أن يشتري زيد من عمرو دراً بصبرة طعام على أنّها عشرة أرادب بمثل بيع زيد لمشتري الدّار المذكورة لبكر بثنم معلومٍ ثم يتلف الطّعام بغير فعل آدمي قبل قبضه بالكيل، فإنّ البيع الأوّل ينفسخ وحده دون الثّاني، فتستقرّ الدّار لبكر بثمنها الذي اتّفق هو وزيد عليه، وهو المشتري الثّاني، ولعمرو وهو البائع الأوّل قيمة الدّار لتعذّر ردّها. انتهى.
مسألة على باب الضّمان: قال شيخ الإسلا أحمد بن تيمية في النّبذة التي في المظالم المشتركة: وإذا كان الإعطاء واجباً لرفع ضرر هو أعظم منه فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما أنّ كلّ مَن أدّى عن غيره فله أن يرجع به إذا لم يكن متبرّعاً بذلك. وإن أدّاه بغير إذنه مثل مَن قضى دَين غيره بغير إذنه سواء كان قد ضمنه بغير إذنه أو أدّاه عنه بلا ضمان، وكذلك مَن افتك أسيراً من الأسرى بغير إذنه، يرجع عليه بما افتكه به، وكذلك مَن أدّى عن غيره نفقة واجبة عليه مثل أن ينفق على ابنه أو زوجته أو بهائمه فيها حقّ مثل أن يكون مرتهناً أو مستأجراً أو كان مؤتمناً عليها مثل المودع ومثل ردّ العبد الآبق، ومثل اتّفاق أحد الشّريكين على البهائم المشتركة.
وقد دلّ على هذا الأصل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، [الطّلاق، من الآية: 6] .فأمرنا بإيتاء الأجر بمجرّد رضاعتهن ولم يشترط لذلك استئجاراً ولا إذن الأب لها إن رضع بالأجر، بل لما كان إرضاع الطّفل واجباً على
أبيه إذا أرضعته المرأة استحقّت بمجرّد إرضاعها. انتهى.
فائدة: إذا أخلّ الجاهل في أحكام صلابته بركنٍ أو واجبٍ أو فعل مبطلاً واعتقد أنّ صلاته صحيحة ثم أخبر أنّها غير صحيحة وقد صلّى فروضاً أعادها فقط، وأمّا العالم أو الشّاكّ فيعيد الصّلوات كلّها. وهذه مسألة مَن جهل أنّ عليه صلاة في الرّواية المشهورة. وأمّا مَن ذكر فائتة وجهل وجوب التّرتيب وصلّى قبلها أعاد. انتهى.
فائدة: وأمّا زكاة الفطر فيعتبر أيضاً لها إخراجها إلى المستحقّ لا إخراجها عن يده إلى وكيل ونحوه.
فائدة: إذا أراد إنسان أن يضحّي بأضحيةٍ عن جماعةٍ جاز تشريكهم فيها، وتكفي النّيّة فلا يشترط أن يسمِّي مَن أرادهم بالأضحية، لكن تستحبّ تسميتهم، فيقول بعد التّسمية والتّكبير عن فلان وفلان، أو عن أهل بيتِي أو عن والدي ونحوه. انتهى.
فائدة: وقال أيضاً رحمه الله وفرض على كلّ أحدٍ معرفة التّوحيد وأركان الإسلام بالدّليل ولا يجوز التّقليد في ذلك، لكن العامّي الذي لا يعرف الأدلّة إذا كان يعتقد وحدانية الرّبّ ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنّار، ويعتقد أنّ هذه الأمور الشّركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطل وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شكّ فيه، فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدّليل؛ لأنّ عامّة المسلمين ولو لقنوا الدّليل فإنّهم لا يفهمون المعنى غالباً. انتهى.
- 15 -
بسم الله الرحمن الرحيم
سُئِل الشّيخ عبد اله أبو بطين رحمه الله عن التتن هل يطلق عليه التّحريم وما وجه تحريمه؟
فأجاب رحمه الله أمّا التتن فالذي نرى فيه التّحريم لعلتين:
إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدّة ثم شربه وإن لم يسكر ولم يحصل له إسكار فقد يحصل له تخدير وتفتير، وقد روى الإمام أحمد رحمه الله حديثاً مرفوعاً: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم"عن كلّ مخدر ومفتر".
والعلة الثّانية: أنّه دخان منتن فهو مستخبث عند مَن لم يعتده.
واحتجّ بعض العلماء بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، [الأعراف، من الآية: 157] .فهو بلا شكّ مستخبث. وأمّا مَن ألفه واعتاده فلا يرى خبثه كالجعل لا يستخبث العذرة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال الفضيل بن عياض: أفضل العلم ما دلّك على معرفة الله وخشيته ومحبّته، ومحبّة ما يحب، وكراهة ما يكره، لاسيما عند غبلة الجهل والتّعبّد به أفضل من عمل الجوارح، وفائدة العلم العمل وإلاّ فهو حجّة على صاحبه. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
مسألة: إذا كان رجلان شريكان في ثمرة نخلّ واحتاج أحدهما إلى أخذ ثمرة نخلة بعضها تمر وبعضها بسر، فقال لشريكه: إذا صرم النّخل فخذ قيمة الثّمر هل يصحّ أم لا؟
الجواب: الحمد لله، فقد ذكر العلماء أنّه يجوز قسمة الثّمار خرصاً، ولو كانت الثّمار على الشّجر قبل بدوّ صلاحه، أي: الثّمر ولو بشرط التّبقية،
وأنّه لا يجوز تفرّقهما قبل القبض؛ لأنّها إفراز حقّ لا بيع.
وأمّا المسألة المسؤول عنها فلا يجوز؛ لأنّه في الحقيقة بيع، وهو غير صحيحٍ أظنّه جواب الشّيخ أبو بطين رحمه الله.
قال رحمه الله: أمّا شرط المرأة على الزّوج طلاق زوجته فأكثر الأصحاب يصحّحون هذا الشّرط بمعنى أنّ لها الفسخ إذا لم يفِ. واختار الموفّق وجماعة من الأصحاب عدم صحّة هذا الشّرط. وأنّها لا تملك الفسخ إذا لم يف؛ للنّهي عنه في الحديث الصّحيح، وأرجو أنّ هذا القول أقرب. والله أعلم.
فائدة: إذا كان مثلاً عند إنسانٍ لآخر مائة صاع سلم جاز أن يشتري منه بنقد ثم يقبضه ثم يدفعه إليه عما في ذمّته سلماً. وإن كان غير سلم جاز أن يقضيه عنه عوضه.
فائدة: ذكر ابن عقيل فيمَن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة روايتين:
إحداهما: يسقط التّرتيب؛ لأنّه اجتمع واجبان لا بدّ من تفويت أحدهما، فكان مخيّراً فيهما.
والثّانية: لا يسقط التّرتيب لما ذكرنا. قال شيخنا: وهذه الرّواية أحسن وأصلح إن شاء الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن جوابٍ للشّيخ عبد الله أبي بطين رحمه الله:
وما سألت عنه من الاقتصار في التّراويح على أقلّ من عشرين ركعة فلا بأس بذلك، وإن زاد فلا بأس، قال الشّيخ تقيّ الدِّين: له أن يصلّي عشرين كما هو المشهور في مذهب أحمد والشّافعي، قال: وله أن يصلّي ستة وثلاثين، كما هو مذهب مالك، قال الشّيخ: وله أن يصلّي أحدى عشرة
أو ثلاث عشر. قال: وكلّه حسن، كما نصّ عليه أحمد رحمه الله. قال الشّيخ: فيكون تكثير الرّكعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، وقد استحبّ أحمد أنّه لا ينقص في التّراويح عن ختمة، يعنِي في جميع الشّهر. وأمّا قوله سبحانه:{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ، [الذّاريات: 17] ، فالهجوع اسم للنّوم باللّيل.
والمشهور في معنى الآية: أنّهم كانوا يهجعون قليلاً من اللّيل ويصلّون أكثره، وقيل: المعنى أنّهم لا ينامون كلّ اللّيل بل يصلّون فيه، إمّا في أوّله أو آخر. أمّا الاستغفار فيراد به الاستغفار المعروف وأفضله سيّد الاستغفار. وقال بعض المفسِّرين:{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ، [الذّاريات: 18] .أي: يصلّون؛ لأنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة، وإذا صار الإنسان يجلس في المسجد فلا بأس من كونه يجعل عصاه في مكانٍ فاضلٍ بحيث إنّه لا يخرج إلاّ لما بدّ منه من نحو وضوء وفطور وسحور ونحوه، وأمّا إن كان يخرج لنحو بيع وشراء وكد فلا يجوز. والله أعلم.
فائدة: سُئِل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين رحمه الله، وعفا عنه عن الذي يروى:"مَن كفّر مسلماً فقد كفر".
فأجاب ـ عفا الله عنه ـ: لا أصل لهذا اللّفظ فيما نعلم عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وإنّما الحديث المعروف:" مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". ومَن كفّر إنساناً أو فسّقه أو نفّقه متأوّلاً غضباً لله تعالى فيرجى العفو عنه كما قال عمر رضي الله عنه في شأن حاطب بن أبي بلتعة أنّه منافق، وكذا جرى من غيره من الصّحابة وغيرهم.
وأمّا مَن كفّر شخصاً أو نفّقه غضباً لنسفه أو بغير تأويلٍ فهذا يخاف عليه، وأمّا مَن جعل سبيل الكفار أهدى من سبيل المؤمنين، فإن كان
مراده حال أهل الزّمان اليوم كأن يقول: إنّ فعل مشركي الزّمان عند القبور وغيرها أحسن مِمَّن لا يدعو إلاّ الله ولا يدعو غيره، فهذا كافر بلا شكّ، وكذا قولنا: إن فعل مشركي الزّمان عند القبور من دعاء أهل القبور وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والذّبح والنّذر لهم، وقولنا: إنّ هذا شرك أكبر وأنّ مَن فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بلا شكّ، وقول الجهال إنّكم تكفّرون المسلمين، فهذا ما عرف الإسلام ولا التّوحيد. والظّاهر عدم صحّة إسلام هذا القائل، فإن لم ينكر هذه الأمور اليت يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئاً فليس بمسلمٍ. اهـ.
فائدة: قال الأصحاب: الدّار داران: دار إسلامٍ ودار كفرٍ، فدار الإسلام هي التي تجري أحكام الإسلام فيها وإن لم يكن أهلها مسلمين، وغيرها دار كفرٍ، وكرهوا التّجارة والسّفر إلى أرض العدوّ، وبلاد الكفر مطلقاً. قوله: مطلقاً، سواء أظهر دِينه أم لا؟ وإن عزج عن إظهار دِينه حرم السّفر إليها. قال في الفروع: وجزم غيره، يعنِي غير شيخه بكراهة التّجارة السّفر إلى أرض كفرٍ ونحوه كأرض بدع.
وقال شيخنا أيضاً: لا يمنع منه إذا لم يلزموه بفعل محرمٍ أو ترك واجبٍ، وينكر ما يشاهد من المنكر. انتهى. وذكر قبل ذلك تحريم شهود عيد اليهود والنّصارى إلى أن قال: لا بيع لهم فيها، نقله مهنا. وحرمه شيخنا، وخرّجه على ما ذكره من روايتين منصوصتين في حمل التّجارة إليهم.
قال حرب: قال عبد الله بن أحمد: سألت أبِي عن رجلٍ اكتسب مالاً من شبهة هل صلاته وتسبيحه تحط عنه من مأثم ذلك؟ فقال: إن صلّى وسبّح يريده بذلك فأرجو. قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئا} الآية، [التّوبة، من الآية: 102] .
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين، إلى الولد عليّ بن عبد العزيز بن سليم، زاده الله علماً ووهب لنا وله حكماً.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
موجب الخط السّلام والخط وصل، وصلك إلى الخير، وسرّنا ما ذكرت أتم الله نعمته على الجميع، وغير ذلك سألت عن معنى الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان: صاع البائع، وصاع المشتري، فهذا مثل الحديث الآخر:"إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل"، يستدلّ بذلك إذا اشترى شيئاً بكيلٍ أو وزنٍ فإنّما يحصل قبضه بالكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، ولا يتصرّف فيه قبل كيله، فإذا اشترى شيئاً بالكيل قبضه بصاعه، وإذا باعه قبضه المشتري منه بصاعه.
وأمّا حديث عهدة الرّقيق فاستدلّ بهذا المكالية في قولهم: عهدة الرّقيق ثلاثة أيّام، يعنون إذا اشترى فأصابه عيب أو غيره فهو من ضمان البائع، واحتجّوا بحديث عقبة لكن الذي رأينا فيه ثلاثة أيّام، وأكثر العلماء لا يرون ذلك. قال الإمام أحمد: ليس فيه حديث. وقال ابن المنذر: لا تثبت العهدة في حديث. وأمّا حديث اعطوا كلّ سورة حظّها من الرّكوع والسّجود فالظّاهر أنّ المراد لا يزيد في الرّكعة على سورة وفي هذه المسألة خلاف، فالأكثرون من العلماء على أنّه لا يكره الجمع بين سورتين فأكثر في الرّكعة الواحدة لقراءة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين، إلى الأخ المكرّم عبد الله بن شومر سلّمه الله تعالى وعافاه ووفّقه لما يحبّ ويرضاه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وموجب الخط إبلاغك السّلام، والسّؤال عن الأحوال نسأل الله أن يصلح لنا ولكمن الدّنيا والآخرة.
والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، وسرّنا ما ذكرت من صلاح الأمور، وما سألت عنه من أنّه هل يجوز تعيين إنسانٍ بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئاً من المكفِّرات فالأمر الذي دلّ عليه الكتاب والسّنة وإجماع العلماء على أنّ مثل الشّرك بعبادة غير الله سبحانه كفر.
فَمَن اركتب شيئاً من هذا النّوع أو حسّنه، فهذا لا شكّ في كفره ولا بأس بِمَن تحقّقت منه أشياء من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل، يبيّن هذا أنّ الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتدّ أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدّاً كافراً، ويستفتحون هذا الباب بقولهم: مَن أشرك بالله فقد كفر، وحكمه أنّه يستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل، والاستتابة إنّما تكون مع معيّن.
ولما قال بعض أهل البدع عند الشّافعي رحمه الله إنّ القرآن مخلوق، قال: كفرت بالله العظيم. وكلام العلماء في تكفير المعيَّن كثير. وأعظم أنواع هذا الشّرك عبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير مَن اتّصف بذلك؛ لأنّ مَن زنا قيل: فلان زانٍ، ومَن رابا قيل: فلان ربا.
بسم الله الرحمن الرحيم
سُئِلَ شيخنا أبو بطين أيّده الله تعالى عن بيان حكم الرّافضة وعن قول مَن يقول: إنّ مَن تكلّم بالشّهادتين ما يجوز تكفيره.
فأجاب رحمه الله عنه ورضي عنه:
سألت عن بيان حكم الرّافضة فهم في الأصل طوائف:
منهم: طائفة يسمّون المفضلة لتفضليهم عليّ بن أبي طالب على سائر الأصحاب، لا يلعنون.
ومنهم: طائفة يزعمون غلط جبريل في الرّسالة، ولا شكّ في تكفير هذه الطّائفة. وأكثرهم في الأصل يعترفون برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنّ الخلافة لعليّ، ويلعنون الصّحابة ويفسّقونهم، ونذكر ما ذكره شيخ الإسلام تقيّ الدِّين ـ رحمه الله تعالى ـ في حكمهم:
قال ـ رحمه الله تعالى ـ في الصّارم المسلول: ومَن سبَّ أصحاب الرّسول، أو واحداً منهم، واقترن بسبّه دعوى أنّ عليّاً إله، أو نبِيّ، أو أنّ جبريل غلط فلا شكّ في كفر هذا بل لا شكّ في كفر مَن توقّف في تكفيره. ومَن قذف عائشة وقبّح ـ يعنِي لعن الصّحابة ففيه خلاف، هل يكفر في أو يفسق، توقّف أحمد في كفره. وقال: يعاقب ويجلّد ويحبس حتّى يموت أو يتوب.
قال الشّيخ: وأمّا مَن جاوز ذلك كَمَن زعم أنّ الصّحابة ارتدّوا بعد موت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ نفراً قليلاً، يبلغون بضعة عشرة، أو أنّهم فسقوا فلا ريب أيضاً في كفر قائل ذلك، بل مَن شكّ في كفره، فهو كافر. انتهى.
فهذا حكم الرّافضة في الأصل، فأمّا حكم متأخّريهم الآن، فجمعوا يبن الرّفض والشّرك بالله العظيم بالذي يفعلونه عند المشاهد وهم الذين ما بلغهم
شرك العرب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا مَن يقول إنّ مَن تكلّم بالشّهادتين ما يجوز تكفيره، فقائل هذا القول لا بدّ أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله في مثل مَن أنكر البعث أو شكّ فيه مع إتيانه بالشّهادتين، أو أنكر نبوّة أحد من الأنبياء الذين سَمّاهم الله تعالى في كتابه. أو قال: الزّنا حلال، أو اللّواط، أو الرّبا، ونحو ذل، أو أنكر مشروعية الأذان أو الإقامة أو أنكر الوتر أو السّواك، ونحو ذلك، فلا أظنّه يتوقّف في كفر هؤلاء ومثالهم إلاّ أن يكابر أو يعاند، فإن كابر أو عاند فقال لا يضرّ شيء من ذلك ولا يكفر به مَن أتى بالشّهادتين فلا شكّ في كفره ولا في كفر مَن شكّ في كفره؛ لأنّه بقوله هذا مكذِّب لله ولرسوله ولجميع المسلمين. والأدلّة على كفره ظاهره من الكتاب والسّنة والإجماع.
ويقال لِمَن قال: إنّ مَن أتى بالشّهادتين لا يتصوّر كفره، ما معنى الباب الذي يذكره الفقهاء في كتب الفقه وهو:(باب حكم المتردّ) ؟ والمرتدّ هو الذي يكفر بعد إسلامه بكلامٍ أو اعتقادٍ أو فعلٍ أو شكٍّ، وهو قبل ذلك يتلفّظ بالشّهادتين ويصلّي ويصوم، فإذا أتى بشيء مما ذكروه صار مرتدّاً، مع كونه يتكلّم بالشّهادتين، ويصلّي ويصوم، ولا يمنعه تكلّمه بالشّهادتين وصلاته وصومه عن الحكم عليه بالرّدّة. وهذا ظاهر بالأدلّة من الكتاب والسّنة والإجماع.
وأوّل ما يذكرون في هذا الباب الشّرك بالله، فَمَن أشرك بالله فهو مرتدّ، والشّرك عبادة غير الله، فَمَن جعل شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك، وإن كان يصوم النّهار ويقوم اللّيل فعمله حاط. قال الله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [الزّمر: 65] .والشّرك عبادة غير الله. والعبادة هي ما أمر
الله به رسوله من إيجابٍ أو استحبابٍ. قال القاضي عياض في كتابه: (الشّفاء) :
(فصل: في بيان ما هو من المقالات كفر) إلى أن قال:
والفصل البيّن في هذا أنّ كلّ مقالةٍ صرحت بنفي الرّبوبية أو الوحدانية أو عبادة غير الله أو مع الله فهي كفر إلى أن قال:
والذين أشركوا بعبادة الأوثان أو أحد الملائكة أو الشّياطين أو الشّمس أو النّجوم أو النّار أو أحد غير الله من مشركي العرب أو أهل الهند أو السّودان أو غيرهم إلى أن قال: أو أن ثَمَّ للعالم صانعاً سوى الله أو مدبِّراً فذلك كلّه كفر بإجماع المسلمين".
فانظر حكاية إجماع المسلمين على كفر مَن عبد غير الله من الملائكة وغيرهم، وهذا ظاهر ولله الحمد.
ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، فمَن قال إنّ مَن أتى بالشّهادتين وصلّى وصام لا يجوز تكفيره أو عبد غير الله، فهذا كافر، ومَن شكّ في كفره فهو كافر. إلى أن قال: على هذا القول: فهو مكذِّب لله ولرسوله وللإجماع القطعي الذي لا يستريب فيه مَن له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن الهوى والتّقليد يعمي ويصمّ:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ، [النّور، من الآية: 40] .
وليعلم مَن أنعم الله عليه بمعرفة الشّرك الذي خفي على كثير من النّاس اليوم أنّه قد منح أعظم النّعم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، [يونس: 58] .
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} ، [الْحجرات، من الآيتين: 7-8] .ثم لا يؤمن عليه من ربّه الافتتان بذلك.
اللهم إذا هديتنا للإسلام فلا تنْزعه منّا، ولا تنْزعنّا منه حتّى توفّانا عليه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، [آل عمران: 8] .انتهى من خطّ الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين. آتاه الله من رحمته كفلين، ونصر به الوحيين.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. والسّلام.
ثم اعلم أنّ ضدّ التّوحيد الشّرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي. والدّليل على الشّرك الأكبر قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النّساء: 116] .
وقال المسيح: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، [المائدة، من الآية: 72] .وهو أربعة أنواع:
الأوّل: شرك الدّعوة. والدّليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، [العنكبوت: 65] .
النّوع الثّاني: شرك النّيّة والإرادة والقصد، والدّليل قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، [هود: 15-16] .
النّوع الثّالث: شرك الطّاعة، والدّليل قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، [التّوبة: 31] .وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية لادعاؤهم إيّاهم كما فسّرها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله، فقال: لسنا نعبدهم. فذكر له أنّ عبادتهم طاعتهم في المعصية.
النّوع الرّابع: شرك المحبّة، والدّليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، [البقرة، من الآية: 165] .
والنّوع الثّاني: شرك أصغر، وهو الرّياء، والدّليل قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، [الكهف، من الآية: 110] .
والنّوع الثّالث: شرك خفي، والدّليل قوله صلى الله عليه وسلم:" الشّرك في هذه الأمّة أخفى من دبيب النّملة السّوداء على صفاة سوداء في ظلمة اللّيل".
وكفارته قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنِّي أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستفغرك من الذّنب الذي لا أعلم".اهـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرّحمن بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وحمد بن عليّ إلى جناب الشّيخ المكرّم عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين سلّمه الله من النّار، وجعله من عباده الأخبار. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الخط إبلاغك السّلام والسّؤال عن حالك لا حال بك سوء ولا مكروه. وبعد؛
متّعنا الله بك. أفتنا في شعيب الخطامة يسقي نخيلاً في السّابق وقلبانه إذا قلّ المطر ييبس أكثرها أو يقلّ ماؤها، وركز ناس من جماعتنا في أعلاه نخلاً وودّهم يجعلون لها من الشّعيب مسايل يطوّونها لأجل أن يشربوا أو يسقوا نخيلهم من السّيل، والذين أسفل منهم يقولون: علينا مضرّة بهذا ويمنعون السّيل إذا صار ما هو بجيد وقلباننا تصفى ونحن سابقون، وخصماؤهم يقولون إنّ الشّعيب واد، وإنّه إذا جاء جيداً تعداهم، وأشكل علينا الأمر المطلوب من الله ثم منك تذكر لهم هل
يمنعونهم من إحداث المسايل والحال منا ذكرنا لك أم لهم بقدر ما يسيلهم؟ إذكر لنا الذي يبيّن لك أحسن الله إليك؛ لأنّ هذه خصومة تحتاج إلى اجتهاد، ولا مخلص لنا إلاّ الله، ثم أنت من هذه المشكلة أحسن الله إليك.
وبلغ سلامنا العيال ومن عزّ عليك. ومن لدينا الجماعة يسلمون عليك، وأنت بأمان الله وحفظه. والسّلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
تذكرون لنا في مسألة شعيب الخطامة الذي مغروس فيه في السّابق ويسقون نخيلهم من المسيل وغرس ناس من جماعتهم في أعلاه نخلاً وطلبوا أن يجعل لها مسيل من الشّعيب، وأهل العقارات السّابقة يقولون علينا مضرّة بهذا. فهذه المسألة مذكور حكمها في كتب الفقه في (باب إحياء الموات) .قالوا: ولِمَن في أعلى ماء غير مملوك كماء الأمطار والأنهار الصّغار أن يسقي ويحبسه إلى كعبه. قالوا: ولو أراد إنسان إحياء أرض فوقهم فهل لهم منعه؟ على قولين أصحّهما ليس لهم منعه إن لم يضربهم، لكن ليس له أن يسقي قبلهم لسبقم، ولأنّهم ملكوا الأرض بحقوقها قبله فلا يملك إبطال حقوقهم، وسبقهم إيّاه بالسّقي من حقوقها، ولحديث:"مَن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به"، ولا فرق بين وادٍ كبيرٍ أو صغيرٍ؛ ولأنّه إذا صار السّيل غير جيد، ولو كان الوادي كبيراً أضربهم وسدّه عنهم. هذا الذي ذكره الفقهاء ومشوا عليه. والسّلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الولد عليّ بن عبد العزيز بن سليم ـ سلّمه الله تعالى وعافاه، وألهمه رشده وهداه ـ.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
موجب الخط إبلاغ السّلام مع جواب المسائل:
الأولى: فيمَن صلّى صلاة من الخمس ناسياً حدثه ولم يذكر إلاّ بعد ما صلّى فرضاً أو فروضاً كَمَن صلّى الفجر محدثاً ناسياً ولم يذكر إلاّ بعد ما صلّى الظهر والعصر، فإنّه يعيد الفجر فقط.
قال في الفروع: لما ذكر أنّ التّرتيب يسقط بالنّسيان على الأصحّ، قال وقال أبو المعالي وغيره تبيّن بطلان الصّلاة الماضية كالنّسيان، ولمّا ذكر أيضا أنّ المذهب عدم سقوط وجوب التّرتيب بالجهل بالوجوب. قال فلو صلّى الظّهر ثمّ الفجر جاهلا ثمّ العصر في وقتها صحّت عصره لاعتقاده أن لا صلاة عليه كمن صلاها ثمّ تبيّن له أنّه صلّى الظّهر بلا وضوء أعاد الظّهر.
(المسألة الثّانية) : الإكراه على فعل محرّم ففيه تفصيل يعذر فيه في بعض دون بعض فلو أكرهت المرأة على الزّنا لم تحد عند أكثر العلماء لقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور، من الآية:33] ، إلى آخر الآية. وكذا لو أكره على شرب الخمر ولو أكره رجل على قتل معصوم قتل به، وكذا مكرهه عند الجمهور.
وأمّا الإكراه على فعل مكفر فالظّاهر من كلام الفقهاء أنّه في حكم المرتد حيث قالوا إنّه الّذي يكفر بعد إسلامه؛ لقول أو فعل أو شك أو
اعتقاد، واشترطوا كونه طوعا ولم يقيدوه بالقول.
وقال ابن رجب في شرح الأربعين: ولو أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة ففي إباحته بالإكراه قولان ـ إلى أن قال ـ.
(والقول الثّاني) : إنّ التّقية في الأقوال ولا تقية في الأفعال ولا إكراه عليها. روي ذلك عن ابن عبّاس وجماعته من التّابعين ذكرهم وهو رواية عن أحمد ـ إلى أن قال ـ.
وأمّا ما روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه وصى طائفة من أصحابه فقال:" لا تشركوا بالله شيئاً وإن قطعتم أو حرقتم" فالمراد الشّرك بالقلوب اهـ.
فظّاهر كلامه أنّ الإكراه يكون في الفعل والقول لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} ، [النحل، من الآية:106] .والله أعلم.
وأمّا من وجد ماله المسروق أو الضّال ونحوه عند إنسان مشتريه فلا أرى العدول عن العمل بالحديث الّذي احتج به الأئمّة أحمد وغيره وهو حديث سمرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:" من وجد متاعه عند رجل فهو أحقّ به" ويتبع المبتاع من باعه، ويعضد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن سيرين أنّ حذيفة رضي الله عنه عرف جملاً له عند إنسان فخاصم فيه إلى قاضٍ من قضاة المسلمين فصارت على حذيفة يمين في القضاء فحلف بالله الّذي لا إله إلا هو ما باع ولا وهب، وروى ابن أبي شيبة عن شريح أنّه قال إذا شهد الشّهود حلفه بالله ما أهلكت ولا أمرت مهلكاً.
وأمّا قول الأصحاب فيما لا يجوز لبسه من المركب من الحرير وغيره أنّ الممنوع منه ما كان أكثره ظهوراً يتناول ما سدى بغير الحرير
وألحم بحرير وغيره، وظاهر كلامهم تناوله لغير تلك الصّورة. والله أعلم.
وأمّا قول الإنسان لمن شرب هنيئا وأنّ بعض النّاس يستدلّ بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً} [الحاقة، من الآية:24] ، فلو كان في الآية دليل لذلك لفعله السّلف الصّالح.
وأمّا ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال:"لا عهد لظالم عليك، وإن عاهدته فانقضه؛ فيحتمل أنّ مراده نحو ما إذا طلب ظالم قادر مالاً من إنسان ظلماً وعاهده أنّه يأتيه به أو عاهد لصاً أنّه لا يخبر به ونحو ذلك والله أعلم. انتهى كلام شيخنا عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين ـ أيّده الله تعالى ـ.
(مسألة) : ومن أعطى أرضه لرجل يغرسها بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل باقي الأرض من الغراس، فإذا لم يقم بما شرط عليه كان لربّ الأرض الفسخ، وإذا فسخ العامل أو كانت فاسدة فلربّ الأرض أن يتملك نصيب الغارس بقيمته إذا لم يتّفقا على القلع.
أفتنا عفى الله عنك عن حكم ما إذا وجد البدوي ماله عند حضري ونحوه ولم يعلم أنّه غصب هل يفرق بين كون البدوي حرباً للآخر وقد أخذ ماله أم لا؟
وكذا إذا عرف الحضري ماله عند حضري أو بدوي وادعى أنّه قد اشتراه من حربي للمدّعي وربّما أنّه قد أخذ مالاً للبائع فما الحكم في ذلك وابسطوا الجواب ـ أثابكم الله تعالى ـ.
الّذي نرى أنّه في مثل هذه الأزمان الّتي ينهب البدو بعضهم مال بعض أنّ من عرف منهم ماله عند حضري مشتريه من بدوي أنّه ليس
له أخذ منه بل يعطيه الثّمن الّذي اشتراه به، وكذا نرى إذا لم يكن إمام في مثل نجد فصار الحضري ينهب البدوي والبدوي ينهب الحضري فالحكم عندي كذلك.
وأمّا إذا صار في نجد مثلاً إمام كان البدو والحضر بعضهم عن بعض كفا مستقراً فلا فرق بين الحضري والبدوي وأنّ من وجد سرقته عند إنسان أخذها ويرجع المأخوذ منه على بائعه. والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين ـ رحمه الله تعالى ـ عن نهب البدو بعضهم بعضاً وهل يجوز الشّراء منهم؟
فأجاب رحمه الله أمّا المسألة الأولى وهي نهب البدو بعضهم بعضا فالّذي أرى عدم الشّراء منهم مطلقاً إذا تحقق أنّه بعينه نهباً لاشتباه أمرهم، وأمّا إذا عرف أحدهم ماله عند حضري وثبت أنّه منهوب منه بالبيّنة فالّذي نفتي به في أزمنة هذا الاختلاف أن يعطى المشتري ثمنه الّذي دفعه ويأخذ ماله إن لم يكونوا حرباً للحضري وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب. انتهى جوابه رحمه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخنا الشّيخ عبد الله أبو بطين عفى الله عنه.
وأمّا مسألة الجزار إذا ذبح ناقة وصارت أنقص ممّا ظنّ فيها فمثبت الخيار له غالط والفقهاء ذكروا خيار الغبن في ثلاث صور وهذا يثبت
صورة رابعة وهي ما إذا اشترى جزافاً فبان دون ما ظنه كمشتري الصبرة جزافاً فهل قال أحمد بثبوت الخيار في ذلك لمشتري الجزور ظانا أنّه يحصل منه مثلاً ثلاثون رطلاً من شحم فبان أقلّ من ذلك.
وقد تنازع فقهاء نجد وغيرهم في الهزال هل هو عيب؟ فقال سليمان بن عليّ وابن ذهلان أنّه عيب، وقال عبد الهادي وابن عطوه ليس بعيب، لكن قال الأوّلون إذا كان قيمتها بعد الذّبح تقارب ثمنها الّذي اشتريت به فلا فسخ ولا ردّ، وبكلّ حال فهذا القول غلط. والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى ملخّصا.
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم ـ أدام الله النفع بعلومكم ـ في دين السّلم الثّابت في الذمّة هل يصحّ الشّراء به من صاحبه الّذي هو في ذمّته عرض من أرض أو نخل أو غير ذلك؟
أجاب الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين: لا يجوز عند أكثر العلماء أن يأخذ عرضاً عن دين السلم ممّن هو في ذمّته، واحتجّوا بحديث:"من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره".وعن أحمد رواية أخرى أنّه يجوز أن يأخذ عرضاً بدون حقّه اختاره الشّيخ تقي الدّين؛ لقول ابن عبّاس: إذا أسلفت في شيء فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلاّ فخذ عرضاً أنقص منه ولا تربح مرّتين، وعند مالك يجوز أن يأخذ غير الطّعام يتعجله ولا يتأجله، فبان ذلك أنّ الجمهور على المنع مطلقاً واختيار الشّيخ الّذي هو رواية عن أحمد ما ذكرته، وعليه عمل أهل هذه البلدان فيما مضى والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ عثمان بن عيسى زاده الله فهماً وعلماً ووهب لنا وله حكماً.
سلام عليك ورحمة الله وبركاته. وبعد،
موجب الخط إبلاغك جزيل السّلام والسّؤال عن حالك أحسن الله لنا ولك والحال في الدّنيا والآخرة، والخط الشّريف وصل، وبه الأنس والسّرور حصل حيث أفاد صحّة حالكم، وإن سألت عن المحب فبخير ونعم من المولى متوافرة نسأل الله أن يوزعنا شكرها ومن حال المسألتين المسؤول عنهما.
(فالأولى) : إذا نذر إنسان شيئاً معيّناً لشخص معيّن نذر تبرر فردّه أو مات قبل قبوله أو قبله وقبضه ثمّ ردّه، فأمّا إذا ردّه أو مات قبل القبول والرّد فالّذي يظهر بطلان هذا النّذر كما تبطل الصّدقة بذلك لأنّ الصّدقة نوع من الهبّة صرح به الأصحاب كما في المغني وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد لقوله في رواية حنبل؛ إذا تصدّق على رجل بصدقة دار وما أشبه ذلك فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه انتهى.
وقد صرحوا باعتبار القبول للهبّة وأنّها تبطل بالرّد وبموت الموهوب له قبل القبول، فإذا كان هذا حكم الهبّة فالصّدقة نوع من الهبّة، وقد جعل الأصحاب حكم الصّدقة المعيّنة حكم النّذر كما نقله في القواعد عنهم ولفظه بعد كلام سبق، فإذا قال هذه صدقة تعينت وصارت في حكم المنذورة صرح به الأصحاب، لكن هل ذلك إنشاء للنّذر أو إقرار به فيه خلاف بين الأصحاب انتهى.
فقوله: هل ذلك إنشاء للنّذر أو إقرار به؟ صريح في أنّه إذا تصدق بشيء معيّن؟ فقال هذا صدقة أنّه نذر حقيقة.
فإذا علمت ما ذكره علماؤنا ـ رحمهم الله تعالى ـ من أحكام الهبّة وقد صرحوا بأنّ الصّدقة نوع من الهبّة لها حكم الهبّة، بل صرحوا باعتبار القبول للصّدقة ولم يخصوا بذلك نوعاً منها، وجعلوا حكم الصّدقة المعيّنة حكم المنذورة ظهر لك حكم مسألة السّؤال ـ إن شاء الله تعالى ـ.
وقال الزّركشي بعد حكايته الوجهين: قال ابن حمدان وابن المنجا أنّهما مبيّنان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه إن قلنا ينتقل اشترط وإلاّ فلا، قال: والظّاهر أنّهما على القول بالانتقال انتهى فظهر بما ذكروه من التّعليل اعتبار القبول في مسألتنا؛ لأنّ المنذور له يملك النّذر ويتصرّف فيه بالبيع وغيره ولا يتعلّق به حق لغيره، فإذا لم يقبله المنذور له جاز للنّاذر التّصرّف فيه، يقوي ذلك أيضاً ما ذكره جماعة من الأصحاب وصرح به في الإقناع والمنتهى أنّ الوقف يرجع إلى الواقف إذا انقطعت الجهّة الموقوف عليها والواقف حيّ فمسألتنا أولى.
وأمّا إذا قبضه المنذور له ثمّ ردّه فعلى ما قررناه حكمه حكم الصّدقة المردودة بعد القبض، قال في الفروع ومن سأل فأعطي فقبضه فسخطه لم يعط لغيره في ظاهر كلام العلماء انتهى، وذكر في الاختيارات ما معناه أنّهما إن تفاسخا عقد الهبّة صحّ والله سبحانه وتعالى أعلم.
(المسألة الثّانية) : وهي ما إذا أوصى إنسان بشيء من ماله يحج به لبعض ورثته أو يضحي به عنه، فالّذي يظهر صحة هذه الوصيّة ولزومها في الثّلث بدون إجازة لأنّ الموصى له لا يملكها ولا ينتفع بها، وإنّما يرجو
ثوابها في الآخرة فهي كصدقته في مرضه وجعل ثوابها للوارث.
وقد قال الأصحاب في تعليل صحّة وقف المريض ثلثه أو وصيته بوقفه على بعض الورثة بأنّهم لا يبيعون ذلك ولا يهبونه وإنّما ينتفعون به ومسألة السّؤال أولى بالجواز لأنّ الموصى له بأن يحج عنه ونحوه لا يملك الموصى به ولا ينتفع به في الدّنيا، والموقوف عليه ينتفع بالوقف ويملكه على المشهور. ولمّا ذكر الزّركشي تعليل الأصحاب لمسألة الوقف المذكورة قال قلت فكأنّه عتق الوارث انتهى.
يشير والله أعلم إلى ما ذكروه في تصرّف المريض إذا ملك وارثه بشراء ونحوه، وقياس مسألتنا على مسألة العتق أولى والله سبحانه وتعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ عثمان بن عيسى ـ سلّمه الله وعافاه ـ.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الخطّ إبلاغك السّلام وغير ذلك عثرة على فتيا منسوبة لأبي المواهب الحنبلي مضمونها أنّه سئل عمن أوصى بأن يحجّ عن أمّه من ماله وأمّه حيّة فأفتى بأنّ ذلك يتوقّف على إجازة الورثة والله سبحانه وتعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المكرّم عليّ بن فراج ـ سلّمه الله تعالى ـ.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل وما ذكرت من المسائل الثّلاث.
(المسألة الأولى) : إذا اشترى إنسان من آخر طعاماً يجري فيه الرّبا بنسيئة ثمّ اشترى منه بذلك الثّمن مالا يجوز بيعه به نسيئة ففي المسألة خلاف مشهور؛ فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشّافعي جوازه، واختار الشّيخ تقيّ الدّين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل هذا الزّمان لو لم يأخذ منه غريمه طعاماً ما أوفاه، فلو امتنع من أخذ الطّعام ذهب حقّه فالظّاهر أنّ الشّيخ يجير، ذلك؛ لأنّ هذا حاجة أبلغ من احتياجه إلى الطّعام.
والحنابلة يتوصّلون إلى إجازة ذلك بأن يشتري الّذي له الدّين من غريمه الطّعام بثمن في الذّمة، فإذا ثبت الثّمن في ذمّة المشتري الثّاني قال لغريمه: في ذمّتك لي مثلاً ريال وفي ذمّتي لك ريال؛ فهذا بهذا ولا ينقد شيئاً ويسمّون هذا مقاصة وهو جائز عندهم والله أعلم.
(المسألة الثّانية) : وهي ما إذا صلّى إنسان في ثوبٍ نجس لكونه لا يجد غيره أو على بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها، فهذا يصلّي على حسب حاله، وهل يجب عليه إعادة أم لا؟
فقد حكوا فيمَن لم يجد إلاّ ثوباً نجساً وصلّى فيه هل عليه إعادة أم لا؟ حكوا في المسألة قولين للعلماء هما: روايتان عن أحمد، والمشهور عن أحمد أنّه يعيد. والله أعلم.
(المسألة الثّالثة) : وهي ما إذا رمى إنسان بعيراً ولم يمكنه تذكيته، فهذا إذا سقط البعير أو سقط في بئر ولم يمكن نحره فهذا حكمه حكم الصّيد إذا رماه إنسان فإن أدركه حيّاً حياة مستقرّة فلا بدّ من ذبحه، فإن لم يكن فيه حياة إلاّ مثل حياة المذبوح فلا يحتاج إلى تذكيته، وإن أصابه وغاب
عنه ثم وجده ميّتاً ولا أثر به غير رميته فإنّه يباح ويشترط التّسمية عند رميه قاصداً قتل المرمي، وهكذا حكم البعير الشّارد أو المتردّي في بئرٍ ونحوها. انتهى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المكرّم سلمان بن عبد المحسن سلّمه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرت من التّشريك في سبع البدنة أو البقرة فلم أر ما يدلّ على الجواز ولا عدمه، وإن كان بعض الذين أدركنا يفعلون ذلك لكن ما رأيت ما يدلّ عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا الذين يتصدّق عليه بجلد الأضحية أو لحمها أو يهدى إليه ذلك فإنّه يتصرّف فيه بما شاء من بيعٍ وغيره.
وأمّا ما ذكرت من تقليد المؤذّن إذا كان في السّماء غيم ونحوه فلا ينبغي تقليده؛ لأنّه يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلّد، بل يجتهد الإنسان لنفسه فلا يفطر حتّى يتيقن أو يغلب على ظنّه الغروب فيجوز له الفطر مع غلبة الظّنّ، وأمّا في الصّحو فيجوز الاعتماد على أذان المؤذّن إذا كان ثقة.
وأمّا أخذ الرّهن والضّمين بدين السّلم ففيه عن أحمد روايتان.
(إحداهما) : لا يجوز أخذ الرّهن ولا أخذ الكفيل بذلك وهذا هو المشهور في المذهب.
(والرّواية الأخرى) : يجوز واختاره الموفّق وغيره وهو قول أكثر العلماء وهو الصّحيح إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم.
وله أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ إجابة عن هذه المسائل.
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم فيما إذا كان لإنسان على آخر دين وقال دينك قادم في هذا الزّرع أو هذه الثّمرة هل يكون هذا رهن أم لا؟ وفي رجل عليه دين ولا يفي دينه بما عليه وعند إنسان له رهن هل صاحب الرّهن مقدّم على من سواه، وفيما إذا امتنع الرّاهن من قضاء الدّين وأبى أن يأذن في بيع الرّهن وتعذر إجباره وتعذر الحاكم، فهل إذا قام عدل وباع الرّهن وقضى الدّين هل ينفذ تصرّفه أم لا؟
وهل إذا أعطت الأمّ ابنتها الصّغيرة حليا تلبسه ولم يقبضه وليها لها وليست ذات زوج فهل تملكه أم لا؟ وهل إذا شرط البائع للثّمرة بعد بدو صلاحها القطع على المشتري فتلقت بجائحة أو تعيبت بها فهل يكون ضمانها على المشتري أم لا؟
وهل إذا باع الرّاهن الرّهن بغير إذن المرتهن فهل يكون بدله الّذي أبدله به رهن والحالة هذه. وإذا ادعى إنسان على آخر عقاراً فقال المدّعي عليه ورثته من أبي ولم أعلم أنّ لك فيه حقاً هل تقبل يمينه هذه على صفة جوابه؟
وإذا ادّعى إنسان شيئاً وأنّه يملكه الآن وشهدت البيّنة أنّه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات هل تسمع أم لا؟ أفتونا مأجورين.
الجواب ـ وبالله التّوفيق ـ أمّا المسألة الأولى فيما إذا قال حقك أو دينك قادم في هذا الزّرع الخ فهذا ليس برهن وإنّما هو وعد فيصير المقول
له ذلك أسوة الغرماء، وإن لم يكن غريم غيره فيستحبّ للقائل الوفاء بوعده ولا يجب عند أكثر العلماء.
وأمّا إذا ضاق مال الإنسان عن دينه وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء فإنّ المرتهن أحقّ بثمن الرّهن من سائر الغرماء إذا كان رهنا لازما بلا نزاع.
قال في الشّرح: لا نعلم فيه خلافاً؛ فإن كان الرّاهن حين الرّهن قد ضاق ماله عن دينه أنبني صحّة رهنه على جواز تصرّفه وعدمه وهو أنّه هل يكون محجوراً عليه إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين، أو لا يكون محجوراً عليه إلا بحكم حاكم كما هو قول أبي حنيفة والشّافعي وأحمد في المشهور عنه.
وأمّا إذا امتنع الرّاهن من قضاء الدّين فقال الشّيخ تقيّ الدّين جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرّهن إلى ثقة يبيعه ويحتاط بالإشهاد على ذلك ويستوفي في حقه إذا تعذر الحاكم ولم يكن الرّاهن قد أذن للمرتهن في بيع الرّهن بعد حلول الأجل، وهذا قول حسن إن شاء الله تدعو الحاجة إليه في كثير من البلدان والأزمان والله أعلم.
وأمّا إذا ألبست الأمّ ابنتها حلياً الخ فقد رأيت في ذلك جواباً لأحمد بن يحي بن عطوة فإنّه سئل عمّا إذا وجد على البنت الصّغيرة حلي وثياب فاخرة فما حكم ذلك وهل تسمع دعوى الأمّ أنّ ذلك لها، وإنّما ألبستها إيّاه تجميلاً أو دعوى الورثة أنّه لموروثهم وإنّما جملها به، وهل بين الصّغير والكبير فرق أم لا؟ وهل ذلك عام في الأبّ والأمّ أفتونا مأجورين.
أجاب رحمه الله الظّاهر من شواهد الأحوال والعرف والعادة المستمرّة أنّ تجميل الأبوين بنتهما بكلّ ما يعد تجميلاً أنّه تخصيص لها بذلك دون سائر من يرثهما إذا لم تجر عادتهما بأنّه عارية تجري عليها أحكامها.
إذا علم ذلك فلا كلام لسائر الورثة في ذلك بعد موت المخصص المعطي للزوم ذلك بموته كما صرح به الأصحاب، والتّخصيص سائغ أيضا في مسائل كفقر وعلم ونحوهما في رواية.
وأمّا الأمّ فإن أقامت بيّنة شرعيّة أنّ ذلك لها وإنّه عارية ساغت دعواها بذلك، وإلاّ فلا فرق بين الصّغيرة والمميّزة الكبيرة في ذلك.
وأمّا غير المميّزة فمحل نظر وتأمل، والّذي يظهر لي أنّ ذلك عام في الأبّ والأمّ وإنّما يعد الأبّ لأنّه الغالب والشّيء إذا خرج مخرج الغالب لا مفهوم له. إلى أن قال:
فحيث ثبت إمكان ملك البنت في المسألة المذكورة بما ذكر فلا يجوز انتزاع ما صار إليها إلاّ بدليل راجح يسوغ المصير إليه شرعا اهـ.
ومن جواب للشّيخ سليمان بن عليّ وقد سئل عن هذه المسألة: إذا كان الحلي على البنت ولو لم تذهب به إلى بيت زوج وادعته الأمّ لم تقبل إلاّ ببيّنة أنّه للأمّ وأنّه على البنت عارية، ولو أقامت الأمّ بيّنة أنّها هي الّتي اشترته لم تقبل حتّى تقول وهو عارية على البنت اهـ.
وأمّا إذا باع الثّمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع فقدم في الشّرح وغيره يجوز هذا الشّرط وهو ظاهر، وإذا تلفت والحالة هذه فإن كان تلفها قبل تمكن المشتري من أخذها فهي من ضمان بائع، وإن كان تلفها بعد التّمكن من أخذها فهي من ضمان مشتر لتفريطه، وقد صرح
قال لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنّها أرضي اغتصبها أبوه. فتهيّأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولأنّه لا تمكّنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلّف اليمين على البنت.
وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين له الآن وشهدت البيّنة بأنّها كانت له أمس أو أنّها كانت في يده أمس لم تسمع بيّنته لعدم تطابق البيّنة والدّعوى.
قال في الإنصاف في أصحّ الوجهين حتّى يتبيّن سبب يد الثّاني نحو غاصبه بخلاف ما لو شهدت أنّه كان ملكه اشتراه من ربّ اليد فإنّها تقبل اهـ.
وأمّا إذا شهدت البيّنة بأنّ هذه العين لهذا المدّعي بهذه الصّيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدّعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن.
وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين كانت لأبيه أو أمّه أو أخيه ومات وهي في ملكه سمعت البيّنة بذلك، وإن قالت البيّنة كانت ملكا لأبيه ونحوه ولم تشهد بأنّه خلفها تركة لم تسمع هذه البيّنة.
وفي الفروع والإنصاف عن الشّيخ تقيّ الدّين رحمه الله أنّه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند حاكم أنّه كان لجدّه إلى موته ثمّ لورثته ولم يثبت أنّه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدّة الطّويلة، ولو فتح هذا الباب لاتنْزع كثير من عقار النّاس بهذه الطّريق والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
وأمّا تقليد المؤذّن إذا كان في السّماء غيم ونحوه فلا ينبغي تقليده، لأنّه يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلد بل يجتهد الإنسان لنفسه فلا يفطر حتّى يتيقن أو يغلب على ظنّه الغروب فيجوز له الفطر مع غلبة الظّن.
قال لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنّها أرضي اغتصبها أبوه. فتهيّأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولأنّه لا تمكّنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلّف اليمين على البنت.
وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين له الآن وشهدت البيّنة بأنّها كانت له أمس أو أنّها كانت في يده أمس لم تسمع بيّنته لعدم تطابق البيّنة والدّعوى.
قال في الإنصاف في أصحّ الوجهين حتّى يتبيّن سبب يد الثّاني نحو غاصبه بخلاف ما لو شهدت أنّه كان ملكه اشتراه من ربّ اليد فإنّها تقبل اهـ.
وأمّا إذا شهدت البيّنة بأنّ هذه العين لهذا المدّعي بهذه الصّيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدّعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن.
وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين كانت لأبيه أو أمّه أو أخيه ومات وهي في ملكه سمعت البيّنة بذلك، وإن قالت البيّنة كانت ملكا لأبيه ونحوه ولم تشهد بأنّه خلفها تركة لم تسمع هذه البيّنة.
وفي الفروع والإنصاف عن الشّيخ تقيّ الدّين رحمه الله أنّه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند حاكم أنّه كان لجدّه إلى موته ثمّ لورثته ولم يثبت أنّه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدّة الطّويلة، ولو فتح هذا الباب لاتنْزع كثير من عقار النّاس بهذه الطّريق والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
وأمّا تقليد المؤذّن إذا كان في السّماء غيم ونحوه فلا ينبغي تقليده، لأنّه يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلد بل يجتهد الإنسان لنفسه فلا يفطر حتّى يتيقن أو يغلب على ظنّه الغروب فيجوز له الفطر مع غلبة الظّن.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ أحمد بن دعيج ـ سلّمه الله ـ.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرت من أمر روائح الأشياء إذا شمّها الصّائم فلا بأس بذلك إلاّ الدّخان إذا سمّه الصّائم متعمّداً لشمّه فإنّه يفطر بقصد شمّ الدّخان أي دخان كان، وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمّه لم يفطر لمشقّة التّحرز منه والسّلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم ـ أدام الله النّفع بعلومكم ـ فيمن لا يعرف الإيمان بالله ولا معنى الكفر بالطّاغوت، وهذه حال الأكثر ممّا لدينا، يدعي الإسلام ويلتزم شرائعه الظّاهرة ويزعم حبّ أهل الحقّ وينتسب إليهم على الإجماع، وأمّا على التّفصيل فيبغض أهل التّوحيد ويمقتهم ويرى منهم الخطأ في الأمور الّتي تخالف عادته وما يعرف فيعتقد خلاف ما عرف خطأ، لأنّ الّذي في ذهنه أنّ ما عرف النّاس عليه هو الدّين، ولا يعرف دليلا يرد به عليه، ولا يرعوي ولا يلتفت إليه، لأنّه يرى الدّين ما تظاهر به المنتسبون، فما حال من هذا وصفه؟ ومنهم كثيرون يصرحون بالبغض والعداوة لأهل الحقّ ويحرصون على اتّباع عوراتهم والوقوع في عثراتهم، ونرى مثل هؤلاء الّذين منهم هذا المذكور مع عدم معرفة أصل الإسلام وضدّه كفارا لأنّهم لم يعرفوا
الإسلام أوّلاً، وثانيا عادوا أهله وأبغضوهم، ورأوا الدّين ما عليه أكثر المنتسبين، فهل رأينا فيهم صواب أم لا؟ وبيّنوا حال الصّنف الأوّل لنا أيضا هل يطلق عليهم الكفر أم لا؟ وفيمن يزعم أنّ النّفاق لا يوجد في هذه الأمة بعد زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو قريبا منه، ثمّ بعد ذلك لا يوجد إلاّ الإسلام المحض أو الكفر المحض.
ويحتج بما رواه البخاري عن عبد الله بن عقبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقول: إنّ النّاس كانوا يؤاخذون بالوحي وإنّ الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقرّبناه وليس لنا من سريرته من شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إنّ سريرته حسنة.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: إنّما النّفاق كان على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأمّا اليوم إنّما هو الكفر والإيمان. رواه البخاري.
ما الجواب عن قول حذيفة وعن قول عمر وما علامات النّفاق الّذي يصير به الرّجل في الدّرك السفل من النّار، وما معنى قول الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله في كتاب التّوحيد رد المسألة المشكلة إلى المسألة الواضحة ليزول الإشكال في (باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره)، وقوله في (باب الدّعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) في كلامه على حديث معاذ الرّابعة عشرة: كشف العالم الشّبهة عن المتعلّم أشكل علينا استخراج هذه المسألة من الحديث، وعن قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حديث رواه مسلم"ومن مات وليس في عنقه بيعة فإنّه يموت ميتة الجاهليّة"أفتونا مأجورين.
أجاب الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين ـ رحمه الله تعالى ـ:
الحمد لله، الجواب عن حكم الصنفين المسئول عنهما الموصوفة حالهما يرجع إلى شيء واحد وهو إن كان الرّجل يقرّ بأنّ هذه الأمور الشّركية الّتي تفعل عند القبور وغيرها من دعاء الأموات والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتّقرب إليهم بالنّذور والذّبائح إنّ هذا شرك وضلال، ومن أنكره هو المحق ومن زينه ودعا إليه فهو شرّ من الفاعل فهذا يحكم بإسلامه؛ لأنّ هذا معنى الكفر بالطّاغوت والكفر بما يعبد من دون الله، فإذا اعترف بأنّ هذه الأمور وغيرها من أنواع العبادة محض حق الله لا يصلح لغيره لا لملك مقرب، ولا نبيّ مرسل فضلاً عن غيرهما.
فهذا حقيقة الإيمان بالله والكفر بما يعبد من دون الله. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم"من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله"وفرض على كلّ أحد معرفة التّوحيد وأركان الإسلام بالدّليل ولا يجوز التّقليد في ذلك، لكن العامي الّذي لا يعرف الأدلّة إذا كان يعتقد وحدانيّة الرّب سبحانه ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالبعث بعد الموت وبالجنّة والنّار.
وإنّ هذه الأمور الشّركيّة الّتي تفعل عند هذه المشاهد باطل وضلال فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شكّ فيه فهو مسلم وإن لم يترجم بالدّليل؛ لأنّ عامة المسلمين ولو لقنوا الدّليل فإنّهم لا يفهمون المعنى غالباً.
ذكر النّووي في شرح مسلم في الكلام على حديث ضمام بن ثعلبة قال: قال أبو عمرو بن الصّلاح فيه دلالة لما ذهب إليه أئمّة العلماء من
أنّ العوام المقلّدين مؤمنون وإنه يكتفى منهم بمجرّد اعتقاد الحق جزماً من غير شكّ وتزلزل خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك لأنّه صلى الله عليه وسلم قرّر ضماماً على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه ومجرد إخباره إيّاه بذلك ولم ينكر عليه ذلك ولا قال يجب عليك النّظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلّة القطعيّة اهـ.
وأمّا من قال: إنّ هذه الأمور الّتي تفعل عند هذه المشاهد من دعا غير الله والنّذر والذّبح لهم إنّ هذا ليس بحرام، فإطلاق الكفر على هذا النّوع لا بأس به بل هذا كفر بلا شكّ، وأمّا من يوافق في الظّاهر على أنّ هذه الأمور شرك ويبطن خلاف ذلك فهو منافق نفاقاً أكبر، فإن كان يظهر منه بغض من قام بهذه الدّعوة الإسلاميّة عامة فهذا دليل نفاقه.
قال بعض العلماء في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الأنصار"لا يحبّهم إلاّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ منافق"قال فمن أبغض من قام لنصرة دين الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم استحق هذا الوصف وهو النّفاق، وأمّا من يبغض بعضاً دون بعض فقد يكون ذلك لسبب غير الدّين.
وأمّا من صرح بالسب فقد قال شيخ الإسلام تقيّ الدّين رحمه الله فيمن يسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اختلف العلماء في حكمهم على قولين: قيل بكفرهم، وقيل بفسقهم، توقف أحمد في كفره وقتله، وقال يعاقب ويجلّد ويحبس حتّى يموت أو يرجع عن ذلك. قال وهذا هو المشهور من مذهب مالك اهـ.
فإذا كان هذا كلامهم في الّذي يسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذين أثنى الله عليهم ورضي عنهم فغيرهم دونهم ولم يقل أحد من العلماء بكفر
من سبّ غيرهم ولا قتله، ولهذا قال الأصحاب: من سبّ إماماً عدلاً، أو عدلاً غيره عزر.
وأمّا قول من قال: إنّ النّفاق لا يوجد إلاّ في أفضل القرون فهذا جاهل بحقيقة النّفاق ضال أو معاند فاجر بل كافر إذا قال: إنّه لا يوجد بعد ذلك إلا الإسلام المحض، وصاحب هذا القول مكذب لله ولرسوله ولجميع علماء المسلمين، ومثل هذا يرد عليه بكلام العلماء الّذي لا يمكنه ردّه.
وقد أجمع علماء السّنّة والجماعة على كفر الاتّحاديّة الّذين يقولون الخالق هو المخلوق، وكذلك أجمعوا على تكفير الحلوليّة الّذين يقولون: إنّ الله بذاته في كلّ مكان، وهاتان الطّائفتان منتشرتان في أمصار المسلمين.
ولمّا ذكر صاحب الإقناع حكم هاتين الطّائفتين قال شارحه: وقد عمت البلوى بهذه الفرق فأفسدوا كثيراً من عقائد أهل التّوحيد فأخبر الشّارح بكثرة هؤلاء المجمع على كفرهم، وذكر هاتين الطّائفتين، وكذا من قذف عائشة رضي الله عنها أو ادّعى أنّ جبريل غلط ونحو ذلك ممّا لا يقدر أحد على إنكاره.
وأمّا أمر الشّرك فالكلام معهم فيه يطول وكفر هذا فضيحة، قوله: إنّ النّفاق والكفر يوجد في أفضل القرون ويستحيل وجوده فيما بعده. وهذا في حقيقة أمره ينكر على الفقهاء وضعهم باب حكم المرتدّ إذا لم يكن إلا الإسلام المحض فيلزم تخطئتهم بأن نقول لا كفر ولا نفاق بعد القرن الأوّل الفاضل.
وأمّا احتجاج بعضهم بقول عمر رضي الله عنه أنّ النّاس كانوا يؤاخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ فأيّ حجة له في هذا على نفي الكفر
والنّفاق عن الأمّة، وإنّما هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بشرائع الإسلام حيث قال:"وحسابهم على الله تعالى "، ومراد عمر رضي الله عنه أن من رأينا عمله حسناً ولم ير منه ما يعاب أمناه وقرّبناه وحسابه في سريرته إلى الله، ومن رأينا ما يكرهه الله من المعاصي كشرب الخمر وشهادة الزّور والكذب والنّميمة والغيبة وغير ذلك من الذّنوب أو إخلال في فرض لم نأمنه ولم نقرّبه، وإن قال: إنّ سريرته حسنة.
وقوله: من أظهر لنا سوءاً، أي من أطلعنا منه على ذلك وعلمناه ليس مراده أنّه يظهر ذلك ويجاهر به وهكذا كما يقول العلماء في الشّاهد إذا علم منه ما يقدح في شهادته، ردّت شهادته، وإن كان لا يظهر إلاّ الخير، وكذا إذا رأينا من ظاهره الخير لكن رأيناه يألف الفسقة أو أهل البدع والضّلال، قلنا هذه خصلة سوء يتّهم بها وإن قال سريرته حسنة.
نقل أبو داود عن الإمام أحمد رحمه الله في الرّجل يمشي مع المبتدع لا تكلّمه، ونقل غيره إذا سلم على المبتدع فهو يحبّه، وقال أحمد رحمه الله إنّما هجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الثّلاثة لأنّه اتّهمهم بالنّفاق فكذا كلّ من خفنا عليه وهذا الّذي ينكر وجود النّفاق سببه عدم معرفة الإسلام وضدّه.
وحقيقة النّفاق إظهار الخير وإسرار ضدّه، فإذا كان إنسان عند أهل السّنة يظهر بطلان مذهب الاتّحاديّة والحلوليّة ونحوهم وهو يعتقد في الباطل صحّة بعض هذه المذاهب فهو منافق نفاقاً أكبر، وكذا إذا أظهر تضليل غلاة الرّافضة وهو في الباطن يرى رأيهم فهو منافق، وكذا من اعترف بصحّة هذا الأمر الّذي ندعو إليه وهو التّوحيد وإفراد الله بالعبادة يعترف به ظاهراً ويبطن خلافه فهو منافق نفاقاً أكبر.
وأمّا قول حذيفة فهو كما روى عنه من وجه آخر أنّه قال المنفقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفون نفاقهم وهم اليوم يظهرونه، فمراد حذيقة أنّهم في زمانه تبدو منهم أمارات ظاهرة بخلاف حالهم زمن النّبوّة، وقال: إن كان الرّجل ليتكلّم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقاً وإنّي لأسمعها من أحدكم في اليوم في المجلس عشر مرّات.
وسمع حذيفة رجلاً يقول: اللهمّ أهلك المنفقين فقال يا ابن أخي لو أهلك المنفقين لاستوحشتم في طرقاتكم من قلّة السّالكين، وهذا النّافي للنّفاق عن جميع الأمّة قائل بغير علم كاذب وما يدريه أنّه ليس في الأمّة حاضرها وباديها منافق؛ لأنّ من أظهر الإسلام وهو يشكّ في البعث بعد الموت أو في رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فهو منافق نفاقاً أكبر.
وهل اطّلع هذا المتخرص على قلوب الأمّة شرقاً وغرباً وهل يأمن على نفسه من النّفاق بأن يزيغ الله قلبه إذا زاغ عن الحقّ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف، من الآية:5] ، وقد أثنى الله سبحانه على الرّاسخين في العلم بسؤالهم إيّاه أن لا يزيغ قلوبهم في قولهم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران، الآية:8] .
ومن دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"فقيل له أو تخاف علينا؟ قال:"نعم، ما من قلب إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه"ومن دعائه صلى الله عليه وسلم عند الانتباه من النّوم:"ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ".قيل للإمام أحمد رحمه الله ما تقول فيمن لا يخاف النّفاق على نفسه؟ فقال ومن يأمن على نفسه النّفاق؟
وروي عن الحسن أنّه حلف ما مضى مؤمن قطّ ولا بقي إلاّ وهو من النّفاق خائف، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلاّ وهو من النّفاق آمن وكلام السّلف في هذا كثير، ويكفي في بيان بطلان قول هذا إثباته الكفر والنّفاق في أفضل قرون الأمّة ونفي ذلك عن القرون الّتي وصفها صلى الله عليه وسلم بأنّها شرّ إلى يوم القيامة، ويفضح شبهة هذا وشبهة من قال إنّه يستحيل وجود الكفر في أرض العرب ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال" ليس من بلد إلاّ سيطوله الدّجّال إلاّ مكّة والمدينة، وما من نقب من أنقابها إلاّ وعليه الملائكة صافين تحرسهما فينْزل السّبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله تعالى منها كلّ كافر ومنافق" فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ في المدينة إذ ذاك كفّاراً ومنافقين موجودين قبل خروج الدّجّال، فإذا كان هذا حال المدينة فغيرها أولى وأحرى والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم:"من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة "فأرجو أنّه ما يجب على كلّ إنسان المبايعة وأنّه إذا دخل تحت الطاعة وانقاد ورأى أنّه لا يجوز الخروج على الإمام ولا معصيته في غير معصية الله أنّ ذلك كاف، وإنّما وصف صلى الله عليه وسلم ميتته بالميتة الجاهليّة؛ لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يأنفون من الانقياد لواحد منهم ولا يرضون بالدّخول في طاعة واحد فشبه حال من لم يدخل في جماعة المسلمين بحال أهل الجاهليّة في هذا المعنى والله أعلم.
وقول الشّيخ ردّ المسألة المشكلة إلى آخره الظّاهر أنّه أراد أنّ الّذي سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حكم نذره أنّه أشكل هل يوفي به أم لا؟ فلّما أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك المعيّن خال ممّا ذكر زال الإشكال.
وأمّا قوله: كشف العالم الشّبهة عن المتعلّم فلا يتبيّن لي مراده إلاّ إن كان يشير إلى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصل له صفة ما يدعو إليه والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الولد المحب عليّ بن عبد العزيز بن سليم ـ زاده الله علماً ووهب لنا وله حكماً ـ.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد،
موجب الخطّ إبلاغ السّلام والسّؤال عن الحال أصلح الله لنا ولكم الدّين والدّنيا والآخرة، والخطّ وصل أوصلك الله إلى ما تحب، وما سألت عنه من حكم صرف ما ذكرت بعضه ببعض كالرّيال بالجدد والإرباع والقاروني بشيء من ذلك، وهل ذلك من مسألة مد عجوة؟
فقال في الإقناع وشرحه: وإن باع ديناراً أو درهماً مغشوشاً بمثله أي بدينار أو درهم مغشوش والغش فيهما أي المثمن والثّمن، أو غير معلوم المقدار لم يجز؛ لأنّ الجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل، وإن علم التّساوي في الذّهب الّذي في الدّينارين وعلم تساوي الغش الّذي فيهما جاز بيع أحدهما بالآخرة لتماثلهما في النّقود وهو الذّهب، ولتماثلهما في غيره أي الغش وليس من مسألة مد عجوة لكون الغش غير مقصود فكأنّه لا قيمة له كالملح في الخبز انتهى.
ونقل في الفروع عن الشّيخ جواز بيع فضّة لا يقصد غشّها بخالصة مثلاّ بمثل، ورأيت أيضا في فتوى للشّيخ تقيّ الدّين بعد كلام سبق في مسألة مد عجوة، قال وكذا يجوز بيع حنطة فيها شعير يسير بحنطة فيها
شعير يسير فإنّ ذلك يجوز عند الجمهور، وكذا إذا باع الدّراهم الّتي فيها غشّ بجنسها فإنّ الغشّ غير مقصود والمقصود بيع الفضّة وهما متماثلان.
وقال أيضا: إذا باع درهما خالصا بمغشوش فإن كانت فضّة الدّراهم الخالص تزيد على فضّة المغشوش تزيد على فضّة المغشوش زيادة يسيرة بقدر النّحاس الّذي في الآخرة جاز ذلك في أحد قولي العلماء، فظهر من كلام الشّيخ عدم جواز صرف ما ذكرتم بعضها ببعض كالقاروني بالجدد أو الإرباع ونحو ذلك وهو صريح الإقناع وشرحه والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الولد عليّ بن عبد العزيز ـ وفقه الله لطاعته وأصلح له دنياه وآخرته ـ.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد،
موجب الخطّ إبلاغ السّلام والخطّ وصل أوصلك الله إلى ما تحب، وما سألت عنه من الجهر بالتّهليل بعد الصّبح والمغرب فما علمت ورود شيء يخصّه، وإنّما اختلف العلماء في الجهر بالذّكر المشروع في إدبار الصّلوات ولم يخصوا ذكراً دون ذكر والله أعلم.
(وأمّا قولك) إذا ظهر من إنسان الكفر وقامت عليه الحجّة وامتنع إنسان من تكفيره فكأنك تشير إلى حال أهل هذه المشاهد الّتي يقع عندها الشّرك الأكبر.
ومن المعلوم أنّه لا يصحّ إسلام إنسان حتّى يكفر بالطّاغوت وهو كلّ ما عبد من دون الله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، [البقرة، من الآية:256]، وفي الحديث الصّحيح:"من قال لا إله إلاّ الله وكفر بما
يعبد من دون الله حرم ماله ودمه"، والكفر بذلك البراءة منه واعتقاد بطلانه نسأل الله لنا ولكم الهدي والسّداد والله أعلم.
(فائدة في قراءة الجنب) قوله ولا يزيد على ما يجزيء من القراءة وظّاهر العبادة مطلقا وهذا في الجنب لا في المحدث حدثا أصغر. قاله الجراعي في حواشي الفروع، وفي شرح المحرم للسيسي أنّ ذلك محرم، وفي الغاية ولا يزيد على ما يجزيء في قراءة وغيرها ويتّجه ندبا وفي زائد عن الفاتحة لجنب وجوبا، وفي خطّ زامل تلميذ المصنّف على هامش المنتهى، فإذا زاد حرم وبطلت والله أعلم.
(فائدة يجب التّنبّه لها والتّحرز منها) قال وقول بعضهم: لو أنّي حاضر ما سنه الله. هذه كلمة كفر، يردّ قضاء الله بزعمه في ذلك، وقول بعضهم أنا متوجّه عليك بالله، هذا من الشّرك بالله، ومثل قول بعض العوام: الحديث ما غدى أحداً ولا عشى أحداً ونحو هذه الألفاظ كلمة كفر نعوذ بالله؛ لأنّ هذا استنقاص للسنّة نسأل الله العفو والعافية، وقول بعض العوام فلان ما يلقى في قبره إلاّ الدّواب ونحو ذلك لا يجوز ذلك لأنّه اعتراض على الله، ومثل قولهم فلان المرحوم؛ بل يقول الله يرحمه لأنّه لا يدري والله أعلم.
(مسألة) : ما يعمله بعض الجهّال من توديعهم الفطرة عند جار ونحوه الّذي يجيء يعطونها إيّاه وهذا لا يجزئ؛ لأنّهم لم يخرجوها على وجهها فلا يسقط قدر الفطرة من الثّمرة المكنوزة بل الّذين جربوه يقولون قدر وزنتين إلاّ ثّلث.
(فائدة) : وقال حذيفة رضي الله عنه لا تفرّ من الفتنة ما عرفت دينك
إنّ الفتنة إذا اشتبه عليك الحقّ بالباطل، وقال ابن الجوزي المحرم من الدّم هو المفسوح، ثمّ قال القاضي فأمّا الدّم الّذي يبقى في خلال اللّحم بعد الذّبح وما يبقى في العروق فمباح، قال المجد في شرح الهداية: وكذلك ما يبقى على اللّحم بعد السّفح فمباح حتّى لو مسه بيده فظهر عليها أو مسه بقطنة لم ينجس نصّ عليه، وبه قال الثّوري وابن عيينة وإسحاق وأبو يوسف. قال ابن قندس: فعلى هذا النّجس من الدّم هو المفسوح أو لا فقط. قال أبو العبّاس: إنّما حرّم الله الدّم المفسوح المصبوب المراق فأمّا ما يبقى في العروق فلم يحرمه أحد من أهل العلم والله أعلم.
(فائدة) : قال في الإنصاف يجوز دفع الزّكاة إلى أقاربه الّذين لا تلزمه نفقتهم وإن كان يرثهم وهو المذهب انتهى، وقال في جمع الجوامع: هل يجوز دفع الزّكاة إلى من يرثه بفرض أو تعصيب أو لا؟ ثمّ قال يجوز: نقلها الجماعة واختارها جماعة، وقطع بها في المنور وفاقاً لأبي حنيفة وأصحابه، ومن لا تجب نفقته فيجوز الدّفع إليه إجماعاً ثمّ قال: ولا يخل القريب من غير عمودي النّسب إمّا أن تجب نفقته على الدّافع أو لا؟ فإن لم تجب جاز الدّفع إليه بلا نزاع أو وجبت ففيه روايتان، ومن كلام لأبي العبّاس شيخ الإسلام: يجوز الدّفع إلى الوالدين والولد إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن الانفاق عليهم وهو أحد القولين عن أحمد وما أخذه الإمام باسم المكس جاز دفعه بنيّة الزّكاة وتسقط ولو لم يكن على صفتها انتهى.