المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الماعون بسم الله الرحمن الرحيم {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ - التفسير البياني للقرآن الكريم - جـ ٢

[عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ]

الفصل: ‌ ‌سورة الماعون بسم الله الرحمن الرحيم {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ

السورة مكية مبكرة، نزلت بعد التكاثر.

وترتيبها في النزول السابعة عشرة، على المشهور.

وجاءت باسم سورة "أرأيت" في جامع البيان للطبري والكشاف للزمخشري والتفسير الكبير للفخر الرازي.

* * *

وقراءة الجمهور: أرأيتَ.

وقرأ بعضهم "أريتَ" بحذف الهمزة من رأى، قال في الكشاف: "وليس بالاختيار، لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب ريْتَ، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهلم في أول الكلام، ونحوه:

صاح هل ريت أو سمعت براع رد في الضرع ما قرى في العلاب

وقالوا في أسباب النزول، إنها نزلت في: أبي سفيان، أو العاص بن وائل السهمي، أو الوليد بن المغيرة، أو أبي جهل، وقال ابن عباس:"نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة".

والعبرة على كل حال بعموم اللفظ.

* * *

وتستهل السورة بهذا الاستفهام المثير" {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} ؟

والأصل في الاستفهام أن يكون من سائل يطلب الفهم ويستفسر عما يجهل، أما حين يكون المستفهم على علم بما يستفهم عنه، فإن الاستفهام يخرج بذلك عن أصل معناه في الوضع اللغوي، إلى المجاز البلاغي.

وفيما أحصى البلاغيون من أغراض يخرج بها الاستفهام عن معناه الأصلي، لا أجد ما يجلو السر البياني لمثل هذا الاستفهام القرآني:{أَرَأَيْتَ} ؟

وعند "الراغب" أن "أرأيت، يجرى مجرى: أخبرني" وأن كل ما في القرآن من

ص: 183

هذا الأسلوب "فيه معنى التنبيه"، قال الفخر الرازي فيه:"إن الغرض منه المبالغة في التعجب" وذهب الشيخ محمد عبده إلى "أن المقصود به التنبيه إلى خفى مجهول".

وأميل إلى القول بأن سره البياني فس الاستفهام عما يبدو للناس واضحاً غير خفي، ويحسبونه معلوماً غير مجهول، إذ ليس التكذيب بالدين مظنه خفاء، والناس يحسبونه أنه يكفي المرء تصديق بالدين لأن ينطق الشهادتين ويؤدي العبادات المفروضة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.

ومن ثم يأتي الاستفهام عما يحسبه الناس مستغنياً عن كل بيان، فيثير أقصى اليقظة والانتباه، ويرهف الدهشة والترقب انتظاراً لجواب غير متوقع، وتطلعاً إلى معرفة ماذا يكون التكذيب بالدين غير الذي يعلمون منه بالضرورة؟

* * *

والدين في العربية: الطاعة والخضوع. وسمى العبد مديناً لأن العبودية أخضعته.

والديان: القهار، والقاضي، والحاكم.

وشاع استعماله في الملة بعامة، وفي الإسلام بوجه خاص، وهو المعنى الغالب في الاستعمال القرآني.

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}

{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً} .

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .

وسمى اليوم الآخر "يوم الدين" أربع عشرة مرة.

وفي آية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} فسر الدين بأنه ثواب الله وعقابه (الطبري) واختار الزمخشري كذلك أن يكون بمعنى الجزاء. والأولى عند الرازي أن يكون بمعنى الإسلام.

وهي أقوال متقاربة، وإن يكن حمله على الدين بمعنى العقيدة والإسلام، أقوى

ص: 184

عندنا، والله أعلم، من حمله على الحساب والجزاء، لأن التكذيب بهما لا يكون إلا عن تكذيب بالدين.

* * *

والكذب: نقيض الصدق. استعملته العربية ف الناقة الكذوب يظن أنها حامل ثم تخلف الظن، وفي البرق يوهم أن وراءه مطراً ثم لا يكون مطر، كما استعملته في خداع الحس، فقيل كذبت العين أو الأذن إذا أخطأت حقيقة ما تبصر أو ما تسمع.

ومنه جاء الحلم الكاذب والرجاء الكاذب، وكل ما أخلف الظن والتقدير. وقيل مذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال مالاً لا يكاد يكون.

وكذب بالأمر. أنكره ولم يصدقه.

وبهذا الحس الأصيل من سوء التقدير وإنكار الحق، يأتي التكذيب في القرآن الكريم أكثر ما يأتي في التكذيب بالله وآياته ورسله. وهو التكذيب بالحق والصدق.

ومنه التكذيب بالنذر، وبالساعة، وبلقاء الله والآخرة. وبيوم الفصل، وبجهنم والعذاب.

وكثر في القرآن الوعيد والإنذار بعاقبة المكذبين، ووصفوا بأنهم الضالون، والمجرمون، والكافرون، والغافلون. كما أسند إليهم: الأفتراء، والظلم، والإثم، والإعتداء، والمعصية، والخسران، وإتباع الأهواء.

وجاء التكذيب بالدين في آيات:

{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} (الانفطار 9)

{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (التين 7)

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} (الماعون 1)

وتتولى الآيات بعدها بيان المستفهم عنه من هذا التكذيب بالدين:

{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} .

والدع الدفع العنيف مع قسوة وجفاء. ولم يستعمله القرآن الكريم إلا في آيتين، إحداهما للمعاملة في الدنيا وقد خص به اليتيم في آية الماعون.

والأخرى في دع المكذبين إلى النار يوم الدين بآية الطور:

ص: 185

{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} 13.

وهذا يكفي لمح الحس القرآني للدع، بما فيه من قسوة وغلظة وجفاء.

واليتيم الصبي فقد أباه. وقد سبق استقراء آياته في الضحى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ولحظنا اقتران اليتيم في هذه الآيات، بالمسكين والأسير (الإنسان، والبلد) ، والضال والعائل (الضحى) وجاء اليتامى مع المساكين وابن السبيل في خمس آيات، ومع الرقاب للأرقاء في آيتى (البقرة 177، النساء 36) .

فشهد ذلك بحساسية بالغة الرقة لمكان اليتيم في مجتمع غير متراحم ولا متكافل، مما اقتضى أن يقرر كتاب الإسلام حق اليتيم في المجتمع الإسلامي الصالح، وأن يجعله تالياً لحق الله والرسول وذوي القربي في آيات (الأنفال 41، الحشر 7) ومعهما (البقرة 177، 215) وتالياً لعبادة الله والإحسان بالوالدين وبذي القربي في آيتى (البقرة 83، النساء 36) .

وفي (سورة الفجر) الوعيد الرهيب لمن لا يكرمون اليتيم.

وهنا في آية (الماعون) يبلغ بالقرآن أن يعد دع اليتيم تكذيباً بالدين:

{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .

والعربية تستعمل الحض في الحث وبعث الحمية، نقلا من الحث الشديد على السير. وقد نقلنا في آية الفجر:{وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} قول الراغب الأصفهاني في (المفردات) إن الحث يكون بسير، بخلاف الحض.

والذي نطمئن إليه من حس العربية، هو مألوف استعمالها للحض في الحمل على ما يكره، ولعل أصل الاستعمال اللغوي من الحضض وهو داء يشفي بعصارة الصبر، أو هو عصارة من أخلاط كريهة كانوا يتداوون بها. وحضوض: اسم جبل في البحر كانت العرب تنفى إليه خلعاءها.

والقرآن الكريم لم يستعمل الحض في آياته الثلاث، إلا في سياقالإنكار لعدم التواصي برعاية المسكين وإطعامه مع اقتران هذا الإنكار بالكفر بالله والتكذيب بالدين:

ص: 186

آية الحاقة 34: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} .

الغسلين، طعام من لا يحض على طعام المسكين، فسر بأنه ما يسيل من جلود أهل النار.

وآية الفجر 18: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} .

وفي آية الماعون، تجئ آية:{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في بيان الذي يكذب بالدين.

أوجز "الطبريط ففسرها بأنه الذي لا يحث غيره على إطعام المحتاج إلى الطعام.

وقال الزمخشري: "ولا يبعث أهله على بذل طعلن المسكين. جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف. يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لخشى الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك".

وأضاف إليه الرازي احتمال أن يكون المعنى: ولا يحض نفسه على طعام المسكين.

ونرى أن تفسير الحض بالحث، لا يعطي ملحظ الحمل على ما يكره عادة، كما يفوته لمح خصوصية الاستعمال القرآني للحض في الإنكار لعدم التحاض على طعام المسكين.

وتقسسد الآية بعدم حض الأهل، لا يعين عليه النص لفظاً وسياقاً، وإنما هو إنكار لموقف من ينكصون عن احتمال التبعة فلا يؤدون حق الجماعةفي الدعوة إلى الخير والتواصي بالمرحمة، وفي حسابهم أنه يكفي الإنسان تصديقاً بالدين، أن يؤدي فروض عبادته، وأن خطيئات غيره لا يقع عليه منها إثم السكوت على منكر.

وتأويل الحض بأنه لا يحض نفسه، غير قريب. فضلاً عن كونه يخرج بالآية عن سياقها القرآني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وللفخر الرازي ملحظ دقيق في إضافة طعام إلى المسكين، يجدى على ما نفرغ له

ص: 187

من دراسة بيانية. قال: "وإضافة طعام إلى المسكين تدل على أن ذلك حق المسكين. فكأنه - المكذب بالدين - منع المسكين مما هو حقه، وذلك يدل على نهاية بخله وقساوة قلبه وخساسة طبعه".

* * *

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}

سبق الحديث عن لفظ "ويل" واستقراء الاستعمال القرآني له، في تفسير آية الهمزة:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} .

والسهو لغة: النسيان والغفلة. ولم يستعمله القرآن الكريم إلا في آيتين:

{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (الذاريات 11)

وآية الماعون، والسهو فيها عن الصلاة، وليس في الصلاة.

ومن ثم نستبعد ابتداء قول من تأولوا السهو في الآية بأنه سهو في الصلاة وليس السهو فيها بخطيئة ولا منكر، وكل مؤمن عرضه لأن يسهو في صلاته، وينجبر مثل هذا السهو في الصلاة بسجود السهو والنوافل على ما هو مقرر في باب سجود السهو من أحكام الفقه.

فما يكون السهو عن الصلاة؟

اختلف أهل التأويل فيه، وقد أورد الإمام الطبري من أقوالهم في المقصود بهذا السهو:

أنه تأخير الصلاة، لا يصلونها إلا بعد خروجها عنه وقتها.

أنه الترك للصلاة لا على نية القضاء. وعن ابن عباس: هم المنافقون كانوا يراءون بصلاتهم إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا.

أو هو التهاون بها والتغافل عنها، ولا يبالى أحدهم صلى أم لم يصل.

وأولى الأقوال عند الطبري بالصواب: "أنهم ساهون لا هون يتغافلون عنها. وفي

ص: 188

اللهو عنها والتشاغل بغيرها تضييعها أحياناً وتضييع وقتها أحياناً أخرى. فصح بذلك قول من قال: عنى بذلك ترك وقتها، وقول من قال: عنى تركها".

وأضاف "الزمخشري" إلى هذين الوجهين وجهاً ثالثاً: "أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف، ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع وإخبات، ولا اجتناب لما يكره فيها من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدرى الواحد منهم كم أنصرف، ولا ما قرأ من السور".

ووقف "الرازي" عند تأويل السهو عن الصلاة بتركها، فأثار فيه مسألتين: "أن يقال إن الله تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} وأيضاً فالسهو عن الصلاة بمعنى الترك، لا يكون نفاقاً ولا كفر، فيعود الإشكال....

ثم قال: "ويمكن أن يجاب عن الاعتراض الأول بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مصلين نظراً إلى الصورة، وبأنهم نسوا الصلاة نظراً إلى المعنى كما قال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة هو أن يبقى ناسياً لذكر الله".

* * *

ولا نفهم الآبة بمعزل عن الآية التالية لها وقد ارتبطت بها ارتباط الصلة بالموصول:

{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .

والمراءاة في العربية أن يظهر الإنسلن خلاف ما يبطن. ووجه المفاعلة فيها أنه يرى الناس من ظاهر أمره ما يرونه موضع ثناء. وهي قريبة من النفاق، وإن شاع في المجال الديني تخصيص النفاق بمن يكتم الكفر ويظهر الإسلام. وإطلاق الرياء عاماً في التظاهر بالإيمان وبالصلاح والبر، وإضمار نقيضها.

وهو ما يؤنس إليه استعمال القرآن الكريم للرياء والمراءاة في الآيات الخمس:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ

ص: 189

النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة 264)

ومعها آيتا: (النساء 38، 142)

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال 47)

وآية الماعون في {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .

ومن معاني الماعون في معاجم اللغة: الماء والمطر، وكل ما يستعار للمنفعة عند الحاجة من فأس وقدر وإناء، ومنه شاع استعماله في الإناء. وقد يطلق الماعون أيضاً على الزكاة، بملحظ من إعطاء حق المال المفروض، على قلته، لمن يحتاج إليه ولا يجوز إمساكه عنه.

ولم يأت الماعون في القرآن الكريم إلا في هذه الآية.

في قول إنه الزكاة، اختراه الزمخشري.

على أن أكثر المفسرين فيما نقل الفخر الرازي، تأولوه بأنه ما يتعاوره الناس في العادة، كالفأس والدلو والمقدحة، والملح والماء والنار.

وعند الرازي أنها سميت ما عوناً لقلة شأنها، كما سميت الزكاة ماعوناً لأنه يؤخذ من المال ربع العشر وهو قليل من كثير.

ونبه الزمخشري إلى أن منع هذه الأشياء التي يتعاورها الناس "قد يكون محظوراً في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار، وقبيحاً في الموءة في غير حال الضرورة".

على حين يرى الرازي "أن البخل بهذه الأشياء القليلة يكون في غاية الدناءة. ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم إياه، ولا يقتصر من ذلك على الواجب".

ونقول من الإمام الطبري:

"إنهم يمنعون الناس ما يتعاورونه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة والمسكنة ما أوجب الله لهم في أموالهم من حقوق، لأن كل ذلك من المنافع التي ينتفع بها الناس بعضهم من بعض".} }

ص: 190

وقد احترز عدد من المفسرين في تأويل: {يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} من أن تتجه المراءاة إلى إظهار العمل الصالح إذا كان فريضة "لأن الفرائض شعائر الإسلام وتاركها مستحق للعن، فيجل نفي التهمة بالإظهار وإنما المكروه المراءاة بإظهار ما هو تطوع ونافلة" واحترزوا في هذا أيضاً بألا يكون القصد من إظهاره أن يقتدي به.

وأرى السياق في غنى عن مثل هذا الاحتراز، إذ ليس في إظهار فرائض العبادات، ولا في موضع القدوة، مظنة مراءاة توعد بويل.

* * *

ونفرغ بعد هذا لتدبر البيان القرآني لآيات الماعون، فنرى النذير بويل {لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قد أثبت أنهم فعلاً يؤدون الصلاة، ولكنهم ساهون عن صلاتهم غافلون عن كونها قياماً بين يدى الخالق، يكبح غرور الإنسان ويأخذه بالخشوع والتواضع أمام جلال خالقه وعظمته وقدرته، ويرهف نفسه اللوامة، فلا يطيق دع يتيم محتاج إلى العطف والرحمة، أو السكوت على مسكين يضام ويمنع حقه في طعامه.

وصلاة الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، لا يمكن أن تقام عن قلب خاشع وضمير مؤمن، وإنما هي مراءاة وتظاهر بالعبادة والتدين والتقوى، قصداً إلى جلب منفعة أو دفع أذى.

وحين لا تؤدى الصلاة غايتها من النهي عن الفحشاء والمنكر، فإنها تعود بذلط طقوساً شكلية وحركات آلية مجردة عن معناها وحكمتها. والإسلام يرفض هذه الآلية في شعائر الدين، ويتجه بالعبادات إلى أن تكون تهذيباً للنفس ورياضة للضمير وهداية إلى خير الفرد والجماعة.

والذي في آية البر:

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ} }

ص: 191

الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة 177)

وفي آية الحج:

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 37.

هو ما في آية الماعون، في المصلين الذين يؤدون الصلاة أداء شكلياً وطقوساً وحركات آلية يراءون بها، غافلين عن حكمة إقامتها، ساهين عما تنهي عنه من الفحشاء والمنكر.

* * *

ويمثل ذلك الهدى القرآني، يروض الإسلام بشريتنا على احتما المسئولية العامة، ويرتقي بالإنسان إلى حيث لا يكتفي بالواجب الفردي وأداء العبادات، بل يعد دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين تكذيباً بالدين. وليس وراء ذلك مطمح للإنسانية في التزام تبعة وجودها واحتمال أمانة الحق العام في التكافل والتراحم، والدعوة إلى الخير والتواصي بالحق والمرحمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}

صدق الله العظيم

تمَّ الكتاب بحمد الله وتوفيقه

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ص: 192