الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن من جملة علماء السنة والجماعة: أئمة الدعوة النجدية، الذين أقامهم الله تعالى ـ وله الحمد والفضل ـ في هذه البلاد بعد اندراسٍ من أعلام الدين، وبعد فُشُوِّ البدع والشركيات، فألهمهم الحق وبَصَّرَهم به، وفتح على قلوبهم بمعرفة التوحيد وما يضاده. فقاموا في بيانه على قَدَمٍ وساقٍ، ونشروا العقيدة السلفية، والشريعة الإسلامية، وأعلنوا الحق وأظهروه، وجَدُّوا واجتهدوا في إيضاحه بدليله، وفي دحض اعتراضات أعدائهم من الدعاة إلى الشرك والبدع، حتى اتضح الحق واستبان لكل ذي علم وبصيرة.
وقد حرص تلاميذهم على نسخ كتاباتهم، وأجوبتهم، وفتاويهم ورسائلهم، ونصائحهم، وعلومهم، وما أبدوه من فوائد، وما فتح الله عليهم من أنوار العلوم. ولأهمية تلك الفوائد وندرتها كان من الأهمية حفظها، والحرص على تدوينها، وإثباتها في مؤلفات، ليطلع عليها مَنْ بعدهم، فيسترشد ويستفيد، وتعرف الأحكام والحوادث التي تجري في زمان أولئك العلماء، وكيف أجابوا على الأسئلة التي رُفعت إليهم، ومراجعهم ومذاهبهم في تلك الأجوبة.
ولقد اجتمع من تلك الرسائل هذه المجموعة الكبيرة التي عرفت باسم:"مجموعة الرسائل والمسائل النجدية"، والتي جمعها ورتبها بعض تلاميذهم الذين تخرجوا على أيديهم، وانتفعوا بعلومهم، فأهمهم أمر تلك الفتاوى والرسائل، وأحبوا أن يشاركهم مَن بعدهم في الاستفادة.
وقد طُبِعَتْ هذه المجموعة قبل ستين عاما أو أكثر في عهد جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله، وانتشرت داخل المملكة وخارجها، وحصل بها نفع كبير، واستفاد منها الصغير والكبير؛ وعرفت بها عقيدة هؤلاء الأئمة، وما يدعون إليه، وزالت بها الشبهات التي تُلَفَّقُ عليهم، ويحاول الأعداء بها الصد عن سبيل الله
وذلك لاشتمالها على علوم وفنون كثيرة ومتنوعة، يُدْرَكُ مِن خلالها تَوَسُّعُ هؤلاء الأئمة في أنواع العلم الشرعي ووسائله، حيث يوجد بها الفقه، والتفسير، والحديث وعلومه، والأصول، والعقيدة، والتاريخ، والأدب، والنحو والصرف، وغيرها بتوسعٍ واختصارٍ أحيانا.
وذلك يدل على توغل أئمة الدعوة في العلوم المهمة، وشدة حرصهم على التأثر بها.
وَيُدْرَكُ من خلالها اكتظاظُ هذه البلاد بالعلماء، وطلبة العلم والمستفيدين؛ فهم الذين رغبوا في تحرير تلك الأجوبة، وكاتبوا العلماء، وحرصوا على الفوائد، وألحوا في طلب الجواب، ورفعوا إلى علمائهم ما وقعوا فيه من إشكالات، وما حدث عندهم من وقائع هم بحاجة إلى معرفة أحكامها لتورعهم عن العمل بلا علم، أو عن التَّخَرُّص في الجواب بدون برهان.
ولا شك أن ذلك ونحوه مما يدل على حب الخير، وكراهة التخبط في العمل بغير دليل، كما هي حال الكثير من عوام غالب البلاد، الذين لا همة لهم بشؤون دينهم؛ حيث يبقون في ظلمات الجهل والضلال، لا همة لهم إلا شهوات البطن والفرج، أو يتخبطون في العمل بما يوافق ميلهم وأغراضهم، فيعملون بلا علم، ويقولون على الله ما لا يعلمون.
وبالاطلاع على هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل والمسائل والنصائح والعظات، يُعْلم أيضا ما لاقاه أهل هذه الدعوة من أهل الضلال من اعتراضات، وتضليل، وتبديع، ونحو ذلك، ولكنهم تصدوا لتلك الترهات، وأبطلوها بالدليل، وأوضحوا أن عقيدتهم ودعوتهم هي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم على مُعْتَقَد سلف الأمة، وأئمة الدين في القول والعمل.
وحيث إن الطبعة الأولى قد نَفِدَتْ، وتقادم عهدُها، فقد رغب بعض أهل الخير في إعادة طبعها ونشرها بين المسلمين، ليعم النفع لأهل هذه
الأزمنة، كما انتفع بها المتقدمون، ولتحصل الاستفادة في فنون الفقه والأحكام، والتوحيد، وعلوم الشريعة، ويعرف شباب هذا الزمان ما قام به أسلافهم- تلامذة وأساتذة- من العلم والعمل، والجهاد والنضال، وما لاقوه من أهل زمانهم، وكيف صبروا وصابروا، وكيف فتح الله عليهم وألهمهم بالأجوبة السديدة المفيدة؛ وليعمل العاملون على بصيرة من دينهم، فيجدوا في ثنايا هذه الرسائل بُغْيَتهم، ويسترشدوا بعمل أسلافهم.
والله المسؤول أن يجزل ثواب أولئك العلماء على ما أبدوه من علم وفائدة بقيت لمن بعدهم، ويثيب مَن جمَع هذه الرسائل، وسعى في نشرها، وبذل المال والجهد في ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه،وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
2-
6- 1409هـ.
مقدمة الطبعة الثانية من"مجموعة الرسائل والمسائل النجدية"
تمهيد
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] .
أما بعد: فقد امتن الله على عباده ببعثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والعالم يتخبط في ظلمات الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء، فأنقذهم بشريعته الغَرَّاء، من داء الشرك والضلال، إلى نور الهدى والإيمان؛ ففتح الله به أَعْيُنًا عُمْيًا، وآذَانًا صُمًّا، وقلوبا غُلْفًا، وأتم به على عباده النعمة، وأكمل الدين كما قال أحكم الحاكمين:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} الآية، [المائدة من الآية: 3] .
نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى توحيد الله جل جلاله
وقد نهج الرسول صلى الله عليه وسلم نهج الرسل قبله في الدعوة إلى توحيد الله جل جلاله، وغرس ذلك في نفوس عباده، قال الله –تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الإنبياء: 25] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل من الآية: 36] .
قال ابن كثير رحمه الله: لم يزل الله –تعالى- يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طَبَّقَتْ دعوتُهُ الإنسَ والجنَ في المشارق والمغارب..إلخ 1.
وليس المراد بالتوحيد الذي دعت إليه رسل الله –سبحانه-: توحيدَ الربوبية – كما ظنه مَن قَلَّ نصيبُه من العلم، وَخَوَى عقله من الفهم؛ لأن الخلق مفطورون ومجبولون على الإقرار بخالقهم ورازقهم. فهؤلاء كفار قريش الذين امتنعوا من الدخول في دين الله جل جلاله، وأنفقوا جميع ما يملكون من المال والأولاد والأنْفُس في سبيل صد الناس عن هذا الدين، يقول الله –تبارك وتعالى عنهم:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُون قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون الآيتات: 84-89] .
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ
1 تفسير ابن كثير 2\568.
مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] .
ففي هذه الآيات وغيرها الدليل الصريح على أن كفار قريش مقرون بتوحيد الربوبية، ولكن هذا الإقرار بهذا النوع من التوحيد لم يُدْخِلهم في الإسلام، قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] .وروى ابن جرير (13/77) عن مجاهد أنه قال: إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمانٌ مع شِرْكِ عِبَادَتِهِم غيرَه.
ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من كفار قريش الإقرار بأن الله موجود، وهو الخالق الرازق المدبر لاستجابوا له وأذعنوا لقوله؛ ولكن الخَطْبَ أعظمُ من ذلك؛ فعندما قال لهم –صلى الله عليه وسلم:"قولوا لا إله إلا الله"1 – أي: لا معبود بحق إلا الله – كان جوابهم كما حكى الله عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ: 5] .
ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد منهم الإقرار بهذا النوع من التوحيد لما استحل دماءهم وأعراضهم وأموالهم، لأنهم مقرون بذلك مُسْتَيْقِنَة به قلوبهم. وهذا فرعون الذي يتظاهر بإنكار الخالق –جل جلاله يتيقن وجود الله في قرارة قلبه، كما قال موسى –عليه السلام:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} الآية [الإسراء: من الآية: 102] .وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً} الآية [النّمل من الآية: 14] .
وهذا الأصل واضحٌ -ولله الحمد والمنة- وضوح الشمس في نَحْر الظهيرة، قد قرره الله –سبحانه- في كتابه، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سلوكه وخطابه، فلا يخفى بعد ذلك إلا على مَن أراد الله لهم الشقاوة والخسران.
المقصود من إرسال الرسل
والمقصود أن الرسل إنما بُعِثُوا لأجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور بعبادة الله وحده لا شريك له، وترك جميع ما يُعْبَد من دونه، وهذا هو توحيد الإلهية.
1 أحمد (5/376) .
رهيب، وتدبير مريب، من قِبَلِ أعداء هذا الدين الصليب؛ فوصلوا إلى ما أرادوا وأَمَّلُوا، واستطاعوا الخُلُوص إلى قلوب الشباب فأفسدوا؛ ونتج عن ذلك انتشار الأوباء الخطيرة، والأمراض الفاتكة المريبة.
وأصبح أهل هذا الزمان، كما قال ابن عقيل الحنبلي عن أهل زمانه: من عجيب ما نقدتُ من أحوال الناس: كثرةُ ما ناحوا على خراب الديار، وموت الأقارب والأسلاف، والتَّحَسُّر على الأرزاق، وذم الزمن وأهله، وذِكْرِ نَكَد العيش فيه، وقد رأوا من انهدام الإسلام، وتشعب الأديان، وموت السُّنَن، وظهور البدع، وارتكاب المعاصي، وتَقَضِّي الأعمار في الفارغ الذي لا يُجْدِي، والقبيح الذي يُوبِقُ ويؤذي، فلا أجد منهم مَن ناح على دينه، ولا بكى على ما فَرَطَ من عمره، ولا آسى على فائت دهره. وما أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان، وعِظَم الدنيا في عيونهم، ضد ما كان عليه السلف الصالح يَرْضُونَ بالبلاغ من الدنيا، وينوحون على الدين. انتهى 1.
الواجب على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى
ولقد بلغ الحال بكثير من أهل زماننا إلى أعظم مما ذكَرَ، وذلك بسبب بُعْدِهِم عن الله -تعالى-، وضعف إيمانهم به سبحانه، وقلة يقينهم بما عنده من النعيم والعقاب. ولو أنهم آبوا إلى الله، وأخلصوا له، وتوكلوا عليه لمنحهم السعادة والسيادة التي نزعت منهم.
وبما أن الداء بان سببُه، واتضح أصلُه، فالواجب على الدعاة إلى الله –سبحانه- أن يضاعفوا جهودهم في استئصاله والقضاء عليه؛ وذلك بتقرير التوحيد في قلوب الناس، وتربيتهم عليه، ووعظهم بمسائله وأبوابه وفضائله، وترهيبهم من الخروج عنه والإتيان بما يناقضه أو يضعفه.
وتسهيلا لهذه المهمة العظيمة، فإننا نجعل هذا الكتاب العظيم، الحافل بدرر المسائل، وغُرَر الفوائد المُسَمَّى:"مجموعة الرسائل والمسائل النجدية"بين أيديهم، عَلَّ الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياهم بما فيه؛ إنه سميع مجيب.
ولا أحب أن أطيل في وصف هذا الكتاب، وبيان مزاياه، فقد تقدم في
1 نقله عن ابن عقيل: ابن مفلح في الآداب الشرعية (348) .
كلمة سماحة شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين ما يكفي ويشفي.
وقد طبع هذا الكتاب للمرة الأولى في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة (1349هـ) في مطبعة المنار بمصر، على نفقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن – رحمه الله تعالى – وقد جعل الكتاب وقفا لله –تعالى-.
ولما تقادم العهدُ بطباعة هذا الكتاب، ونَدُرَ وجوده، وأصبح جُلّ طلبة العلم يبحثون عنه، ويتتبعون مظانِّه في المكاتب العامة بالاطلاع عليه، والنظر في مسائله، عرضت على المحسن الكبير الشيخ علي بن فهد بن هزّاع إعادة طباعة هذا الكتاب، ليسهل تناوله، ويعم النفع به؛ فبادر كعادته – وفقه الله – إلى تلبية هذه الفكرة، وتجسيد هذه الخطرة، وتكفل بمبالغ إعادة طبعه الطائلة. فجزاه الله خيرا وبارك فيه، وغفر له ولوالديه، وجعل هذا الكتاب ذخرا له يوم العرض على الله، والوقوف بين يديه.
تنبيه:
ليعلم بأن هذه الطبعة مصورةٌ عن الطبعة الأولى التي علق عليها، وأشرف على طباعتها الشيخ العالم العلامة المحقق محمد رشيد رضا – رحمه الله –.
وقد صوبنا الأخطاء المطبعية المُرْفَقَة في أول كل مجلد من الطبعة الأولى، ووضعنا فهرسا تحليليا للمسائل الموجودة في الرسائل الشخصية والاستفتاءات مرتبا على الكتب والأبواب، قام به بعض طلبة العلم وفقهم الله –تعالى-.
والله المسؤولُ المرجوُّ أن يصلح نياتنا، ويواري -عن الأعين- خلاتنا، ويتجاوز عن سيئاتنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولجميع المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى ربه القدير:
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم.
روى الإمام أحمد وغيره -بسند حسن- عن عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعْبَد الله وحده "1 الحديث. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى هذا الأصل العظيم، والركن القويم، ويغرسه في نفوس أصحابه، ويربيهم عليه، ويحمي حماه، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، والمحل الأسنى. فقام أصحابه من بعده بأعباء الدعوة إلى هذا الأصل العظيم حق القيام، وتحملوا في سبيله جميع المصاعب والأسقام، وألقوا إلى تابعيهم ما تَلقوه عن مشكاة الأنام صلى الله عليه وسلم.
ثم سار التابعون لهم بإحسان على هذا المنهج القويم، والصراط المستقيم، وهكذا أتباع التابعين، إلى أن أذن الله جل جلاله بإخراج أقوام اتخذوا دينهم لهوا ولعبا؛ فحرفوا كلام الله سبحانه عن مواضعه، وتركوا العمل بمحكمه واتبعوا متشابهه، فضلوا وأضلوا عن الله وعن طريقه، واتبعوا الشيطان وما يُمْلِيه من تحريفه وتضليله، حتى أوشك عرش الإسلام بالحبوط، وقارب الانهيار والهبوط لولا أن الله تعالى وفق رجالا للدفاع عن سبيله والذَّبِ عن حِيَاضه وطريقه لكان ذلك مشاهدا بالعيان، ومُدَوَّنًا في أخبار الزمان.
ولكن الله -جل وعلا- تكفل لهذه الأمة بحفظ دينها وكتابها؛ وذلك ببقاء طائفة منهم على الحق ظاهرين منصورين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك 2.وأخبر الرسول –صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها 3.
ونحن نستبشر بهذين الأثرين أَيَّمَا استبشارٍ، لما فيهما من تسلية الغرباء في كافة القرى والأمصار، وما زال الناس يرون تصديق هذين الخبرين بالأبصار؛ فكلما طُمِسَتْ معالم هذا الدين بظهور الفجار، وهُدِمَتْ مساجده بقتل رجاله الأبرار، ونُكِّسَتْ أعلامه في جميع الأقطار انتدب الله من عباده فَارِسًا مغوارًا،
1 أحمد (2/50) .
2 حديث صحيح متواتر.
3 أخرجه أبو داود والحاكم، وهو صحيح، ويأتي تخريجه في الضياء الشارق لابن سحمان رقم 17.
وهب نفسه وماله وعرضه في سبيل العزيز الغفار، فيحيي به اللهُ الأرضَ بعد موتها، ويوقظُ به القلوبَ بعد رقدتها، ويجلو عن الأعين غشاوتَها.
وإنَّ مِن هؤلاء الفرسان الأعلام: شيخ الإسلام، الإمام محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بلا حساب ولا عقاب- خرج في زَمانٍ، نَعَتَهُ الشيخُ الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن -عليه الرحمة والرضوان- فقال: كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وَعَفَتْ آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهلُ والتقليدُ والإعراضُ عن السنة والقرآن، وشَبَّ الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد.
وأعلام الشريعة مطموسةٌ، ونصوص التنْزيل وأصول السنة فيما بينهم مَدْرُوسَةٌ، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة، غير مردودة ولا مدفوعة؛ قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجَدُّوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين. وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن البحر الأجاج شاربون، وبه راضون، وإليه مدى الأزمان داعون؛ قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وَغُبْر الفَتَرَات، وكثيرٌ منهم يعتقد النفع في الأحجار والسادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الآفات.
{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التّوبة من الآية: 67] .
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
القسم الأول
رسائل وفتاوي للشيخ محمد عبد الوهاب وأبنائه
…
القسم الأول رسائل وفتاوى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأبنائه رحمهم الله
بعض رسائل الشيخ الكبير رحمه الله
رسالة في دين الإسلام وشرح حقيقته
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الأول من الجزء الأول من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: رسائل وفتاوى متفرقة لإمام النهضة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه العلماء الأعلام رحمهم الله تعالى. (رسالة جوابية للشيخ عن كتاب لم نقف عليه، ويستغنى عنه بجوابه) .
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران من الآية: 19] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: من الآية: 85] .
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة من الآية: 3] .
قيل: إنها آخر آية نزلت، وفسر نبي الله صلى الله عليه وسلم الإسلام لجبريل عليه السلام، وبناه أيضا على خمسة أركان، وتضمن كل ركن علما وعملا فرضا على كل ذكروأنثى، لقوله:"لا ينبغي لأحد يقدم على شيء حتى يعلم حكم الله فيه".
فاعلم أن أهمهاوأولاها: الشهادتان وما تضمنتا من النفي والإثبات من حق الله على عبيده، ومن حق الرسالة على الأمة؛ فإن بان لك شيء من ذلك ما ارتعت، وعرفت ما الناس فيه من الجهل والغفلة والإعراض
عما خلقوا له، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوي، وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير؛ ويؤيد ذلك أن الولد إذا بلغ عشر سنين غسلوا له أهله، وعلموه ألفاظ الصلاة، وحيي على ذلك، ومات عليه.
أتظن من كانت هذه حاله هل شم لدين الإسلام الموروث عن الرسول رائحة فما ظنك به إذا وضع في قبره، وأتاه الملكان، وسألاه عمّا عاش عليه من الدّين، بماذا يجيب:"هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته"1 2.وما ظنك إذا وقف بين يدي الله -سبحانه- وسأله: ماذا كنتم تعبدون وبماذا أجبتم المرسلين بماذا يجيب رزقنا الله وإياك علما نبويا، وعملا خالصا في الدنيا ويوم نلقاه. آمين.
فانظر يا رجل حالك، وحال أهل هذا الزمان! أخذوا دينهم عن آبائهم، ودانوا بالعرف والعادة، وما جاز عند أهل الزمان والمكان دانوا به، وما لا فلا، فأنت وذاك. وإن كانت نفسك عليك عزيزة، ولا ترضى لها بالهلاك، فالتفت لِمَا تضمنت أركان الإسلام من العلم والعمل، خصوصا الشهادتين من النفي والإثبات، وذلك ثابت من كلام الله وكلام رسوله.
قيل: إن أول آية نزلت قوله -سبحانه- بعد اقرأ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1-2] .قف عندها، ثم قف، ثم قف، ترى العجب العجيب، ويتبين لك ما أضاع الناس من أصل الأصول، وكذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} الآية [النّحل من الآية: 36]، وكذلك قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية من الآية: 23]
1 البخاري: العلم (86)، ومسلم: الكسوف (905) ، وأحمد (6/345 ،6/354)، ومالك: النداء للصلاة (447) .
2 قوله: هاه إلخ حكاية لما يجيب به المنافق عن سؤال الملكين، كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
الآية، وكذلك قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التّوبة من الآية: 31]، وغير ذلك من النصوص الدالة على حقيقة التوحيد الذي هو مضمون ما ذكرت في رسالتك أن الشيخ محمدا قرر لكم ثلاثة أصول: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام.
ولكن قف عند هذه الألفاظ، واطلب ما تضمنت من العلم، والعمل، ولا يمكن في العلم إلا أنك تقف على كل مسمى منهما مثل: الطاغوت أكاد سليمان، والمُوَيْس، وعُرَيْعِر، وأبا ذراع، والشيطان، رؤوسهم كذلك قفْ عند الأرباب منهم أكادهم العلماء والعباد كائنا من كان إن أفتوك بمخالفة الدين، ولو جهلا منهم فأطعتهم، كذلك قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة من الآية: 165] يفسرها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} الآية [التّوبة من الآية: 24]، كذلك قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية من الآية: 23] ، وهذه أعم مما قبلها وآخرها، وأكثرها وقوعا؛ ولكن أظنك وكثيرا من أهل الزمان ما يعرف من الآلهة المعبودة إلا هُبَلَ، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرَا، والّلات والعُزّى، ومَنَاةَ فإن جاد فهمه عرف أن المقامات المعبودة اليوم من البشر، والشجر، والحجر، ونحوها، مثل: شمسان، وإدريس، وأبو حديدة، ونحوهم منها.
هذا ما أثمر به الجهل، والغفلة، والإعراض عن تعلم دين الله ورسوله؛ ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس: إن بُنَيَّات حرمة وعيالهم1 يعرفون التوحيد فضلا عن رجالهم، وأيضا تعلُم معنى لا إله إلا الله بدعة؛ فإن استغربت ذلك مني فأحضر عندك جماعة، واسألهم عما يُسألون عنه في القبر، هل تراهم يعبرون عنه لفظا وتعبيرا فكيف إذا طولبوا بالعلم والعمل
1 حرمة بلد. يعني: أن البنات الصغيرات، والصبيان في بلدة"حرمة"يعرفون التوحيد فلا يحتاج أحد إلى تعلمه من العلماء.
هذا ما أقول لك، فإن بان لك شيء من ذلك ارتعت روعة صدق على ما فاتك من العلم، والعمل في دين الإسلام أكبر من روعتك التي ذكرت في رسالتك من تجهيلنا جماعتك؛ ولكن هذا حق مَنْ أعرض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، فكيف بِمَن له قريب من أربعين سنة يسب دين الله ورسوله، ويبغضه، ويصد عنه مهما أمكن، فلمّا عجز عن التمرد في دينه الباطل، وقيل له: أجب عن دينك وجادل دونه، وانقطعت حجته أقر أن هذا الذي عليه ابن عبد الوهاب أنه هو دين الله ورسوله. قيل له: فالذي عليه أهل (حرمة) قال: هو دين الله ورسوله.
كيف يجتمع هذا وهذا في قلب رجل واحد؟ فكيف بجماعات عديدة بين الطائفتين من الاختلاف سنين عديدة ما هو معروف، حتى إن كلا منهم شهر السيف دون دينه، واستمر الحرب مدة طويلة، وكل منهم يدعي صحة دينه، ويطعن في دين الآخر، نعوذ بالله من سوء الفهم، وموت القلوب. (أهل) دينين مختلفين، وطائفتين يقتتلون كل منهم على صحة دينه، ومع هذا يتصور أن الكل دين صحيح يدخل من دان به الجنة:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النّور من الآية: 16] ، فكيف والناقد بصير
فيا رجل، ألق سمعك لما فرض الله عليك خصوصا الشهادتين، وما تضمنتاه من النفي والإثبات، ولا تغتر باللفظ، والفطرة، وما كان عليه أهل الزمان والمكان، فتهلك.
فاعلم أن أهم ما فرض على العباد: معرفة أن الله رب كل شيء ومليكه ومدبره بإرادته: فإذا عرفت هذا فانظر ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية بالمحبة، والإجلال، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتأله المتضمن للذل، والخضوع لأمره ونهيه، وذلك قبل فرض الصلاة، والزكاة؛ ولذلك
يعرف عباده بتقرير ربوبيتهليرتقوا بها إلى معرفة إلهيته التي هي مجموع عبادته على مراده نفيا وإثباتا، علما وعملا، جملة وتفصيلا.
(هذا آخر الرسالة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم) .
رسالة إلى أهل شقرا في بيان أن الإسلام دين يسر وسهولة
-2- رسالة منه إلى جماعة أهل شقرا سلمهم الله تعالى 1
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله يرضى لكم ثلاثا"2، وواجب علينا لكم النصيحة، وعلى الله التوفيق
فيا إخواني، لا تغفلوا عن أنفسكم، ترى الباطل زمالة لحاية 3 عند الحاجة، ولا تظنوا أن الضيق مع دين الإسلام، لا والله؛ بل الضيق، والحاجة، وسكنة الريح، وضعفة البخت، مع الباطل والإعراض عن دين الإسلام.
مع أن مصداق قولي فيما ترونه فيمن ارتد من البلدان: أوّلُهُنّ (ضرما) وآخرُهُنّ (حريما) ، هم حصّلوا سعة فيما يزعمون، أو َمَا زادوا إلا ضيقا وخوفا على ما هم قبل (أن) يرتدوا.
وأنتم كذلك المعروف منكم أنكم ما تدينون للعناقر 4 وهم على عنفوان القوة في الجاهلية، فيوم رزقكم الله دين الإسلام الصرف، وكنتم على بصيرة في دينكم، وضعف من عدوكم- أذعنتوا له حتى إنه يبي 5 منكم الخسر ما يشابه لجزية اليهود والنصارى -حاشاكم والله من ذلك- والله العظيم، إن النساء في بيوتهن يأْنَفْنَ لكم، فضلا عن صماصيم بني زيد. يالله
1 في هذه الرسالة ألفاظ عامية نجدية تعمدها الشيخ لأن المخاطبين بها من العوام.
2 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/327 ،2/360 ،2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
3 أي ركوبة بليدة.
4 العناقر البيوتات"العائلات الوجيهة"واحدها عنقري.
5 يبي مخففة عندهم من يبغي.
العجب! تحاربون إبراهيم بن سليمان فيما مضى عند كلمة تكلم بها على جاركم، أو حمار يأخذه ما يسوي عشر محمديات! 1 وتنفدون على هذا مالكم، ورجالكم، ومع هذا يثلب بعضكم بعضا على التصلب في الحرب ولو عضكم.
فيوم رزقكم الله دين الأنبياء الذي هو ثمن الجنة، والنجاة من النار، إلا أنكم تضعفون عن التصلب! 2.
وها الأمر خالفه صار كلمة، أو حمارا أنفق عندكم، وأعز من دين الإسلام؛ يالله العجب! –نعوذ بالله من الخذلان، والحرمان- ما أعجب حالكم، وأتيه رأيكم إذ تؤثرون الفاني على الباقي، وتبيعون الدر بالبعر، والخير بالشر! كما قيل:
فيا درة بين المزابل ألقيت
وجوهرة بيعت بأبخس قيمة
فتوكلوا على الله، وشمروا عن ساق الجد في دينكم، وحاربوا عدوكم، وتمسكوا بدين نبيكم، وملة أبيكم إبراهيم، وعضوا عليها بالنواجذ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مسائل أجاب عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
حكم ما يأخذ الأعراب ونحوهم ممن هو مثلهم أو من أهل القرى
-3- (بسم الله الرحمن الرحيم)
(هذه مسائل أجاب عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى) .
(المسألة الأولى) : ما حكم ما يأخذ الأعراب، ونحوهم ممن هو مثلهم، أو من أهل القرى
أما ما يأخذونه ممن هو مثلهم في ترك ما فرضه الله عليهم، والتهاون بما حرمه الله –تعالى- مما يُكَفِّرُ أهل العلم فاعله، فلا إشكال في حله.
1 المحمديات نوع من النقود.
2 المعنى: أتضعفون، وتقصرون في الدفاع عن هذا الدين، أو نشره إلى هذا الحد.
كما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من أهل العلم، وهو ظاهر لظهور دليله. وأما إذا كان المأخوذ من أهل القرى، ونحوهم ممن يلتزم أركان الإسلام، ولا يظهر منه ما ينافيه، فحكم ما أخذ منهم حكم الغصب، وتفصيله لا يجهل. وإن اشتبه الحال على من وقع في يده شيء لا يعرف مالكه، فله التصدق بثمنه.
ما يتعامل به أهل نجد من الجدد حين رخصت
وأما (المسألة الثانية) وهي: ما يتعامل به أهل نجد من الجدد حين رخصت، وصارت الفضة فيها أكثر من المقابل، فهي صورة مسألة"مدعجوة"لا بد فيها من أن يكون المنفرد أكثر من الذي معه غيره على الرواية القائلة بالجواز، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فعلى هذا إذا كان الذي في الجدد من الفضة أكثر من فضة الريال، فلا يجوز بيعها على كلا الروايتين.
أخذ العروض عن النقود
وأما (المسألة الثالثة) وهي: أخذ العروض عن النقود، وبالعكس، فإن كان المراد أخذ العروض عن النقود التي في الذمة عن ثمن ربوي كما إذا باع تمرا أو نحوه بأحد النقدين إلى أجل، ثم أخذ عما في الذمة من جنس المبيع، أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة، فهذا لا يصح على المعتمد. وإن كان غير ذلك كقيمة متلف، أو أجرة، ونحو ذلك، فيجوز أن يأخذ عما في الذمة عن النقد عرضا، وبالعكس؛ بل يجوز أخذ أحد النقدين عن الآخر بسعر يومه كما في حديث ابن عمر.
وأما أخذ الثمار في السلم خرصا، فالذي يتوجه عندنا الجواز إذا كان الثمر المأخوذ دون ما في الذمة بيقين، لحديث جابر المُخَرَّجِ في الصحيح؛ فيكون من باب أخذ الحق، والإبراء عما بقي. والله سبحانه، وتعالى أعلم.
فتاوى في الزكاة والمضاربة والنقود المغشوشة
العُرُوضُ هل تجزئ في الزكاة إذا أخرجت بقيمتها
-4- بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز الحُصَيْن إلى الشيخ المكرم محمد بن عبد الوهاب.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، أَفْتِنَا -عفا الله عنك-: هل يُجْزِئُ إخراج الجدد في الزكاة، أم لا، لأنها مغشوشة بنحاس وهل تصح المضاربة بها، لأجل الغش وكذلك العروض كالإبل، والهدم، وغير ذلك من سائر العروض، هل تصح المضاربة بها فرأيت في شرح العمدة للموفق: أن الزكاة لا تصح أنها تخرج على الذهب الذي أخذ من معدنه إلا بعد ما يصفى، لأن الزكاة ما تجوز عن المغشوش، وقال البخاري (باب إجراء أمراء الأمصار)، وذكر فيه تفصيلا: كالبيع، والإجارة، والمكيال، والميزان، إلى غير ذلك؛ هل كلام البخاري في هذا يفيد، أم لا أَفتنا -جزاك الله خيرا- والسلام.
(الجواب)
بسم الله الرحمن الرحيم.
(هذه المسائل التي في السؤال) .
(المسألة الأولى) : العُرُوضُ هل تجزئ في الزكاة إذا أخرجت بقيمتها (الثانية) : هل تصح المضاربة، أم لا (الثالثة) : أن الجدد هل تخرج بها، أم لا لأجل الغش
(فأما المسألة الأولى) : ففيها روايتان عن أحمد:
إحداهما: المنع لقوله:"في كل أربعين شاةٍ شاة، وفي مائتي درهم خمسة دراهم"1 وأشباهه.
(والثانية) : يجوز، قال
1 الترمذي: الزكاة (621)، وأبو داود: الزكاة (1568)، وابن ماجه: الزكاة (1805) ، وأحمد (2/15)، والدارمي: الزكاة (1620) .
أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخلة، فقال: عُشْره على الذي باعه، قيل: يخرج تمرا، أو ثمنه قال: إن شاء أخرج تمرا، وإن شاء أخرج من الثمن.
إذا ثبت هذا، فقد قال بكل من الروايتين جماعة، وصار نزاع فيها، فوجب ردها إلى الله والرسول. قال البخاري في صحيحه في أبواب الزكاة (باب العرض في الزكاة) : وقال طاووس: قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خَبِيص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقال – صلى الله عليه وسلم: -"وأما خالد فقد احتبس أدراعه، واعتده في سبيل الله"1 ثم ذكر في الباب أدلة غير هذا، فصار الصحيح أنه يجوز.
واستدلال َمنْ منعه بقوله:"في كل أربعين شاةٍ شاة"2 وأمثاله لا يدل على ما أرادوا لأن المراد هو المقصود وقد حصل كما أنه 3 صلى الله عليه وسلم لما أمر المستجمر بثلاثة أحجار، بل نهى أن ينقص عن ثلاثة أحجار -لم يجمدوا على مجرد اللفظ، بل قالوا: إذا استجمر بحجر واحد له ثلاث شعب أجزأه ولهذا نظائر أنه يؤمر بالشيء فإذا جاء مثله، أو أبلغ منه أجزأ.
المضاربة بالعروض
(وأما المسألة الثانية) : فعن أحمد أن المضاربة لا تصح بالعروض، واختاره جماعة، ولم يذكروا على ذلك حجة شرعية نعلمها، وعن أحمد: أنه يجوز، وتُجعل قيمة العروض وقت العقد رأس المال.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن المضاربة بالمتاع؛ فقال: جائز، واختاره جماعة، وهو الصحيح، لأن القاعدة في المعاملات: أن لا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، لقوله:"وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها".
1 البخاري: الزكاة (1468)، ومسلم: الزكاة (983)، وأبو داود: الزكاة (1623) .
2الترمذي: الزكاة (621)، وأبو داود: الزكاة (1568)، وابن ماجه: الزكاة (1805) ، وأحمد (2/15)، والدارمي: الزكاة (1620) .
3وافق الشيخ في هذه الفتوى مذهب الحنفية، واستدل له مثلهم بعمل معاذ باليمن، وبالقياس للتيسير، وجمهور الأئمة، والمحدثون يحملون عمل معاذ على غير الزكاة؛ لأنه أمر بردها على فقرائهم، ويقولون: إنه على كل حال اجتهاد منه، لا نص يزيل النزاع.
إخراج الجدد في الزكاة
(وأما المسألة الثالثة) : وهي إخراج الجدد في الزكاة هل يجوز أم لا فهذه المسألة أنواع:
أما إخراجها عن جدد مثلها، فقد صرحوا بجوازه، فقالوا: إذا زادت القيمة بالغش، أخرج ربع العشر مما قيمته كقيمته.
وأما إخراج المغشوش عن الخالص مع تساوي القيمة كما ذكر في السؤال، فهذه هي التي ذكر بعض المتأخرين المنع منها وبعضهم يجيز ذلك، وهو الصحيح بدليل ما تقدم في إخراج القيمة أنه يجزئ فإن إخراج المغشوش يجيزه من لا يجيز القيمة، بل قال"الشيخ تقي الدين": نصاب الأثمان هو المتعارف في كل زمن من خالص، ومغشوش، وصغير، وكبير، وأما إخراج المغشوش عن الجيد مع نقصه، مثل الجنازرة التي تسوى على ثمان لأجل الغش بالفضة، عن جنازرة تسوى أكثر لقلة الغش، فهذا لا يجوز. المضاربة بالمغشوش
(وأما المسألة الرابعة) : وهي المضاربة بالمغشوش، فقد تقدم أن الصحيح جوازها بالعروض، وهي أبلغ من المغشوش؛ وقد أطلق الموفق في المقنع الوجهين، ولم يرجح واحدا منهما، ولكن الصحيح جواز ذلك لما تقدم. وما ذكر في السؤال من غش ذهب المعدن، فهذا غش لا قيمة له؛ فأين هذا من غش قيمته أبلغ من قيمة الفضة الخالصة أو مثلها
وأما كلام البخاري الذي في السؤال فقد أُورد لمسائل غير هذه، وأما كونه يدل على ما ذكرتم؛ فلا أدري.
تتمة في اتباع النصوص مع احترام العلماء (5)
إذا فهمتم ذلك، فقد تبين لكم في غير موضع أن دين الإسلام حق بين باطلين، وهُدى بين ضلالتين وهذه المسائل، وأشباهها مما يقع الخلاف فيه بين
السلف والخلف من غير نكير من بعضهم على بعض؛ فإذا رأيتم من يعمل ببعض هذه الأقوال المذكورة بالمنع، مع كونه قد اتقى الله ما استطاع لم يَحِل لأحد الإنكار عليه؛ اللهم إلا أن يتبين الحق، فلا يحل لأحد أن يتركه لقول أحد من الناس؛ وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض المسائل من غير نكير ما لم يتبين النص.
فينبغي للمؤمن أن يجعل همه ومقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف، والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم، ويوقرهم، ولو أخطؤوا، لكن لا يتخذهم أربابا من دون الله؛ هذا طريق المُنْعَمِ عليهم. وأما اطراح كلامهم وعدم توقيرهم فهو طريق المغضوب عليهم. وأما اتخاذهم أربابا من دون الله: إذا قيل: قال الله، قال رسوله. قيل: هم أعلم منا فهذا هو طريق الضالين.
ومن أهم ما على العبد، وأنفع ما يكون له: معرفة قواعد الدين عند التفصيل؛ فإن أكثر الناس يفهم القواعد، ويقر بها على الإجمال، ويدعها عند التفصيل. والله أعلم.
كتبه محمد بن عبد الوهاب. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم،
ومِن خط مَن نقله مِن خط الشيخ محمد نقلت، وذلك آخر سنة 1343.