المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة القلم بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا - التفسير البياني للقرآن الكريم - جـ ٢

[عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ]

الفصل: ‌ ‌سورة القلم بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا

‌سورة القلم

بسم الله الرحمن الرحيم

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ

ص: 37

رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }

صدق الله العظيم

ص: 38

السورة مكية مبكرة، إلا آيات (17: 33، 48: 50) فمدنية.

والمشهور أنها نزلت بعد العلق، فتكون ثانية السور في ترتيب النزول بعد "اقرأ" أول الحوى. وهو الذي ذهب إليه أكثر الأئمة بنص عبارة "ابن حجر" فيما نقل السيوطى. وقال "البرهان الجعبرى" في منظومته (تقريب المأمول في ترتيب النزول) :

اقرأ، ونون، مزمل، مدثر والحمد، تبت، كورت، الأعلى علا

ومهما يكن الخلاف في ترتيب نزول القلم، فهي من أوائل السور المكية المبكرة التي تهدينا إلى الجو العام في منزل الوحي، أول المبعث.

* * *

وذكر بعضهم في أسباب نزولها أنها أو معظمها "في الوليد بن المغيرة المخزومي وأبى جهل بن هشام المخزومي. ومناسبتها لما قبلها أنه فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصباً. وكان ما أخبر تعالى به هو ما يلقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وكان الكفار ينسبونه مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون، فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون، وتعظيم أجره على صبره على أذاهم، والثناء على خلقه العظيم".

قولهم: مناسبتها لما قبلها، يعنون سورة "الملك" التي وضعت قبلها في ترتيب المصحف. وفيه التفات إلى نسق هذا الترتيب، ولا يفوتنا معه أن سورة الملك نزلت متأخرة، فهي السابعة والسبعون في ترتيب النزول على المشهور، بينها وبين سورة القلم، على أي قول في ترتيب نزولها، أكثر من سبعين سورة!

ص: 39

وكونها نزلت في الوليد أو أبي جهل لا يقتضي الإعتبار بخصوص السبب، حيث لا قرينة تصرف إليه عموم لفظ الآية، وأسباب النزول لا تعدو أن تكون قرائن مما حول النص، تعين على فهم الظروف التي نزلت فيها السورة أو الآية. على ما سبق بيانه في تفسير سورة الضحى.

* * *

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .

وتبدأ السورة بحرف (ن) يكتب هكذا حرفاً واحداً. ورسمها في المصحف الإمام على هذا، يجعلنا نستبعد ابتداء ما نقل الإمام الطبري من اختلاف أهل التأويل فيه:

قيل هو النون أي الحوت واحد النينان، أو هو لوح من نور، أو اسم للدواة.... ويمنعه أن هذا النون يرسم ثلاثة أحرف "نون" وليس حرفاً واحداً (ن) .

وهذا الاستبعاد يعفينا من الوقوف عندما ما روى عن "ابن عباس ومجاهد" في هذا الحوت الذي عليه الأرضون، تحت الأرض السابعة! وإن الله سبحانه خلقه قبل السموات والأرض، فلما دحيت الأرض اضطرت الحوت فمادت الأرض فأثبت بالجبال!.

كما يعفينا من العقد اللغوية والنحوية والصرفية في إعراب نون، اسماً للدواة، وقد صرح الزمخشري بأنه لا يدري - ولا أدري معه - "أهو وضع لغوي أم شرعي؟ وهل اسم جنس، أو علم لنون يمنع من الصرف؟ ".

وفي قول آخر إن (ن) اسم للسورة. وليس فذ هذا القول ما يغني، لأن السورة على هذا القول إنما سميت بهذا الحرف في أولها، كما سميت سورتا (ص، ق) بالحرفين لإي أولهما.

ويبدو أن الراغب الأصفهاني، اختار أن تكون (ن) الحرف المعروق من حروف الهجاء، وهو ما نطمئن إليه، فتكون سورة القلم هي أول سورة نزلت مفتتحة بحرف

ص: 40

من هذه الحروف المقطعة بفواتح السور، وبعدها نزلت ثمان وعشرون سورة مفتتحة بهذه الحروف، منها ست وعشرون سورة مكية، وثلاث سور من أوائل العهد المدني: البقرة وآل عمران، والرعد.

ومجموع حروفها بغير المكرر منها أربعة حرفاً، هي نصف حروف معجمنا.

وقد اختلف المفسرون في تأويلها، وأنقل بإيجاز من أقوالهم فيها:

* إنخا إشارات إلى صفاته تعالى أو أسمائه، وأصحاب هذا القول لا يكادون يجمعون على دلالات الحروف فيه، ففي الكاف مثلاً، قيل، أو كريم، أو كبير. وفي حرف (ق) قيل: قادر أو قاهر. وفي حرف (ن) قيل: ناصر، أو نور.....

* وقيل هي علامات وضعها كتاب الوحي. ويمنعه أن تدخل هذه العلامات، وهي من قول البشر، في آيات القرآن بعد البسملة.

* وقيل هي من حساب الجمل. وهذا من إسرائيليات "حيى بن أخطب اليهودي" فتقول الراوية إن أخاه أبا ياسر مر في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة "الم" فأخبر حيى بن أخطب بذلك، فمشى إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقال: "لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما ملكه وما أجل أمته غيرك: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة. أفندخل في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟

ثم سأل: هل مع هذا غيره؟ أجاب عليه الصلاة والسلام: نعم، المص. فعدها اليهودي بحساب الجمل فإذا هي إحدى وستون ومائة سنة، ثم عد "المر" فإذا هي إحدى وسبعون ومائتا سنة "وانصرف بقومه للنبي عليه الصلاة والسلام: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً ما أعطيت أم كثيراً".

* وقيل هي بمثابة تنبيهات لما يكون بعدها من الحديث، وأكثر ما يكون بعدها ذكر القرآن الكريم. وقد فصل "الفخر الرازي" هذا الوجه، وكذلك "ابن قيم

ص: 41

الجوزية" في (التبيان) واستوفاه "ابن كثير" في تفسيره على وجه الاستقراء.

* وقيل إنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها. وقريب منه ما روى عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور: إن لكل كتاب سراً وإن سر هذا القرآن فواتح السور.

* واختار ابن القيم أن يكون في افتتاح السور بها، تنبيه على شرف الحروف وعظم قدرها وجلالتها، إذ هي مبانى كلامه تعالى وكتبه التي أنزلها على رسله، وأقدر عباده على التكلم بها، وهذا من أعظم نعمه عليهم كما هو من أعظم آياته.

وهذا الوجه قريب إلى مجال دراستنا البيانية، وأقرب منه قول من قالوا إن هذه الحروف "ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من مثل حروفهم.... ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفوها فيكون ذلك تعريفاً لهم ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله".

وقد عرضت للموضوع بمزيد تفصيل وتدبر، في كتاب (الإعجاز البياني للقرآن) .

* * *

ومجيء الحرف (ن) في (سورة القلم) المكية المبكرة، فيه لفت واضح إلى سر الحرف في البيان المعجز. وفي السورة جدل من المشركين في نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وجحد لمعجزته، وقول بأنها من أساطير الأولين. فكأن هذه تمهيد للمعاجزة التي تتحداهم أن يأتوا بمثله، واستدراجهم إلى أن تلزمهم الحجة، بأن يعرضوه على ما عرفوا من أساطير الأولين. وإن كلماته لمن الحروف التي عرفوها في عربيتهم، لغة الكتاب العربي المبين....

ص: 42

وقد كانت كلمة الوحي الأولى "اقرأ" لافته إلى آية الله الكبرى، في الإنسان الذي خلقه سبحانه من علق، وعلم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم.

وبعدها نزلت سورة القلم مبتدأة بحرف (ن) لافته إلى سر الحرف الذي هو مناط القراءة والعلم والبيان، تنطق به منفرداً منقطعاً فلا يعطي أي معنى أو دلالة، بل لا يكاد يخرج عن مجرد صوت، ثم يأخذ الحرف موضعه من الكلمة في البيان، فيتجلى سره الأكبر.

* * *

{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .

قال الإمام الطبري إن القلم معروف "غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام، القلم الذي خلقه تعالى فأمره بكتابه ما هو كائن إلى يوم القيامة".

وأطال "ابن قيم الجوزية" في شرح فوائد القلم وبيان عظمته، قال:"فأقسم بالكتاب - ن - وبالقلم الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه وكتب به الوحي وقيد به الدين واثبت به الشريعة وحفظ بها العلم وقامت مصالح العباد في المعاش والمعاد".

ثم عقد فصلاً في مراتب الأقلام فجعلها اثنى عشر قلماً، أعلاها وأجلها قدراً قلم القدر السابق. وقد أقسم به إعظاماً له.

ويوجه هذا إلى تأويلهم {وَمَا يَسْطُرُونَ} بأن الضمير في الفعل للحفظة من الملائكة الذين يكتبون بأمر الله أقدار الخلائق وأعمالهم في اللوح المحفوظ.

وفيه قول آخر، هو أنه القلم المألوف المعتاد الذي يسطر به الناس كتاباتهم ووجه إعظامه بالقسم، أن الله تعالى هو {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .

والذي نطمئن إليه - والله أعلم - هو أن تكون الواو هنا قد خرجت عن معناها

ص: 43

الأول في القسم للتعظيم، لملحظ بياني، هو اللفت إلى ما عهدوا من أمر القلم والكتابة واعتمادها على سر الخوف، توطئةً إيضاحية للرد على جدل المشركين في كلمات الله تعالى.

والأقرب عندنا أن يكون الضمير في {يَسْطُرُونَ} لمن كانوا ينقلون من العرب أساطير القدماء ويحلولون أن يشبهوا القرآن الكريم بها، إذ نلمح في إيثار {يَسْطُرُونَ} على: يكتبون: ما يتجه بها قوله تعالى في الآية بعدها من سورة القلم: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .

ونظيره ما في الآيات:

{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان5)

{يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنعام 25)

{لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال 31)

{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (النمل 68)

وآيات (النحل 24، الأحقاف 17، المطففين 13) .

هم إذن، كانوا على علم باساطير الأولين، وفيهم من كان يكتتبها ويتلو منها تحديداً للمصطفى عليه الصلاة والسلام، على ما روى "ابن إسحاق" في (السيرة النبوية) . وهذه هي آيات الكتاب المعجز معروضة عليهم بلغتهم وحروفهم، فليقابلوها على ما لديهم مما كانوا يسطرون.

* * *

والرسول عليه الصلاة والسلام في أول عهدده بالوحي، كان في أشد الحاجة إلى ما يثبت فؤاده ويذهب عنه قلق النفس وشواغل البال. وكتب الحديث والسيرة،

ص: 44

تصف حالته النفسية حين آب من غار في ليلة القدر، مرتعداً بادى الحيرة والقلق، وأفضى إلى زوجه السيدة خديجة بما رأى وما سمع فقالت رضي الله عنها: أبشر يا ابن العم واثبت فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتؤدى الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث....

كما نقلت كتب الحديث والسيرة وطبقات الصحابة، ما كان من تلقي "ورقة بن نوفل" لخبر الوحي الأول، وقوله للمصطفى عليه الصلاو والسلام: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتقاتلنه ولتخرجنه!.

وفي ضوء ما تواتر كم أخبار عن حالة المصطفى عليه الصلاة والسلام أول عهده بالوحي: وما واجه من تكذي المشركين وحيرتهم فيما يصفونه به، نتلو الآيات:

{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

فندرك عمق أثرها في تثبيت المصطفى وتقوية فؤاده، وتهيئته لما هو بسيل أن يحتمل من أعباء التبليغ لرسالته، والصبر على ما يلقى من عنت المكذبين الضالين، وسفة الوثنية القرشية العاتية.

وجمهرة المفسرين على أن جملة {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} اعتراضية، كما تقول لصاحبك: أنت بحمد الله فاضل.

وهذا أقرب ممن تأولوه: ما أنت بمحنون والنعمة بربك. ذكره "أبو حيان" في (البحر) وقال إنه تفسير معنى لا تفسير إعراب.

وفيه تكلف لا يسيغه حس العربية المرهف الذي يجلوه البيان القرآني في ذورة نقائه. وإنما يفهم في بساطة ويسر، بالمألوف كم بيان العربية في مثل: قولك: ما أنت بفضل الله بشقي.

وقد سبق استقراء ما في القرآن من لفظ نعمة، مادة وصيغة، في تفسير آية التكاثر:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} وهدى الاستقراء إلى أن القرآن يستعمل النعمة

ص: 45

لنعم الدنيا، ويخص صيغة النعيم بدلالة إسلامية على نعيم الآخرة.

ونقف هنا عند هذه الباء في خبر ما: {بِمَجْنُونٍ} وقد جرى النحاة والمفسرون على القول بأنها زائدة، فهي تعمل في لفظ الخبر، ويبقى الحكم الإعرابي على أصله، يمنع من ظهور حركته، اشتغال المحل بكسرة حرف الجر الزائد.

وباستقراء ما في القرآن الكريم من خبر ليس وما، يلقانا اطراد وقوع هذه الباء المقول بزيادتها، في خبرهما المفرد غير المؤول. لم تتخلف إلا في بضع آيات لها سياقها الخاص الذي يوجه إلى الاستغناء عن الباء.

ولا يهون القول بأن الباء حرف جر زائد، إذ مقتضى القول بزيادتها إمكان الاستغناء عنها، وهو ما لا يؤنس إليه البيان القرآني.

والنحويون من المفسرين، يذهبون إلى أن الباء زائدة لتأكيد النفي.

ونقول إن الآية لا تؤخذ بمعزل عن نظائرها، والذي نطمئن إليه، في هدى التدبر لما استقرأنا من هذا الأسلوب في القرآن، هو أن الباء تأتي في خبر المنفي بما أو ليس، فتجعله جحداً وإنكاراً:

{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}

{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .

{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}

{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}

{فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ}

{وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا}

{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ}

ص: 46

{وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}

{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}

{قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}

فإذا جاءت الباء في خبر المنفي بأسلوب الاستفهام: أليس.... ألست؟ لم تكن لتأكيد النفي، بل تخرجه بيانياً من النفي، إلى تقرير ملزم وإثبات مؤكد، وفي هذا الأسلوب، تلزم الخبر الباء المقول بزيادتها، باستقراء كل آياتها:

{أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} ؟

{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؟

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ؟

{أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} ؟

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} ؟

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟

{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟

{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} ؟

وفي آية القلم، تأتي الباء في خبر المنفي بما، فتصير به إلى إنكار بات:

{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .

* * *

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} .

الأجر في أصل الوضع اللغوي، الجزاء المادي على عمل أو منفعة، ومن الإيجاز والاستئجار في المعاملات. وينتقل إلى الجزاء المعنوي، فيخص بصيغة الأجر دون الأجرة التي يغلب استعمالها في المعاملات.

ثم جاء الأجر في المصطلح الديني، بمعنى الثواب، ملحوظاً فيه ما يعود من جزاء العمل.

زمن الاستعمال القرآني للأجر بمعناه الأول، الأجور في مهور النساء:

ص: 47

{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

وآيتا القصص في ابنتى شعيب وموسى:

{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ}

ومن استعماله القرآني بدلالة مجازية أو اصطلاحية:

{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}

{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا}

{أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}

وآية القلم:

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}

ومن معاني المن في العربية، ما يوزن به. والمنون الموزون، ومنه جاءت المنة بمعنى النعمة ذات القيمة والوزن. ومن على فلان أنعم عليه.

قال الراغب في (المفردات) : وذلك لا يكون على الحقيقة إلا من الله سبحانه وتعالى.

وبملحظ من الوزن، جاء الممنون بمعنى المحسوب المعدود: من على فلان، حسب عليه ما قدم إليه من خير أو منفعة، وذلك مستقبح بين الناس، ومنه القول المأثور:"المنةُ تهدم الصنيعة" لأنها تقطع الشكر وتنقص النعمة. وذهب "الراغب" إلى أن المنون. بمعنى المنية، جاءت من كونها تنقص العدد وتقطع المدد.

والاستقراء القرآني للمادة، يرجع ما ذهب إليه الراغب من أن المن لا يكون في الحقيقة إلا من الله، إذ يأتي المن مسنداً إليه تعالى، في سياق التفضل

والتذكير بنعمه على خلقه. كالذي في آيات:

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (آل عمران 164)

{أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} (يوسف 90)

ص: 48

{لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} (القصص 82)

{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (الطور 27)

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الصافات 114)

ومعها آيات: الأنعام 53، النساء 94، طه 37، القصص 5، إبراهيم 11.

أما حين يأتي المن في القرآن مسنداً إلى المخلوقين، فالسياق على وجه النهي أو النفي، كالذي في آيات:

{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر 6)

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات 17)

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ....} (البقرة 262)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (البقرة 264)

إلا أن يكون في نص السياق قرينة صارفة لمن البشر عن وجهه المذموم، كالذي في آية "محمد" في قتال الذين كفروا:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} والمن فيها بمعى: إطلاق بغير فدية.

وآية (ص) في سليمان: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 39.

وفي تفسير {غَيْرُ مَمْنُونٍ} بآية القلم، قال "الراغب": إنه غير مثطوع ولا منقوص.

ومثله "ابن القيم" في (التبيان) : غير مقطوع بل هو دائم مستمر.

ومما فسره به "الزمخشري":

"غير ممنون به عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء،

ص: 49

وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال".

أنكره "أبو حيان" ورأى فيه "دسيسة اعتزال".

وكذلك أنكره "ابن المنير الإسكندري"، فقال في (الانتصاف) :

"..... ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرضى من الزمخشري بتفسير الآية هكذا، وهو صلى الله عليه وسلم بقول: لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، حتى أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة.... لقد بلغ الزمخشري سوء الأدب إلى حد يوجب الحد، وحاصل قوله أن الله لا منة له على أحد ولا فضل في دخول الجنة لأنه قام بواجب عليه. نعوذ بالله من الجراءة عليه".

ونحتكم إلى القرآن الكريم، فيهدينا تدبر ما نقلنا من ىيات المن، إلى أن الله تعالى أن يمن على عباده تفضلاً وتذكيراُ بنعمه، وإنما يكره المن من البشر، حين يكون على وجه التعالي والمحاسبة. ولآية القلم نظائر في آيات:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (فصلت 8)

(ومعها آيتا: التين 6، والانشقاق 25) .

وبها نستأنس في فهم آية القلم، فنطمئن إلى تفسيره بأنه أجر غير معدود ولا مشوب بما ينغضه. وليس على الوجه الذي ذهب إليه "الزمخشري". فالله سبحانه وتعالى يمن على نبيه المصطفى وعلى عباده، تفضلاً وإنعاماً.

وتنكير "أجر" يفيد الإطلاق، والتعميم غير المقيد بتعريف يخصصه.

* * *

وفي تفسير آية: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

نقل "الإمام الطبري" قول من فهموها بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن.

وقد يرد عليه أن الآية مكية مبكرة من أوائل الوحي، ولم يكن قد نزل من القرآن الكريم ما تعرف به القيم الخلقية القرآنية.....

ص: 50

وفسرها بعضهم بالدين: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام.

وليس في القرآن كله، ما يؤنس إلى استعمال بمعنى الدين.

وإنما تؤكد الآية، ما علم الله من خلق نبيه المصطفى، وقد كان منذ صباه معروفاً في قومه بسموالخلق، كما كان في شبابه فتى قريش أمانة وصدقاً ونبلاً وعفة، أو كما قال عمه أبو طالب في خطبة زواج محمد من خديجة بنت خويلد:

"أما بعد فإن محمداً ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً".

وقالت أم المؤمنين الأولى، رضى الله عنها، في ليلة القدر:

"الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن عم واثبت.... والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتص الرحم وتؤجي الأمانة وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق".

ومعهاما تواتر به الخبر من لقب الأمين الذي أطلقته قريش على محمد بن عبد الله قبل المبعث.

وهذه آية القلم، من أوائل الوحي:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

شهادة إلهية بعظمة خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام، تتوج ما كان معروفاً من مكارم أخلاقه، وتمنحه القوة على مواجهة المكذبين الطاغين.

* * *

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} .

أصل الاستعمال اللغوي في البصر، للعين الباصرة، ومنه في القرآن الكريم مثل آيات:

{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (النحل 77)

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (البقرة 20)

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور 30)

ص: 51

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور 31)

{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة 7)

{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب 10)

{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (النور 43)

ثم قيل للإدراك الثاقب: بصر، بملحظ من قوة التحقيق ونفاذ النظر. واختصت القوة المدركة بلفظ البصيرة، فلا يكاد يقال للحاسة بصيرة، ويقال لذي البصيرة بصير، ولا يقال في الحاسة إلا مبصر.

ومن الأسماء الحسنى البصير، وليس المبصر من أسمائه تعالى أو صفاته.

وأكثر ما في القرآن من البصر، هو من معنى البصيرة، كالذي في آيات:

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (آل عمران 13)

{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق 22)

{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} (الأنعام 104)

{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} (الأعراف 179)

{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (الأعراف 198)

{أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} (يونس 43)

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (النمل 13)

ويبدو ان استعمال البصر في رؤية العين، ملحوظ فيه غالباً، التميز ونفاذ النظر، بشاهد من آيات:

{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ (الأنبياء 3)

{وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟ (الزخرف 51)

{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} ؟ (الطور 15)

{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ؟ (يس 9)

ونطمئن إلى أن البصر في آية القلم، بمعنى النظر الثاقب المميز والمعرفة

ص: 52

المدركة، وزمن الفعل فيه منقول إلى المستقبل القريب بحرف السين:

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} .

ولا اشق على القارئ بنقل الخلاف بين النحويين في توجيه آية {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} وإعرابها. وقد لخصه "ابن قيم الجوزية" بإيجاز واف، نراه يغني هنا، قال:

"وقد اختلف في تقدير قوله {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} فقال أبو عثمان المازني: هو كلام مستأنف، والمفتون عنده مصدر، أي بأيكم الفتنة. والاستفهام عن أمر دائر بين اثنين قد علم انتقاؤه عن أحدهما قطعاً، فتعين حصوله للآخر. والجمهور على خلاف هذا التقدير، والآية عندهم متصلة بما قبلها، ثم لهم فيه أربعة أوجه:

أحدها، أن الباء زائدة، والمعنى: أيكم المفتون، وزيدت في المبتدأ كما زيدت في قولك: بحسبك أن تفعل. قاله أبو عبيد.

الثاني: أن المفتون بمعنى الفتنة، أي: ستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة. والباء على هذا ليست بزائدة. قاله الأخفش.

الثالث: أن المفتون مفعول على بابه، ولكن هنا مضاف محذوف تقديره بأيكم فتون المفتون. وليست الباء زائدة. قاله الأخفش أيضاً.

الرابع: أن الباء بمعنى في، والتقدير: في أي فريق منكم النوع المفتون. والباء على هذا، ظرفية".

ونقول مع ابن القيم: "وهذه الأقوال كلها تكلف ظاهر لا حاجة إلى شيء منه و {سَتُبْصِرُ} مضمن معنى تشعر وتعلم، فعدى بالباء.... وإذا دعاك اللفظ إلى المعنى من قريب فلا تجب من دعاك إليه من مكان بعيد".

والعربية تستعمل الفتنة حسياً في إذابة الذهب والفضة وصهر المعدن بالنار.

ومن معاني الفتنة في المعجم: الفن، والحال، والإبتلاء، والإعجاب بالشيء، والضلال والكفر، والإيقاع بين الناس.

وهي تحتمل في الآية، أن يكون المفتون من الإبتلاء بالضلال والبغي. ولعلها تحتمل كذلك ما قاله بعض المفسرين من معنى الجنون. وإن يكن حمل الفتنة على

ص: 53

الضلال أقرب إلى حس البيان، كما أنه أقرب إلى سياق الآية بعده:

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .

وقد سبق استقراء الاستعمال القرآني للهدى والضلال، في تفسير آية الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} .

وأصلهما في الضلال عن الطريق أو الإهتداء إليع، حسياً ومعنوياً. ثم نقلا إلى الدلالة الإسلامية على الكفر والإيمان، وهذا هو معناهما الظاهر في آية القلم، مع ارتباطهما بأصل المعنى الأول، بلفظ السبيل، ترشيحاً للاستعارة على المصطلح البلاغي.

وقال الطبري: "وهذا من معاريض الكلام، وإنما معنى الكلام: إن ربك يا محمد هو أعلم بك وأنك المهتدي، وبقومك من كفار قريش وأنهم الضالون عن سبيل الحق".

وهذا أقرب من قول الزمخشري: "هو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون، أو يكون وعيداً ووعداً بجزاء الفريقين".

والآية أمسكت عن ذكر مفضول * أعلم * وهذا يطلقه من قيد المفاضلة بين عالم وأعلم، دون حاجة إلى تأويل مفضولٍ تقديره عند بعضهم: أعلم منكم، أو أعلم من سواه. . .

* * *

{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .

التكذيب هنا، بآيات الله ونبوة رسوله عليه الصلاة والسلام.

والإدهان: اللين والتساهل والمداراة، والمداهنة التحايل واللاينة والمداجاة.

وترجع استعمالات المادة وصيغها في الأصل اللغوي إلى الدهن، يتخذ للتليين والتطرية. والدهان الصبغة. والدهين، المكان الزلق كأنه دهن بالدهن.

ص: 54

وفي القرآن من هذا المعنى الأول، آيتان:

{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (المؤمنون 20)

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن 37)

وبملحظ من التطرية والتلين جاءت الدلالة للإدهان، في اللين والتساهل، وشاع استعمال المداهنة في المداجاة والملاطفة عن غش وخداع، أو عن تساهل وتفريط.

وفي القرآن من هذه الدلالة امجازية، آيتان:

{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} (الواقعة 81)

وآية القلم: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .

قيل في تفسيرها: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. أو: ودوا لو تلين في دينك فيلينون في دينهم. وقيل: ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك.

وقد نقلها الطبري ثم قال: "وأولاهما بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك، ود هؤلاء المشركون لو تلين لهم يا محمد في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك".

واستأنس له بآية الإسراء:

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ.....} 74.

فالإدهان مأخوذ من الدهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن.

وهو غير المداهنة، التي تحتمل الممالأة والمداجاة.

وشغل نحاة ومفسرون بعقد الصنعة الإعرابية، عن لمح سر التعبير بـ "لو" التي تعطي حس التمني البعيد من المشركين أن يلين لهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فوقفوا طويلاً عند ثبوت النون في {فَيُدْهِنُونَ} والقاعدة عندهم أنها تحذف على

ص: 55

النصب في جواب التمني {وَدُّوا لَوْ} لتضمنه معنى ليت.

قال الزمخشري: " عدل به عن ذلك إلى طريق آخر هو على تقدير خبر مبتدأ محذوف: فهم يدهنون. أو على المصدرية، المؤولة، بمعنى: ودوا إدهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك؟ " ثم أشار إلى قراءة في بعض المصاحف بحذف النون: "فيدهنوا" وتخريج القول عندهم على هذه القراءة، يكون على وجهين: انه جواب {وَدُّوا} لتضمنه معنى ليت، والوجه الآخر أنه على توهم أنه نطق بأن، أي: ودوا لو أن تدهن فيدهنوا.

وجمهور المصاحف على إثبات النون كما صرح أبو حيان في (البحر) وإنما جر إلى كل هذه الوجوه من التأول والتقدير، أنهم عرضوا الآية القرآنية على قواعدهم النحوية، ثم راحوا يلتمسون الحيل لتسوية الصنعة الإعرابية.

وقد قلت وأقول: ما يجوز أن يعرض البيان الأعلى على قواعد النحاة، وإنه الأصل والحجة. ومن ثم تبقى الآية على وجهها، وتكون الفاء في: فيدهنون حرف عطف، فتثبت النون رفعاً بالعطن على {تُدْهِنُ} والفاء العاطفة لا تفقد ملحظ السببية.

* * *

{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} .

في تفسيرنا لآية {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} هدى الاستقراء إلى أن الكتاب المحكم لم يستعمل مادة (حلف) بمختلف صيغها، إلا في الحنث باليمين.

وخلاف: صيغة مبالغة من حالف. وقلما تستعمل العربية في بيانها اسم الفاعل من حلف، فكأن عدولها إلى حلاف، إيذان بأن من يحنث في يمينه يدأب على الحنث فلا يتورع من الإكثار من الحلف، عادة وطبعاً.

ص: 56

وهماز: صيغة مبالغة من الهامز. نقل الإمام الطبري من أقوالهم في تأويلها:

* أنه الذي يهمز الناس ويضربهم بيده، لا باللسان.

* وقيل هو المغتاب يطعن في أعراض الناس بما يكرهون.

وقال الزمخشري في الكشاف: هماز، عياب طعان، وعن الحسن: يلوى شدقيه في أقفية الناس.

ويأتي في تفسيرنا لسورة الهمزة، بعد، استقراء كامل لمواضع استعمال القرآن للهمز واللمز، وتدبر لسياق الآيات فيهما. وهو يهدى إلى أن الهمز الطعن والتجريح في الغيبة، أما اللمز فيكون مواجهة صريحة.

والنميمة: الإيقاع بين الناس قصد الفتنة والتوريش بينهم بما يلقى العداوة والبغضاء. وأصل النم في العربية: وسواس همس الكلام وأثر الريح في التراب. ومنه جاءت النمنمة لنقش الكتابة وزخرفتها. وأحسبه نقل إلى دلالته المجازية على الإيقاع والتوريش والفتنة، بملحظ من اعتماد النميمة عادة، على زخرف القول والوسوسة به همساً، للإيقاع.

وبهذا الحس الأصيل للنميمة، نفهم {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} في الآية، دون تقييد لنميم بمن ينقل حديث الناس بعضهم إلى بعض، أو المشي بينهم بالكذب كما نقل "الإمام الطبري" في تفسيره. بل نؤثر إطلاقه، كي يدخل فيه كل سعي بين الناس بالشر: بكذب القول أو صدقة، بنقل حديث بعضهم إلى بعض، أو إهاجة أحقاد بينهم وإيقاظ فتنة نائمة.....

ومناع للخير: مبالغة من مانع. وظاهر السياق أن المراد بالخير عمومه المطلق نقيضاً للشر، دون تحديد له بمنع المال الذي ألفت العربية أن تعبر عنه بالشح. والخير كما يكون ببذل الما، يكون بالتراحم والدعوة إلى عمل صالح، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.....

وفي تفسير آية الضحى {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} - بالجزء الأول - تدبر لآيات الخير في القرآن الكريم، هدى إلى أنه قلما يستعمله بمعناه المادي في بذل

ص: 57

المال، ونعم الدنيا، إلا بقرينة من صريح السياق مالإنفاق والوصية، في آيتى:

{قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (البقرة 215)

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة 180)

وإنما يغلب الاتجاه به إلى نقيض الشر، كالذي في آيات:

{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} (البقرة 263)

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران 104)

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} {آل عمران 110)

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة 7)

{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة 269)

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء 73)

والعتل: الجلف الجافي الغليظ، ومن الاستعمال الحسي للمادة في اللغة: العتلة، واحدة العتل: حديدة كأنها رأس فأس، والهراوة الغليظة، والناقة لا تلقح. وعتله: جره عنيفاً.

وبملحظ من الغلظة في الاستعمال الحسي، جاءت دلالة العتل على الجافي الغليظ.

وفي القرآن الكريم من المادة آيتا:

{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} (الدخان 47)

{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (القلم 13)

نفهمهما بالدلالة اللغوية على الغلظة والخشونة، مع ما في اللفظ نفسه من حس الجفوة.

ص: 58

ثم يعيطيهما السياق القرآني ملحظاً من رهبة الزجر في قسوة الأخذ بآية الدخان، ومن الضعة والخسة واللؤم، في عتل زنيم، بآية القلم، بعد وصفه بأنه:

{حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} .

أما {زَنِيمٍ} فلم تأت مادة ولا صيغة، إلا في آية القلم. ومن معانيها في اللغة: اللئيم المعروف بلؤمه وشره. ومنه قيل للدعي المستلحق بقوم ليس منهم، زنيم. وربما كان فيه أيضاً ملحظ من لالة الزنمة، وهي شيء يقطع من أذن البعير فيترك معلقاً. قاله "الراغب".

وقد فسرها ابن عباس، في مسائل ابن الأزرق، بولد الزنا، واستشهد له بقول الشاعر:

*زنيم تداعاه الرجال زيادة*

ونقل فيه "الطبري" معنى الفاحش اللئيم، والملصق بالقوم وليس منهم، واستشهد له بقول حسان:

*وأنت زنيم نيط في آل هاشم*

وقول آخر:

زنيم ليس يعرف من أبوه بغى الأم ذو حسب زنيم

وخصه قوم، منهم الزمخشري في (الكشاف)"بالوليد بن المغيرة المخزومي، كان دعياً في قريش، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة" مع كلام طويل في الزنا وخبث النطفة. ونقله "أبو حيان" ومعه: أن الوليد كان له ستة أصابع في يده. فكأنها الزنمة. ثم علق قائلاً: "والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين، وإنما تصدق على عامة من يتصف بها".

ونضيف: إن لفظ {كُلَّ} في صدر هذه الأوصاف: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ

ص: 59

مَهِينٍ} يخرج بها من الخصوص إلى العموم المستفاد صراحة من {كُلَّ} .

وتفسيره بالفاحش اللئيم، أولى من تفسيره بولد الزنا: فالقرآن الكريم في محقه للزنا، إنما يقصر اللعنة على الزاني والزانية، لا على أولادهما. والعربية حين استعملت الزنين لولد الزنا، لحظت فيه معنى لؤم الأصل وخبث المنبت.

{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} .

واضح أن فتنة المال وجاه العدد، كانا مدعاة الشر والأثرة والغلظة والبغي. لكن من المفسرين من ربط الآية بالخطاب في صدر الآيات قبلها {وَلَا تُطِعْ} قالوا:"كأنه نهاه أن يطيعه من أجل أنه ذو مال وبنين".

وإليه ذهب الزمخشري فتأوله: ولا تطعه مع هذه المثالب، لأن كان ذا مال وبنين.

وهذا تأول بعيد ينبو عنه الحس، فما كان صلى الله عليه وسلم، في عظمة خلقه وكرم سجاياه وشرف نبوته، مظنه أن يطيع {كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} من أجل أنه ذو مال وبنين!

وإنما النهي عن طاعة المكذبين وكل حلاف لئيم، فيما يعرضون من مساومات، والحنث في الإيمان دأبهم وعادتهم، وتحذير المصطفى عليه الصلاة والسلام، من أن يؤخذ بما قد يبدون من إدهان، احتيالاً على الموقف الصعب، وقصد الفتنة والشر، مستظهرين بما لهم من مال وبنين.

* * *

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .

جحداً لنبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وتكذيباً بآيات الله تعالى، وإمعاناً في البغي والإثم والتجبر والضلال.

{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} .

الآية على وجه الوعيد بالإذلال والإهانة والتحقير، صدعاً لكبرياء المغتر بماله وبنيه.

والسمة العلامة، والوسم علامة يعرف بها الموسوم. ولعل أصل استعماله اللغوي

ص: 60

من الوسم وهو أثر الكي، والاسم علامة مميزة لتعريف الأشخاص. وفي المصطلح النحوي، يأتي الاسم قسيم الفعل والحرف.

وأكثر ما تدور المادة على العلامة المميزة، حسياً معنوياً.

والخرطوم الأنف أو مقدمه. وشاع استعماله في الحيوان، الفيل، واستعمال الأنف للإنسان. وإذ كان الأنف أبرز ما في الوجه، نقل إلى الدلالة المجازية على الرفعة والتكريم، أو الخسة والتحقير، فقالوا الأنوف والأنف، من الأنفة بمعنى العزة والكبرياء. وكنوا عن المترفع بمثل قولهم: ـشم الأنف، وأنفه في السماء. كما كنوا عن الإذلال بمثل قولهم: أنفه راغم، وأنفه في التراب.

وفي القرآن الكريم، استعمل الأنف للإنسان على أصل معناه اللغوي في القصاص بآية المائدة 45:

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .

والعدول عن الأنف إلى الخرطوم في آية القلم، فيه ملحظ التحقير والهبوط بآدمية ذلك المفتون الشرير الجافي اللئيم، إلى دمنية البهائم والدواب.

ومن هذا، يبدو ضعف ما قيل في تأويله، بأن معناه: سنسود وجهه أو نضرب بالسيف على أنفه - وأيدوا هذا التأويل بما حل بالوليد بن المغيرة يوم دبر! - أو نسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره!

نقل هذه التأويلات "الإمام الطبري" بعد أن ذكر اختلاف أهل التأويل فيه:

حقيقة هو أم مجاز؟ وإذا كان حقيقة فهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟.

ورد الخرطوم إلى الأنف، يضيع به سر البيان في تحقير المغرور الخبيث، والهبوط بآدميته إلى البهيمية. أما ما نقلوا عن "النضر بن شميل" من أنه تأوله في معنى "سنحده على شرب الخمر"، ففيه شطط وبعد كما ذكر "أبو حيان".

ووجه الشطط فيه أن حد الخمر لم يكن قد شرع بعد لتؤدى الآية معناها من الزجر

ص: 61

والوعيد والتحقير، ومن المسلمين من حدوا على شرب الخمر بعد أن حرمت، لا ينفرد به هذا العتل الزنيم الكافر، ليكون في إنذاره به فرط تحقير وإذلال وإهانة!

* * *

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}

البلاء المحنة، والإبتلاء الإمتحان.

والجنة في الآية، على معناها الأول قبل أن تأخذ دلالتها الإسلامية على دار النعيم في الآخرة. وترجع دلالة المادة في الأصل اللغوي إلى معنى الخفاء، يبدو بوضوح في الجنين مختفياً في رحم أمه، والجنون خفاء العقل، والجن جنس خفي من المخلوقات، نقيض الإنس.

وبملحظ الستر في الخفاء، قيل جن عليه الليل. والمجن ما يتخذ درعاً ساترة للوقاية.

وقيل للأرض المغطاة بالشجر والزرع جنة، ثم نقلت الجنة إلى المصطلح الإسلامي في جنة الآخرة. وهو الاستعمال الغالب للفظ جنة وجنات في القرآن الكريم - نحو مائة وعشرين مرة - على أنها جاءت بدلالتها الأولى على الجنة المعروفة في الدنيا، مفردة في تسع آيات، ومثناة في خمس آيات، واثنتى عشرة مرة بصيغة الجمع، لجنات الدنيا.

والسياق هو الذي يحتكم في تحديد هذه الدلالة.

والصرم: القطع، ومنه حصد الزرع وجني الثمر، ثم أخذ دلالته المجازية على

ص: 62

الهجر. والصريم: المقطوع، والمحصود. ونقلوا أنه الرماد الأسود بلغة خزيمة، ورملة معروفة في اليمن.

والإصباح: الدخول في وقت الصبح أول النهار. والاستثناء معروف.... وظاهر السياق في الآية، على أن أصحاب الجنة أقسموا ليحصدن زرع جنتهم ويقطفن كل ثمارها، ولا يبقون منها شيئاً. لكن من المفسرين من تأولوه في الآية بأن أصحاب الجنة لو يقولوا:{إِنْ شَاءَ اللَّهُ} حين أقسموا ليصرمنها مصبحين.

وظاهر النص، أن خطيئتهم التي أخذوا بها، هي التصميم على صرم جنتهم خفية، والاستئثار بكل خيرها لا يؤدون حق مسكين فيه.

والتخافت: أن يتحدث بعضهم إلى بعض في خفوت، قصداً إلى الحيلولة دون سماع أحد لما يتخافتون به.

والحرد: المنع، من حردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الناقة إذا منعت درها. لحظ فيه أن ذلك لا يكون إلا عن نفور، فجاءت دلالة الحرد على النفور.

والتلاوم: من صيغ المفاعلة، وذلك بأن يلوم بعضهم بعضاً.

والعربية تستعمل الأوسط والوسط في معنى العدل، ملحوظاً فيه أنه توازن بين طرفين متباعدين.

والتسبيح ذكر الله، ونفهمه في آية القلم:{لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} بمعنى: لولا تذكرون الله فتؤدوا حقه وتشكروا له نعمته.

والطغيان: تجاوز الحد، وأصل استعماله في طغيان الماء، ثم نقل بهذا الملحظ إلى دلالته على الجبروت وتجاوز الحد، على ما سبق تدبره في تفسير آية النازعات خطاباً لموسى عليه السلام:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} بالجزء الأول من هذا الكتاب.

* * *

وتسوع مفسرون في تفصيل قصة أصحاب الجنة المذكورين في سورة القلم، وخلاصتها أن هذه الجنة كانت لرجل صالح، حدودا قومه وبلده فقيل إنه من أهل اليمن، من صوران صنعاء، وقيل من أهل الحبشة، وقيل من أهل الكتاب.

ص: 63

كما حددوا زمنه فقالوا: إنه كان بعد رفع عيسى عليه السلام! وقد كان حصاد جنته وثمرها قوت سنته، ويتصدق بالباقي على المحتاجين، ويترا ما يخطئه المنجل من حصاد، وما يخطئه المنجل منة حصاد، وما يخطئه القطاف من العنب، وما يبقى تحت التخل. وكان بنوه يضيقون بذلك ويحاولون حمله على بما يملك. . فلما مات قالوا: إن فعلنا ما كان أبونا يفعل، ضاق علينا الأمر عيال. وأقسموا فيما بينهم، حين آن الحصاد، أن يتسللوا إلى جنتهم ليجنوا ثمرها وأكلها لا يبقون منه شيئاً لمحتاج، وفيما هم نائمون، طاف طائف - قيل في رواية إنه الشيطان، وفي أخرى إنه جبريل - اقتلع الشجر ومضى فطاف به حول البيت العتيق تبركاً، ثم وضعه حيث الطائف، وليس في أرض الحجاز بلدة غيرها فيها الماء والشجر وترك الجنة صريماً جرداء خلاء.

فلما أصبحوا، تنادوا ليغدوا على حرثهم، وانطلقوا إلى جنتهم يتخافتون: ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. فما إن رأوها حصيداً قفزاً، رشدهم وأدركوا أنهم ضالون. ولما ذكرهم أوسطهم بما تهاونوا به حين نسيان الله والتفريط في حق نعمته، أقبل بعضهميلوم بعضاً، وتضرعوا لهم ما كان من طغيانهم وظلمهم:{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} .

والقرآن الكريم يقدم لنا في هذه السورة المكية المبكرة، مقلاً مما سوى الوحي من قصص الأولين: لا يتعلق فيها بذكر الأشخاص والأزمنه إلا ما كان من جوهر القصة وموضع العبرة، وهو إذ يضرب المثل بأصل الذين أنعم الله عليهم فبغوا وظلموا أنفسهم ونسوا الله فحق عليهم العقاب، يحدد لنا من أي قوم كانوا، من الحبشة أو من اليمن. ولم يذكر عددهم

ص: 64

زمن القصة: هل كان بعد عيسى عليه السلام أو قبله. كما اكتفى بطائف على الجنة وأصحابها نائمون. دون أن يشير من قرب أو بعد، إلى ما يسيغ الروايات الغريبة التي تقول في {طَّائِفِ} إنه شيطان، أو أنه جبريل اقتلع شجر ونخيلها وحمله فطاف به حول الكعبة ثم غرسه في موضع بلدة الطائف!

لأن نستأنس في فهم آيات القلم، بآية يونس في مثل الحياة الدنيا:

{..... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 24.

* * *

ضمير الجمع في {بَلَوْنَاهُمْ} عائد على المكذبين وكل حلاف مهين....

المماثلة بينهم في البلاء وبين أصحاب الجنة، نقل "أبو حيان" قول من قالوا: النازل بقريش المماثل لأمر الجنة، هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى وأكلوا الجلود" أو أن "تشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة، هو أن أهل الجنة عزموا على الإنتفاع بثمرها وحرمان المساكين فحرمهم الله تعالى، وأن خرجوا إلى "بدر" حلفوا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا فعلوا ورجعوا إلى مكة فطافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فقلب الله عليهم بأن قتلوا".

بدر قد كان في السنة الثانية للهجرة، بعد نزول سورة القلم بنحو خمس. واضح أن المفسرين نظروا في تأوويلها، إلى واقع التاريخ بعد نزولها. النص، على أي حال، صريح في ردع كل الطغاة المتجبرين الذين المال وجاه العدد وأخذتهم العزة بالإثم والطغيان، دون أن يتعلق مالقى المشركون "في بدر" في العام الثاني للهجرة، من هزيمة ساحقة.

* * *

ص: 65

وقوله تعالى:

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .

يلفت إلى مناط العبرة فيما تلت الآيات من أمر أصحاب الجنة، ويتجه بها إلى العظة، والإنذار بما يحيق بالطاغين الظالمين من عذاب معجل في الدنيا، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .

والذي أطمئن إليه، والله أعلم، أن الضمير في {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لمن {بَلَوْنَاهُمْ} من الطغاة المكذبين الذين نزلت القصة عبرة لهم ومثلاً، وليس لأصحاب الجنة الذين أقروا بظلمهم وتابوا وأنابوا، ورغبوا إلى الله. ويؤنس إلى هذا الوجه في فهم الآية، أن القرآن الكريم بعد أن تلا ما كان من بغي أصحاب الجنة وعقابهم ثم توبتهم وضراعتهم، أمسك عن ذكر مصيرهم، فأمرهم متروك إلى علم الله ورحمته. فاتجه النذير إلى من تصدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والتحدي، وارتبط بالآية قبله:{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} كما ارتبط بالآيات بعدها:

* * *

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} ؟

وفيها يبين القرآن الكريم عاقبة المتقين بعد الذي ساق من عبرة أصحاب الجنة، ونذير للطغتة الظالمين، فيعمد إلى الأسلوب الاستفهامي الذي يخرج عن أصل معناه اللغوي في طلب الجواب، إلى الرفض والإنكار: أن يجعل الله المسلمين كالمجرمين. وهو إنكار يحمل من التقرير لمثوبة المتقين المسلمين ومآب العصاة المجرمين، بقدر ما يحمل من الردع لذوي العقول والبصائر.

والخطاب في الآيات للمشركين المجرمين من عتاة قريش، إنكاراً لسفه عقولهم وهزؤاً بضلال حكمهم ألهم كتاب يدرسون فيه إن لهم ما يتخيرون من دنياهم

ص: 66

وأحراهم؟ أم لهم أيمان وعهود موثقة على الله سبحانه، بالغة إلى يوم القيامة، إن لهم ما يحكمون؟

أي غرور غرهم بالخالق، أن يبقى عليهم ما آتاهم من نعمة يبتليهم بها فكفروا وجحدوا؟ وأي وهم تورطوا فيه، أنهم ما أوتوا الجاه والمال والبنين إلا لكونهم أهلاً للإكرام؟

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} .

ثم يتجه الخطاب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم:

{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} .

بضمن أن لهم إلى يوم القيامة ما يحكمون؟

وتمضي كل هذه الأسئلة لا تنتظر جواباً، وإنما حسب القرآن الكريم أن يواجههم بها على هذا الأسلوب البياني، غضاً من شأنهم وصدعاً لغرورهم وتحقيراً لكبرهم. وعدم انتظار الجواب عنها، فيه تعجيز لهم وإفحام، وفيهه كذلك عبرة بالغة لكل ذي سمع وبصر.

* * *

ويبدو لي، والله أعلم أن الأمر بالإتيان في الآية:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .

يتعلق به ظرف الزمان في الآية بعدها:

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .

أي: فليأتوا بشركائهم، إن كانوا صادقين، يوم يكشف عن ساق....

نذيراً صادعاً ووعيداً رادعاً.....

ومن أغبر ما روى في تأويل {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أنها ساق الرحمن!

نقل "الطبري" في ذلك حديث أبي الزعراء عن عبد الله (بن مسعود) : "يتمثل الله للخلق يوم القيامة حتى يمر المسلمون، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله

ص: 67

لا نشرك به شيئاً.... فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه إذا اعترف إلينا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر ساجداً، ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا! فيقول، سبحانه: قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون".

ونقل "الزمخشري" من حديث ابن مسعود: "يكشف الرحمن عن ساقه فأما المؤمنون فيخرون سجداً، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً واحداً كأن فيها سفافيد"

وقد تعلقت المشبهة بهذا التأويل، فهل أعوزهم من بيان العربية أنها ألفت مثل هذا الاستعمال المجازي: الكشف عن الساق، أو التشمير عنها، كناية عن التأهب والفزع وقت الشدة والحرب؟ قال الشاعر:

كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر البوارح

وقال حاتم الطائي:

أخو الحرب إن غضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال ابن قيس الرقيات:

تذهل الشيخ عن بنيه وتبدى عن خدام العقيلة العذراء

وقال الراجز:

قد شمرت عن ساقها فشدوا

وجدت الحرب بكم فجدوا

وأي شدة أفظع هولاً على الكافرين من يوم الحساب، حين يدعون إلى السجود تعجيزاً وتحسيراً وتقريعاً قد فاتت: أضاعوها ظلماً وبغياً حين كانوا يدعون في حياتهم الدنيا إلى السجود وهو سالمون قادرون؟

ولا ضرورة لأن يحمل عجزهم عن السجود في الآخرة، على العجز الجسدي

ص: 68

فينكلف لتأويله بأن "أصلابهم تعقم، أي ترد عظاماً بلا مفاصل لا تنثنى عند الرفع والخفض" أو أن "فقار ظهورهم تدمج فتصير فقرة واحدة، وقد كانوا في الدنيا سالمى الأصلاب والمفاصل". "أو أن الخلق يبقون في الموقف أربعين عاماً ثم يتجلى الله سبحانه وتعالى فيخرون سجداً إلا المنافقين فإنه يصير فقار أصلابهم مثل صياصي البقر.... ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد".

فذلك، ومثله كثير، مما لا يحتمله منهجنا في الأخذ بنص الآيات البينات، لفظاً وسياقاً.

والأولى أن يحمل العجز عن السجود على فوات أوان التعبد ومهلة التكليف.

ونظيره ما في آيات الفجر، في سياق الحديث عن مصير الطغاة والمفسدين في الأرض، وجزاء من ينكصون عن احتمال تبعات التكليف ويأكلون التراث أكلاً لما ويحبون المال حباً جماً:

{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} .

* * *

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ؟

الحديث المشار إليه في الآية، هو ما تلا النبي صلى الله عليه وسلم من كلمات ربه. ويحتمل أن يكون ما جاء في سورة القلم من حديث الآخرة. وهو ما ذهب إليه "أبو حيان".

والاستدراج: الأخذ على إمهال درجة درجة، وقد فسره الإمام الطبري: وذلك بأن يمتعهم بمتاع الدنيا حتى يظنوا أنهم متعوا به بخير لهم عند الله فيتمادوا في طغيانهم ثم يأخذهم بغتة وهو لا يشعرون.

ص: 69

والذي نطمئن إليه، والله أعلم، هو أن يكون استدراجهم إلى ما يأتي من التحدي بالمعاجزة، ثلزمهم بها الحجة على إعجاز القرآن، بعد أن أملى لهم فقالوا فيه ما وسعهم أن يقولوه. ونستأنس لهذا الفهم بآيات الأعراف:

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}

182-

184.

أملى لهم: أمهله وأرخي له في عنانع، لتكون الحجة ألزم والعقاب أفدح. وبغتة الأخذ، تأتي من قوله تعالى:{مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} .

والأجر: جزاء العمل. وسياق الآية أنه من الأجر المادي، بشاهد من النص {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} . وغرم مصدر ميمى من الغرم.

وقد أمر الله رسوله، أن يترك له أمر هؤلاء الطغاة المكذبين، الذين يجحدون داعي الحق، وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسألهم أجراً على ما يهديهم إليه من خير الدنيا والآخرة، فيثقلهم المغرم. وما كان عندهم علم بالغيب، ليجادلوه فيما يتلو من وحي ربه:

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}

صاحب الحوت هو يونس عليه السلام (الصافات 139) وقصته طويلة، نقتصر فيها على ما جاء في القرآن الكريم، ولا يكاد في جملته يخرج عما في سورة القلم حيث تلفت الآيات إلى جوهر القصة ومناط العبرة، والخطاب فيها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، تقوية له على ما يحتمل من أذى المكذبين، ورياضة له على الصبلا لحكم ربه عن رضى وتسليم، لا عن غيظ مكبوت وضيق مكظوم.

* * *

ثم تختم سورة القلم بهاتين الآيتين:

{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ

ص: 70

إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .

تأييداً للمصطفى عليه الصلاة والسلام، يرتبط بما بدأت به السورة من مثل هذا التأييد الإلهي:

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

صدق الله العظيم

ص: 71