المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسائل وفتاوي للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عبد الوهاب - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الأول)

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌القسم الأول

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ محمد عبد الوهاب وأبنائه

- ‌رسائل وفتاوي أبناء الشيخ محمد عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عبد الوهاب

- ‌القسم الثاني

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ عبد الرحمن بن محسن

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن محسن

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ حسن بن الشيخ حسين

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ علي بن حسين بن الشيخ

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ سليمان بن عبد الله

- ‌الشيخ حسين بن الشيخ محمد عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ سليمان بن علي

- ‌القسم الثالث

- ‌رسائل وفتاوي الشيخ حمد بن ناصر بن معمر

- ‌رسائل وفتاوي للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين

- ‌رسائل وفتاوىالشّيخ سعيد بن حجي

- ‌رسائل الشيخ أحمد بن حسن القصير الأشقري

- ‌رسائل الشيخ محمد بن عبد الله ين إسماعيل

- ‌رسائل الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل

- ‌رسائل للشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار

- ‌رسائل الشيخ حمد بن عتيق

- ‌رسالةلبعض علماء المسلمين من أهل نجد

- ‌رسائل الشيخ محمد بن أحمد بن محمد القصير

- ‌رسائل لبعض علماء الدرعية

- ‌رسالة للشّيخ محمّد بن عمر بن سليم

الفصل: ‌رسائل وفتاوي للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عبد الوهاب

‌رسائل وفتاوي للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عبد الوهاب

آيات الصفات وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام

مذهب السلف في إثبات صفات الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام الداعي إلى دين سيد الأنام محمد بن عبد الوهاب بن الشيخ سليمان مفتي الديار النجدية في زمنه ابن علي بن مشرف، رحمهم الله تعالى، وجزاهم عن الإسلام، والمسلمين أفضل الجزاء، آمين.

-1-

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.

الجواب- وبالله التوفيق- عن المبحث الأول عن آيات الصفات، وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام.

فنقول: الذي نعتقد، وندين الله به هو مذهب سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة، وأصحابهم رضي الله عنهم أجمعين- وهو: الإيمان بذلك، والإقرار به، وإمراره كما جاء من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، قال الله -تعالى -:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النّساء: 115] .وقد شهد الله -تعالى- لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم

ص: 48

بإحسان- بالإيمان فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة؛ فقال- تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} الآية [التّوبة من الآية: 100] .

وقال –تعالى-: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الفتح من الآية: 18] .

فثبت بالكتاب الكريم أن من اتبع سبيلهم فهو على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل.

فَمِن سبيلهم في الاعتقاد الإيمان بصفات الله -تعالى - وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنْزيله، أو على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين؛ بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها، صادق لا شك في صدقه فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه.

وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع، والوقوف حيث وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها، والعدول عن طريقهم، وبينوا لنا سبيلهم، ومذاهبهم وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف والمُحْدَثَات الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام من الآية: 159] .

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] .

ونرجو أن يجعلنا الله -تعالى - مِمّنْ يقتدي بهم في بيان ما بينوه، وسلوك الطريق الذي سلكوه؛ والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نقل مصدق لها، مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاكٍ في صدق

ص: 49

قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأوّلُوه، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لَنُقِلَ عنهم، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا مَنْ يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وتأديبه، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدّالّ على شدة الكراهة لمسألته.

ولمّا سُئِل مالك بن أنس –رحمه الله تعالى- عن الاستواء كيف هو فقيل له: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى فأطرق مالك -رحمه الله تعالى- وعلاه الرحضاء، يعني: العرق، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء. وأمر به فأُخْرِج.

ومَنْ أوَّلَ الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله، وهذا الجواب من مالك -رحمه الله تعالى- في الاستواء شافٍ كافٍ في جميع الصفات مثل: النُزول، والمجيء واليد، والوجه، وغيرها.

فيُقال في مثل النُزول: النُزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة، وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي عن صفات الله -تعالى- فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تنكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه، أو على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم

ص: 50

تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنْزيله، وشهد له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون به تشبيها بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية.

وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومَنَّ عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنْزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى من الآية: 11] .

وبقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3-4] .

وثبت عن الحميدي شيخ البخاري، وغيره من أئمة الحديث أنه قال: أصول السنة فذكر أشياء وقال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة من الآية: 64]، ومثل:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزّمر من الآية: 67] ، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ؛ ومن زعم غير هذا فهو جهمي.

فمذهب السلف -رحمة الله عليهم- إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه، فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ولا تشبيه 1، وعلى هذا مضى السلف كلهم. ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لطال الكلام جدا.

فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفى بما قدمناه، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال لم يزده التطويل إلا الخروج عن سواء السبيل والله الموفق.

1 أي فكذلك الصفات إثباتها إثبات وجود لا كيفية ولا تشبيه.

ص: 51

استحالة خلو النصوص وآثار السلف مما يجب في الصفات

وقد بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج: {النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم من الآية: 1] ، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه، وسراجا منيرا؛ وأمره أن يقول:{هذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف من الآية: 108] .

ومن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، وإلى سبيله بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله تعالى بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال -مع هذا وغيره- أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله، والعلم به متلبسا مشتبها، ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه؛ فإن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا

ومن المحال -أيضا- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال:"تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"1.

وقال فيما صح عنه أيضا: " ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلم لهم"2، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/126) .

2 مسلم: الإمارة (1844)، والنسائي: البيعة (4191)، وابن ماجه: الفتن (3956) ، وأحمد (2/191) .

ص: 52

مقاما، فذكر فيه بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه "1 رواه البخاري.

محال مع هذا أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب؛ بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية؛ فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن يظن أنه قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم إخلال بهذا ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه، أو ناقصين عنه.

تفنيد من قال: مذهب الخلف أولى

ثم من المحال أن تكون القرون الفاضلة: القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك إما لعدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق؛ وكلاهما ممتنع.

(أما الأول) : فلأن من في قلبه أدنى حياة في طلب العلم، أو همة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه معرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، وليست النفوس الزكية إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الباب؛ وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي الذي هو أقوى المقتضيات أن يتخلف عن مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم.

هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على الدنيا، والغفلة عن ذكر الله؛ فكيف يقع في أولئك الفضلاء والسادة النجباء

1 البخاري: بدء الخلق (3192) .

ص: 53

وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق وقائليه، فهذا لا يعتقده مسلم عرف حال القوم؛ ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السابقين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم. فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنْزلة الأميين الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 7] ،

وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات؛ فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر. وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.

وسبب ذلك: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها أهل الجهل والضلال من الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، ومن سلك سبيلهم من الضالين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف-، وبين صرف اللفظ إلى معنى بنوع تكلف؛ وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع. فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وبراهين قاطعات وهي شبهات

ص: 54

وضلالات متناقضات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه؛ فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنْزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم، ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلفاء الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله. وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في نهاية الجهالة، بل في غاية الضلالة.

كيف يكون هؤلاء المتأخرين؟ -لا سيما- والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله تعالى حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:

لعمري قد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم حيث يقول:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

النصوص وإجماع السلف على علو الله تعالى على خلقه

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا؛ ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر من الآية: 10]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] .

واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى من الآية: 11] ،

ص: 55

{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه من الآية: 110] .

قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام.

ومن تأمل ما ذكرنا، علم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين لهم بإحسان، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وشهادة الأمة على ذلك. وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله تعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء. وقد فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين، أو ألوفا.

ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا؛ ولم يقل أحد منهم أن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا

ص: 56

منفصل، ولا أنه لا تجوز إليه الإشارة الحسية؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول:"ألا هل بلغت فيقولون نعم فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد "غير مرة. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين. فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله، ثم على الأمة، أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق؟ ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا يدلون عليه حتى يجيء أنباط الفرس، وفروخ الفلاسفة، فيبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف وفاضل اعتقادها، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفتها على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا، أو ظاهرا؟ يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات لا تعتقدوا ما دلت عليه! لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم؛ فإنه الحق وما خالفه فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه وانفوه؟ ثم الرسول –صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة فقد علم ما سيكون في أمته من الاختلاف، ثم قال:" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله"1.وروي أنه قال في صفة الفرقة الناجية هو "من كان على

1 الترمذي: المناقب (3788) ، وأحمد (3/14 ،3/26 ،3/59) .

ص: 57

مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1.فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة.

ثم إن أصل مقالة التعطيل للصفات إنما أخذت عن تلامذة اليهود، والمشركين، وضلال الصابئين؛ فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه.

وقيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أصل هذه المقالة مقالة التعطيل والتأويل مأخوذة من تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل، أن يسلك سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين

الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها

وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولان: تجري على ظاهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتان.

أما الأولون فقسمان:

(أحدهما) : من يجريها على ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، وإليهم توجه الرد بالحق.

(والثاني) : من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري اسم الله العليم، والقدير، والرب، والموجود، والذات على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، فإن

1 الترمذي: الإيمان (2641) .

ص: 58

ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضى، والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام.

فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما، وقدرة وكلاما، ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين؛ وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح لمن هداه الله؛ فإن الصفات كالذات.

فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين. فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودة، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته. فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوقين فقد ضل في عقله ودينه، وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه أو نحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه فإذا قال: لا يعلم هو إلا هو، وكنه الباري غير معقول للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف؛ فكيف يمكن أن يعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي 1.بل هذه المخلوقات في

1 قوله على الوجه الذي ينبغي إلخ – كذا في الأصل وهو غير ظاهر.

ص: 59

الجنة فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وقد أخبر الله -سبحانه- أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "1 فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله تعالى كذلك، فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفيته تعالى مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه، وتعرج إلى السماء، وأنها تسلُّ منه وقت النَزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة.

وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها: أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله -تعالى-، وأن الله -تعالى- لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية، وإما إضافية، وإما مركبة منهما؛ ويثبتون بعض الصفات، وهي السبع والثمان، والخمس عشرة على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، فهؤلاء قسمان:

(قسم) يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكان والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين.

(وقسم) يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه.

وأما القسمان الواقفان:

(فقسم) يقولون يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة لله، ونحو ذلك؛ وهذه طريقة

1 البخاري: بدء الخلق (3244)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824)، والترمذي: تفسير القرآن (3197)، وابن ماجه: الزهد (4328) ، وأحمد (2/313 ،2/438 ،2/466 ،2/495)، والدارمي: الرقاق (2828) .

ص: 60

كثير من الفقهاء وغيرهم.

(وقسم) يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وتلاوة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات كلها. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها.

والصواب في ذلك: القطع بالطريقة السلفية، وهي اعتقاد الشافعي ومالك والثوري والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهي اعتقاد المشايخ المقتدى بهم كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم؛ فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة -رحمه الله تعالى.

واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة في التوحيد والقدر وغير ذلك.

أقوال علماء السلف وأئمة الفقه في الصفات

قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. فبين -رحمه الله تعالى- أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: لا يتجاوز القرآن والحديث.

وقد ثبت في الصحيح أنه قال للجارية: " أين الله قالت في السماء. قال: من أنا قالت: رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة" 1، وهذا الحديث رواه الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، ومسلم في صحيحه، وغيره. وأهل السنة يعلمون أنه ليس معنى ذلك أن الله تعالى في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه؛ فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، والنسائي: السهو (1218)، وأبو داود: الصلاة (930) والأيمان والنذور (3282) .

ص: 61

بن أنس -رحمه الله تعالى-: إن الله تعالى في السماء، وعلمه في كل مكان. وقالوا لعبد الله بن المبارك بماذا نعرف ربنا قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا. وقال الأوزاعي: كنا، والتابعون متوافرون، نقر بأن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. فمن اعتقد أن الله تعالى في جوف السماء محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش، أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على سريره، فهو ضال، مبتدع، جاهل.

ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، فهو معطل، فرعوني، ضال، مبتدع؛ فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السموات وقال:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر من الآيتين: 36-37] .

ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السموات فإنه لما كان ليلة المعراج، وعرج به إلى السماء، وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه رجع إلى موسى وقال له: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح.

فمن وافق فرعون، وخالف موسى ومحمدا -صلى الله عليهما وسلم، فهو ضال؛ ومن مثل الله بخلقه فهو ضال مشبه؛ قال نعيم بن حماد -رحمه الله تعالى-: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. انتهى. ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل؛ وقد قال

ص: 62

تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام من الآية: 68] .واعلم أن كثيرا من المصنفين ينسبون إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبي حنيفة من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه؛ ويقولون لمن تبعهم: هذا الذي نقوله اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك، كما يتبين كذب كثير من الناس فيما ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضيفونه إلى سنته من البدع والأقوال الباطلة.

(ومنهم) : من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء؛ ويكون أولئك العقلاء طائفة من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة. فقد قال الشافعي رضي الله عنه: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، والنعال، ويطاف بهم في القبائل، والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.

فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟ وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقال أحمد بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح، وقال: علماء الكلام زنادقة، وكثير من هؤلاء قرؤوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابها؛ فإنهم يجدون في تلك الكتب أن الله تعالى لو كان فوق الخلق لزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعلمون حقائق هذه الألفاظ، وما أراد بها أصحابها؛ ومن اشتبه عليه ذلك، أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا

ص: 63

فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"1.

فإذا افتقر العبد إلى الله تعالى ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، انفتح له الباب وتبين له الصواب بمشيئة الملك الوهاب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين

الاستغاثة بالمخلوق عند الشدائد

(فصل) وأما المبحث الثاني عمن كان يستغيث بالمخلوق عند الشدائد بالنداء والدعاء، ويستغيث، ويتوسل، ويتوجه بنبيه أو بالصالحين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الصباح:" أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن تقبلني في هذه الغداة"، مع الحديث الآخر:"أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك قال: ادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي؛ اللهم فشفعه في"2.

فهذان الحديثان مصرحان بالتوسل والتوجه والدعاء والتشفع والنداء؛ وما حكم من فعل ذلك وهو غير قاصد للشرك ولا معاند للإسلام؟ الفرق ظهر بينه وبين من قصد الشرك والعناد بعد معرفة التوحيد فنقول:

(الجواب) وبالله التوفيق: أما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، تفريج الكربات وإغاثة اللهفات، والاستغاثة به في الأمور المهمات، فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين.

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770)، والترمذي: الدعوات (3420)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625)، وأبو داود: الصلاة (767)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، وأحمد (6/156) .

2 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .

ص: 64

وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، أو نزلت به كربة وشدة، يقول لميت: يا سيدي فلان حسبك، أو اقض حاجتي، أو أنا مستشفع بك إلى ربي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.

ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون قبورهم للدعاء والصلاة عندها.

ولهذا ثبت في الصحيح أن الناس لما قحطوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك إذا أجدبنا بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا! فيسقون، وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد بن الأسود الجرشي.

فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسل بعده بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود؛ وهذا الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، وقالوا يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل.

سؤال الميت قضاء حاجته

وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن الشرع: من يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ وقد قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء من الآيتين: 56-57] .قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، والمسيح، وعزيرا، فقال الله لهم: هؤلاء

ص: 65

عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي؛ فكل من دعا نبيا، أو وليا، أو صالحا، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوًّا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه. فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء، أو الصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.

ومعلوم أن هؤلاء كلهم يجعلونهم وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته، أو قدره؛ ولهذا قال:{وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء من الآية: 56] ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة، أو الجن، فقد دعا من لا يغيث ولا يملك كشف ضره ولا تحويله.

وقد قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] ، وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أن لا يجوز الاستغاثة بمخلوق؛ وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استغاث بكلمات الله، وأمر بذلك، فدل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وأنها صفة من صفاته لأن الاستغاثة بالمخلوق لا تجوز.

الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله

والمقصود أن يعلم السائل -وفقه الله تعالى- أن الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله من كشف الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات، من الشرك الذي لا يغفره الله؛ وهو من الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} الآية [النّساء من الآية: 171] ،

ص: 66

وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]1.

والغلو في الصالحين هو من فعل المشركين كما حكاه سبحانه وتعالى عن قوم نوح في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} الآية [نوح: 23] ، قال ابن عباس رضي الله عنه هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد. حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.

فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزّمر من الآية: 3]، ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس من الآية: 18] .

كما أخبر الله -تعالى- عنهم بذلك في كتابه في غير ما آية؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وعبادة الله تعالى وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي أمر الله تعالى به بالرسل، وأنزل به الكتب قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل من الآية: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله

1 سورة المائدة آية: 77.

ص: 67

وشئت قال: "أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده"1، وقال فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "2، ونهى عن الحلف بغير الله وقال:" من حلف بغير الله فقد أشرك"3، وقال في مرض موته:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا"4، وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"5 رواه مالك في الموطأ.

وروى الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله"؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه. فأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {الله لَا إِلَهَ إِِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة، من الآية: 255]، وقال صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"6، والإله الذي يأله القلب خشية له وإجلالا وإكراما.

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها؛ وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن ذلك إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النّساء من الآية: 48، و116] .

وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النّساء من الآية: 48] .ولما كان للمشركين سدرة يعكفون عندها، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم"7 فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم.

فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها،

1 أحمد (1/214) .

2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47) .

3 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .

4 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529)، والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/146 ،6/228 ،6/252 ،6/255 ،6/274 ،6/275)، والدارمي: الصلاة (1403) .

5 أحمد (2/246) .

6 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .

7 مسند أحمد (5/218 ،5/340) .

ص: 68

فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه والدعاء عنده، أو الدعاء به وأي شبه للفتنة بالشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا وبالله التوفيق.

التوسل وسؤال الله بالمخلوق دون سؤال المخلوق

(النوع الثاني) : من الأمور المبتدعة عند القبور أن يسأل الله تعالى به؛ وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، ولكن بعض العلماء يرخص فيه وبعضهم ينهى عنه ويكرهه. وليس هذا مثل النوع الذي قبله، فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر عند من كرهه ولا يسمى هذا استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو سؤال به.

والفرق بينه وبين الذي قبله فرق عظيم، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والسائل -سامحه الله تعالى- لم يفرق بين هذا وهذا، وجعل هذين النوعين نوعا واحدا. وهذا جهل عظيم بدين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما درج عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم. والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين، كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، ولا يسألونها، وينادونها؛ فإن المستغيث بالشيء طالب منه، سائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به. وكل أحد يفرق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر.

ص: 69

والاستغاثة طلب العون؛ والمخلوق إنما يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال من الآية:]، وكما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص من الآية: 5] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله، كما قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النّمل من الآية: 62] .

حتى إن المشركين عبدة الأوثان يخلصون الدعاء لله، والاستغاثة في الشدة، وينسون ما يشركون، لعلمهم أنه لا يقدر على تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات إلا رب الأرض والسموات، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء من الآية: 67] .

وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] .

وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [لقمان من الآية: 32] .

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزّمر: 8] .ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم أن من قال: أتوسل إليك برسولك، أو أتوجه إليك برسولك، فقد استغاث به حقيقة؛ فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، فيفرقون بين المسؤول، وبين المسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق؛ فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر عليه والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.

فلو قال قائل فيمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد إنه استغاث بمن توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى أن المغيث بمعنى المجيب، لكن

ص: 70

الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال.

التوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم

والتوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم لا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روي فيه أثر؛ وقد قال أبو الحسين القدوري الحنفي في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك؛ وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره هذا؛ وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره، قالوا جميعا. انتهى.

وكذلك قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام الفقيه الشافعي في فتاويه المشهورة عنه: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى بخلقه، إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، يعني حديث الأعمى الذي رواه الترمذي وغيره.

والمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق؛ فلا يجوز أن يسأل ما ليس بمستحق، ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق، أو بالخالق فيه نزاع بينهم؛ فلذلك تنازعوا فيه. وأبو يوسف بلغه الأثر فيه: أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى وكلماتك التامة؛ فجوزه لذلك، والله أعلم.

(وأما الجواب) عن الحديثين المذكورين، فمن وجوه:

(أحدها) : أن يقال: قد أجاب عنهما غير واحد من العلماء، على تقدير صحتهما، بأن المعنى بحق السائلين عليك أي: الحق الذي أوجبه الله تعالى على نفسه للسائلين وهو الإجابة؛ ولا ريب أن الله تعالى جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرّوم من الآية: 47]، وكما قال تعالى: {كَتَبَ

ص: 71

رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54]، وفي حديث معاذ في الصحيحين:"أتدري ما حق العباد على الله قلت: الله ورسوله أعلم"1 الحديث: فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق؛ وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا هل يوجب بنفسه على نفسه ومن جوز ذلك احتج بقوله:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54] ، وبقوله في الحديث "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما "2.

وأما الإيجاب عليه والتحريم بالقياس على خلقه، فهو قول القدرية والمعتزلة؛ وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول؛ ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54] ، وحرم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم وهو المرسل، إليهم الرسل وهو الميسر لهم الإيمان والعمل. وإذا كان كذلك فالحق الذي لعباده هو من فضله وامتنانه، وإذا سئل بما جعله هو سببا للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها كرامته وإجابته لدعائهم، فهو سؤال وتسبب بما جعله الله سببا.

(الوجه الثاني) : أن يقال: أن الله إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب، فإما أن يكون إقساما عليه به فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة.

فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وكلماته التامة هذا حق وليس فيه محذور، وأما إذا سئل بنفس ذوات الأنبياء والصالحين لم يكن في ذلك سبب يقتضي المطلوب.

1 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (3/260 ،5/228 ،5/229 ،5/230 ،5/234 ،5/236 ،5/238 ،5/242) .

2 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) ، وأحمد (5/160) .

ص: 72

(الوجه الثالث) : أن يقال: الذي جاءت به السنة وتواتر في الأحاديث هو التوسل والتوجه إلى الله والإقسام عليه بأسمائه وصفاته، وبالأعمال الصالحة كالأدعية المعروفة في السنن:"اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام"1 الحديث. وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد"2.

وفي الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3 الحديث. وقد أخبر الله تعالى عن عباده الصالحين أنهم توسلوا إليه بالأعمال الصالحة فقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} الآيات [آل عمران من الآية: 193] .

وكما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فدعوا الله وتوسلوا إليه بالأعمال الصالحة، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم؛ فهذا مما لا نزاع فيه،، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة: من الآية35] .

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [الإسراء من الآية: 57] .

فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له والاستعانة به رغبة إليه في طلب المنافع ودفع المضار؛ ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا بمعنى العبادة والدعاء بمعنى المسألة؛ وإن كان

1 الترمذي: الدعوات (3544)، والنسائي: السهو (1300)، وأبو داود: الصلاة (1495)، وابن ماجه: الدعاء (3858) ، وأحمد (3/120 ،3/158 ،3/245 ،3/265) .

2 الترمذي: الدعوات (3475)، وابن ماجه: الدعاء (3857) .

3 أحمد (1/452) .

ص: 73

كل منهما مستلزما للآخر لكن العبد قد تنْزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة.

(الوجه الرابع) : أن يقال: قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها.

كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأنه من الشرك الذي حرم الله قال الله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشّعراء: 213] .

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف الآيتان: 5-6] وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] .وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18] .ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة علم علما ضروريا أن الميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره.

وأما حديث الأعمى فليس فيه -بحمد الله- إشكال؛ فإنه إنما توجه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، فإن في الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له "فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت. فقال: فادعه. وقال في آخره: اللهم فشفعه في"1 فعلم أنه شفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون

1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .

ص: 74

بدعائه وشفاعته في الاستسقاء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وشفاعته، ليس المراد أنا نقسم عليك به وما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عبدك، ويقولون إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه. ولو كان هذا هو التوسل الذي يفعله الصحابة، لفعلوا ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس؛ فعلم أن ذلك التوسل الذي في حديث عمر والذي في حديث الأعمى هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم. فالأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء وأمره أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه.

فقوله في الحديث: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"1 أي بدعائه وشفاعته، فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد. وقوله: يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي، أجاب عنه العلماء بأن هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ليس سؤاله والاستغاثة به.

(الوجه الخامس) : أن يقال: هذا الحديث رواه النسائي في اليوم والليلة، والإمامان البيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم من حديث عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه الكلمة أعني قوله: يا محمد يا نبي الله، ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله

1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .

ص: 75

قد أصبت في بصري فادع الله لي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة. أني أتشفع به إليك في رد بصري. اللهم شفع نبيي في. ففعل ذلك فرد الله عليه بصره، وقال له: إذا كانت لك حاجة فمثل ذلك فافعل".انتهى. ولفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراط، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، فيراد به التسبب به لكونه داعيا وشائعا مثلا، أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته؛ فهذا الثاني هو الذي كرهه العلماء ونهوا عنه.

المستحب والممنوع عند قبره صلى الله عليه وسلم

(النوع الثالث) من الأنواع المبتدعة عند القبور: أن يظن أن الدعاء عندها مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد القبر لذلك، فإن هذا من المنكرات إجماعا، ولم نعلم في ذلك نزاعا بين أئمة الدين. وإن كان كثير من المتأخرين يفعله، فإن هذا أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء ولا الصالحين المتقدمين؛ بل أكثر ما ينقل ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا استغاثوا به؛ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، فما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا توسلوا به، ولا استسقوا عنده واستنصروا عنده ولا به.

ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو وقع، بل على ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، علم قطعا أن القوم ما كانوا

ص: 76

يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا؛ بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم. فمن ذلك ما رواه، أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر، ثنا يزيد بن الحباب، أنبأنا جعفر بن إبراهيم، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيدعو فيها، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنت"1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه.

وروى سعيد في سننه عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم مقابر؛ وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.

وروى سعيد أيضا عن أبي سعيد مولى المهدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا؛ وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغن ي"3، فهذان المرسلان من وجهين مختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد روي مسندا؟ ووجه الدلالة أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

ص: 77

اتخاذه عيدا‘ فغيره أولى بالنهي كائنا من كان. ثم إنه قرن ذلك بقوله: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورا"1 أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء فتكون بمنْزلة القبور؛ فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-:إذا سلم الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم أراد الدعاء، فليستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره.

وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا: يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة، وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. فقصد الدعاء عند القبر كرهه السلف متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري عيدا "2 كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين، والحسن بن الحسن ابن عمه، وهما أفضل أهل البيت من التابعين، وأعلم بهذا الشأن من غيرهما لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا.

وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنهم أخبروا من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو أن ينصرف فيستقبل القبلة، وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كما ذكرناه عن مالك وغيره، وكذلك غير واحد من المتأخرين مثل أبي الوفاء ابن عقيل، وأبي الفرج بن الجوزي. ولا يحفظ عن صاحب، ولا عن تابع، ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن الأئمة المعروفين، والله أعلم.

الجهل بالشرك مانع من التكفير حتى تقوم الحجة

(فصل) المبحث الثالث فيمن مات على التوحيد، وإقامة قواعد الإسلام الخمس، وأصول الإيمان الستة، ولكنه كان يدعو وينادي ويتوسل في الدعاء

1 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777)، والترمذي: الصلاة (451)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598)، وأبو داود: الصلاة (1448)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) ، وأحمد (2/6) .

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

ص: 78

إذا دعا ربه ويتوجه بنبيه في دعائه معتمدا على الحديثين اللذين ذكرناهما، أو جهلا منه وغباوة، كيف حكمهم؟

(فالجواب) أن يقال: قد قدمنا الكلام على سؤال الميت، والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه، وبين التوسل به في الدعاء، وأن سؤال الميت، والاستغاثة به في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، من الشرك الأكبر الذي حرمه الله تعالى ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية على تحريمه وتكفير فاعله والبراءة منه ومعاداته؛ ولكن في أزمنة الفترات، وغلبة الجهل لا يكفر الشخص المعين بذلك حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله. فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر؛ بخلاف من فعل ذلك جهالة منه ولم ينبه على ذلك. فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه؛ فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة.

وهذا الدين الذي ندعو إليه قد ظهر أمره، وشاع، وذاع، وملأ الأسماع من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا وأخرجونا وعادونا عنده، وقاتلونا واستحلوا دمائنا وأموالنا؛ ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله، والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات حتى غُلبوا وقهروا فعند ذلك أذعنوا، وأقروا بعد الإنكار. وأما من مات وهو يفعل الشرك جهلا لا عنادا، فهذا نكل أمره إلى الله تعالى، ولا ينبغي الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له؛ وذلك لأن كثيرا من العلماء يقولون: من بلغه القرآن

ص: 79

فقد قامت عليه الحجة كما قال تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام من الآية: 19] ، فإذا بلغه القرآن، وأعرض عنه، ولم يبحث عن أوامره، ونواهيه فقد استوجب العقاب قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] .

وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} [طه من الآيات: 99-101] .

تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك والجهل

(فصل) وأما المبحث الرابع في تقسيم مواريث من مات على ذلك، وما حصل منهم من الإتلافات، وما وقع بينهم من القتل وغيره، ما حكمه.

(فالجواب) : تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك الجهل تقر على ما هو عليه، ولا ترد القسمة في الإسلام؛ ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية لم ينْزع من يده في الإسلام؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.

وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء من ذلك؛ وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين أكثرهم حاله كحال أهل الجاهلية الأولى. وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها تخالف أحكام الشرع في المواريث، والدماء، والديات، وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم وتملكوه من المظالم ونحوها؛ وأما الديون والأمانات فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم.

قسمة المواريث والصدقات المفروضة

(فصل) وأما المبحث الخامس فيما انفرد الله سبحانه وتعالى بتقسيمه في كتابه العزيز من المواريث والصدقات المفروضة إلخ.

(فالجواب) أن يقال: إن المواريث التي قسمت في الشرك، وتملكها أهلها ثم أسلموا، لا ترد قسمتها؛ ومن أسلم على شيء أقر في يده إذا كان قد

ص: 80

تملكه في جاهليته. وأما إذا لم تقسم التركة، وأسلم أهلها وهي موقوفة، فإنها لا تقسم إلاعلى قسمة الله تعالى في كتابه العزيز التي يعرفها أهل العلم.

وأما قسمة الصدقات المفروضة، فقد قسمها سبحانه وتعالى في ثمانية أصناف لا يجوز صرفها إلى غيرهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء؛ لكن اختلفوا هل المراد أنها تقسم بين الأصناف الثمانية بالسوية كما يقسم الميراث بين أهله، وأنه لا بد من تعميم الأصناف الثمانية، أو المراد بذلك بيان المصرف، وأنها لا تصرف إلى غير هؤلاء، وأنه يجوز صرفها إلى بعض الأصناف دون بعض بحسب الحاجة والمصلحة؟ فذهب الشافعي إلى أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية، وذهب الجمهور إلى جواز عدم التعميم؛ واحتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وبقوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة من الآية: 271]، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ:"تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم"1 فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفا واحدا.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بني زريق أن يدفعوا صدقتهم إلى سلمة بن صخر، وقال لقبيصة "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها"2، لو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز صرفها إلى واحد؛ ولهذا قال الجمهور: يجوز صرفها إلى واحد، وهو مروي عن عمر، وحذيفة، وابن عباس، وبه يقول سعيد بن جبير، والحسن، وعطاء، وإليه ذهب الثوري، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي، وهو مذهب الإمام أحمد.

استغلال المرتهن للرهن

(وأما المبحث السادس) في الأمور التي تكون الأراضي مرهونة بها، ويستغلها المرتهن، أو يأخذ شطرا من غلاتها والمرهون بها البيوت، والبنادق، والحلي

1 البخاري: الزكاة (1496)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .

2 مسلم: الزكاة (1044)، وأبو داود: الزكاة (1640) ، وأحمد (5/60)، والدارمي: الزكاة (1678) .

ص: 81

وينتفع بها المرتهن، وبطلانها معلوم، فلما أرادوا مخارجتهم شرعوا فيه شرائع من تلقاء أنفسهم، وجعلوا الدراهم مناجمة في ستة سنين، أو أكثر، أو يقطعون لصاحب الدراهم قطعة من الأرض المرهونة لا تساوي ثلث ولا ربع المال، وأجبروه على ذلك إلخ.

(فالجواب) : أن المفتى به عندنا أن الرهن وثيقة في الدين، يباع عند حلول الدين إذا امتنع الراهن من الوفاء؛ فمتى امتنع الراهن من الوفاء، وطلب المرتهن بيع الرهن بيع، واستوفى من ثمنه، ولم يجز مطله، ولا إجباره على المناجمة، ومن أجبره على المناجمة فهو جاهل، ومن نسب ذلك إلينا فقد غلط، بل لا يجوز ذلك عندنا إلا برضىالمرتهن.

تقبيل أيدي العلماء والصالحين

(وأما المبحث السابع) إذا قبل الرجل كف غيره، لا للتعبد، ولا لغناه، ولا لدنياه، ولا لشوكته، بل لنحو صلاحه، وعلمه، وزهده، وشرفه، وخصاله المحمودة.

(فالجواب) أنه لم يكن من عادة السلف تقبيل أيدي العلماء والصالحين، بل لم يكن من عادتهم تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق -صلوات الله وسلامه عليه-.

فمن جعل ذلك عادة فقد خالف ما عليه السلف، وأما من فعل ذلك بعض الأحيان ولم يجعله عادة مستمرة فهذا لا بأس به، بل قد يستحب، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور عن ابن عمر أنهم "لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة مؤتة قالوا: يا رسول الله نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكارون أنا لكم فئة. قال: فقبلنا يديه ورجليه "1، وكذلك أبو عبيدة قبل يد عمر، وزيد بن ثابت قبل يد ابن عباس؛ وهذا إنما فعلوه لأمر يوجب ذلك بعض الأحيان، ولم يجعلوه عادة مستمرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

1 الترمذي: الجهاد (1716)، وأبو داود: الجهاد (2647) .

ص: 82

(وأما المبحث الثامن) عن التنباك الذي اختلف فيه آراء علماء الإسلام؛ فمنهم من أفتى بحله، ومنهم من أفتى بتحريمه بقيد وتعليق؛ ومنهم من أفتى بتحريمه مطلقا، ولما بلغنا أنكم أفتيتم فيه بأنه من المسكرات اعتمدنا على قولكم، فعارض بعض الراحلين من عندكم فقالوا: من شربه بعدما تاب منه فقد ارتد وحل دمه وماله.

(فالجواب) : أن من نسب إلينا القول بهذا فقد كذب وافترى، بل من قال هذا القول استحق التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله؛ فإن هذا مخالف للكتاب، بل لو تاب منه ثم عاد إلى شربه لم يحكم بكفره وردته، ولو أصر على ذلك، إذا لم يستحله 1.والتكفير بالذنوب مذهب الخوارج الذين مرقوا من الإسلام واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي.

حلق شعر الرأس

(وأما المبحث التاسع) عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدا.

(فالجواب) : أن هذا كذب وافتراء علينا، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فإن الكفر والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام؛ وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل إن الحلق مسنون، فضلا عن

1 هذا القيد يذكره العلماء في المعاصي المجمع على تحريمها كالزنا والخمر، فمن استحلها كان كافرا لرده النصوص القطعية والإجماع، وأما ما اختلف العلماء في تحريمه لاختلاف اجتهادهم فلا يكفر مستحله قطعا، وما ذكر المصنف القيد هنا إلا بحسب العادة المتبعة في المحرمات الاجتماعية المعلومة من الدين بالضرورة كما سيأتي له في مسألة حلق الشعر الآتية.

ص: 83

أن يكون واجبا، فضلا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع، وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه؛ وهذا هو الذي نهينا عنه، ونؤدب فاعله، ولكن الجهال القادمون إليكم لا يميزون أنواع الكفر والردة، وكثير منهم غرضه نهب الأموال. ونحن لم نأمر أحدا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه، بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله تعالى، والتزام شرائع الإسلام، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان.

فإذا فعلوا خلاف ذلك، وبلغنا ذلك من فعلهم، لم نقرهم على ذلك؛ بل نبرأ إلى الله من فعلهم، ونؤدبهم على قدر جرائمهم بحول الله وقوته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الحِلْف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع

(وأما المبحث العاشر) في قوم اجتمعوا، وعقدوا بينهم العهود في المؤازرة والمناصرة، والمعاونة على الأضياف، والمدافعة؛ وأنهم يعقلون في الدماء عمدها وخطئها، فهل يجب الوفاء بها إذا كان في ذلك صلاح فإذا كان الحلف قد صدر منهم في الجاهلية، فهل يلزم لقوله صلى الله عليه وسلم: كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة وهل يجوز إحداثه في الإسلام إذا وجد فيه صلاح

(فالجواب) : أن الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع لم يجز التزامه، ولا الوفاء به؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق؛ كما ثبت في الصحيحين في حديث بريدة رضي الله عنه:"ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط "1.

وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه يخالف حكم الله؛ فإن الحكم الشرعي أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطأ على العاقلة؛ وهذا أمر لا خلاف فيه بين العلماء فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي بحلف

1 البخاري: البيوع (2168)، ومسلم: العتق (1504)، وأبو داود: العتق (3929)، ومالك: العتق والولاء (1519) .

ص: 84

الجاهلية وعقودهم وعهودهم وأما قوله عليه السلام: " كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة "1 فهذا فيما وافق الشرع ولم يخالفه، كالتحالف على فعل البر والتقوى، وكالتحالف على دفع الظلم، ونحو ذلك؛ وأما إحداث التحالف بعد الإسلام فلا يجوز؛ لقوله عليه السلام:"لا حلف في الإسلام"2؛ وذلك لأن الإسلام يوجب على المسلمين التعاون والتناصر بلا حلف، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، وقال صلى الله عليه وسلم:"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه ولا يخذله"3، وقال "المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا"4.

هذا إذا كان الناس مجتمعين على إمام واحد، وأما إذا حصل التفرق والاختلاف -والعياذ بالله-، ولا يمكن التعاون والتناصر إلا بالتحالف، فهذا لا بأس به إذا لم يخالف أحكام الشرع، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم-.

انتهى المنقول من المنقول منه وذلك في 10 شوال سنة 1345، بقلم عبد الله بن إبراهيم الربيعي. هذه المباحث للشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم.

مسائل في الصلاة وما يتعلق بها

المرأة المصابة بالجدري هل يجب عليها الغسل من الجنابة أو الحيض

بسم الله الرحمن الرحيم

(مسألة) في المرأة إذا أتاها الجدري، وحاضت، وانقطع الدم، ولم تغتسل، هل تصلي وتصوم ولا يلزمها إعادة؟ وكذلك هل يجب عليها الغسل من الجنابة أو الحيض إذا أصابها

(الجواب) : المرأة إذا حاضت وهي مجدورة، فإذا انقطع عنها الدم اغتسلت، فإن عجزت عن ذلك، أو خافت الضرر تيممت ثم صلت وصامت؛

1 مسلم: فضائل الصحابة (2530)، وأبو داود: الفرائض (2925) ، وأحمد (4/83) .

2 البخاري: الحوالات (2294)، ومسلم: فضائل الصحابة (2529) .

3 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) ، وأحمد (2/277) .

4 البخاري: الصلاة (481)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2585)، والترمذي: البر والصلة (1928)، والنسائي: الزكاة (2560) .

ص: 85

ولا يلزمها إعادة إذا برئت من مرضها، بل عليها أن تغتسل متى قدرت على الغسل بلا ضرر يلحقها.

المجدور والمريض هل له الصلاة في أسلابه ولا إعادة أو لا

(مسألة) في المجدور والمريض هل له الصلاة في أسلابه ولا إعادة، أو لا

(الجواب) : المجدور إذا كان في أسلابه نجاسة لزمه أن يصلي في غيرها، فإن عجز عن غيرها بحيث إنه لم يكن له إلا سلب واحد، ولا يقدر على غيره، والذي عليه لا يقدر أن يحفظه عن النجاسة، فإنه يصلي فيه، ولا يصلي عريانا.

ولكن كثيرا من الناس يتساهل في هذا، فتجد من يقدر أن يفسخ سلبه ويصلي في غيره، لا يفعل ذلك؛ وهذا أمر كبير. بل تجد من الناس من يقدر على الوضوء والغسل من الجنابة ولا يغتسل ولا يتوضأ، ويعدل إلى التيمم بلا مشقة. ومنهم من يصلي قاعدا مع قدرته على القيام.

وكل هذه أمور خطرة على العوام، فينبغي لطالب العلم أن يفطنهم لما يجب عليهم من هذا، ويبين لهم حالة العذر التي تباح فيها الرخصة.

الذي يصلي مكشوف الرأس

(مسألة) في الذي يصلي مكشوف الرأس ليس على رأسه شيء بالكلية، هل يجوز ذلك أم لا والذي يصلى وليس عليه إلا القلنسوة التي يسميها (العوام) الطاقية، هل ذلك جائز أم لا

(الجواب) : الذي يصلي وهو مكشوف الرأس فلا أرى عليه بأسا؛ وستر الرأس في الصلاة ليس بواجب، لأن الرأس ما هو بعورة في حق الرجل، وإنما هو عورة في حق المرأة.

فإذا عرفت أن الذي يصلي ورأسه مكشوف أن صلاته جائزة، فالذي يصلي وعلى رأسه طاقية أولى وأحرى.

وطء المرأة المجدورة هل هو جائز، وهل يورث ضررا على المجدورة أم لا

(مسألة) في وطء المرأة المجدورة على هذا الحال هل هو جائز؟

ص: 86

وهل هو يورث ضررا على المجدورة أم لا

(الجواب) : أما وطء المرأة المجدورة فلا بأس به؛ وأما الضرر، فإن كان على المرأة ضرر في ذلك لم يكن للزوج أن يضرّ بها.

كيفية قضاء الفوائت

(مسألة) : إذا كان على المريض أو المجدور صلوات فائتة هل يجب قضاؤها على الفور مرتبات، أو يكون كل وقت مع وقت وما صفة الترتيب، وكذلك هل يجب عليه القضاء بالتيمم متى يقدر.

(الجواب) : أما المجدور الذي عليه صلوات فائتة هل يقضيها إذا قدر بالتيمم فالأمر كذلك يلزمه القضاء بالتيمم، والقضاء واجب على الفور. ويتيمم ويقضي الفوائت ولا يؤخرها حتى يقدر على الماء؛ لأن الواجب لا يؤخر عن وقته. وأما قولك: هل يصلي كل وقت مع وقته؟ فليس الأمر كذلك؛ بل ذكروا أنه يجب عليه القضاء متتابعا إلا أن يضر به ذلك بحيث لا يقدر، فيقضيها بحسب الاستطاعة في وقتين، أو ثلاثة، أو يومين.

وعبارتهم: ومن فاتته صلوات لزمه قضاؤها على الفور مرتبا ما لم يتضرر بذلك في بدنه، أو يشتغل به عن معيشة هو محتاج إليها.

قراءة الورد قبل الصلاة

(مسألة) في الذي يقرأ ورده بعد الصبح وقبل الصلاة إذا تأخر الإمام، هل يجزئه ذلك أم لا وأيما قراءة القرآن، أو الورد في هذه الساعة أحسن وهل جميع ما فعل الإنسان من ذلك فهو جائز، وقول من قال: لا يكفيه قراءة الورد قبل الصلاة هل له أصل وكذلك قراءة القرآن.

(الجواب) : قراءة الورد بعد الصبح وقبل الصلاة إذا تأخر الإمام فهو حسن -إن شاء الله- وكاف؛ فإن قرأ القرآن في تلك الساعة، وقرأ ورده بعد الصلاة فحسن أيضا. والقول بأن قراءة الورد قبل صلاة الفجر ما تكفي، فلا أعلم له أصلا.

ص: 87

هل التراب بدل لكل ما يفعل بالماء

(مسألة) : هل التراب بدل لكل ما يفعل بالماء

(الجواب) : أما التراب فهو بدل لكل ما يفعل بالماء؛ فمن عجز عن استعمال الماء، أو عدم الماء فالصعيد الطيب طهور.

حكم جلوس الحائض في المسجد للتعلم أو استماع الذكر

(مسألة) في الحائض هل لها الجلوس في المسجد لأجل استماع الذكر وتعلم أمر الدين، إذا كان يسأل عنه في المسجد، إذا كانت تأمن التلويث في المسجد، ولم ينفصل منها شيء في المسجد، وكان دمها لا ينفصل من الفرج كذلك النفساء هل حكمها حكم الحائض فيما ذكرنا، أم لا

(الجواب) : أما الحائض فلا يحل لها الجلوس في المسجد ولو أمنت التلويث، بل تمنع من الجلوس فيه بالكلية؛ وقد نص الفقهاء على أن الحائض لا تجلس في المسجد، ولو بعد انقطاع الدم حتى تغتسل -والله أعلم-.وأما النفساء فحكمها حكم الحائض -والله أعلم-.

إلقاء السلام على الذي يتوضأ أو يستنجي أو يستجمر

(مسألة) في السلام هل يسلم على الذي يتوضأ، أو يستنجي، أو يستجمر، أم لا وهل لذلك المسلم عليه رد السلام على هذه الأحوال ويكون واجبا أم لا وما الحال التي يكره السلام عليها؟

(الجواب) : أما السلام على الذي يتوضأ فلا أعلم فيه كراهة، فإذا سلم عليه رد عليه السلام؛ وأما السلام على الذي في الخلاء فمكروه، ولا يرد على المسلم. وأما السلام على الذي يستنجي بالماء في المطهرة، فلا أعلم.

التحدث أثناء الوضوء أو الاستنجاء

(مسألة) في الحكي والإنسان يتوضأ أو يستنجي، هل هو جائز أم ينهى عنه وهل يفرق بين هذه الأمور أم هي على سبيل الجواز

(الجواب) : أما الحكي الذي يفعله المستنجون إذا جلسوا كاشفين عوراتهم يتحاكون وهم على هذه الحال، وكذلك المسألة قبلها أعني الذي

ص: 88

في المطهرة فلم أقف على هاتين المسألتين في كلام أهل العلم.

الجلوس مستدبر القبلة وقت الدرس

(مسألة) في تلقية الإنسان ظهره القبلة في مثل الدرس وغيره إذا كان مسندا على جدار؛ وصورة ذلك عندنا إذا سلم الإمام من الصلاة وفرغت المائدة والسنة 1 ثبت الإمام على هيئة الصلاة ووجهه إلى المأمومين وظهره إلى القبلة إلى أن يفرغ الدرس، لأجل أن الدرس عندنا بعد الصلاة في المسجد. هل هذا جائز ولا ينكر على الإمام الذي يفعل ذلك، وهل يفرق بين الإمام والمأموم، وكذلك الفضاء والبنيان

(الجواب) : أما الجلوس مستدبر القبلة وقت الدرس فما علمت فيه بأسا، وسواء في ذلك الذي يذاكر الناس، أو غيره؛ واستدل العلماء على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه السلام ليلة أسري به وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور؛ ولكن الأفضل جلوس الإنسان مستقبلا القبلة إذا كان في عمل صالح، ومن استدبرها لم ينكر عليه.

التحلق للدروس

(مسألة) : إذا كان الدرس بعد فراغ الصلاة في موضعها، هل يجب على المأمومين التحلق على الدرس إذا كان الإمام يدرس في موضعه الذي صلى فيه، ويجب ذلك أم يكون على هيئتهم، ويثبت كل في موضعه الذي صلى فيه ولم يجب التحلق

(الجواب) : أما مسألة التحلق للدرس فهو أفضل، اقتداء بالسلف الصالح؛ وأما إذا وقعت المذاكرة في مثل رمضان وقت قيام الليل، وجلسوا في الصف على هيئتهم إذا جلسوا للصلاة وهم يسمعون القارئ

1 كذا في الأصل.

ص: 89

والمذاكر، فهذا حسن وإن لم يتحلقوا.

الكتابة في المجلس الذي فيه جماعة جالسون

(مسألة) في الخط، مثل الرسالة أو شيء من العلم في موضع يجلس فيه ويمشى معه، ويقول الكاتب: أنا أكتب بيني وبين نفسي، ولم أشغل أحدا ولم يشغلني؛ وقد يكون للكاتب في ذلك مقاصد، إما بذل علم وكف أذى وإيصال للمسجد؛ وينكر بعض الجهال على من فعل ذلك هل يكون مع المنكر دليل وهل يكون مع الخط في المجلس بأس

(الجواب) : أما الكتابة في المجلس الذي فيه جماعة جالسون فلا فيه بأس، خصوصا إذا صار ما يرفع صوته بالحديث الذي هو يكتب فيه، ولا يشغله الكلام عما هو فيه؛ فأما إن كان يتكلم بالحديث فلا يناسب أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، بل المناسب التأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنْزيهه عن اللغط؛ وأما إذا لم يكن هناك محذور فلا بأس، ومن نهى عن ذلك فلا أعلم معه دليلا.

ما يأخذه الجزار من الذبيحة إذا ذبحها

(مسألة) فيما يأخذ الجزار من الذبيحة إذا ذبحها إذا كان له عادة بأخذها معروفة، هل هي جائرة أم لا؟ وهذه جارية عندنا، إذا كان الإنسان قصابا أخذ من الذبيحة من رأسها قبل القسم والبيع، مثل القلب، وما يتعلق به، ومثل الأطراف والنجتية، وغير ذلك؛ ثم يقسم باقي اللحم على ما أرادوا، والذي هو يأخذه معروف ومشتهر عند أهل البلد. وأما الأجنبي فقد يكون بجهله شيء من ذلك، ولكن ينكر بعض العوام على فاعل ذلك، ويقول القصاب: أنا آخذ شيئا جارية به العادة ومعروف، هل جائز أم لا

(الجواب) : ما يأخذه الجزار من الذبيحة أجرة له، فهذا إذا كان

ص: 90

عرفا جاريا في البلد ولا فيه جهالة، بل شيء معروف، فهذا لا بأس به، وإن لم يشترطه وقت الذبح؛ لأن من استأجر على شيء ولم يبين الأجرة انصرف إلى أجرة المثل، والله أعلم.

سجود الإمام للسهو بعد السلام

(مسألة) : إذا سها الإمام في الصلاة، ووجب عليه السجود للسهو، ولكن أراد الإمام أن يجعل سجود السهو بعد السلام، وسلم الإمام، وتابعه بعض المأمومين بالسلام جهلا، وبعضهم لم يسلم ظانا أن الإمام ساه أيضا، والإمام مقصده جعل السجود بعد السلام، ماذا يكون فيمن لم يسلم هل تفسد صلاتهم أم لا وهل يفرق بين الجاهل وغيره

(الجواب) : إذا سلم الإمام قبل أن يسجد للسهو، وتابعه بعض المأمومين في السلام دون بعض، فالذي ينبغي في هذا متابعة الإمام في السلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه "1.

وترك المتابعة من الاختلاف عليه، لكن إذا ترك الإنسان المتابعة جهلا منه، فأرجو أن لا يكون عليه إعادة، لأن الجاهل يغتفر له ما لا يغتفر للعالم المتعمد.

محل التشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب مع الإمام

(مسألة) : إذا لم يدرك الإنسان إلا ركعة من المغرب هل يجلس للتشهد إذا صلى ركعتين، ثم ينهض ويأتي بالأخرى، أم يسرد الركعتين بلا تشهد، أم غير ذلك؟ وهل يجب على الذي لم يجلس للتشهد في هذه الحال سجود سهو أم لا

(الجواب) : محل التشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب مع الإمام، فهذا فيه اختلاف بين العلماء؛ والمشهور أنه يتشهد عقيب الركعة الأولى من القضاء، ولا يسردهما. فلو سردهما إنسان، لم يضيق عليه لأجل اختلاف العلماء، وليس مع المخالف دليل واضح على المنع فيما يظهر لي.

1 البخاري: الأذان (722)، ومسلم: الصلاة (414)، والنسائي: الافتتاح (921 ،922)، وأبو داود: الصلاة (603)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (846 ،1239) ، وأحمد (2/230 ،2/314 ،2/341 ،2/376 ،2/411 ،2/420 ،2/475)، والدارمي: الصلاة (1311) .

ص: 91

صلاة النساء فوق سطح المسجد أعلى من الرجال

(مسألة) في صلاة النساء فوق سطح المسجد أعلى من الرجال، إذا كان الرجال في المصابيح والنساء فوقهم في أعلى المسجد، يصلين بالانفراد غير متابعات للإمام، هل هذا جائز أم لا

وهل يفرق بين كونهن في مقدم السطح متقدمات على الإمام والجماعة إذا لم يتابعن الإمام في الصلاة لأجل الانفراد، وكذلك تأخرهن في آخر السطح بقدر صفوف الرجال.

(الجواب) : أما مسألة صلاة النساء فوق سطح المسجد فوق الرجال، فلا أعلم فيه بأسا، سواء كن يصلين مع الإمام، أو منفردات. وقولك: هل يفرق بين مقدم السطح، أو مؤخره؟ فإن كن يصلين مع الإمام وجب عليهن أن لا يتقدمن على الإمام، فإن كن منفردات فما علمت في تقدمهن في مقدم السطح بأسا إذا لم يكن في السطح رجال.

الصلاة في مشب الضوء

(مسألة) في الصلاة في مشب الضوء ومثل موقد، أو دكة وغير ذلك إذا لم يستقبل المصلي الضوء، وكذلك الصلاة في أسطحة ما ذكرنا

(الجواب) : أما الصلاة في الموقد والدكة فما علمت فيه بأسا لكن لا يستقبل الضوء، وكذلك في سطح الموقد لا بأس بذلك.

صلاة الجماعة للمسافر

(مسألة) في المسافر إذا كان في البلد وهو يقصر الصلاة، هل يلزمه الدخول مع الجماعة لأجل تمام الصلاة، أم يصلي وحده ويقصر، ولو كان في البلد، وأمر ذلك إليه أم ما فعل فهو جائز. وهل يفرق بين الواحد والجماعة من المسافرين أم لا

(الجواب) : الجماعة واجبة حضرا وسفرا، مثل ما تفهم، فإذا كان المسافر في البلد جاز له القصر؛ لكن إن لم يكن عنده جماعة يقصرون لزمه الصلاة مع المقيمين، ويتم معهم الصلاة؛ لأن الجماعة لا تسقط بالسفر.

ص: 92

مرور المسافر بمسجد بعد الأذان

(مسألة) : إذا كان الإنسان مسافرا، ومر بمسجد وقت الصلاة فيه جماعة، والوقت قد دخل، وقد أذن المؤذن هل يلزمه أن يصلي مع الجماعة ويتم الصلاة أم يصلي في موضعه وهل ينكر على الإنسان إذا مر بالمسجد على هذه الحال ولم يصل فيه، أم أمر ذلك عند صاحب السفر، أم غير ذلك

(الجواب) : الذي يمر بالمسجد بعد الأذان فلا يتعداه حتى يصلي إلا أن يكون في طريقه مسجد آخر يصلي فيه، فهذا لا بأس به، إلا أن يكون قد دخل المسجد بعد الأذان فلا يخرج منه حتى يصلي.

صلاة المريض المتنجس البدن والثوب

(مسألة) في المريض الذي يصيبه نجاسة في بدنه، أو في سلبه، ويشق عليه التحرز من ذلك لأجل المرض، ويصلي بالتيمم على هذه الحال على قدر حسبه هل صلاته تامة ولا يقضي، أم يجب عليه القضاء؟ وهل يفرق بين نجاسة البدن وبين مواضع الوضوء وغيرها وبين السلب

(الجواب) : المريض الذي في بدنه نجاسة لا يقدر على إزالتها، فهذا يصلي بحسب استطاعته، ولا يعيد. فإن كانت النجاسة في ثيابه، وقدر على خلعها ويلبس ثيابا طاهرة، وجب عليه ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"1، فإن لم يقدر على خلعها صلى فيها، ولا إعادة عليه في أصح القولين.

صلاة التراويح وأقل ما تصح به الصلاة

(مسألة) في العجلة في صلاة التراويح التي صار الناس يؤدونها بالسرعة، وأيضا إذا حصلت العجلة في الأفعال والأقوال صلى أكثر الناس، فإذا تريض الإمام في القراءة، أو في التسبيح، أو غيره من أفعال الصلاة ما صلى إلا قليل من الناس، وتبين أن المصلحة في العجلة، ويستحبون الجماعة السريعة، ولكن ما العجلة التي تخل من التي لا تخل وهل يقتصر الإمام على تسبيحةض

1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، والنسائي: مناسك الحج (2619)، وابن ماجه: المقدمة (2) ، وأحمد (2/247 ،2/258 ،2/313 ،2/355 ،2/428 ،2/447 ،2/467 ،2/482 ،2/495 ،2/508) .

ص: 93

واحدة وهي التي لا بد منها، أم لا بد من أدنى الكمال الثلاث ويصير التطوع مثل الفرض، أم يفرق بينهما على حسب الحاجة والمصلحة، أم غير ذلك وما المستحب في صفة صلاة التراويح، هل هي عشرون ركعة ولا يزاد عنها ولا ينقص، أم غير ذلك وما يقرأ في ذلك

(الجواب) : قولك: إن الإمام إذا استعجل صلى معه أكثر الناس، وإذا طوّل لم يصل معه إلا القليل؛ فالشيطان له غرض، ويحرص على ترك العمل؛ فإن عجز عن ذلك سعى فيما يبطل العمل. وكثير من الأئمة في البلدان يثقل في صلاة التراويح فعل أهل الجاهلية، ويصلون صلاة ما يعقلونها ولا يطمئنون في السجود ولا في الركوع والطمأنينة (وهي) ركن ما تصح الصلاة إلا بها؛ والمطلوب في الصلاة حضور القلب بين يدي الله تعالى، واتعاظه لكلام الله إذا يتلى عليه، والخشوع، والطمأنينة، وهذه في الغالب ما تحصل للإنسان الذي يود العجلة. إذا أردت أن تصلي مع الإمام عشرين مع العجلة فصل معه عشرا بخشوع وطمأنينة فهي أنفع لك من كثرة الركعات بلا خشوع ولا طمأنينة.

وهذا الذي ذكرناه هو الذي ينبغي فعله، وأما إذا حدث فرقة بين الجماعة وبين الإمام، وصار هواهم في التخفيف، ولا وافقوه على فعل السنة، فالذي ينبغي له الحرص على الطمأنينة، ولا يستعجل عجلة تخل بالطمأنينة، وعلى هذا الحال تقصير القراءة مع الخشوع في الركوع والسجود أولى من طول القراءة مع العجلة المكروهة؛ وكذلك صلاة عشر ركعات مع طول القراءة والطمأنينة في الركوع والسجود أولى من عشرين ركعة مع العجلة المكروهة، لأن لب الصلاة وروحها هو إقبال القلب على الله فيها؛ ورب قليل خير من كثير.

ص: 94

وأما قدر التسبيح في الركوع والسجود فأدنى الكمال ثلاث، فإن اقتصر على تسبيحة واحدة أجزأه، وسواء في ذلك الفريضة والنافلة.

وأما صفة صلاة التراويح وعددها، فالذي ذكره العلماء أن التراويح عشرون ركعة، وأن لا ينقص عن هذا العدد إلا إن أراد أن يزيد في القراءة بقدر ما ينقص من الركعات؛ ولهذا اختلف عمل السلف في الزيادة والنقصان، وعمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبي بن كعب كانت صلاتهم عشرين ركعة. وأما القراءة فاستحب أهل العلم للإمام أن لا ينقص عن قراءة جزء ليحصل للناس سماع جميع القرآن في التراويح.

ترك الاستفتاح والتعوذ بعد الركعتين الأوليين لصلاة التراويح

(مسألة) : إذا أراد الإمام أن يترك الاستفتاح والتعوذ في مثل هذه التراويح بعد الركعتين الأوليين لأجل ما ذكرنا، هل له ذلك أم لا بد من الإتيان بهما جميعا في كل ركعتين أم غير ذلك

(الجواب) : أما الاستفتاح فلا بأس بتركه إذا استفتح في أول الصلاة، ثم بعد ذلك يقتصر على التعوذ والبسملة بعد تكبيرة الإحرام، فلا بأس بذلك، لأن الاستفتاح سنة؛ ولو تركه الإنسان في الفرض صحت صلاته.

الاقتصار على التشهد الأول في كل ركعتين

(مسألة) : إذا أراد الإنسان أن يقتصر على التشهد الأول في كل ركعتين هل له ذلك، أم لا بد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

(الجواب) : أما التشهد فالذي لا بد منه هو التشهد الأول، ثم يقول:"اللهم صل على محمد"، فإن اقتصر على ذلك أجزأه، وإن زاد فهو أفضل وأكمل.

حد السرعة في القراءة في التراويح

(مسألة) : ما حد السرعة في القراءة في التراويح التي يمنع منها الإمام، هو لا بد من القراءة المعتادة من الترتيل والتدبر، أم الأمر واسع بعض الأحيان لأجل صلاة أكثر الناس، ومثل ما قال أحمد رحمه الله: إنما

ص: 95

الأمر على ما يحتمل الناس، ومثل العجلة من الراضة ترى إذا استعجل الإمام صلى غالب الناس جميع التراويح، ولا ينصرفون إلا إذا انصرف الإمام، ويحصلون الفضيلة أعني قيام الليل مع الإمام حتى ينصرف إلى آخره، وإذا تريض الإمام وصار ثقيلا ما صلوا إلا بعض الصلاة.

(الجواب) : أما السرعة في القراءة، فالترتيل أفضل من السرعة؛ والسرعة المباحة هي التي لا يحصل معها إسقاط شيء من الحروف، فإن أسقط بعض الحروف لأجل السرعة لم يجز ذلك وينهى عنه. وأما إذا قرأ قراءة بينة ينتفع بها المصلون خلفه، ولا يسقط شيئا من الحروف فهذا حسن، ولا يضره مع ذلك سرعته في القراءة.

وقت الانصراف من القيام في العشر الأواخر

(مسألة) في القيام في العشر الأواخر، متى يكون وقت الانصراف آخر الليل إلى ما دونه؟ هل له وقت واحد في البكر والصيف أم الأمر واسع، ومثل ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم "قام ليلة إلى ثلث الليل، وليلة إلى نصف الليل، وليلة سبع وعشرين إلى الفجر"مثل ما ذكر عن بعضهم أنه خشي أن يفوتهم الفلاح 1 وإلي أيحن نعامل ينصرفون من القيام مبكرين يقرأ القارئ خمسة أجزئة أو أكثر وحد دون هذا قبل الصبح، وإذا عفا الله عنك كني ما أتحاسن هذا لأجل إذا جاء وقت السحر الفضيل، وإلى أن أكثر الناس خصوصا المقيمين رقودا إلى الصبح، وإلا لو هم جلوس على قراءة أو ذكر كان أفهم أنهم في صلاة أم الأمر على ما جاز للجماعة.

(الجواب) : أما وقت الانصراف من القيام في العشر الأواخر، فما علمت فيه تحديدا، وقيام آخر الليل أفضل من أوله، والأحسن في هذا

1 من هنا إلى آخر المسألة طبق الأصل وهو غير مفهوم.

ص: 96

أن الإمام يفعل الأمر الذي لا يشق على المأمومين مع الحرص على الصلاة آخر الليل، فإذا تحرى الوقت الذي يتسع لحاجات الناس آخر الليل بحيث لا يشق، ولا يضيق الوقت عن حاجاتهم فما زاد عنه لا حاجة إليه، واشتغالهم بالصلاة آخر الليل أولى من النوم.

النهي عن صلاة ركعة بعد الوتر

(مسألة) في قوم إذا سلم بهم إمامهم من التراويح قام بعد السلام يلحق ركعة يشفع بها وتره الذي أوتر في وقت الإمامة لأجل أن يريد أن يوتر آخر الليل، مثل هذا يشكل علينا هل للإمام فعل ذلك أم لا

(الجواب) : في الإمام إذا سلم من الوتر قام فصلى ركعة ينقض بها وتره، فمثل هذا ينهى عنه، ولا علمت أحدا من السلف فعله، فإذا أحب الإمام أن يجعل وتره آخر الليل، فلينصرف إذا فرغ من التراويح، ويستخلف من يوتر بالمأمومين.

فإن أحب أن لا ينصرف إلا بعد الفراغ من الوتر فإذا بقي ركعة من الوتر، استخلف غيره يصلي بهم تلك الركعة، ويصلي معهم تلك الركعة، فإذا سلم الإمام قام قبل السلام وشفعها بركعة. والمسألة التي فيها الاختلاف في نقض الوتر غير هذه، وصورتها أن يوتر أول الليل، ثم يبدو له بعد ذلك أن يتنفل آخر الليل هل ينقض وتره بركعة إذا قام آخر الليل ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر؟ أم لا ينقضه بل يصلي مثنى مثنى ولا يعيد الوتر

فهذه المسألة الخلاف فيها مشهور، وأما المسألة المسؤول عنها فلا ينبغي فعلها وفي الحديث:"لا وتران في ليلة"1.

صلاة النساء مع الرجال في صف واحد

(مسألة) في صلاة النساء مع الرجال في صف واحد ماذا يكون فيها، وصورتها إذا كان في رمضان، وصف الرجال في الصف الأول، وفضل فيه

1 الترمذي: الصلاة (470)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1679)، وأبو داود: الصلاة (1439) .

ص: 97

بعضه، هل يصح للنساء أن يصففن فيه ويخلين بينهن وبين الرجال فرجة، ولكنهن في طرف صف الرجال، هل يجوز ذلك للحاجة مثل برد، أو استماع قراءة أم لا

(الجواب) : وقوف النساء مع الرجال في صف واحد مكروه، والسنة وقوفهن خلف الرجال؛ هذا هو الذي وردت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقوف النساء مع الرجال في صف واحد ما يناسب، وقد ورد في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أخروهن من حيث أخرهن الله"، والله أعلم.

المسافر إذا مر بالماء ولم يستعمله وصلى بالتيمم

(مسألة) في المسافر إذا مر بالماء في الوقت ولم يستعمله وصلى بالتيمم، هل يعيد أم لا

(الجواب) : المسافر إذا مر بالماء في الوقت فلم يستعمله وصلى بالتيمم هل يعيد فالمسألة فيها خلاف بين الفقهاء والعلماء، وفيها وجهان للأصحاب، والمذهب أنه لا إعادة عليه؛ لأنه في تلك الحال عادم للماء.

صلاة الجمعة للمسافر

(مسألة) في المسافر إذا أتى بلدا، وأدركته الجمعة فيها، وأمره أهل البلد أن يصلي بهم الجمعة، هل له أن يفعل على قول أبي حنيفة والشافعي ومالك أم لا وكذلك في المسافر إذا كان نيته الإقامة في البلد فوق أربعة أيام، وكان إمام المسجد ليس بحاضر، فأمره أمير البلد والجماعة أن يصلي بهم الجمعة والجماعة، فأجاب إلى ذلك، هل هذا جائز أم لا وكذلك هل يكون الذي يعيب على ذلك الفاعل مصيبا وله دليل أم هذا من الجهل وهل يعاب هذا على فاعله أم لا؟ وأيما أفضل إجابة الإنسان لهذه المسألة ونحوها، أو امتناعه

(الجواب) : المسافر إذا قدم البلد ولم ينو إقامة تمنع من القصر والفطر في

ص: 98

رمضان، فهذا لا جمعة عليه بحال؛ فإن صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته، والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع.

فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر، فهذا تلزمه كغيره؛ فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. وأما إمامته في الجمعة، فالمذهب أنه لا يجوز أن يؤم فيها بحال، ولا يكمل به العدد المعتبر؛ لأن من شروط الجمعة الاستيطان، وهذا ليس بمستوطن. وذهب مالك، وأبو حنيفة والشافعي إلى أن له أن يؤم فيها، وهذه المسألة من مسائل الخلاف؛ ولا أعلم فيها دليلا من الجانبين.

فإذا كانت من المسائل الاجتهادية فلا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولا يجوز الإنكار على الفاعل، خصوصا إذا كان قد علم الخلاف بين العلماء في الجواز وعدمه، وعمل على قول المجيزين؛ ولا يجوز نسبته إلى الجهل والحالة هذه.

وأما قولك أيما أفضل إجابة الإنسان لمثل هذه المسألة ونحوها، أو امتناعه؟ (فالأفضل) في حقه العمل بالأحوط، ولا يؤم في الجمعة وهو مسافر إلا إن كان قد بان له، وترجح عنده الجواز، وأن القول بالمنع لا وجه له، فتلك حالة أخرى. وأما إذا ترجح عنده الجواز، وعمل بقول الجمهور، فلا يجوز الإنكار عليه إذا رضي أهل البلد بإمامته لغيبة الإمام، أو قدمه الإمام بنفسه -والله أعلم-.

وقوف المأمومين في الصف الثاني قبل إتمام الأول

(مسألة) في الذين يصفون في الصف الثاني والأول لم يتم لأجل إدراك الركعة ونحو ذلك، ماذا يكون فيهم إذا كان مأمورا بإتمام الصف الأول فالأول هل الصلاة تتم على هذه الحال أم لا

(الجواب) : إذا صف بعض المأمومين في الصف الثاني ولم يتم الأول، هل تصح صلاتهم أم تلزمهم الإعادة؟ فنقول، بل تصح صلاتهم، ولا إعادة عليهم؛ لكن يؤمرون بإتمام الصف الأول فالأول للأحاديث الواردة في ذلك.

ص: 99

صلاة من يقف في الصف وحدة لأجل إدراك ركعة

(مسألة) في الفذ الذي يصف في الصف وحده لأجل إدراك الركعة، هل يؤمر بالإعادة أم لا وما الذي يجوز له والذي يفعل ذلك عليه خطر من جهة دخوله في الصلاة من الخلل بالتكبير، والطمأنينة، ونحو ذلك، وهل يفرق في هذه المسألة بين الذي يصف وحده ثم يأتيه غيره في الركوع، والذي يستكمل الركعة فذا قبل أن يأتيه أحد، أم المبني على دخوله في الصلاة فذا وحده.

(الجواب) : في الفذ إذا وقف في الصف وحده لأجل إدراك الركعة، فهذا ينهى عنه كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرة فقال له:"زادك الله حرصا، ولا تعد"1.وإذا فعل الإنسان ذلك، فإن دخل في الصف قبل أن يسجد، أو أحرم معه آخر، فالمشهور صحة صلاته؛ فإن خر ساجدا قبل أن يدخل في الصف وكان وحده فإنه يؤمر بالإعادة،، لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي صلى وحده خلف الصف بالإعادة. وأما قولك: وما العذر الذي يجوز له فالذي عليه الجمهور أنه لا يجوز للفذ أن يصلي خلف الصف لا لعذر، ولا لغير عذر، وأما على القول الذي اختاره الشيخ تقي الدين فهو جائز للعذر، مثل أن يجد الصف قد تم، ولا يجد من يقف معه فيصلي وحده، ولا يجذب رجلا من الصف ليقف معه.

مسائل في دفن الميت والصلاة عليه وصفتها

الميت بعد غروب الشمس

(مسألة) : إذا مات الميت بعد غروب الشمس سواء كان أول الليل، أو أوسطه، أو آخره هل يؤخر تجهيزه إلى النهار؛ لأنه أسهل على المجهزين والمتبعين، أم تجب المبادرة إلى تجهيزه ولو في الليل؟ وهكذا إذا قلنا بتركه إلى النهار، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني

1 البخاري: الأذان (783)، والنسائي: الإمامة (871)، وأبو داود: الصلاة (683 ،684) ، وأحمد (5/39 ،5/42 ،5/45 ،5/50) .

ص: 100

أه له"1، هل هذا يتناول ذلك أم لا

(الجواب) : أما الميت إذا مات في الليل فيجوز تأخير دفنه إلى النهار إذا لم يخش من الانفجار ونحوه؛ فإن دفن ليلا جاز، لأن أبا بكر دفن ليلا، وعلي دفن فاطمة ليلا. وعن ابن عباس أن النبي –صلى الله عليه وسلم دخل قبرا فأسرج له سراج، فأخذ من قبل القبلة وقال:"رحمك الله أن كنت تلاء للقرآن "2 رواه الترمذي، قالوا: ولكن الدفن بالنهار أولى؛ لأنه أسهل على متبعي الجنازة، وأكثر للمصلين عليها، وأمكن لاتباع السنة في دفنه وإلحاده.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" 3 فهذا إذا لم يكن عذر.

تقديم جنازة الرجل للصلاة عليها على غيرها

(مسألة) : إذا حضر جنازتان أو أكثر ذكور وإناث، هل النساء مما يلي القبلة والرجال مما يلي الإمام

(الجواب) : إذا اجتمع رجال ونساء وأراد الإمام أن يصلي عليهم صلاة واحدة، قدم الرجال فجعلهم مما يليه؛ لأنهم يستحقون التقديم في الإمامة فاستحقوا التقديم في الجنائز، وقد نقل الجماعة عن أحمد أنه يقدم إلى الإمام الحر المكلف، ثم العبد المكلف، ثم الصبي، ثم المرأة المكنونة.

صفة وضع الجنازات بين يدي الإمام للصلاة عليها

(مسألة) ما صفة وضعهم هل صفة واحدة أعني بذلك أن تجعل رؤوسهم على أيمن الإمام وأرجلهم إلى أيسر الإمام جميعا، أم تكون الرؤوس جميعا والأرجل هذا إلى الأيمن وهذا إلى الأيسر من الإمام. وهذا الإشكال أورده إنسان علينا بلا علم، ولا مقصدنا بتسوية الصدور والرؤوس.

(الجواب) : أما صفة وضعهم بين يدي الإمام للصلاة عليهم، فتجعل رؤوسهم كلهم عن يمين الإمام، ويجعل وسط المرأة حذاء صدر الرجل، ليقف الإمام من كل نوع موقفا، لأن السنة أن يقف عند صدر الرجل ووسط المرأة.

1 أبو داود: الجنائز (3159) .

2 الترمذي: الجنائز (1057) .

3 أبو داود: الجنائز (3159) .

ص: 101

الصدقة على الميت من ماله الذي خلفه

(مسألة) : إذا مات إنسان وأراد أهله أن يتصدقوا له بصدقة من ماله الذي خلف قبل القسمة، هل هذا جائز ومستحب أم لا وكذلك إذا كان في الورثة صغار، هل يجوز لوليهم مثل أخ أو أم أو غيرهما الصدقة لأبيهم من رأس المال، كل بحسبه أم لا

(الجواب) : في الصدقة عن الميت من ماله الذي خلفه فهو حسن، والصدقة المالية تصل إلى الميت باتفاق أهل العلم، بخلاف الصدقة البدنية، بأحد الأعمال البدنية؛ فإن ذلك مختلف فيه، بخلاف الأول فهو بالاتفاق. وأما إذا كان في الورثة صغار، لم يجز لأوليائهم أن يتصدقوا لأبيهم من نصيبهم من الميراث، فإذا أراد الكبار أن يتصدقوا لميتهم فليجعلوا ذلك من نصيبهم خاصة.

نصاب زكاة الذهب والفضة

بسم الله الرحمن الرحيم

(الأولى من المسائل) : ما قدر الأنصبة في الزكاة من كل نوع بعد التحرير هل زكاة الذهب عشرون مثقالا على ما ذكروها المثقال في وقتنا هذا من الجدد وهل يشترط بلوغ العشرين مثقالا مائتي درهم على ما ذكر من الإجماع، أم على عامة قول الفقهاء نصاب الذهب عشرون مثقالا من غير اعتبار قيمتها وما الفرق في ذلك وما صورة المسألة؟ وما العمل عليه في وقتنا الآن بعد التحرير

(الجواب) : ذكر أهل العلم أن نصاب الذهب عشرون مثقالا، وحررناه بالوزن فصار قدر سبعة وعشرين زرا. وأما الفضة فنصابها مائتا درهم، وحررناه فوجدناه بالوزن أحدا وعشرين ريالا، وأمرنا من كان عنده من الذهب أو من الفضة هذا المقدار وقد حال عليه الحول أن يزكيه.

ص: 102

قدر نصاب الفضة من الريالات اليوم

(مسألة) : زكاة الفضة كم قدرها من الريالات اليوم وما قدر المائتي درهم في وقتنا هذا وهل تقوم وما التقويم في ذلك هل هو على قيمة الصرف، أم على قيمة الفضة، أم غير ذلك

(الجواب) : فكما ذكرنا لك أن الذي عليه العمل في نصاب الفضة أحد وعشرون ريالا، وأما الجدد فهي عرض تقوم بالفضة.

العروض تقوم عند الحول بالريالات

(مسألة) في العروض هل تقوم بالصرف من الريالات، أم تقوم على قدر قيمتها من الفضة وما الفرق بين الفضة والذهب والعروض، هل قيمتها واحدة أم متفاوتة

(الجواب) : العروض تقوم عند الحول بالريالات، لأنها أنفع للفقراء، لأن العروض تقوم بالأحظ للفقراء من غير الورق، كما نص عليه الفقهاء.

العروض هل هي جامعة جميع ما يملك الإنسان؟

(مسألة) في العروض هل هي جامعة جميع ما يملك الإنسان من هدم وغنم وعيش وتمر وإبل وبقر وغير ذلك سوى النقدين، أم غير ذلك

(الجواب) : العروض اسم للسلع المعدة للتجارة، فكل شيء يشتريه الإنسان يرصده للربح فهو عرض تجارة من جميع أنواع المال؛ وأما الإبل التي يجعلها صاحبها عديلة مع البدوي يقصد به تناسلها عنده ولا له نظر في بيعها وتقليبها للتجارة، فهي تزكى زكاة السائمة لا زكاة تجارة، وكذلك الغنم.

وأما إن كان قصد صاحبها التجارة ويظهرها مع البدو، فإذا سمنت وزانت باعها، فهذه تزكى زكاة تجارة. وأما العيش والتمر فإن كان محصله صاحبه من حرثه، فلا فيه زكاة بعدما يزكيه زكاة الحرث ولو بلغ أحوالا، ومتى باعه استقبل بثمنه حولا؛ وأما إن كان محصله من دين له على الناس، فمثل ما يفعل التجار، فهذا يزكى كل حول، ويقوم عند رأس الحول كغيره

ص: 103

من عروض التجارة، وهذا معنى قول الفقهاء: ولا تكرر زكاة معشرات ولو بلغت أحوالا ما لم تكن للتجارة.

زكاة العوامل والعروض من الإبل والغنم

(مسألة) : ما الذي تجب في الزكاة من العروض من الإبل مثل الذلول والسانية، هل تضم مع العروض أم لا وكذلك الغنم التي تشرب اللبن والبقر التي مثل ذلك، هل هذه العوامل التي قال أحمد: ليس في العوامل زكاة

(الجواب) : إذا كان الذلول للتجارة فهي عرض تقوم عند رأس الحول؛ وإن كانت لغير التجارة بل جعلها صاحبها للحرفة عليها أو الجهاد أو الحج ونحو ذلك، فينظر في ذلك: فإن كانت لم ترع غالب الحول عند الوديع فلا زكاة فيها، فإن كانت قد رعت دور السنة مع إبل الوديع وجبت فيها الزكاة زكاة خلطة. وأما العوامل التي قال أحمد ليس فيها زكاة، فهي التي تركب مثل زوامل البدو.

ما الذي يخرج عن زكاة العروض بعد المعرفة والتقويم؟

(مسألة) : ما الذي يخرج عن زكاة العروض بعد المعرفة والتقويم هل هو دراهم، أم عين من أنواع العروض، أم ينظر إلى ما هو أحظ لبيت المال والمساكين، في مثل زكاة بلدنا التي زكاتها فيها إما لبيت المال أو للمساكين

(الجواب) : الذي يخرج عن العروض دراهم بعد ما تقوم بها؛ فإذا قومت بالدراهم أخرجت زكاتها.

زكاة المال الغائب

(مسألة) : إنسان غاب عنه ماله قدر ثلاث سنين أو أكثر، ثم جاءه ولم يزد من رأس المال لم يزكه، وهل يكون في الدين زكاة إن أخره صاحبه في يد من كان عنده وقت الوجوب، أم ما يجب عليه في ذلك شيء حتى يأخذه صاحبه من يد من كان عنده وهل يفرق بين من منع وبين من لم يمنع

(الجواب) : إذا غاب مال الإنسان عنه ثم جاءه، زكاه لما مضى إذا

ص: 104

كانت غيبة في تجارة مثل البضاعة ونحوها؛ وكذلك إن كان دينا على مليء باذل. وأما إن كان دينا على معسر أو نحوه، ففيه خلاف. وأما إن كان صاحبه هو الذي أخره على المدين ولو أراد أخذه منه أعطاه إياه متى طلبه، فهذا يزكيه لما مضى من السنين.

وقت زكاة الدين الذي على المليء

(مسألة) في الدين الذي على المليء مثل القرض والصداق، أيما أحسن يزكيه قبل قبضه أو بعده.

(الجواب) : إذا كان الدين على المليء، فإن شاء زكاه عند رأس الحول وهو أفضل لأنه مقدور عليه؛ وإن شاء أخر زكاته حتى يقبضه، فالتأخير رخصة في ذلك.

قدر نصاب الحبوب والثمار

(مسألة) في قدر نصاب العيش الذي مهما نقص سقطت الزكاة، هل هو مائتان وسبعون صاعا بصاعنا اليوم، أم أكثر من ذلك أم أنقص وما فرق صاعنا من صاع النبي صلى الله عليه وسلم وما قدر الصاع الذي ذكر أن الوسق ستون صاعا، كم ينقص عن صاعنا؟ وهل نقص الصاع أو الصاعين يسقط الزكاة

(الجواب) : نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما تقديره بصاعنا فهو معروف عند عمال الزكاة، وصاعنا يزيد على الصاع القديم.

حد النصاب الذي يسقط الزكاة

(مسألة) في النقص اليسير في الأنصبة، هل هو يسقط الزكاة مثل الوزنة والوزنتين ومثل الجديدة والجديدتين ما حد الذي يسقط الزكاة

(الجواب) : نقول: اختلف أهل العلم هل النصاب في الذهب والفضة تحديد أو تقريب، فالمشهور عند الحنابلة أنه تقريب، فعلى هذا لا يضر

ص: 105

النقص اليسير نحو الدرهم مثلا. وأما الحبوب والثمار فالمشهور عند الحنابلة أن النصاب فيها تحديد، فلو نقص يسيرا ولو نحو نصف صاع سقطت الزكاة؛ وعن أحمد رواية أخرى أن النصاب فيها تقريب، فلا يؤثر النقص اليسير، قال في الإنصاف: وهو الصواب.

ضم الحبوب بعضها إلى بعض لتكميل النصاب

(مسألة) في ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، هل البناء من العام الماضي أم المقبل وصورتها هل زرع القيض الذي مضى يضم مع ثمرة الحب الموجود الآن، أم يصح أن يضم حب الصيف إلى زرع القيض المقبل، أم غير ذلك أم يختلف ذلك باختلاف الثمار

(الجواب) : أما مسألة ضم الحبوب بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فإن كانت من جنس واحد فإنه يضم بعضها إلى بعض بلا إشكال؛ وإن كانت من جنسين، فاختلف الفقهاء في ضم بعضها إلى بعض. والذي عليه العمل اليوم أنه يضم بعضها إلى بعض، فتضم الحنطة إلى الشعير، وتضم الذرة إلى الدخن. وأما معنى الضم فالمراد به إذا كانت الثمرة الأولى لا تبلغ نصابا، ثم جاءت الثمرة الثانية فإنها تضاف إلى الأولى؛ فإذا بلغ نصابا أخرج زكاته.

زكاة ديوان صاحب الأرض وتأثير الخلطة في الحبوب والثمار

(مسألة) : إنسان حصل في هذا الصيف قدر مائتي صاع تزيد ولا أتمت النصاب، وفي القيض يحصل قدر أربعين صاعا أو أكثر، فصار هذا بكماله يبلغ النصاب؛ ولكن فيه ديوان لصاحب الأرض قدر ثلاثين صاعا أو أكثر أو دون ذلك، هل تجب الزكاة على هذه الحال، وتصير من رأس العيش فإن كانت من رأسه حصلت الزكاة، فإن أخذ صاحب الأرض ديوانه قبل الزكاة نقص النصاب، أم الزكاة تجب على صاحب الزرع إذا بلغ هذا،

ص: 106

ولكن صاحب الديوان ما على نصيبه زكاة أم مبنى هذه المسألة على تأثير الخلطة في الحبوب والثمار، وهذه كثير وقوعها عندنا

(الجواب) : هذه مسألة مبنية على مسألة ضم الحبوب بعضها إلى بعض؛ فإذا قلنا تضم فمتى كمل النصاب أخرج زكاته. وأما ديوان الأرض الذي يأخذه المالك فيبنى وجوب الزكاة فيه على القول بتأثير الخلطة في غير السائمة؛ والذي عليه الجمهور أنها لا تؤثر في غير السائمة. وعن أحمد رواية ثانية أنها تؤثر في الحبوب والثمار، وهو قول إسحاق، واختارها الآجري وابن عقيل.

فعلى هذا تؤخذ الزكاة من المال، ويكون على صاحب الأرض قدر نصيبه من الزكاة؛ وأما على قول من قال أن الخلطة لا تؤثر في الثمار، فيخرج صاحب الزرع معروق الأرض، ثم يزكي الباقي إن بلغ نصابا؛ ولكن الأحوط في هذا إخراج الزكاة ولو نقص النصاب بإخراج الديوان، وذلك لأن الديوان أجرة في ذمة المستأجر، وليس مالك الأرض شريكا له في الزرع، وإنما الذي له آصع معلومة في ذمة المستأجر، والفقهاء يمثلون الخلطة في الثمار بنحو اشتراكهما في الزرع، ونحو اشتراط المالك جزءا معلوما من الثمرة، نحو ربع الثمرة أو خمسها.

(وأما مسألة) إجارة الأرض بآصع معلومة، فهي بعيدة من مسألة الخلطة، والأحوط في هذا أن صاحب الزرع إذا كمل عنده النصاب أخرج زكاته، ثم دفع ديوان الأرض إلى مالكها، ولا ينقص شيء من أجل الزكاة.

الوقف الذي ما تجب فيه الزكاة

(مسألة) : ما الوقف الذي ما تجب فيه الزكاة هل هو الوقف على أي جهة كانت، مثل المسجد والجهاد والصوم والحج، أم غير ذلك وما صورة الوقف على معين الذي تجب فيه الزكاة وهل إذا كان نخل

ص: 107

موقوف على مسجد أو غيره وكان في يد كداد هل عليه زكاة تبعا لغيره، أم الوقف ما عليه زكاة ولا تؤثر فيه الخلطة، أم حكمه حكم الخلطة من غيره، أم يفرق بينهما

(الجواب) : الوقف الذي تجب فيه الزكاة هو الوقف على معين، أما الوقف الذي على غير معين كالوقف على المساجد ونحو ذلك مثل المؤذن والصوام والسراج ونحو ذلك فلا زكاة فيه؛ فإذا كان النخل وقفا على المسجد فلا زكاة في عمارته التي تؤخذ لأهل المسجد.

تأثير الخلطة في الثمار وصورتها

(مسألة) في تأثير الخلطة في الثمار، ما صورتها؟ هل حكمها حكم السائمة، أم غير ذلك فمن ذلك رجلان اشتركا في زرع، فبلغ زرعهما جميعا قدر مائتين، هذا الذي بينهما، ولكل واحد منهما وحده زرع، فواحد عنده قدر خمسين ليس فيه شركة، وللآخر قدر مائة أو أكثر أو دون، وهذا صورة هذه المسألة ماذا يكون فيها وهذه من أشكل ما يقع عندنا.

(الجواب) : الخلطة تؤثر في الماشية بالحديث الصحيح، وأما غير الماشية فالذي عليه أكثر أهل العلم أن الخلطة لا تأثير لها في الحبوب والثمار والدراهم، وعند بعض الفقهاء أنها تؤثر.

وأما الصورة الواقعة عندكم إذا كان بين اثنين زرع قدر مائتي صاع لكل واحد مائة وله قدر خمسين أو أزيد من زرع آخر مختص به عن شريكه، فهذا لا زكاة فيه على القولين جميعا، لأنا إن قلنا أن الخلطة لا تأثير لها في غير الماشية فواضح؛ وإن قلنا تؤثر فهما لم يشتركا في نصاب، لأن المشترك لا يبلغ نصابا فلا زكاة فيه. فإذا اقتسما وأضاف كل واحد منهما نصيبه إلى ما حصل له من الزرع الآخر الذي اختص به عن شريكه نظرنا، فإن بلغ حصته نصابا زكاه، وإلا فلا.

ص: 108

زكاة الصداق الذي في ذمة الزوج

(مسألة) في رجل تزوج امرأة على صداق كثير، فبعضه بلغها، وبعضه لم يبلغها، وهو في ذمة الزوج، وهو قدر عشرين ريالا، هذا من السياق، وأما المهر الذي عقد عليه فهو ثمانية، وهو أيضا في ذمة الزوج إلى الآن، ومضى على ذلك قدر سنتين، هل تجب في ذلك زكاة ومتى تجب إن كانت واجبة؟ والمرأة لا مخلية ولا أخذت بين هذا وهذا، إن أرادوا الأخذ أخذوا، وإن أرادوا ما أخذوا، وهذا صورتها، هل تجب الزكاة على هذه الحالة أم لا

(الجواب) : الصداق في ذمة الزوج لا زكاة فيه قبل القبض، واختلف الفقهاء في زكاته بعد قبضه، هل يزكى لما مضى من السنين، أم يزكى سنة واحدة، أم لا زكاة فيه.

وقت وجوب الزكاة في الثمرة

(مسألة) متى تجب الزكاة في الثمرة، وفيما يتركه الخارص لأهل النخل، هل هو سهم معلوم، أم على قدر حاجتهم وأكلهم وهديتهم وصدقتهم كما ذكر، أم غير ذلك وكذا ما يخرجه بعِوض وما يخرجه بلا عوض، وكذا إذا باع من الثمرة مثل مقياض ونحوه، هل يزكيه تمرا أو يزكي ثمنه دراهم

(الجواب) الزكاة تجب في الثمرة إذا بلغت نصابا، لكن يؤمر الخارص أن يدع الثلث أو الربع لأهل النخيل، يأكلونه ويهدون منه ويتصدقون، وبعض أهل العلم يقول يدع لأهل النخيل قدر حاجتهم، كل إنسان على قدر حاجته، فما كان يحتاجه للأكل قبل الجذاذ، ويهديه لأقاربه ونحوهم، أو يتصدق به، فلا زكاة فيه، وما عدا ذلك ففيه الزكاة. فتبين لك أن ما أخرجه بلا عوض يعود إليه فلا زكاة فيه، وما باعه أو أهداه هدية يطلب عوضها ففيه الزكاة. وقولك: هل يزكي ثمنه إذا باعه؟ فليس الأمر كذلك، بل يزكي نفس الثمرة التي باعها.

ص: 109

اعتبار النصاب في الزكاة بعد التصفية

(مسألة) في الزرع كالصفراء، وهي نوع من العيش تنقص بعد اليبس والتصفية.

(الجواب) : أهل العلم ذكروا اعتبار النصاب بعد التصفية فإذا صار العيش مدقوقا مصفى صالحا للأكل، فمتى بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة.

زكاة ما يتركه الخارص لأهل النخل

(مسألة) في الخارص، هل يستوعب النخل بالخرص فلا يبقي شيئا، أم يترك لأهل النخيل حاجاتهم

(الجواب) : كل ما يأكله صاحب النخل من المقياض هو وعياله وما يهديه لقريب وما يتصدق به على فقير، فكل هذا لا زكاة فيه، ويؤمر الخارص بترك ذلك، فلا يخرصه على أهل النخل ويخرص الباقي.

بيع الزكاة قبل قبضها

(مسألة) في بيع الزكاة قبل قبضها، هل يجوز ذلك أم لا

(الجواب) : ذكر الفقهاء أن الفقير لا يملك الزكاة، ولا يتصرف فيها بالبيع قبل قبضها، واستدلوا على ذلك بحديث مرفوع رواه أحمد وابن ماجه.

شراء المزكي زكاته

(مسألة) : هل للمزكي أن يشتري زكاته أم لا

(الجواب) : أما شراء المزكي زكاته ففيه خلاف، والمشهور أنه لا يجوز.

ملك من غير الأثمان ما لا يكفيه هل تجوز له الزكاة؟

(مسألة) : ما معنى قولهم: من ملك من غير الأثمان ما لم تتم به كفايته فله الأخذ من الزكاة، وما الفرق بين الأثمان وغيرها

(الجواب) : نقول: معنى ذلك ما نص عليه أحمد في رواية الميموني قال: ذاكرت أبا عبد الله فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير، ويكون له أربعون شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه أفيعطى من الصدقة قال: نعم، وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا أو كذا، قلت: فلهذا قدر من العدد والوقت؟ قال: لم أسمعه. وقال في رواية: من الحكمة إذا كان له عقار يستغله أو ضيعة تساوي

ص: 110

عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه، يأخذ من الزكاة؛ وذلك لأنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الأخذ من الزكاة، لأن الفقر عبارة عن الحاجة.

ولا يقال: هذا لو يبيع عقاره صار غنيا، لأن بيع العقار الذي يحتاج إلى غلته لا يلزمه، وكذلك الغنم الذي يحتاج إليها، وكذلك سواني الكداد ودوابه وعروض القنية التي يحتاج إليها، وكل ذلك لا يمنع من أخذ الزكاة مع الحاجة.

ملك من الأثمان ما يكفيه هل تجوز له الزكاة أم لا؟

(مسألة) في الأثمان، إذا ملك منها ما يكفيه، هل تجوز له الزكاة أم لا وهل الأثمان وغيرها سواء في عدم المنع من الأخذ من الزكاة

(الجواب) : أما الأثمان فإذا ملك منها ما يكفيه لم تبح له الزكاة، كما أنه إذا كان له غلة نخل أو أرض تكفيه لا تباح له الزكاة، قال في المغني: اختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها، ونقل عن أحمد فيه روايتان، أظهرهما أنه ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من مكسب أو تجارة أو أجر عقار أو نحو ذلك، ولو ملك من العروض أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا يحصل به الكفاية لم يكن غنيا وإن ملك نصبا؛ هذا الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق.

(والرواية الثانية) أن الغنى ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئا، وإن كان محتاجا حلت له الصدقة وإن ملك نصبا، والأثمان وغيرها في هذا سواء. وهذا قول مالك والشافعي، وقال أصحاب الرأي: الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها- وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان أو عروض التجارة أو السائمة. انتهى ملخصا.

ص: 111

(مسألة) في الزكاة، هل تؤخذ من رأس العيش قبل أن يأخذ صاحب الأرض ديوانه، أو تصير الزكاة على صاحب الأرض والكداد أم صاحب الأرض يأخذ ديوانه قبل الزكاة أم غير ذلك

(الجواب) : في ديوان الأرض وقولك: هل يأخذ صاحب الأرض ديوانه قبل إخراج الزكاة أو بعد ذلك؟ فهذه تنبني على تأثير الخلطة في الزرع؛ فإن قلنا تؤثر أخرجت الزكاة من رأس، ويكون على صاحب الأرض من الزكاة قدر ما يحصل له من الديوان. وأما إن قلنا لا تؤثر الخلطة في الزرع فلا زكاة على صاحب الديوان، إلا أن تبلغ حصته نصابا.

شراء الإنسان زكاة ماله من عيش غيره

(مسألة) في الذي تجب عليه الزكاة ولم يخرجها من حرثه، بل أخرجه على الديايين أو غيرهم، وشرى له عيشا وزكى به، هل هذا جائز أم لا

(الجواب) : أما شراء الإنسان زكاة ماله من عيش غيره فلا علمت فيه خلافا، والذي فيه المنع شراؤها من الفقير بعدما يدفعها إليه. وأما كونه يخرج عيشه على الديايين، ويشتري عيشا، ولا يعطيه أهل الزكاة، فلا أرى به بأسا.

زكاة غنم الخلطة

(مسألة) في الخلطة في الزكاة مثل الغنم، وأصل صورة ذلك رجل له غنم تبلغ أكثر من النصاب، ومعه غنم لأجنبي عدائل. هل له إخراج الزكاة من جميع الغنم إذا كانت واجبة فيها الزكاة بالخلطة بالشروط المذكورة، ويرجع بعضهم إلى بعض

(الجواب) : في مسألة زكاة غنم الخلطة فالعامل يأخذ من أي المالين شاء، ويرجع المأخوذ منه على خليطه بقدر زكاة ماله، لقوله –عليه السلام:" وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" 1، وسواء كان لكل منهما نصاب،

1 البخاري: الزكاة (1451) .

ص: 112

أو كان لأحدهما نصاب دون الآخر، أو كانا لا يبلغان النصاب إلا باجتماعهما.

(مسألة) : إذا كانت الخلطة توجب الزكاة، وكان لإنسان قدر نصاب أربعين، ولآخر أكثر، ولاثنين قدر نصاب، والجميع تجمعه الخلطة، وجاء الساعي لأخذ الزكاة، هل يأخذ الزكاة من رأس جميع المال من غير معرفة الغنم وتمييزها، ثم يرجع بعضهم إلى بعض أو يأخذ الزكاة من كل مال أم غير ذلك

(الجواب) : متى اختلطا حولا بالشروط المذكورة في كتب الفقه، وبلغت غنمهما نصابا، فالخلطة تصير المالين كالمال الواحد، ويأخذ العامل الزكاة من مال أحدهما، ويرجع على خليطه بقدره.

هلك الزرع قبل التمكن من إخراج الزكاة

(مسألة) في الزرع إذا اشتد في سنبله، وبدا فيه الصلاح، وحصد بعضه وبعضه واقف، أو قد يكون حصد منه شيء، وأصابه آفة من الله مثل برد أو برَد، وذهب جميع الزرع أو بعضه، هل فيه زكاة أم لا أم يفرق بين المحصود والواقف، أم غير ذلك

(الجواب) : المشهور عند أهل العلم أن الزكاة تجب إذا اشتد الحب، ولا يستقر الوجوب إلا إذا جعل في البيدر، فإن تلف بعضه سقطت الزكاة فيما تلف وزكى الباقي؛ ولا أعلم أحدا من العلماء قال بوجوبها فيما تلف قبل الحصاد، بل الذي عليه أكثر العلماء أو كلهم، بل أظنه إجماعا، أن الزرع إذا هلك بآفة سماوية قبل حصاده، والثمرة إذ هلكت قبل الجذاذ فالزكاة تسقط فيما تلف.

وأما إذا جذت الثمرة ووضعت في الجرين، أو حصد الزرع وجعل في البيدر، ثم أصابته آفة سماوية كالريح والنار التي تأكله قبل التمكن من إخراج الزكاة، فهذه المسألة هي محل الخلاف. فبعضهم يقول بوجوب الزكاة وبعضهم

ص: 113

يقول بسقوطها ويقول: شرط الوجوب التمكن من الإخراج وهو لم يحصل.

إخراج الزكاة قبل التصفية

(مسألة) في الذي يخرج زكاته قبل التصفية مثل الصميما ونحوها، هل دقها على صاحب الزرع أم يدفعها إلى أهل الزكاة سنبلا قبل التصفية أم غير ذلك

(الجواب) ظاهر كلامهم عدم الجواز لأنهم نصوا على أنه لا يخرج الحب إلا مصفى؛ ولا التمر إلا جافا.

مسائل في صدقة الفطر وما يتعلق بها

دفع صدقة الفطر إلى مدرس الصبيان

(مسألة) في دفع صدقة الفطر إلى مدرس الصبيان، أرى فعل أكثر بلدنا وغيرها، إذا صار في البلد مدرس دفعوا فطرة القرابة إلى مدرسهم؛ أحدهم يدفعها إليه قبل دفعها إلى الذي يجبيها، وبعضهم يدفعها إلى عامل الزكاة، ثم يدفعها الأمير أو النائب إلى المدرس؛ وكذلك هنا من يضبط الصبيان ويدفع إلى مدرسهم قدر فطرتهم، هل هذا جائز أم لا

(الجواب) : الذي ذكره أهل العلم في صدقة الفطر أنها لا تدفع إلا إلى الفقراء والمساكين ونحوهم، ممن يجوز له أخذ زكاة الأموال، فإن كان هذا المدرس فقيرا وأعطي منها لأجل فقره فهذا حسن، وإن كان إنما أعطي لأجل التدريس فلا يجوز. ولا ينبغي لإنسان أن ينتفع بزكاته، ولا يجعلها وقاية لماله؛ فإن فعل ذلك لم تجز عنه، والفطرة إن جعل الأمير لها جابيا يجبيها دفعها إلى الجابي؛ فإن لم يكن لها جاب فليدفعها إلى من اشتدت حاجته إليها من الفقراء والمساكين. ولا يجوز دفعها إلى غني، ولا يستخدم بها الفقير.

قدر صدقة الفطر إذا كان التمر موزونا

(مسألة) : كم قدر صدقة الفطر إذا كان التمر موزونا الآن، هل قدرها وزنة وثلث أم أكثر

ص: 114

(الجواب) : الذي يظهر لنا أن صاع التمر قدر وزنة ونصف.

دفع صدقة الفطر إلى أهلها عند التفريق بعد الجمع

(مسألة) في دفع صدقة الفطر إلى أهلها عند التفريق بعد الجمع، هل يعطي الإنسان قدر فطرته لا أزيد ولا أنقص، أم لا بد أن يزاد أو ينقص؟ وهل تدفع إليه فطرته بعينها أم لا

(الجواب) : إذا أعطى الجماعة أحدا من الفقراء قدر فطرته لا أزيد ولا أنقص، فهذا لا بأس به إذا كان معطى من غير فطرته التي ساق؛ بل بعض أهل العلم يجوز له أن العامل يرد عليه، ولو زكاته بنفسه إذا بلغت العامل.

هل الأفضل خلط فطرة أهل البلد أم تترك في مواعينها؟

(مسألة) : هل يجب خلط فطرة أهل البلد، أم تترك في مواعينها، وتفرق على هذه الحال من غير جمع، أيما الأفضل في ذلك

(الجواب) : عن هذه المسألة، وهي سؤالك: هل الأفضل خلط فطرة أهل البلد أم تفريغها في مواعينها؟ فالأفضل المبادرة بإخراجها إلى مستحقها، سواء خلطت أم لا.

الحد الذي يثبت في زكاة الفطر

(مسألة) : ما الذي يثبت في حدها هل هو صاع من تمر وهل الصاع من التمر وزنة وثلث أم أكثر وهل نصف صاع البر قائم مقام الصاع من غيره، أم لا بد من الصاع

(الجواب) : الذي يثبت في حدها فهو صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من أقط. وأما البر فجاء في بعض الأحاديث أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم جعل نصف الصاع من البر قائما مقام الصاع من غيره من الأجناس المذكورة. والحديث رواه أحمد وأبو داود. والذي في الصحيحين أن معاوية هو الذي قوم ذلك، والقول به مذهب كثير من أهل العلم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين. وأما تقدير الصاع من التمر بالوزن فهذا لا

ص: 115

يحتاج إليه، لأن التمر مكيل، فإن أخرج وزنتين عن الصاع فهو كما في هذا.

إخراج القيمة في الزكاة أو الفطرة

(مسألة) في إخراج القيمة في الزكاة أو الفطرة.

(الجواب) : قال في الإنصاف: ولا يجزئ إخراج القيمة، هذا المذهب مطلقا، سواء كان ثم حاجة أم لا، لمصلحة أو لا، لفطرة وغيرها، وعنه تجزئ القيمة مطلقا، وعنه تجزئ في غير الفطرة، وعنه تجزئ للحاجة من تعذر العرض ونحوه، واختاره الشيخ تقي الدين، وقيل لمصلحة أيضا واختاره الشيخ تقي الدين. انتهى ملخصا والله أعلم.

مسائل في الرهن وما يتعلق به

الزيادة في دين الراهن

(مسألة) في الراهن، هل يجوز له أخذ دراهم ويجعلها داخلة في الرهن تبعا للأول، فيكون الرهن بها وبالأول

(الجواب) : هل للمرتهن أن يزيد دراهم يكون الرهن بها وبالدين الأول فالمشهور عدم الجواز، وعبارة الإنصاف تجوز الزيادة في الرهن، ويكون حكمها حكم الأصل؛ ولا يجوز زيادة دين الراهن، لأنه رهن مرهون.

اختلاف المرتهن والراهن في الرهن

(مسألة) إذا اختلف المرتهن والراهن في الرهن، أحدهما يقول: رهن، والآخر يقول: بيع، ماذا يكون، ومن يعمل بقوله؟ والحكم في ذلك

(الجواب) : إذا اختلف المرتهن والراهن، فقال الراهن: هو رهن عندك، وقال المرتهن: بل بعتنيه، فالمشهور في هذه المسألة أنهما يتحالفان، فيحلف كل منهما على نفي ما ادعاه الآخر، ويأخذ الراهن رهنه. وعبارة أهل المذهب: وإن قال: رهنتك ما بيدك بألف، فقال: بل بعتنيه بها، أو قال:

ص: 116

بعتكه، فقال: رهنته بها، حلف كل على نفي ما يدعى عليه، وأخذ الراهن رهنه، وبقي الألف بلا رهن. انتهى.

رهن المواشي وقبضها

(مسألة) : هل يجوز رهن المواشي وما قبضها وهل الاستدامة شرط لصحة الرهن

(الجواب) : أما رهن المواشي هل يجوز أم لا فالجواز ظاهر لا يخفى كما دلت عليه السنة الصحيحة، وإنما الإشكال في القبض، هل هو شرط لصحة الرهن أو غير شرط والمشهور عند أهل العلم أن القبض شرط لصحة الرهن. وأما استدامة القبض فهل هي شرط أم لا فعلى قول من يشترط الاستدامة فالأمر ظاهر، وعلى القول الثاني إذا قبضه المرتهن فلا بأس أن يأذن للراهن في الانتفاع به، فيكون تحت يد الراهن ينتفع به والرهن بحاله، والله أعلم.

اختلاف الراهن والمرتهن في قضاء الرهن

(مسألة) : إذا كان على رجل ألفان: أحدهما رهن والآخر بغير رهن، فقضى ألفا وقال: قضيت الألف الذي فيه الرهن، وقال المرتهن: بل قضيت الآخر.

(الجواب) : نقول: القول قول الراهن مع يمينه، سواء اختلفا في نية الراهن بذلك أو في لفظه، لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه، ولأنه يقول: الباقي بلا رهن، والقول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته. والخلاف بين الفقهاء فيما إذا أطلق ولم ينو شيئا، فبعضهم يقول: له صرف الألف في أيهما شاء، كما لو كان له مالان حاضر وغائب، فأدى قدر زكاة أحدهما، كان له أن يعين عن أي المالين شاء. وقال بعضهم: يقع الدفع عن الدينين معا، عن كل واحد نصفه، لأنهما تساويا في القضاء، فتساويا في وقوعه عنهما،

ص: 117

هذا إذا أطلق، وأما إذا ادعى أنه نواه عن الألف الذي فيه الرهن، فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته.

تلف الرهن في يد المرتهن

(مسألة) : إذا رهن إنسان قدرا، وضاع القدر ولا فرط فيه، هل يسقط الدين أو الدين ثابت ولو ضاعت الرهانة

(الجواب) : إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فإن كان بتعديه أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا. فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروى ذلك عن علي –رضي الله عنه، وبه قال عطاء، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر. فأما إذا تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه، ولم يسقط شيء من الدين، بل هو ثابت في ذمة الراهن؛ لأن الدين ثابت في ذمة الراهن، ولم يوجد ما يسقطه.

قبض الرهن

(مسألة) : هل قبض الرهن شرط لصحته أم لا؟

(الجواب) : هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين، بل أقوال: فالمشهور في المذهب أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة؛ وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض كالبيع، ولكن يجب على الرهن التسليم.

وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض، وعنه أن القبض ليس شرطا في المتعين، فيلزم بمجرد العقد نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالمبيع، وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه أجبر الراهن على رده. انتهى.

وأما قول السائل: وهل استدامته شرط في اللزوم فهذا ينبني على

ص: 118

الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك. وقال الشافعي: استدامة القبض ليس شرطا. قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم، هذا المذهب، وعنه أن استدامته في المتعين ليس بشرط، اختاره في الفائق. انتهى ملخصا.

رهن المبيع على ثمنه قبل قبضه

(مسألة) في رهن المبيع على ثمنه قبل قبضه، ما الفرق بين المكيل والموزون في ذلك هل هو لأجل النهي عن بيعه قبل قبضه، فكذلك رهنه، فصار الرهن كالبيع على ذلك

(الجواب) : أما رهن المكيل والموزون قبل قبضه ففيه خلاف، والمشهور من المذهب أنه لا يجوز قياسا على البيع، قال في الإنصاف: ظاهر ما قطع به المصنف في باب الرهن عدم جواز رهنه، حيث قال: ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه.

قال في القاعدة الثانية والخمسين: قال القاضي في المجرد، وابن عقيل: لا يجوز رهنه ولا هبته ولا إجارته قبل قبضه كالبيع، ثم ذكر في الرهن عن الأصحاب أنه يصح رهنه قبل قبضه. انتهى. واختار القاضي الجواز، واختاره الشيخ تقي الدين.

رهن الثمرة قبل حمل النخل ورهن أجرة المؤبر

(مسألة) في رهن الثمرة في غير وقتها، أعني قبل حمل النخل، أو رهن ثمرة هذا النخل سنين كثيرة إلى أن يستوفي الراهن رهنه، هل هذا جائز أم لا وكذلك رهن التعبة في الحال أو بعد سنين، وكذلك رهن أجرة مؤبر النخل ومن يصلحه، أعني تعبته على ذلك، واسمه عندنا الشمال، الذي له على النخل وزان معلومة، واسترهنها منه التاجر، هل هذا جائز وهل يفرق في ذلك قبل الدخول في ذلك العمل أو بعده، أو قبل الحمل أو بعده

(الجواب) : رهن الثمرة المعدومة كأن يرهن الثمرة قبل أن تخلق

ص: 119

فهذا لا يصح لأنه معدوم. فإذا أراد أن يرهن الثمرة دون الأصل والثمرة لم تخلق لم يصح، إلا أن يرهن الأصل فيصح حينئذ، وتكون الثمرة التي استحدثت رهنا، لأن نماء الرهن يكون رهنا تبعا لأصله. والخلاف بين الفقهاء إنما هو في رهن الثمرة الموجودة قبل بدو صلاحها. قال في الإنصاف: وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها، من غير شرط القطع والزرع الأخضر، فيجوز في أحد الوجهين، وهو المذهب جزم به في الوجيز، واختاره القاضي، وهو من مفردات المذهب.

(والوجه الثاني) لا يجوز. انتهى ملخصا. وأما رهن أجرة الشمال فالظاهر عدم الصحة، لأن الأجرة دين في ذمة المؤجر، ليست عينا معينة، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.

مسائل في المساقاة

المساقاة في ثمرة موجودة

مسائل في المساقاة والمزارعة وما في معناهما:

(مسألة) في المساقاة، قولهم: وهل تصح في ثمرة موجودة على روايتين: (إحداهما) يجوز. ما صورة ذلك، وما الموجود، وما حجة المانع من ذلك

(الجواب) : أما قولك: ما معنى قولهم، وهل تصح على ثمرة موجودة فمعناه ما يفعله الناس اليوم إذا أبرت الثمرة وأراد المجازاة من الكد، ساقى على ثمرة نخله بالنصف أو الثلث، فيقوم الثاني مقام الأول في تصليح الثمرة وتنميتها؛ وهذه المسألة فيها خلاف، والمذهب عند المتأخرين جواز ذلك إذا بقي من السقي والكلفة ما تنمو به الثمرة، وهو المفتى به اليوم.

المساقاة على النخل بسهم معلوم

(مسألة) : إذا استأجر هذا النخل بسهم معلوم، كالنصف أو الربع ونحو ذلك، وشرط المؤجر ثمرة نخله أو وزانا زائدة أو الحطب أو نحو ذلك، واشترط الربع ونحوه مع زيادة ريال أو ريالين، هل يجوز ذلك؟ وهل

ص: 120

يفرق بين أن يكون الزائد دراهم أو طعاما

(الجواب) : أما المسألة الثانية إذا ساقاه على النخل بسهم معلوم كالثلث أو الربع، وشرط عليه زيادة وزان معلومة أو دراهم معلومة، فهذا لا يجوز بغير خلاف علمناه، وإنما الخلاف فيما إذا اشترط صبرة معلومة، نحو أن يساقيه على نخله بخمسمائة وزنة أو أقل أو أكثر، ويجعل بدل التمر دراهم، ويؤجر النخل بدراهم معلومة، فهذا النوع أجازه الشيخ تقي الدين، وهو المفتى به اليوم.

والجمهور على المنع، ولا أعلم دليلا يدل على المنع من ذلك، بل ظاهر الحجة مع الشيخ، وليس هذا موضع ذكرها. وأما الجمع بين السهم المشاع كالنصف والثلث، وبين وزان معلومة زائدة على ذلك، أو دراهم معلومة زائدة على ذلك، فهذا لا يجيزه الشيخ، بل حكى في بعض أجوبته أنه لا يجوز باتفاق أهل العلم.

(مسألة) : إذا قلنا تفسد هذه الشروط، فهل تفسد المساقاة ويستأنفون عقدا جديدا، أم غير ذلك، أم يلغو الشرط وحده

(الجواب) أما قولك: هل تفسد المساقاة أم يفسد الشرط وحده، فالعمل عندهم على أن ذلك يفسد العقد، ويستأنفون عقدا آخر.

مسائل في المزارعة

كان لصاحب الأرض سهم وشرط زيادة

(مسألة) في الزرع، إذا كان لصاحب الأرض سهم كالربع ونحوه، وشرط أيضا مع ذلك زيادة عشرة آصع ونحوها، هل هذا جائز أم لا وكذلك إذا اشترط زيادة دراهم، هل حكم مسألة المزارعة والإجارة في النخل واحد وكذا هل يفرق بين الطعام والدراهم في المساقاة والمزارعة أم لا

ص: 121

(الجواب) : أما مسائل المزارعة فنذكر كلام الفقهاء في ذلك؛ حتى يتبين لك جواب ما سألت عنه فنقول:

اختلف العلماء في جواز المزارعة، فأجازها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، وكرهها أبو حنيفة والنخعي. وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل، ومنعها في الأرض البيضاء، والحجة مع الجمهور. هذا إذا كان العقد على مزارعة، وهي العقد على الأرض ببعض ما يخرج منها، كثلث وربع ونحو ذلك.

وأما إذا كان العقد عليها إجارة لا زراعة، فإن أجرها بدراهم معلومة فهذا جائز. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن كراء الأرض وقتا معلوما جائز بالذهب والفضة، وأما إجارة الأرض بالطعام فتنقسم أقساما:

(أحدها) : أنه يؤجرها بطعام معلوم غير الخارج منها، فهذا جائز، نص عليه أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم الشافعي، وأصحاب الرأي، ومنع منه مالك.

(القسم الثاني) : إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها، كإجارتها بقفزان حنطة من زرعها، ففيه روايتان:(إحداهما) المنع، وهو مذهب مالك، (والثانية) الجواز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهي المذهب.

(القسم الثالث) : إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، فالمنصوص عن أحمد جواز ذلك، وهو الصحيح، وهو قول أكثر الأصحاب. وقد نص أحمد فيمن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها أنه يصح. قال بعضهم: وهذه مزارعة بلفظ الإجارة، وقال بعضهم: بل هذه إجارة، والإجارة تصح بجزء معلوم مشاع مما يخرج من الأرض المؤجرة، كما نص عليه أحمد.

وقال الشيخ تقي الدين: تصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها، وهو ظاهر المذهب، وهو قول الجمهور، والقول الثاني أنه لا تجوز إجارتها بجزء مشاع منها، لأنها إجارة بعوض مجهول،

ص: 122

وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، واختاره الموفق في المغني، قال في الشرح: وهو الصحيح. انتهى. وبما فصلناه يتبين لك جواب ما سألت عنه إن شاء الله.

وأما قولك في المزارعة: إذا كان له سهم كالربع ونحوه، وشرط زيادة عشرة آصع أو زيادة دراهم، هل حكمه حكم المساقاة فنقول: نعم، متى اشترط في المساقاة أو المزارعة ما يعود بجهالة نصيب كل منهما، أو اشترط أحدهما نصيبا مجهولا، أو اشترط مع نصيبه المعلوم دراهم أو آصعا زائدة على الربع ونحوه، فهذا كله يفسد العقد؛ لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه.

إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها

(مسألة) : وكذا قوله: لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه. هل هو السهم المعقود عليه أم غيره وما صورة ذلك وكذا قوله: وإن فسدت وسميت إجارة فأجرة المثل، وقيل قسط المثل ما هذا وما الفرق بين الأجرة والقسط المسمى، وما فسادها

(الجواب) : هذه المسألة، وهي معنى قوله: لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع نظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه. فهذه المسألة ذكرها صاحب الإنصاف عقب المسألة المتقدمة، وهي إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم كنصف وثلث، وذكر الخلاف بين الأصحاب، هل هذه مزارعة بلفظ الإجارة أم هي إجارة؟ وصح أنها إجارة، وأنها جائزة. ثم قال: فوائد الأولى لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه، وإن فسدت وسميت إجارة فأجرة المثل، وقيل قسط المثل، اختاره الشيخ تقي الدين. انتهى.

ومعنى كلامه: أن الأرض المؤجرة بجزء مشاع منها، سواء قلنا هي مزارعة بلفظ الإجارة، أو قلنا إنها إجارة حقيقية، إذا لم يزرعها المستأجر نظر إلى معدل المغل،

ص: 123

يعني أنه ينظر إلى المغل المعدل، أي الموازن لما يخرج منها لو زرعت، فيجب القسط المسمى فيه لرب الأرض، وإن فسدت هذه الإجارة فالواجب أجرة المثل؛ وذلك لأن المذهب ثبوت الأجرة في ذمة المستأجر، سواء زرع الأرض أو لم يزرعها، وسواء زرع فنبت الزرع ونما أو لم ينبت، أو نبت فتلف بآفة، فالمذهب ثبوت الأجرة بتمامها في هذه الصورة، بخلاف ما اختاره الشيخ من وضع الجوائح في ذلك.

الإجارة والمساقاة هل هما عقد لازم أو جائز

(مسألة) في الإجارة والمساقاة، هل هما عقد لازم أو جائز؟ وما معنى اللازم والجائز

(الجواب) : أما الإجارة فهي عقد لازم، وهو قول جمهور العلماء، لأنها بمعنى البيع. وأما المساقاة فأكثر الفقهاء على أنها عقد لازم، واختاره الشيخ. وعند شيخنا أنها عقد لازم من جهة المالك، وعقد جائز من جهة العامل. وأما معنى اللازم والجائز: فاللازم هو الذي لا يتمكن أحد من المتعاقدين من فسخه إلا برضى الآخر، والجائز هو الذي يفسخه بغير رضى صاحبه.

ساقى على نخل بسهم معلوم وشرط زيادة

(مسألة) في المساقاة: إذا ساقى رجل على نخل بسهم معلوم كالنصف ونحوه، وشرط صاحب النخل نخلتين طلائع زيادة له على سهمه، هل يجوز ذلك أم لا وكذا إن قلنا بالفساد فما العمل وكذا العنب وجميع الأشجار، هل يجوز فيه الزيادة أم حكمها حكم النخل ونحوه

(الجواب) : أما المساقاة فلا يجوز للمالك أن يشترط طليعة نخلة أو نخلتين، أو يشترط شيئا زيادة على السهم الذي له، فإن فعل ذلك فسدت المساقاة؛ وسواء في ذلك النخل والعنب والخوخ، فإذا فسدت فالحكم واضح في كلام الفقهاء.

ص: 124

مسائل في المعاملات وأنواعها

فسخ البيع بعد العقد والمبيع مكيلا أو موزونا

(مسألة) إذا عقد إنسان البيع من إنسان، والمبيع تمر أو عيش، وتفرقا على العقد من غير قبض ولا نقد ثمن، وأراد البائع أن يفسخ البيع وأبى المشتري، هل يلزم البيع أم لا

(الجواب) : المبيع الذي يتعلق به حق توفية مثل المكيل والموزون، فهذا يلزم بالعقد، ولا يحصل فيه فسخ إلا بتراضيهما، وأما التصرف فيه بالبيع فلا يجوز إلا بعد قبضه.

تعيب المبيع في يد المشتري

(مسألة) : إذا اشترى إنسان نخل مقياض، فلما كان في يد المشتري حدث به عيب، مثل هضاب أو عسلج أو خنان أو غير ذلك من العيوب، هل يملك المشتري الرد على البائع وأخذ ثمنه أم لا؟ وهل بين عيب النخل وغيره فرق؟

(الجواب) : الثمرة إذا بيعت في رؤوس النخل ثم حدث بها عيب لم تجر به العادة، مثل السعيف الكثير أو الخنان، فهذا من ضمان البائع، وتثبت الجائحة عليه يطالبه المشتري بذلك.

بيع اللحم والحيوان والدهن بالتمر نساء

(مسألة) : هل يصح بيع اللحم وكذلك الحيوان بالتمر نساء وكذلك الدهن هل يجوز بيعه بالتمر أو العيش نساءوهل يفرق بين النساء واليد باليد في هذه الأنواع

(الجواب) : أما بيع الحيوان بالتمر نساء فلا أرى به بأسا، وأما بيع الدهن بالتمر أو العيش نساء فلا يجوز عند جمهور العلماء؛ وأجازه نفاة القياس القائلون بقصر الربا على الأنواع الستة المذكورة في حديث عبادة، لكن قول الجمهور

ص: 125

أولى وأحوط، وأما إذا بيع ذلك يدا بيد فهو جائز لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا اختلفت هذه الأجناس "1 إلخ.

الفرق بين المحاقلة والمخابرة وتفسيرهما

(مسألة) : ما الفرق بين المحاقلة والمخابرة، وما تفسيرهما

(الجواب) أما الفرق بين المحاقلة والمخابرة، فالمحاقلة بيع الحب المشتد في سنبله بحب من جنسه، فإذا بيع هذا الزرع الذي قد اشتد حبه بعيش من جنس الحب الذي في الزرع، فهذه هي المحاقلة المنهي عنها، لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

وأما المخابرة فاختلف الفقهاء في تفسيرها، فمنهم من فسرها بما جاء في سنن أبي داود عن زيد قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة؛ قلت: وما المخابرة قال: أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع"2، ومنهم من فسر المخابرة المنهي عنها بما في حديث رافع قال:"كنا من أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك. وأما بالذهب والورق فلم ننه عنها "3 متفق عليه وفي لفظ " فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس "4.

وهذا الذي فسر به المخابرة في حديث رافع لا يختلف في فساده، وهذا التفسير هو الراجح في تفسير المخابرة المنهي عنها.

تعيين الدراهم والدنانير بالتعيين

(مسألة) : هل تتعين الدراهم والدنانير بالتعيين أم لا وما فائدة الخلاف وغيره

(الجواب) : المسألة فيها روايتان عن أحمد، والمذهب أنها تتعين. وأما فائدة الخلاف فذكروا له فوائد كثيرة (منها) أنه لا يجوز إبدالها إذا عينت، وإن خرجت مغصوبة بطل العقد، ويحكم بملكها للمشتري بمجرد التعيين، فيملك التصرف فيها، وإن تلفت فمن ضمانه، وإن وجدها معيبة من غير جنسها بطل العقد، إلى غير ذلك من الفوائد كما نبه على ذلك في الإنصاف وغيره.

1 مسلم: المساقاة (1587)، والدارمي: البيوع (2579) .

2 أبو داود: البيوع (3407) .

3 البخاري: الشروط (2722)، ومسلم: البيوع (1547)، وابن ماجه: الأحكام (2458) .

4 مسلم: البيوع (1547)، والنسائي: الأيمان والنذور (3899) .

ص: 126

معنى قوله: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ)

(مسألة) في قوله: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"1 ما معنى ذلك وهل يجوز ذلك

(الجواب) : أما معنى قوله: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" 2 فقال الخطابي: تأويله أن الرجل إذا حفر بئرا في موات فيملكها بالإحياء، فإذا جاء قوم لينْزلوا في ذلك المكان الموات ويرعوا نباتها، وليس هناك ماء إلا تلك البئر، فلا يجوز له أن يمنع هؤلاء القوم من شرب ذلك الماء، لأنه لو منعهم منه لا يمكنهم رعي ذلك الكلأ، فكأنه منعهم عنه.

اجراء الماء في أرض غيره بغير إذنه

(مسألة) : إذا أراد إنسان أن يجري ساقية في أرض غيره، إلى أرضه المحتاج إليها، بغير إذن صاحب الأرض. ماذا يكون وهل يمنع أم لا

(الجواب) : إذا أراد أن يجري ساقية في أرض غيره بغير إذنه، فقال في المغني: وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه، وإن كان لضرورة مثل أن تكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره فهل له ذلك على روايتين:

(إحداهما) : لا يجوز بغير إذنه، كما لو لم تدع إليه ضرورة، (والرواية الأخرى) : تجوز، ثم ساق الأثر المروي عن عمر حين قال لمحمد بن مسلمة: لِم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به ففعل. رواه مالك في الموطأ. انتهى.

والقول الأول هو المذهب، ومال إليه في المغني والشرح وقال: هو أقيس، والقول الثاني هو اختيار الشيخ تقي الدين.

اشتراط البائع في بيع الأجل الخيار إلى الأجل

(مسألة) بيع الحيوان وغيره إلى أجل، ويشترط البائع الخيار

1 البخاري: المساقاة (2353 ،2354) والحيل (6962)، ومسلم: المساقاة (1566)، والترمذي: البيوع (1272)، وأبو داود: البيوع (3473)، وابن ماجه: الأحكام (2478) ، وأحمد (2/244 ،2/273 ،2/309)، ومالك: الأقضية (1459) .

2 البخاري: المساقاة (2353 ،2354) والحيل (6962)، ومسلم: المساقاة (1566)، والترمذي: البيوع (1272)، وأبو داود: البيوع (3473)، وابن ماجه: الأحكام (2478) ، وأحمد (2/244 ،2/273 ،2/309)، ومالك: الأقضية (1459) .

ص: 127

اليوم عندنا.

لزوم البيع بمجرد العقد

(مسألة) : إذا شرى رجل من آخر مائة صاع ووعده أنه يكيلها غدا، فلما جاءه من غد يريد كيلها قال البائع: بدا لي، وقال المشتري: لا بد من اللزوم، ولم ينفد الثمن، هل يلزم أم لا

(الجواب) : يلزم البيع بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ البيع إلا برضى المشتري، ولكن لا يجوز بيعه قبل قبضه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه "1 متفق عليه.

اختلاف البائع والمشتري في قدر الثمن

(مسألة) : إذا باع رجل على رجل بعيرا أو غيره، فقال البائع: الثمن عشرة، وقال: المشتري بل تسعة.

(الجواب) : إذا اختلفا في قدر الثمن ولا بينة لأحدهما، تحالفا: فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا. فإذا تحالفا ولم يرض أحدهما بقول الآخر انفسخ البيع؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، وعن أحمد أن القول قول البائع، أو يترادان البيع، لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع "2 رواه سعيد وابن ماجه. قال الزركشي: هذه الرواية وإن كانت خفية مذهبا، فهي ظاهرة دليلا، وذكر دليلها ومال إليها.

1 البخاري: البيوع (2126)، ومسلم: البيوع (1526)، والنسائي: البيوع (4595 ،4604)، وأبو داود: البيوع (3492 ،3495)، وابن ماجه: التجارات (2226)، ومالك: البيوع (1335) .

2 الترمذي: البيوع (1270)، والنسائي: البيوع (4648)، وأبو داود: البيوع (3511)، والدارمي: البيوع (2549) .

ص: 128

اختلاف البائع والمشتري في قدر الأجرة

(مسألة) : إذا أكرى رجل رجلا بعيرا فقال راعي البعير: الكراء عشرة، وقال المكري: الكراء ثمانية.

(الجواب) : إذا اختلفا في قدر الأجرة فهو كما إذا اختلفا في قدر الثمن في البيع، كما تقدم في المسألة التي قبلها، نص أحمد على أنهما يتحالفان، وهو مذهب الشافعي، قاله في الشرح، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

اختلاف المكري والمستكري في المدة

(مسألة) : إذا استكرى رجل بيتا فقال صاحب البيت: أنا مكريك دور السنة، وقال المستأجر: أنا مستكر سنتين.

(الجواب) القول قول المالك مع يمينه، قال في الشرح: لأنه منكر للزيادة فكان القول قوله مع يمينه، كما لو قال: بعتك هذا العبد بمائة، وقال: بل هذين العبدين بمائتين.

بيع الثمرة قبل بدو الصلاح

(مسألة) في بيع ثمرة النخل قبل بدو الصلاح إذا كان منهيا عنه، هل يوجب الفساد ويرد الثمن، ولا يقر هذا، ويلزم من أشرف عليه إبطاله وهذا يفعل كثيرا.

(الجواب) : أما بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فهو منهي عنه، فإن فعل فهو فاسد، ويرد الثمن إلى المشتري؛ ويلزم الإنكار على من فعله.

مسائل في الخيار وما في معناه

خيار المجلس وصورته

(مسألة) : ما خيار المجلس وما صورته

(الجواب) : خيار المجلس يثبت للمتبايعين، لكل منهما فسخه ما داما مجتمعين ولم يتفرقا؛ وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما

ص: 129

بالخيار ما لم يفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر؛ فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب "1 والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم.

تبايعا وشرطا أن ليس بينهما خيار مجلس

(مسألة) : إذا تبايعا وشرطا أن ليس بينهما خيار مجلس.

(الجواب) : يلزم البيع ويبطل الخيار؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع "2 يعني لزم البيع. قال في الشرح: وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح –إن شاء الله- لحديث ابن عمر.

ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار

(مسألة) : إذا تبايعا نخلا وشرطا الخيار عشر سنين، وأخذ المشتري العمارة في العشر سنين، ويوم فك البائع النخل هل العمارة تنكس على البائع، أو تكون للمشتري يأخذها مع الدراهم؟

(الجواب) : ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار فهو للمشتري، أمضيا العقد أو فسخاه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" الخراج بالضمان "3، فيجب أن يكون خراجه له في مقابلة ضمانه.

العقود التي يثبت فيها خيار المجلس وخيار الشرط

(مسألة) في خيار المجلس وخيار الشرط ما يثبتان فيه من العقود وكذا أسألك عن خيار المجلس ما يثبت فيه من جميع العقود سوى البيع، كالقسمة والإجارة والمساقاة والمزارعة والوقف والصرف والسلم والجعالة ونحو ذلك ما حكم المسألة عند الحنابلة، وما الخلاف والدليل وهل حكم هذه الصورة عند من ذكرها واح

(الجواب) : أما مسألة خيار المجلس، ما يثبت فيه من العقود؟ فيثبت في البيع في قول جمهور العلماء، خلافا لمالك وأصحاب الرأي، للأحاديث

1 البخاري: البيوع (2112)، ومسلم: البيوع (1531)، والترمذي: البيوع (1245)، والنسائي: البيوع (4465 ،4466 ،4467 ،4468 ،4469 ،4470 ،4471 ،4472 ،4473 ،4474)، وأبو داود: البيوع (3454) ، وأحمد (1/56 ،2/4 ،2/9 ،2/73 ،2/119)، ومالك: البيوع (1374) .

2 البخاري: البيوع (2112)، ومسلم: البيوع (1531)، والنسائي: البيوع (4467 ،4468 ،4472) ، وأحمد (2/119) .

3 الترمذي: البيوع (1285)، والنسائي: البيوع (4490)، وأبو داود: البيوع (3508)، وابن ماجه: التجارات (2243) .

ص: 130

الصحيحة، ويثبت في الصلح بمعنى البيع، وفي الهبة إذا شرط فيها عوضا معلوما. ويثبت في الإجارة وفي الصرف وفي السلم، كل هذا يثبت فيه خيار المجلس، ولا يثبت في سائر العقود كالنكاح والوقف والهبة بغير عوض، فكل هذا لازم لا خيار فيه، وكذلك الرهن لازم في حق الراهن وحده لا خيار فيه، وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما، وكذلك الحوالة والأخذ بالشفعة عقد لازم لا خيار فيهما على المشهور.

وأما المساقاة والمزارعة، فإن قلنا إنهما عقد لازم على القول الراجح ثبت فيهما خيار المجلس، وإن قلنا أنهما عقد جائز فلا خيار فيهما، لأن الخيار مستغنى عنه حينئذ.

(مسألة) في خيار الشرط، ما يثبت فيه من هذه الأشياء سوى البيع، والصلح بمعنى البيع، والإجارة في الذمة. ما حكم هذه الأشياء عند الحنابلة وما الخلاف والتوافق بينهم وبين غيرهم وما الدليل وما قول الشيخ تقي الدين يثبت خيار الشرط في كل العقود، ما الداخل منها في قوله وما الخارج

(الجواب) : أما خيار الشرط فيثبت في البيع، والصلح بمعنى البيع، والهبة بعوض، والإجارة في الذمة، ونحو ذلك، ولا يثبت في الصرف والسلم ونحوهما. وقال الشيخ تقي الدين: يثبت خيار الشرط في كل العقود، فيثبت عنده في الصرف والسلم، إذا تقابضا، ثم جعلا الخيار لهما أو لأحدهما دة معلومة، والله أعلم.

مسائل في السلم وما في معناه مما يتعلق به

هل يلزم السلم بالعقد أو لا بد من القبض؟

(مسألة) : إذا أراد إنسان أن يسلم إلى إنسان دراهم كثيرة أو قليلة، وعرفا السعر، ودفع المسلم بعض الدراهم إلى المسلم إليه، وبعضها لم يدفعه إليه،

ص: 131

بل أعطاها أجير المسلم إليه أو غريمه، أو تقاولوا على سعر ولم يقبض المسلم إليه شيئا من الدراهم، بل فرقها المسلم أو استوفى بها، وهل يلزم السلم بالعقد أو لا بد من القبض ومن أراد الفسخ قبل القبض يكون له أم لا وهل يشترط لصحة السلم قبض رأس المال في مجلس العقد ويجعل في يد المسلم إليه

(الجواب) : إذا أراد إنسان أن يسلم إلى إنسان مائة جديدة، وساومه وعرفا السعر، ثم دفعها إليه متفرقة، أو أعطاها أجيره أو غريمه (فاعلم) -وفقك الله- أن الذي عليه جمهور العلماء أن من شرط صحة السلم قبض رأس المال في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل القبض بطل العقد. فإن أحضرا رأس المال في مجلس آخر وتراضيا على إمضاء العقد وأسلمها إليه صح، فإن أسلم إليه بعض الدراهم صح فيما أسلم إليه وبطل فيما لم يقبض. فإذا أحضره بعد ذلك ودفعه إلى المسلم إليه وقبله صح كالذي قبله؛ وأما إذا لم يكن أسلم إليه رأس المال، بل دفعه إلى أجير المسلم إليه أو غريمه، ولم يقبضه المسلم إليه، فإن ذلك لا يصح عند الجمهور.

قلب الدين على الأجير وعلى المعسر وعلى المليء

(مسألة) : إذا كان في ذمة إنسان لآخر دراهم وهو مليء، هل له أن يكتبها عليه وهل يجوز ذلك وكذلك الكداد إذا كان في ذمته دراهم للتاجر، هل يجوز للتاجر أن يجعلها سلما قبل قبضها أم لا وكذلك الأجير أو الكالف إذا كان له على مؤجره دراهم ولم يقبضها، وأراد صاحب الدراهم أن يجعلها سلما في ذمة من كان يطلب منه الدراهم، ولم يقبض من ذلك شيئا، هل يجوز ذلك وهل يفرق بين المليء الباذل وبين المعسر المماطل

وكذلك التصحيح إذا عجز الإنسان عن غريمه قال: هاك دراهم أصححها عليك بتمر أو عيش في ذمتك، هل يجوز ذلك وهل يفرق بين القادر والمعسر في

ص: 132

ذلك أم لا وكذلك إذا كان لإنسان على آخر تمر، ثم جاءه وقت الوجوب ولم يحصل له شيء من عمله ومنعه وقال: الذي هو في ذمته بعنني تمرا أوفيك به، وكذلك إذا تحقق التاجر أن ما حصل له تمر يأخذه، قال للكداد: اشتره مني، وباعه عليه، ثم أوفاه به. هل يصح ذلك أم لا

(الجواب) : إذا كان في ذمة الكداد دراهم للتاجر أو الأجير، وبغى يقلبها عليه في زاد، فهذه المسألة خطرها كبير؛ فينبغي التفطن لها لئلا يقع الإنسان في الربا وهو لا يشعر. وصورة المسألة أن العلماء اختلفوا، هل يجوز للتاجر أن يسلم إلى غريمه دراهم ثم يستوفي بها عن دينه، فمنعه مالك رحمه الله وقال: ما خرج من اليد وعاد إليها فهو لغو وجوده كعدمه، ومذهبه رحمه الله أن هذا التصحيح الذي يفعله الناس اليوم لا يجوز.

وأما الأئمة الثلاثة فيفرقون بين المليء الباذل والمعسر المماطل، فالمعسر لا يجوز قلب الدين عليه والواجب إنظاره، قال الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة من الآية: 280] ، وأما المليء الباذل فظاهر كلامهم جواز السلم إليه، ولو أوفاه من الدراهم التي أسلمها إليه إذا كان على غير وجه الحيلة.

ومن أعظم ما يكون وأشده خطرا التحيل على قلب الدين إذا عجز عن استيفائه، فتجد الرجل يطلب من الكداد دراهمه، فإذا عجز عن استيفائها كتبها عليه، وصحح فيها، وهو لو يطمع في أن دراهمه تحصل له بتمامها، ولو عقب دور السنة ما كتبها عليه، ولكن إذا علم أنه ما حصل له دراهم، وعرف أنها باقية في ذمة الكداد قلبها عليه بزاد لئلا يفوته الربح، وكذلك إذا كان في الصغرى، وحل أجل التمر، وعرف أنه إن أراد أن يأخذ تمره من الكداد ما حصل له، وخاف أن يقول: إن أخذت تمري وقفت، فإذا تحقق أنه ما حصل له شيء

ص: 133

يأخذه قال: اشتره مني، وجاءه التاجر في نخله ووزنه ورده عليه؛ وكل هذا من الحيل الباطلة المفضية إلى الربا.

والواجب على من يداين الناس أو يفتيهم التفطن لهذه الأمور، وكثير من الناس يعقد العقود ظاهرها الصحة وهي باطلة لأجل الحيلة. فينبغي لمن أسلم إلى غريمه أن يدفعها إليه، ولا يستوفي منها بشيء في مجلس العقد، بل يدفعها إليه ويمضي بها إلى بيته، فإذا حازها وتملكها، وصارت الدراهم مالا له يتصرف فيها كسائر ماله، فلا بأس إذا أوفاه منها بعد ذلك.

وكذلك التمر إذا حل فينبغي للتاجر أن ينظر في حال ديانه، فإن علم منه أنه يبغي أن يوفيه ثمره بتمامه، ولو ما باع عليه منه شيئا، ووزنه له، وصار مالا للتاجر إن أراد أخذه أخذه وحمله من عنده، فهذا لا بأس أن يبيعه عليه بعد قبضه؛ وأما إن كان ما يحصل له يأخذه، وعرف أنه إن كان ما باعه عليه خنس عنده، فهذا لا يجوز بيعه، فإن باعه فهو فاسد. والحيل ما تحل الحرام، ولا تجوز في أمور الدين والله أعلم.

أسلم في دراهم معلومة واشترط ثمنين

(مسألة) في السلم: إذا أسلم إنسان إلى آخر شيئا معلوما، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى ثمان، وإن كان من السنة التي بعدها فعلى عشر، ولم يقطع الخيار في مدة قريبة، بل هو متعلق إلى حدوث الثمرة الأولى. هل هو جائز أم لا وهل حكم الشرط واحد من الطرفين

(الجواب) : أما إذا أسلم إنسان إلى آخر دراهم معلومة، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى ثمان، وإن كان من السنة التي بعدها فعلى عشر، ولم يقطع الخيار في مدة قريبة، بل معلق إلى حصول الثمرة الأولى، فهذا لا يجوز عند جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم، وذكروا أن هذا بيعتان في بيعة.

ص: 134

أخذ بعض الثمرة المسلم فيها بخرصها

(مسألة) في السلم: إذا أسلم إنسان على آخر شيئا معلوما، فلما حضرت الثمرة أراد المسلم أخذ هذه النخلة بخرصها، وتكون من السلم. هل يجوز ذلك وإن قلنا بعدم الجواز في ذلك، ما العلة هل هو لأجل الجهل أو غيره

(الجواب) : أما إذا قبض التمر خرصا، بأن يكون في ذمة زيد لعمرو تمر قرضا أو سلما، فأراد أن يأخذ منه نخلة بخرصها من الدين الذي في ذمته، فلا أعلم فيه منعا إذا تراضيا إلى ذلك، ولم يكن بينهما شرط عند العقد، فأما مع الشرط فلا يجوز، خصوصا في مسألة القرض فهو أبلغ، لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا.

كان له تمر على آخر ودفع إلى غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه

(مسألة) : إذا كان لرجل تمر على آخر ودفع إلى غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه.

(فالجواب) : هذه المسألة إذا كان لرجل تمر على آخر، ودفع إلى غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه، فهذه المسألة فيها تفصيل، قال في المغني:

ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم وقال: اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك عليّ، لم يصح، لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو، فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته فهو كتصرف الفضولي، وإن قال: اشتر لي بها طعاما ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه، وإن قال: اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك، ففعل فهو جائز.

وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز، لأنه يكون قابضا من نفسه لنفسه. انتهى. فقد تبين بما ذكرناه أن الذي يجوز في مسألة السؤال أن يدفع إليه الدراهم ويأمره أن يشتري بها للدافع، فإذا اشترى بها طعاما لموكله، وقبضه الوكيل للموكل، ثم أذن له الموكل أن يقبضه لنفسه قبضا ثانيا، وفعل ذلك جائز، ومنعه أصحاب الشافعي.

ص: 135

قبض الطعام وصفته

(مسألة) في القبض للطعام ونحوه ما صفته هل يكون بالكيل أو الوزن، وإن لم ينقل، وكذا الصبرة

(الجواب) : أما قبض الطعام ونحوه، فأهل العلم ذكروا أن القبض في كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو وزنا فقبضه بكيله أو وزنه، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله"1 رواه مسلم.

وأما قول السائل: وهل القبض يحصل بالكيل أو الوزن وإن لم ينقل؟ فالمشهور أن القبض يحصل بالكيل والوزن وإن لم ينقل، كما نبه عليه منصور في شرح الإقناع والمنتهى، وهو ظاهر الحديث المتقدم. وأما الصبرة فإذا بيع الطعام جزافا فقبضه نقله، ولا يجوز بيعه قبل نقله؛ لحديث ابن عمر المتفق عليه.

كال المشتري الطعام ثم أراد أن يبيعه بكيله الأول

(مسألة) : إذا كال المشتري الطعام ثم أراد أن يبيعه بكيله الأول من غير كيل. هل يجوز أم لا وما الجائز

(الجواب) : المشهور جوازه إذا كان المشتري الثاني حاضرا يشاهد الكيل الأول، وفيه وجه لا يجوز إلا بكيل ثان، وهو مذهب الشافعي لما روى ابن ماجه أن النبي-صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري.

باع تمرا بعينه فاقترض بدله ووفى منه

(مسألة) إذا باع تمرا وعنده تمر في رؤوس النخل، فاستلف تمرا ودفعه إلى المشتري، ثم دفع إليه بعد ذلك. هل يجوز ذلك أم لا

(الجواب) هذا فيه تفصيل، فإن كان المشتري قد اشترى من ذمته تمرا موصوفا بصفات السلم، ولم يعينه من هذا التمر بعينه، فلا بد من قبض الثمن، لئلا يكون بيع دين بدين، فإذا أحضر الثمن صح البيع ولزم، وحينئذ

1 مسلم: البيوع (1528) .

ص: 136

فلا بأس أن يقترض ويوفي المشتري، لأن البيع وقع على موصوف غير معين، ولا يقال: هذا بيع ما ليس عندك، لأن هذا عنده جنس ما باع. وأما أن البيع قد وقع على تمر بعينه فليس له أن يقترض بدله، بل عليه أن يوفيه تمره الذي وقع عليه العقد.

استنابة من عليه الحق للمستحق

(مسألة) : إذا كان لإنسان عند آخر تمر، وأمر صاحب التمر الذي هو عنده أن يبيعه على أجنبي أو غيره. هل يجوز أم لا

(الجواب) : هذه المسألة مسألة استنابة من عليه الحق للمستحق وهي جائزة، لكن لا يجوز له بيعه حتى يقبضه من نفسه لموكله، فإذا قبضه ثم باعه جاز، ولا بد من وزن ثان، إلا أن يكون المشتري قد حضر الوزن الأول، فيجري فيه الخلاف الذي تقدم ذكره في المسألة الرابعة.

بيع المسلم فيه قبل قبضه

(مسألة) إذا كان لإنسان عند آخر تمر فباعه على الذي هو في ذمته. هل هذا جائز أم لا وهل يفسد البيع

(الجواب) : إذا كان لإنسان عند آخر تمر فباعه على الذي هو في ذمته قبل قبضه فهو بيع فاسد بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه. وهو عام في النهي عن بيعه ممن هو عليه أو من أجنبي، ولا نرى إذا باعه لمن هو في ذمته فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن.

وحكى في المبهج رواية عن أحمد أنه يجوز بيعه من بائعه قبل قبضه، وهي رواية ضعيفة في المذهب؛ لأنها تخالف ظاهر السنة، وتخالف ما عليه الجمهور، بل أكثر العلماء على أنه لا يجوز الاعتياض عن المسلم فيه قبل قبضه، قال في المغني: فأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان

ص: 137

المسلم فيه موجودا أو معدوما، وسواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.

وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي أن يأخذ الشعير مكان البر، جاز ولم يجز أكثر من ذلك. وهذا يحمل على الرواية التي فيها البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه. وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره إلا الطعام، قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضه أنقص منه ولا تربح مرتين. رواه سعيد.

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسلم في شيء فلا يصرفه، إلى غيره "1 رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له فلم يجز كبيعه من غيره. انتهى كلامه في المغني. فتبين مما ذكرناه أن بيع المسلم فيه قبل قبضه لا يجوز، ولو لمن هو في ذمته كما هو ظاهر الأحاديث.

ومن أجاز ذلك احتج بكلام ابن عباس، ولا يعارض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضا فقوله: ولا تربح مرتين، يخالف ظاهر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، لأنه نهى عن ربحه مطلقا، والمسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع، فلا يباح ربحه قبل قبضه، والله أعلم.

الحوالة بدين السلم وعليه

(مسألة) وأما الحوالة بدين السلم هل يجوز أم لا

(فالجواب) : أما الحوالة بدين السلم، فقال في المغني: وأما الحوالة به فغير جائزة، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم أو بيع، فيحيل من عليه الطعام على الذي له عنده السلم، فلا يجوز؛ وإن أحال المسلم إليه بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة

1 أبو داود: البيوع (3468)، وابن ماجه: التجارات (2283) .

ص: 138

بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز كالبيع. انتهى كلامه.

واختار الشيخ تقي الدين جواز الحوالة بدين السلم والحوالة عليه، وعلله بتعاليل جيدة، فعلى القول بجوازه لا يجوز للمحال بيعه قبل قبضه من نفسه وبيعه، فلا بد أن يقبضه من نفسه قبل البيع، فإذا قبضه ثم بعد ذلك باعه لموكله فلا بأس -إن شاء الله-، وأما الشافعية فلا يجوزون القبض في مثل هذه الصورة.

الحوالة بالمسلم فيه

(مسألة) : هل يصح الحوالة بالمسلم فيه على كلام الزركشي أم على كلام غيره لا يصح

(الجواب) : أما الحوالة بالمسلم فيه فالأكثرون لا يجيزونه، وأجازه الشيخ تقي الدين؛ لأنه لا محذور فيه، لأن الحوالة ليست بيعا.

أسلم في طعام ولم يوجد ذلك الطعام عند الحلول

(مسألة) : إذا أسلم إلى رجل في طعام، ولم يوجد عند المسلم إليه شيء، وهو مليء، وأراد أن يشتري له طعاما من السوق، فقال صاحب الطعام: اعطني عن طعامي الذي لي عليك ذهبا أو فضة على ما كان يباع في السوق. هل له ذلك أم لا

(الجواب) : أما إذا أسلم إلى رجل في طعام، ولم يوجد ذلك الطعام عند الحلول، فلا يجوز له أن يأخذ عن الطعام دراهم عن الشعر، هذا الذي يترجح عندي في المسألة، والله أعلم.

اختلاف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل

(مسألة) إذا اختلف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل، من القول قوله؟

(الجواب) : نقول: القول قول المسلم إليه، لأنه منكر، والأصل معه، إذ الأصل في السلم التأجيل؛ وهذا بخلاف الأداء، إذا قال المسلم إليه: أديت إليك دينك، فإن القول قول المسلم، لأنه منكر، والأصل معه، وهو ثبوت الدين في ذمة المسلم إليه.

قبض رأس مال السلم

(مسألة) : إذا تواعد رجلان أن يسلم أحدهما إلى الآخر مائة درهم، فلما صار

ص: 139

من الغد جاءه بالدراهم يريد إسلامها عليه، قال المسلم إليه: قد بدا لي. هل يلزم أم لا

(الجواب) : لا بد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين أو ثلاثة ما لم يكن أكثر شرطا.

مسائل في القرض وما في معناه وما يتعلق به

مطالبة المقرض المقترض ما اقترضه

(مسألة) : إذا أقرض إنسان آخر قرضا، وأخر المقترض وبدل القرض، هل للمقرض طلب أم لا وكذلك إذا اشترط المقرض على المقترض أنه يعطيه إياه بعد مدة معينة، هل يجوز ذلك أم لا

(الجواب) : أما قولك: هل يجوز للمقرض أن يطلب المقترض ما أقرضه إذا أخر الرد وأبطأ عليه، فلا علمت به بأسا، وهذا الذي يقوله العوام، أنه لا يجوز طلبه ما علمت له أصلا. والذي ذكره الفقهاء وحكوا فيه القولين: إذا أقرضه إلى أجل معلوم هل يجوز طلبه قبل الأجل فعند الحنابلة وكثير من الفقهاء أن القرض لا يتأجل بالتأجيل. والقول الثاني: أنه يتأجل بالتأجيل، فلا يطلبه قبل حلول الأجل الذي أجله إليه.

أقرضه نوعا هل له أن يعطيه غيره؟

(مسألة) : إذا أقرضه نوعا، هل له أن يعطيه غيره مثل أن يقرض ريالات ويرد عليه زرورا وبالعكس، أو مثل تمر ويرد عيشا بدله أو بالعكس، أو ما في معنى ذلك.

(الجواب) : أما رد البدل إذا اقترض ريالات ودفع إليه البدل زرورا أو بالعكس فهذا لا بأس به، فيجوز اقتضاء نقد عن نقد آخر، لحديث ابن عمر، ولكن بسعر يومه، وكذلك لو أخذ بدل القرض برا أو شعيرا أو تمرا، أو كان القرض طعاما فأخذ عنه الدراهم، فكل ذلك جائز –إن شاء الله- لكن

ص: 140

لا يلزم إلا بالقبض؛ لئلا يكون بيع دين بدين.

تصرف المودع في الوديعة بغير إذن

(مسألة) : إذا أودع الإنسان دراهم، هل للمودع التصرف فيها بسلف أو غيره، ولا على المودع تلف. هل يجوز ذلك بلا إذن أم لا وكذلك إذا دفعت إليه وديعة في مكان غير مكانه، وأخرجها في ذلك المكان، فإذا قدم بلده ردها على هيئتها. هل يجوز ذلك أم لا

(الجواب) : أما الاقتراض من الوديعة فلا يجوز، إلا أن يعلم رضى صاحب المال، فإن شك في رضاه لم يجز، وإن لم يكن على المال خطر. وإذا دفعت إليه الوديعة في غيره بلده، وأمره صاحبها أن يذهب بها إلى بلده، وعلم من صاحب المال أنه يرضى باقتراضه منها، واقترض منها، فلما قدم إلى بلده ردها على هيئتها، فهذا لا بأس به -إن شاء الله تعالى-؛ لكن متى اقترضها فهي ثابتة في ذمته حتى يأخذها صاحبها، فلو عزلها وتلفت ضمنها، والله أعلم.

مسائل في الوقف

قسمة الوقف

(مسألة) في رجل وقف أربع نخلات على جهات، وجعل الموقوف نصفا ضحايا، ونصفا بين الإمام والصوام إنصافا، والجميع من أصل مشاع، والمراد بالتفرقة الغلة، ويقول الأمير: نبغي أن نقسم الأصل، ونجعل حق الإمام والصوام مشاعا، ونقسم غلته، ونجعل الضحايا وحدها. ويقول الذي هو في يده: أما قسم الأصل فلا، والقائل ولد من ورثة الواقف، وليس هو بولي على ذلك، وإنما جاءه من جهة القرابة، والذي يظهر أن مقصده حظ لنفسه. هل يجب قسمته أم لا وهل ما قسم أصلا يقسم مصلحة أم لا ويكون حكم المسألتين واحدا، فمن منعه في الأصل منعه في المصلحة أم يفرق بينهما

(الجواب) : قسمة الوقف يعمل فيها بما هو أصلح للوقف، فإن كان

ص: 141

الأصلح قسمته قسم، وإلا ترك بحاله؛ ولا يجوز تغيير الوقف عن حاله إلا للمصلحة، ولو أراد بعضهم القسمة من غير مصلحة منع من ذلك.

الأحق بولاية الوقف

(مسألة) في الوقف الذي ما عين، من يقوم به أو عين إنسان ثم مات هل تورث الولاية في ذلك، ولو ما أوصى الولي بذلك، ويكون أمر ذلك إليه أم لا بد من الوصية إليه بذلك أو يكون أمر ذلك إلى أمير البلد ومتى تنقطع ولاية ذلك عن الورثة والقربى

(الجواب) : ولاية الوقف من أحق بها فالأحق من أوصى إليه الواقف، وعينه ناظرا على الوقف، فإن لم يعين ناظرا، فإن كان الوقف على عدد محصور كقرابته مثلا، فكل إنسان ناظر على حصته، وإن كان الوقف على غير معين كالوقف على المساجد ونحو ذلك، فالنظر في ذلك إلى الحاكم، ويستنيب في ذلك من هو أصلح، ولا يجعل نيابة الوقف بيد من لا يصلح للولاية.

دخول الوارث أو القريب في الوصية إذا لم يجعلها صاحبها إليه

(مسألة) : هل للوارث أو القريب الدخول في الوصية والوقف إذا لم يجعلها صاحبها إليه، ويكون أحق بها أم ينظر في المصلحة

(الجواب) : هذه المسألة جوابها نظير ما تقدم، وهو أن نظر الوقف وولايته إلى من جعله الواقف إليه، فإن لم يعين الواقف أحدا، فإن كان الوقف على معين كالأقارب ونحوهم، فكل إنسان له النظر على حصته من الوقف، فليس لأحد منهم أن يفعل في الوقف ما يضر به من أي أنواع الضرر.

وأما قولك: هل للوارث أو القريب الدخول في الوصية والوقف إذا لم يجعلها صاحبها إليه، أم ينظر في المصلحة (فجوابها) ما تقدم، وذلك بأن ينظر، فإن كان الواقف جعل الوارث أو القريب ناظرا فالنظر إليه، وإن كان لم يجعله إليه، وكان الوقف على غير معين، كالوقف على المساجد ونحوها،

ص: 142

فولاية الوقف أمرها إلى الحاكم. وإن كان الوقف على معين كزيد وعمرو، فهو أحق بولاية ما وقف عليه.

الوقف على المسجد

(مسألة) في الوقف الذي على المسجد، هل القيام فيه وما يصلحه، والنظر إليه وما يتعلق به على الإمام الذي يستحقه، ويتكلم على من عطله وأضاع شيئا من حقوقه، أم يسكت ولا يتعرض لمثل ذلك بشيء ومن يلزمه ذلك

(الجواب) : هذه المسألة وجوابها ما تقدم، وذلك إذا عرفت أن ولايته إلى الحاكم، فإن كان الحاكم جعل ولايته إلى إمام المسجد فذلك إليه، وإن جعله الحاكم إلى غير الإمام فليس للإمام الاعتراض على نائب الحاكم؛ فإن فعل ما لا يجوز رفع أمره إلى الحاكم؛ ولا ينبغي للإمام ولا غيره السكوت إذا رأى من النائب خللا وتضيعا للوقف.

وقف المعين

(مسألة) : إذا أراد إنسان أن ينفع نفسه من ماله في أي جهة من جهات البر، ويجعلها في نخله الذي يملك أيما تعين الوقف بعينه، مثل نخل أو أرض أو دراهم معلومة معينة، قادمة في جميع ما وراءه مما يملك من عقار أو غيره، ويجعل ذلك تمرا معلوما قادما في مغل النخل، أيما إحدى هذه الثلاث أحسن، وهل جميع ذلك جائز

(الجواب) إذا أراد الإنسان أن يوقف وقفا من ماله، فإن شاء جعله معينا في أرض بعينها أو نخل بعينه، إن شاء جعله شيئا معلوما قادما في غلة نخله أو أرضه، وما فعل من ذلك فهو حسن إن شاء الله.

وقف أشياء ولم يذكر مصرفها أو ذكر مصرفا ثم انقطع

(مسألة) في الذي يوقف أشياء في أصل ماله، لو كان في نخل أو أرض أو تمر أو دراهم، ولم يذكر مصرفها، أو ذكر مصرفا ثم انقطع، ماذا يكون في ذلك وهل يفرق بينهما وكذلك الذي يوصي بأشياء كثيرة وأوقاف، هل

ص: 143

تكون قادمة في جميع المال الذي خلف أم تكون من الثلث أم يعمل على ما قال صاحب المال وإذا قال في أوقافه ووصاياه: تراه قادم في جميع ما ورائي مما أملك، هل يتم ما قال ويثبت أم لا وهذه كثيرة عندنا، وما الفرق بين الوصية والوقف؟ العوام يوصون على سبيل الوقف، ولكن ما يميزون ولا يفرقون بين الوصية والوقف.

(الجواب) : إذا وقف وقفا وذكر مصرفه ثم انقطع أو لم يذكر له مصرفا، فقد اختلف العلماء في هذا الوقف هل يصح أم لا وقدم في المغني أنه يصح، وذكر قول مالك وأبي يوسف وأحد قولي الشافعي. يعني إذا أوقف وقفا على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره لجهة غير منقطعة كالمساكين ونحوهم، قال في المغني: ويصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، وبه قال الشافعي، وعن أحمد أنه يصرف إلى المساكين، واختاره القاضي والشريف. وعن أحمد رواية ثالثة أنه يجعل في بيت مال المسلمين.

وأما إذا كان وقف وقفا ولم يذكر له مصرفا بالكلية، فقال في المغني: إذا قال: وقفت هذا، وسكت ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه. وقال ابن حامد: يصح الوقف، قال القاضي: هو قياس قول أحمد، وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع بعد انقراض الموقوف عليه. انتهى كلامه في المغني. فإذا عرفت أنه يصح ويصرف إلى مصارف الوقف المنقطع الذي ذكرنا في أول المسألة، وأن فيه ثلاث روايات عن أحمد، فتأمله يتضح لك الأمر إن شاء الله.

وأما قولك: الذي يوصي بأشياء كثيرة وأوقاف هل تكون قادمة في جميع المال الذي خلف أم تكون من الثلث فنقول: أما الوصايا فإنها من الثلث بلا إشكال، وأما الوقف فإن كان ذلك صادرا في حال الصحة فهو من رأس المال،

ص: 144

وإن كان لم يصدر إلا في المرض فهو من الثلث.

وقولك: إذا قال في أوقافه أو وصاياه: ترى هذا قادم في جميع ما ورائي. فقوله هذا لا عبرة به، فلو وصى بزيادة على الثلث لم يصح إلا برضى الورثة، وأما قولك: ما الفرق بين الوصية والوقف فبينهما فرق، وذلك أن الوصية تكون ملكا للموصى له إذا قبلها بعد موت الموصي. وأما الوقف فهو تحبيس الأصل، فلا يباع ولا يوهب، ويأخذ الموقوف عليه غلته بحسب ما جعل له الواقف منه، والله أعلم.

صرف نماء الوقف

(مسألة) في نماء الوقف، مثل فراخ النخل الموقوف على جهة من جهات البر، هل يصرف الفرخ على جهة أخرى وصورة ذلك عندنا نخل موقف على الصوام، وفيه فراخ، ويبغي الأمير والجماعة يقلعون من الفراخ ويركزونها، ويجعلونها للمسجد وللمساقاة، لأجل أن ذلك أحوج من الصوام. هل هذا جائز، ويصير من باب التصرف في الوقف للمصلحة

(الجواب) : إذا كان في النخل الموقوف فراخ وغرست في وقف آخر، فلا أرى به بأسا إذا كان النخل الموقوف غنيا عن ذلك، وصرف الوقف من جهة إلى جهة جائز إذا كان للمصلحة.

صرف ما فضل من الموقوف

(مسألة) : ما صرف ما فضل من تمر الصوام، الذي هو موقوف على مسجد فاستغنى عنه المسجد المخصوص به، ماذا يصرف إليه هل يصرف على مسجد آخر، سواء كان المسجد في البلد أو منتزح عنها؟ أو يصرف إلى القربى والمساكين أو يكون مصرفه على نظر الولي يتصرف فيه على نظره مما رأى فيه المصلحة وأما الميت الواقف فلا رتب، بل جعل غلة هذا النخل على من يفطر في هذا المسجد بالخصوص، لكن استغنى المسجد عن

ص: 145

جميعه ويبقى منه شيء، ماذا يصرف إليه وما في معنى ذلك، ومن ذلك هل يكون ذلك من تغيير الوقف والتصرف فيه للمصلحة على ما قال الشيخ

(الجواب) : أما صرف الفاضل من تمر الصوام، فإذا استغنى أهل المسجد الذي جعل الوقف عليهم فقال الشيخ تقي الدين: ما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر، لأن الواقف له غرض في الجنس، والجنس واحد. وقال في موضع آخر: يجوز صرفه، في سائر المصالح، وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه، وإن علم أن وقفه يبقى وجب صرفه، لأن بقاءه فساد. انتهى.

فعلى كلامه الأول يصرف في نظره في مسجد آخر، وعلى كلامه الثاني يجوز للناظر صرفه إلى جهة بر، وإن لم تكن نظير الجهة الأولى، إذا رأى المصلحة في ذلك.

وأما تحري المتصدق بصدقته الأوقات الفاضلة كرمضان والعشر الأواخر منه فهذا حسن، والصدقة لها مزية في الأوقات الفاضلة والأماكن المعظمة، سواء كانت الصدقة من ماله أو كان نائبا في تفريقها، إذا لم يعين له الموكل وقتا بعينه أو مكانا بعينه.

وصايا الجاهلية

(مسألة) في الذي يوصي بوصايا في الجاهلية، هل هي قائمة مقام الوصايا في الإسلام، أم يفرق بينهما، أم ينظر فيما كان صحيحا وما كان فاسدا أم غير ذلك

(الجواب) الذي يوصي بوصايا في الجاهلية لا تجوز في الإسلام هذا من جنس ما قبله، فما أدركه الإسلام قبل قبضه بطل، ولا ينفذ إلا على الوجه الصحيح الشرعي. وأما إذا مات الموصي وقبض الموصى له المال ثم أسلم بعد ذلك، فهذا يقر في يده ما كان قد تملكه قبل الإسلام، ولو كان بغير وجه صحيح، والإسلام يجب ما قبله؛ وسواء في ذلك الوصية والمواريث والعقود الفاسدة.

ص: 146

الوصية لبعض الورثة دون بعض

(مسألة) في الذي يوصي لبعض الورثة دون بعض، أو يوصي للذكور دون الإناث، والذي يوصي لوالديه وهم على الشرك، ماذا يكون في مثل هذه المسائل؟ وما الصحيح من الفاسد

(الجواب) : إذا أوصى إنسان لآخر بوصية ثم مات الموصي، وقبل الموصى له الوصية، فإنها تكون ملكا له، وتورث عنه كسائر ماله، إلا أن يكون الموصي قد جعل الوصية وقفا يأكل الموصى له منها ما دام حيا، فتلك مسألة أخرى.

القرض لأجل المنفعة

(مسألة) : إذا أعطى إنسان رجلا دراهم معلومة ينتفع بها بشرط نفع معلوم ما دامت الدراهم في يده، ثم أراد صاحب الدراهم أخذها برؤوسها، وهو قد انتفع في المدة الماضية بما لا يستحقه، ماذا يكون في ذلك وماذا يجب

(الجواب) : إذا أعطى إنسان لآخر دراهم معلومة ينتفع بها بشرط نفع معلوم ما دامت الدراهم في يده، فهذا من أنواع الربا - بل كل قرض جر نفعا فهو ربا -، ويجب على من أخذ الدراهم أن يردها إلى صاحبها. ثم ينظر في حال الدافع والمدفوع إليه، فإن كانا يعتقدان أن هذا لا يجوز، وإنما فعلا حراما عليهما وجب على الأمير تأديبهما بما يزجرهما وأمثالهما عن ذلك، وما قبضه دافع الدراهم في مقابلة الدراهم وجب رده إلى ربه، ولا يباح لقابضه لأنه ربا.

(مسألة) : إذا كان ذلك واقعا بينهما في الجاهلية على الشرك، ثم أسلما وجرى ذلك بينهما من أنواع الربا وغيرها في الإسلام، وأخذا في ذلك مدة يتبايعان في الربا وغيره من العقود الفاسدة، وطلب الدافع ما دفع في مقابلة الدراهم، وذلك بعد إبطال الربا، هل له أخذ ما دفع ويرجع

ص: 147

به على من أخذه منه أم لا وهل يفرق بين العقد في الشرك والعقد في الإسلام أم لا

(الجواب) : إذا كان المتعاقدان جاهلين بالتحريم، أو كان ذلك في الجاهلية قبل الإسلام ثم أسلما، فإنه يجب على من أخذ الدراهم ردها إلى صاحبها، وربا الجاهلية موضوع، وما قبضه الدافع في مقابلة نفع دراهمه في جاهليته أو بعد إسلامه قبل أن يبلغه النهي فهو له، فإن كان العوض لم يقبض، بل كان باقيا في ذمة المقترض، فليس للمقرض إلا رأس ماله، ولا يأخذ معه زيادة.

وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة من الآية: 279] .وعقود أهل الشرك ما مضى منها في حال الشرك، وقبضه المتعاقدان قبل الإسلام، يقران على ما مضى منه؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [البقرة من الآية: 275] .

أجاز الوارث الوصية فيما زاد على الثلث ثم أراد الرجوع

(مسألة) : إذا أجاز إنسان وصية أبيه أو موروثه فيما زاد على الثلث، ثم أراد أن يرجع لما بان له أن الموصى به كثير، وربما بدا له عدم الإجازة، فهل له الرجوع على ما أقر به وأجاز

(الجواب) : إذا أجاز الوارث وصية المورث فيما زاد على الثلث، ثم أراد أن يرجع عن إجازته هل له ذلك؟ (فنقول) : ليس له ذلك، بل متى أجازه لزمه، وكذا لو أقر بدين على موروثه ثم رجع أخذ بإقراره في قدر نصيبه، وأما إذا أجاز الوارث الوصية لظنه أن الموصى به قليلا فبان كثيرا، فالقول قوله مع يمينه، وله الرجوع بما زاد على ظنه، إلا أن

ص: 148

يكون لا يخفى عليه قدره، وكذا لو أوصى بثلث التركة لبعض الورثة، فأجازه بعضهم لظنه أن مال الميت قليل فبان كثيرا، فله الرجوع أيضا بما زاد على ظنه، إلا أن يكون المال ظاهرا لا يخفى، والله أعلم.

أوصى إنسان بحجة ولم يبين قدرها

(مسألة) : إذا أوصى إنسان بحجة ولم يبين قدرها، ماذا يكون إذا تشاجر الورثة، أحد يقول بالكثير، وأحد يقول بالأقل، ما المرجع في ذلك وكذلك إذا أوصى بأضحية ونحوها، ولم يبين الثمن، ماذا يكون

(الجواب) : أما مسألة الحجة الموصى بها، فالمرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أوصت هذه المرأة بحجة أخرج من مالها ما يكفي الحاج، سواء قيل القدر عشرة أو أكثر، وكذلك الأضحية الموصى بها يجزئ فيها الجذع من الضأن، والثني من المعز، فإذا أوصى بغلة نخل في أضحية صرفت في ذلك، فإن فضل منها شيء اشترى به ثانية، لأن التعدد في الأضحية جائز، فإن أراد الولي صرف الفاضل إلى قريب محتاج فهو حسن، ولا يمنع من ذلك. وقد ذكر الشيخ تقي الدين وغيره من أهل العلم: أن صرف الوقف من جهة إلى جهة جائز للمصلحة، فإذا كان يجوز صرفه عن الفقراء إلى الجهاد ونحوه للمصلحة، فالفاضل عن الجهة أولى وأحرى.

أرض جعل في غلتها ستة آصع وهي متعطلة وطلب أهلها قسمتها

(مسألة) في أرض جعل في مغلها ستة آصع وقفا، للصوام ثلاثة ولأهل مسقاة المسجد ثلاثة، الأرض معطلة من ستين سنة، ولم يحصل منها منفعة، ويقول بعض الورثة: اقسموا لي نصيبي إرثي وأقوم بالذي علي من السبل، ومنهم من يقول: أبغي أبني في الأرض، ماذا يفعل بها على هذه الحال ومن يلزمه ذلك

(الجواب) : أما الأرض التي جعل في غلتها ستة آصع وهي متعطلة وطلب أهلها قسمتها، فلا مانع للقسمة، والحالة هذه؛ فإذا اتفقوا على القسمة

ص: 149

قسمت بينهم، والسبالة قادمة في غلة الأرض المذكورة، فإن حصل في القسمة ضرر وامتنع بعضهم لم يجبر، وكذا إن كان فيه ضرر على السبل.

وقف ثلث جميع ما يملك على من ضعف من الأقرباء

(مسألة) في الذي وقف ثلث جميع ما يملك على من ضعف من الأقرباء، وكذا غلة النخل، الموقوف يقسم على أقرباء الميت في وقته أم لا وكذا إذا عين في هذا الثلث دراهم في أضحية، وطلب الأقرباء صرفها إليهم، هل يجوز أم لا

(الجواب) : وقف ثلث جميع ما يملك صحيح، ويكون على من ضعف من الأقربين من الرجال والنساء، يقسم بينهم بالسوية، وغلة النخل تقسم على أهل الوقف وقت محصول الثمرة، ولا تخلى دراهم تجمع.

مسائل في النكاح وما يتعلق به مما في معناه

معنى النكاح

(مسألة) : قوله: النكاح لغة: الوطء، على ما قاله الأزهري، فإن كان الوطء فهو واضح، وكذلك قوله النكاح في الشرع: حقيقة في حق التزويج، مجاز في الوطء، ما معنى الحقيقة وكذا المجاز ما صفته وصورته وهذا الذي يشكل الحقيقة والمجاز وخصوصا في الإشكال لفظ المجاز، وكذلك قوله: فالأشهر أن لفظ النكاح مشترك بين العقد والوطء. ما معنى ذلك

(الجواب) : أما قولك: ما معنى قولهم النكاح لغة: الوطء الخ. فهذه المسألة ما يترتب على تحقيقها فائدة، وصورتها أنهم اختلفوا هل النكاح إذا أطلق في الكتاب والسنة يراد به الوطء حقيقة ويكون مجازا في العقد، أم بالعكس فبعضهم قال: إنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وبعضهم قال: حقيقة في الوطء مجاز في العقد. والأصح عند المحققين أنه مشترك، قال الشيخ تقي الدين: النكاح في الإثبات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل

ص: 150

منهما. انتهى.

وبيان ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء من الآية: 22] ، يراد به النهي عن العقد والوطء جميعا، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"1 وقوله: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" 2، وغير ذلك من الأحاديث، يراد بذلك النهي عن العقد والوطء جميعا. فإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة تبين لك أن المراد بالنكاح لفظ مشترك يعم العقد والوطء، إلا قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة من الآية 230] فإن المراد بالنكاح في هذه الآية الوطء بعد العقد الصحيح، فلا تحل بوطء من غير عقد ولا يكفي العقد وحده، بل لا بد من الوطء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" حتى تذوقي عسيلته" 3 الحديث.

خطبة المرأة في عدة أختها

(مسألة) : إذا أراد رجل أن يتزوج بأخت زوجته، وهو يعلم أن الجمع بينهما لا يصح، ولكن أراد أن يخطبها في عدة أختها أو قبل طلاقها

(الجواب) : فهذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلامهم، وظاهر عباراتهم جواز ذلك؛ لأنهم لم يذكروا إلا المنع من العقد خاصة، وأما الخطبة فلم يتعرضوا لها بمنع، ولم يمنعوا إلا من خطبة المعتدة من غيره، فقالوا: لا يجوز التعريض بخطبة الرجعية، ولا يجوز التصريح بخطبة البائن المتوفى عنها، فإن فعل بأن عرض في موضع لا يجوز فيه التعريض، أو صرح في موضع لا يجوز فيه التصريح، ولم يعقد عليها إلا انقضاء العدة، فالعقد صحيح مع الإثم. وأما خطبة المرأة في عدة أختها أو خالتها أو عمتها فلا علمت فيه منعا.

ولكن الأحسن تركه أو ترك إظهاره، لما فيه من حصول العداوة وقطيعة الرحم التي عللوا بها في عدم جواز الجمع بينهما. فإن أراد الخطبة فلتكن سرا بحيث لا تعلم زوجته مع أن ذلك ربما لا يفيده شيئا لأنها ربما

1 البخاري: النكاح (5111)، ومسلم: النكاح (1408)، والترمذي: النكاح (1126)، والنسائي: النكاح (3290 ،3292 ،3293 ،3294 ،3295)، وأبو داود: النكاح (2065 ،2066)، وابن ماجه: النكاح (1929) ، وأحمد (2/229 ،2/255 ،2/394 ،2/401 ،2/423 ،2/432 ،2/465 ،2/474 ،2/518 ،2/529 ،2/532)، ومالك: النكاح (1129)، والدارمي: النكاح (2179) .

2 مسلم: النكاح (1409)، والترمذي: الحج (840)، والنسائي: مناسك الحج (2842 ،2843) والنكاح (3275 ،3276)، وأبو داود: المناسك (1841)، وابن ماجه: النكاح (1966) ، وأحمد (1/57 ،1/64 ،1/65 ،1/68)، ومالك: الحج (780)، والدارمي: المناسك (1823) والنكاح (2198) .

3 البخاري: الشهادات (2639)، ومسلم: النكاح (1433)، والترمذي: النكاح (1118)، والنسائي: النكاح (3283) والطلاق (3409 ،3411)، وابن ماجه: النكاح (1932) ، وأحمد (6/34 ،6/37 ،6/42 ،6/96 ،6/193 ،6/226 ،6/229)، والدارمي: الطلاق (2267 ،2268) .

ص: 151

وعدته فإذا نقضت عدة أختها ربما بدا لها.

تزوج امرأة في عدة الطلاق من البوادي وهو جاهل

(مسألة) فيمن تزوج امرأة في عدة الطلاق من البوادي، وهو جاهل هل يصير حكمه حكم الزاني أم لا؟ أم يعذر بالجهل؟ وهل يفرق بينهما أم لا

(الجواب) : أما حكم من تزوج امرأة في عدة الطلاق، وهو جاهل من البوادي فلا يصير حكمه حكم الزاني بل يعذر بالجهل، ويفرق بينهما حتى تنقضي العدة الأولى من الطلاق الأول، ثم تعتد من وطء الثاني الذي تزوجها في عدتها، فإذا انقضت العدتان حلت للأزواج وهو من عرضهم.

حلف لامرأته أن يتزوج عليها وقال: إن شاء الله

(مسألة) في رجل حلف لامرأته أن يتزوج عليها، فقال في حلفه: إن شاء الله. ماذا يكون

(الجواب) : أما الذي حلف أن يتزوج عليها فقال في حلفه: إن شاء الله، فهذا الاستثناء يرفع حكم اليمين ولا يلزمه كفارة إذا لم يتزوج.

قال لامرأته: إن حصلت لي أختك طلقتك

(مسألة) في رجل قال لامرأته: إن حصلت لي أختك طلقتك لعدم الجمع. هل يجوز هذا أم لا؟ وما عدم إجازته

(الجواب) : أما الذي قال لامرأته: إن حصلت لي أختك طلقتك؛ فهذا لا يلزمه به شيء ولا يكون طلاقا، ولكن الأحسن ترك مثل هذا الكلام لأن فيه قطيعة رحم بين الزوجة وأختها، خصوصا إذا فارقها وتزوج أختها.

قال: إن حصلت له أخت زوجته فوت زوجته

(مسألة) في هذا الرجل الذي يقول: إن حصلت له أخت زوجته فوت زوجته، وإن لم تحصل لم يفوتها، هل يجوز ذلك أم لا

(الجواب) : أما قولك: إن حصلت له أختها فوتها، فهذا لا يجوز، وجمع الثلاث بدعة محرمة عند جمهور العلماء، ولا يترتب على ذلك له مصلحة؛ بل ليس فيه إلا تحريمها عليه من غير مصلحة تعود إلى أخرى، لأنه لو أراد

ص: 152

أن يرتجعها لم تحل له ما دامت أختها معه، فليس في التفويت إلا الضرر، فربما يفوتها، ولا تحصل له أختها؛ فيندم على ذلك.

التلفظ بكنايات الطلاق في حال الغضب

(مسألة) : إذا غضب الرجل على زوجته، وأراد قمعها وهجرانها وقال لها: اخرجي من بيتي روحي لأهلك، ومقصده هجرها عند أهلها حتى يكون أصلح لها ولا له نية في الطلاق، ماذا يكون في مثل هذه، هل هو على النية أم لا وكذا إذا قالت المرأة: لم أنتقل إلا بطلاقي تريد لفظ الطلاق، ويقول الزوج: روحي لأهلك عن بيتي لست معي، يعني لست بشادك هذا معناه ونيته؛ وانتقلت على هذا الكلام، هل يكون على نيته ومعناه أم لا والفاعل لذلك يفهم الأمر، وكل مقاصده إظهار لها من بيته لأجل المقصود لأنه أزين لطبعها وأشفق وأندم.

(الجواب) : الرجل الذي غضب على زوجته وسألته الطلاق وقال لها: اخرجي من بيتي لست معي.

فهذه المسألة قد ذكر الفقهاء فيها أن الزوج إذا تلفظ بكنايات الطلاق في حال الغضب، وسؤالها الطلاق، ثم قال الزوج: لم أرد بذلك الطلاق أنه لا يقبل في الحكم بل تحسب عليه من الطلاق هذا في الظاهر. وأما فيما بينه وبين الله، فإن علم من نفسه أنه لم يرد الطلاق لم يقع عليه طلاق فيما بينه وبين الله.

طلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه

(مسألة) في رجل طلق امرأته في طهر لم يصبها فيه فهل عليها عدة وما عدتها

(الجواب) : أما الرجل الذي طلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه، فهذه لا بد أن يمضي عليها ثلاثة قروء بعد الطلاق، ولم تعتد بالحيضة التي مضت قبل الطلاق، بل لا بد أن تكون الأقراء بعد وقوع الطلاق.

ص: 153

حلف عليها زوجها لا تدخل بيت فلان فدخلته ناسية

(مسألة) في رجل حلف على امرأته أن لا تدخل بيت فلان أو بيت فلانة، فقال: إن فعلت فهو طلاقك، وحلف بالله أن طلاقها في دخولها البيت. فنسيت المرأة واحتاجت إلى دخول البيت، فدخلت ناسية ليمين الزوج. ماذا يكون وهل هنا كفارة مع الرجعة أم لا

(الجواب) : أما المرأة التي حلف عليها زوجها لا تدخل بيت فلان، وعلق طلاقها على دخوله، فدخلته ناسية؛ فهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد. والمذهب عند المتأخرين من الحنابلة أن الطلاق يقع، وإن كانت ناسية. وعند الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء أنها لا تطلق، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب من الآية: 5] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان"1.

مسائل في العدة وما في معناها

أقل ما تنقضي به العدة

(مسألة) : ما قولهم في العدد: إن أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما ولحظتان ما هذه المسألة وصفتها والعمل عليها فيما قالوا

(الجواب) : أما المسألة التي ذكروها في العدد: أن أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما ولحظتان، فهذا مبني على أن أقل الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر. فإذ طلقها في آخر الطهر، وقد بقي من الطهر لحظة، ثم حاضت يوما وليلة، ثم طهرت ثلاثة عشر يوما وليلة، ثم حاضت يوما وليلة، ثم طهرت، فقد انقضت عدتها ومجموع ذلك تسعة وعشرون يوما ولحظتان؛ وهذا هو أقل ما تنقضي به العدة. فإذا ادعت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، وأقامت البينة على ذلك صدقت؛ ولا تقبل دعواها إلا ببينة، لأن هذا لا يقع إلا نادرا، والله أعلم.

1 ابن ماجه: الطلاق (2043) .

ص: 154

مسائل في الإحداد وما يتعلق به

ما تجتنبه المتوفى عنها زوجها

(مسألة) : ماذا تجتنب المتوفى عنها من جنس الكلام والحديث مع الناس مثل قريب أو كالف أو صديق، إذا كان عادتها ذلك قبل موت الزوج، هل يجب عليها ترك جميع ذلك؟ أم هذا ليس من المنهي عنه إذا كان ذلك عادتها.

(الجواب) : فيما تجتنبه المتوفى عنها من جنس الكلام والتحدث مع قريب أو صديق إذا كان ذلك من عادتها قبل وفاة زوجها، فهذه المسألة لم أقف عليها في كلام أهل العلم، والذي يظهر لي من كلامهم أن المتوفى عنها وغيرها في هذا النوع سواء فما كانت ممنوعة منه قبل الإحداد، فهو أشد منعا، وما كان مباحا لها من هذا النوع خاصة قبله فهو مباح؛ فيه ولم أقف على نص في المسألة بالتفرقة.

خروج المرأة المتوفى عنها زوجها

(مسألة) : هل للمرأة الخروج من البيت إذا مات زوجها إذا كانت عادتها الظهور قبل موته، وتقوم في مؤنة الزواج داخل البيت وخارجه، هل لها ذلك بعد موته في الإحداد أم لا

(الجواب) : في المتوفى عنها هل لها الخروج فذكر أهل العلم أن لها الخروج لحوائجها نهارا، ولو وجدت من يقضيها؛ وأما في الليل فلا تخرج ولو لحاجة، وكذلك لا تخرج نهارا لغير حاجة.

للمتوفى عنها زوجها الخروج في حوائجها نهارا

(مسألة) : إذا كان للمتوفى عنها نخل والمنْزل خارج النخل، هل لها الخروج إلى النخل والجلوس فيه، وقضاء شيء من الحاجات إذا كان غيرها يكفيها، أم لا وما يفاد من قصة المرأة التي أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى جذاذ نخلها

(الجواب) : هذه المسألة تقدم جوابها، وهو أن لها الخروج نهارا

ص: 155

لحوائجها ولو وجدت من يقضيها؛ وحديث المرأة التي أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جذاذ نخلها يدل على ذلك. قال في المغني: وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها.

ثم ساق حديث جابر في المرأة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اخرجي فجذي نخلك"1.

ثم قال: وروى مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله نستوحش بالليل، فنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتأو كل واحدة إلى بيتها"، وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلا إلا لضرورة، لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار، فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما تحتاج إليه. انتهى كلامه في المغني.

أهم ما تجتنبه المتوفى عنها زوجها

(مسألة) : ما أهم وألزم ما يكون اجتنابه على المتوفى عنها، غير الطيب والزينة والمبيت في غير منْزلها وهل يفرق بين الغنية والفقيرة في هذه الأمور

(الجواب) : ذكر أهل العلم أن المتوفى عنها تجتنب ثلاثة أشياء وهي الطيب، والثاني اجتناب الزينة: فلا تختضب، ولا تحمر وجهها، ولا تكتحل بالإثمد إلا لضرورة، فإن اضطرت إليه اكتحلت في الليل ومسحته في النهار، ولا تلبس ثياب الزينة، ولا تلبس الحلي كله حتى الخاتم.

والثالث المبيت في غير منْزلها، فيجب عليها أن تبيت فيه دون غيره. وهذه الأمور هي التي نص عليها الفقهاء، وهي التي يجب عليها اجتنابها، والله أعلم.

خروج المتوفى عنها زوجها إلى المسجد

(مسألة) : هل للمتوفى عنها الخروج إلى المسجد، لأجل الصلاة والدرس وتعلم أمر دينها، وكذلك مثل التراويح، أو قيام الليل في العشر، إذا كان ذلك عادة لها قبل موت الزوج

1 مسلم: الطلاق (1483)، والنسائي: الطلاق (3550)، وأبو داود: الطلاق (2297)، وابن ماجه: الطلاق (2034) ، وأحمد (3/321)، والدارمي: الطلاق (2288) .

ص: 156

(الجواب) : هل لها الخروج إلى المسجد للتراويح وقيام رمضان في العشر، فتقدم أن المتوفى عنها لا تخرج من بيتها في الليل ولو لحاجة؛ وأما خروجها في النهار للصلاة والدرس، فلم أقف على نص في المسألة إلا ما تقدم من الرخصة في الخروج نهارا لحوائجها والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين آمين.

من أجوبة لعبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله وعفا عنهما

قال: إن زرعت أرضي حبا فهي بكذا كيلا مسمى

(3)

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(وبعد) الخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه؛ وما ذكرت من جهة كثرة السؤال، فالحرص على العلم ينفع الله به، ولا ينقد على الإنسان إلا الغفلة وما أشكل عليه.

(وأما المسألة الأولى) وهي قوله: إن زرعت أرضي حبا فهي بكذا كيلا مسمى أو شعيرا بكذا أو قطنا بكذا، ووزنا معلوما، فهذه المسألة فيها خلاف مشهور في القديم والحديث، والذي نعمل عليه من أقوال العلماء أن هذا لا بأس به، إذا كان كيلا معلوما أو وزنا معلوما أو جزءا مشاعا معلوما كالثلث أو الربع ونحو ذلك، والله أعلم.

وأما قوله: إلا أن يكره بحق، كمن يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، فهذا لا بأس بالشراء منه سواء رضي بذلك أو لم يرض.

ص: 157

الرجوع في العمرى والرقبى

وأما العمرى والرقبى ففيها خلاف مشهور، والأحاديث فيها متعارضة، والذي نختاره أنه إذا شرط الرجوع فيها رجعت إلى مالكها، والله أعلم.

الفرق بين العطية والوصية

وأما الفرق بين العطية والوصية، فالفرق بينهما ظاهر كما ذكر في الشرح أنها تفارقها في أربعة أشياء. وأما كون أهل بلدك لا يفرقون بينهما فالألفاظ لا يعتبر بها. فإذا كان عندهم أن الوصية بمعنى العطية والهبة فهي كذلك، وكذلك لفظ الوصية. فكل هذا ينظر إلى مقصود المتكلم بذلك وعرفه في بلده، فإن كان مراده بذلك أنه يمضيها له في حياته، وبعد موته صارت بمعنى العطية والهبة. وإن كان العرف عندهم، أن مرادهم بذلك: إن مات فهي بمعنى الوصية يثبت لها أحكامها، والله أعلم.

ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه

وأما التي ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، واعتدت بسنة ثم عاودها الدم قبل مضي السنة، فإنها ترجع وتعتد بالحيض ولا تحتسب بما تقدم كالبكر إذا اعتدت بالأشهر ثم جاءتها الحيضة، فإنها تعتد بالأقراء. والله أعلم.

الإجارة بشيء مجهول

وأما إذا آجر إنسان أرضه لمن يزرعها قطنا، وشرط عليه أن الأجرة له في السنة الأولى، فإذا خرج عنها فالشجر والثمرة لربها عن أجرة أرضه، فالظاهر أن مثل هذه لا يجوزه الفقهاء، لما فيه من الغرر؛ وإنما جوزوا الإجارة بشيء معلوم. والله أعلم.

احتاج أهل بلد إلى أرض إنسان يجعلونها مسجدا

وأما إذا احتاج أهل بلد إلى أرض إنسان يجعلونها مسجدا، فطلبوا من صاحب المال أن يبيعها أو يوقفها، فالظاهر أنه لا يجبر. والله أعلم.

ص: 158

قذف إنسان جماعة بالزنى أمواتا أو أحياء

(4)

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(وبعد) ما ذكرت من جهة المسائل فهذا جوابها:

(المسألة الأولى) : إذا قذف إنسان جماعة بالزنى أمواتا أو أحياء، فالذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم أنه إذا قذفهم بلفظة واحدة، فإنه يحد حدا واحدا إذا طلبوا إقامة الحد عليه. وأما قذف الأموات، فلا أدري عنه، وأقل ما فيه إذا كانوا مسلمين يعزره الإمام على قدر ما يراه. وأما ما ذكرت عن بعض المالكية من شروط القذف، فهو كلام متوجه.

(وأما الثانية) : فلا يجوز التعزير بأقل الحدود.

(وأما الثالثة) : إذا شهد شاهد واحد أن فلانا أصاب حدا، فلا يقام عليه بشهادة واحد، ولا بد من شهادة رجلين عدلين إلا في الزنى فأربعة شهود كما هو معلوم.

وجد منه رائحة المسكر

(الرابعة) : إذا وجد منه رائحة المسكر فإنه يحد، وأما إذا خرج من بيته، فليس فيه إلا التعزير إذا كان مظنة ذلك.

الرجوع في الهبة

(الخامسة) : الهبة إذا كان مراده الثواب، فإنه يرجع فيها إذا لم يثب. وأما الصدقة فليس حكمها حكم الهبة، لأن الصدقة أن يتصدق على إنسان لفقره، والهبة أن يهب لآخر شيئا، ولو مع غناه تارة يريد بها المكافآت وتارة على وجه الكرم والتفضل.

العمرى والرقبى

(السادسة) : في العمرى والرقبى ففيها اختلاف بين الفقهاء، ولا يتبين لي الآن وجه كونها لمن أعمرها، وأما الذي يشبه العمرى عندنا فهي أن يقول:

ص: 159

لك حياة عينك، أو ما عشت، أو حياة عيني، وأشباه ذلك.

زواج الحر بالأمة

(السابعة) : الحر فلا يجوز له تزوج الأمة ولو شرط سيدها أن أولاده أحرار، إلا بالشرطين المذكورين في كتاب الله.

(أحدهما) : أن لا يجد طولا يتزوج به الحرة.

(الثاني) : أن يخاف العنت على نفسه؛ وصبره مع ذلك خير له من تزوج الأمة.

الأولاد يتبعون الأم في الحرية والرقية

(الثامنة) : إذا كان لرجل أمة ولآخر عبد، وأرادا تزويج أحدهما للآخر وشرطا أن الأولاد بينهما، فهذا شرط فاسد لا يصح، بل الأولاد يتبعون الأم في الحرية والرقية.

التفريق بين الوالدة وولدها

(التاسعة) : التفريق بين الوالدة وولدها، وكذلك الإخوة، فالحد في ذلك البلوغ؛ فإذا بلغ واحد منهما جاز أن يفرق بينهما.

حصة المضارب قبل القسمة

(العاشرة) : حصة المضارب قبل القسمة، ففيها خلاف؛ والأحوط تزكيتها مع المال بلغت نصابا أو لم تبلغ.

الدين الذي يمنع الزكاة

(الحادية عشرة) : ما الدين الذي يمنع الزكاة؟ فالدين عندنا لا يمنع وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة ولا الباطنة.

دفع رجل مضاربة مالا إلى آخر، وحال الحول والمال بيد المضارب بغير بلده

(الثانية عشرة) : إذا دفع رجل مضاربة مالا إلى آخر، وحال الحول والمال بيد المضارب ببلد غير بلده، فالذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم أنه متى أخرجها أجزأته، إلا إن كان هو بنفسه ببلده أو المضارب؛ ونرجو أن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى.

ما يجب على الزوج للزوجة من المؤنة

(الثالثة عشرة) : ما يجب على الزوج للزوجة من المؤنة، فكلام الشيخ رحمه الله في هذه المسألة من أحسن الكلام، فإنه قال: يجب عليها ما يعتاد من مثلها لمثله. فإن كان المعروف من مثلها أنها تطبخ وتعجن لزوجها ولنفسها، وجب

ص: 160

عليها ذلك. فإن كان المعروف عند أهلها ببلدها أن مثلها لا تخدم نفسها وجب على الزوج إخدامها، وإن كان بها ما يليق من مثلها لمثله، واستدل الشيخ رحمه الله وغيره على ذلك بقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النّساء من الآية: 19] ، والمعروف يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والبلدان والأزمان، وهو المفتى به عندنا.

التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة

(الرابعة عشرة) : هل يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النّساء من الآية: 3] ، فلا بأس أن يزيد إحداهما على الأخرى إذا كانت أوفق وأصلح لحاله، إذا كان لم يرد بذلك مضارة، ولا يلحق به ضرر الزوجة الأخرى. والله أعلم.

ما يجب على اليتيم من الحقوق غير الزكاة

-5 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن الشيخ إلى الأخ جمعان

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من المسائل:(فالأولى) : ما يجب على اليتيم من الحقوق غير الزكاة، فلا نعلم شيئا يجب عليه إلا الزكاة في أصح قولي العلماء، مع أن بعض أهل العلم ذكر أنها لا تجب عليه وهو قول مرجوح. وأما إذا كان له بعيران مثلا ليس له غيرهما ورعيا أكثر من نصف السنة، ثم خلطا مع غيرهما، ففيهما خلاف بين العلماء؛ والأحوط أنه يزكيهما زكاة خلطة. وأما الحوض والمراح والمرعى والحول، فبعض العلماء يشترط ذلك، وبعضهم لا يشترطه، ولا أستحضر دليل ذلك. وأما كون أهل المسجد يخلون مكان الأمير إكراما له، فالمسجد لمن

ص: 161

سبق إليه، وأحق الناس بالمكان الذين وراء الإمام الذي يعرفون بالفقه والدين، ولو خلي لهم مكان فلا بأس؛ وإن خلوا للأمير مكانا فلا ينكر عليهم.

جلوس الإمام ينتظر الأمير

وأما جلوس الإمام ينتظر الأمير، فلا أعلم في ذلك بأسا إذا لم يشق على المأمومين.

المصافحة في المسجد وغيره

وأما المصافحة في المسجد وغيره، فلا بأس بها؛ وما بلغكم من النهي عنها فله سبب، وذلك أن بعض الناس يظن أن هذا أمر مستحب دائما يداوم عليه، ولو سلم قبل الصلاة؛ وأما إذا فعله بعض الأحيان وتركه في بعض فلا بأس بذلك.

تبديل ولي الوقف تمرا بعيش

وأما تبديل ولي الوقف تمرا بعيش أو عيشا بتمر، فإن كان فعله للمصلحة فلا أعلم فيه بأسا إذا كان أصلح للموقوف عليهم، وأما كونه يكتب في الوقف ولا حصل بعد، فلا يجوز ويخليه إلى السنة المقبلة.

رفع الحصى في المسجد

وأما رفع الحصى في المسجد، فينهى عنه تأدبا في المسجد، ولا أعلم فيه دليلا بينا، لكن التأدب في المسجد والخشوع أحسن.

انتقل أهل بلد عن بلادهم وفيها مسجد عامر

وأما إذا انتقل أهل بلد عن بلادهم وفيها مسجد عامر، وفيه خشب فإن كان يصلى فيه فلا يجوز نقضه، وإن كان متعطلا فلا بأس أن يؤخذ خشبه ويحط في مسجد آخر.

أرض المسجد المتعطلة

وأما أرض المسجد المتعطلة، فلا بأس بحرثها وزرعها بأجرة، وتصرف أجرتها في عمارة مسجد آخر.

نخل الوقف إذا تعطل

وأما نخل الوقف إذا تعطل، فلا بأس أن يباع ويصرف ثمنه في نخل عامر، ويجعل على وقفه الأول.

علق الطلاق ولم يأت بشيء من حروف الشرط

وأما إذا طلق وعلق الطلاق، ولم يأت بشيء من حروف الشرط كإذا ومتى وإن، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق.

فمثل هذا ينوي به

ص: 162

الشرط والجزاء على لغة أهل بلده، ولا يشترط أن يتلفظ بلفظة العربية. هذا الذي نفهم من كلام أهل العلم. وأما دلائل هذه المسألة فقد يخفى على مثلنا لعجزنا، لكن هذا الذي نفهم من كلام أهل العلم. وأما الدليل فقد يخفى علينا؛ لكن هذا هو المفتى به عندنا والعمل عليه. والله أعلم.

شقص في أرض مشاع لا تمكن قسمتها، هل فيه شفعة؟

(6)

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله وحمد إلى الأخ سعيد، جعله الله من صالحي العبيد، وبلغه في الآخرة ما يريد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وجعلك من أنصار دينه وأعوانه، وما ذكرت من حالك، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتضمن الخط السؤال عن أربع مسائل:

(الأولى) : ما قول العلماء رضي الله عنهم إذا كان لرجل شقص في أرض مشاع لا تمكن قسمتها قسمة إجبار، هل له شفعة؟ فإن قلتم له، فما معنى قولهم في شروط الشفعة: أن يكون الشقص من عقار ينقسم قسمة إجبار، ثم قالوا: ولا فيما لا تجب كحمام صغير ونحوه.

(فنقول) : هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها، وفيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد:(الأولى) : أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته، فإما ما لا تمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير والعضادة والطريق الضيق والعراص الضيقة، فلا شفعة فيه؛ وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي، وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة. قال الموفق في المغني: وهذا ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة"والمنقب الطريق الضيق رواه أبو الخطاب

ص: 163

في رؤوس المسائل.

(والراوية الثانية) تثبت الشفعة فيه، وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن سريج ورواية عن مالك، واختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي وشيخ الإسلام.

قال الحارثي: وهو الحق لعموم قوله عليه السلام:"الشفعة فيما لا ينقسم"وسائر الألفاظ. ولأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره، وهذا هو المفتى به عندنا، وهو الراجح والله أعلم.

حكم كسب الزوجة

(وأما المسألة الثانية) : إذا كانت زوجة الرجل ذات صنعة وقال زوجها: ما حصل من الحرفة، فهو لي ومؤنتك علي، وقالت الزوجة: ما حصل من صنعتي فهو لي، وأقوم في بيتك مع صنعتي، فهل تمكن من هذا أم لا

فهذه المسألة أنت تفهم اختلاف الفقهاء فيها، وهل يلزمها أن تخدمه في مسألة الخدمة في طبخ وعجن وخبز ونحوه أم لا فمذهب الحنابلة أنه لا يلزمها وهو الذي نصره في الشرح، ومذهب مالك والشيخ تقي الدين أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه يلزمها عادة أمثالها لمثله.

وكذلك اختلفوا هل يجب عليها أن ترضع ولدها منه، فمذهب الحنابلة أنه لا يلزمها، ومذهب مالك أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه إن كان مثلها ترضع ولدها وجب عليها أن ترضعه.

وأما مسألة التكسب المسؤول عنها، فظاهر كلامهم أنه لا يلزمها وليس له أن يجبرها عليه، ولكن ليس لها أن تكتسب إلا بإذنه، فإن أذن لها فظاهر كلامهم أنها تختص بالأجرة.

ولهذا صرح الموفق في المقنع في باب الإجارة أنه يصح أن يستأجرها على رضاع ولده منها، وصرح في كتاب النفقات أنها أحق برضاع ولدها بأجرة مثلها سواء كانت في حبال الزوج

ص: 164

أو مطلقة. وصرح أيضا في كتاب النفقات أنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها ولا على خدمته فيما يختص به.

أخرج المرتهن الرهن إلى الراهن

(وأما المسألة الثالثة) : إذا أخرج المرتهن الرهن إلى الراهن، فهل يزول لزومه كما هو مذهب الحنابلة أم للمرتهن انتزاعه كما هو مذهب الشافعي أو هل يفرق بين ما تعلق به حق الغير كالرهن له أو بيعه وبين ما هو باق في يد الراهن وما المفتى به الآن

فقد اختلف العلماء هل من شرط صحة الرهن القبض، أم يصح ويكون رهنا بمجرد العقد؟ فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه لا يلزم إلا بالقبض، وقبل القبض يكون جائزا لا لازما، ومذهب مالك رحمه الله يلزم بمجرد العقد قبل القبض كالبيع. فإذا علمت الخلاف في أصل المسألة، فالقائلون باشتراط القبض اختلفوا فيما إذا أخرجه المرتهن باختياره، هل يزول لزومه ويبقى العقد كأنه لم يوجد فيه قبض فمذهب الحنابلة كما ذكرته عنهم أنه يزول لزومه، فإن عاد إلى المرتهن عاد لزومه بحاله بحكم العقد السابق، وهذا مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي: استدامته القبض ليست شرطا كما ذكرته عنه، وذلك لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم تشترط استدامته، وهذا هو المفتى به عندنا.

إحياء الأرض بإجراء الماء عليها

(وأما المسألة الرابعة) : وهي: هل إجراء الماء على الأرض للحرث يكون إحياء أم لا

فقال في الإنصاف: وإحياء الأرض أن يحوزها بحائط، أو يجري لها ماء، أو يحفر فيها بئرا، هذا هو الصحيح من المذهب، نص عليه وقطع به الخرقي وابن عبدوس والقاضي والشريف وصاحب الهداية والخلاصة والوجيز وغيرهم، وقيل: إحياء الأرض ما عد إحياء وهو عمارتها بما تتهيأ

ص: 165

به لما يراد منها من زرع أو بناء أو إجراء ماء، وهو رواية عن أحمد اختارها القاضي وابن عقيل والشيرازي وابن الزاغوني والمصنف يعني الموفق في العمدة وغيرهم. وعلى هذا قالوا: يختلف باختلاف غرض المحيي من مسكن وحظيرة وغيرهما، فإن كان مسكنا اعتبر بناء حائط بما هو معتاد. وقيل: ما يتكرر كل عام كالسقي والحرث، فليس بإحياء، وما لا يتكرر فهو إحياء، قاله في المغني ولم يورد في المغني خلافه. وقوله: إحياء الأرض أن يجري لها ماء، يعني إحياء الأرض أن يجري لها ماء إن كانت لا تزرع إلا بالماء، ويحصل أيضا بالغراس قال في الفروع، ويملكه بغرس وإجراء ماء نص عليهما. انتهى، والله أعلم.

هلك هالك عن أبوين وأخوين متفرقين أو أشقاء

(ومن جواب) لعبد الله بن الشيخ رحمه الله: إذا هلك هالك عن أبوين وأخوين متفرقين أو أشقاء، فالذي نعمل عليه من كلام أهل العلم أن الأم في هذه الحال يكون لها الثلث كاملا؛ لأن الإخوة محجوبون بالأب. وأهل هذا القول استدلوا عليه بقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النّساء من الآية:]، ويقولون: أن معنى قوله في الآية التي بعدها: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النّساء من الآية: 11] أي: إخوة وارثون، وأما الإخوة المحجوبون فهم كالمعدومين.

السمن بالتمر واللحم بالتمر والأقط بالتمر

وأما السمن بالتمر، واللحم بالتمر، والأقط بالتمر، فالذي يعمل عليه أكثر أهل العلم أنه لا يجوز وينهى عنه، وهو الذي نعمل عليه.

الطلاق الثلاث بكلمة واحدة

وأما الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، فالذي نفتي به أنه يصير ثلاث طلقات كما ألزمه عمر رضي الله عنه الناس وتابعه الصحابة على ذلك.

السفر الذي يرخص فيه

وأما السفر الذي يرخص فيه برخص السفر كالقصر والإفطار والجمع، فالعلماء اختلفوا في ذلك، فبعضهم يحده بيومين، وبعضهم بدون ذلك، وبعضهم

ص: 166

ما يرى له حدا لأنه لم يرد عن الشارع تحديده صلوات الله وسلامه عليه؛ بل كل ما يسمى سفرا، وإن كان دون اليوم، جاز أن يرخص فيه برخص السفر؛ وهذا هو الصواب، وهو الذي تدل عليه النصوص.

المرأة التي تزوجها رجل ودخل بها ولكنه لم يطأها

وأما المرأة التي تزوجها رجل ودخل بها ولكنه لم يطأها، فالذي نعمل عليه أن العدة تجب عليها.

قال: علي الطلاق أو الحرام لأفعلن كذا وفعله

وأما من قال: علي الطلاق أو الحرام لأفعلن كذا أو: لا أفعلن كذا وفعله فالذي نعمل عليه أنه ليس عليه إلا كفارة يمين إذا فعل المحلوف عليه.

الخلطة في غير السائمة

وأما الخلطة في غير السائمة كالدراهم والحرث، فالذي يترجح من قول العلماء أنه ما يجب فيه زكاة حتى يبلغ نصيب كل واحد من الشركاء نصابا. وأما مؤنة الرجل وأهل بيته فليس عليها زكاة. والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

من يباح له الفطر في رمضان لضرورة

(7)

بسم الله الرحمن الرحيم

أسئلة لبعض الإخوان أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ

(من يباح له الفطر في رمضان لضرورة)

(منها) : إذا صار رجل ضعيفا، ويعيش من الخلاء حشيشا أو أشباهه، ولا يقدر يحترف إلا مفطرا، فإن كان يقدر أن يعيش بلا حرفته هذه فلا يفطر، فإن كان ما هنا إلا حرفته هذه، ولو تركها لحقه الضرر، فأرجو أن يجوز له؛ فإذا وقعت الضرورات حلت المحظورات.

وأما الذي يفطر في النهار ويعتذر بالجوع، فلا عذر له، والذي يعيش به في النهار يضمه إلى وقت الإفطار إلا إن كان مثل هذا عندكم لو لم يفطر تلفت نفسه أو لحقه ضرر بين، فلا تنكروا عليه.

ص: 167

وأما الصبي الذي ما أرشد بعد، فهو إذا أطاق الصيام أمر به، وأدب عليه أي على تركه. وكذلك يصلى وراءه إذا كان أقرأ من الذي وراءه، ولو ما أرشد بعد ويقام به في الصف.

حال الذي ختم القرآن وممشاه رديء

وأما ما ذكرت من حال الذي ختم القرآن وممشاه رديء، وهنا من يقرأ بعض القرآن وهو حبيب في الدين من الذي يغلظ منهم، فإن كان الذي يقرأ القرآن حافظه غيبا وردا بينما يكره الدين، ويوالي المنافقين موالاة بينة، ويتجاسر على الأمور المحرمة مثل الزنى والسرقة والخيانة، فإن كانت هذه صفة حاله فلا يصلي بالجماعة، فإن كان ما هنا شيء بين، ما هنا إلا تهمة أو أن غيره أخير منه عملا مثل الجهاد والمذاكرة، فالذي يحفظ القرآن غيبا أحق من الذي ما حفظه، ولو كان أكثر منه عملا أو أحب منه للدين.

النَزعة من الفم

وأما النَزعة من الفم، فإن كانت ما ظهرت من الجوف ولا وصلت الفم فلا وضوء فيها، فإن كانت ظهرت ووصلت الفم، فيجب عليه الوضوء. فإن كان صائما فلا يدخلها إذا وصلت الفم يخليها تظهر، ويغسل الذي نال سلبه منه.

يرمي أخاه المسلم بالزنى ويعتذر

وأما الذي يرمي أخاه المسلم بالزنى ويعتذر أنه ما له قصد وأنه من الشيطان، فلا هذا بعذر. فإن كان المقذوف بالزنى شكاه إلى الأمير أقام عليه الحد، وإلا أدب أدبا يزجره عن مثل هذا الكلام القبيح.

صلى الرجل وفي سلبه نجاسة ناسيها

وأما إذا صلى الرجل وفي سلبه نجاسة ناسيها، وما درى إلا بعد فراغه من الصلاة، فلا إعادة عليه.

إمامة المطوع الذي ما يحسن الفاتحة ولا يعربها

وأما المطوع الذي ما يحسن الفاتحة ولا يعربها، فلا يصلى وراءه، والمطوع الرديء الذي ما له دين إن أسلم الناس أسلم، وإن ارتدوا ارتد، فلا تحل الصلاة وراءه.

ص: 168

التمر بالعيش نسيئة

(8)

(مسائل مختلفة أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ أيضا)

بسم الله الرحمن الرحيم

(الأولى) : أما التمر بالعيش نسيئة، فلا يجوز وهو داخل في الربا الذي حرم الله ورسوله.

السمن بالتمر واللحم بالتمر والأقط بالتمر

وأما السمن بالتمر، واللحم بالتمر، والأقط بالتمر، فالذي عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز وينهى عنه؛ وهو الذي نعمل عليه.

مصارف الزكاة

وأما مصارف الزكاة، فالله سبحانه وتعالى ذكر أهلها في كتابه، وجزأهم ثمانية أصناف، وهم الذين لا يجوز صرفها إلى غيرهم بإجماع أهل العلم. وإذا أعطيها بعض الأصناف جازت؛ ولم يذكر في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسمها بين الثمانية الأصناف كقسمة الميراث لا يزيد أحدا على أحد، بل يعطيها بعض الأصناف الذي ذكر الله؛ وهذا مذهب كثير من العلماء أنه لا يجب استيعاب الأصناف كلها، بل إذا أعطى بعض الأصناف أجزأت. ومن يكن له معرفة بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، علم أن هذا هو الصواب.

حجر الإنسان ابنة عمه أو غيرها عليه لا يزوجها إلا هو

وأما حجر الإنسان ابنة عمه أو غيرها عليه لا يزوجها إلا هو، فهذا من أعظم المنكرات وهو من دين الجاهلية الذي أبطله الإسلام.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية [النّساء من الآية: 19]

الأمور التي تجب فيها الزكاة

وأما الأمور التي تجب فيها الزكاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدر نصاب الذهب عشرين مثقالا، ونصاب الفضة مائتي درهم، ونصاب التمر والعيش خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون نصاب التمر والعيش ثلاثمائة بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 169

شراء الطعام مجازفة

وأما شراء الطعام مجازفة فليس به بأس، إلا أن يكون البائع يعلم كيله والمشتري فيه واحد.

الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة

وأما الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة، فالذي نفتي به أنه يصير ثلاث تطليقات كما ألزم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس، وتابعه الصحابة على ذلك.

الرجل الذي قال لآخر: زوجتك ابنتي وهو يضحك

وأما الرجل الذي قال لآخر: زوجتك ابنتي، وهو يضحك، فالنكاح يلزمه، وإن كان الرجل يهزل به، كما في الحديث "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة"1.

غلاق الرهن

وأما الرجل الذي رهن رهانة، وقال له المسترهن: إن كان ما قضيتني في هذه المدة ومضت المدة، وإلا فهي لي بالذي عندك، فهذا لا يجوز، هذا يسمى غلاق الرهن، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" لا يغلق الرهن"2، وفسر العلماء غلاق الرهن بمثل هذا الكلام.

زكاة القطن والبطيخ والخضراوات

وأما القطن والبطيخ والخضراوات فليس فيه زكاة، وأما البر بالشعير نسيئة فهو ربا.

نذر نخلة للنبي عليه الصلاة والسلام

وأما الرجل الذي نذر نخلة للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأبي صالح، وبعد ما أسلم علم أن هذا ما يجوز، وتاب إلى الله ورجع عن ذلك، وجعلها لله، فهذا هو الذي ينبغي له، وهي مصرف حسن، وتقسم ثمرتها في وجوه البر كالفقراء والمساكين والأقربين.

مقدار السفر الذي يترخص فيه

وأما مقدار السفر الذي يترخص فيه برخص السفر كالقصر والإفطار والجمع، فالعلماء اختلفوا في ذلك، وبعضهم ما يرى فيه تحديدا لأنه لم يرو فيه تحديد عن الشارع صلوات الله وسلامه عليه، بل كل ما كان يسمى سفرا، وإن

1 الترمذي: الطلاق (1184)، وأبو داود: الطلاق (2194)، وابن ماجه: الطلاق (2039) .

2 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437) .

ص: 170

كان دون اليوم جاز أن يترخص فيه برخص السفر؛ وهذا هو الصواب وهو الذي تدل عليه النصوص.

تزوجها رجل ودخل بها لكنه لم يطأها

وأما المرأة التي تزوجها رجل، ودخل بها، لكنه لم يطأها، فالذي نعمل عليه أن العدة تجب عليها. وأما من قال: علي الطلاق أو الحرام لأفعلن كذا ولا أفعلن كذا وفعله، فالذي نعمل عليه أنه ليس عليه إلا كفارة يمين.

أدب المتكاسل عن الصلاة

وأما أدب المتكاسل عن الصلاة بالجلد والخسارة، فهذا النوع عند أهل العلم يسمى التعزير، وهو أن المعاصي التي لم يقدر الشارع فيها حدا يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة، فيفعل الأمير ما فيه المصلحة من الضرب والخسارة بالمال. والنبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم، ولم يمنعه من ذلك إلا ما في البيوت من النساء والذرية.

تأخير الزكاة إلى أجل معلوم

وأما تأخير الزكاة إلى أجل معلوم، فإن رأى العامل في ذلك مصلحة جاز له فعله. وأما نقل الزكاة من بلد إلى بلد، فبعض العلماء يرى جواز ذلك لأجل المصلحة إذا رآه الإمام؛ وهو الذي نعمل عليه.

وأما ما ذكر السائل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فلا نعرف ذلك من وجه صحيح. وأما قول السائل: إنه ذكر في الخبر أنه جاءته صدقة خراسان، فلا أرى لهذا أصلا.

مقدار الصاع

(8)

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن الشيخ وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(وبعد) وصل خطك أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة تحرير الصاع أن الذي تحرر لكم فيه أنه أربع حفنات بيدي الرجل

ص: 171

المعتدل في الخلقة، فالأمر على ما ذكرت وهو الذي ذكره العلماء كصاحب النهاية والقاموس. وأما كون بعض الحفنات يزيد السدس على الصاع الأول الذي هو أربع حفنات، فلم يظهر لنا ذلك، بل الذي ظهر لنا أن الزيادة تسع أو عشر على ما تحرر لنا بالحفنات. وأما الوزن فلم نعتمد عليه، لأن الحب يختلف بالرزانة وعدمها، والعمدة على ما حرره العلماء بالحفنات، وزيادة الصاع على الحفنات يسيرة؛ فلهذا تركنا الأمر على العادة القديمة في الاعتبار بالصاع الموجود. وأما الذي نفتي به فهو العمل على أربع الحفنات، وبالاعتبار بالصاع نجعل التسعة الآن عن عشرة وما دون ذلك مشكوك فيه، فالاحتياط في العبادة أولى. وأما الحبوب فالذي عليه العمل أنه يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، ولو اختلف الجنس إذا كان ذلك في عام واحد. وحسين وإخوانه فيما تحب والسلام.

الصدقة في مكة

(9)

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي حفظه الله تعالى

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وكل من تسأل عنهم طيبون عبد العزيز والعيال وآل الشيخ وعيالنا وخواص إخوانك، الجميع فيما تحب من فضل الله أسبغ الله علينا وعليكم نعمه وأعاذنا من حلول نقمه.

(وأما جواب المسائل) : فمسألة الصدقة في مكة لها مزية في الفضيلة لفضيلة البقعة، ومتحري الخير يتيسر له ذلك خصوصا في أيام الحج، إذا حج ناس من المسلمين، فإنه يجد مع الحاج من فقراء المسلمين ناسا محتاجين يتصدق

ص: 172

عليهم، فيحصل فضيلة البقعة مع فضيلة أيام الحج.

وأما الصدقة على أهلها اليوم وهم على هذه الحال، فقد ذكر أهل العلم ما يدل على أن المسلم يثاب على الصدقة على الكافر كما يدل عليه قوله تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وذكر أهل التفسير عند قوله تعالى:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون} [البقرة من الآية: 272] أنها نزلت في الصدقة على أهل الذمة.

هلك هالك عن ابن أخت شقيقة وابني خالين

وأما مسألة ذوي الأرحام إذا هلك هالك عن ابن أخت شقيقة وابني خالين، فالعمل على مذهب المنْزلين، فينْزلوا كلا منْزلة من أدلى به: فيكون لابن الأخت النصف ثلاثة من ستة، ويكون لابني الخالين اثنان من ستة ويبقى واحد يرد عليهم على قدر سهامهم، فيجعل المال خمسة أسهم لصاحب النصف ثلاثة أخماس، ولصاحب الثلث خمسان. لكن النظر في ابني الخالين هل هما وارثان أو أحدهما محجوب بالآخر كما نص الفقهاء على ذلك. مثال ذلك ابن الخال لأب مع ابن الخال لأبوين، فالمال لابن الخال الشقيق، ولا شيء لابن الخال لأب، نبه عليه صاحب الشرح الكبير.

البيع المعيب إذا زال ملك المشتري عنه بعتق أو غيره

وأما مسألة البيع المعيب إذا زال ملك المشتري عنه بعتق أو موت أو وقف أو بيع، وتعذر رده، وكان تصرفه ذلك قبل علمه بالعيب، فله الأرش لتعذر الرد، في هذه الصورة الخلاف المشهور بين الفقهاء فيما إذا أمكن الرد، وامتنع المشتري وطالب بالأرش.

العمل بالخطوط

وأما مسألة العمل بالخطوط التي أشرت إليها، فمسألة العمل بالخط فيه خلاف بين الفقهاء لكن الذي نعمل به اليوم هو ما إذا كان الكاتب

ص: 173

معروف الكتابة موثوقا به أنه لا يكتب إلا الشهادة المحررة، وأما الخط الذي لا يعرف أو يعرف ولكن صاحبه ليس بثقة، فلا نعمل به ولا نقبل إلا شهادة الشاهد بعينه، أو يحمل شهادته من يوثق به؛ ولا ينبغي لك أن تعمل إلا على هذا، فإذا لم يتهيأ فلك عن ذلك مندوحة. وسلم لنا على سعود ومرشد وإخوانك والسلام.

إجابة على تسع وتسعين مسألة فقهية

المسألة الأولى: استعمال ماء بئر تردت فيه بهيمة

(10)

وله أيضا رحمه الله إجابة على تسع وتسعين مسألة فقهية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فتح بصائر أوليائه بمشاهدة عجائب الاعتبار والعبر، واستخلص هممهم بصفاء المناجاة، ولذات المصافاة من شواغل الأسباب وشوائب الكدر، أحمده وآمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين وصفوة المرسلين وإمام المتقين وسيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في سبيل الله حتى ارتفعت أعلامه على الأديان فظهر، وسلم تسليما.

(أما بعد) فإنه لما كان غرة رجب المحرم سنة 1217 سبع عشر بعد المائتين والألف، ورد علينا أسئلة ممن أراد الاسترشاد، وكان مقصده إن شاء الله بذلك سلوك طريق الرشاد، وهي مسائل فقهية، فنقلت أجوبتها من كتب الأئمة الأعلام، وأشار في مقدمة أسئلته بإيجاز الكلام، وجملة ما سأل عنه تسع وتسعون مسألة.

نسأل الله الإعانة والتسديد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(المسألة الأولى) : إذا تردت بهيمة في بئر ولم يعلم بها إلا بعد تغير رائحة الماء تغيرا ظاهرا، فهل يجوز له استعماله وتستباح به الصلاة أم لا

ص: 174

(الجواب) : من علم بتغيير رائحة الماء لم يجز له استعماله، ولا تستباح به الصلاة.

المسألة الثانية: عليه غسل وحضرت الصلاة ولم يجد إلا ماء زمزم

(المسألة الثانية) : إذا كان على رجل غسل، وحضرت الصلاة ولم يجد إلا ماء زمزم، فهل يجوز له استعماله أم لا

(الجواب) : المسألة فيها خلاف، والظاهر أنه يجوز له استعماله من غير كراهة. فأما إذا وجد غيره ففيه ثلاث روايات: الأولى: لا يكره، والثانية: يكره، والثالثة: يكره الغسل دون الوضوء اختارها الشيخ.

المسألة الثالثة: الوضوء من ماء راكد بال إنسان فيه

(الثالثة) : إذا بال إنسان في ماء راكد، وحان وقت الصلاة ولا يجد ماء غيره، فهل يباح له الوضوء منه أم لا

(الجواب) : إذا اضطر إليه ولم يجد غيره، وهو فوق القلتين ولم تغيره رائحة النجاسة، فالظاهر أنه يتوضأ منه ويرتفع حدثه.

المسألة الرابعة: هل يحل الدين بالموت

(الرابعة) : هل يحل الدين بالموت أم لا

(الجواب) : المسألة فيها قولان في المذهب، والأظهر أنه لا يحل بالموت إذا وثقوه الورثة.

المسألة الخامسة: تعذر تسليم المسلم فيه

(الخامسة) إذا تعذر تسليم المسلم فيه، فهل ينفسخ بنفس التعذر أم لا

(الجواب) : إذا تعذر تسليم المسلم ففيه روايتان: (إحداهما) : أن المسلم بالخيار بين الصبر وبين أخذ الثمن إن كان موجودا، وإلا فمثله إن كان مثليا.

(والثانية) : أنه ينفسخ بنفس التعذر، والرواية الأولى أظهر إن شاء الله تعالى.

المسألة السادسة: هل يجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه

(السادسة) : هل يجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه أو تجوز في البعض

(الجواب) : حكى ابن المنذر على جوازها في المسلم فيه الإجماع وفي جوازها في البعض روايتان، والأظهر جوازها في البعض.

المسألة السابعة: صرف الثمن بعد انفساخ العقد بالإقالة

(السابعة) : إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، هل يصرف ذلك الثمن في عقد آخر أم لا

ص: 175

(الجواب) هذه المسألة فيها خلاف، والأظهر من ذلك المنع.

المسألة الثامنة: دفع رجل إلى آخر دراهم وقال: اشتر طعاما مثل الذي لك

(الثامنة) : إذا دفع رجل إلى آخر دراهم، وقال: اشتر بها طعاما مثل الذي لك علي، فهل يصح أم لا

(الجواب) الأظهر عدم الصحة.

المسألة التاسعة: هل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه

(التاسعة) : هل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه أم لا

(الجواب) : الظاهر الجواز في قول أكثر الفقهاء.

المسألة العاشرة: ضمان المستعير للعارية

(العاشرة) : هل يضمن المستعير العارية إذا تلفت أم لا وهل يعتبر أم لا

(الجواب) : أنها لا تضمن إلا بالتفريط فيها.

المسألة الحادية عشرة: شك هل مسح على الخف قبل الظهر أو بعده

(الحادية عشرة) إذا لبس الخف وأحدث، ثم صلى الظهر ثم شك هل مسح الخف قبل الظهر أو بعده، وقلنا ابتداء المدة من المسح.

(الجواب) : إذا شك هل مسح قبل الظهر أو بعده لم تلزمه الإعادة، لأن الأصل المسح، وقيل يلزمه إعادة الظهر، ويخلع من الغد قبل الظهر فيرد كل شيء إلى أصله.

المسألة الثانية عشرة: هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة؟

(الثانية عشرة) : هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة، وهل يجمع بين المسح والتيمم أم لا

(الجواب) : المسألة فيها خلاف، والأظهر أنه لا يشترط تقدم الطهارة للجبيرة والمسح يكفي عن التيمم، والجمع بينهما أحسن ظهورا من الخلاف.

المسألة الثالثة عشرة: نقض وضوء من مس فرج آخر

(الثالثة عشرة) : إذا مس إنسان فرج آخر أو نظر إليه، هل ينقض وضوؤه أم لا

(الجواب) : النظر ليس بناقض، وأما المس فينقض الوضوء، وفرقوا هل ينقض الماس والممسوس أم الماس فقط، على روايتين؛ والأظهر من ذلك أن ينقض الكل.

ص: 176

المسألة الرابعة عشرة: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، فهل يبني على أحدهما أم لا

(الجواب) من تيقن الطهارة وشك في الحدث، بنى على ما تيقن.

المسألة الخامسة عشرة: طاف بالبيت وهو محدث

(الخامسة عشرة) : إذا طاف بالبيت وهو محدث، فهل يصح طوافه أم لا

(الجواب) : إذا كان طواف الزيارة، فإنه يعيد؛ وإن كان قد خرج إلى بلده جبره بدم. وإن كان غير طواف الزيارة، ففيه قولان:(أحدهما) : أن الطهارة شرط لصحته، (والثاني) : ليست بشرط، ويجبره بدم.

المسألة السادسة عشرة: لم يجد ما يستجمر به إلا التراب وكان طينا

(السادسة عشرة) : إذا كان في سفر ولم يجد أحجارا يستجمر بها ولا غيرها إلا التراب، وقد كان طينا، فهل يستجمر به أم لا

(الجواب) إذا عدم الجميع، فإنه يصلي على حسب حاله.

المسألة السابعة عشرة: صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه إمام

(السابعة عشرة) : إذا صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه إمام صاحبه، فهل تصح صلاتهما أم لا

(الجواب) : هذه على روايتين: (الأولى) : عدم الصحة، (والثانية: أنها صحيحة ويصليان منفردين.

المسألة الثامنة عشرة: صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه مأموم

(الثامنة عشرة) : إذا نوى كل منهما أنه مأموم، فهل تصح صلاة كل منهما أم لا

(الجواب) : هي كالتي قبلها على روايتين.

المسألة التاسعة عشرة: أحرم منفردا فحضرت جماعة فدخل معهم

(التاسعة عشرة) : إذا أحرم منفردا فحضرت جماعة فأحب أن يصلي معهم ودخل معهم، فهل تصح صلاته أم لا

ص: 177

(الجواب) : الظاهر عدم الصحة، وهي أصح الروايتين.

المسألة العشرون: أحرم رجل مأموما ثم نوى الانفراد لعذر

(العشرون: إذا أحرم رجل مأموما، ثم نوى الانفراد لعذر فهل تصح صلاته أم لا

(الجواب) : الظاهر الصحة، لحديث معاذ.

المسألة الحادية والعشرون: سبق الإمام الحدث قبل أن يستخلف ثم استخلفوا

(الحادية والعشرون) : إذا سبق الإمام الحدث قبل أن ينصرف ويستخلف، ثم استخلفوا من يؤم بهم فهل صلاتهم صحيحة أم لا

(الجواب) : الظاهر صحة الصلاة.

المسألة الثانية والعشرون: مر بين يدي المصلي كلب أحمر أو أبيض

(الثانية والعشرون) : إذا مر بين يدي المصلي كلب أحمر أو أبيض، فهل صلاته صحيحة أو يقيد الحكم بالكلب الأسود أم لا

(الجواب) : المسألة فيها روايتان، والأظهر منهما الاقتصار على ما نص عليه الشارع صلى الله عليه وسلم.

المسألة الثالثة والعشرون: عليه دين لآخر فاقترض منه ليوفيه كل وقت

(الثالثة والعشرون) : إذا كان على رجل دين لآخر، فاقترض منه ليوفيه كل وقت، هل يصح أم لا

(الجواب) : المسألة فيها خلاف، والأظهر الكراهة لا التحريم.

المسألة الرابعة والعشرون: أقرض فلاحه شراء بقر أو بذر

(الرابعة والعشرون) : لو أقرض فلاحه شراء بقر أو بذر.

(الجواب) : الظاهر المنع لأنه قرض جر منفعة.

المسألة الخامسة والعشرون: قال الراهن للمرتهن زدني مالا ويكون الذي عندك به رهن

(الخامسة والعشرون) : إذا قال الراهن للمرتهن زدني مالا، ويكون الذي عندك به رهن، هل يصح أم لا

(الجواب) : الأظهر في هذه المسألة عدم المنع.

المسألة السادسة والعشرون: رهن المبيع في مدة الخيار أو رهنه المشتري

(السادسة والعشرون) : إذا رهن المبيع في مدة الخيار أو رهنه المشتري، فهل يصح أم لا

(الجواب) : لا يصح رهن المبيع في مدة الخيار، فإن رهنه المشتري والخيار له وحده صح، وبطل خياره.

ص: 178

المسألة السابعة والعشرون: رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين

(السابعة والعشرون) : إذا رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين، فهل يصح أم لا

(الجواب) : إذا رهن أو باع وعلى الميت دين، صح في أصح الروايتين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة والعشرون: هل يلزم الرهن بغير القبض

(الثامنة والعشرون) : هل يلزم الرهن بغير القبض أم لا

(الجواب) : لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وفرقوا في هذه المسألة، فقالوا: ما كان مكيلا أو موزونا لم يلزم رهنه إلا بالقبض، وفيما عداهما روايتان:(إحداهما) : لا يلزم إلا بالقبض، (الثانية) : يلزم بمجرد العقد؛ والأولى أصح.

المسألة التاسعة والعشرون: رهن الصبرة من الطعام

(التاسعة والعشرون) : هل يجوز رهن الصبرة من الطعام التي لا يعرف قدرها بالكيل والوزن

(الجواب) : ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا وجه للمنع.

المسألة الثلاثون: استدامة القبض شرط للزوم الرهن

(الثلاثون) : هل استدامة القبض شرط لصحة الرهن أم لا

(الجواب) : استدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإن أخرجه من يده باختياره زال لزوم الرهن. وقال مالك: لا يزول الرهن ولو أخرجه من يده، وهو الذي عليه العمل اليوم.

المسألة الحادية والثلاثون: رهن العارية والمغصوب

(الحادية والثلاثون) : إذا استعار رجل من آخر شيئا أو غصبه فأراد صاحبه رهنه، فهل يصح أم لا

(الجواب) : يصح رهنه في العارية والمغصوب إذا أراد صاحبه رده.

المسألة الثانية والثلاثون: انتفاع المرتهن بالرهن

(الثانية والثلاثون) : هل يجوز لمرتهن الدار أن يسكنها بنفسه أم لا

(الجواب) : هذه المسألة فيها خلاف، فإن سكنها بغير إذن الراهن حرم، فإن كان بإذنه وأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع من غير عوض وكان

ص: 179

دين الرهن قرضا لم يجز، لأنه قرض يجر منفعة وذلك حرام. وإن كان الرهن بثمن مبيع أو دين غير قرض، وأذن له الراهن بالانتفاع جاز ذلك. وكذلك إن كان انتفاعه بعوض مثل أن استأجرها بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض لكونه ما انتفع بالقرض في الأجرة، فإن حاباه في دار فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض، فلا يجوز في القرض ويجوز في غيره.

المسألة الثالثة والثلاثون: تلف الرهن في يد المرتهن

(الثالثة والثلاثون) : إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فهل يضمنه بجميع الدين، وإن كان أكثر من قيمته أو بقيمته أم لا

(الجواب) : إذا تلف الرهن من غير تفريط المرتهن، فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن. فإذا تلف بتفريط المرتهن فإنه يضمنه 1.

المسألة الرابعة والثلاثون: دفع رجل لآخر رهنا وقال إن جئتك بالدراهم إلى كذا وإلا فالرهن لك

(الرابعة والثلاثون) : إذا دفع رجل إلى رجل آخر رهنا وقال: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، هل يجوز أم لا

(الجواب) إذا قال هذا فهو رهن فاسد، وهذا ينافي مقتضى العقد، فإذا شرط هذا فسد العقد. ويتخرج أن لا يفسد، والأول أظهر.

المسألة الخامسة والثلاثون: معنى حديث لا يغلق الرهن

(الخامسة والثلاثون) : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن"2

(الجواب) قيل لأحمد: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا يغلق الرهن"3 قال: لا يدفع رهن إلى رجل ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، قال ابن المنذر هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يغلق الرهن"4.

المسألة السادسة والثلاثون: هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها؟

(السادسة والثلاثون) : هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها أم لا

(الجواب) : الظاهر عدم الصحة.

المسألة السابعة والثلاثون: بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام

(السابعة والثلاثون) : إذا بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام، فهل يصح أم لا

1 لم يبين إن كان الضمان بالقيمة أو لا كما في السؤال.

2 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437) .

3 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437) .

4 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437) .

ص: 180

(الجواب) إذا كان نافذا ليس بسد مشترك، فإن له بناءه بإذن الإمام، بشرط أن لا يكون به ضرر.

المسألة الثامنة والثلاثون: كان باب رجل في أول الدرب فأراد نقله إلى داخل منه

(الثامنة والثلاثون) : إذا كان باب رجل في أول الدرب، فأراد نقله إلى داخل منه، فهل له ذلك أم لا

(الجواب) : إذا كان على الطريق نافذ فإن له ذلك.

المسألة التاسعة والثلاثون: ادعى أجنبي على المدين أن رب المال أحاله، به وأقام الأجنبي بينة

(التاسعة والثلاثون) : إذا ادعى أجنبي على المدين أن رب المال أحاله به، وأقام الأجنبي بينة، فهل له الحوالة أم لا

(الجواب) : إذا أقام بينة أنه أحاله عليه لزمه الدفع إلى المحال، فإن لم يكن له بينة وأنكر المدعى عليه فهل يلزمه اليمين فيه وجهان.

المسألة الأربعون: لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه

(الأربعون) : إذا لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه فهل يلزمه الدفع أم لا

(الجواب) هذه المسألة فيها وجهان:

(أحدهما) : يلزمه الدفع، لأنه مقر بدينه.

(والثانية) : لا يلزم الدفع إليه لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فله الاحتياط على نفسه.

المسألة الحادية والأربعون: على رجل دين فادعى آخر أنه وكيل له وصدقه

(الحادية والأربعون) : إذا كان على رجل دين فادعى آخر أنه وكيل له وصدقه، فهل يلزم الدفع أم لا

(الجواب) : هي كالتي قبلها، إن شاء دفع إليه وإن شاء لم يدفع لأنه لا يأمن الإنكار، فله الاحتياط على نفسه.

المسألة الثانية والأربعون: عند رجل دين أو وديعة فادعى رجل أنه وارث صاحبها

(الثانية والأربعون) : إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارث صاحبها ولا وارث له سواه فصدقة، فهل يلزم الدفع مع الإقرار أم لا

ص: 181

(الجواب) : إذا أقام البينة أنه وارث ولا وارث له غيره، لزمه الدفع. وفيها قول ثان، والأول أظهر.

المسألة الثالثة والأربعون: شراء الوكيل من نفسه

(الثالثة والأربعون) : إذا وكل رجلا آخر، فهل للوكيل أن يبيع لنفسه أم لا وهل للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه أم لا

(الجواب) : المسألة فيها خلاف، فقال بعض الأصحاب: شراء الوكيل من نفسه غير جائز. فأما الموكل في البيع، فشراؤه من نفسه جائز، بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، ووكل من يبيع، وكان هو أحد المشترين، فذلك جائز. (والرواية الثانية) : أن شراءه من نفسه جائز بشرط أن يتولى النداء غيره، وهي رواية عند الإمام أحمد.

المسألة الرابعة والأربعون: ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر

(الرابعة والأربعون) : إذا ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر، فهل يستحلف أم لا وهل لها نكاح غيره لاعترافها أنه زوجها أم لا وهل يكلف الطلاق أم لا؟ وإذا ماتت، فهل يرث أحدهما من الآخر أم لا

(الجواب) : نعم إذا ادعت أنه زوجها فأنكر، لزمه اليمين. ولا تنكح غيره إلا بطلاقه، ولم تحسب من الطلقات الثلاث. وإذا طلقها فلها نكاح غيره ولا يرث أحدهما من صاحبه.

المسألة الخامسة والأربعون: قال المالك: دفعت إليك المال قراضا. فقال: بل قرض، أو بالعكس

(الخامسة والأربعون) : إذا قال المالك: دفعت إليك المال قراضا، فقال: بل قرض، أو بالعكس، أو غصبتنيه، فقال: بل أودعتنيه، أو بالعكس، أو قال أعرتكه، وقال: بل أجرتنيه، أو بالعكس.

(الجواب) : إذا قال المالك أنه قراض فالقول قوله لأنه ملكه، وكذلك الغاصب إذا ادعى أنه غصبه، فالقول قوله، وقيل القول قول الغاصب. وكذلك إذا قال المالك: أعرتكه، قال: بل أجرتني، فالقول قول المالك.

ص: 182

المسألة السادسة والأربعون: قسمة الدين في الذمم

(السادسة والأربعون) : هل يجوز قسمة الدين في الذمم أم لا

(الجواب) : المسألة فيها روايتان: (الأولى) : المنع، (والثانية) : الجواز، قال الشيخ بصحة الجواز 1.

المسألة السابعة والأربعون: بيع ما هو مستتر في الأرض

(السابعة والأربعون) : هل يجوز بيع ما هو مستتر في الأرض كالبصل ونحوه أم لا

(الجواب) : المسألة فيها روايتان، وجزم الشيخ بالجواز.

المسألة الثامنة والأربعون: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها

(الثامنة والأربعون) : إذا باع نخلا مؤبرا فأراد مالك الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها، فهل يصح أم لا

(الجواب) : المسألة فيها روايتان: (الأولى) : لا يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها لنهيه صلى الله عليه وسلم، وهي رواية عن مالك، وأحد الوجهين للشافعي. (والثانية) : عدم المنع.

المسألة التاسعة والأربعون: باع رجل زرعا أخضر لمالك الأرض

(التاسعة والأربعون) : إذا باع رجل زرعا أخضر لمالك الأرض، فهل يصح أم لا

(الجواب) : هي كالتي قبلها على روايتين: (منهم) من قال بالصحة، (ومنهم) من لم يقل، وممن قال بالصحة أبو الخطاب.

المسألة الخمسون: باعه بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح أو طالت الجزة

(الخمسون) : إذا باع رجل على آخر زرعا أخضر أو أثلا ونحوه بشرط جزه في الحال، ثم تركه المشتري حتى استوى الزرع، وطالت الجزة وزادت قيمة الأثل أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطبا، فأتمرت، فهل يصح البيع أم لا

1 إذا أطلق لفظ الشيخ في كلام فقهاء الحنابلة انصرف إلى ابن قدامة صاحب المغني والمقنع، وهو المراد هنا وإن كان متأخرو علماء نجد منهم يطلقون لقب الشيخ على المجدد محمد عبد الوهاب ولا سيما في مسائل التوحيد.

ص: 183

(الجواب) إذا باعه بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح أو طالت الجزة أو زادت قيمة الأثل، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطبا فأتمرت، فالظاهر أنه يبطل البيع في الرواية الأولى. (والثانية) : لا يبطل البيع، ويشتركان في الزيادة. (والرواية الثالثة) : يتصدقان بالزيادة.

المسألة الحادية والخمسون:سبع عشرة مسألة قال الإمام أحمد عنها أنهم يستعملون فيها الثلث

(الحادية والخمسون) : ما سبع عشرة مسألة التي قال الإمام أحمد أنهم يستعملون فيها الثلث

(الجواب) : هذه المسألة ليس لها موضع معقود، لكن مما يستعمل فيها الثلث: الغبن، وتنفيل الإمام الثلث للسرية، وفي الوصية عند الموت، وفي الجوائح، وفيمن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه الثلث.

المسألة الثالثة والخمسون: استأجر أرضا ليزرعها فزرعها ثم تلف الزرع

(الثالثة والخمسون 1": إذا استأجر أرضا ليزرعها فزرعها ثم تلف الزرع، فهل يلزمه شيء أم لا

(الجواب) : الظاهر أنه لا يلزمه شيء.

المسألة الرابعة والخمسون: استأجرها بصبرة فتلف الزرع إلا قدر الصبرة

(الرابعة والخمسون) : إذا استأجرها بصبرة مثل خمسين صاعا فتلف الزرع إلا قدر الصبرة، فهل يدفعه إلى المؤجر أم لا

(الجواب) إذا تلفت بآفة فإنه يدفع إليه أجرته كاملة، واختار الشيخ وضع الجوائح وأن كلا على قدر حصته.

المسألة الخامسة والخمسون: صلاح بعض الشجر صلاح لكل النوع

(الخامسة والخمسون) : هل صلاح بعض الشجر صلاح لكل النوع

(الجواب) : هذه المسألة على روايتين، والصحيح أن صلاح البعض صلاح للكل.

المسألة السادسة والخمسون: ثبوت الاختصاص في مرافق الأملاك

(السادسة والخمسون) : مرافق الأملاك كالأفنية والطريق وسيل

1 كذا في الأصل وقد سقط منه الثانية والخمسون كما ترى.

ص: 184

الماء هل هي مملوكة أو يثبت فيها حق الاختصاص أم لا

(الجواب) : المسألة فيها وجهان، الأظهر منهما ثبوت الاختصاص.

المسألة السابعة والخمسون: تعذر زرع الأرض المستأجرة بمانع

(السابعة والخمسون) : إذا استأجر أرضا ليزرعها، ثم تركها أو تعذر زرعها، كأن سالت فلم ينضب الماء حتى فات وقت الزرع، فهل تلزمه الأجرة أم لا

(الجواب) : إذا تعذر زرع الأرض بمانع لم تلزمه الأجرة، لأن الانتفاع بها غير ممكن، فإن أمكنه الانتفاع بالأرض بزرع في بقية المدة فتعذر فعليه الأجرة، وقال الشيخ يثبت قسط المثل.

المسألة الثامنة والخمسون: هل يباع مما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه؟

(الثامنة والخمسون) : هل يباع مما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه؟

(الجواب) : لا يجوز بيعه قبل قبضه، والرواية الثانية الجواز.

الشركة والتولية والحوالة على ما لا يجوز بيعه قبل قبضه

(التاسعة والخمسون) هل يجوز الشركة والتولية والحوالة على ما لا يجوز بيعه قبل قبضه أم لا؟

(الجواب) الظاهر عدم الجواز.

هل يحصل القبض فيما بيع بكيله أو وزنه أو بالتخلية

(الستون) : هل يحصل القبض فيما بيع بكيله أو وزنه أو بالتخلية أم لا؟

(الجواب) : نعم القبض كيله أو وزنه، والرواية الثانية أن قبضه بالتخلية مع التمييز.

المسألة الحادية والستون: إذا وليت الإجارة العقد فهل يثبت فيها خيار؟

(الحادية والستون) : إذا وليت الإجارة العقد، فهل يثبت فيها خيار أم لا؟

(الجواب) : إذا وليت الإجارة العقد لم يثبت فيها خيار، وإن كانت لا تلي العقد ثبت فيها خيار.

المسألة الثانية والستون: هل يثبت خيار الشرط في جميع العقود؟

(الثانية والستون) : هل يثبت خيار الشرط في جميع العقود أم لا؟

(الجواب: لا يثبت خيار الشرط إلا في البيع والصلح والإجارة

ص: 185

في الذمة أو على مدة لا تلي العقد، ويثبت في أشياء غير ذلك 1.

المسألة الثالثة والستون: التصرف في المبيع في مدة الخيار

(الثالثة والستون) : هل يجوز للبائع والمشتري التصرف في المبيع في مدة الخيار أم لا؟

(الجواب) : لا يجوز التصرف في المبيع في مدة الخيار إلا بما يحصل به تجربة المبيع، فإن كان الخيار لأحدهما صح وبطل خياره.

المسألة الرابعة والستون: هل للبائع التصرف في الثمن إن كان معينا في مدة الخيار؟

(الرابعة والستون) : هل للبائع التصرف في الثمن إن كان معينا في مدة الخيار أم لا؟

(الجواب) : نعم، يأخذ الثمن ولا يتصرف فيه في مدة الخيار.

المسألة الخامسة والستون: أعتق المشتري في مدة الخيار

(الخامسة والستون) : إذا أعتق المشتري في مدة الخيار، هل ينفذ عتقه أم لا؟

(الجواب) : ينفذ عتقه ويبطل خياره، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه لا يبطل خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة. والرواية الأولى أظهر، ويرجع البائع بثمنه.

المسألة السادسة والستون: الجار السوء عيب يرد به المبيع

(السادسة والستون) : إذا اشترى رجل دارا، فوجد الجار جار سوء، هل هو عيب يثبت به الخيار أم لا؟

(الجواب) : قال الشيخ الجار السوء عيب يرد به المبيع.

المسألة السابعة والستون: بيع اللحم بالشحم

(السابعة والستون) : هل يجوز بيع اللحم بالشحم أو عكسه؟

(الجواب) : اللحم والشحم أجناس، فمن الأصحاب من جوز بيع بعضه ببعض متفاضلا، وقال القاضي هما جنس واحد لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا.

1 كذا في الأصل وهو إبطال للحصر الذي قبله.

ص: 186

المسألة الثامنة والستون: معنى مد عجوة

(الثامنة والستون) : ما معنى مد عجوة؟

(الجواب) : المعنى هو جنس يباع بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما كدرهم ومدين أو مد ودرهم، وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز، نص عليه الإمام أحمد في مواضع كثيرة. وقيل يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره.

المسألة التاسعة والستون: أعرى رجل نخلات، فكره صاحب الحائط دخول حائطه، فهل يجوز له أن يشتريها لنفسه

(التاسعة والستون) : إذا أعرى رجل نخلات من حائطه، فكره صاحب الحائط دخول حائطه، فهل يجوز له أن يشتريها لنفسه أو تباع لغيره بنقد أم لا؟

(الجواب) : نعم، يجوز له أن يشتريها لنفسه لإزالة الضرر.

المسألة السبعون: بيع ثوب بثوبين

(السبعون) : هل يجوز بيع ثوب بثوبين أم لا؟

(الجواب) : نعم يجوز بيع ثوب بثوبين.

المسألة الحادية والسبعون: على رجل طعام سلما ثلاث سنين واشترط أن يدفع كل سنة منه جزءا ثم مات

(الحادية والسبعون) : إذا قيل بحلول الدين بالموت، وكان على رجل طعام سلما ثلاث سنين، وقد اشترط أن يدفع إليه كل سنة منه جزءا ثم مات، فهل يحل جميع الطعام المسلم فيه أم لا؟

(الجواب) : هذه المسألة فيها خلاف: فمنهم من قال: لا يحل بالموت، ومنهم من قال: يحل؛ والأظهر أنه لا يحل بالموت. فمن قال: يحل بالموت قال: يحل جميع الطعام المسلم فيه، ومن قال: بعدم حلوله بالموت قال إلى الأجل الذي بينهما يحل كل سنة جزء منه.

المسألة الثانية والسبعون: امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء

(الثانية والسبعون) : إذا كان لرجل بئر، وأرض له ملكها قد توسطتها بئره، وكان لآخر أرض ليس لها ماء، فأراد صاحب الأرض أن يزرعها ويجري لها ماء من بئر جاره، فامتنع، فهل يجبر الممتنع أم لا؟

ص: 187

(الجواب) : إذا امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء، فإنه يجبر على إجرائه إلى جاره.

المسألة الثالثة والسبعون: دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا أو ثمن مبيع ثم مضى بها فأتى بدراهم ظهرت زيوفا وأنكرها

(الثالثة والسبعون) : إذا دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا أو ثمن مبيع ثم مضى بها الذي دفعت إليه، فلما أخذت مدة أتاه بدراهم قد ظهرت زيوفا وأنكرها، فمن القول قوله؟

(الجواب) القول قول الصارف أو المشتري مع يمينه، فليحلف بالله لقد أوفيتك الدراهم صحاحا ويبرأ.

المسألة الرابعة والسبعون: باعه نخلات بدين عليه وله الخيار شهرا وانقضت مدته

(الرابعة والسبعون) : إذا كان لرجل دين على آخر، فطلب صاحب الدين الوفاء، فقال: لا أجد شيئا، فقال: بعني هذه النخلات من حائطك بديني الذي عليك ولك الخيار شهرا، فباعه ثم انقضت مدة الخيار، فهل يملك النخلات، ويكون البيع صحيحا أم لا؟

(الجواب) : يملكها إذا انقضت مدة الخيار، ويكون البيع صحيحا إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة والسبعون: انفساخ الإجارة بالموت

(الخامسة والسبعون) : هل تنفسخ الإجارة بالموت من الطرفين أم لا؟

(الجواب) : المسألة فيها خلاف، والصحيح أنها لا تنفسخ بالموت من الطرفين.

المسألة السادسة والسبعون: اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، هل له الخيار؟

(السادسة والسبعون) : إذا اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، هل يثبت له الخيار أم لا؟

(الجواب) : لا يثبت له الخيار إذا علم بها.

المسألة السابعة والسبعون: اشترى جارية ثيبا فاطلع على عيب ثم وطئها

(السابعة والسبعون) : إذا اشترى جارية ثيبا، فاطلع على عيب لا يعلم به وقت البيع، ثم وطئها بعد ما علمه، فهل يملك الرد ويثبت له الخيار أم لا؟

(الجواب) : إذا علم بالعيب ثم وطئها بعد علمه، فلا خيار له.

المسألة الثامنة والسبعون: اشترى جارية بكرا فوطئها ثم اطلع على عيب

(الثامنة والسبعون) : إذا اشترى جارية بكرا فوطئها ثم اطلع على عيب

ص: 188

فهل يملك الرد بلا أرش، ويثبت له الخيار أم لا؟

(الجواب) إذا وطئ البكر، ثم علم بالعيب، فله الخيار بين الإمساك وأخذ أرش العيب، وبين الرد وأرش البكارة.

المسألة التاسعة والسبعون: باع رجل لآخر سلعة ثم شرطا البراءة من جميع العيوب

(التاسعة والسبعون) : إذا باع رجل لآخر سلعة، ثم شرطا البراءة من جميع العيوب، هل يبرأ أم لا؟

(الجواب) : إذا شرط البراءة من كل عيب لم يبرأ عنه يبرأ، إلا إذا علم البائع العيب فكتمه.

المسألة الثمانون: وكل رجل آخر يبيع له شيئا ثم دلسه الوكيل ثم تلفت في يد المشتري

(الثمانون) : إذا وكل رجل آخر يبيع له شيئا، ثم دلسه الوكيل، ثم تلفت في يد المشتري، فهل يرجع على الموكل أم لا؟

(الجواب) : إذا أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك، فإن تلف رجع الموكل بالتدليس على الوكيل في أرش التدليس.

المسألة الحادية والثمانون: زال ملك المشتري أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب

(الحادية والثمانون) : إذا زال ملك المشتري بعتق أو وقف أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فهل له الأرش أم لا؟

(الجواب) : إذا تعذر رده فله الأرش. هذا المذهب وعليه الأصحاب.

المسألة الثانية والثمانون: اشترى شيئا ثم باعه ثم علم بعيب منتقل به من البائع

(الثانية والثمانون) : إذا اشترى شيئا، ثم باعه ثم علم بعيب منتقل به من البائع، فهل يثبت له أرش أم لا؟

(الجواب) : إذا علم المشتري الثاني العيب، فله رده، وكذلك المشتري الأول إن لم يكن عالما بالعيب، ولم يجد منه ما يدل على الرضى فكذلك له رده، فإن أرادا الأرش فلهما ذلك.

المسألة الثالثة والثمانون: اشترى عبدا فأعتقه ثم اطلع على عيب منتقل به

(الثالثة والثمانون) : إذا اشترى رجل عبدا، فأعتقه ثم اطلع على عيب منتقل به، فهل يثبت له الأرش أم لا؟

ص: 189

(الجواب) : إذا أعتقه ثم علم بالعيب، فله الأرش.

المسألة الرابعة والثمانون: صبغ ثوبا أو نسجه ثم وجده معيبا

(الرابعة والثمانون) : إذا صبغ ثوبا أو نسجه، ثم وجده معيبا فهل له الأرش مع الإمساك أم لا؟

(الجواب) : إذا صبغه أو نسجه، فظهر معيبا، فله الأرش ولا رد له في أظهر الروايتين.

المسألة الخامسة والثمانون: اختلفا في حدوث العيب والعيب محتملا وخرج المعيب من يده لمشتر ثان

(الخامسة والثمانون) : إذا اختلفا في حدوث العيب، وكان العيب محتملا وخرج المعيب من يده لمشتر ثان، ثم ظهر العيب في يد المشتري الثالث فرده، فهل يملك الثاني رده على الأول أم لا؟

(الجواب) : إذا كان العيب محتملا حدوثه عند الأول أو الثاني، ففيه روايتان:

(إحداهما) : إن كان لا يحتمل حدوثه كالإصبع الزائدة، والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها، أو الجرح الطارئ الذي يحتمل كونه قديما، فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين للعلم بصدقه، وإن احتمل قول كل منهما كالخرق في الثوب والرفو ونحوهما، ففيه روايتان:(إحداهما) : القول قول المشتري مع اليمين، فليحلف بالله أنه اشتراها وبها هذا العيب وأنه ما حدث عنده، ويكون له الخيار، قال به بعض الأصحاب.

(والثانية) : القول قول البائع مع يمينه، والرواية الثانية أظهر لأنه منكر.

المسألة السادسة والثمانون: باع الوكيل ثم ظهر به عيب وأقر الوكيل وأنكر الموكل

(السادسة والثمانون) : إذا باع الوكيل، ثم ظهر به عيب وأقر الوكيل وأنكر الموكل، فهل يقبل إقراره على موكله أم لا؟

(الجواب) : إن كان العيب مما يمكن حدوثه، وأقر به الوكيل وأنكر الموكل، فقال بعض الأصحاب يقبل إقراره على موكله بالعيب، لأنه أمر يستحق به الرد، فيقبل إقراره على موكله. وقال بعضهم: لا يقبل، وهو اختيار الموفق، وبه قال أصحاب أبي حنيفة والشافعي.

ص: 190

المسألة السابعة والثمانون: اشترى اثنان شيئا، وقال ثالث: أشركاني فأشركه أحدهما

(السابعة والثمانون) : إذا اشترى اثنان شيئا، وقال ثالث: أشركاني، فأشركه أحدهما، فهل يكون له نصف حصة الذي أشركه أم لا؟

(الجواب) : إذا أشركه أحدهما فقال بعضهم: له ثلث حصتهما، وقال بعضهم: له ثلث حصته، وليس على الشريك الثاني تبعة.

المسألة الثامنة والثمانون: بيع المرابحة

(الثامنة والثمانون) : إذا باعه مرابحة مثل أن يخبره أن ثمنها مائة، ويربح عشرة ثم بان أن ثمنها تسعون، فهل يصح البيع ويرجع على ما زاد من الثمن أم لا؟

(الجواب) : إذا علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون، فالبيع صحيح ويرجع في الزيادة على المثمن وهي عشرة وحصتها من الربح، وهو درهم ويبقى له تسعة وتسعون.

المسألة التاسعة والثمانون: اشترى شيئا بثمن مؤجل أو بأكثر من ثمنها حيلة ثم باعها ولم يبين ذلك.

(التاسعة والثمانون) : إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل، أو مما لا يقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنها حيلة وباع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك، فهل للمشتري الخيار أم لا؟

(الجواب) : متى علم بذلك فهو بالخيار إن شاء رده، وإن شاء أمسكه وأخذه بثمنه مؤجلا، حكى ذلك ابن المنذر عن الإمام أحمد، وفيه رواية ثانية: إن شاء رده، وإن شاء أخذه بثمنه الذي حل عليه العقد حالا والأظهر الأولى.

المسألة التسعون: اختلف المتبايعان في قدر الثمن والسلعة تالفة

(التسعون) : إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن والسلعة تالفة، فهل تقوم بقيمتها وقت التلف أو بما يقر به المشتري؟

(الجواب) : إذا اختلفا في قدر الثمن، ففيها روايتان:

(إحداهما) : يتحالفان.

(والثانية) : القول قول المشتري مع يمينه، واختارها أبو بكر، وهو قول النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"والسلعة قائمة".

المسألة الحادية والتسعون: اختلفا في الثمن والسلعة قائمة ولأحدهما بينة

(الحادية والتسعون) : إذا باع رجل لآخر سلعة، وقال البائع: بعتها

ص: 191

بعشرين، وقال المشتري: بعشرة وقيمتها ثمانية، فهل يشرع لهما التحالف؟ أو يدفع المشتري القيمة مع أنها أقل مما أقر به أم لا؟

(الجواب) : إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة، ولأحدهما بينة حكم بها، وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، فيبدأ بيمين البائع.

المسألة الثانية والتسعون: اختلفا بعد أن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض الثمن

(الثانية والتسعون) : إذا تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض الثمن، مَن القول قوله؟

(الجواب) : إذا تقايلا المبيع بعد القبض أو رد بعيب، فالقول قول البائع؛ لأنه منكر.

المسألة الثالثة والتسعون: اختلفا في المبيع وأقام كل منهما بينة متساوية

(الثالثة والتسعون) : إذا قال البائع: بعتك هذا، وأقام عليه بينة، وقال المشتري: بل هذا، وأقام كل منهما بينة متساوية في العدل والعدد، فهل يثبت العقد أم لا؟

(الجواب) : إذا أقام كل منهما بينة، وتعادلت بينتاهما ثبت العقد للمشتري.

المسألة الرابعة والتسعون: استأجر أرضا ثم أجرها غيره

(الرابعة والتسعون) : إذا استأجر أرضا، ثم أجرها غيره، فهل يصح أم لا؟

(الجواب) : إذا استأجرها وأجرها غيره فالظاهر الصحة.

المسألة الخامسة والتسعون: حكم المزارعة والإجارة من حيث اللزوم

(الخامسة والتسعون) : هل حكم المزارعة والإجارة واحد أم لا؟

(الجواب) المذهب التفريق، فمن الأصحاب من قال: المساقاة عقد جائز ليس بلازم، ومنهم من قال: إنها لازمة في صاحب العقار في حق المساقي. وأما الإجارة، فالظاهر أنها عقد لازم من الطرفين ليس لأحدهما فسخها.

المسألة السادسة والتسعون: إجارة أرض وشجر لحملها

(السادسة والتسعون) : هل تجوز إجارة أرض وشجر لحملها أم لا؟

(الجواب) : لا يجوز إجارة أرض وشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعا، وجوزه ابن عقيل تبعا للأرض، والصحيح الأول -إن شاء الله تعالى-.

المسألة السابعة والتسعون: تلفت الثمرة في الإجارة فهل تلزم الأجرة؟

(السابعة والتسعون) إذا تلفت الثمرة فهل تلزم الأجرة أم لا؟

ص: 192

(الجواب) : متى غرق الزرع أو تلف لزمته الأجرة، هذا المذهب. وقال الشيخ: لا تلزمه الأجرة.

المسألة الثامنة والتسعون: تعذر استيفاء المنفعة المقصودة في عقدإجارة

(الثامنة والتسعون) : إذا نقضت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد، فهل يلزم الفسخ أو الأرش؟

(الجواب) : إذا انقضت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد فله الأجرة كاملة، وقال الشيخ: يسقط من الأجرة بقسط ما تلف.

المسألة التاسعة والتسعون: استأجر أرضا وشرط على ربها البذر أو بعضه قرضا

(التاسعة والتسعون) : إذا استأجر أرضا، وشرط على ربها البذر أو بعضه قرضا، فهل يصح أم لا؟

(الجواب) : الظاهر عدم الصحة، لأنه قرض جر منفعة، والله أعلم.

إجابة عن مسائل في المرجئة والقدرية وغير ذلك

أحاديث في المرجئة والقدرية

(11)

وله أيضا رحمه الله إجابة عن مسائل في المرجئة والقدرية وغير ذلك

بسم الله الرحمن الرحيم

(الجواب) : الحمد لله رب العالمين.

(أما المسألة الأولى) : وهي ما يذكر في الحديث: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية"1، وقوله في الحديث:"صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة والقدرية"إلخ كلام السائل -رحمه الله تعالى-.

(فنقول) : إن الحديثين ليسا بثابتين عند أهل العلم وعند أهل الحديث، وليسا في الكتب الستة المعتمدة المسماة دواوين الإسلام، وإنما يذكر هذا بعض المصنفين الذين يروون الغث والسمين، ولا يميزون بين الصحيح

1 الترمذي: القدر (2149)، وابن ماجه: المقدمة (62) .

ص: 193

والضعيف والحسن والموضوع، فلا ينبغي للسائل -رحمه الله تعالى- أن يعبر بمثل هذه العبارة في مثل هذه الأحاديث وما شاكلها، وإنما ينبغي له أن يقول: يذكر في الحديث 1 أو يروى في بعض الكتب، وأشباه هذه العبارات التي يفعلها أهل التحقيق والعرفان، من أهل الفقه والحديث والإيمان؛ وذلك لأنه لا ينبغي له أن يجزم بأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال إلا فيما ثبت إسناده وصححه أهل العلم بهذا الشأن، لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة من رواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "2، وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حدث عني بحديث، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين" 3، فلهذا كان كثير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان يهابون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزم به إلا فيما ثبت عندهم وقطعوا عليه.

وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا: "صنفان من أمتي لا يدخلون الجنة: القدرية والمرجئة" 4، قال الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع من رواية بقية بن الوليد. وأخرج أيضا إسحاق من رواية بقية بن الوليد: حدثني سليمان بن جعفر الأعبدي عن محمد بن أبي ليلى عن أبيه عن جده أبي ليلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صنفان من أمتي لا يردون على الحوض: القدرية والمرجئة".

وبقية بن الوليد مختلف فيه، ووثقه بعضهم إذا روى عن الثقات، وضعفه إذا روى عن المجهولين.

قال ابن مسهر الغساني: بقية أحاديثه ليست بنقية، فكن من أحاديث

1 السائل قال هذا في الرواية الأولى فليتأمل.

2 البخاري: الجنائز (1291)، ومسلم: مقدمة (4) .

3 مسلم: مقدمة (1)، والترمذي: العلم (2662)، وابن ماجه: المقدمة (39 ،41) ، وأحمد (4/255 ،5/14 ،5/20) .

4 الترمذي: القدر (2149)، وابن ماجه: المقدمة (62) .

ص: 194

بقية على تقية. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، ومحمد بن أبي ليلى ضعيف عند أهل العلم والحديث، كان يحيى القطان يضعفه. قال أحمد بن حنبل: سيئ الحفظ مضطرب الحديث، في حديثه اضطراب.

عدم تكفير المبتدعة إلا الجهمية وما به الكفر

إذا علمت ذلك، فاعلم ألهمك الله الصواب، وأزال عن قلبك ظلم الشرك والارتياب، أن الذي عليه المحققون من العلماء أن أهل البدع كالخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة ونحوهم لا يكفرون، وذلك لأن الكفر لا يكون إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة.

وأما الجهمية، فالمشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السلف تكفيرهم؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب والسنة؛ ولهذا قال: قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه وعلى لسان رسوله بل وجميع الرسل؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.

وبهذا كفّروا من يقول: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته.

وهم عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث وسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة. وأصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية. ولا تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر المرجئة فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون عليا على أبي بكر وذلك قول طائفة من الفقهاء ولكن يبدعون.

وفي الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه، وقد ثبت في الصحيح من

ص: 195

حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات، فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فلما مات فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر الله البحر فجمع ما فيه ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب، فغفر له" 1 وهذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة من رواية جماعة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري وحذيفة وعقبة بن عامر.

فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادته بعد فعل ما أمر أهله أن يفعلوه به، وهذا الرجل لما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت فهذا عمل صالح، فغفر الله له بما كان معه من الإيمان بالله واليوم الآخر.

وإنما أخطأ من شدة خوفه، وقد وقع الخطأ الكثير في هذا الخلق من هذه الأمة. واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة. وكان شريح القاضي ينكر قراءة من قرأ:"بل عجبت"بالرفع ويقول: أن الله لا يعجب فبلغ إبراهيم النخعي فقال أن شريحا شاعر يعجبه علمه كان عبد الله أفقه منه وكان يقرأ: {بل عجبتُ} فهذا أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة الله التي دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أن شريحا إمام من الأئمة.

وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن كما أنكر بعضهم {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} 2 فقال: إنما هي (ألم يتبين الذين آمنوا) وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع. وكذلك الخطأ في الفروع العملية فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق بل ولا يؤثم، لأن

1 البخاري: التوحيد (7506)، ومسلم: التوبة (2756)، والنسائي: الجنائز (2079)، وابن ماجه: الزهد (4255) ، وأحمد (2/269 ،2/304)، ومالك: الجنائز (568) .

2 سورة الرعد آية: 31.V

ص: 196

بعض المتكلمين والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثما، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب. فهذان القولان شاذان، والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن بها فهو كافر ولا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة.

وإذا كان كذلك فأصول الإيمان تقتضي وجوب الإيمان بالواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، والجاحد لها كافر، بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، مع أن كثيرا من أهل البدع يوجد فيهم النفاق الأكبر والردة عن الإسلام. فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، فأولئك في الدرك الأسفل من النار.

وأصل هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى من غيرهما. فمن كان هذا أصله فهو بعيد عن الخير 1 والرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة.

وأكثر السلف يرون قتل الداعية إلى البدعة لما يجري على يديه من الفساد في الدين، سواء قالوا أنه كافر أو ليس بكافر، وذلك لأن الدعاء إلى المقالة التي تخالف الكتاب والسنة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعوة إليها، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع

1 كذا في الأصل، ولعل فيه تقديما وتأخيرا من الناسخ والظاهر الذي يلتئم به الكلام أن يقدم قوله: والرسالة إنما هي للعامة إلخ على قوله: فمن كان هذا أصله إلخ؛ لأن الذين أعرضوا عما جاء به الرسول مع الاعتراف برسالته هم الذين يزعمون أن رسالته مقصورة على العوام، وأن أمثالهم لا يحتاجون إليها؛ لأن ما عندهم من العلم والفلسفة أعلى وأرقى وهو علم الخواص. كذبوا ولعنوا وكتبه محمد رشيد رضا.

ص: 197

الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول صلى الله عليه وسلم وأن مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر؛ فإن نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وإنكار القدر كفر؛ وبعض هذه البدع أشد من بعض والله سبحانه وتعالى أعلم.

أخذ النذر للقبر والميت لمن وجده

(فصل) : (وأما المسألة الثانية) : هل يجوز أخذ النذر للقبر والميت لمن وجده لأنه مال أخرجه مالكه لمن لا يملكه، أفيصير مالا مباحا أم لا؟ وكذلك الثياب المطروحة على التوابيت المتخذة على القبور؟

(فنقول) : هذه المسألة فيها تفصيل، فإن كان ذلك في البلد التي تحت حكم إمام المسلمين، فلا يجوز أخذه إلا بإذن الإمام، لأنه يصير مصرفه في مصالح المسلمين بإذن الإمام كما صرف النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي في بيت اللات حين هدمها في مصالح المسلمين. وأما إن كان المذكور في موضع ليس حكمه تحت إمام المسلمين، فإنه يجوز أخذه لمن وجده لأنه مال ضائع لا يجوز إبقاؤه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

جعل الرياحين على القبر

(فصل) : وأما جعل الرياحين على القبر، فبدعة منهي عنها لأنه من تخليق القبر المنهي عنه 1 بخلاف جعل الجريدة عليه 2 لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال:" إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير "3 ثم قال: " بلى، إنه كبير. أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"4، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، وجعل على كل

1 وفيه تشبه بالكفار الذين يفعلون ذلك.

2 يعني وهو من الأمور التعبدية التي لا تعقل فلا يقاس عليه وضع الأزهار والرياحين، وكتبه محمد رشيد رضا.

3 البخاري: الوضوء (216)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) ، وأحمد (1/225)، والدارمي: الطهارة (739) .

4 البخاري: الوضوء (218)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) ، وأحمد (1/225)، والدارمي: الطهارة (739) .

ص: 198

قبر نصف جريدة وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا "1.والله أعلم.

(فصل) وأما قول السائل: هل يبين ذلك وإن لم يقصده الواضع، فهذه مسألة فيها خلاف، فإن بعض الفقهاء يرى استحباب وضع الجريدة على القبر وبعضهم لا يرى ذلك، لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم أو يحتمل العموم والله أعلم.

دفع المال لبعض الأشراف أو الصالحين من غير صيغة التزام

(فصل) : وأما من عليه عادة يدفع شيئا من ماله لبعض الأشراف أو لبعض الصالحين من غير صيغة التزام، فهل يلزم الوفاء به أم هو مندوب أم محرم إذا كان يسميه نذرا مع عدم صيغة النذر.

(فنقول) : أما من عادته أن يدفع شيئا من ماله لبعض الصالحين أو لبعض الأشراف، وقصده بذلك التقرب إلى الله والصدقة، فهذا حسن ومن النفقة المأمور بها قال الله تعالى:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة من الآية: 254]، وقال تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة من الآية: 3]، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة من الآية: 245] ، ولكن لا يلزم الوفاء به؛ بل يندب إلى ذلك، إلا إن أوجبه على نفسه بالنذر، وذكر النذر بصيغته المعروفة في الشرع. أما إن كان يسمي نذرا مع عدم صيغة النذر، فلا يلزم الوفاء به أيضا بمجرد التسمية كما أنه يكون نذرا إذ أتى بصيغته المعروفة، ولم يقل: لله علي نذر كذا وكذا.

هذا هو المعروف في كلام أهل العلم، وكلام الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

هل الأضحية مطية في الآخرة حقيقة تركب؟

(فصل) : وأما المسألة الثالثة: ما معنى ما ذكر في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "استفرهوا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم"، فهل الأضحية مطية في الآخرة حقيقة تركب؟ وما حملها مع كثرتها؟ وهل

1 البخاري: الوضوء (216)، ومسلم: الطهارة (292)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20) ، وأحمد (1/225)، والدارمي: الطهارة (739) .

ص: 199

إذا ضحى اثنان أو ثلاثة أو أكثر ببدنة أو ببقرة هل يركبونها جميعا، أم كيف يكون الحكم في ذلك؟

(فالجواب) : أن هذا الحديث ليس من الأحاديث المعروفة، ولا هو مخرج في الكتب المعتمدة، وإنما أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه.

هذا، ويحيى ضعيف جدا عند أهل الحديث، قال بعضهم: هذا الحديث ليس معروفا ولا ثابتا فيما علمنا. قال ابن العربي المالكي في شرح الترمذي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح.

(ومنها) : قوله: "إنها مطاياكم إلى الجنة "ذكر ذلك السخاوي في (المقاصد الحسنة في الأحاديث المذكورة المشتهرة على الألسنة) فمثل هذا الحديث لا يحتج به، وإن ذكره بعض أهل العلم، فعادتهم يتساهلون في فضائل الأعمال في ذكر الأحاديث الضعيفة، فلا ينبغي للسائل أن يجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، بل يذكره بصيغة التمريض.

وأما معناه فقيل أنها تسهل الجواز على الصراط والله- سبحانه وتعالى أعلم.

(فصل) : وأمّا مَن كان يحلف بغير الله جهلاً منه أنّه شرك لا عناداً ولا معتقداً أنّ عظمته تساوي عظمة الله، بل لا يفعل ذلك الحلف تعظيماً لله واتّقاء خشيته، لا تهاوناً بالنَّبِيّ المحلوف به، ثم إنّه لما بلغه أنّ ذلك شرك تاب من ذلك وندم ويسبق لسانه بذلك من غير تعمّدٍ، فهل مَن فعل ذلك قبل بلوغه أنّه شركٌ يكون مشركاً أم يعذر بجهله مساواة عظمة المخلوق عظمة الله تعالى؟

(فالجواب) : أنّ الحلف بغير الله شرك كما في الحديث: أنّ رسول

ص: 200

الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَن حلف بغير الله فقد أشرك "1.رواه التّرمذي وغيره.

وأمّا كونه يعذر بالجهل فالظّاهر أنّ الذي يجهل مثل ذلك يعذر بالجهل؛ لأنّ الشّرائع لا تلزم إلاّ بعد بلوغ الرّسالة، ولا يعذّب الله أحداً إلاّ بعد بلوغ الرّسالة، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، [الإسراء، من الآية: 15] .

وأمّا سبق لسانه بذلك بعد بلوغه أنّه شرك فهذا لا يضرّه ـ إن شاء الله تعالى ـ إذا تاب واستغفر. وقال: لا إله إلاّ الله، كما ثبت في الصّحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ن حلف فقال في حلفه: واللات، والعزّى، فليقل: لا إله إلاّ الله، ومَن قال لصاحبه: تعال ـقامرك، فليتصدّق" فإذا كان يجري على ألسنة الصّحابة فكيف بغيرهم؟!

وكذلك إذا فعل شيئاً من الشّرك غير الحلف جهلاً منه، وخطأ، فإذا نبّه على ذلك تنبّه وتاب ونزع كما جرى لقوم موسى عليه السلام، وكما جرى للصّحابة الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواطٍ.

وأمّا مَن يفعل ذلك جهلاً لا عناداً، وماتوا عليه قبل أن يبلغهم أنّه شرك، هل يُحكَم بإسلامهم ويُرجَى لهم العفو من الله والمغفرة وينفعهم استغفار الأحياء لهم؟

فهذه المسألة أحسن الأجوبة فيها أن يقال: الله أعلم بهم، كما قال موسى عليه السلام لما قيل له:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، [طه، آيتان: 51-52] ؛ وذلك لأنّ مَن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجّة، {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ

1 المعنى أنّه عمل عملاً من أعمال المشركين، وليس المعنى أنّه خرج من الملة، وصار مشركاً على الإطلاق، وقد صرحوا بإثبات شركٍ دون شركٍ، وكفرٍ دون كفرٍ؛ لأنّ كلاً منهما ينقسم إلى عملي واعتقادي، وقد حقّق ذلك الشّيخ عبد اللّطيف في أوّل رسائله أتم التّحقيق، فراجعه في 3/14.

ص: 201

وَمَنْ بَلَغَ} ، [الأنعام، من الآية: 19] .وقال: {لئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، [النساء، من الآية: 165] .وأكثر النّاس في هذه الأزمنة وغيرها من أزمنة الفترات والجهل معرضون عن السّؤال عن التّوحيد والشّرك، ودينه ما عليه أهل بلده، ولا يبحث، ولا يسأل عمّا جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم من عند الله، وما كان عليه السّلف الصّالح والتّابعون لهم بإحسانٍ. ومَن بحث وسأل وفحص عن ذلك وجد من يعلمه بذلك؛ لأنّه لا يزال في هذه الأمّة طائفة على الحقّ منصورون لا يضرّهم مَن خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتّى تقوم السّاعة، وهي معصومة من الاجتماع على الضّلالة، والشّرك. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(فصل) : وأمّا المسألة الرّابعة ـ وهي التّنباك الذي يعتاد شربه كثير من النّاس، فاختلف علماء الإسلام في أجوبتهم عنه.

فمنهم مَن أجاب بتحريمه مطلقاً.

ومنهم مَن أجاب بتحريمه بقيدٍ وتعليقٍ.

ومنهم مَن أجاب بإباحته.

ومنهم مَن جعل فيه الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرام، والنّدب، والكراهة، والإباحة، ولكلّ واحدٍ مِمَّن شربه حكم من الخمسة الأحكام، فهل هو حلال أو حرام؟

(فالجواب) : أن يقال: لا ريب أنّ الله بعث رسول بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصّه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه التي خصّه الله بها:"وأوتيتُ جوامع الكلم"، وهي: أن يقول الكلمة اليسيرة الجامعة لأحكام كثيرةٍ، لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ مسكرٍ حرام"، فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات التي تسكر، وتزيل العقل من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم، والحادثة بعده إلى يوم القيامة.

وقد تواترت الأحاديث عن

ص: 202

النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ خمرٍ حرام".ولفظ مسلم: "وكلّ مسكرٍ حرام".

وعن عائشة رضي الله عنها أنّه عليه السلام سُئلَ عن البتع، فقال:" كلّ شرابٍ أسكر فهو حرام"، وفي روايةٍ لمسلمٍ:"كلّ شرابٍ مسكرٍ حرام ".متّفق عليه.

ونقل ابن عبد البرّ إجماع أهل العلم بالحديث على صحّته، وأنّه ثبت لشيءٍ روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر. وجاء التّصريح بالنّهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما أرخرجه أبو داود والتّرمذي وحسّنه من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:" كلّ مسكرٍ حرامٌ وما أسكر الفرق منه فملء الكفّ منه حرامٌ ".وفي روايةٍ: "فالحسو منه حرام".

وقد احتجّ به أحمد وذهب إليه. وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك، والشّافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ المسكر الذي يزيل العقل نوعان:

أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، قال العلماء وسواء كان المسكر جامداً أو مائعاً وسواء كان مطعوماً أو مشروباً، وسواء كان من حبٍّ، أو تمرٍ، أو لبنٍ، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق القنب وغيرها، مما يؤكل لأجل سكرته ولذّته.

والثّاني: ما يزيل العقل ويسكر ولا لذّة فيه ولا طرب؛ كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم قليل ما أسكر كثيره يرون حدّ مَن شرب ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حلّه متأوِّلاً وهو قول الشّافعي، وأحمد. قال أحمد في رواية الأثرم: يحدّ مَن شرب النّبيذ متأوِّلاً؛ وذلك لضعف التّأويل عنده في ذلك، وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم يتبيّن لك تحريم التّتن الذي كثر في هذا الزّمان استعماله وصحّ بالتّواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات خصوصاً إذا أكثر منه، أو قام يوماً أو يومين

ص: 203

لا يشربه ثم شربه فإنّه يسكر ويزيل العقل حتّى إنّ صاحبه يحدث عند النّاس ولا يشعر بذلك ـ نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس ـ. فلا ينبغي لِمَن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحدٍ من النّاس إذا تبيّن له كلام الله وكلام رسوله في مسألةٍ من المسائل، وذلك لأنّ الشّهادة بأنّه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عمّا عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(فصل) : وقد قال الشّيخ ابن علان الصّديقي الشّافعي رحمه الله في (إعلام الأخوان بتحريم تناول الدّخان) : وقد اتّفق العلماء على حفظ العقول وصونها من المغيّرات والمخدّرات، وكلّ مَن امتصّ هذا الدّخان مقرّ بأنّه لا بدّ أن يدوخ أوّل تناوله ويكفي ذلك دليلاً على التّحريم؛ لأنّ كلّ ما غيّر العقل بوجهٍ من الوجوه أو أثّر فيه بطريق تناوله حرام. قال صلى الله عليه وسلم:"كلّ مسكرٍ حرام"، والمراد بالإسكار فيه الإسكار القويّ، أي: مطلق التّغطية على العقل، وإن لم يكن مع الشّدّة المطربة، ولا شبهة أنها حاصلة لكلّ متناولٍ أوَّلَ تناوله، وكونه إذا تناوله بعد لا يؤثّر فيه ذلك لا يضرّ في ثبوت سبب التّحريم؛ لأنّ مدمن الخمر إذا اعتادها لا تؤثّر فيه تغيّر أصلاً، ولا يخرجها ذلك عن كونها حراماً اعتباراً بأصل التّغيّر الثّابت فيها للعقول، فكذا فيما نحن فيه. انتهى.

(واعلم) ـ رحمك الله ـ أنّ إطلاق الحلّ والحرمة في الشّيء لا يعجز عنه أحدٌ، وإنّما الشّأن في تبيين الحجج الشّرعية ومدارك الأحكام المأخوذة من كلام سيّد الأنام ـ عليه من الله أفضل الصّلاة والسّلام ـ.

(فصل) : وأمّا المسألة الخامسة وهي: ما معنى قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم

ص: 204

" ما منا إلاّ من عصى أو همّ بمعصية إلاّ يحيى بن ز كريا"، والإجماع منعقد على أنّ الأنبياء معصومون من الكبائر والصّغائر، وإذا قيل إنّهم معصومون من الكبائر والصّغائر فما بال أولاد يعقوب؟ ومعلوم بالضّرورة أنّهم أنبياء وحال آدم حين قال الله:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ، [طه، من الآية: 121]، وكذلك داود مع قوله عليه السلام:" كلّنا خطّاؤون ".

(فالجواب) : من وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ لفظ الحديث المروي في ذلك: "ما من أحدٍ يلقى الله يوم القيامة إلاّ ذا ذنبٍ إلاّ يحيى بن زكريا".أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} ، [مريم، من الآية: 14] .قال: كان ابن المسيب يذكر أنّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وهذا مرسل، لكن أصحّ المراسيل عند أهل الحديث مرسل سعيد بن المسيب، لكن أخرج أحمد في مسنده عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد من ولد آدم إلاّ قد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحدٍ أن يقول أنا خير من يونس بن متي ".

الوجه الثّاني: أنّ الذي عليه المحقّقون من العلماء من الحنابلة والشّافعية والمالكية والحنفية، أنّ الأنبياء معصومون من الكبائر، وأمّا الصّغائر فقد تقع منهم لكنهم لا يقرّون عليها؛ بل يتوبون منها ويحصل لهم بالتّوبة أعظم مما كان قبل ذلك، وجميع أهل السّنة والجماعة متّفقون على أنّهم معصومون في تبليغ الرّسالة، ولا يجوز أن يستقرّ في شيءٍ من الشّريعة خطأ باتّفاق المسلمين.

قال شيخ الإسلام تقي الدّين أبو العبّاس ابن تيمية الحنبلي رحمه الله في كتاب: (منهاج السّنة النّبويّة في نقض كلام الشّيعة والقدرية) : واتّفق المسلمون على أنّ الأنبياء معصومون في تبليغ الرّسالة، فكلّ ما يبلّغونه عن

ص: 205

الله من الأمر والنّهي، فهم مطاعون فيه باتّفاق المسلمين. وما أمروا به ونهوا عنه فهم مطاعون فيه عند جميع فرق الأمّة إلاّ عند طائفةٍ من الخوارج أنّ النَّبِيّ معصوم فيما يبلغه عن الله لا فيما يأمر به وينهى عنه، وهؤلاء ضلال باتّفاق أهل السّنة والجماعة، وأكثر النّاس أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر، والجمهور يجوزّون الصّغائر ويقولون إنّهم لا يقرّون عليها؛ بل يحصل لهم بالتّوبة منها من المنْزلة أعظم مما كان قبل ذلك. انتهى كلامه.

فتبيّن بما ذكرنا وَهْمُ السّائل وخطؤه رحمه الله في نقل الإجماع على أنّهم معصومون من الكبائر والصّغائر، ولعلّه قد غرّه كلام بعض المتأخرين الذين يقولون بذلك، أو يقلّدون مَن يقوله من أئمة الكلام الذين لا يحقّقون مذهب أهل السّنة والجماعة، ولا يميّزون بين الأقوال الصّحيحة والضّعيفة والباطلة، كيف والقرآن محشو من الدّلائل على وقوع الذّنب منهم؛ كقوله تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ، [طه، من الآية: 121] .

وقول موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} ، [القصص، من الآية: 16] .

وقول يونس عليه السلام: {أَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، [الأنبياء، من الآية: 87] .

وقول نوح عليه السلام: {وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [هود، من الآية: 47] .

وقوله عن آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [الأعراف، من الآية: 23] .

وقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ، [الشّعراء: 82] .

وقوله عن داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} الآية، [صّ: من الآية: 24] .

وقوله عن موسى عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، [الأعراف، من الآية: 151] .

وقوله عن نبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، [محمد، من الآية: 19] .

وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية، [الفتح، من الآية: 2] .

وكذلك ثبت في الأحاديث

ص: 206

الصّحيحة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو يقول: "يا ربّ اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وسرّه وعلاينته".

وقوله: "اللهم اغفر لي جهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منِّي، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكلّ ذلك عندي".وأشباه ذلك كثيرة عن جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم والله سبحانه وتعالى أعلم.

(فصل) : وأمّا المسألة السّادسة؛ وهي هل يتأكّد الأخذ بالإجماع السّكوتي عن الصّحابة رضي الله عنهم وبجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصّحابة على التّراويح، وأمره أبي بن كعب أن يصلِّي بالنّاس لارتفاع العلّة؛ وهي خشيته عليه السلام أن يفرض عليهم.

(فالجواب) أنّ الذي عليه أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشّافعية والحنبلية أنّ الأمر إذا اشتهر بين الصّحابة فلم ينكره منهم أحد كان إجماعاً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد خيرهم أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم فاختارهم لصحبة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. انتهى.

وباتّباع السّلف الصّالح والأخذ بهديهم وسلوك طريقتهم والسّكوت عمّا ستكوا عنه يزول عن المؤمن شبهات كثيرة، وبدع وضلالات شهيرة أحدثها المتأخرون بعدهم، كالكلام في تأويل آيات الصّفات، وأحاديثها بالتّأويلات المستكرهة التي لم تعهد عن الصّحابة والتّابعين لهم بإحسانٍ؛ فإنّهم سكتوا عن تفسير ذلك بالتّأويلات الباطة، وقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت. وقال بعضهم في صفة الاستواء لما سأله سائل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، [طه:5] ، كيف الاستواء؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة، كما تواتر ذلك عن الإمام مالك رحمه الله، وما أجاب به مالك ـ رحمه

ص: 207

الله ـ في هذه المسألة هو جواب أهل السّنة والجماعة في آيات الصّفات، وأحاديثها، فيقال: النّزول والمنْزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصّفات مثل: المجيء، واليد، والوجه، والمحبّة، والغضب، والرّضا وغير ذلك من الصّفات الواردة في الكتاب والسّنة.

وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أنّه قال: عليك بلزوم السّنة فإنّها لك بإذن الله عصمة، فإنّ السّنة إنّما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وأنّها سنة قد علم ما في خلافها من الزّلل، والخطأ، والحمق، والتّعمّق، فارض لنفسك بما رضوا به، فإنّهم عن علمٍ وقفوا، وببصرٍ ناقدٍ كفوا، ولهم على كشفها أقوى، وبتفاصيلها أحرى، وأنّهم لهم السّابقون، وقد بلغهم عن نبيّهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى ما أنتهم عليه، لقد سبقتموهم عليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلاّ من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيّهم وتلقوه عمَّن اتّبعهم بإحسانٍ، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي، فمَن دونهم مقصر، ومَن فوقهم مفرط، ولقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمع آخرون فغلوا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. والله أعلم.

(فصل) : وأمّا المسّألة السّابعة؛ وهي: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إذا استقرّ أهل الجنة في الجنة، وأهل النّار في النّار، يؤتى بالموت على صورة كبشٍ أملح فيذبح بين الجنة والنّار فيقال: يا أهل الجنة خلود في النّعيم بلا انقضاء، ويا أهل النّار خلود في الجحيم بلا انتهاء".

ومعلوم أنّ الموت معدوم الرّوح التي بها حركة الجسد وهذا شيء معنوي، فإنّ الذّبح لا يحصل إلاّ في الأعيان الجسمانية ذات الأروح فإذا كان يؤتى به على صورة كبش كما

ص: 208

الله ـ في هذه المسألة هو جواب أهل السّنة والجماعة في آيات الصّفات، وأحاديثها، فيقال: النّزول والمنْزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصّفات مثل: المجيء، واليد، والوجه، والمحبّة، والغضب، والرّضا وغير ذلك من الصّفات الواردة في الكتاب والسّنة.

وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أنّه قال: عليك بلزوم السّنة فإنّها لك بإذن الله عصمة، فإنّ السّنة إنّما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وأنّها سنة قد علم ما في خلافها من الزّلل، والخطأ، والحمق، والتّعمّق، فارض لنفسك بما رضوا به، فإنّهم عن علمٍ وقفوا، وببصرٍ ناقدٍ كفوا، ولهم على كشفها أقوى، وبتفاصيلها أحرى، وأنّهم لهم السّابقون، وقد بلغهم عن نبيّهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى ما أنتهم عليه، لقد سبقتموهم عليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلاّ من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيّهم وتلقوه عمَّن اتّبعهم بإحسانٍ، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي، فمَن دونهم مقصر، ومَن فوقهم مفرط، ولقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمع آخرون فغلوا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. والله أعلم.

(فصل) : وأمّا المسّألة السّابعة؛ وهي: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إذا استقرّ أهل الجنة في الجنة، وأهل النّار في النّار، يؤتى بالموت على صورة كبشٍ أملح فيذبح بين الجنة والنّار فيقال: يا أهل الجنة خلود في النّعيم بلا انقضاء، ويا أهل النّار خلود في الجحيم بلا انتهاء".

ومعلوم أنّ الموت معدوم الرّوح التي بها حركة الجسد وهذا شيء معنوي، فإنّ الذّبح لا يحصل إلاّ في الأعيان الجسمانية ذات الأروح فإذا كان يؤتى به على صورة كبش كما

ص: 209

متولي الموت، وكلّهم يعرفه؛ لأنّه تولّى قبض أرواحهم.

قلت: وارتضى هذا بعض المتأخّرين وحمل قوله هو الموت الذي وكلّ بنا على أنّ المراد به (ملك الموت الذي وكل بكم) ، واستشهد له من حيث المعنى بأنّ ملك الموت لو استمرّ حيّاً لنغص عيش أهل الجنة، وأيّده بقوله في حديث الباب:"فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النّار حزناً إلى حزنهم".انتهى.

قلت: ويكفي المؤمن اللّبيب الإيمان بالله ورسوله فيما لا يتبيّن له حقيقة معناه وظاهر الحديث لا إشكال فيه عند من نور الله قلبه بالإيمان وشرح صدره بالإسلام. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(فصل) : وأمّا المسألة الثّامنة؛ وهي الرّهون التي كثر استعمالها في القرى والأمصار على غير الرّهن الشّرعي المستفاد من الكتاب والسّنة وخارجة عن حكمه المعروف. وذلك أنّه إذا احتاج الإنسان أخذ مال من آخر لا يعقد قرضه على سبيل الإباحة والتّراضي بل يدفع المحتاج إلى صاحب المال أرضه بالمخابرة والمزارعة بالعقد الشّرعي مقلدين من يقول بجوازها فيبذرها العامل ويأخذ نصف الغلة في مقابلة عمله وبذره، ويدفع لصاحب الأرض الشّطر الثّاني ويعمل الأرض مالكها ويجعل الأجر البذر، وكذا العمل لكلّ واحدٍ منهما شطر الغلة، وما تخرج تلك الأرض، وصاروا على ذلك خلفاً عن سلف. وحصل في هذه الأزمان الخوض في حكمها من علماء الزّمان منهم من حرم واستدلوا بأنّ المال دفع على سبيل القرض، وكلّ قرض جرّ منفعةٍ فهو ربا.

ومنهم من أجازها قائلين بأنّ المال لم يدفع بصيغة القرض، وربما كان المال دينا في ذمّة صاحب الأرض فعجز عن براءة ذمته وخلاص دينه تسمح نفسه ببيع أرضه ودخل في هذه المعاملة وقبلها صاحب الدّين. فعلى كلّ حال إنّ

ص: 210

المنفعة التي جعلها المفتي سبباً للحرمة مقابلة بمنفعة أخرى تساوي تلك المنفعة وأكثر منها، وهي البذر، وكلّ العمل فلم تكن منفعة لا يقابلها شيء. فإن قلتم بجوازها فذاك، وإن قلتم بحرمتها وبطلانها، فهل يسوغ لِمَن سَعَى في المخارجة بين صاحب المال وبين صاحب الأرض أي بتنجيم في أوقات اليسار كما ذكر البغوي في تفسير آية الرّبا أنّها نزلت في أربعة أخوة من ثقيف. ومع ذلك فالعجز ظاهر عن الوفاء بالمال حالاً ولولا الفقر والحاجة لم يدخلوا في هذه المعاملة؛ فالجواب مطلوب بعد إمعان النّظر وبيان حكم المسألة جوازاً أو تحريماً.

(فالجواب) وبالله التّوفيق أنّ الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، [النّساء: 59] .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [البقرة: 278] .

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك".رواه أبو داود والتّرمذي وصحّحه.

قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ بيّن صلى الله عليه وسلم أنّه لا يحلّ أن يقرض الرّجل ويبيعه ليحابيه لأجل ذلك القرض وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين ـ تحريم البيوع بعد عقد القرض قبل الوفاء.

فعن أنس بن مالك ـ أنّه سُئل عن رجلٍ يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدي إليه أو حمله على الدّابة فلا يركبها ولا يقبلها إلاّ أن يكون بينه وبينه قبل ذلك ".رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن.

وعن أبي بردة بن أبي

ص: 211

قت، فلا تأخذه؛ فإنّه ربا. رواه البخاري في صحيحه.

وروى مثله سعيد بن منصور في سننه عن أبي بن كعب، وروي عن ابن مسعود نحو ذلك.

وعن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: إنّي أقرضت رجلاً يبيع السّمك عشرين درهماً فاهدى إلي سمكة فقومتها ثلاثة عشر درهماً، فقال: خذ منه سبعة دراهم. رواه سعيد في سننه، بإسنادٍ صحيحٍ.

وعن ابن عمر أنّه أتاه رجل فقال: إنّي أقرضت رجلاً بعيراً فأهدى إليّ جزلة، فقال: ردّ إليه هديته، أو احسبها له. رواه سعيد أيضاً.

فإذا كان هذا فيما يتبرّع به المقترض بعد القرض، فكيف إذا تواطآ على التّبرّع؟! مثل أن يقرض مَن يعيره دراهم أو يرهنها عند مَن يأذن له في سكناها1، أو يضاربه، بأقلّ من حقّ مثله، أو يبتاع منه الشّيء بأضعاف قيمته أو يكري داره بثلث كرائها، أو يدفع إليه شجره مساقاة بأضعاف جعل مثله. انتهى.

فتأمّل ـ رحمك الله ـ هذا الكلام بعين الإنصاف يتبيّن لك أنّ الرّهون التي تفعل عندكم لأجل المال الذي في ذمته فيصبر عليه وينظره ما دام يستغل الشّجر، أو الأرض هو حيلة على أكل الرّهن والانتفاع به لأجل القرض ولو لم يكن في ذمته ذلك المال لم يتركه يستغل أرضه، وربما تركها له بدون قيمة مثلها، فهذا هو المحاباة، وهو الرّبا الذي نصّ العلماء على تحريمه سواء سُمِّي ذلك المال قرضاً أو غيره، أو كان ديناً في ذمته، وكان أهل الجاهلية قبل الإسلام

1 لم يتقّدم في الكلام ذكر شيء يرجع إليه ضمير سكناها كالدّار، فلعلّه سقط من الكملام شيء بسهو النّساخ.

ص: 212

إذا كان لأحدهم دين على رجلّ إلى أجلٍ فحلّ الأجل قال له: إمّا أن تقضي، وإمّا أن تربي، فيزيده هذا في المال، ويزيده هذا في الأجل، فحرّم الله ذلك، فلولا أنّ الأرض أو الشّجر أو الدّار ينتفع بها لما صبر عليه وانظره.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشّحوم فجمّلوها فباعوها ".متّفق عليه.

قال الخطابي رحمه الله (جمّلوها) معناه: أذابوها حتى تصير ودكاً فيزول عنه اسم الشّحم.

وفي هذا الحديث بيان إبطال كلّ حيلةٍ يحتال بها للتّوسل بها إلى محرّم، وأنّه لا يتغيّر حكمه بتغيّر هيئته وتبديل اسمه. وأمّا إن كان صاحب المال لا يقدر على وفائه فينجمه عليه صاحب الدّين بقدر غلة أرضه كلّ سنةٍ، ويأخذ الغلة ويحسبها بسعر يومها فلا بأس بذلك إذا خلت عن المحاباة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(12)

وله أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ إجابة عن مسائل سُئِل عنها قال:

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(الجواب) عن مسائلكم:

(المسألة الأولى) : مذهب الزّيدية فالصّحبح منه ما وافق الكتاب والسّنة، وما خالفهما فهو باطل لا مذهب الزّيدية ولا غيره من المذاهب.

(المسألة الثّانية) : هل يصحّ في الأذان حيّ على خير العمل أم لا؟

(فنقول) : الثّابت إنّ الأذان خمس عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ محمّداً رسول الله، حيّ على الصّلاة، حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر،

ص: 213

لا إله إلاّ الله.

فهذا هو الثّابت الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذّن به كما ذكر أهل السّنن والمسانيد، وأمّا حيّ على خير العمل، فليس بثباتٍ، ولا عمل عليه عند أهل السّنة1.

(المسألة الثّالثة) : أمّا الماء الذي تجوز الطّهارة به، ويرفع الحدث، فهو: كلّ ماء طاهر باقٍ على ما خلقه الله عليه، ولم يتغيّر، فإن تغيّر بالنّحاسة طعمه، أو لونه، أو ريحه، لم تجز الطّهارة به. والبرك التي فيها ماء ساكن لا يغتسل فيها من الجنابة، والأحسن أن يأخذ من الماء ويغتسل به خارجه أو يتوضّأ به، وأمّا غسل الأعضاء فيها فلا بأس به.

وأمّا التّربة المنذورة للمساجد لعمارتها، أو للضوء بها، أو للمصلّين فيها، فهي على وقفها ولا يغيّرها الوارث يؤدّيها إلى أهل المساجد الذين يحفظونها ويصرفونها في مصارفها.

وأمّا القبور التي في المساجد فإن كان المسجد بني قبل أن يحط فيه قبر فينبش القبر ويبعد عن المسجد، فإن كان المسجد ما بني إلاّ لأجل القبر فالمسجد يهدم ولا يصلّى فيه؛ لأنّه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه لعن الذين يتّخذون المساجد على القبور، ولا تصحّ الصّلاة فيه، ولا تجوز الصّلاة عند القبور ولا عليها؛ لأنّه عليه السلام نهى عن الصّلاة في المقبرة.

وأمّا التّيمّم فلا يجوز إلاّ عند عدم الماء، كما قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية، [النّساء، من الآية: 43، والمائدة، من الآية: 6] .

وأمّا الصّلاة في النّعل فجائزة إذا لم يكن فيها نجاسة.

وأمّا حدّ الزّنا والسّارق والقاذف فحدّ الزّاني إن كان محصناً ـ وهو

1 وما ورد في إثباته من الرّوايات قد صرّحوا بأنّه كان في أوّل الإسلام ونسخ.

ص: 214

الذي قد تزوّج ـ يرجم حتّى يموت، وإن كان بكراً لم يتزّوج مائة جلدة ويغرّب عن بلده عاماً، والمرأة كالرّجل في ذلك، هكذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأمّا السّارق، فتقطع يده اليمنى بشرط أن يأخذ المال من حرزه، وأن يكون قيمة المأخوذ قدر ثلاث دراهم، وأن يكون مالاً محرزاً، وأن يكون أخذ المال على وجه الاختفاء، وأن لا يكون فيه شبهة؛ كالأخذ من مال ولده، والمرأة من مال زوجها، والذي يسرق دون النّصاب فلا قطع؛ بل يؤدّب، وكذلك الذي يأخذ الثّمر من البساتين والزّروع يؤدّب ويغرم قيمته مرّتين.

وأمّا الذي يقذف المحصن، أو المحصنة، ولم يأتِ بأربعة شهداء عدول فيجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل شهادته، إلاّ إن تاب، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، الآيتين، [النّور: 4] .

وأمّا الذي يسبّ المسلمين ويؤذيهم بلسانه، فهذا يؤدّبه الأمير بما يزجره.

وأمّا مصارف الزّكاة، وقدر ما تجب فيه فنصاب العيش والزّبيب قيمته ثلاثمائة تنقص عشرين صاعاً بصاع الوادي، وزكاة الذي يسقي بالسّواقي والغروب نصف العشر، والذي يسقى بالعيون والسّيل فيه العشر تاماً. ونصاب الفضّة ثمانية عشر ريالاً أو وزنها، والذي ما عنده إلاّ دون سبعة عشر ونصف ما عليه زكاة وزكاته ربع العشر.

وأمّا شارب التنباك إذا شهد عليه شاهدان أنّهم رأوه يشرب فيجلد أربعين جلدة.

وأمّا القبور التي عليها بناء فإنّه يهدم.

وأمّا المسلم إذا قتل مسلماً متعمّداً فيخيّر ولي المقتول بين قتل مَن

ص: 215

قتله، أو أخذ الدّية، ومقدار الدّية مائة ناقة، تقدر اليوم بقدر ثمانمائة ريال، ودية المرأة نصف دية الرّجل، وإن كان قتله خطأ زلّة ما قصد قتله فتلزمه الدّية وتصير على عاقلته، وتصير أثلاثاً في ثلاث سنين ويلزمه معها عتق رقبة إن كان يقدر، وإن لم يقدر يصوم شهرين.

والشّجاج التي في الرّأس تقدر بخمس من الإبل، وهي الموضحة التي توضح العظم، أي: يتبيّن ولو بقدر رأس إبرة فيها خمس قيمتها أربعون ريالاً للذي ما عنده أبعرة، وموضحة الوجه والرّأس واحد، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز ففي كلّ وحدةٍ دية الموضحة.

ثم الهاشمة، وهي التي توضح العظم وتهشمه ففيها عشر من الإبل، قيمتها ثمانون ريالاً.

ثم المنقلة، وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها بتكسرها ففيها خمسة عشر من الإبل، قيمتها مائة وعشرون ريالاً.

ثم المأمومة، وهي التي تصل إلى أم الدّماغ، وهي الجلدة التي فيها الدّماغ، وفيها ثلث الدّية.

وفي الدّامغة ثلث الدّية، وهي التي تخرق جلدة الدّماغ.

وما سوى ذلك من الشّجاج فليس فيه تقدير؛ بل يجتهد فيه الحاكم واثنان من أهل العدالة، ويقدرونه باجتهادهم.

وفي الجائفة ثلث الدّية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف من بطن أو صدر أو ظهر، فإن كانا جائفتين وبينهما حاجز ففيهما ثلثا الدّية.

وفي قطع مارن الأنف الدّية، وفي كلّ واحدٍ من المنخرين والحاجز بينهما ثلث الدّية، وفي كلّ واحدٍ من الشّفتين نصف الدّية.

ووقت صلاة الصّبح إذا طلع الفجر المعترض الأبيض، وآخره عند طلوع الشّمس، والظّهر إذا زالت الشّمس، وآخر وقتها إذا صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله مرّتين، والمغرب إذا غربت الشّمس والعشاء إذا غاب الشفق وآخره ثلث الليل. والله أعلم.

ص: 216

(13)

وله أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ في أحكام الوقف:

(الجواب) : وبالله التّوفيق؛ الأسبال والأوقاف يجب صرفها إلى أهلها، وإن كانت في يد مَن لا يصرفها إلى أهلها أخذت منه وصرفت إلى مَن يستحقّها.

وأمّا الوقف الذي على المسجد ولا بين مصرفه فإنّه يُصرف على إمامه، ومؤذّنه وعمّارته، وما ينوبه ويحط على الرّكية منه شيء، وأسبال الجاهلية التي لا يعرف مصرفها تصرف على المساجد والجهاد وأبواب البر، وزرع العام الواحد يضاف بعضه إلى بعضٍ في تكميل النّصاب، ويؤخذ من زرع القيض زكاته إذا أضيف لزرع الربيع.

(14)

وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن مسائل فأجاب عنها:

(الأولى) : الذي يخرج من قبضة الأمير وأيش أدبه.

(فنقول) : الذي يعصي الأمير يؤدّب بما يزجره عن المعصية، والأدب يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. (فمن النّاس) مَن يكفي فيه الكلام وتفشيله بين النّاس.

(ومنهم) مَن لا يكفي فيه إلاّ الضّرب والحبس والجلاء. فإن كان العفو فيه مصلحة فهو أحسن، ولا يقال إنّ الأدب لازم لا بدّ منه؛ بل الواجب على الأمير أن يفعل ما فيه الأصلح.

(الثّانية) : المرتدّ بقولٍ، أو فعلٍ، وثبت عليه بالبيّنة فهذا يحتاج أوّلاً إلى المعرفة بأنواع الكفر والرّدّة التي يذكرها أهل العلم، فإذا ارتدّ أحد عن الإسلام استتيب، فإن تاب كفّ عنه، وإن أصرّ على ردّته قتل.

ص: 217

(الثّالثة) : الذي يخرج من بلاد المسلمين إلى بلاد بغضاء الدّين وأهله، فهذا إذا ثبت كما وصف السّائل أنّه لاحق بالكفار رغبة في دينهم وبغضاً لدين المسلمين، فهو كافر حكه حكم الكفّار الذين رغب في دينهم.

(الرّابعة) : حدّ الزّاني المحصن ـ وهو الذي قد تزوّج ـ؛ حدّه الرّجم إذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنّهم رأوا ذكره في فرجها داخلاً كدخول الميل في المكحلة، فإن توقف واحد منهم في شهادته على ما ذكرنا فالشّهود يحدّون حدّ القذف، كلّ واحدٍ يضرب ثمانين جلدة، والشّهادة المعتبرة في الزّنا صعبة جدّاً، وإذا ثبت زناه بشهادة أربعة رجم بالحجارة التي تؤخذ في اليد ويرجم بها سواء كان واقفاً أو جالساً، والمرأة تشدّ عليها ثيابها عن التّعري، أو يحفر لها حفرة.

وأمّا الرّجل الذي لم يتزوّج فإذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود فيجلد مائة جدلة ويغرّب عن وطنه عاماً، وأمّا السّوط الذي يجلد به فهو مثل الجريدة والعصا بشرط أنّها لا تكسر العظام.

وأمّا السّارق، فإذا سرق وثبتت سرقته من حرز المال المعروف عند أهل البلد أنّه حزر له قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع بشرط أن تكون سرقته نصاباً، وهو ربع دينار قيمته عندكم ثلاثة أخماس ريال.

وأمّا الذي يعاهد أميره ويعصيه فالأمير تجب طاعته إذا أمر بطاعة الله ورسوله، وتحرم معصيته، فإذا عصى الأمير في ذلك جاز للأمير تأديبه، إمّا بالضّرب أو الحبس أو غير ذلك مما يزجره وليس فيه تحديد في الشّرع.

وأمّا الذي يتخلف عن صلاة الجماعة أو الجمعة فيؤدّب على ذلك إمّا بالضّرب أو الحبس لا يزاد في الضّرب على عشر ضربات، وبالفشيلة والتّفشيل بين النّاس.

ص: 218

وأمّا المواريث التي تقاسموها في الجاهلية على خلاف الشّرع ثم بعد هذا أسلموا، فلا يطالبون بردّ القسمة بعد الإسلام إلاّ بالتّراضي.

وأمّا دية المسلم الحرّ إذا قتل عمداً وقبل أولياؤه الدّية فهي مائة من الإبل خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون لقحة، وخمس وعشرون جذعة، وقيمتها في وقتنا هذا بتقدير أمير المسلمين عبد العزيز وأهل المعرفة ثمانمائة ريال، وتكون حالة. وأمّا دية الخطأ المخفّفة فهي خمسة أخماس على عشرين منها: عشرون ذكراً وهي على العاقلة مؤجَّلة في ثلاث سنين إلاّ إن كان القتل لم يثبت بالبيّنة بل ثبت بإقرار القاتل فلا تحملها العاقلة وتكون في مال القاتل.

وأمّا المنقلة التي توضح وتهشم وتنقل عظامها ففيها خمس عشرة من الإبل قيمتها مائة وعشرون ريالاً.

وأمّا دية العين والسّمع إذا ذهب البصر والسّمع مع عفو المجني عليه عن القصاص كم هي دراهم، فالبصر إذا ذهب كلّه الدّية كاملة، والسّمع إذا ذهب كلّه الدّية كاملة مائة من الإبل تقديرها عندنا ثمانمائة ريال.

وأمّا الحبس والأدب للعاصي، فيجتهد فيه الأمير باجتهاده، ويؤدّب كلّ واحدٍ على قدره باختلافه.

وأمّا حكم الصّائل المعاند.

(فالجواب) : دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن اندفع بغير قتالٍ لم يجز قتله، وإن لم يندفع إلاّ بالقتل جاز قتله ودمه هدر.

وأمّا حكم القذف بالزّنا؛ فإذا قذف رجلاً أو امرأة بالزّنا ولم يأت على ذلك بأربعة شهداء، يشهدون بأنّهم رأوا ذكره في فرجها كالميل

ص: 219

في المكحلة، فإنّه يجب عليه حدّ القذف ثمانون جلدة، ولا تقبل لهم شهادة أبداً، وحد القذف حقّ للمقذوف إن طلبه أقامه عليه الأمير فإن عفا عنه فلا يقيمه الأمير لكن إذا كان القاذف معروفاً بالشّر جاز للإمام تأديبه عن تعرّض أعراض المسلمين.

وأمّا مصرف الزّكاة، فهي ثمانية أصناف ذكرها الله تعالى في كتابه في قوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، [التوبة: 60] .

وأمّا حكم مَن تزوّج في عدّة الطّلاق، وهو جاهل من البوادي فلا يصير حكمه حكم الزّاني، بل يعذر بالجهل، ويفرّق بينهما حتّى تنقضي العدّة الأولى من الطّلاق الأوّل ثم تعتدّ من وطء الثّاني الذي وطئها في عدّتها، فإذا انقضت العدّتان حلّت للزّواج وهو من عرضهم.

وأمّا الذي يتزوّج المرأة برضاها ورضاء أوليائها على مهر مفروض لكن بغير عقدٍ ولا شهود، فمثل هذا يعذر بالجهل ولا يصير عليه أدب والذي فعل هذا في الجاهلية فلا يطالب بنكثه في الإسلام.

وأمّا الفجاج التي يحجرها أهل البلد لا يرعونها النّاس فهذا لا يجوز في الإسلام، وحكم الشّرع أنّ النّاس شركاء في الكلأ والمرعى.

وأمّا بيع الحبّ بحبّ مثله متفاضلاً فلا يجوز، وأمّا إذا كانا من جنسين؛ كشعيرٍ بحبٍ أو حبٍّ بشعيرٍ، فإنّه يجوز التّفاضل فيه، ولا يجوز بيع بعضه ببعضٍ في الذّهب والفضّة والمطعومات إلاّ بشرط التّقابض في المجلس، كما في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والتّمر بالتّمر، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والملح بالملح وغير ذلك مثلاً بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيدٍ".والعمل على

ص: 220

هذا عند أهل العلم، لا يرون أن يباع البرّ بالبرّ، إلاّ مثلاً بمثلٍ، وباقي الأصناف المذكورة في الحديث كذلك، فإذا اختلفت الأجناس فلا بأس أن يباع بعضها ببعضٍ متفاضلاً بشرط التّقابض في المجلس.

وأمّا إذا غاب ولي المرأة قدر مسافة القصر فلا يجوز لها أن توكّل مَن يزوّجها، فهذا يحتاج إلى تفصيلٍ، فإن كان لا يمكن الإرسال إليه ومشاورته إلاّ بمشقّةٍ شديدةٍ جاز لولي الأمر أن يوكّل مَن يزوّجها أو يزوّجها بنفسه على كفء مثلها.

وأمّا الوقف على المسجد فهو جائز؛ بل مستحبّ؛ لأنّه من أعمال البرّ والقربات. والله أعلم.

وأمّا الذي يقرأ في المواريث ويعرف قسمتها ويعرف ما ذكره أهل العلم المقتدى بهم؛ كالأئمة الأربعة جاز له أن يقتدي بما عرف. والله أعلم.

ولا يجوز للرّجل أن يتزوّج المرأة إلاّ بعقد وولي وشاهدين هذا المفتَى به عندنا.

وأمّا الصّلاة فوقت النّهار لا أعرف ضبطه بالأقدام؛ لأنّ الأقدام تختلف باختلاف كثيرٍ مع تغيير الفصول والموجود في كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّ وقت الظّهر إذا زالت الشّمس إلى أن يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثليه، ويعرف ذلك في جميع الأيام بأن ينصب عوداً في مكان مستوٍ فما دام ظل العود ينقص فالشّمس لم تزل حتّى يزيد فإذا زاد فقد زال الظّلّ.

وأمّا النّذور لخدام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وغيره فإنّها تصرف لمصالح المسلمين يصرفها الإمام مثل أن يصرفها في الجهاد، وفي تألّف بعض النّاس على الإسلام، أو الفقراء والمساكين.

ص: 221

وأمّا الكتب المؤلَّفة في ذكر فضائل الأعمال؛ مثل: تنبيه الغافلين، وغيره فأكثر ما فيها حقٌّ وصوابٌ، وفيها ما هو خطأ ليس بصوابٍ، والقارئ فيها يحتاج إلى مَن يعلّمه بما يوافق الحقّ فيعمل به، وما يخالف الحقّ فيتركه.

وأمّا البلاد ورهونها فيجوز أن يعطي الرّجل أرضه لِمَن يحرثها ولصاحب الأرض جزء معلوم من الثّمرة، وأمّا أن يرهنها رجلٌ آخر بدارهم معلومة ويأخذ صاحب الدّراهم غلتها من كلّ الثّمرة، فهذا لا يجوز سواء كان من الثّمرة أو غيرها من بقية الثّمار.

وأمّا غسل الجنابة فيجوز للمرأة والرّجل أن يغسلا رؤوسهما من الجنابة وهو معقود إذا وصل إناء واحد.

وأمّا فرش المساجد فيجوز أن يتّخذ فيها فرشاً من جميع الفرش الطّاهرة من الصّوف وغيره.

وأمّا العاق لوالديه فيؤدّب أدباً بالغاً بالضّرب والحبس؛ لأنّ ذلك من أكبر الكبائر، وليس له حدّ معلوم.

وأمّا الذي يشرب التتن ويزرعه فيجلد ثمانين جلدة1.

وأمّا المراة التي تمشي مكشوفة الوجه فإذا سترت وجهها وصدرها وشعرها فليس عليها في ذلك إذا كان ذلك عادتهم، لكن لا تخالط الرّجال الأجانب، فإن بدنها كلّه عورة شعرها وبشرتها.

وأمّا شراء اللّبن في الضّرع فلا يجوز، إلاّ أن يكون كيلاً معلوماً في ذمّته.

وأمّا الرّهون التي تؤكل غلتها بغير بذر ولا حرث فلا يجوز، ويرد

1 تقدم في ص: 225 عنه أنّه يجلّد أربعين، وهو أقلّ ما روي في حدّ شرب الخمر، وما ذكره هنا أكثر ما ورد فيه، وظاهره أنّه لِمَن يجمع بين شربه وزراعته، والعقاب على زرعه لا حدّ فيه، بل هو تعزير من حقّ الإمام الذي يرى حرمته.

ص: 222

صاحب الأرض على المرتهن ما قبضه منه دراهم كانت أو طعاماً، فإن كان معسراً لزمه إنظاره إلى ميسرةٍ، فإن قدر على وفاء بعض أوفاه بما قدر عليه.

وأمّا الذّبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته، أو وقت الأضحية. فهذا حسن لا بأس به؛ إذا قصد به صدقة لوجه الله يفرق على المساكين والأقارب، وكذلك الصّدقة من الطّعام أو غيره جائزة يصل ثوابها للميت.

وأمّا إذا اجتمع أهل البلد على أن يجمعوا طعاماً عند رجلٍ فيما ينوبهم من جهاد أو ضعف أو دية قتيل المسمّى العشر في بلادكم، فهذا لا بأس به، والمتخلف عن الصّلاة يؤدّب بما يزجره.

وأمّا لباس السّواد إذا كان من عادة أهل البلاد، فهذا لا بأس به، إلاّ أن يكون حريراً فلا يصحّ.

والحناء لا بأس بها إذا اختضب بها الرّجل في يديه ورجليه غير قاصد للتشبّه بالنّساء، ولا يريد به الزّينة، وأمّا ما يلبس النّساء من الحلي والجواهر فليس فيه زكاة.

(15)

وله أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

(الجواب) : الذّبيحة إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها وقطع الحلقوم والودجان فهي حلال، وإن لم يبق في الرّأس من الحلقوم شيء.

(الثّانية) : طلاق الشّرك يحسب عليه في الإسلام، فإن طلّقها في الشّرك ثلاثاً أو أكثر وجاء الإسلام وهي معه أمر بفراقها حتى تنكح زوجاً غيره، ونكاح الشّرك لا يحتاج لتجديد في الإسلام.

وأمّا إذا خالعت

ص: 223

المرأة زوجها على شيءٍ مُسمًّى وشرطت عليه أنّها لا تعطيه إلاّ إذا تزوّجت، وطلّقها على ذلك فإنّها تعطيه إيّاه إذا تزوّجت.

وأمّا مواريث الشّرك فإذا كان الوارث في الجاهلية قد طرد شريكه في الإرث وأسلم والمال في يده، فهو له دون شريكه سواء كان المطرود رجالاً أو نساء، وإن كان مزبوراً لم يقسم حتّى جاء الإسلام فإنّه يقسم على فرائض الله ويعطي كلّ نصيبه من المال.

وأمّا إذا أوصى لإناث بوصية مدّة حياته وجاء الإسلام والمال في يد الإناث فإنّه يكون لهم ولورثتهم.

وأمّا إذا كان لرجلٍ أرض ودفعها لرجلٍ يحرثها، ويزرعها هو وولده من بعده بلا أجل معلوم وجاء الإسلام والأرض في أيديهم فإنّ ذلك الأرض يرجع فيها. وما أحدث الزّراع من شجرٍ أو بناءٍ أو غرسٍ فهو له يأخذه بقيمته إن أراده.

وأمّا إذا باع الرّجل المال الذي في أيدي الحريم بعد مورثهم، فهذا بيع فاسد يردّ على المشتري ثمنه الذي دفعه للبائع.

وأمّا قتل الجاهلية والجراحات التي فيها فما كان من ذلك مقطوع ديته مضمون كثيراً أو قليلاً؛ فإنّه يدفع إلى صاحبه أو لِمَن يكن.

وأمّا ديون الجاهلية من الرّبا والرّهون التي لا تجوز في الإسلام فليس لصاحبها إلاّ رأس المال، فإن كان الذي عليه الحقّ متعسراً لزم صاحب الدّين إنظاره إلى ميسرةٍ، وإن كان له كدود لا تفي قيمة كفايته وكفاية مَن تحته، ولا يقدر على حرفة غير ذلك تغنيه وتغني أولاده ومَن تحت يده فلا يجوز لصاحب الدّين أن يأخذ ذلك ويتركه يضيع ومَن تحت يده؛ بل يصبر إلى أن يغنيه الله أو يصالحه على شيء يعطيه إيّاه كلّ سنة لا يضر به.

ص: 224

وأمّا وقت الشّرك الذي على طاعة، فهذا يجب الوفاء به في الإسلام.

وأمّا الصّدقة عد الختان والزّواج، أو الصّدقة للميت عند موته فلا بأس به.

وأمّا تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل فهذا لا بأس به.

وأمّا إهداء ثواب البدن للميّت1 من قراءةٍ، وصلاةٍ، وحجٍّ وغير ذلك، فهذا فيه خلاف بين العلماء هل يصل إلى الميّت أم لا؟ ولا ينكر على مَن فعله أو تركه.

وأمّا صدقة المال فهي تصل إلى الميّت باتّفاق العلماء.

وأمّا النّائبة للضّيف ودية القتلى والجهاد الذي يجاهد دفاعاً عن بلد وأهلها، فهذا لا يدخل فيه مال اليتيم2.

وأمّا الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه سواء كان يتيماً من الأم أو لم يكن، ولا يجوز له أن يعطي منه ولا يهب ولا يتصدّق.

وأمّا زكاة غنم الحضر التي في البلد، فهي تصير مع زكاة البلد.

وأمّا المتطوّع الذي مسجد يصلي به ويقوم به فإنّه يعطى من الزّكاة إذا كان فقيراً، وإن كان غنياً فلا يجوز له الأخذ من الزّكاة، ويجوز له الأكل من وقف المسجد.

وأمّا المتخلف عن الجمعة والجماعة فيؤدّبه الأمير بما يزجره عن ذلك، وكذلك المعاصي التي ليس فيها حدّ يجوز للأمير تعزير العاصي على المعصية من ضربٍ أو تأديبٍ.

1 أي: إهداء ثواب العبادات البدنية إلى الميت

الخ.

2 هكذا في الأصل.

ص: 225

وأمّا الحناء إذا كان ليس قصده التّشبه بالنّساء، وإنّما مقصوده إزالة أثر العمل أو التبّرد أو التّداوي فلا بأس به، وكذلك لبس الثّوب الأسود إذا كان رجال البلد يلبسونه.

وصلاة التّراويح في رمضان مستحبة، وفعلها جماعة أفضل، وكذلك القنوت في النّصف الآخر من رمضان، وزكاة الفطر يجمعها الأمير وتفرق على فقراء البلاد خاصّة. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

(16)

وله أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ:

من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ رجب.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من المسائل:

(الأولى) : إذا باع رجل على رجلٍ شيئين ثم أنكر المشتري ووجد البائع أحد الشّيئين هل له الرّجوع في الموجود أم لا؟

(فالجواب) : وبالله التّوفيق، أنّ هذه المسألة فيها روايتان:

(إحداهما) : لا يرجع. نقلها أبو طالب عنه. قال: لا يرجع بقية العين، ويكون أسوة الغرماء؛ لأنّه لم يجد المبيع بعينه فأشبه ما لو كان عيناً واحدةً، ولأنّ بعض المبيع تالف فلم يملك الرّجوع فيه كما لو قطعت يد العبد. ونقل الحسن بن ثوبان عن أحمد إن كان ثوباً واحداً فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزماً فتلف بعضها فإنّه يأخذ بقيمتها إذا كان بعينه؛ لأنّ السّالم من المبيع وجده البائع بعينه فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنّه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرّجوع فيه، كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعض المبيع

ص: 226

أو وهبه أو وقفه فهو بمنْزلة تلفه؛ لأنّ البائع ما أدرك ماله بعينه.

(وأمّا الثانثة) : إذا باع رجل على رجلٍ سلعة قيمتها وقت البيع عشرة ثم أفلس المشتري وقد صارت قيمتها عشرين، هل له الرّجوع في الزّيادة المتّصلة أم لا؟

(فالجواب) : أنّ من شرط الرّجوع في السّلعة إذا وجدها صاحبها عند المفلس أن لا يكون المبيع زاد زيادة متّصلة، كالسّمن، والكبر، وتعلّم صنعةٍ، فإنّ هذا يمنع الرّجوع، وهو اختيار الخرقي. وعن أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ إنّ ذلك لا يمنع. قال في الشّرح الكبير، وهو مذهب مالك، والشّافعي، إلاّ أنّ مالكاً قال: يخيّر الغرماء بين أن يعطوه السّلعة أو ثمنها الذي باعها به، واحتجّوا بالخبر يعني قوله:"مَن وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحقّ به"، وبأنّه فسخ لا يمنع الزّيادة المنفصلة فلم يمنع المتّصلة كالرّدّ بالعيب.

قال: ولنا أنّه فسخ بسبب حادثٍ فلم يملك به الرّجوع في عين المال الزّائدة زيادة متّصلة؛ كفسخ النّكاح بالإعسار، أو الرّضاع، ولأنّها في ملك المفلس فلم يستحقّ البائع أخذها كالمنفصلة. انتهى.

والذي يترجّح عندي مذهب مالك رحمه الله، وهو أنّ الغرماء يخيّرون بين أن يعطوه السّلعة بعينها، وبين أن يعطوه الثّمن الذي باعها به، فعلى هذا إن كان لهم مصلحة في زيادتها المتّصلة أعطوه ثمنه وأخذوا السّلعة، وتكون الزّيادة المتّصلة للمفلس يستوفون بها الغرماء.

(الثالثة) : إذا كان على رجلٍ دينٌ وصار الدَّين أكثر من قيمة ماله لو يباع، وظهرت أمارات الفلس، ورهن بعض ماله قبل أن يطلب الغرماء الحجر عليه عند المفتي، هل يصحّ رهنه مع أنّ بعض الغرماء يدّعي عدم ظهور أمارات الفلس لغيبته أو غيرها ما الحكم؟

ص: 227

(فالجواب) : أنّ في نفوذ تصرّفه قبل الحجر عليه قولان هما روايتان عن أحمد:

(أحدهما) : أنّه يصحّ تصرّفه وينفذ. قال في الإنصاف على الصّحيح من المذهب، نصّ عليه جماهير الأصحاب، وقيل: لا ينفذ تصرّفه. ذكره الشّيخ تقي الدّين وحكاه روياةً واختاره.

وسأله جعفر ـ يعني الإمام أحمد ـ مَن عليه دين يتصدّق بالشّيء؟

قال: الشّيء اليسير وقضاء دينه أوجب عليه.

(قلت) : وهذا القول هو الصّواب، خصوصاً وقد كثرت حيل النّاس وجزم به في القاعدة الثّالثة والخمسين، فقال: المفلس إذا طلب البائع منه سلعته التي يرجع بها قبل الحجر لم ينفذ تصرّفه، نصّ عليه، وذلك ثلاثة نصوص، لكن ذلك مخصوص بمطالبة البائع. انتهى كلامه في الإنصاف.

وهذا القول، هو الذي اختاره الشّيخ تقي الدين، وصاحب الإنصاف، وهو الرّاجح إن شاء الله تعالى.

(الرّابعة) : إذا استأجر رجلّ أرضاً بأربعين ريالاً، وتنقلت بعد الأربعين إلى أنّ المستأجر يؤجّرها بعشرة وصاحب الأرض قد شرط على المستأجر مدّة سنين، وأراد المستأجر الفسخ، هل تدخل في حكم وضع الجوائح أم لا؟

(فالجواب) : أنّ الذي نفهم من كلام أهل العلم أنّها ما تدخل في مسألة وضع الجوائح، وأنّ المراد بذلك إذا كانت الجائحة من قبل الله بآفةٍ سماوية كالمطر والبرد والسّيول وأشباه ذلك، وأمّا الإجارة فهي لازمة من قبل المؤجر والمستأجر إلاّ إذا انهدمت الدّار، أو تعطّلت الأرض بآفة سماوية انفسخت الإجارة فيما بقي من المدّة، وأمّا هذه الصّورة فهي مثل أن يشتري سلعة غالية ثم ترخص بعد ذلك بتغيّر الأسعار. والله أعلم.

(الخامسة) : إذا وجد رجل ضالة من الإبل فأخذها يريد الحفظ، وهو معروف بالأمانة، ثم تلفت بعد ذلك بموتٍ أو ذهابٍ، هل يغرمها إذا طالبه صاحبها أم لا؟

ص: 228

(الجواب) : قال في الإنصاف: يجوز للإمام أو نائبه أخذ ما يمتنع من صغار السّباع وحفظه لربّه، ولا يلزمه تغريمه. قاله الأصحاب، ولا يكتفى فيها بالصّفة. قاله المصنّف وغيره، واقتصر عليه في الفروع. ولا يجوز لغيرهما أخذ شيء من ذلك لحفظه لربّه على الصّحيح من المذهب. وقال المصنّف ومَن تبعه يجوز أخذها إذا خيف عليها كما لو كانت في أرض مسبّعة أو قريباً من دار الحرب، أو موضع يستحلّ أهله أموال المسلمين، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى فلا ضمان على مَن أخذها؛ لأنّه إنقاذ من هلكة. قال الحارثي: قالوا كما قال. وجزم به في تجريد العناية.

(قلت) : ولو قيل: بوجوب أخذها والحالة هذه لكان له وجه. انتهى.

والذي يترجّح عدي أنّ الرّجل إذا عُرِفَ بالأمانة، وأنّه يحسن في حفظها ولم يتعرّض لها بركوبٍ وغيره، أنّه لا يضمن كما اختاره هؤلاء الأئمة. والله أعلم.

(السّادسة) : إذا تزوّج رجل بامرأة وشرطت عليه طلاق ضرّتها، أو طلاقها بنفسها بعد شهرين هل يصحّ ذلك أم لا؟

(فالجواب) : أمّا شرطها طلاقها بنفسها بعد شهرين؛ فهذا لا يجوز اشتراطه، وهو شرط باطل، وأمّا اشتراط طلاق ضرّبها ففيه خلاف مشهور بين العلماء. والصّحيح أنّه شرط باطل بما ثبت في الصّحيحين وغيرهما أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسأل المرأة طلاق ضرّتها؛ فإنّه يأتيها ما قدر لها"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(السّابعة) : إذا كان رجل معروفاً بالفلس ويعامله النّاس مع ظهور فلسه، وأراد رهن بعض ما في يده، أوفى به بعض الغرماء، وطلب غرماؤه الحجر عليه لزمه إجابتهم، وهذا هو الصّحيح إن شاء الله تعالى.

ص: 229

(الثّامنة) : العبد إذا ظاهر أو سرق من حرزٍ، هل يصير حكمه حكم الحرّ في ذلك أم لا؟

(فالجواب) : أنّ الذي عليه جمهور العلماء أنّ الظّهار يصحّ من كلّ زوجٍ يصحّ طلاقه. قال في الإنصاف: هذا هو الصّحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، فيصحّ ظهار الصّبي حيث صحّحنا طلاقه. قال في عيون المسائل: سوى أحمد بينه وبين الطّلاق إلى أن قال: (تنبيهان) : أحدهما: شمل قوله يصحّ من كلّ زوجٍ يصحّ طلاقه العبد، وهو الصّحيح، وهو المذهب، وعليه الأصحاب. وجزم به في الفروع وغيره. وقيل: لا يصحّ، والذي يترجّح عندي هو قول جمهور العلماء.

وأمّا العبد إذا سرق، فالظّاهر من كلامهم أنّه كالحرّ وصرّح به العلماء من الشّافعية.

(التّاسعة) : ما معنى قوله: ولا يجوز استصناع سلعة بعينها؟

(فالجواب) : أنّ معنى ذلك: أن يأمر رجلاً أن يصنع له سلعة ولا يصفها بصفات السلم، فأمّا إذا ضبطها بأوصاف السّلم الذي لا يحصل معه الجهل ولا الغرر؛ فإنّه جائز؛ لأنّه داخل في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، [البقرة، من الآية: 275] .

وقوله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم ".

(العاشرة) : إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دين مؤجّل قدر عشرة وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي هل يصحّ ذلك أم لا؟

(فالجواب) : أنّ فيها خلافاً مشهوراً بين العلماء. قال في الإنصاف: ولو صالح عن المؤجّل ببعضه حالاً لم يصحّ. هذا هو المذهب نقله الجماعة عن أحمد وعليه جماهير الأصحاب، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصحّ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين؛ لبراءة الذّمّة هنا، وكدين الكتابة، جزم به الأصحاب في دين الكتابة، ونقله ابن منصور. انتهى كلامه.

والذي يترجّح عندي هو

ص: 230

القول الأخير، وهو الذي اختاره الشّيخ تقي الدّين ـ قدّس الله روحه ـ.

وأمّا إذا كان الدّين حالاً فوضع بعضه، وأجّل باقيه، قال في الإنصاف: صح الإسقاط دون التّأجيل، أمّا الإسقاط فيصحّ على الصّحيح من المذهب. وعنه: لا يصحّ الإسقاط، أمّا التّأجيل فقد يصحّ على الصّحيح من المذهب، وعليه الأصحاب؛ لأنّه وعد. وعنه يصحّ، وذكر الشّيخ تقي الدّين روايةً بتأجيل الحال في المعارضة لا التّبرّع. قال في الفروع: والظّاهر أنّها هذه الرّاوية. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

- _ 17 –

وله أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ رجب سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(وبعد) الخطّ وصل أوصلك الله إلى رضوانه، ونحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو على نعمة الإسلام والإيمان والعافية والاجتماع على دين الله بعد أجرى الله على أمير المسلمين ما أجرى، ونرجو من الله أن يفتح لنا فتحاً مبيناً، وينصرنا نصراً عزيزاً أعظم مما تقدّم.

وأمّا المسائل التي تسأل عنها:

(الأولى) : إذا قال رجل لزوجته: إن أعطيتِنِي كذا وكذا، فأنت طالق، أو إذا نزلت على أهلك، فأنت طالق، ومراده ونيّته وقت معلوم، كاليوم واليومين مثلاً، فلا تطلق إذا مضى الوقت الذي نواه، والظّاهر أنّه يحلف أنّ هذا مراده.

وأمّا إذا علّق الطّلاق على شرطٍ فأراد الرّجوع عن ذلك التّعليق قبل وجود الشّرط، فالذي صحّحه في الإنصاف وغيره أنّه ليس له الرّجوع عن ذلك.

ص: 231

(الثّانية) : إذا طلبت المرأة من زوجها المريض طلاقها فطلّقها ثلاثاً صحّ طلاقه، وطلقت، والظّاهر أنّها لا ترث لعدم التّهمة، وأمّا كلام ابن عبّاس في الخلع وقوله: ليس الخلع بطلاق، فالظّاهر أنّ مراده الخلع الصّحيح، وهو المستكمل للشّروط المذكورة في القرآن:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَاّ أَنْ يَخَافَا أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، [البقرة، من الآية: 229] .وهي رواية عن أحمد، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، وهو مروي عن طاوس، وعكرمة، وإسحاق، وأبِي ثور، وهو أحد قولي الشّافعي.

وأمّا خلع كثير من النّاس اليوم؛ فليس بخلعٍ صحيحٍ، والذي يفتى به لمثلهم أنّ الخلع طلاق بائن، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد، سواء نوى به الطّلاق أم لا.

روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، ومالك، وأصحاب الرّاي.

وأمّا مَن أراد تزويج أخته وليس معه إلاّ شاهد ويمين، فمثل هذا يشترط له كثير من أهل العلم شاهدين، وليس لليمين مدخل في مثل هذا، إنّما ذلك في المال، وما يقصد به المال.

وأمّا الجار إذا كان شريكاً لجاره في طريق، وليس لغيرهما شركة فهي الشّفعة، خلاف مشهور. والرّاجح أنّ له الشّفعة، وهو المفتَى به عندنا، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين.

وأمّا الصّبرة المشتراة، جزافاً فلا يجوز بيعها حتّى ينقلها المشتري من مكانها إلى آخر، ويكفي في ذلك أن ينقلها من موضعٍ في السّوق إلى آخر.

وأمّا المساقاة والمزارعة إذا شرط ربّ الأرض أن لا يخرج منها سنين معلومة، فالظّاهر لزوم ذلك الشّرط، كما في الحديث:" المسلمون عند شروطهم "، وكثير من العلماء يقولون هي لازمة على المساقي والمزارع، وإن لم يشترط ربّ الأرض لزومه.

وأمّا الذي خالع زوجته، وقال: أنت طالق

ص: 232

عدد الخوص، فإن كان الخلع صحيحاً فليس بطلاقٍ، وإن قال ذلك، وإن كان الخلع كخلع أكثر النّاس اليوم.

وأمّا الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه صغيراً كان أو كبيراً بالشّروط المذكورة في كتب الفقه.

وأمّا إذا اكترى رجل من آخر أرضاً أو نخلاً وأصابته جائحة؛ فإنّه يطرح عن المؤجّر بقدر ما نقصت الجائحة من الثّمرة من الأجرة.

وأمّا إذا قال الزّوج لزوجته عند سؤالها منه الطّلاق: الله يرزقكِ، فهذا كناية يحتاج إلى نية الطّلاق، ويصدق بيمينه إن لم ينوِ الطّلاق. انتهى.

وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 18 –

(أصل دعوة التّجديد في نَجد وقاعدتها)

ورد على الشّيخ الإمام عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب كتاب من الشّيخ عبد الله الصّنعاني يسأله فيه عمّا يدينون به، وما يعتقدونه من الحقّ، فأجابه بما هو الصّواب.

قال رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الصّلاة السّلام على سيّدنا محمّد سيّد الأنام، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصّنعاني، وفّقه الله وهداه وجنّبه الإشراك والبدعة وحماه، وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.

ص: 233

أمّا بعد؛

فوصل الخط وتضمن السّؤال عمّا نحن عليه من الدّين.

فنقول، وبالله التّوفيق:

الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره ومتابعة الرّسول النَّبِيّ الأمّيّ حبيب الله وصفيّه من خلقه محمّد صلى الله عليه وسلم.

فأمّا عبادة الله وحده فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّريات: 56] .

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [النّحل، من الآية: 36] .

فمن أنواع العبادة الدّعاء وهو الطّلب بياء النّداء؛ لأنّه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة، أو بأحد أخواتها من حروف النّداء؛ فإنّ العبادة اسم جنس؛ فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يدعوه ولا يدعو معه غيره. وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، [غافر: 60] .

وقال في النّهي: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، [الجن: 18] .وأحد كلمة تصدق على كلّ ما دُعِي به غير الله تعالى.

وقد روى التّرمذي عن أنس أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الدّعاء مخ العبادة".

وعن النّعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدّعاء هو العبادة، ثم قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ". رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي.

قال العلقمي في شرح الجاعم الصّغير: حديث: "الدّعاء مخ العبادة"، قال شيخنا: قال في النّهاية: مخّ الشّيء خالصه، وإنّما كان مخها لأمرين:

أحدهما: أنّه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، فهو مخ العبادة وخالصها.

والثّاني: أنّه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع علقته عمن سواه ودعاه لحاجته وحده، ولأنّ الغرض من العبادة هو الثّواب عليها، وهو المطلوب بالدّعاء.

وقوله:"الدّعاء هو العبادة"، قال شيخنا: قال الطّيبِي أتى بالخبر المعرّف باللام ليدلّ على الحصر، وأنّ العبادة ليست غير

ص: 234

الدّعاء".انتهى كلام العلقمي1.

إذا تقرّر هذا؛ فنحن نعلم بالضّرورة أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء، لا الصّالحين، ولا غيرهم؛ بل نعلم أنّه نهى عن هذه الأمور كلّها، وأنّ ذلك من الشّرك الأكبر الذي حرمه الله تعالى ورسوله.

قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، [الأحقاف، الآيتان: 5-6] .

وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} ، [الشّعراء:213] .

وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} ، [يونس، من الآية: 106] .الآيات.

وهذا من معنى: (لا إله إلاّ الله) ؛ فإنّ (لا) هذه هي نافية للجنس، فتنتفي جميع الآلهة، (وإلاّ) حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، والإله اسم صفة لكلّ معبود بحقٍّ أو باطلٍ ثم غُلِّب على المعبود بحقٍّ؛ وهو الله تعالى الذي يخلق ويرزق، ويدبّر الأمور، وهو الذي يستحقّ الألهية وحده. والتّألّه: التّعبّد. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] .

ثُمّ ذكر الدّليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، [البقرة، من الآية: 164]، إلى قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} الآية، [البقرة، من الآية: 165] .

وأمّا متابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، فواجب على أمّته متابعته في الاعتقادات

1 لكن هذا الحصر إضافي غير حقيقي؛ فإنّ العبادات كثيرة، وقال المحقّقون: إنّ هذا الحديث كحديث:"الحجّ عرفة"، وإنّ تعريف العبادة في الحديثين بمعنى الفرد الكامل؛ كقول العرب: النّجم، وأراد الثّريا. والمعنى: أنّ أكمل إفراد العبادة الذي يظهر به إخلاص العبودية هو الدّعاء، وفي الحديث الآخر أنّ أكمل أركان الحجّ الوقوف بعرفة. وكتبه محمّد رشيد رضا.

ص: 235

والأقوال والأفعال. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31] .

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو درٌّ".رواه البخاري ومسلم.

وفي روايةٍ لمسلمٍ: " مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ ".

فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل، وما خالف ردّ على فاعله كائناً مَن كان.

فإنّ شهادة أنّ محمّد رسول الله، تتضمّن: تصديقه فيما أخبر به، وطاعته، ومتابعته في كلّ ما أمر به.

وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلاّ مَن أبى"، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبى؟! قال:"مَن أطاعنِي دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبَى ".

فتأمّل ـ رحمك الله ـ ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتّابعون لهم بإحسانٍ، وما عليه الأئمّة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء، كأبي حنيفة، ومالكٍ، والشّافعي، وأحمد بن حنبل ـ رحمهم الله تعالى ـ؛ لكي تتّبع آثارهم.

وأمّا مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السّنة، ولا ننْكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نصّ الكتاب والسّنة، ولا إجماع الأمة ولا قول جمهورها.

والمقصود بيان ما نحن عليه من الدّين، أنّه عبادة الله وحده لا شريك له، فبها نخلع جميع الشّرك، ومتابعة الرّسول، وبها نخلع جميع البدع إلاّ بدعة لها أصل في الشّرع؛ كجمع المصحف في كتابٍ واحدٍ، وجمع عمر رضي الله عنه الصّحابة على التّراويح جماعةً، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كلّ خميس، ونحو ذلك. فهذا حسن.

والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

ص: 236

- 19 -

أجاب الصّنعاني الشّيخ عبد الله ـ رحمهما الله ـ على كتابه بالموافقة على كلّ ما فيه إلاّ قوله: إنّ مذهبهم مذهب الإمام أحمد؛ فإنّه يقتضي تقليده، والتّقليد محظور، وإنّما ينبغي اتّباعه في الأخذ من الكتاب والسّنة، فأجابه الشّيخ عبد الله بهذا الكتاب. قال:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي نزل الكتاب على النَّبِيّ المختار، وبيّنه صلى الله عليه وسلم، وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التّابعون لهم من الأبرار.

إلى عبد الله بن عبد الله الصّنعاني، سلّمه الله من الشّرك والبدع، ووفّقه للإنكار على مَن أشرك وابتدع، والصّلاة والسّلام على محمّد الذي قامت به على الخلق الحجة، وبيّن وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده.

أمّا بعد؛

فقد وصل كتابكم وسرّ الخاطر، وأقرّ النّاظر؛ حيث أخبرتم أنّكم على ما نحن عليه من الدّين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرّسول الأميّ سيّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأنّ الرّدّ عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصّحابة، ثم التّابعين لهم بإحسانٍ؛ فذلك ما نحن عليه، وهو ظاهر عندنا من كلّ قولٍ له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته العمل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} ، [الصّفّ: 2] .

وكلّ يدعّي وصلاً ليلى

وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

ص: 237

فنحن أقمنا الفرائض والشّرائع والحدود والتّعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علم الجهاد على أهل الشّرك والعناد فلله الحمد والمنّة.

وأمّا استفصالكم عن قولنا مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريدون أن نسلك في أخل المسائل من الكتاب والسّنة مثل مسلكه فنعم ما قلتم، وإن تريدون بقولكم ذلك التّقليد له فيما قاله من غير نظرٍ إلى الحجة من الكتاب والسّنة كما سلك بعض أتباع الأئمة الأربعة من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل وأطرحوا الاحتجاج بالكتاب والسّنة وسدّوا بابهما إلى آخره. انتهى كلامكم ملخصّاً.

فالجواب وبالله التّوفيق من أوجه:

الوجه الأوّل: أنّ في رسالتنا التي عندكم ما يردّ هذا التّوهّم، وهو قولنا فيها:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31] .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو درٌّ". رواه البخاري ومسلم.

فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعال فما وافق منها قبل، وما خالف رُدَّ على قائله كائناً مَن كان إلى آخره.

فتضمّن هذا الكلام أنّه لا يقدّم رأي أحدٍ على كتاب الله وسنة رسوله والعجب كيف نبا فهمكم عنها.

الوجه الثّاني: قد صرّح العلماء أنّ النّصوص الصّريحة الصّحيحة التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنّما المذاهب فيما فهمه العلماء من النّصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك.

الوجه الثّالث: قد ذكر العلماء أنّ لفظة المذهب لها معنيان: معنىً

ص: 238

في اللّغة، ومعنى في الاصطلاح.

فالمذهب في اللّغة: مفعل، ويصحّ للمصدر والمكان والزّمان بمعنى: الذّهاب، وهو المرور، أو محلّه وزمانه.

واصطلاحاً: ما ترجّح عند المجتهد في أيّما مسألةٍ من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقداً ومذهباً.

وعند بعضهم: ما قاله مجتهد بدليلٍ ومات قائلاً به.

وعند بعضهم: أنّه المشهور في مذهبه كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور، ومسّ الذّكر، ونحوه عند أحمد. ولا يكاد يطلق إلاّ على ما فيه خلاف.

وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء: ما ذهب إليه إمام من الأئمة الاجتهادية1.

ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، وهو ما قوي دليله. وقيل: ما كثر قائله.

فقد تلخّص من كلامهم أنّ المذهب في الاصطلاح: ما اجتهد فيه إمام بدليلٍ، أو قول جمهورٍ، أو ما ترجّح عنده ونحو ذلك. وأنّ المذهب لا يكون إلاّ في مسائل الخلاف التي ليس فيها نصّ صريح ولا إجماع.

فأين هذا من توهّمكم إنّ قولنا لكم: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، أنا نقلّده فيما رأى وقاله، وإن خالف الكتاب والسّنة والإجماع؟! فنعوذ بالله من ذلك والله المستعان.

الرّابع: قال ابن القيم في إعلام الموقّعين لما ذكر المفتين بمدينة السّلام، وكان بها إمام أهل السّنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علماً وحديثاً وسنة إلى أن قال: وكانت فتاواه مبنية على خمسة أصول:

أحدها: النّصوص فإذا وجد النّصّ أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا مَن خالفه كائناً مَن كان، ثم ذكر أحاديث تمسّك بها الإمام

1 كذا في الأصل المخطوط، ولا بدّ أن يكون قد سقط من النّاسخ كلمة: المسائل، أو الأمور.

ص: 239

أحمد ولم يلتفت إلى ما خالفها إلى أن قال:

الأصل الثّاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصّحابة؛ فإنّه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إنّ ذلك إجماع؛ بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئاً يدفعه ونحو هذا، إلى أن قال:

الأصل الثّالث من أصوله إذا اختلف الصّحابة تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها للكتاب والسّنة ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتبيّن له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقولٍ، إلى أن قال:

الأصل الرّابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضّعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، فهو الذي يرجّحه على القياس. وليس المراد بالضّعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متّهم؛ بل الحديث الضّعيف عنده قسيم الصّحيح، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحبٍ ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس، وليس من الأئمة إلاّ وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نصّ ولا قول للصّحابة أو أحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى:

الأصل الخامس: وهو القياس، فاستعمله للضّرورة، وقال الشّافعي: إنّما يصار إليه عند الضّرورة. وقال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث: ما تصنع بالرّأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه؟! وقد تتوقّف في الفتوى لتعارض الأدلّة عنده أو لاختلاف الصّحابة فيها، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثيرٍ مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. انتهى كلام ابن القيم ملخّصاً.

فهذا ما أشرنا إليه من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.

ص: 240

وأمّا ما ذكرتم من ذمّ مَن قلّد الإمام أحمد وغيره، وأطلقتم الذّمّ فليس الأمر على إطلاقكم، فإن تريدون بذمّ التّقليد تقليد مَن أعرض عما أنزل الله، وعن سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، أو مَن قلّد بعد ظهور الحجة له، أو مَن قلّد مَن ليس أهلاً أن يؤخذ بقوله، أو مَن قلّد واحداً من النّاس فيما قاله دون غيره، فنعم المسلك سلكتم.

وإن تريدوا بذلك الإطلاق منع النّاس لا ينقل بعضهم عن بعضٍ، ولا يفتي أحد لأحدٍ إلاّ مجتهد، فقد قال تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، [النّحل، من الآية: 43] .

قال عليّ بن عقيل صاحب الفنون ورؤوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه الآية. وقد أمر الله بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي الأمر وهم: العلماء، أو العلماء والأمراء، وأرشد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَن لا يعلم إلى سؤال مَن يعلم، فقال في حديث صاحب الشّجة:" ألا سألوا إذا لم يعلم فإنّما شفاه العيّ السّؤ ال".

وأيضاً فأنَّى تدرك هذه في هذه الأزمنة التي قلّ العلم في أهلها، وقلّ فيها المجتهدون، وقد صرّح العلماء أنّ تقليد الإنسان لنفسه جائز، وربما كان واجباً.

وكذا في أوّل الجزء الثّاني من (إعلام الموقّعين) ذكر القول في التّقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه، والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب.

فأمّا النّوع الأول فهو ثلاثة أنواع:

أحدها: الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.

الثّاني: تقليد مَن لا يعلم المقلّد أنّه أهل أن يؤخذ بقوله.

الثّالث: التّقليد بعد قيام الحجة وظهور الدّليل على خلاف قول المقلّد، وقد ذمّ الله هذه الأنواع الثّلاثة من التّقليد في غير موضعٍ من كتاب ـ ثم ذكر آيات في ذمّ التّقليد ـ

ص: 241

إلى أن قال: وهذا القدر من التّقليد هو مما اتّفق السّلف والأئمة الأربعة على ذمّه وتحريمه.

وأمّا تقليد مَن بذل جهده في اتّباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه وقلّد فيه مَن هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التّقليد الواجب والسّائغ إن شاء الله تعالى.

وقال أيضاً في أوّل الجزء الأوّل (من إعلام الموقّعين) : قلت وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد:

أحدها: أنّه لا يجوز الفتوى بالتّقليد؛ لأنّه ليس بعلم والفتوى بغير علمٍ حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب.

والثّاني: أنّ ذلك يجوز فيما يتعلّق بنفسه، فيجوز له أن يقلّد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلّد العالم فيما يفتي به غيره، فهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا.

والقول الثّالث: أنّه جوز ذلك عند الحاجة، وعدم المجتهد، وهو أصحّ الأقوال، وعليه العمل. قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه: قال: سمعت أبا عليّ الحسن بن عبد الله النّجاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار يقول: ما أعيب على رجلٍ يحفظ لأحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتِي النّاس بها. انتهى كلام ابن القيم ملخّصاً.

وقال في الإقناع وشرحه في شروط القاضي: وأن يكون مجتهداً إجماعاً. ذكره ابن حزم. وأنّهم أجمعوا أنّه لا يحلّ لحاكمٍ ولا مفتٍ تقليد رجلٍ لا يحكم ولا يفتي، إلاّ بقوله؛ لأنّه فاقد للاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه إذا لم يوجد غيره لضرورةٍ، كما قال في الإفصاح إنّ الإجماع انعقد على تقليد كلّ من المذاهب الأربعة، وإنّ الحق لا يخرج

ص: 242

عنهم1، ثم أنّ الصّحيح في هذه المسألة أنّ قول مَن قال إنّه لا يجوز إلاّ تولية مجتهد فإنّه ما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب، وقال الإمام موفّق الدّين أبو محمّد عبد الله بن أحمد المقدسي في خطبة المغني: النّسبة إلى إمامٍ في الفروع؛ كالأئمة الأربعة، ليست بمذمومة، فإنّ اختلافهم رحمة، واتّفاقهم حجّة قاطعة2.

واختار في الإفصاح والرّعاية أو مقلّدا قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدّة طويلةٍ، وإلاّ تقطعت أحكام النّاس، وكذا المفتي. قال ابن بشار: ما أعيب مَن يحفظ لأحمد خمس مسائل يفتي بها. ونقل عبد الله يفتي غير مجتهد. ذكره القاضي وحمله أبو العبّاس بن تيمية على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع وشرحه.

وقال في الإنصاف: قال الشّيخ تقي الدّين أحمد بن تيمية في شروط

1 ادّعى هذه الدّعوى بعض علماء القرون الوسطى والمتّبعين لهذه المذاهب، وخطّأهم فيها آخرون منهم، ومن غيرهم، واحتجوا عليهم بأنّ الإجماع اتّفاق مجتهدي العصر كلّهم، وهم غير مجتهدين ولا وجه لإيجاب التّقليد مع وجود المجتهدين، وبأن المحقّقين كالإمام أحمد لا يحتجون بإجماع غير الصّحابة بل صرّح بعضهم بعدم إمكانه، وبعضهم بعدم إمكان العلم به، ومنهم الإمام أحمد.

ثم إنّ الأصوليّين قالوا: إنّ الإجماع لا بدّ له من مستندٍ من الكتاب والسّنة، ولا يمكن وجود مستند منهما بحصر الحقّ في أقوال أشخاص معينين الخ. والحقّ أنّ مزية فقه الأربعة أنّه مدون وشامل لأكثر ما يحتاج إليه النّاس، ففيها غناء عن غيرها في الغالب، وإلاّ فهذا سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام الشّافعي الأصل الذي شهد له علماء عصره بالاجتهاد المطلق قد فضّل كتاب المحلّى لابن حزم، وكتاب المغني للشّيخ موفّق الدّين الحنبلي على جميع كتب الفقه، فهو

إذاً يعتدّ بمذهب ابن حزم الظّاهري، ولا يفضّل عليه أحد المذاهب الأربعة. وكتبه محمّد رشيد رضا.

2 الشّيخ الموفق، قال هذا في أئمة السّلف بجملتهم لا في الأربعة وحدهم منهم، وعبارته صريحة في ذلك خلافاً لما فهمه صاحب الإقناع وشرحه وكتبه محمّد رشيد رضا.

ص: 243

القاضي: ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدلّ كلام أحمد وغيره، فيولَّى للقدم أعدل المقلّدين وأعرفهما بالتّقليد في الفروع، وهو كما قال. انتهى كلام الإنصاف ملخّصاً.

وأما ما ذكرتم عن الأئمة وقول أبي حنيفة: إذا قلت قولاً وفي كتاب الله وسنة رسول الله ما يخالف قولي فاعملوا به، واتركوا قولي.

وقول الشّافعي: إذا صحّ الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط واعملوا بالحديث.

وكذا ما ذكرتم عن الأئمة رضي الله عنهم أنّهم صرّحوا بعرض أقوالهم على الكتاب والسّنة، فما خالف منها ردّ، وقد تقدّم في أصول أحمد أنّه إذا صحّ الحديث لم يقدّم عليه قول أحدٍ، فهذا قد تقرّر عندنا. ولله الحمد والمنّة.

وأمّا قولكم: إن مرادنا بقولنا: لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة، ولو أشركوا وابتدعوا، فنعوذ بالله من ذلك، بل ننكر الباطل، ونقبل الحقّ ممن جاء به، فإنّ كلّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلاّ سيّد الأوّلين والآخرين صلى الله عليه وسلم.

وأمّا قولكم: والمختار أنّ العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم، فننظر في صحّة الحديث، وإذا صحّ نظرنا في معناه ثانياً، فإذا تبيّن فهو الحجة، انتهى كلامكم.

فهل أنتم مجتهدون أم تأخذون من أقوال المفسّرين، وشراح الحديث، وأتباع الأئمة الأربعة؟ فإن كان الثّاني فأخبرونا عن أكثر مَن تأخذون عنه وترضون قوله من علماء أهل السّنة، وفّقنا الله وإيّاكم إلى ما يرضيه. وجنّبنا وإيّاكم العمل بمعاصيه، وسَامَحَنَا وإيّاكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا مقبولةً لديه.

والله أعلم وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

ص: 244

- 20 –

ورد من محمّد الحفظي صاحب اليمن على نجد استفتاء عن ثلاث مسائل مشكلة، فأجاب عنها عبد الله بن الشّيخ بما يكفي ويشفي من الكتاب والسّنة وهذا نصّ الأسئلة:

بسم الله الرّحم الرّحيم.

سؤال ـ أصلح الله العلماء ـ: بناء القباب هل يكون علامةً على الكفر بمجرّد البناء، وكيف حال أهل العصر الثّاني1 عن أصل البناء؟ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، [الأنعام، من الآية: 164، والإسراء، من الآية: 15، وفاطر، من الآية: 18، والزّمر، من الآية: 7] .

وكيف إذا كانت لم يذبح عندها البتة، ولم تتّخذ وثناً يعبد أبداً، وإنّما البناء عليها فقط عادة بدعية؟ فقد علم حديث أبي الهياج الأسدي عن علي، وهنا إشكال أنّ الصّحابة لم يكن في عصرهم تلك البنايات بدليل قبر عثمان بن مظعون، فهذه القبور التي أمر علي بتسويتها هل هي قديمة أو حديث قبر عثمان خاص2، والمراد: السّؤال عن مجرّد البناء من غير حدوث عبادة يشرك بها الولي أبداً، أو يتوسّل إليها أيضاً أفيدونا.

الثّاني: عن الحدود، هل يحلّ إقامتها لغير الإمام، وهل يحلّ لأطراف مَن أجاب دعوتكم إقامتها بجعله نفسه أميراً من غير نصب منكم ونحو ذلك أم لا؟

الثّالث: عن حال مَن صدر منه ما يكون كفراً من غير قصدٍ منه لذلك؛ بل هو جاهل به، هل يعذر أم لا سواء كان ذلك الشّيء قولاً أو فعلاً، أو اعتقاداً، أو توسّلاً؟ وكيف لو مات قبل التّوبة، وقبل العلم بأنّه مكفِّر؟ أفتونا مأجورين.

وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

1 أي: الذي بعد عصر بنائها.

2 كذا في الأصل.

ص: 245

(أجوبة الشّيخ عبد الله بن الشّيخ رحمهما الله) :

بسم الله الرّحمن الرّحيم.

الحمد لله ربّ العالمين، وصّلى الله على خاتم النَّبيّين محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

أمّا بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر وشعائره؛ لأنّ الله أرسل محمّداً صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجلٍ صالحٍ؛ لأنّ اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطّائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدّين فأبى ذلك عليهم، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها.

قال العلماء: وفي هذا أوضح دليلٍ على أنّه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القباب التي بُنيت على القبور، واتّخذت أوثاناً، ولا يوماً واحداً، فإنّها شعائر الكفر، وقد ثبت أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه، والكتابة عليه. وقد قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، [الحشر، من الآية: 7] .

وأمّا قول السّائل: هل يكون علامة على كفر بانيها؟

فهذا يحتاج إلى تفصيلٍ؛ فإن كان الباني قد بلغه هدي الرّسول صلى الله عليه وسلم في هدم البناء عليها ونهيه عن ذلك، وعاند وعصى، أو منع مَن أراد هدمها من ذلك، فذلك من علامة الكفر، وأمّا مَن فعل ذلك جهلاً منه بما بعث الله به رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فهذا لا يكون علامة على كفره، وإنّما يكون علامة على جهله وبدعته وإعراضه عن البحث عما أمره الله به ورسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في القبور.

وأمّا حال أهل العصر الثّاني الذين لم يحضروا البناء، وإنّما فعله آباؤهم

ص: 246

ومتقدّموهم فالرّاضي بالمعصية كفاعلها، وفيها من التّفصيل ما تقدّم في البناء فافهم ذلك.

وهذا، إذا لم يذبح عندها، وتُعْبَد وتُدْعَى ويُرجَى منها جلب الفوائد، وكشف الشّدائد، فأمّا إذا فعل ذلك فهو الشّرك الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ، [المائدة، من الآية: 72] .

وأمّا الإشكال الذي ذكره السّائل في حديث عليّ في القبور التي أمره الرّسول صلى الله عليه وسلم بتسويتها، هل هي قديمة؟

فليس فيه إشكال بحمد الله؛ لأنّه محمول على القبور القديمة كقبور الجاهلية؛ لأنّ البناء على القبور وتعليتها من سنن الجاهلية، ولم يكن ذلك في عهد الصّحابة رضي الله عنهم.

وأمّا حديث قبر عثمان بن مظعون، فليس فيه معارضة لما ذكرنا؛ لأنّ المراد به: إعلام القبر بعلامةٍ يعرف بها؛ كحصاة ونحوها بلا تعلية، ولا بناء، وهذا لا بأس به عند أهل العلم، فحديث قبر عثمان فيه دليل على جواز ذلك لكلّ أحدٍ، وهذا ظاهر ولله الحمد والمنة.

وأمّا الجواب عن السّؤال الثّاني فالذي ذكر العلماء أنّ الإمام هو الذي يقيم الحدود، أو نائبه؛ كالأمير الذي يأمره الإمام على بلده، أو عشيرته. فإذا ثبت ذلك جاز له إقامة الحدود على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله، وبيّنه أهل العلم في كتبهم.

وأمّا إذا كان لا يعرف ذلك، وليس عنده مَن يعلمه بذلك، فلا يجوز له الإقدام على ذلك.

وأمّا إذا نصب نفسه أميراً من غير نصبٍ من أمير المسلمين فلا يجوز له الإقدام عليه أيضاً. والله أعلم.

وأمّا الجواب عن السّؤال الثّالث عن حال مَن صدر منه كفر من غير

ص: 247

قصدٍ؛ بل هو جاهل، هل يعذر أم لا؟ سواء كان ذلك الشّيء قولاً، أو فعلاً، أو اعتقاداً، أو توسّلاً؟

فنقول: إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله ما يكون فعله كفراً، أو قوله كفراً، أو اعتقاده كفراً جهلاً منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافراً، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم الحجة الرّسالية التي يكفر من خالفها.

فإذا قامت عليه الحجّة، وبيّن له ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأصرّ على فعل ذلك بعد قيام الحجّة، فهذا هو الذي يكفر؛ وذلك لأنّ الكفر إنّما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، [الإسراء: من الآية: 15] .

وبقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، [الزّمر: 71] .

واستدلّوا أيضاً بما ثبت في الصّحيحين والسّنن وغيرها من كتب الإسلام من حديث حذيفة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ رجلاً مِمَّن كان قبلكم قال: لبنيه إذا أنا منت فاحرقونِي ثم ذروا نصفي في البرّ ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبنِي عذاباً لا يعذّبه أحداً من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البرّ فجمع ما فيه، ثم قال له: كن فإذا الرّجل قائم، قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال: خشيتك ومخافتك فما تلافاه أن رحمه".

فهذا الرّجل اعتقد أنّه إذا فعل به ذلك لا يقدر الله على بعثه جهلاً منه لا كفراً، ولا عناداً، فشكّ في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه.

وكلّ مَن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى مَن يعرّفه بذلك من أهل العلم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

ص: 248

- 21 -

فتاوى للشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن أسئلة وردت من الأخ سعيد ابن حجي.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وخطك وصل وسألت أبوي عن المسائل التي ذكرت.

أمّا الرّجل الذي مات عندكم وهو فقير ساقط عنه الحج في حياته وعند موته حصل له ثمانية حمران من ناس يعلمهم القرآن، وقال اجعلوها لي في حجة وله ورثة، فنقول: تكون الحمران بين الورثة.

وأمّا الذي أوصى من ثلث ماله بحجّة في دراهم معلومة وهو ميّت قبل هذا الدّين وورثته فقراء هل تصرف عليهم أو يحجّ عنه؟

فنقول: إن وجدوا من يحجّ لوجه الله لا لأجل الدّراهم لكن يتعاون بها فهي على وصيته، وإن كان ما حصل أحد يحجّ عنه على هذا الوجه فهي تصرف على قرابته.

وأمّا الذي يوصي عند موته بعشاء لجيرانه فهل ترده على الورثة أو تصرفه في قرابة الميّت؟

فنقول: يصير على ما قال الموصي؛ لأنّه لم يخالف الشّرع.

وأمّا إذا مات الرّجل وهو غنِي ولم يحجّ ولم يوص بحجّة هل يؤخذ من المال ويحجّ عنه أم تسقط؟

فنقول: يؤخذ قدرها من ماله وينظر في قرابته مّن يحجّ لوجه الله ويعطى الدّارهم يستعين بها، وأنت بحفظ الله وأمانه. والسّلام.

ص: 249

- 22 -

بسم الله الرحمن الرحيم

فتاوى أخرى من الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد ـ رحمهما الله ـ عن هذه المسائل التي وردت من سعيد بن حجي:

الأولى: في البدو إذا كان معهم أهلهم ومالهم ويتّبعون المرعى حيث وجدوه ويتّبعون الماء من أرضٍ إلى أرضٍ، فهل هم مقيمون والحالة هذه أم يجوز لهم التّرخّص كالمسافر؟

فالجواب: إنّا لا نجعلهم كالمقيمين أبداً، ولا مسافرين مطلقاً، بل هذا محلّ تفصيل، فأمّا إذا نزلوا منْزلاً ونووا استيطانه، ما دام المرعى فيه، أو نووا الإقامة فيه وقتاً دون وقتٍ أو نزلوا على ماء ونووا الإقامة عليه ما وجدوا لدوابهم مرعى أو نووا الإقامة على هذا الماء وقتاً دون وقتٍ، فهم والحالة هذه مقيمون تثبت لهم أحكام الإقامة، ولا يستبيحون رخص السّفر؛ لأنّ هذا هو الاستيطان في حقّ هؤلاء، والعرف يشهد بذلك.

وأمّا إذا ظعنوا في هذه المسائل وما أشبهها إلى منْزل آخر، أو من ماء إلى ماء، وما بين المنْزلين، أو المائين مسيرة يومين قاصدين فإنّهم حينئذٍ يكونون مسافرين؛ لأن هذا يُسَمَّى سفراً في حقّ هؤلاء. وكلام صاحب الإقناع على سبيل التّمثيل لا الحصر. وقد ذكروا في الملاّح الذي معه أهله وليس له نيّة الإقامة ببلدانه ليس له التّرخص فيعتبر في السّفر المبيح كونه منقطعاً لا دائماً، ولا بدّ مع ذلك من اجتماع أمرين: أن يكون البدوي معه أهله، وأن ينوي الإقامة في موضعٍ، فإن اختل شرط منهما أبيح له رخص السّفر،

ص: 250

فالبدوي بمنْزلة الملاّح في السّفينة، كما أنّ الملاّح لو نوى الإقامة وهو في سفينة في موضعٍ من البحر ثم سافر إلى موضع آخر لحمل متاع أو غيره حكمنا بأنّه مسافر، ولو كان أهله معه، وهذا هو الذي يظهر لنا، ونفهم من معنى كلام الله ورسوله؛ لأنّ الله تعالى يقول:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ، [النّساء، من الآية: 101] .

وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، [البقرة، من الآية: 184] .

أطلق سبحانه وتعالى للمسافر قصر الصّلاة والفطر في رمضان، ولم يخصّ في ذلك القروي دون البدوي، ولا مَن معه أهله دون مَن ليس معه أهله، ولا نعلم فيما ذكرنا خلافاً بين أهل العلم.

المسألة الثّانية: إذا أعطى الوالد ولده عطية وقبضها ثم مات قبل الرّجوع والتّسوية هل للإخوة الذين لم يعطوا الرّجوع عليه بعد موت المعطي أم لا؟

الجواب: الذي عليه أكثر أهل العلم، وهو الرّاجح عند كثير من الحنابلة وغيرهم أنّها تثبت للمعطى ولا يرجع عليه الذين لم يعطوا شيئاً. ويكون الإثم على الوالد، وهذا هو الذي كان يفتي به شيخنا ـ رحمه الله تعالى ـ.

والقول الثّاني: أنّهم يرجعون على المعطى ويكونون فيها سواء، وهذا اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، وهو أقرب إلى ظواهر الأدلّة. والله أعلم.

الثّالثة: عندنا امرأة أعطت أولادها الذّكور عطية دون البنات بزعم البنات..الخ وهل الأم كالأب في وجوب التّسوية؟

فالجواب: كلام الشّارع صلى الله عليه وسلم في وجوب التّسوية شامل للأم، فإن كانت المرأة تزعم أنّها معطية البنات مثل ما أعطت الأولاد، وأمكن صدقها فحسن، ولا تعرضوا لها بشيء، فإن ثبت عندكم بإمارة أنّها بارّة الأولاد

ص: 251

وقاطعة البنات لزمكم أن تلزموها مثل ما أعطت الأولاد، أو على قدر ميراثهم للذّكر مثل حظّ الأنثيين على ظاهر كلام أحمد وغيره من أهل العلم.

فإن ادّعت بغير ذلك وزعمت أنّها ما أعطتهم هذا العطاء الجزيل إلاّ لأجل أنّ عندها لهم شيئاً أو غير ذلك من الأعذار التي يمكن معها صدقها، فإن كانوا قد خلصوا عند أخوي حسين أو غيره فلا تعرضوا لهم.

الرّابعة: إذا فضل الوالد في صحّته بإذن الذين لم يفضلوا بعض الأولاد هل يصحّ هذا أم لا؟

الجواب: الذي يظهر لي صحّة ذلك إذا أذنوا بطيب نفس ورضيها؛ لأنّ الحقّ لهم في ذلك كما أنّه لا يجوز الوصية بزيادة على الثّلث إلاّ بإذن الورثة. والله أعلم.

الخامسة: هل المفتَى به عندكم التّفرقة بين المملوكة وولدها بعد البلوغ أم لا؟

الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وأنا أذكر لك المسألة وكلامهم فيها حتى يتبيّن لك وجه الصّواب إن شاء الله تعالى.

قال في الشّرح الكبير: ولا يفرق في البيع بين ذي رحم محرم إلاّ بعد البلوغ على إحدى الرّوايتين، وأجمع أهل العلم على أنّ التّفرقة بين الأم وولها الطّفل غير جائز، ثم ذكر الدّليل والتّعليل، ثم قال: ولا فرق بين أن يكون الولد بالغاً أو طفلاً في ظاهر كلام الخرقي وإحدى الرّوايتين؛ ولعموم الخبر؛ ولأنّ الوالدة تتضرّر بمفارقة ولدها الكبير، ولهذا حرم عليه الجهاد إلاّ بإذنها.

قال في الإنصاف: وهو المذهب، وجزم به في المنور وناظم المفردات، وهو منها واختاره ابن عبدوس وقدمه في المحرر وغيرها.

ص: 252

قال الشّارح (والرّواية الثّانية) يختصّ تحريم التّفريق بالصّغير، وهو قول الأكثرين منهم: مالك، والأوزاعي، واللّيث، وأبو ثور، وهو قول الشّافعي؛ لأنّ سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فوهبها له، ولم ينكر التّفريق بينهما. ولأنّ الأحرار يتفرّقون بعد الكبر فإنّ المرأة تزوّج ابنتها وتفارقها، فالعبيد أولى انتهى. قال في الإنصاف: الثّانية: يجوز التّفريق ويصحّ البيع جزم به في العمدة، والوجيز، قال النّاظم: وهو أولى انتهى.

وهذا الحديث الذي احتجوا به نصّ في جواز التّفرقة بينهما بالهبة بعد البلوغ والبيع مثله إن شاء الله تعالى. وهو حديث صحيح ثابت. رواه مسلم وغيره، وهو الأصح عندنا.

قال في الإنصاف: حكم التّفرقة في القسمة وغيرها كأخذه بجناية والهبة والوصية والصّدقة وغيرها حكم البيع على ما تقدّم، ولا يحرم التّفريق بالعتق ولا بالافتداء بالأسرى على الصّحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. قال الخطابي: لا أعلمهم يختلفون في العتق؛ لأنّه لا يمنع من الحضانة.

السّادسة: هل الحكم يختصّ بالأم أم يعمّ ذلك كلّ ذي رحم محرم كالأب والأخ ونحوهما؟

الجواب: قال في الشّرح: ولا يجوز التّفريق بين الأب وولده، وبه قال أصحاب الرّأي، والشّافعي. وقال مالك واللّيث: يجوز. وبه قال: بعض الشّافعية؛ لأنّه ليس من أهل الحضانة بنفسه. ولأنّه لا نصّ فيه، ولا هو في معنى المنصوص؛ لأنّ الأم أشفق منه. ولنا أنّه أحد الأبوين أشبه الأم، ولا نسلم أنّه من أهل الحضانة. انتهى.

قال في الإنصاف: لا يجوز التّفريق بين ذوي محرم هذا المذهب، وعليه الأصحاب. قال في المغني: وتبعه في الشّرح. قاله

ص: 253

أصحابنا غير الخرقي. وجزم به في الفروع والرّعايتين والحاويين وغيرها، فيدخل في ذلك العمة مع ابن أخيها، والخالة مع ابن أختها. وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بالأبوين، والجدّين، والأخوين ونصّره في المغني، والشّرح. وظاهر كلام المصنّف تحريم التّفريق ولو رضي به، وهو صحيح نصّ عليه أحمد. انتهى.

واحتجّ في الشّرح على تحريم ذلك بين الأخوة بحديث عليّ في الغلامين الأخوين فلما باع أحدهما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ردّه ردّه". رواه التّرمذي وحسّنه.

وبما روي أنّ عمر كتب إلى عماله: لا تفرّقوا بين الأخوين ولا بين الأمّ وولدها، وإنّما يحرم التّفريق بينهم في الصّغر، وما بعده فيه الرّوايتان كالأصل. الأولى الجواز؛ لأنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت. والله أعلم.

الثامنة: عبد عتق وتحته أمّة الخ.

الجواب: الذي يظهر من كلامهم أنّه لا بأس باستدامة نكاح الأمة؛ لأنّهم نصّوا في الحرّ المسلم إذا وجد فيه الشّرطان المبيحان للنّكاح وهما: عدم وجود الطّول لنكاح الحرّة المسلمة وخوف العنت، فتزوج الأمة لذلك ثم أيسر وزال خوف العنت أنّه يجوز استدامة نكاح الأمة. قالوا: لأنّ الاستدامة ليست كابتداء النّكاح، قالوا: واستدامة النّكاح تخالف ابتداءه بدليل أنّ العدّة والرّدّة وأمن العنت يمنع ابتداءه دون استدامته. قالوا: وكذلك لا يبطل نكاح بتزوّج حرّة عليها على الأصحّ؛ لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: إذا تزوّج الحرّة على الأمة قسم لها ليلتين، وللأمة ليلة، ثم رأيت بعض فقهاء الشّافعية صرح بذلك في المسألة التي تسأل عنها، فقال: والصّحيح أنّ العبد إذا أعتق وتحته أمة أنّه لا خيار له. قلت: وظاهر هذا

ص: 254

يقتضي جواز استدامة العبد إذا عتق نكاح الأمة. والله أعلم.

يقتضي جواز استدامة العبد إذا عتق نكاح الأمة. والله أعلم.

التّاسعة: امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثاً وشهد معها أبوها والزّوج منكر.

الجواب: قال ابن القيم في (إعلام الموقّعين) : وفي حديث عمرو بن شعيب إذا شهد الشّاهد الواحد وحلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المّرأة ويقضى عليه، وقد احتجّ الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب ففي هذا الحديث أنّه يقضي بشاهدٍ وما يقوم مقام شاهدٍ آخر من النّكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهداً واحداً وحلف الزّوج أنّه يطلق فيمين الزّوج عارضت شهادة الشّاهد وترجّح جانبه بكون الأصل معه، وأمّا إذ نكل الزّوج فإنّه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهدٍ آخر، ولكن هنا لم يقض بالشّاهد ويمين المرأة ابتداء؛ لأنّ الرّجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلاً ظاهراً جداّ على صدق المرأة فلم يقض بالنّكول وحده ولا يمين المرأة إنّما قضى بالشّاهد المقوّى بالنّكول ويمين المرأة. انتهى كلامه ملخّصاً.

فأنت تحكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمّد بن سلطان أنّ والدي الشّيخ رحمه الله يقول هذا الذي نفتِي به إذا وقعت المسألة.

العاشرة: رجل وأخوه بينهما شركة في أرضٍ تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادّعى أنّه اشتراها من أخيه ولكن الشّهود ماتوا.

فالجواب: الذي نفهم أنّ هذا على الأصل يلزم مدّعي الشّراء بيّنة، فإن لم يجد بيّنة حلف المنكر أنّه لم يبعها عليه، وأنّها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأمّا كونها في يد أحدهما ويتصرّف

امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثاً وشهد معها أبوها والزّوج منكر.

الجواب: قال ابن القيم في (إعلام الموقّعين) : وفي حديث عمرو بن شعيب إذا شهد الشّاهد الواحد وحلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المّرأة ويقضى عليه، وقد احتجّ الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب ففي هذا الحديث أنّه يقضي بشاهدٍ وما يقوم مقام شاهدٍ آخر من النّكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهداً واحداً وحلف الزّوج أنّه يطلق فيمين الزّوج عارضت شهادة الشّاهد وترجّح جانبه بكون الأصل معه، وأمّا إذ نكل الزّوج فإنّه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهدٍ آخر، ولكن هنا لم يقض بالشّاهد ويمين المرأة ابتداء؛ لأنّ الرّجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلاً ظاهراً جداّ على صدق المرأة فلم يقض بالنّكول وحده ولا يمين المرأة إنّما قضى بالشّاهد المقوّى بالنّكول ويمين المرأة. انتهى كلامه ملخّصاً.

فأنت تحكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمّد بن سلطان أنّ والدي الشّيخ رحمه الله يقول هذا الذي نفتِي به إذا وقعت المسألة.

العاشرة: رجل وأخوه بينهما شركة في أرضٍ تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادّعى أنّه اشتراها من أخيه ولكن الشّهود ماتوا.

فالجواب: الذي نفهم أنّ هذا على الأصل يلزم مدّعي الشّراء بيّنة، فإن لم يجد بيّنة حلف المنكر أنّه لم يبعها عليه، وأنّها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأمّا كونها في يد أحدهما ويتصرّف

ص: 255

فيها من قدر ثمان سنين فمثل هذا ما يصير بيّنة ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة؛ لكونه يدّعي أنّه اشتراها والآخرة منكر، ولم يدع أنّها ملكه لا حقّ للآخر فيها بل هو مقرّ بملك أخيه فيها لكنه يدّعي الشّراء، وهذا الذي تقرّر عندنا. والأخ حمد بن ناصر.

الحادية عشرة: رجل وقع على امرأته بعد ما تبيّن الفجر ووضح الصّبح وهو ناس لصومه.

الجواب: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن الإمام أحمد:

أحدهما: أنّ النّاسي كالعامد يقضي ويكفر وهو قول مالك والظّاهرية.

الثّاني: لا يكفر وليس عليه إلاّ القضاء اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك.

الثّالث: لا يقضي ولا يكفر، اختاره الآجري أبو محمّد الجوزي والشّيخ تقيّ الدّين، وهو مذهب أبي حنيفة والشّافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجّح عندنا.

الثّانية عشرة: ما قولكم في الوقف على مَن يقرأ للميّت بالإدارة، أو غيرها؟

فنقول: في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن هذه المسألة بعينها، قال في الجواب: أمّا قراءة القرآن ففي وصوله للميّت نزاع إذا قرأ لله. فأمّا استئجار مَن يقرأ ويهدي إلى الميّت فهذا لم يستحبّه أحد من العلماء المشهورين، فإنّ المعطي لم يتصدّق لله لكن عاوضوا على القراءة والقارئ قرأ للعوض والاستئجار على نفس التّلاوة غير جائز، وإنّما النّزاع في الاستئجار على التّعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثّواب لا يصل إلى الميّت إلاّ إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر فلا ثواب فيه.

وإن قيل: يصح الاستئجار عليه، وإذا تصدّق على مَن يقرأ القرآن ويتعلّمه كان له مثل أجر مَن

ص: 256

أعانه على القراءة من غير أن ينقص من أجورهم شيء. وينتفع الميّت بذلك، وإذا أوصى الميّت أن يصرف ماله في هذه الختمة وقصده التّقرب إلى الله فصرف في محاويج يقرؤون القرآن ختمة أو أكثر كان ذلك أفضل وأحسن.

الثالثة عشرة: هل يجوز تحمل الشّهادة وأداؤها بعد التّحمّل إن لم يعلم الشّاهد إلاّ بعد التّحمّل أم لا؟

فالجواب: لا يجوز لقوله عليه السلام: "إنِّي لا أشهد على جور".والجور لا يجوز الشّهادة عليه، وأمّا قوله عليه السلام:"اشهد على هذا غيري "، فأجاب عنه بعض العلماء بأنّ هذا على سبيل الزّجر والرّدع، كقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، [فصلت، من الآية: 40]، وقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، [الكهف، من الآية: 29] .

الرابعة عشرة: هل يجوز الاعتمار من مكّة بعد طواف الإفاضة من التّنعيم؟

فالجواب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، والذي عليه الأكثر جواز ذلك واستحبابه. واختار الشّيخ1 وتلميذه ابن القيم أنّه لا يسنّ ولا يستحبّ؛ لأنّه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه سوى عائشة، فإنّه أذن لها في ذلك تطييباً لقلبها، ولو كان ذلك سنة لفعله الصّحابة وبادروا إليه وهم الأسوة والقدوة في الدّين.

الخامسة عشرة: وهي ما ذكر لك أنّ بعض العيال أفتى أنّ مَن لم يطف يوم العيد وأراد أن يطوف بعده فعليه أن يحرم بعد رمي جمرة العقبة والذّبح والحلق، فالذي أفتى به الأخ عليّ ـ عفا الله عنه ـ لحديث بلغه في ذلك، لكن

1 يعنِي: ابن تيمية، بدليل ذكر تلميذه، وخالف بهذا الإطلاق اصطلاح فقهاء الحنابلة بإطلاق لقب الشّيخ على ابن قدامة، ولكن إذا أطلق شيخ الإسلام انصرف إلى ابن تيمية.

ص: 257

ما لزم أحداً فعله ونحن ما جسرنا على الفتيا به؛ لأجل أنّه خلاف أقوال العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وهو ما روته أم سلمة قالت كانت ليلى التي يصير إلَيَّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النّحر فصار إلي فدخل وهب بن زمعة ومعه رجل متقمصين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب بن زمعة:"هل أفضت أبا عبد الله؟ "، قال: لا. والله يا رسول الله. قال: "انزع عنك القميص".فنَزعه من رأسه ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: وَلِمَ يا رسول الله؟ قال: "إنّ هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلّوا من كلّ ما أحرمتم منه إلاّ النّساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به ".قال ابن جماعة: رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ. قال البيهقي: لا أعلم أحداً من القدماء قال به. قال: النّووي فيكون الحديث منسوخاً دلّ الإجماع على نسخه. الله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 22 -

من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، خطّك وصل وصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة كثرة السّؤال فالحرص على العلم ينفع الله به، ولا ينقد على الإنسان إلاّ الغفلة عمّا أشكل عليه.

فأمّا المسألة الأولى وهي: قوله إن زرعت أرضي حبّا فهي بكذا كيلاً مسمّى، أو شعيراً بكذا، أو قطنا بكذا، وزناً معلوماً فهذه المسألة فيها

ص: 258

خلاف مشهور في القديم والحديث، والذي نعمل عليه من أقوال العلماء أنّ هذا لا بأس به إذا كان كيلاً معلوماً، أو وزناً معلوما، أو جزأ مشاعاً معلوماً؛ كالثّلث، والرّبع ونحو ذلك. والله أعلم.

وأمّا قوله: إلاّ أن يكره بحقّ كمَن يكره على بيع ماله لوفاء دينه فهذا لا بأس بالشّراء منه سواء رضي بذلك أو لم يرض.

وأمّا العمرى والرّقى ففيها خلاف مشهور، والأحاديث فيها متعارضة، والذي نختاره أنّه إذا شرط فيها الرّجوع رجعت إلى مالكها. والله أعلم.

وأمّا الفرق بين العطية والوصية فالفرق بينهما ظاهر كما ذكره في الشّرح أنّها تفارقها في أربعة أشياء.

وأمّا كون أهل بلدٍ لا يفرّقون بينهما فالألفاظ لا يعتبر بها فإذا كان عندهم أنّ الوصيّة بمعنى العطية والهبة فهي كذلك، وكذلك لفظ الصّدقة، فكلّ هذا ينظر إلى مقصود المتكلّم بذلك وعرفه في بلده. فإن كان مراده أنه ممضيها له في حياته وبعد موته صارت بمعنى العطية والهبة، وإن كان العرف عندهم أنّ مراده بذلك إن مات فهي بمعنى الوصية يثبت لها أحكامها. والله أعلم.

وأمّا التي ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، واعتدّت بسنةٍ ثم عاودها الدّم قبل مضي السّنة؛ فإنّها ترجع وتعتدّ بالحيض، ولا تحتسب بما تقدّم كالبكر إذا اعتدت بالأشهر ثم جاءتها الحيضة فإنّها تعتدّ بالإقراء. والله أعلم.

وأمّا إذا آجر إنسان أرضه لِمَن يزرعها قطناً وشرط عليه أنّه لا أجرة له في السّنة الأولى، فإذا خرج عنها فالشّجر والثّمر لربّها عن أجرة أرضه. فالظّاهر أنّ مثل هذا لا يجوزه الفقهاء؛ لما فيه من الغرر، وإنّما تجوز الإجارة بشيء معلوم. والله أعلم.

وأمّا إذا احتاج أهل بلدٍ إلى أرض إنسانٍ يجعلونها مسجداً فطلبوا من صاحب المال بيعها أو وقفها فأبى فالظّاهر أنّه لا يجبر. والله أعلم.

ص: 259

- 23 -

من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخطّ وصلك الله إلى رضوانه.

وإن سألت عنا فنحمد إليك الله في خيرٍ وعافيةٍ وما ذكرت من المسائل:

فالأولى: شهادة المملوك هل تقبل في الحدود والقصاص والأموال أم لا؟

الجواب: أنّ الذي عليه جمهور العلماء أنّها تقبل في الأموال. قال في الإنصاف: شهادة العبد لا يخلو إما أن تكون في الحدود والقصاص أو في غيرهما، فإن كانت في غيرهما قبلت على الصّحيح من المذهب، وإن كانت في الحدود والقصاص قبلت أيضاً على الصّحيح من المذهب، نصّ عليه. انتهى.

قلت: واختار هذا القول جمع من الحنابلة وغيرهم منهم: الشّيخ تقيّ الدّين ـ رحمه الله تعالى ـ، قال في الاختيارات: ولا تشترط الحرية في الشّهادة، وهذا مذهب أحمد، وظاهر كلام أبي العباس، ولو في الحدود والقصاص، وهو رواية عن أحمد. انتهى.

قال بعضهم: لا أعلم أحداً ردّ شهادة العبد، وهذا إن شاء الله هو الصّواب، لاسيما إذا كانت شهادته في الأموال والمراد بذلك إذا كان عدلاً قد تمت فيه شروط قبول الشّهادة. والله أعلم.

المسألة الثّانية: هل تكره الصّلاة على أحدٍ من أموات هذه الأمةّ غير الغالّ، وقاتل نفسه أم لا؟

وهل الكراهة للإمام فقط أم للكل؟

الجواب: أنّ الصّلاة تكره على غير الغالّ، وقاتل نفسه؛ مثل: المجاهر بالفسق والكبائر، فقد قال الشّيخ تقيّ الدّين: ينبغي لأهل العلم والدّين أن يدعوا الصّلاة عليه عقوبةً ونكالاً لأمثاله، لتركه صلى الله عليه وسلم الصّلاة على قاتل

ص: 260

نفسه، وعلى الغالّ، والمدين الذي لا وفاء له، وإن كان منافقاً كمَن علم نفاقه لم يصلّ عليه، ومَن لم يعلم نفاقه صلّي عليه، ومَن مات مظهراً للفسق منع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فلا بدّ أن يصلّي عليهم بعض النّاس، ومَن امتنع من الصّلاة على أحدٍ منهم زجراً لأمثاله كان أحسن. ولو امتنع في الظّاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان أولى من تفويت أحدهما. انتهى.

والمراد بكراهة الصّلاة على أهل الكبائر للإمام خاصّة، أو لأهل العلم والدّين المقتدى بهم. والله أعلم.

المسألة الثّالثة: جراح العبد إذا جني عليه الحرّ عمداً فيما دون النّفس هل يجب فيه قصاص عند مَن يمنع القود به في النّفس أم ليس هنا إلاّ القيمة في النّفس وما دونها؟

الجواب: قال في الإنصاف: كلّ مَن أقيد بغيره في النّفس أقيد به فيما دونها، ومَن لا فلا. يعني: ومَن لا يقاد بغيره في النّفس لا يقاد به فيما دونها. وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. كذا ذكره في أوّل باب ما يوجب القصاص، فيما دون النّفس، وقال في باب شروط القصاص: ولا يقتل حرّ بعبدٍ، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. وقال الشّيخ تقيّ الدّين: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة تمنع قتل الحر به، وقوّى أنّه يقتل به. وقال هذا الرّاجح، وأقوى على قول أحمد.

ثم قال: في الإنصاف: ولا يقتل مسلم بكافرٍ، ولا حرّ بعبدٍ إلاّ أن يقتل وهو مثله، أو يجرحه ثم يسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق ويموت المجروح؛ فإنّه يقتل به، يعني: إذا قتل عبد عبداً، أو ذمي أو مرتدٌّ ذميا، أو جرحه ثم أسلم القاتل أو الجارح، أو عتق ويموت المجروح؛ فإنّه يقتل به على الصّحيح من المذهب. نصّ عليه، وعليه جماهير الأصحاب. انتهى.

ص: 261

المسألة الرّابعة: عمد المملوك إذا جنى على الحرّ ما حكمه؟

فجوابها يعرف من التي قبلها، وهو أنّه إن كان موجباً للقصاص في النّفس أو فيما دونها فإنّه يقتصّ منه، وإن عفي عنه إلى الدّية فإنّها تكون في رقبة العبد دَين في ذمّته يباع فيها.

المسألة الخامسة: هل للإمام أو نائبه أو الحاكم أن يلزموا المجني عليه أن يأخذ القصاص من الجاني، ولو طلب الأرش أم ليس لهم ذلك؟

وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلاّ القصاص منه يوافق على أخذ القصاص منه أم العبرة بالمجني عليه؟

والجواب أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه إلزام المجني عليه أن يأخذ القصاص من الجاني، ولو طلب الدّية إلاّ في مسألة الغيلة؛ فإنّ مذهب مالك أنّه يقتل حدّاً، وأمره إلى الإمام، ولو عفا أولياء القتيل، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، لا يمكن التّحرز منه بالمحاربة، وكذلك قاتل الأئمة فإنّ القاضي خرج وجهاً في المذهب أنّه يقتل حداً.

وقال السّائل: وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلاّ القصاص منه يوافق على ذلك أم العبرة بالمجني عليه؟

فهذه المسألة مبنية على أصلٍ وهو أنّه هل الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدّية، أو أنّ الواجب في قتل العمد القصاص عيناً؟

وفي ذلك قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد. قال في الشّرح الكبير: اختلفت الرّوايات عن أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ في موجب العمد فروي عنه أنّ موجبه القصاص عيناً، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن قتل عمداً فهو قود".

وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، [البقرة، من الآية: 178] .والمكتوب لا يتخيّر فيه. ولأنّه متلف يجب به البدل فكان معيناً كسائر المتلفات. وبه قال النّخعي ومالك وأبو حنيفة. قالوا: ليس للأولياء إلاّ القتل

ص: 262

إلاّ أن يصطلحا على الدّيّة برضا الجاني.

والمشهور في المذهب أنّ الواجب أحد شيئين: إما القتل أو الدّية، والخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتصّ، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة؛ لأنّ كلّ مَن له قتله فله العفو عنه، كالمنفرد، ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو عن البعض؛ لأنّهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر، فمتى اختار الأولياء أخذ الدّية من القاتل أو من بعض القتلة، كان لهم هذا من غير رضا الجاني. وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، والشّافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وهي رواية عن مالك لقوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان} ، [البقرة، من الآية: 178] .

قال ابن عبّاس: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدّية، فأنزل الله هذه الآية:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، [البقرة، من الآية: 178] .انتهى.

والعفو أن يقبل في العمد الدّية فاتّباع بالمعروف يتّبع بمعروف، ويؤدّي إليه المطلوب بإحسان، ذلك تخفيف من رّبكم ورحمة مما كتب على بني إسرائيل. رواه البخاري.

وروى أبو هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَن قتل له قتيل فهو بخير النّظرين: إمّا أن يؤدى، وإمّا أن يقاد". متّفق عليه.

وروى أبو شريح أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل، وأنا والله عاقله، فمَن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبّوا قتلوا، وإن أحبّوا أخذوا الدّية".رواه أبو داود وغيره.

فإذا قلنا موجبه القصاص، فله العفو إلى الدّية، والعفو مطلقاً فإذا عفا مطلقاً لم يجب شيء. وهذا ظاهر مذهب الشّافعي، وقال بعضهم: تجب الدّية لئلا يبطل الدّم. وليس بشيء؛ فإنّه لو عفا عن الدّية بعد وجوبها صحّ عفو ومتى عفا عن القصاص مطلقاً إلى غير مالٍ لم يجب شيء إذا

ص: 263

قلنا الواجب القصاص عيناً. فإن عفا عن الدّية لم يصحّ عفوه؛ لأنّها لم تجب، وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه، فعفا عن القصاص مطلقاً أو إلى الدّية وجبت الدّية؛ لأنّ الواجب غير معيّن، فإذا ترك أحدهما تعيّن الآخر. وإن اختار الدّية سقط القصاص، ولم يملك طلبه؛ لأنّ الواجب أحد شيئين، فإذا تعيّن أحدهما سقط الآخر. وإن اختار القصاص تعيّن لذلك، وإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدّية فله ذلك. ذكره القاضي؛ لأنّ القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلاً عن القصاص، وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرّواية الأولى إنّ الواجب عيناً، وله العفو إلى الدّية. ويحتمل أنّه ليس له ذلك؛ لأنّه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها. وعنه أنّ الواجب القصاص عيناً وله العفو إلى الدّية، وإن سخط الجاني؛ لما ذكرنا. قال في الإنصاف: وهذا الصّحيح على هذه الرّواية. وقال في المحرّر: وعنه موجبه القود عيناً مع التّخيير بينهما. وعنه أنّ موجبه القود عيناً وأنّه ليس له العفو على الدّية بدون رضا الجاني فيكون قوده بحاله. انتهى.

والصّحيح إن شاء الله أنّ موجبه أحد شيئين: القصاص أو الدّية، وأنّ الخيرة في ذلك إلى الولي. والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 24 -

بسم الله الرحمن الرحيم

فتاوى للشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن أسئلة وردت عليه من سعيد ابن حجي وهي هذه:

سألت ـ رحمك الله عن مسائل:

الأولى: إذا أسلم رجل آخر في دراهم في تمر ثم صلحت الثّمرة فأخذ من التّمرة خرصاً على رؤوس النّخل وتصرفه

ص: 264

فيه ببيع، أو نححوه هل يكون هذا قبضاً لدين السّلم أم لا؟

فإن قلتم قبضاً فما تفعل بقولهم يحصل القبض فيما بيع بالكيل أو الوزن بكيله أو وزنه؟ وذكروا الأدلّة على ذلك. ثم قالوا: وعن أحمد رواية أنّ قبض جميع الأشياء بالتّخلية.

فنقول: وبالله التّوفيق: يجوز أن يأخذ المسلم فيه جزافاً مثل أن يأخذ ثمرة من التّمر خرصاً على رؤوس النّخل أو في البيدر.

قال البخاري رحمه الله: باب إذا قاص أو جازف في الدّين فهو جائز تمر بتمر أو غيره ثم روى بإسناده عن جابر أنّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظر فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّم اليهود ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى فدخل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فمشى فيها ثم قال لجابر:" جذّه له فأوف له الذي له "، فجذه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقاً، وفضل له سبعة عشر وسقاً فجاء جابر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيخبره بالذي كان فوجده يصلّي العصر فلما انصرف أخبره بالفضل فقال:"أخبر بذلك ابن الخطاب"، فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن الله فيها. اهـ.

فترجمة البخاري والحديث الذي ذكره دالّ على جوازه، وهو اختيار شيخنا رحمه الله. وترجمة البخاري على حديث جابر ترجمة أخرى، فقال: باب إذا قضى دون حقّه وحلله فهو جائز. انتهى.

وباب الإيفاء عندهم أسع من باب البيع، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع.

وأمّا كلام الفقهاء، فقال في المغني والشّرح: لا يقبض ما أسلم فيه كيلاً إلاّ بالكيل، ولا وزناً إلاّ بالوزن، ولا بغير ما قدر به وقت العقد؛ لأنّ الكيل والوزن يختلفان، فإنّ قبضه بذلك أي قبض المكيل وزناً والموزون كيلاً فهو كقبضه جزافاً. ومتى قبضه فإنّه يأخذ قدر حقّه

ص: 265

ويردّ الباقي ويطالب بالنّقص إن نقص.

وهل له أن يتصرف في قدر حقّ من قبل أن يعتبره؟ على وجهين انتهى.

فمعنى كلامهم أنّه إذا قبضه جزافاً لا بأس به لكن لا يتصرف ببيع أو نحوه حتى يعتبره بما قدر به. وهذا على الرّواية الأولى التي هي المذهب عندهم وقد عرفت أنّ الرّاجح الجواز.

المسألة الثّانية: إذا باع العامي دين السّلم قبل قبضه فمعلوم أنّه غير متناول هل يصحّ هذا البيع أم لا؟

فإن قلتم يصحّ، فما نصنع بقولهم في الشّرح: ولا يجوز مسلم فيه قبل قبضه بغير خلاف علمناه، وذكر الحديث في النّهي. وقال في الإنصاف: وعنه يجوز اختاره الشّيخ. انتهى.

فالجواب: أنّ ذلك لا يجوز كما نصّ عليه في الشّرح، واستدلّ عليه في الحديث الصّحيح.

وأمّا الرّواية الثّانية التي اختارها الشّيخ فالمراد جواز بيعه من بائعه فقط مطلقاً، بدليل تعليل الشّيخ تقي الدّين بذلك. قال في الأنصاف: وفي المربع وغيره رواية بأنّه يصحّ، يعنِي: بيع المسلم فيه قبل قبضه اختاره الشّيخ تقي الدّين. وقال: هو قول ابن عبّاس، لكن يكون بقدر القيمة فقط؛ لئلا يربح فيما لم يضمن. قال: وكذا ذكره أحمد في بدل القرض. انتهى. وبدليل ما ذكره صاحب الإنصاف عند قول صاحب المقنع: ومَن اشترى مكيلاً أو موزوناً لم يجز بيعه حتّى يقبضه. هذا هو المذهب مطلقاً، وعليه الأصحاب، وعنه يجوز لبائعه. اختاره الشّيخ تقيّ الدّين، وجوّز التّولية فيه والشّركة. انتهى.

فدلّ ذلك على أنّ المراد بيعه من بائعه. والصّحيح عندنا عدم جواز بيعه من بائعه وغيره حتّى يقبضه، فيكون بيع العامي المسؤول عنه باطلاً لمخالفته لحديث نهي عن بيع الطّعام قبل قبضه. والله أعلم.

ص: 266

ثم رأيت كلام الشّيخ في الاختيارات على عمومه كما ذكره صاحب الإنصاف في السلّم: فقال يصحّ بيع الدِّين في الذّمّة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السّلم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عبّاس لكن بقدر القيمة لئلا يربح فيما لم يضمن. انتهى.

المسألة الثّالثة: قال في الكافي وغيره: وإن وكله في البيع وأطلق لم يملك البيع بأقلّ من ثمن المثل ـ إلى أن قال ـ: فإن باع بأقل من ثمن المثل وبأقل مما قدر له فنعه البيع، وعنه يصحّ ويضمن الوكيل النّقص ولا عبرة بما يتغابن به النّاس كدرهم من عشرة. وكذلك ذكروا إذا وكل في الشّراء وأطلق فما المفتَى به؟

فنقول: في الاختيارات قال في المحرر: وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل، أو باع بدونه صحّ ولزمه النّقص في مسألة البيع. قال أبو العبّاس: وكذلك الشّريك والوصي والنّاظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك. قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرط.

وأمّا إذا احتاط في البيع والشّراء ثم ظهر غبن أو بيع لم يقصر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل عمله بالعزل أبين من هذا النّاظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجر أو زارع أو ضارب ثم تبيّن أنّه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفاً ثم تبيّن الخطأ فيه، مثل: أن يأمر بعمارة أو غرس ، نحو ذلك، ثم تبيّن أنّ المصلحة في خلافه. وهذا باب واسع، وكذلك المضارب والشّريك، فإنّ عامة مَن يتصرّف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة وحصول المفسدة، ولا لوم عليه ولا تضمين بمثل هذا. انتهى كلامه.

فقد عرفت أنّ اختيار الشّيخ عدم تضمينه إذا لم يفرط ومقتضى كلام الشّيخ القول المشهور في المذهب، وهو صحّة البيع وتضمين الوكيل

ص: 267

النّقص وشرط الشّيخ في ذلك إذا فرط وهو الأظهر عندنا.

وأمّا إذا فرط فحينئذٍ يتوجه القول بالبطلان وعدم انعقاد البيع، كما هو قول أهل العلم. والله أعلم.

المسألة الرّابعة: إذا علق الرّجل طلاق امرأته على شرطٍ وأراد إبطاله قبل وجود الشّرط برجعتها، أو قال: أبطلت ما علقت هل له ذلك أم لا؟

فنقول: قال في الإنصاف: إذا علق الطّلاق على شرطٍ لزم وليس له إبطاله. هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة وقطعوا به. وذكر في الانتصار والواضح رواية بجواز فسخ العتق المعلّق على شرطّ. قال في الفروع: ويتوجه ذلك في طلاقه. ذكره في باب التّدبير.

وقال الشّيخ تقيّ الدّين أيضاً: لو قال: إن أعطيتِنِي أو إذا أعطيتِنِي أو متى أعطيتِِنِي ألفاً فأنتِ طالق، أنّ الشّرط ليس بلازمٍ من جهته؛ كالكتابة عنده. قال في الفروع: ووافق الشّيخ تقي الدّين على شرط محض؛ كإن قدم زيد فأنت طالق. قال الشّيخ تقي الدّين التّعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، فإن كانت لازمة فلازم، وإلاّ فلا يلزم الخلع قبل القبول، وإلاّ الكتابة، وقول مَن قال التّعليق لازم دعوى محررة. انتهى.

فتحرّر أنّ التّعليق على شرط قسمان:

أحدهما: تعليق محض بلا شرط معاوضة؛ كقوله: إن قدم زيد فأنتِ طالقٌ، أو إن دخلتِ الدّارَ فأنتِ طالق، أو إن خرجتِ فأنتِ طالق، فهذا ليس له إبطاله على قول الجماعة، ووافقهم الشّيخ تقيّ الدّين على ذلك وهو الصّواب.

القسم الثّاني: تعليق بشرط معاوضة؛ كقوله: إن أعطيتِنِي ألفاً فأنتِ طالق، أو متى أعطيتِنِي، أو إذا، فهذا تعليق بشرط معاوضة، وليس بلازمٍ من جهة الزّوج عند الشّيخ تقي الدّين.

ص: 268

وأمّا قولك ـ أيّدك الله بروحٍ منه ـ هل له إبطال الشّرط برجعتها؟

فمعلوم أنّ الطّلاق لا يقع حتّى يوجد الشّرط فكيف يراجعها؟

وأمّا قولك: وهل الطلقتان والثّلاث في ذلك سواء؟

فهما سواء ولا فرق بينهما في ذلك بلا نزاع نعلمه.

الخامسة: إذا ذهب لرجلٍ دابة وحلى عليها بشيء وهي التي يسمّيها البدو الحولاة والبلاسة، بأن يقول: مَن رأى أو أخبرنِي بدابتِي فله كذا، فأخبره، ولم يعمل شيئاً وإنّما هو مجرّد الخبر، هل يحلّ له ذلك للخبر أم لا؟ لأنّه من التّعاون على البر والتّقوى، وأخبر أخاك الخ، وهل يلزم ربّ الدّابّة ما قال؛ لأنّه من تمام الوعد أم لا؟ أم هي مسألة اجتهاد؛ لأنّها مصلحة لحفظ المال؟

فنقول: جزم الفقهاء بأنّ الجعل جائز؛ فلو التقطها مثلاً بعد أن يعلم بالجعالة لم يستحقّ الجعل، قال في الشّرح الكبير في باب الجعالة: هي أن يقول: مَن ردّ عبدي أو لقطتِي فله كذا، فإذا قال ذلك فمَن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقّه لما ذكرنا من الآية، وحديث أبي سعيد، يعنِي قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} ، [يوسف، من الآية: 72] .وحديث أبِي سعيد في رقية اللّديغ.

قال: وإن فعل قبل ذلك لم يستحقّه، سواء ردّه قبل بلوغه الجعل أو بعد، إذا التقط لقطة قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقّ الجعل؛ لأنّه؛ لأنّه التقطها بغير عوضٍ وعملٍ في مال غيره بغير جعلٍ فلم يستحقّ شيئاً كما لو التقطها ولم يجعل فيها ربّها شيئاً، وفارق الملتقط بعد بلوغ الجعل؛ فإنّه إنّما بذل منافعه بعوض جعله فاستحقّه؛ كالأجير إذا عمل بعد العقد، وسواء كان التقاطه لها بعد الجعل أو قبله لما ذكرناه. ولا يستحقّ أخذ الجعل بردّها؛ لأنّ الرّدّ واجب عليه من غير عوضٍ فلم يجز أخذ العوض عن الواجب؛ كسائر الواجبات، وسواء ردّها

ص: 269

قبل العلم بالجعل أو بعده؛ لذلك إن صحّ يأخذه الملتقط في موضع يجوز له أخذه عوضاً عن الالتقاط المباح. انتهى.

وقال في الفروع: فَمَن فعله بعد علمه استحقّه كدين، وإلاّ حرم. نقل حنبل في اللّقطة إن وجدها بعد ما سمع النّداء فلا بأس أن يأخذ منه وإلاّ ردّها ولا جعل له. انتهى.

فإذا تقرّر هذا فلا يخلو إمّا أن يجد الدّابّة قبل أن يسمع النّداء أو يبلغه، ويخبر فهذا صريح كلامهم أنّه لا يستحقّ جعلاً، وإن ردّها، فكيف إذا لم يعمل شيئاً، وإنّما هو مجرّد الخبر، وأمّا إن سمع النّداء أو الجعالة أنّ مَن ردّ دابتِي أو عبدي أو أخبرنِي بها فله كذا وكذا، ثم بحث عنها وسأل عنها في البوادي والبرية وغيرها حتى وجدها أو ردّها لصاحبها خبر؛ فإنّه يستحقّ الجعالة المذكورة. والله أعلم.

وفّقنا الله وإيّاك الحسن الفهم والعمل، وجنّبنا وإيّاك سوء الفهم والعمل.

وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 25 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

من عبد الله إلى الأخ سعيد أسعده الله بطاعته وأدخله في سلك أهل ولايته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، فأمّا ما سألت عنه من قول صاحب الإقناع وشارحه في (باب التّعزير) وإن ظلم صبياً أو بهيمة اقتصّ من الظّالم هل يعمل بهذا أم لا؟

فنقول: اعلم قبل ذلك أنّ العلماء ذكروا أنّ التّعزير أصل عظيم من أصول الشّريعة المحمّدية الآتية بالحكم والمصالح والغايات المحمودة في المعاش والمعاد.

قال ابن عقيل رحمه الله في الفنون للسّلطان سلوك السّياسة،

ص: 270

وهو الحزم عندنا، ولا تقف السّياسة على ما نطق به الشّرع إذ الخلفاء الرّاشدون قتلوا ومثّلوا وحرقوا المصاحف ونفى عمر نصر بن الحجاج، ولينل من عرضه مثل أن يقول له: يا ظالم، يا معتدي، وبإقامته من المجلس، والذين قدروا التّعزير من أصحابنا إنّما هو فيما إذا كان تعزيراً عاماً من فعلٍ أو تركٍ. فإن كان تعزيراً لأجل ترك ما هو فاعلٍ له فهو بمنْزلة قتل المرتدّ والحربي والباغي، وهنا تعزير ليس يقدر بل ينتهي إلى القتل كما في الصّائل الآخذ للمال يجوز أن يمنع مع الأخذ ولو بالقتل، وعلى هذا فإن كان المقصود دفع الفساد ولم يرتدع بل استمرّ على الفساد فهو كالصّائل الذي لا يندفع إلاّ بالقتل فيتقل، ويمكن منه التّجسس، وقد ذكر شيئاً من هذا الحنفية والمالكية وإليه يرجع قول ابن عقيل: وهو أصل عظيم في صلاح النّاس، وكذا طلب الفعل فلا يزال يعاقب حتّى يفعل.

والتّعزير بالمال سائغ إتلافاً وأخذاً، وهو جار على أصل أحمد؛ لأنّه لم يختلف أصحابه في أنّ العقوبات في المال غير منسوخة كلّها، وهو قول الشّيخ أبي محمّد المقدسي، ولا يجوز أخذ ماله وهو المعزر فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظّلمة.

والتّعزير يكون على فعل المحرّمات وترك الواجبات، فمن جنس ترك الواجبات: من كتم ما يجب بيانه؛ كالبائع المدلِّس، والمؤجِّر، والنّاكح، وغيرهم من المعاملين، وكذا الشّاهد، والمخبِر، والمفتِي والحاكم، ونحوهم، فإنّ كتمان الحقّ شبيه بالكذب، وينبغي أن يكون سبباً للضّمان، كما أنّ الكذب سبب للضّمان.

قال: ترك الواجبات عندنا في الضّمان كترك المحرّمات

ص: 271

حتّى قلنا فيمَن قدر على إنجاء شخصٍ بإطعامٍ أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه، وعلى هذا فلو كتم شهادة أبطل بها حقّ مسلمٍ ضمنه، ومن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلّة أو البلدة رجل ظالم فسأل الوالي الغريم عن مكانه ليأخذه منه الحقّ فإنّه يجب دلالته بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحقّ. فعلى هذا إذا كتموا ذلك حتّى تلف الحقّ ضمنوه، ويملك السّلطان تعزير مَن ثبت عنده أنّه كتم الخبر الواجب كما يملك تعزير المقرّ إقراراً مجهولاً حتّى يفسره، ومَن كتم الإقرار، وقد يكون التّعزير بترك المستحبّ كما يعزّر العاطس الذي لم يجهر بترك تشميته.

إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى جواب المسألة المسؤول عنها، وهي: ما إذا ظلم صبي صبيّاً، أو بهيمة بهيمةً اقتصّ للمظلوم إلى آخره.

فنقول: يعمل بذلك؛ لأنّ ذلك في الغالب لا يخلو عن ردع للظّالم، وإن لم يكن مكلّفاً. قال الشّيخ تقيّ الدّين: لا نزاع بين العلماء أنّ غير المكلَّف كالصّبي المميّز يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً، وكذلك المجنون يضرب على ما فعل لينْزجر لكن لا عقوبة بقتل أو قطع.

قال في الفروع: قال في الواضح: من شرع في عشر صلح تأديبه في تعزير على طهارة وصلاة، وكذا في زنا، وهو معنى كلام القاضي، وذكر ما نقله الشّالنجي في الغلمان يتمردون لا بأس في ضربهم، وظاهر ما ذكره الشّيخ عن القاضي، يجب ضربه على صلاة. قال الشّيخ لِمَن أوجبها هو تأديب وتعويد على خط وقراءة وصناعة وشبهها، وكذا قال صاحب المحرّر كتأديبه اليتيم والمجنون والدّواب؛ فإنّه شرع لا لترك واجب. وظاهر كلامهم في تأديبه في الإجارة والدّيات أنّه جائز في الإجارة.

فأمّا القصاص مثل أن يظلم صبي صبيّاً أو مجنون مجنوناً أو بهيمة بهيمة، فيقتصّ للمظلوم من الظّالم، وإن

ص: 272

لم يكن في ذلك زجر عن المستقبل. لكن لاستيفاء للمظلوم، وأخذ حقّه يتوجّه أن يقال بفعل ذلك، ولا يخلو عن ردع وزجر في المستقبل ففعله لأجل الزّجر وإلاّ لم يشرع لعدم الأثرية والفائدة في الدّنيا.

وأمّا في الآخر فالله تعالى يتولّى ذلك للعدل بين خلقه فلا يلزم منه فعلنا نحن كما قال ابن حامد: القصاص بين البهائم والشّجر والعيدان جائز شرعاً، بإيقاع مثل ما كان في الدّنيا. وكما قال أبو محمّد البربهاري في القصاص في الْحَجَر التي نالت إصبع الرّجل، وهذا ظاهر كلامهم السّابق في التّعزير أو صريحه فيما لا يميّز.

وقال شيخنا: القصاص موافق للشّريعة واحتجّ بثبوته في الأموال وبوجوب دية الخطأ، وبقتال البغاة المفغور لهم. قال: فتبيّن بذلك أنّ الظّلم والعدوان يؤدّي في حقّ المظلوم مع عدم التّكليف؛ فإنّه من العدل وحرَّم الله الظّلمَ على نفسه، وجعله محرماً بين عباده. كذا قال. وبتقديره فإنّما يدلّ على الآدميين. انتهى كلام صاحب الفروع. وقد عرفتَ أنّه قول كثير من العلماء.

فأمّا الصّبيان فمعلوم أنّ ذلك زجر لهم في المستقبل إذا اقتصّ لبعضهم من بعضٍ، والذي نرى أنّ الذي يقتصّ لهم الأمير أوالقاضي إلاّ إذا لم يَخْفَ من تعدّي الصّبِيّ في اقتصاصه لنفسه؛ لأنّه أشفى لنفسه.

وأمّا البهيمة فيقتصّ لها مالكها، ومعلوم أنّ بعض البهائم يتأدّب إذا أدّب. والله أعلم بالصّواب.

المسألة الثّانية: إذا وجد مع امرأته رجلاً من غير زنا بها أنّه يضرب مائة سوطٍ كما في رواية يعقوب، واحتجّ بفعل عليّ رضي الله عنه، فذكر هذه المسألة في الإنصاف، وذكر أنّه يعزّر بذلك. انتهى.

والتّعزير يرجع

ص: 273

إلى اجتهاد الإمام، لكن الذي نختاره أنّه يعزّر بذلك إنباعاً للخليفة الرّاشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

المسألة الثّالثة: إن أرى الإمام العفو عنه جاز، فقد قال في المبدع: معناه من الشّرح ما كان من التّعزير منصوصاً عليه كوطء جارية امرأته أو الجارية المشتركة فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن، إن رأى الإمام المصلحة فيه وجب كالحدّ، وإن رأى العفو جاز للأخبار إلى آخر الكلام.

فنقول: اعلم أنّ في وجوب التّعزير وعدمه روايتين في مذهب أحمد:

إحداهما: الوجوب مطلقاً. وهي المذهب، وعليه الأصحاب. وهو من مفردات المذهب. ومال إلى وجوبه الشّيخ تقيّ الدّين، وعنه مندوب نصّ عليه في تعزير رقيقه على معصيته وشاهد الزّور. قال في المغني والشّرح: إن كان التّعزير منصوصاً عليه كوطء جارية امرأته أو المشتركة وجب، وإن كان غير منصوص عليه وجب إذا رأى المصلحة فيه أو علم أنّه لا ينْزجر إلاّ به، وإن رأى العفو عنه جاز. انتهى.

قلت: ومراده إذا كان في العفو عنه مصلحة، قال في الكافي: يجب التّعزير في الموضعين الذين ورد فيهما الخبر إلاّ إن جاء تائباً فله تركه. انتهى.

قلت: ومراده بالموضعين: إذا وطئ أمة امرأته مع تحليلها له أو الأمة المشتركة وهو معنى كلام صاحب المبدع الذي ذكرته في السّؤال، وليس في ذلك معارضة لما تقدم من كلامهم؛ لأنّه إذا جاء تائباً نادماً جاز ترك تعزيره، كما روي في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، [هود، من الآية: 114] ، أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة وفعل بها كلّ شيء إلاّ الجماع ثم جاء تائباً، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية.

ص: 274

فقال الرّجل: إلِيَّ ذلك يا رسول الله أم لجميع النّاس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل لجميع أمتّي ".رواه الأئمة من طرق مختلفة.

قال المجد: فإن جاء من يستوجب التّعزير تائباً لم يعزّر عندي. انتهى. قال في الرّعاية: إن تشاتم اثنان عزرا، ويحتمل عدمه. قال في الفروع: فدلّ على أنّ ما رآه يتعيّن فلا يبطله غيره وأنّه يتعيّن قدر تعزيره خلافاً لمالك. انتهى.

قلت: يعنِي: إذا عين الإمام التّعزير للمصلحة فلا يجوز لغيره إبطاله، وأنّه يتعيّن قدر تعزير عينه الإمام. قال في الإنصاف: ويجب إذا طالب الآدمي بحقّه. قال: في الفروع وفي المغني في قذف صغيرة: لا يحتاج في التّعزير إلى مطالبة؛ لأنّه مشرع لتأديبه فللإمام تعزيره إذا رآه. ويؤيّده نصّه فيمَن سبّ صحابيّاً يجب على السّلطان تأديبه ولم يقيّده بطلبٍ أو إرث مع أنّ أكثرهم أو كثيراً منهم له وراث، وقد نصّ في مواضع على التّعزير ولم يقيّده وهو ظاهر كلام الأصحاب.

ويأتي في أوّل آداب القاضي إذا افتات خصم على الحاكم له تعزيره مع أنّه لا يحكم لنفسه إجماعاً، فدلّ على أنّه ليس كحقّ الآدمي المفتقر جواز إقامته إلى طلب. ولهذا أجاب في المغني عن قول الأنصاري للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن الزّبير إن كان ابن عمّتك، وأنّه لم يعزّره وعن قول الرّجل أنّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، بأنّ للإمام العفو عنه. وفي البخاري أنّ عيينة بن حصن لما أغضب عمر هَمَّ به فتلا عليه الحر بن قيس {خُذِ الْعَفْوَ} الآية [الأعراف، من الآية: 199] ، قاله في شرح مسلم في قول عائشة رضي الله عنها ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله. أنّه يستحبّ لولاة الأمور التّخلق بهذا، فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حقّ الله. انتهى كلام صاحب الفروع.

ص: 275

فعلم مِمّا تقدم أنّ الأمير أو الحاكم إذا رأى التّعزير في المعصية جاز له ذلك، وإن كان لحقّ آدمي، ولا يفتقر جوازه إلى طلب صاحب الحقّ؛ لأنّ ذلك من باب إنكار منكرٍ وإزالة الظّلم الذي يتعلّق بالأئمة والأمراء. والله أعلم.

المسألة الرّابعة: من نائب الإمام؟

فالمعروف عندنا أنّ نائب الإمام الأمير والقاضي جميعاً. والله أعلم.

المسألة الخامسة: هل يجوز إخراج العروض بقيمتها كالثّياب ونحوها عن زكاة النّقدين، وعن زكاة الثّمار، والحبوب؟

فقد أجبناك عنها قبل ذلك، وأطلنا الكلام، وذكرنا اختلاف العلماء، وأنّ البخاري ترجم لجواز ذلك في صحيحه، وذكر الآثار والأحاديث الدّالّة على هذه المسألة، فراجعه يتبيّن لك الصّواب إن شاء الله. والسّلام. والحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه أجمعين.

- 26 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ سعيد حفظه الله تعالى)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد؛

سألتَ ـ وفّقك الله وإيّاك ـ عَمَن قال لزوجته: أنتِ طالق بالثّلاث، ويحلف أنّه قاصد أصابعه الثّلاث.

الجواب: هذا المقصد مشكل مع أنّه بعيد، وهذا يشبه ما قاله شيخ الإسلام أنّ النَّيّة إن أسقطت شيئاً من الطّلاق لم يقبل مثل قوله: أنتِ طالق ثلاثاً، وقال: نويت واحدة، فإنّه لا يقبل روايةً واحدةً. وإن لم تسقط من الطّلاق وإنّما عدل به من حالٍ إلى حالٍ، مثل: أن ينوي من

ص: 276

وثاق وعقال ودخول الدّار إلى سنة ونحو ذلك، فهذا على روايتين:

إحداها: يقبل. قال في شرح المنتهى إلاّ أن تكذبه قرينة من غضب أو سؤالها الطّلاق، والمقدَّم في المذهب أنّه يدين ولا يقبل في الحكم.

وأمّا مَن قال لامرأته: إن كان كذا ما جرى فأنتِ فسخ.

فالجواب: هذا تعليق، وذكر الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ في كتاب الخلع ما يفيد أنّه كناية إذا نوى به الطّلاق صار طلاقاً، وصرح به في الاختيارات، فقال: ولا يقع الطّلاق بالكناية إلاّ بنية، إلاّ مع قرينة إرادة الطّلاق، كما إذا قرن الكناية بلفظٍ يدلّ على الطّلاق مثل أن يقول: فسخت النّكاح، وقطعت الزّوجية، ورفعت العلاقة بينِي وبين زوجتِي. انتهى. وبه يتمّ الجواب.

وأمّا الحلف بالطّلاق للمختلعة فيبنَى على صحّة الخلع وعدمها، فإن كان غير صحيحٍ كما إذا ضارها الزّوج لتفتدي منه فالخلع غير صحيحٍ، فإذا كان بلفظ الطّلاق أو نيّته مع اللّفظ الصّريح للخلع لحقها الطّلاق، فإن كان بفظ الخلع من غير نيّة الطّلاق فالزّوجة بحالها ويقع الطّلاق أيضاً.

وأمّا إذا وقع الخلع صحيحاً فلا يلحقها الطّلاق على المختار عند الأصحاب. وهذا مذهب أحمد رحمه الله، وقول ابن عبّاس، وابن الزّبير وجمعٍ من التّابعين، وبه يقول مالك والشّافعي. وحكي عن أبي حنيفة أنّه يلحقها الطّلاق الصّريح دون الكناية. وروي عن سعيد بن المسّيب وجماعة لما روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"المختلعة يلحقها الطّلاق ما دامت في العدّة"، ولم يمكن آخر هذا اليوم كشف بحر1 الحديث. وسنده، وإن صحّ فهو الحجّة. والله أعلم.

1 كذا، ولعلّه نصّ الحديث.

ص: 277

ـ 28 ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

الخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، ونبشّرك نحن طيّبون ـ ولله الحمد ـ، ولا نستنكر شيئاً كذلك سعود وعياله وآل الشّيخ من حيث الجملة. وما أشرت إليه من العذر عن الجيد فأنت معذور، وأرجو أنّ الله يعيننا وإيّاك ويرزقك العلم والعمل والمعونة، والعبد ما له طاقة على شيء من الأشياء إلاّ بإعانة الله، وأكثر الدّعاء بما أمر الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث قال:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} ، [الإسراء: 80] .قال قتادة في تفسير الآية: علّم نَبِيّ الله أنّه لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان من الله نسأل الله سلطاناً نصيراً. وما أشرت إليه من المسائل:

فالأولى: على القول بأنّ الرّاعي لا ضمان عليه، هل هو لكلّ راعٍ سواء رعى جماعة أو هو مختصّ بمنفعة واحدٍ؟

فالظّاهر من كلام أهل العلم أنّ الرّاعي لا ضمان عليه إلاّ بالتّعدّي والتّفريط سواء كان لجماعة أو لشخص معيَّن، ولا أعلم في ذلك خلافاً.

والثّانية: في الجائفة والمأمومة عمداً هلها تحمل العاقلة لعدم إمكان استيفاء القصاص؟

فالذي ذكر أهل العلم أنّ العاقلة لا تحمل إلاّ الخطأ في الجائفة وما فوقها، وأمّا ما دون الجائفة في الخطأ، ففيه خلاف بين العلماء والذي يفتى به عندنا أنّها لا تحمل ما دون الثّلث، وإنّما تحمل الثّلث

ص: 278

فأكثر في الخطأ خاصة، فدية الجائفة والمأمومة على الجاني خاصّة في العمد، والظّاهر أنّها ليست بمنجمة كالدّية بل هي حالّة.

والثّالثة: تحمل الشّهادة ما يشترط لها عند أهل العلم من الشّروط؟

فالذي ذكر في الإنصاف أنّها تقبل الشّهادة على الشّهادة فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي وترد فيما يرد فيه، ولا تقبل إلاّ أن يتعذر شهود الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو غيبةٍ إلى مسافة القصر. وذكر أيضاً أنّه لا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلاّ أن يستدعيه شاهد الأصل، فيقول: أشهد على شهادتِي أنِّي أشهد على فلان بن فلان وقد عرفته باسمه وعينه ونسبه، أقرّ عندي وأشهدنِي على نفسه طوعاً بكذا أو شهدت عليه أو أقرّ عندي بكذا، وذكر ابن عقيل رواية يجوز أن يشهد سواء استدعاه أو لا، وقدمه في التّبصرة وهذه الرّواية هي الصّواب إن شاء الله تعالى.

والرّابعة: أرش العيب إذا قدرت السّلعة بما ينقصها هل تقوم بالثّمن الذي اشتريت به سليمة فما نقص عنه بالعيب رجع به المشتري أم لا عبرة بالثّمن، وإنّما تقوم أنّها تسوي صحيحة كذا، وما نقص عنه بالعيب طاح قدره من الثّمن؟

فالذي ذكره العلماء أنّها تقوم بالثّمن الذي اشتريت به. قال في الإقناع: والأرش قسط ما بين قيمة الصّحيح والمعيب، فيرجع بنسبته من ثمنه فيقوم المعيب صحيحاً ثم يقوم معيباً، فإذا كان الثّمن مثلاً مائة وخمسين فيقوم المعيب صحيحاً بمائة ومعيباً بتسعين فالعيب نقص عشرة نسبتها إلى قيمته صحيحاً عشرة فينسب ذلك إلى المائة والخمسين تجده خمسة عشر، وهو الواجب للمشتري. هذا على القول بأنّه مخيّر يبن الرّدّ وأخذ الأرش مع الإمساك.

وأمّا على المفتَى به عندنا، وهو الرّواية الأخرى

ص: 279

عن أحمد واختيار الشّيخ تقيّ الدّين أنّ المشتري إذا وجد بها عيباً لم يعلمه فليس له إلاّ الإمساك بلا أرش أو الرّدّ.

والخامسة: الشّفعة هل تثبت بالشّركة في البئر والطّريق ومسير الماء؟

فالمفتّى به عندنا أنّها تثبت بذلك، كما هو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين وغيره من العلماء. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

- 28 -

بسم الله الرحمن الرحيم

(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان)

سلام عليكم ورحمة وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة المسألة التي أشكلت عليك؛ وهي: أنّ أهل بلدكم يجعلون للأجير الذي يسقي الزّرع جزءاً منه مشاعاً، وأنّك نهيتهم عن ذلك؛ لأنّك وقفت على كلامٍ لبعض أهل العلم في اشتراط معرفة الأجرة، فإن كانت مجهولة لم يصحّ.

فاعلم أنّ الذي يظهر من كلام أهل العلم أنّ مثل هذه المسألة لا بأس بها، ويكون ذلك من باب المشاركة لا من باب الإجارة، كما إذا دفع أرضه لِمَن يزرعها بجزء مشاعٍ من الزّرع، أو نخله لِمَن يقوم عليه ويصلحه بجزء من ثمره، أو ثوبه إلى مَن يخيطه، أو غزلاً إلى مَن ينسجه بجزء منه مشاع فقد نصّوا على أنّ مثل هذا جائز. وكذلك إذا دفع ثوبه إلى مَن يخيطه أو غزلاً إلى مَن ينسجه بجزءٍ من ربحه فإنّ هذا جائز.

قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله مضاناً ليبيعها له وله نصف ربحها بحقّ عمله جاز، نصّ عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلاً إلى رجلٍ ينسجه ثوباً بثلث

ص: 280

ثمنه أو ربعه جاز، نصّ عليه. وهذه المسائل أبلغ في الجهالة والغرر من مسألتكم، فمسألتكم أولى بالجواز. والجهالة في مثل هذه المسائل مغتفرة كما اغتفرت في المزارعة والمساقاة التي ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوازها وهي في الحقيقة أجرة للأرض.

- 29 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

(من عبد الله إلى الأخ جمعان)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فإن سألت عنا فنحن ـ ولله الحمد ـ طيّبون، كذلك العيال وآل الشّيخ طيّبون جميعاً، ولله الحمد، والخط وصل، وما ذكرت فيه من المسائل:

فالمسألة الأولى: فيمَن سرق مال الغير أو غصبه إلى آخر.

فالجواب: أنّ الفقهاء قد ذكروا هذه المسألة وذكروا أنّ المغصوب منه يأخذ عين ماله أينما وجده سواء كان من الغاصب أو المشتري أو المنتهب، ويرجع المشتري على الغاصب أو السّارق بالثّمن ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغاصب غنيّاً أو فقيراً.

والمسألة الثّانية: إذا وقف إنسان قدراً أو رحى هل ذلك وقف عام ينتفع به كالمساجد والمقبرة أم لا؟

فالجواب: أنّ ذلك يرجع إلى شرط الواقف، فإن قال ذلك وأطلق كان ذلك وقفاً عاماً ينتفع به، وإن قيّد ذلك على شخصٍ أو جهةٍ تقيد به.

والمسألة الثّالثة: إذا اشترى إنسان من آخر طعاماً ووكّل البائع على كيله ولم يحضره الخ؟

ص: 281

فالجواب: أنّ ذلك صحيح إذ لا مانع منه وقد نصّ على ذلك الفقهاء في (باب الوكالة) ، ولا يدخل ذلك في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه؛ لأنّ هذا قبض صحيح؛ لأنّ قبض وكيله كقبضه. وهذه وكالة صحيحة، ولا يقدح في ذلك كون الوكيل يتولّى طرفي العقد.

والمسألة الرّابعة: فيمَن قال: عليَّ الطّلاق لأفعلن كذا، ثم حنث وله زوجة ما الحكم؟

فالجواب: أنّ هذه المسألة، الخلاف فيها مشهور بين السّلف والخلف، وفيها روايتان عن أحمد:

إحداهما: تطلق ثلاثاً، صحّحه في التّصحيح. قال في الرّوضة: هو قول جمهور أصحابنا؛ لأنّ الألف واللام للاستغراق، فتقتضي استغراق الكلّ وهو ثلاث.

والرّواية الثّانية: لا تطلق إلاّ واحدة، وهو المذهب؛ لأنّه يحتمل أن تعود الألف واللام إلى معهود يريد الطّلاق الذي أوقعته.

قال الموفّق: والأشبه في هذا جميعاً أن يكون واحدةً في حال الإطلاق؛ لأنّ أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثاً، ولهذا ينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثاً، ولا يعتقد إلاّ أنّه طلق واحدة. انتهى.

وإنّما الرّوايتان عن أحمد، إذا قال ذلك وأطلق ولم ينو شيئاً، فإن نوى ثلاثاً فإنّه يقع به ثلاث طلقات. وأمّا الشّيخ تقيّ الدّين فإنّه فرّق بين أن يقصد الحالف إيقاع الطّلاق أو لا يقصد، فإن كان يكره وقوع الجزاء ولكنه علقه على شرط ليحثّ نفسه على فعل شيءٍ أو تركه، فهذا يكون عنده من باب الأيمان، وتكون كفارته كفارة يمينٍ، وإن كان يقصد إيقاع الطّلاق ولا يكره وقوع الجزاء فهذا إذا وقع الجزاء وقع عليه الطّلاق.

ص: 282

- 30 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

(من عبد الله إلى الأخ جمعان)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه. وما ذكرت من العذر من عدم المواجهة في سفر الحجّ فأنت معذور لسبب كثرة الأشغال علينا وعليكم.

والمسائل التي وصلتنا قبل الحجّ سافرت بها معني؛ لأنِّي أبغي أن أجاوب عنها، والله أعلم أنّها ضاعت منِّي. وأمّا المسائل الأخيرة:

فالمسألة الأولى: هل يجوز بيع الذّهب والفضّة بعرض كالجدد وغيرها نسيئة؟

فالجواب: أنّ ذلك لا يجوز إذا كان العرض جدداً؛ لأنّها بمنْزلة الأثمان، إذا اختلفت أجناسها يجوز بيع بعضها ببعض ولا يجوز نسيئة.

وأمّا العروض التي ليست بأثمان فلا بأس بذلك، ولا أعلم في هذه المسألة نزاعاً بين العلماء.

والثّانية: قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "أنّهاكم عن الرّبا والختم "الخ.

يذكر أهل العلم في شرحه أنّه نهاهم عن الانتباذ في هذه الأوعية؛ لأنّها أوعية حارّة فيشربون منها المسكر ولا يشربون بذلك. وورد في حديثٍ صحيحٍ أنّه أرخص فيه بعد ذلك، وقال:"لا تشربوا مسكراً".

والثّالثة: إذا كان عند إنسانٍ تمر أو حبّ وحار في يده لأجل رخصه، وأراد أن يسلفه إنساناً إلى الثّمرة المقبلة؛ لأجل منفعة الثّمر المقبل، فهذا لا يجوز؛ لأنّه قرض يجرّ نفعاً إليه، وكلّ قرضٍ يجرّ منفعة فهو ربا.

ص: 283

والرّابعة: فيمَن أسلم إلى رجلٍ دراهم بتمرٍ أو حبٍّ فلما حلّ الأجل وخاف صاحب السّلم أنّ التّمر الذي أسلم فيه لا يساوي رأس ماله. وقال صاحبه: ما أبغى إلاّ رأس مالي إلى أجل ولولا الأجل ما رضي صاحب الدَّين.

فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والأحسن الأحوط تركها.

- 31 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

(من عبد الله إلى الأخ جمعان)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه. وأنا ولله الحمد طيّب، كذلك عيالنا وآل الشّيخ وما. ذكرت من المسائل:

فالأولى: إذا أفسدت دابّة إنسانٍ باللّيل ملك الغير ما كيفية الضّمان؟

فالجواب: أنّ صفة التّقويم في الزّرع الأخضر ونحوه أن ينظر أهل المعرفة ما نقص الزّرع من الثّمن فيغرم له قيمة ذلك النّاقص. هذا هو الذي يظهر من كلام الفقهاء.

الثّانية: رجلان اشتركا بأموالهما من عقارٍ وأصولٍ وعروضٍ وأثمانٍ وغيرها، هل هذه شركة صحيحة أو فاسدة؟

فقال في الإنصاف: مِن شرط صحّة الشّركة أن يكون المالان معلومين، وإن اشتركا في مختلط بينهما شائع صحّ إن علما قدر ما لكلّ واحدٍ منها، ثم قال: ويشترط أن يعملا فيه أو أحدهما على الصّحيح، لكن بشرط أن يكن له أكثر من ربح ماله. وهي شركة عنان على الصّحيح من المذهب، وقيل: مضاربة، فإن شرط له ربحاً قدر ماله فهو إبضاع.

ص: 284

وأمّا الشّركة في العقار ونحوه، فلم أرَ في كلامهم تصريحاً بجوازه، وقضية إطلاقهم الأموال يقتضي جوازه في العروض والعقار، فإذا عرف قدر ماليهما واشتركا في العمل فيه ثم فسخ أحدهما تقاسما الرّبح على قدر ماليهما، ورجع العقار إلى مالكه الأوّل.

والثّالثة: في الوظائف التي تعنِي أهل الإسلام، فالأحسن فيها أن يجعل ذلك على قدر المال من عقار وغيره، وتسقط النّائبة على قدر الأموال كما هو المعمول به في بلدان المسلمين.

والرّابعة: بيع الإبل بالغنم نسيئة، ففيه خلاف، ومَن منعه احتجّ بالحديث المروي أنّه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ومَن أجازه احتجّ بالحديث الصّحيح في قصّة وفد هوازن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ومَن لم تطب نفسه فله بكلّ فريضةٍ ستة فرائض من أوّل ما يفيء الله علينا ".والتّفريق بينما كان معداً للحم وغيره عند مالك وغيره إنّما هو في مسألة بيع اللّحم بالحيوان، هل يصحّ ذلك أم لا؟ فمنعه مالك فيما كان معدّاً للحم دون ما هو معدّ للرّكوب وغيره.

والخامسة: ثمر العام الواحد يضمّ بعضه إلى بعض في تكميل النّصاب المراد به عند بعضهم أن يزرع زرعين في عامٍ وحدٍ ولو كان ذلك دون السّنة الهلالية بأن يحصل ذلك في نحو ثمانية أشهر أو لتسعة أشهر أو دون ذلك، ولا ينظر إلى كون الزّرع الأوّل في آخر السّنة الأولى، والزّرع الثّاني في أوّل السّنة الثّانية؛ لأنّ ذلك حساب عامٍ واحدٍ واحترازهم بقولهم: ثمرة العام الواحد إشارة إلى كون إنسانٍ يزرع زرعاً في سنة ثم يزرع في السّنة التي بعدها بعد مضي اثني عشر شهراً، فهذا لا يضمّ ثمرة هذا إلى هذا،

ص: 285

فإذا كمل النّصاب عنده بضمّ ثمرة إلى ثمرة في عامٍ واحدٍ وجبت عليه الزّكاة. هذا هو المفتَى به عندنا.

والسّادسة: إذا نقص الزّرع أو التّمر عن الخرص فالذي يعمل به عندنا أنّ الذي لا يتّهم في الزّكاة ويعرف بالدّيانة والأمانة يصدق في دعواه ومَن لا فلا.

والسّابعة: إذا دفع إنسان إلى آخر أرضه يغرسها وشرطا بينهما مدّة سنين إلى آخر المسألة.

فالجواب: أنّ الذي عليه كثير من العلماء أنّ مثل هذا لا يصحّ سواء سمّى مساقاةً أو مزارعةً أو لا، والذي اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيمية جواز ذلك، وهو الذي تقتضيه الأصول والقواعد في المساقاة والمزارعة على النّصف أو الثّلث أو الرّبع كما ثبتت السّنة بذلك في قصة خيبر.

الثّامنة: المزارعة بجزء من الثّمرة إذا قيل بأنّها لازمة أو جائزة، فإذا زرعها العامل أو شغل الأرض بزرعه وفوت على صاحب الأرض أجرة أرضه فظاهر كلامهم أنّه يجب عليه قيمة مغل الأرض لصاحبها على ما تشارطا عليه. فإذا كان الأرض تغل كألف صاع مثلاً وزارعه عليها بثلثها وشغل أرضه ثم هرب العامل وجب ثلث الألف. هذا على القول بأنّها جائزة. وأمّا على القول بأنّها لازمة، فإنّه يستأجر الحاكم من ماله مَن يقوم على الزّرع. وأمّا إذا خرج منها قبل العمل وقيل إنّها جائزة فليس عليه شيء.

والتّاسعة: إذا خرج العامل في المساقاة وقد مضى بعض السّنة، فإن كان قبل ظهور الثّمرة فلا شيء له، فإن كان بعد ظهور الثّمرة استؤجر

ص: 286

من ماله مَن يقوم على النّخل إن أمكن، وإذا جاء برجلٍ أمينٍ قام مقامه في تتميم العمل.

والعاشرة: هل حكم نائب الإمام كالإمام؟

فالذي قرّره ابن القيم وغيره أنّ الإمام في هذا ونائبه سواء، وأن تصرّف الغير في مال المالك إذا كان لمصلحةٍ ظاهرةٍ ينفذ تصرّفه. واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [التّوبة، من الآية: 91] .

والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 32 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن رجلٍ تشاجر هو وزوجته عند أميرٍ من الأمراء، فقالت الزّوجة للأمير: انصفنِي وإلاّ طلّقنِي من إمارتك، فحرص زوجها وقال: أنتِ طالق عدد زقان الجراد، فقالت: هبت ريحك، فقال لها: ما إمارة فلان، ويحلف أنّ كلامي هذا مجاوبة عن الأمير يوم قالت: طلّقنِي من إمارتك، فقلت أنا: يا أيّها الزّوج، أنت طالق عدد زقان الجراد من إمارته، ومعه على هذا شهود.

فالجواب ـ وبالله التّوفيق ـ قال الإمام زين الدّين عبد الرّحمن بن رجب الحنبلي في شرحه على الأربعين، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه رفع إليه رجل قالت أمرأته شبِّهنِي، قال: كأنّكِ ظبية، كأنّكِ حمامة، فقالت: لا أرضى حتّى تقول: أنتِ طالق، فقال ذلك. فقال عمر:

ص: 287

خذ بيدها فهي امرأتك. خرّجه أبو عبيدة.

وقال: أراد النّاقة تكون معقولة ثم تطلق من عقالها فيخلى عنها فهي خلية من عقالها، وهي طالق؛ لأنّها قد طلقت منه فأراد الرّجل ذلك فأسقط عنه عمر الطّلاق بنيّته.

قال: وهذا أصل لكلّ مَن تكلّم بشيء يشبه لفظ الطّلاق والعتاق، وهو ينوي غيره، أنّ القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل، وفي الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه.

ويروى عن الأشيمط السّدوسي قال: خطبت امرأة فقالوا: لا نزوّجك حتى تطلق امرأتك، فقلت: إنِّي طلّقتها ثلاثاً، فزوّجونِي، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليس قد طلّقتها ثلاثاً؟ قال: كان عندي فلانة فطلّقتها، وفلانة فطلّقتها. وأمّا هذه فلم أطلّقها، فأتيت شقيقاً أبا ثور وهو يريد الخروج إلى عثمان وافداً، فقلت: سل أمير المؤمنين عن هذه، فسأله. فقال: نيّته. خرّجه أبو عبيدة في كتاب الطّلاق. وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك.

وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: حديث الأشيمط تعرفه؟ قال: من. السّدوسي، إنّما جعل نيّته بذلك. انتهى كلام ابن رجب.

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّ المرأة إذا أقامت شاهداً واحداً على الطّلاق فإن حلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يقض عليه، وإن لم يحلف حلّفت المرأة ويقضى عليه.انتهى من إعلام الموقعّين لابن القيم.

فهذا كلام الخليفتين الرّاشدين: عمر وعثمان رضي الله عنهما أنّهما ردّا ما احتمل معنيين إلى نيّة المطلق. ولأنّ الأصل مع الزّوج وهو الزّوجية.

وفي حديث عمرو بن شعيب أنّ الزّوج يستحلف أنّه ما طلّق. إذا تقرّر هذا فإن كان الزّوج الذي قال لامرأته حين قالت للأمير: طلِّقْنِي من إمارتك، قال: أنتِ طالق عدد زقان الجراد من إمارة فلان، لم يقع عليها طلاقه؛ لأنّه وصله بما يصرف عن

ص: 288

ظاهره، فإن لم يكن وصل الطّلاق بقوله: من إمارة فلان، حلف الزّوج بالله الذي لا إله إلاّ هو، ما أردتُ طلاق زوجتِي، وإنّما أردتُ طلاقها من إمارة فلان، فإن حلف فهي زوجته. وهذا الذي ذكرناه قد صرّح به بعض العلماء في كتبهم. لكن إن كانت الزّوجة قالت له: طلِّقنِي، وهي في شدّة الغضب، فقال لها: أنتِ طالق عدد زقان الجراد، ولم يصله بقوله: من إمارة فلان، فلا يقرّ بها إلاّ بمراجعة العلماء فيه. والله أعلم.

وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 33 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ سعيد)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وكل مَن تسأل عنهم طيّبون، ولله الحمد، والشّيخ طيّب، ولله الحمد، ولا يبرح يظهر، وكذلك عبد العزيز والعيال.

وأمّا جواب المسألتين اللّتين ذكرتهما في كتابك، فنذكر لك كلام أهل العلم، ونسأل الله أن يوفّقنا وإيّاك للصّواب.

قال في المغني: إذا قال: أنتِ عليّ حرام، فإن نوى به الظّهار فهو ظهار في قول عامّتهم، وبه يقول أبو حنيفة، والشّافعي. وإن نوى به الطّلاق فقد ذكرناه في باب الطّلاق، وإن أطلق ففيه روايتان:

إحداهما: هو ظهار، ونصّ عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه. وذكره إبراهيم الحربي. وعن عثمان وابن عبّاس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبستي أنّهم قالوا الحرام ظهار. وروي عن أحمد رحمه الله ما يدلّ على أنّ التّحريم يمين وعن ابن عبّاس أنّه قال: التّحريم يمين في كتاب

ص: 289

الله عز وجل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، [التّحريم، من الآية: 1]، ثم قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، [التّحريم، من الآية: 2] .وأكثر الفقهاء على أنّ التّحريم إذا لم ينويه الظّهار ليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشّافعي، ووجه ذلك الآية المذكورة. وأنّ التّحريم يتنوّع فقد يكون بالظّهار وبالطّلاق وبالحرام وبالصّيام وبالحيض، ولا يكون صريحاً في واحدٍ منها، ولا ينصرف إليه بغير نيّةٍ كما لا ينصرف إلى تحريم الطّلاق، ووجه الأوّل: أنّه تحريم أوقعه بامرأته فكان بإطلاقه ظهاراً كتشبيهها بظهر أمّه. وقولهم: إنّ التّحريم يتنوّع قلنا: إنّ تلك الأنواع منتفية ولا يحصل منها إلاّ الطّلاق. وهذا أولَى منه؛ لأنّ الطّلاق يُبَيِّن المرأة، وهذا يحرّمها مع بقاء الزّوجية، فكان أدنى التّحريم يمين فكان أولى.

فأمّا إن قال ذلك لمحرمة عليه بحيض أو نحوه وقصد الظّهار فهو ظهار، وإن قصد أنّها محرمة بذلك السّبب فلا شيء فيه، وإن أطلق فليس بظهارٍ؛ لأنّه يحتمل الخبر عن حالها، ويحتمل إنشاء التّحريم فيها بالظّهار فلا يتعيّن على أحدهما تعيين.

فصل

وإن قال: الحلّ عليّ حرام، أو ما أحلّ الله عليّ حرام، أو ما أنقلب إليه حرام وله امرأة فهو مظاهر، نصّ عليه في الصّور الثّلاث.

قال أحمد رحمه الله فيمَن قال: ما أحلّ الله عليّ حرام من أهل ومال: عليه كفّارة الظّهار، هو يمين. ويجزئه كفّارة واحدة في ظاهر كلام أحمد، واختيار ابن عقيل أنّه يلزمه كفارتان للظّهار ولتحريم المال.

ولنا أنّها يمين واحدة، فلا توجب كفّارتين كما لو ظاهر من امرأتين أو حرم من ماله شيئين. وفي قول أحمد رحمه الله هو يمين إشارة إلى التّعليل بما ذكرنا. انتهى كلامه.

وأنتَ تفهم أنّ الشّرح غالبه مسلوب من المغني وعبارتهما متقاربة

ص: 290

والشّرح عند عليّ1 وهو وحمد بن ناصر مع الغزو والله يحفظهم وينصرهم.

وقال البخاري رحمه الله: باب إذا قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام، قال الحسن بنيّته. قال في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني: أي: تحمل على نيّته. وهذا التّعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عالياً في جزء محمّد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري، قال: حدّثنا الأشعث عن الحسن في الحرام إن نوى يميناً فهو يمين، وإن نوى طلاقاً فهو طلاق، وبهذا قال النّخعي والشّافعي وإسحاق. وروي نحوه عن ابن مسعود وطاوس وابن عمر. وقال الأوزاعي وأبو ثور: الحرام يمين مكفّرة. وروي نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيّب وعطاء وطاوس واحتجّ أبو ثور بظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية [التّحريم، من الآية: 1] .وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة: مَن قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام لزمته كفارة الظّهار، وكان مظاهراً، وإن لم ينوه كان عليه كفّارة يمين مغلظة، وهي كفّارة الظّهار؛ لأنّه يصير مظاهراً حقيقة وفيه بعد.

وقال أبو حنيفة وصاحباه والحكم وابن أبي ليلى في الحرام ثلاث تطليقات، ولا يُسَأل عن نيّته، وبه قال مالك. وعن مسروق والشّعبي وربيعة لا شيء فيه. وفي المسألة اختلاف كثير عن السّلف بلغها القرطبِي بالتّفسير إلى ثمانية عشر قولاً. ثم ذكر البخاري حديث ابن عبّاس أنّه قال: إذا حرم الرّجل امرأته ليس بشيء وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب، من الآية: 21] .قال الشّارح: يشير بذلك إلى قصة التّحريم، وقد أخرج النّسائي بسندٍ صحيحٍ عن أنس أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها

1 المراد بالشّرح: شرح المقنع الملقّب بالشرّح الكبير، والظّاهر أنّ سعيداً سأله أن يذكر له نصّه مع نصّ الْمغنِي فاعتذر بما ذكر.

ص: 291

فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرّمها، فأنْزل الله هذه الآية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التّحريم، من الآية: 1] .وهذا أصحّ طرق هذا السّبب وله شاهد مرسل.

وقد اختلف في سبب التّحريم هل هو تحريم العسل، أو تحريم مارية القبطية، وقوله: ليس بشيء، يحتمل أن يريد بالنَّفي التّطليق، ويحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك، والأوّل أقرب ويؤيّده ما تقدم في التّفسير بهذا الإسناد أنّه قال في الحرام يكفر، وفي روايةٍ إذا حرم الرّجل امرأته فإنّما هي يمين يكفّرها. فعرف أنّ المراد بقوله: ليس بشيء، أي: ليس بطلاق وأنت تفهم ـ رحمك الله ـ أنّ مذهب ابن عبّاس في هذه المسألة أقرب الأقوال إلى الكتاب والسّنة، وهو اختيار شيخنا رحمه الله. وذكر ابن القيم رحمه الله هذه المسألة ومسألة الحلف بالطّلاق في كتاب أعلام الموقعّين وبسطها فأحببت أن أنقل لك أوّل المسألة قال رحمه الله:

(فصل)

الثّامن مما تتغيّر به الفتوى لتغيّر العرف والعادة موجبات الأيمان والإقرار والنّذر وغيرها، فمن ذلك أنّ الحالف إذا حلف لا ركبت دابّة، وكان في بلد عرفهم في لفظ الدّابة الحمار خاصّة اختصّت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس والجمل، وكذلك إن كان الحالف مِمَّن عادته ركوب نوعٍ خاصٍّ من الدّواب كالأمراء ومَن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدّواب، فيبقى في كلّ بلدٍ بحسب عرف أهله، ويفتي كلّ أحدٍ بحسب عادته.

وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه؛ كالملوك حنث قطعاً بالإذن والتّوكيل فيه فإنّه نفس ما حلف عليه،

ص: 292

وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد النّاس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتّوكيل، وإن قصد عدم الفعل والمنع منه حنث بالتّوكيل، إن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وما هيجها وعلى هذا إذا قيل له جاريتك، أو عبدك مرتكبان الفاحشة، فقال ليس كذلك بل هما حرّان لا أعلم عليهما فاحشة فالحجّة المقطوع بها أنّهما لا يعتقان بذلك لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى.

ومن ذلك ما أخبرنِي به بعض أصحابنا أنّه قال لامرأته: إن أذنتُ لكِ في الخروج إلى الحمام فأنتِ طالق، فتهيّأت للخروج إلى الحمام فقال لها: أخرجِي وأبصري فاستفتي بعض النّاس فأفتوا بأنّها قد طلقت منه، فقال للمفتي بأي شيء أوقعتَ علي الطّلاق؟ فقال: بقولك لها: أخرجي، فقال: إنِّي لم أقل لها ذلك إذناً، وأنا قلته تهديداً، أي: أنّك لا يمكنك الخروج. وهذا كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت، من الآية: 40]، فهل هذا إذن لهم أن يعملوا ما شاؤوا؟ فقال: لا أدري أنت لفظت بالإذن. فقال له: ما أردت الإذن، فلم يفقه المفتي، وغلظ فهمه عن إدراكه وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن الله به ولا رسوله ولا أحد من أئمة الإسلام ـ وأطلق الكلام ـ إلى أن قال:

(فصل) :

ومن هذا الباب اليمين بالطّلاق والعتاق فإنّ إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقضاء عصر الصّحابة رضي الله عنهم فلا يحفظ عن صحابي في صفة القسم إلزام الطّلاق به أبداً، وإنّما المحفوظ إلزام الطّلاق بصيغة الشّرط والجزاء الذي قصد به الطّلاق عند وجود الشّرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال: طلّق رجل امرأته التبة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء، فهذا لا ينازع فيه إلاّ مَن يمنع وقوع الطّلاق المعلّق

ص: 293

بالشّرط مطلقاً، وأمّا مَن يفصل بين القسم المحض والتّعليق الذي يقصد به الوقوع فإنّه يقول بالآثار المروية عن الصّحابة كلّها في هذا الباب؛ فإنّهم صحّ عنهم الإفتاء بالوقوع في صور وصحّ عنهم عدم الوقوع في صور، والصّواب ما أفتوا به في النّوعين ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضاً. إلى أن قال:

(فصل) :

قد عرف أنّ الحلف بالطّلاق له صيغتان:

إحداهما: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق.

والثّانية: الطّلاق يلزمنِي لا أفعل كذا، وأنّ الخلاف في الصّيغتين حاصل قديماً وحديثاً. وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان:

إحداهما: إن فعلت كذا فأنتِ عليّ حرام، أو ما أحلّ الله عليّ حرام.

والثّانية: الحرام يلزمنِي لا أفعل كذا. فمَن قال في:"الطّلاق يلزمنِي"إنّه ليس بصريحٍ ولا كنايةٍ ولا يقع به شيء ففي قوله: الحرام يلزمنِي أولى. ومَن قال: إنّه كناية نوى به الطّلاق كان طلاقاً وإلاّ فلا، فهكذا يقول في"الحرام يلزمنِي"، إن نوى به التّحريم كان كما لو نوى بالطّلاق التّعليق، فكأنّه التزم أن يحرم كما التزم ذلك أن يطلق ولا يجوز أن يفرّق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظٍ لم يوضع للطّلاق ولا نواه، وتلزمه كفّارة يمين لشدّة اليمين إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين فهي يمين منعقدة، وفيها كفّارة يمين وبه أفتى ابن عبّاس.

وفي قوله: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ عليّ حرام كالميتة، والدّم، ولحم الخنْزير، مذاهب:

أحدها: أنّه لغو وباطل لا يترتّب عليه شيء، وهو إحدى الرّوايتين عن ابن عبّاس، وبه قال مسروق والشّعبي وأبو سلمة وعطاء وداود وجميع أهل الظّاهر وأكثر أصحاب الحديث.

الثّاني: أنّها ثلاث تطليقات، وهو قول عليّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر

ص: 294

والحسن ومحمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى.

الثّالث: أنّها حرام عليه، ولم يذكر أهل هذا القول طلاقاً.

الرّابع: الوقف فيها صحّ ذلك عن عليّ وهو قول الشّعبي.

الخامس: إن نوى به الطّلاق فهو طلاق وإلاّ فيمينٌ. إلى أن قال:

التّاسع: أنّ فيه كفّارة الظّهار. صحّ ذلك عن ابن عبّاس أيضاً، وأبي قلابة وسعيد بن جبير، وهو مذهب ابن منبه. قال وهذا أقيس الأقوال وأفقهها. إلى أن قال:

الثالث عشر: أنّه يمين يكفّره ما يكفّر اليمين على كلّ حالٍ صحّ ذلك أيضاً عن أبي بكر الصّدّيق وعمر وابن عبّاس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم، وخلق سواهم رضي الله عنهم. وحجّة هذا القول ظاهر القرآن؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال فلا بدّ أن يتناوله يقيناً فلا يجوز جعل تحلة الأيمان المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التّحلة التي قصد ذكرها لأجله.

وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كلّه، وهو أنّه إن أوقع التّحريم كان ظهاراً ولو نوى به الطّلاق، وإن حلف به كان يميناً مكفِّرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدلّ النّصّ والقياس، فإنّه إذا أوقع كان قد أتى منكراً من القول وزوراً، وكان أولى بكفّارة الظّهار مِمَّن شبّه امرأته بالمحرّمة، وإن حلف به كان يميناً من الأيمان كما لو حلف بالتزام الحجّ والإعتاق والصّدقة، وهذا محض القياس والفقه ألا ترى أنّه إذا قال: لله عليّ أن أعتق، أو أحجّ، أو أصوم لزمه، ولو قال: إن كلمت فلاناً فلله عليّ ذلك عل وجه اليمين، فهو يمين، وكذلك لو قال: هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال:

ص: 295

إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني كان يميناً وطرد هذا1 أيضاً إذا قال: أنت طالق كان طلاقاً، ولو قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، كان يميناً، فهذه هي الأصول الصّحيحة المطرّدة المأخوذة من الكتاب والسّنة والميزان. والله الموفّق. انتهى كلامه في هذه المسألة.

وقال في الإنصاف: لو قال: عليّ الحرام، أو يلزمنِي الحرام، أو الحرام يلزمنِي فهو لغو لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه قرينة أو نيّة، وجهان، وأطلق في المغني والشّرح والفروع.

قلت: الصّواب: أنّه مع النّيّة والقرينة كقوله: أنت عليّ حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع ويتوجّه الوجهان إن نوى به طلاقاً، وإنّ العرف قرينة.

قلت: الصّواب: أنّه مع النّية أو القرينة كقوله: أنت عليّ حرام. انتهى. وقال في المغني.

(فصل) :

واختلف أصحابنا في الحلف بالطّلاق فقال القاضي في الجامع وأبو الخطاب: هو تعليقه على شرط أي شرط كان إلاّ قوله: إذا شئت فأنتِ طالق ونحوه فإنّه عليك، وإذا حضت فأنت طالق، فإنّه طلاق بدعة، وإذا طهرت فأنت طالق ونحوه؛ فإنّه طلاق سنة. وهذا قول أبي حنيفة؛ لأنّ ذلك يسمّى حلفاً عرفاً فيتعلّق الحكم به كما لو قال: إن دخلت الدّار، فأنت طالق؛ ولأن في الشّرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله: والله وبالله وتالله، وقال القاضي في المجرد

1 سقط هنا قوله: (بل نظيره من كلّ وجه أنّه إذا قال: أنت علي كظهر أمِّي، كان ظهاراً، فلو قال: إن فعلت كذا فأنت عليّ كظهر أمِّي كان يميناً، وطرد هذا

) الخ.

ص: 296

هو تعليقه على شرط يقصد به الحثّ على الفعل والمنع كقوله: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، وإن لم تدخلي فأنتِ طالق أو قصد تصديق خبره مثل قوله: أنتِ طالق لقدوم زيد أو إن لم يقدم.

فأمّا التّعليق على غير ذلك نحو قوله: أنتِ طالق إن طلعت الشّمس، أو قدم الحاجّ، أو إن لم يقدم السّلطان فهو شرط محض ليس بحلفٍ؛ لأنّ صيغة الحلف القسم، وإنّما يسمّى تعليق الطّلاق على شرط حلفاً لمشاركة الحلف في المعنى المشهور، وهو الحثّ، أو المنع، أو تأكيد الخبر نحو قوله: والله لأفعلن، أو لا أفعل، أو لقد فعلت، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصحّ تشبيهه حلفاً. وهذا مذهب الشّافعي. فإذا قال لزوجته: فإذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشّمس فأنتِ طالق، لم تطلق في الحال على القول الثّاني؛ لأنّه ليس بحلفٍ وتطلق على الأوّل؛ لأنّه حلف.

وإن قال: إن كلمت أباك فأنتِ طالق طلقت على القولين جميعاً؛ لأنّه علّق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه، فكان حلفاً، كما لو قال: إن دخلت الدّار فأنت طالق. انتهى كلام صاحب المغني.

قال في الاختيارات: ومَن علّق الطّلاق على شرط أو التزم به لا يقصد بذلك إلاّ الحض والمنع فإنّه يجزؤه فيه كفّارة يمينٍ إن حنث، وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت لحصول الشّرط، وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم وعليه يدلّ كلام أحمد في نذر اللّجاج والغضب. انتهى.

وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

(تَمَّ ذلك في: 3 جمادى الآخرة سنة: 1343هـ بقلم الرّبيعِي عبد الله) .

ص: 297

- 34 -

بسم الله الرحمن الرحيم

سُئِل الشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن ديات الشّجاج فأجاب بما يعلم من يراه بأنّ دية الموضحة سواء كانت في الرّأس أو في الوجه بَانَ العظم لو قدر مغرز إبردة فديتها خمس من الإبل، فإن هشمت العظم فديتها عشر فإن طاح منها عظام فديتها خمسة عشر، وفي الرّجل المكسورة أو اليّد فإن كان نفعها زال بالكلّيّة فديتها خمسون ناقة، فإن كان ذهب بعض نفعها ثبت من الدّية بقدر ما ذهب من النّفع، والإصبع إذا قطعت فيها عشر من الإبل، وفي الفصلة منها خمس من الإبل، والرّصاصة أو الرّمح إذا هو في البطن ففيه ثلث الدّية، فإن خرقت الجنب الآخر ففيه ثلثا الدّيّة؛ لأنّها جائفتان، وفي الضّلع بعير إذا انكسر، وفي التّرقوة بعير، وفي الذّراع إذا انكسر بعيران.

والجروح غير التي ذكرنا يجتهد العمال في ديتها ولا يبلغون بها دية التي ذكرنا، وفي الفخذ إذا انكسر بعيران، وفي العضد إذا انكسر بعيران.

- 35 -

بسم الله الرّحم الرّحيم

(مسألة) : سُئِلَ الشّيخ عبد الله أيرخص للرّجل يوم الجمعة ـ أي في ترك صلاتها ـ؟

فأجاب إذا كان قريباً من بلد فلان رخصة له إلاّ في فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع فجميع ذلك ثمانية عشر ألف ذراع. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

ص: 298

- 36 -

ورد كتاب على العلامة الشّيخ عبد الله بن الشّيخ فيه أسئلة شرعية فأجاب صاحبها بما يأتي:

وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل كتابك تسأل فيه عن ثمان مسائل:

الأولى: رجل ادّعى على غائبٍ وأقام البيّنة بدعواه هل يسمعها الحاكم ويحكم بها أم لا؟ وهل للمسافة تحديد أم لا؟

فنقول: اعلم أنّ للعلماء في هذه المسألة قولين:

أحدهما: أنّه إذا طلب من الحاكم سماع البيّنة والحكم بها فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشّروط. وبه قال ابن شبرمة ومالك والشّافعي وأحمد والأوزاعي واللّيث وأبو عبيدة وإسحاق وابن المنذر. واحتجوا بحديث هند المتّفق عليه أنّها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطينِي ما يكفينِي وولدي. قال:"خذي ما يكفيك وولد بالمعروف".فقضى عليه ولم يكن حاضراً.

والثّاني: أنّ الحاكم لا يحكم على الغائب ولا يسمع البيّنة عليه. وبهذا قال شريح وابن أبي ليلى والثّوري وأبو حنيفة، إلاّ أنّ أبا حنيفة قال: تسمع البيّنة ولا يحكم بها إلاّ أن يكون له وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه. واحتجّوا بما روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعلِّي: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقتضِ للأوّل حتّى تسع كلام الآخر فإنّك لا تدري بما تقضي". قال التّرمذي: هذا حديث حسن، ولأنّه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البيّنة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه. وهي

ص: 299

الرّواية الأخرى عن أحمد. قال في الفروع: وعنه لا يحكم على غائبٍ كحقّ الله فيقضي في السّرقة بالغرم فقط.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ القول الثّاني هو الرّاجح والعمل عليه عندنا لوجوه:

الأوّل: أنّ ما احتجّوا به لا يدلّ على موضع النِّزاع؛ لأنّ هذا استفتت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هل يجوز لها الأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها فقال لها: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "، وليس هذا من باب القضاء على الغائب في شيءٍ يوضّحه.

الوجه الثّاني: وهو أنّه لو كان قضاء لأرسل إلى أبي سفيان يحضر مجلس الحكم؛ لأنّ الاستفتاء وقع بمكّة وأبو سفيان إذ ذاك حاضر فيها.

الوجه الثّالث: أنّه لو كان قضاء على الغائب لأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة البيّنة ولم يقض عليه حتّى يسمع البيّنة، والذي يقول بالقضاء على الغائب يشترط لجواز ذلك إقامة البيّنة المقبولة وغيبته مسافة القصر، فدلّ هذا على أنّه فتوى لا قضاء على الغائب، وكيف يقضي عليه مع حضوره وعدم غيبته؟ وهم مجمعون على أنّ القضاء على الحاضر الذي لم يغب دون مسافة القصر لا يجوز، فدلّ هذا على أنّه فتوى لا قضاء. ولهذا تعقب الاستدلال بهذا الحديث على هذه المسألة النّووي ـ رحمه الله تعالى ـ في شرح مسلم بأنّ القضية كانت بمكّة، وكان أبو سفيان حاضراً بها فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء.

الوجه الرّابع: أنّه لو كان قضاء لاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تعذر عليها إقامة البيّنة الكاملة ولم ينقل شيء من ذلك، ولهذا في حديث الأشعث بن قيس في البخاري لما خاصم ابن عمّه في أرضٍ له وادّعى أنّها

ص: 300

له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه "الحديث. ولهذا قال في الشّرح الكبير ردّاً على مَن احتجّ بحديث هند على أنّ الحاكم يحكم.

المسألة الثّانية: هل في المسافة تحديد؟

فالذين يرون جواز القضاء على الغائب يحدّدون المسافة بمسافة القصر، قالوا: لأنّ ما دونها في حكم المقيم.

المسألة الثّالثة: هل تجب اليمين مع بيّنةٍ كاملةٍ ومع عدمها أم لا؟ وهل في المسألة تفريق

الخ وما سبب الاختلاف؟

فنقول: عن ابن عمر أو ابن عبّاس رضي الله عنهم قال: لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى رجال أموال قومٍ ودماءهم، ولكن البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر. قال النّووي: حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا. وبعضه في الصّحيحين. وأصله في الصّحيحين عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى أناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدّعَى عليه".

وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أنّ اليمين على المدّعَى عليه، وقد استدلّ العلماء بقوله:"اليمين على المدّعَى علي هـ"على أنّ المدّعي لا يمين عليه، وإنّما عليه البيّنة، وهو قول الأكثرين. قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه حلّف المدّعي مع بيّنته أنّ شهوده شهدوا الحقّ، وفعله أيضاً شريح وعبيد الله بن أبي عتبة بن مسعود وابن أبي ليلى وسوار العنبري وعبد الله بن الحسن ومحمّد بن عبد الله الأنصاري. وروي عن النّخعي أيضاً.

وقال إسحاق: إذا استراب وجب هذا. وسأل منها الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال أحمد قد فعله عليّ. فقال: أيستقيم هذا؟ فقال: بل فعله عليّ. فأثبت القاضي هذا رواية عن أحمد لكنه حملها على

ص: 301

الدّعوى على الغائب والصّبي. وهذا لا يصحّ؛ لأنّ عليّاً رضي الله عنه إنّما حلّف المدّعي مع بيّنته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون هذه اليمين لتقوية الدّعوى إذا ضعفت باسترابة الشّهود كاليمين مع الشّاهد الواحد. وكان بعض المتقدّمين يحلف الشّهود إذا استراب بهم أيضاً. ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة. وقد قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في المرأة الشّاهدة على الرّضاع أنّها تستحلف، وأخذ به الإمام أحمد، وقد دلّ القرآن على استحلاف الشّهود عند الارتياب بشهادتهم بالوصية في السّفر في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} ، [المائدة، من الآية: 106] .انتهى.

إذا عرفت ذلك، فالذي يتوجّه أنّ البيّنة الكاملة العادلة التي لا يستريب الحاكم في شهادتها لا يحلف معها المدّعي. وقال صاحب الإنصاف: وعنه يحلّف مع الرّيبة، ولنا وجه أن يحلف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه"، فدلّ على الاكتفاء بالشّاهدين. وأمّا إذا استراب الحاكم بالشّهود وخصوصاً في هذه الأزمان فهنا يتوجّه القول بتحليف المدعّي كما فعله عليّ رضي الله عنه وغيره. ويتوّجه أيضاً تحليف الشّهود مع الرّيبة. والله أعلم.

المسألة الرّابعة: إذا كان لرجلٍ على رجلٍ حقّ وقدر على أخذ ماله هل يجوز له أخذ قدر حقّه أم لا؟ وهل قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "هل هو حكم أو فتيا؟

فنقول: هذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال،

ص: 302

وتُسمَّى هذه المسألة مسألة الظّفر:

أحدها: أنّه ليس له أن يخون مَن خانه، ولا يجحد مَن جحده، ولا يغصب مَن غصبه. وهذا مذهب أحمد ومالك.

والثّاني: يجوز أن يستوفي قدر حقّه إذا ظفر بماله سواء ظفر بجنسه أو بغير جنسه، وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم ببيعه ويستوفي ثمنه منه. وهذا قول أصحاب الشّافعي.

والثّالث: يجوز له أن يستوفي قدر حقّه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس. وهذا قول أصحاب أبي حنيفة.

والرّابع: إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ. وهذه إحدى الرّوايتين عن مالك.

والخامس: إن كان سبب الحقّ ظاهراً كالنّكاح والقرابة وحقّ الضّيف جاز للمستحقّ الأخذ بقدر حقّه، كما أذن فيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بنيها، وكما أذن لِمَن نزل بقومٍ ولم يضيّفوه أن يعقبهم في مالهم بمثل قراه كما في الصّحيحين عن عقبة بن عارم قال: قلت للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إنّك تبعثنا فنَنْزل بقومٍ لا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا: "إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضّيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقّ الضّيف الذي ينبغي لهم".

وإن كان سبب الحقّ خفيّاً بحيث يتّهم بالأخذ والنّسبة إلى الخيانة ظاهراً لم يكن له الأخذ، وتعريض نفسه للتّهمة والخيانة، وإن كان في الباطن آخذاً حقّه كما أنّه ليس له أن يتعرّض للتّهمة التي تسلّط النّاس على عرضه، وإن ادّعى أنّه محقّ غير متّهم. قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: وهذا القول أصحّ الأقوال وأسدّها وأوفقها للقواعد الشّرعية، وبه تجتمع الأحاديث؛ فإنّه قد

ص: 303

روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن مالك قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأدّاها إليهم فأدركت لهم من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك. قال: لا. حدّثنِي أبي أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك".وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإنّ له شاهداً من وجهٍ آخر. وفي المسند عن بشر بن الخصاصية أنّه قال: يا رسول الله إنّ لنا جيراناً لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلاّ أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: "لا. أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخن مَن خانك".

فهذه الأحاديث تبيّن أنّ المظلوم في نفس الأمر إذا كان ظلمه غير ظاهرٍ وقدر على مال لِمَن ظلمه وأخذه خيانة لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقّه لكنه خان الذي ائتمنه، فإنّه إذا سلم إليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه ولا باستحقاق ظاهر كان خائناً، وإذا قال: أنا أستحقّ في نفس الأمر لما أخذته لم يكن ما ادّعاه ظاهراً معلوماً، وصار كالمتزوّج امرأة وأنكرت نكاحه ولا بيّنة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجّة ظاهرة فإنّه ليس له ذلك، ولو قدر أنّ الحاكم حكم على رجلٍ بطلاق امرأته ببيّنة اعتقد صدقها وكانت كاذبة في الباطن لم يكن له أن يطأها لما يعلم في الباطن.

فإن قيل: ليس هذا بخيانة بل هو استيفاء حقٍّ. والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة مَن خان، وهو أن يأخذ من مال ما لا يستحقّ نظيره.

فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا السّؤال بأن قال: هذا ضعيف لوجوه:

أحدها: أنّ الحديث فيه: أنّ قوماً لا يدعون لنا شاذة إلاّ أخذوها أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون منّا؟ فقال: "لا".

ص: 304

الثّاني: أنّه قال: "ولا تخن مَن خانك"، ولو أريد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين مَن خانه ومَن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، ولا يحتاج إلى بيان وسؤال، وهو قوله:" ولا تخن مَن خانك ".فعلم أنّه أراد أنّك لا تقابله على خيانته فتفعل به مثل ما فعل بك، فإذا أودع الرّجل مالاً فخانه في بعضه ثم أودع الأوّل نظيره فأراد أخذ ماله منه فهذا هو المراد بقوله:"ولا تخن مَن خانك".

الثّالث: إنّ كونه خيانة لا ريب فيه، وإنّما الكلام في جواز على وجه القصاص، فإنّ الأمور فيها ما يباح القصاص فيه، كالقتل، وقطع الطّريق، وأخذ المال. ومنها ما لا يباح فيه القصاص كالفواحش، والكذب ونحو ذلك. قال الله في الأول:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، [الشّورى، من الآية: 40] .وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ، [النّحل: 126] .فأباح الاعتداء والعقوبة بالمثل. فلما قال صلى الله عليه وسلم ههنا:"ولا تخن مَن خانك"، عُلِمَ أنّ هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل. والله أعلم. انتهى.

فإذا تقرّر هذا، عرفت أنّ الصّواب في المثل ما رجّحه الشّيخ تقيّ الدّين وابن القيم ـ رحمهما الله تعالى ـ فيما تقدّم. وهذا هو الموافق لقواعد الشّرع. والله أعلم.

المسألة الخامسة: إذا كانت أرض بين رجلين لأحدهما الثّلثان، والآخر الثّلث ينتفع صاحب الثّلثين بقسمها ويتضرّر الآخر وطلب مَن لا يتضرّر القسم، هل يجبر الآخر عليه أم لا؟ وإن طلبها صاحب الثّلث هل يجبر الآخر أم لا؟ وإن طلب أحدهما القسمة بالزّمان أي: قسمة المنافع فهل يجبر الممتنع على ذلك أم لا؟ وإذا رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته هل له ذلك أم لا حتّى ينقضي الدّور ويستوفي كلّ واحدٍ منهما حقّه؟

ص: 305

وكذا إذا تلفت المنافع في مدّة الآخر قبل تمكنّه من استيفاء حقّه فهل يرجع على الأوّل ببدل حصّته أم لا؟

فنقول: قال العلماء القسمة نوعان: قسمة تراضٍ، وهي: ما فيها ضرر أو ردّ عوضٍ من أحدهما كالدّور الصّغار والحمام والبيوت المتلاصقة التي لا يمكن قسمة كلّ عينٍ مفردة منها. والأرض التي في بعضها بئر أو بناء ونحوه لا يمكن قسمته بالإجزاء والتّعديل إذا رضوا بقسمتها أعياناً بالقيمة جاز؛ لأنّ الحقّ لهم لا يخرج عنهم، وقد روضوا بقسمته، وهذه جارية مجرى البيع لا يجبر عليها الممتنع، ولا يجوز فيها إلاّ ما يجوز في البيع، لما روى مالك في الموطّأ عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار ".والضّرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسم. وقال الخرقي: هو ما لا يمكن قسمه ولا الانتفاع بنصيبه منفرداً فيما كان ينتفع به مع الشّركة، مثل أن يكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كلّ واحدٍ منهما موضعاً ضيّقاً لا ينتفع به، ولو أمكن أن ينتفع به في شيء غير الدّار ولا يمكن أن ينتفع به داراً لم يجبر على القسمة أيضاً؛ لأنّه ضرر يجري مجرى الإتلاف. وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد.

والثّانية: أنّ المانع هو أن ينقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشّركة، وسواء انتفعوا به مقسوماً أو لم ينتفعوا، قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد، وهذا ظاهر كلام الشّافعي؛ لأنّ نقص قيمته ضرر شرعاً، والضّرر ينتفي.

فأمّا إن كان الضّرر على أحدهما دون الآخر كرجلين لأحدهما الثّلثان وللآخر الثّلث ينتفع صاحب الثّلثين بقسمتها ويتضرّر الآخر فطلب مَن لا يتضرّر القسم لم يجبر الآخر، وإن طلبه الآخر أجبر الأوّل. قال القاضي: إن طلبه الأوّل أجبر الآخر. وذكره أبو الخطاب، وهو ظاهر كلام أحمد في

ص: 306

رواية حنبل. قال: كلّ قسمةٍ فيها ضرر لا أرى قسمتها. وبه قال ابن أبي ليلى وأبو ثور. قال في الفروع: إن طلبها المتضرّر أجبر الآخر. اختاره جماعة. قال في الشّرح: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.

النّوع الثّاني: قسمة الإجبار. وهي ما لا ضرر فيها، ولا ردّ عوضٍ؛ كالأرض الواسعة والقرى والبساتين والدّور الكبار والدّكاكين الواسعة والمكيلات والموزونات والمائعات سواء قيل إنّ القسمة بيع أو إفراز حقٍّ؛ لأنّ بيعه جائز وإفرازه جائز، قالوا: وإذا طلب أحد الشّركاء القسمة في هذا النّوع أجبر الممتنع بثلاثة شروط:

أحدها: إن ثبت عند الحاكم ملكهم ببيّنة. قال في الفروع: ذكره جماعة. يعنِي: هذا الشّرط ولم يذكره آخرون. وجزم به في الرّوضة، واختاره شيخنا ـ يعنِي به الشّيخ تقيّ الدّين ـ وفي المرهون وجهان، وأنّ كلام أحمد في بيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه عام فيما يثبت فيه ملكهما، وما لم يثبت لجميع الأموال التي تباع، وإنّ مثل ذلك لو جاءته امرأة فزعمت إنّها خلية لا ولي لها هل يزوّجها بلا وليّ فيه؟ وجهان.

الثّاني: أن لا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع.

الثّالث: أن يمكن تعديل السّهام من غير شيء يجعل معها فإن لم يمكن ذلك لم يجبر الممتنع؛ لأنّها حينئذٍ تصير بيعاً والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين. والله أعلم.

وأمّا قول السّائل ـ أرشده الله للصّواب ـ: وإذا طلب أحدهما القسمة بالزّمان، أي: بالمنافع فهل يجبر الممتنع على ذلك أم لا؟

ففيها قولان في مذهب أحمد؛ لكن الذي رجّعوه أنّ الممتنع لا يجبر، وعنه يجبر، اختار صاحب المحرّر الإجبار في القسمة.

وأمّا إذا اتّفقوا على المهايأة بزمانٍ بأن تجعل الدّار في يد أحدهما شهراً،

ص: 307

أو عاماً ونحوه، وفي يد الآخر مثلها، أو اقتسموا مهايأة بمكانٍ كسكنى هذا في بيتٍ وسكنى الآخر في بيتٍ ونحوه جاز؛ لأنّ المنافع كالأعيان، ولو تهايؤا في الحيوان اللّبون بأن يحتلب هذا يوماً وهذا يوماً فإنّه لا يصحّ، ولو تهايؤا في الشّجر المثمر لتكون لهذا عاماً ولهذا عاماً لم يصحّ ذلك أيضاً؛ لما فيه من الغرر الظّاهر، لكن طريقه أن يبيح كلّ واحدٍ منهما نصيبه لصاحبه في المدّة التي تكون بيده ويكون من باب المنحة والإباحة لا القسمة، وتكون قسمة المنافع بالزّمان والمكان جائزة لا لازمة سواء عَيَّنَا مدّة أو لم يعيِّنَاها؛ كالعارية من الجهتين، فلو رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته فله ذلك، وإن رجع بعد استيفاء نوبته غرم لشريكه ما انفرد به من الانتفاع بأجرة المثل. والله أعلم.

وأمّا إذا تلفت المنافع في مدّة أحدهما أو نوبته فلا إشكال في أنّه يرجع على صاحبه بقدر نصيبه الذي انتفع به. والله أعلم.

وأمّا المسألة السّادسة: هل قسمة الإجبار إفراز أو بيع، فإن قلتم إنّها بيع، فهل يجوز قسم الأرض المزروعة قبل اشتداد حبّها أم لا؟

فاعلم أنّ هذه المسألة فيها قولان للعلماء:

أحدهما: أنّها إفراز حقّ أحدهما من الآخر وليست بيعاً. وهذا أحد قولي الشّافعي.

والقول الثّاني: أنّها بيع. وحكي ذلك عن أبي عبد الله بن بطه؛ لأنّه يبدل نصيبه من أحد السّهمين بنصيب صاحبه من السّهم الآخر. وهذا حقيقة البيع. وذهب المجدد وحفيده إلى أنّه إن كان فيها ردّ عوضٍ فهي بيع؛ لأنّ صاحب الرّدّ يبدل المال عوضاً عمّا حصل له من مال شريكه. وهذا هو البيع، وإن لم يكن فيها ردّ عوضٍ فهي إفراز.

وفائدة الخلاف: أنّها إذا لم تكن بيعاً جازت قسمة الثّمار خرصاً وما يكال وزناً والموزون كيلاً. قال في التّرغيب في الأصحّ وتفرقهما قبل القبض فيما

ص: 308

يشترط فيه القبض في البيع وإذا حلف لا يبيع فقسم لم يحنث وإذا كان العقار أو بعضه وقفاً جازت قسمته. وعلى القول بأنّها بيع تنعكس الأحكام المتقدّمة كلّها.

قالوا: ولا شفعة مطلقاً أي: على كلا القولين لجهالة الثّمن.

المسألة السّابعة: إذا دفع رجل إلى امرأته خمسة حمران ثم بعد ذلك اختلف فقال الزّوج الخمسة من المهر، والمهر قدره عشرة حمران ولم يذكر الزّوج يوم العطاء أنّها من المهر، فهل القول قول الزّوج؛ لأنّه أعلم بنيّته أم لا؟ وإن قلتم: القول قوله فهل يلزمه يمين؟

فنقول: الذي يظهر من كلام الفهاء في مثل هذه الصّورة أنّ القول قوله بلا يمين؛ لأنّه علم بنيّته. هذا الذي يظهر لي في المسألة. والله أعلم.

وأمّا المسألة الثّامنة: قولهم: ومَن مرّ بثمرة لا حائطٍ لها ولا ناظر ففيه ثلاث روايات..الخ:

إحداها: له الأكل ولا يحمل. قال ابن رجب: هذا الصّحيح المشهور في المذهب. قال في الهداية: اختاره عامة أصحابنا. قال في الشّرح الكبير: وهو المشهور في المذهب لما روي عن أبي زينب التّيمي قال: سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرّحمن بن سمرة وأبي برزة رضي الله عنهم فكانوا يمرّون بالثّمار فيأكلون في أفواههم. وقال عمر: يأكل ولا يتّخذ خبيئة، ثم ذكر القولين الآخرين، ثم قال: ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن التّمر المعلّق فقال: "ما أصاب منه ذو الحاجة غير متّخذ خبيئة فلا شيء عليه، ومَن أخرج منه شيئاً فعليه غرامة مثليه والعقوبة".قال التّرمذي: هذا حديث حسن.

وروى أبو سعيد الخدري عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " إذا مررت ببستانٍ فناد صاحب البستان ثلاثاً فإن أجابك، وإلاّ فكل من غير أن تفسد".

وروى سعيد بإسناده عن الحسن عن سمرة عن النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم

ص: 309

مثله ولأنّه قول مَن سمّينا من الصّحابة من غير مخالفٍ فكان إجماعاً.

فأمّا أحاديثهم فهي مخصوصة بما رويناه من الأحاديث والإجماع.

وأمّا الزّرع ولبن الماشية ففيهما روايتان. قال أحمد: لا يأكل إنّما رخص في الثّمار ليس الزّرع.

والثّانية: قال: يأكل من الفريك؛ لأنّ العادة جارية به يأكله رطباً أشبه التّمر والزّبيب ـ إلى أن قال ـ: والأولى في الثّمار وغيرها أن لا يأكل منها إلاّ بإذن لما فيها من الخلاف، ولبن الماشية روي عن أحمد كذلك فيه روايتان:

إ حداهما: يجوز أن يشرب ويحلب ولا يحمل لما روى الحسن عن سمرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يكن فيها أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل". رواه التّرمذي. وقال: حديث حسن صحيح. والعمل عليه عند بعض أهل العلم. وهو قول إسحاق.

والثّانية: لا يجوز لما روى ابن عمر مرفوعاً:"لا يحلبن أحد ماشية أحدٍ إلاّ بإذنه".متّفق عليه. والله أعلم. وأنت في أمان الله والسّلام. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلم.

- 37 -

بسم الله الرّحمن الرّحيم.

من عبد الله بن الشّيخ إلى حضرة الأخ في الله عبد الوهّاب أبو نقطة سلّمه الله من الآفات، واستعمله بالباقيات الصّالحات.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن الكلام الذي ذكره ابن موسى.

الأوّل: أنّه قال: مَن قال: يعلم الله كذا يكفر فالذي قال: هذا تائه وواهم وأظنّ أنّكم ما فهمتم معنى كلامه، والحقّ أنّه إذا قال: يعلم الله كذا وكذا، وهو

ص: 310

صادق فلا بأس بذلك، وإنّما الإثم والحرج على مَن قال: يعلم كذا وكذا وهو كاذب، فهذا كذب وافتراء ولا يجوز ولا يبلغ إلى الكفر.

والثّاني: قوله إنّ مَن صلّى على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عشراً صلّى الله عليه مائة، ومَن صلّى عليه مائة صلّى الله عليه ألفاً. فهذا حقّ وهو مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن صلّى عليَّ مرّةً صلّى الله عليه بها عشراً ".وهو ثابت في الصّحيح.

وأمّا قول ابن عبد الهادي إنّ التّلفّظ بالنّيّة سنة عند الصّلاة فهو خطأ وجهالة، وإنّما غرّه بعض كلام المتأخّرين والقائل لذلك مخطئ، فإنّ السّنة هو ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القيم رحمه الله في الهدي: ولم ينقل عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه أنّه تلفّظ بالنّيّة ولا استحبّها أحدٌ من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. انتهى.

وإنّما استحبّها بعض المتأخّرين من أصحاب الشّافعي وغيره، فردّ عليهم المحقّقون من أهل مذهبه وغيرهم، وكلّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا ينبغي للمؤمن بل للمسلم أن يتّبع غلطات العلماء بل يعرض أقوالهم على الهدي النّبويّ، فما وافق ذلك قبله وما خالفه ردّه على قائله كائناً مَن كان. فأنتم اذكروا لابن عبد الهادي كلامنا، ولا يخالف ويهون عن فتياه.

وكذلك إنكاره الخرص فالخارص الذي عليه الاجتهاد والتّحرّي، والخرص فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يبعث عمَّالَه إلى الثّمار يخرصونها عند استوائها، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، [الأحزاب، من الآية: 21] .

وأمّا الموعظة والنّصيحة، فليس هنا أعظم من وصية الله تعالى للأولّين والآخرين. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

ص: 311

وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ، [النّساء، من الآية: 131] .وتقوى الله تبارك وتعالى أن يفعل ما أمر الله به، ويترك ما نهى الله عنه وهذا هو الدّين كلّه.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، [المائدة: 35] .فأخبر سبحانه عباده المؤمنين بسبب الفلاح، وهو تقواه وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله، فهذه الثّلاث هي مجامع الخير. زرقنا الله وإيّاكم إيماناً صادقاً، وعملاً متقبّلاً، ونيّةً خالصةً.

وسلموا لنا على يحيى وجميع إخوانكم. وأنتم في أمان الله وحفظه. وعبد العزيز وسعود وآل الشّيخ طيّبون ويبلّغونكم السّلام.

- 38 -

(هذه مسائل فقهية سُئِل عنها الحافظ الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب)

مسألة _1 ما قول سادة العلماء أئمة الدّين في رجلٍ طلّق امرأته وهي في الحيض، هل يقع عليها أم لا يقع؟

مسألة _2 الطّلقات الثّلاث المجموعة، هل تقع واحدةً أم ثلاثاً؟

مسألة _3 وهذه المسألة التي وقع الإشكال فيها وهي من أهم هذه المسائل، وهي التي نصرها الشّيخ تقيّ الدّين بالأدلّة، وهو الذي يُسَمَّى التّعليق، وجزموا أنّه متى وقع الشّرط وقع الجزاء بلا ريب عندهم، وصورته أنّه إذا كان بين رجلين شحناء وأراد أحدهم أن يتعدّى على الآخر وغضب، وقال: إن فعلت كذا، أو إن أخذت هذا، أو إن لم أفعل كذا، أو إن فعلت كذا، فامرأتي طالق، أو قال لامرأته: إن فعلت كذا، أو إن لم تفعلي كذا، فأنتِ طالق، هل يقع بما ذكرنا طلاق أم يمين؟ وإذا قلتم هذا يمين فما

ص: 312

كيفية التّعليق الذي يقع به الطّلاق؟ أفتونا مأجورين.

مسألة _4 إذا زوجت امرأة قبل أن تعتد أو فسخت منه بسبب عقدٍ فاسدٍ، فهل إذا اعتدّت تكون بالخيار أم ترد على زوجها؟

مسألة _5 إذا طلقت امرأة ومضى عليها ثلاثة أشهر ولم تحض فيهن إلاّ حيضةً واحدةً، هل يجوز العقد عليها إذا أرادت التّزويج أم لا بدّ من ثلاث حيضات؟ أفتونا مأجورين.

الجواب: ـ وبالله التّوفيق ـ:

أمّا مسألة الطلاق في الحيض، فالمشهور والمفتَى به عند علماء الأمصار من الصّحابة والتّابعين فمَن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم أنّ الطّلاق في الحيض طلاق بدعة ومعصية لله ولرسوله، ولكنّه لازم ويحسب عليه من الطّلقات الثّلاث. وهذا هو المعمول به عندنا، ودلائل ذلك كثيرة مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما. ومن أشهر ذلك أنّ ابن عمر رضي الله عنهما طلّق امرأته وهي حائض في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بمراجعتها حتّى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلّق وإن شاء أمسك. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّها حسبت عليه طلقة. والله أعلم.

وأمّا الثّانية في الثّلاث المجموعة ففيها خلاف مشهور بين العلماء في جوازها، وفي كونها تقع ثلاثاً، فالذي عليه الأكثر أنّ التّلفّظ بها بكلمةٍ واحدةٍ بدعة ومعصية؛ لأنّ الله إنّما أباح الطّلاق للعدّة وقال:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، [البقرة، من الآية: 229] .والمرتّان لا تكون إلاّ مرّة

ص: 313

بعد أخرى، ولما أخرجه النّسائي وغيره أنّ رجلاً طلّق امرأته ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال:" أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ".الحديث.

وأمّا كونها تلزم وتقع ثلاثاً فالذي عليه جمهور الصّحابة فَمَن بعدهم أنّها تقع ثلاثاً كما أمضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وتبعه على ذلك جمهور الصّحابة والتّابعين لهم بإحسانٍ من الأئمة الأربعة وغيرهم. والأدلّة على ذلك مذكورة في كتب الفقه، وشرح الحديث. وأجابوا عن حجج القائلين بعدم الوقوع وأنّها لا تقع إلاّ واحدة بأجوبةٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع ذكرها.

وأمّا تعليق الطّلاق فالذي عليه أكثر أهل العلم أنّه إذا علّقه على شرطٍ ووجد الشّرط وقع، وفرّق الشّيخ تقيّ الدّين وغيره من أهل العلم في ذلك فقالوا: إن كان قصده وقوع الطّلاق كما يقول: إن زنيت فأنتِ طالق، وإن سرقت فأنتِ طالق، وقع وإن كان قصده الحضّ والمنع للمرأة أو لنفسه عن فعل الشّرط وليس قصده وقوع الطّلاق لم تطلق المرأة بذلك ويكون يميناً مكفِّرة نظراً إلى كونه إنّما قصد بذلك الحلف والحضّ والمنع لا وقوع طلاقٍ، وهذا الذي يختاره شيخنا رحمه الله ويفتي به. والله أعلم.

وأمّا إذا تزوّج المرأة في العدّة أو بعقدٍ فاسدٍ وفسخ النّكاح، فإن كان الفاعل لذلك جاهلاً فإنّه يجوز له نكاحها إذا انقضت عدّتها بعقدٍ جديدٍ برضاء المرأة والولي، وإن كان فاعل ذلك عارفاً بالتّحريم، فإنّه يفرّق بينهما ولا تحلّ له أبداً كما ذكر ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والله أعلم.

وأمّا عدّة الحائض فثلاث حيضات سواء كان ذلك طلاقاً أو فسخاً. هذا الذي عليه جمهور العلماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 314

- 39 -

مسألة: إن قال: وحقّ الله فهو يمين مكفِّرة1.هذا المذهب. وبه قال مالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة لها؛ لأنّ حقّ الله طاعاته ومفروضاته، وليست صفة له. ولنا أنّ لله حقوقاً يستحقّها لنفسه من البقاء والعظة والجلال، وقد اقترن عرف الاستعمال بالحلف بهذه الصّفة فينصرف إلى صفة الله، كقوله وقدرة الله عليه، وإذا قال: وعهد الله فهي2 يمين مكفِّرة وبه قال مالك. وقال الشّافعي: لا يكون يميناً إلاّ أن ينوي اليمين بعهد الله الذي هو صفته. وقال أبو حنيفة: ليس بيمينٍ ولعلّهم ذهبوا إلى أنّ العهد من صفات الفعل فلا يكون الحلف به يميناً. ولنا أنّ عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا عنه لقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ، [يّس، من الآية: 60] .وكلامه قديم صفة له فوجب أن يكون يميناً، وإذا قال: وأيم الله فهي مكفّرة؛ لأنّه عليه السلام كان يقسم بها، وإذا قال: وأمانة الله فهو يمين مكفِّرة. قال القاضي: لا يختلف المذهب فيه، وبه قال أبو حنيفة، وإن قال: أحلف بالله أو أشهد بالله، كان يميناً إذا ذكر اسم الله. وهذا قول عامّة الفقهاء، ولا نعلم فيه خلافاً. انتهى من الشّرح تلخيصاً.

وإذا قال: حلفت ولم يكن حلف، قال الإمام هي كذبة ليس عليه يمين. وهذا المذهب قال المصنّف والشّارح وعنه عليه كفّارة؛ لأنّه أقرّ على نفسه. انتهى من الإنصاف.

قال في اقتضاء الصّراط المستقيم بعد أن ذكر الكراهة في تعلّم غير

1 فيه أنّه يُذَكِّر ضمير اليمين تارة ويؤنّثه أخرى، واليمين مؤنّثة، ولعلّ الاختلاف من النّاسخ وإن تذكير الضّمير باعتبار ما قبله.

2 فيه أنّه يُذَكِّر ضمير اليمين تارة ويؤنّثه أخرى، واليمين مؤنّثة، ولعلّ الاختلاف من النّاسخ وإن تذكير الضّمير باعتبار ما قبله.

ص: 315

اللّغة العربية، وأيضاً فإنّ نفس اللّغة العربية من الدّين ومعرفتها فرض واجب. فإنّ فهم الكتاب والسّنة فرض ولا يفهم إلاّ بفهم اللّغة العربية، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب. انتهى المقصود منه.

وقال في شرح الإقناع في أوّل: (كتاب الشّهادات) : وإذا تحملها أي الشّهادة الواجبة وجبت كتابتها، ويتأكّد ذلك في حقّ رديء الحفظ؛ لأنّ ما يتم الواجب إلاّ به فهو واجب. انتهى المقصود منه.

مسألة: ما حكم بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه كالقت والجزر والفجل والثّوم والبصل وشبه ذلك؟

فالجواب: اعلم أنّ في هذه المسألة قولين للعلماء:

أحدهما: أنّه لا يجوز حتّى يقلع كما هو مذهب الشّافعي ورواية عن أحمد. قالوا: لأنّ هذه أعيان غائبة لم تر.

والثّاني: جواز بيعه وإن لم يقلع. وهذا هو الصّواب؛ لأنّ هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبر يستدلّون بما ظهر من الورق على المغيب في الأرض كما يستدلّون بما يظهر في العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلّون بما يظهر من الحيوان على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك، والمرجع في ذلك إليهم. وأيضاً العلم بالمبيع شرط في كلّ شيء بحسبه فما يظهر بعضه وكان في إظهار باطنه مشقّة إذا خرج اكتفى بظاهره كالعقار؛ فإنّه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان وأمثال ذلك. وأيضاً إنّما احتيج إلى بيعه فإنّه يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره، فيبيحه الشّارع للحاجة مع قيام السّبب، كما أرخص في العرايا بخرصها، وأقام الخرص مكان الكيل بجنسه ولم يكن ذلك من المزابنة التي نهي عنها. والله أعلم.

ص: 316

مسألة: بيع المفاتي هل يصحّ بيع الموجود منها والحادث أم لا تباع إلاّ لقطة لقطة؟

فالجواب: من أصحاب الشّافعي وأحمد مَن يمنع بيعها إلاّ لقطة لقطة، وكثير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما يجوزون بيعها مطلقاً على الوجه المعتاد، وهذا هو الصّواب؛ فإنّ بيعها لا يمكن في العادة إلاّ على هذا الوجه، وبيعها لقطة لقطة إمّا متعذر وإما متعسر؛ فإنّه لا يتميّز لقطة عن لقطة إذ كثير من ذلك لا يمكن لقاطه بأسره فيبيع المقاتي بعد بدو صلاحها، وإن كان المبيع لم يتخلق بعد ولم ير، ولهذا إذا بدا صلاح بعض الشّجرة فإنّه صلاح لباقيها باتّفاق العلماء ويكون صلاحاً لسائرها في البستان من ذلك النّوع في أظهر قولي العلماء، وقول جمهورهم بل يكون صلاحاً لثمرة جميع البستان التي جرت العادة بأن يباع جميعه في أحد قولي العلماء، وقد ذكرنا هذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع. انتهى.

- 40 -

بسم الله الرحمن الرحيم

(هذه الأجوبة السّديدة عن المسائل المفيدة للشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب ـ رحمهما الله وعفا عنهما بِمنّه وكرمه)

الحمد لله الذي أوجب البيان على العلماء، وأوجب السّؤال على مَن لا علم عنده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الكتاب وفهم الخطاب وسألت عن ستّ مسائل:

الأولى: ما قول العلماء رضي الله عنهم في رجلٍ خبب امرأة على زوجها؟

الجواب ـ وبالله التّوفيق ـ: نكاح الثّاني الذي خببها على زوجها باطل

ص: 317

ويجب أن يفارقها؛ لأنّه عاصٍ لله بفعله ذلك.

الثّانية: إذا أرضعت امرأة طفلاً وله إخوة وأخوات لم يرضعوا منها لها بنون وبنات هل يجوز لإخوته وأخواته أن يتزوّجوا من أولاد التي أرضعته والعكس أم لا؟

الجواب ـ وبالله التّوفيق ـ: إذا أرضعت المرأة طفلاً رضاعاً يحرِّم شرعيّاً في الحولين صار الطّفل ابناً للمرضعة وابناً لزوجها الذي نسب الحمل إليه فصار في التّحريم والخلوة ابناً لهما وأولاده أولادهما، وإن نزلت درجتهم وجميع أولاد المرضعة إخوة للمرتضع وأخواته، وإن نزلت درجتهم. وأمّا المرتضع وهو المسؤول عن إخوته فالحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا، ولا تنتشر إلى مَن في درجته من إخوته وأخواته، ولا إلى أعلى منه كأبيه وأمّه فلا يحرم على زوجها نكاح أمّ الطّفل المرتضع من النّسب ولا نكاح أخته وعمّته، ولا بأس أن يتزوّج الرّجل أخت أخيه من الرّضاعة.

الثّالثة: ما صفة الإحداد، وهل المملوكة فيه كالحرّة أم لا؟

الجواب ـ وبالله التّوفيق ـ: الإحداد واجب في عدّة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، أو شهران وخمسة أيام إن كانت أمة، فإن كانت حاملاً فعتدّتها بوضع حملها، وذلك على الحرّة والأمة والكبيرة والصّغير فيحرم على المحدة الزّينة كالأحمر والأصفر ونحوهما، ويباح لبس الأبيض وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة وغسل رأسها بالسّدر والمشط واستعمال الدّهن غير المطيّب، ويجب عليها عدّة الوفاة في المنْزل الذي مات زوجها فيه، وهي ساكنة فيه إلاّ لعذر من خوفٍ أو هدمٍ ونحوهما، ولا تخرج

ص: 318

من منْزلها، ولها الخروج نهاراً لحوائجها وتجب العدّة من حين الموت.

الرّابعة: الرّجل الذي ليس من أهل البيت هل يسلم على المرأة في الإحداد وغيره أم لا؟

الجواب ـ وبالله التّوفيق ـ: المرأة المحدّة وغيرها في ذلك سواء، فالمرأة مع الرّجل إن كانت زوجته أو أمته أو محرماً من محارمه كأمه وابنته وأخته ونحوها فهي معه كالرّجل، فيستحبّ لكلّ واحدٍ منها ابتداء الآخر بالسّلام ويجب على الآخر ردّ السّلام عليه، وإن كانت المرأة أجنبية وكان جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلّم الرّجل عليها، ولو سلّم لم يجز لها ردّ السّلام ولا تسلم هي عليه ابتداء، وإن سلمت لم تستحقّ جواباً فإن أجابها كره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرّجل وعلى الرّجل ردّ السّلام عليها.

الخامسة: إذا قال الرّجل: عليَّ (الطّلاق) بالثّلاث أن أفعل كذا، أو لا أفعل كذا ففعله؟

الجواب ـ وبالله التّوفيق ـ: إذا لم ينو الطّلاق بل مراده الحثّ والمنع فهو يمين مكفِّرة يخيّر بين عتق رقبة أو كسوة عشرة مساكين أو إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكينٍ مدي شعيرٍ، أو مدي تَمرٍ، أو مدُ بُرٍّ، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام.

السّادسة: إذا كان لرجلٍ زوجتان أو أكثر فحاضت إحداهن هل عليه أن يبيت عندها ليلتها أم لا؟

الجواب ـ وبالله التّوفيق ـ: عليه أن يبيت عندها؛ لأنّ القسم يراد للإيواء إلاّ إن أذنت له، ولكن لا يجامع الحائض والنّفساء حتّى يطهرن من الحيض وتغتسل بعده. والله أعلم.

ص: 319

وأمّا مسألة الحامل؛ إذا رأت الدّم فإنّه ينظر في حال المرأة فإن كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت فلا تلتفت إليه بل تصلّي فيه وتصوم ويكون حكمها حكم المستحاضة وليس في هذا اختلاف.

وأمّا إن كانت عادة المرأة أنّها تحيض وهي حامل ويأتيها في عادة الحيض وتطهر في عادة الطّهر فهذا الذي اختلف في العلماء والرّاجح أنّه حيض إذا كان على ما وصفنا.

وأمّا مسألة اليتيمة إذا طلبت الزّواج، فيجوز لوليّها تزويجها وإن لم تبلغ، إذا كنت لها تسع سنين، لكن لا يجبرها ولا يزوّجها إلاّ برضاها إذا كانت يتيمة. وأمّا الأب فيجوز له إجبار الصّغير التي لم تبلغ. والبلوغ يحصل بالحيض وبإنبات الشّعر الخشن حول القبل.

وأمّا مسألة الأمي، فهو الذين لا يحسن الفاتحة أو يحلن فيها لحنا يحيل المعنى.

وأمّا إذا كان يحسن الفاتحة ولا يحيل ألفاظها عن معانيها فهذا لا يُسَمَّى أميّاً وأحقّ النّاس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، فإذا وجد القارئ قدم على غيره. وأمّا إذا أقيمت الصّلاة ثم جاء القارئ وهم يصلّون جاز للقارئ أن يصلّي معهم إذا كان الإمام يحسن قراءة الفاتحة، ولا يلحن فيها لحناً يحيل المعنى. وأمّا الذي يحلن فيها لحناً يحيل المعنى فلا يجوز أن يصلّي إلاّ بمثله.

وأمّا مسألة تعيين الإمام فإذا عيّن إماماً وقصده أن لا يصلّي خلف غيره، فهذا إذا بان أنّه غيره لم تصحّ صلاته؛ لأنّه نوى أن لا يصلّي خلفه. وأمّا إذا عيّن إماماً ونيّته أنّه يصلّي خلف مَن يصلّي بالجماعة وليس له قصد في تعيين الإمام كما هو الواقع في المساجد التي أئمتها راتبون، فهذا إذا بان له أنّه غير الإمام الرّاتب صحّت صلاته؛ لأنّ قصده الصّلاة مع الجماعة. والله أعلم.

وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه. وسلّم.

(تَمَّت رسائل الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله .

ص: 320