الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الهمزة
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله العظيم
السورة مكية.
والمشهور في ترتيب نزولها أنها الثانية والثلاثون.
* * *
قيل نزلت في "الأخنس بن شريق" كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل نزلت في "الوليد بن المغيرة المخزومي" كان يغتاب المصطفى عليه الصلاة والسلام من ورائه، ويطعن عليه في وجهه.
وقال محمد بن إسحاق في السيرة النبوية: "مازلنا نسمع أن هذه السورة نتزلت في أبي بن خلف".
وأياً من كان الذي نزلت فيه السورة، فالنذير عام لكل همزة لمزة. وهذا هو الصواب عند الإمام الطبري.
وقال الزمخشري في (الكشاف) ويجوز أن يكون السبب خاصاً والوعيد عاماً ليتناول كل من باشر ذلك القبيح.
* * *
ويل: كلمة عذاب وسخط. ويكثر استعمالها مع هاء الندبة في التفجع عند الكوارث.
وتأولها بعض المفسرين في آية الهمزة، بأنها "واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيحهم".
ونستقرئ مواضع الاستعمال في القرآن الكريم للكلمة، فنجدها في أربعين موضعاً. منها ثلاث عشرة مرة، معرفة بالإضافة، في موقف التحسر والتفجع والندبة، بآيات:
(القلم 31، هود 72، الفرقان 28، الكهف 49، الأحقاف 18، طه 61، القصص 80، الأنبياء 14، 46، 97، يس 52، الصافات 20، المائدة 31) .
وباقي الآيات الأربعين، في سياق النذير من الله سبحانه.
وباستثناء آية الأنبياء: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} معرفة بأل، جاءت "ويل" نكرة، بمثل الأسلوب في آية الهمزة.
والنذير في كل آياتها من الله سبحانه، بويل، للكافرين، والمشركين، والمكذبين، والظالمين، والمطففين، والمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، والذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، والقاسية قلوبهم، وكل أفاك أثيم، وكل همزة لمزة.
والوعيد فيها بويل: من مشهد يوم عظيم، ومن النار، وعذاب أليم، ومن يوم الدين، ويومهم الذي يوعدون، والنبذ في الحطمة.
وفي هذا الاستقراء ما يكفي إدراكا لما للفظ ويلٍ من رهبة، وما يثير من خوف ورعب، دون أن نحتاج فيه إلى تأويلٍ بوادٍ في جهنم يسيل قيحاً، أحسبه من الإسرائيليات التي أدخل فيها اليهود عناصر من وصفهم لجهنم.
* * *
ولم تأت "هُمزَة" بهذه الصيغة في القرآن الكريم إلا هنا، وإن جاء من مادتها صيغتان أخريان:
هماز: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (القلم 11)
وهمزات: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (المؤمنون 97)
* * *
كذلك لم تأت صيغة "لُمَزَة" في القرآن كله إلا في آية الهمزة، وجاء الفعل مضارعاً في ثلاث آيات:
{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (الحجرات 11)
ومعها آية (التوبة 79) في اللمز في الصدقات أيضاً.
وهذا هو كل ما في القرآن الكريم من مادتي الهمز واللمز.
* * *
ولا خلاف، أعلمه، بين اللغويين والمفسرين، في أن مثل صيغة همزة ولمزة، تستعمل فيمن يكثر منه فعلها حتى كأن ذلك عادة منه قد ضرى بها. . .
ولكنهم لم يتفقوا على الدلالة، فمنهم من لا يفرق بين الهمزة واللمزة.
ومنهم من يجعل الهمز للتحقير والعيب في الغيبة، أو التعريض بالإشارة والكلام المبهم، أما اللمز فهو التحقير والهزء صراحةً ومواجهةً.
ومنهم من عكس الوضع، فجعل اللمز في الغيبة، والهمز في المواجهة والحضور.
ونحتكم إلى القرآن الكريم فيجلو لنا الفرق بين اللفظين في الدلالة، حين يستعمل الهمز لوسوسة الشيطان (المؤمنون) والنميمة (القلم) .
وفيهما الخفاء والغيبة.
أما اللمز فيستعمله مع التنابز بالألقاب (الحجرات) وفي الاعتراض على تقسيم الصدقات (التوبة) .
ولا يكون ذلك إلا مواجهةً.
وهذه التفرقة تؤكد أصالة الاستعمال اللغوي الذي فرقت فيه العربية بين المادتين:
فاستعملت اللمز في الضرب والطعن.
واستعملت الهمز حسياً في الهمزة للنقرة والمكان المنخسف، والمهماز حديدة في مؤخر خف الذي يروض الفرس، والمهامز مقارع النخاسين ينخسون بها الدواب والرقيق. ولا يكون النخس في العربية إلى في مؤخر الدابة أو جنبها دون وجهها وصدرها.
وبهذا كله نستأنس في فهم الآية، فلا نذهب مع الشيخ محمد عبده إلى "أن الهمز
يكون بالعين والشدق واليد، حركات إلى التحقير والهزء، واللمز يكون باللسان".
وإنما نطمئن إلى أن الهمزة هو الذي يدأب على تحقير الناس والإيغال في تجريحهم من خلف ظهورهم، واللمزة الذي يدأب على مواجتهم بكلمة السوء تحقيراً لهم وغضاً من شأنهم.
* * *
ويصل القرآن الكريم، الكلام عن كل همزة لمزة:
{الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} .
قرأ "ابن عامر، وحمزة، والكسائي": {جَمَّعَ} بتشديد الميم. والباقون بفتحها.
وأما {وَعَدَّدَهُ} فلا خلاف بينهم فيه، وهم مجمعون على قراءته بالتشديد إلا ما روى عن قراءة فيها بتخفيف الدال، بإسناد غير ثابت. قال الإمام الطبري:"وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، لخلافها قراءة الأمصار وخروجها عما عليه الحجة مجمعة ذلك".
وعلى قراءة الجمهور:
قال الإمام الطبري في تفسير الجمع:
"جمع مالاً وحفظه وأحصى عدده ولم ينفقه في سبيل الله ولم يؤد حق الله فيه".
وفرق الفخر الرازي بين القراءتين، فقال: "إن جمع بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا، وأنه لم يجمعه في يوم واحد ولا في يومين ولا في شهر ولا في شهرين. وأما جمع بالتخفيف فلا يفيد ذلك......
وقوله تعالى: وعدده، فيه وجوه: أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة لحوادث الدهر، أو هو من العد والإحصاء. أو - على القراءة بالتخفيف - جمع المال وضبط
عدده، أو هو من قولهم: فلان ذو عدد".
والجمع في اللغة ضد التفرق، مع ملحظ من التفاوت بين أفراده: يطلق اسماً على المجموع وعلى الجماعة من الناس أو غيرهم. وجماع الناس أخلاطهم من قبائل شتى. والمجتمع ما اجتمع من الرمال من هنا ومن هناك. والجمع صنف من التمر أو النخل خرج من النوى لا يعرف اسمه.
ويأتي الجمع مصدراً، بمعنى لم الشتات المتفرق أفراداً. والإجماع اتفاق الجماعة على رأي أو عمل، وتجمعوا اجتمعوا من ومن هناك.
وفي النصطلح الديني سميت صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة باجتماع الناص على اختلافهم للصلاة، كما سمى اليوم الآخر يوم الجمع، يجمع الناس على اختلاف أجناسهم وأممهم وطبقاتهم وعقائدهم.
ويلحظ في الاستعمال القرآني للمادة، أنها تجئ أكثر ليوم القيامة: في نحو أربعين موضعاً.
ومن الفعل الثلاثي، جاء جمع، وجميع، وجامع، ومجموع ومجموعون، ومجمع. ولم يأت الفعل "جمع" بتضعيف الميم، في المصدر أو أي مشتق من مشتقاته.
وجاء الفعل ثلاثياً ثماني عشرة مرة، لا نخطئ فيها حس العربية الأصيل للمادة، في الدلالة على لم الشتات المتفرق المختلط.
منها ثلاث عشرة مرة، الفعل فيها مسند إلى الله سبحانه، ولو شاء لجمع الناس على الهدى ولم يتفرقوا في الدين، وهو تعالى قادر على أن يجمع عظام الإنسان المفتتة بالبلى، وهو يجمع الناس على اختلافهم ليةم الفصل، يوم الجمع {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}
والمرات الخمس الأخرى في رحمة ربك {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} بآيات (آل عمران 157، ويونس 58، والزخرف32) على ما يفيده الإطلاق من الجمع اللم، وآية (آل عمران 173) في {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} بما
يفيد الجمع من الحشد لشتى الجند والسلاح.
ولا يتختلف الملحظ في آية المحارم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وإنما يحل الجمع حين تفترق الدماء وتختلف الأرحام والأصلاب.
فملحظ الحشد مع الإختلاط، هو ما يعطيه هذا الاستقراء عن قرب، وبه نفهم آية الهمزة في جمع مال مختلط، والتلهي بتعديده احصاءً وتكاثراً وأثرة، ومعها آية المعارج:
وإذن فهي فتنة المال ووثنيته، وما تدفع إليه من أثرة وتجبر وخيلاء. وإزدراء للناس وتحقيرهم والغض من شأنهم خفية وعلانية، من وراء ظهورهم وفي وجوههم، من حيث لا يعلمون أو يعلمون.
* * *
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}
والعربية تستعمل الحساب والمحاسبة حسياً في العد والإحصاء {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} .
كما تستعمله معنوياً في التقدير والتدبير، وفي المسئولية والمؤاخذة، والحسيب الرقيب المحاسب.
ومنه نقل إلى المصطلح الديني في محاسبة الإنسان على عمله "يوم احساب" وأكثر ما يجئ الفعل الرباعي، بهذه الدلالة، مسناً إلى الله تعالى.
أما الثلاثي، فالعربية تفرق في مضارعه بين المادي والمعنوي: فيغلب كسر السين للحساب بمعنى العد، وفتحها في معنى التقدير أو التدبير.
وخص الحسب بما يعد من مفاخر الآباء.
وفي القرآن الكريم: جاء الفعل الثلاثي ثلاث مرة، يؤذن سياقها أنها بمعنى التقدير عن ظن وتصور، كالذي في آيات:
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} (النمل 44)
ومعها آيتا (الكهف 9 والإنسان 19)
ويكثر مجيئه بأسلوب الاستفهام الإنكاري، فيعطيه السياق دلالة ضلال الوهم، والخطأ في التقدير، مثل آيات:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} ؟ (العنكبوت 2)
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} (محمد 29)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون 115)
ومعها آيات: (العنكبوت 4، البقرة 214، آل عمران 142، التوبة 16)
ويتأيد ملحظ استعماله في غير العد الحسابي، بمجئ الفعل المضارع مفتوح السين في آياته الإحدى والثلاثين، في سياق النهي أو التحذير من خطأ التقدير على الظن أو التوهم. والفعل فيخا جميعاً مسند إلى المخلوقين.
ويأذن لنا هذا الإستقراء، في حمل "يَحْسب" في آية الهمزة، على التوهم الذي يخطئ حقيقة التقدير، في حسابه أن ماله أخلده.
والخلد في العربية البقاء والدوام، استعملته حسياً في الخوالد وهي الجبال الرواسي الثوابت والحجارة والصخور لطول بقائها. ومنه قيل المخلد للرجل الذي أسن دون أن يشيب. والخلود البقاء الدائم، ضد الفناء.
والقرآن الكريم يستعمل الخلود بملحظ لا يتخلف، فهم فيه دائماً في سياق الحديث عن الآخرة، إما خلوداً في الجنة والنعيم ودار الخلد، أو خلوداً في العذاب والنار.
وحين يستعمله في الدنيا، فعلى وجه النفي والإنكار أن يكون فيها خلود وإنما هي دار فناء. ترى ذلك واضحاً في مثل آيات:
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء 34)
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} (الأنبياء 8)
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (الشعراء 129)
ومعها آية الهمزة في {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} فيضله الوهم ضلالاً بعيداً، ويعيمه عن حقيقة الدنيا الفانية التي يتهالك على حطامها.
* * *
{كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} .
مع الردع والزجر بـ: كلا، يأتي هذا النبذ في الحطمة.
والنبذ في العربية الطرح لما هو هين وحقير، والمنبوذ ولد الزنى، واللقيط الملقى في الطريق. وقبر منبوذ بعيد منعزل. والنبيذة الناقة لا تؤكل من فرط سقمها وهزالها، والأنباذ الأوباش.
والانتباذ التنحي والانسحاب إلى مكان مهجور، ومنه في القرآن آيتا مريم {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} ، {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} .
والنبذ في الحرب أن يخرج أحد الفريقين إلى حيث انتحى الآخر وانتبذ، ومنه آية الأنفال 58:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}
وكل ما في القرآن من النبذ، غير آيتى مريم والأنفال، هو من الطرح والنفي، عن هوان بامنبوذ على النابذ.
{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} (القلم 49)(والصافات 145)
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} (القصص 40)(والذاريات 40)
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} (البقرة 100)
وبكل ما في لفظ النبذ من دلالة على الهوان والضياع، يأتي الفعل في الهمزة، مؤكداً باللام والنون المذددة، وعيداً لعابد المال الذي يحتقر الناس ويزدريهم، ويدأب على تجريحهم همزاً ولمزاً.
وقد فسرها الإمام "الطبري" بالقذف.
ولمح "الفخر الرازي" ما في النبذ من إهانة.
والإهانة أصلية في دلالة النبذ لغة، والبيان القرآني يجلوها على هذا النحو الباهر حين يزجر بها ذلك المتفاخر المتعالي المغرور بماله يحسب لأنه أخلده، وإنما ينتظره خلود آخر مهين أليم، منبوذاً في الحطمة.
وأصل الحطم في العربية: التهشيم مع اختصاص بما هو يابس كالعظام، وقيل الحطوم للأسد يحطم كل شيء ويهشمه، وللريح تقوض البناء. والحاطوم والحطمة السنة المشئومة. ورجل حطم يلتهم كل شيء ولا يشبع. وراع حطمة وحطم، كأنه يحطم الماشية عن سوقها، لعنفه.
وهذا الملحظ الأصيل من التهشيم مع العنف والقسوة، لا تخطئه في الاستعمال القرآني للمادة، في المواضع الستة التي جاءت فيها:
وبصيغة الفعل المضارع في آية النمل 18:
ولنا أنت نتصور وطأة الحطم من سليمان وجنوده، للنمل مع ضآلة جرمه ووهن قواه.
وثلاث مرات بصيغة حطام في آيتى (الزمر 21، والحديد 20) للرزع المصفر اليبيس المهشم، تمثيلاً لحطام الدنيا {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ومعهما آية الواقعة 65.
ومرتان بصيغة حطمة التي انفردت بها آيتا الهمزة.
قالوا في تفسيرها: هي اسم من اسماء النار، وهي الدركة الثانية من ردكاتها.
وفي الطبري عن "مقاتل": تحطم العظام وتأكل اللحم حتى تهجم على القلوب.
ورووا فيه حديثاً: "إن الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه كما توضع الخشبة على الركبة فتكسر. ثم يرمى به إلى النار".
وأخذه الزمخشري في (الكشاف) من معنى النار تحطم كل ما يلقى فيها كالرجل الأكول الحطمة.
والقرآن يغنينا عن تأويل بما تولى من بيان الحطمة في الآيات بعدها، وتبدأ بالسؤال:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} .
والدراية أخص من المعرفة.
والخاصة البيانية لهذا الأسلوب: ما أدراك، استعماله فيما يجاوز دراية المسئول:
إما لجلال الأمر وعظمة كآيتى: القدر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، والعقبة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} .
وإما لكونه من الغيب المتعلق بالصبر في اليوم الآخر، يتجاوز دراية البشر ويعييهم إدراكه وتمثله، كآيات:
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} (المدثر 27)
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة 1 - 3)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} (القارعة 3، 10)
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} (الرسلات 14)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (الإنفطار 17، 18)
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}
(المطففين 8، 18)
وفي كل آية من هذه الآيات، يعقب على السؤال المثير {وَمَا أَدْرَاكَ} ؟ ببيان مناط العلو أو الرهبة والهول، فلنا إذن أن نلتمس مثل ذلك فيما تلا آية:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} من بيان لها في الآيات بعدها:
* * *
{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} .
وباستقراء الاستعمال اتلقرآني للنار، نلحظ غلبة مجيئها لنار الجحيم في الآخرة، حيث وردت فيها نحو مائة وعشرين مرة، في مقابل خمس وعشرين مرة للنار في
الدنيا، إما على الحقيقة في النار المعروفة المعهودة، وإما على المجاز في مثل نار الحرب (المائدة 64)
ومع كثرة استعمال النار في القرآن لنار الجحيم، لم تأت مضافة إلى الله تعالى إلا في "الهمزة" فشهد ذلك بفداحة النكر لفتنة المال وما تغرى به من تكبر وبغى، وعدوان وضلال.
والإيقاد الإشعال، وأصله في العربية للنار إلا أت يستعمل مجازاً في الفتنة والحرب والضغينة وما أشبهها.
وقد جاءت مادة (قد) في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة، اثنتان منها على المجاز في آية النور:{كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} 35.
وبآية (المائدة) في اليهود: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} 64.
وخمس مرات للنار المعروفة، إيقاداً ووقوداً واستيقادا:
(يس 80، الرعد 17، القصص 38، البروج 5، البقرة 17) .
وأربع مرات لنار الجحيم {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} بآيات:
(البقرة 24، وآل عمران 10، والتحريم 6) .
و {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} في آية الهمزة.
والمار لا تكون إلا موقدة، فوصفها بالموقدة في مقام النذير، تأكيد للوعيد وإرهاب بهوله.
وليس من الضرورى أن نتأول إطلاع نار الله الموقدة على الأفئدة، بأنها:"تعلوها وتقلبها وتشتمل عليها" كما ذهب الزمخشري وأذه الشيخ محمد عبده، ولا بأنها "تأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب" كما نقل الطبري.
وأولى من هذا الهجوم والأكل، أن نامح أسرار التعبير في هذا البيان القرآني، فنتدبر موضع الأفئدة هنا، ولا نقول إنها جاءت مكان القلوب لمجرد ملحظ لفظي في رعاية الفاصلة، بل لأن القلب قد يطلق في العربية على العضو العضلي المعروف من أعضاء الجسم، أما الفؤاد فلا يطلق إلا على المعنوي من وضع الشعور والعواطف
والعقيدة والأهواء. وبهذا المعنى جاء الفؤاد في القرآن مفرداً وجمعاً، ست عشرة مرة، ليس فيها ما يحمل على الجارحة، كآيات:
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود 120)
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (الفرقان 32)
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم 11)
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} (القصص 10)
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم 37)
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الأنعام 113)
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (إبراهيم 43)
والزمخشري التفت إلى أن الأفئدة مواطن الكفر والعقائد الفاسدة، كما قال الشيخ محمد عبده إنها موضع الوجدان والشعور.
وبقى أن نلتفت إلى أن هذه المعنويات هي الغالبة كذلك على استعمال القرآن للفظ قلب وقلوب. إذ يأتي اللفظ مع الإطمئنان والسكينة والرحمة والتآلف والخشوع والوجل والفقه والطهر. كما يأتي مع الارتياب واللهو والتقلب والرعب والوجل والخوف والاشمئزاز والقسوة والتكبر والجبروت، والزيغ والمرض والإثم والغفلة والعمى.....
وكلها مما لا مجال له في القلب بدلالته العضوية التي تعرفها له العربية في مألوف الاستعمال ومنه في القرآن آية الأحزاب:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} .
وإذن يكون إيثار الأفئدة هنا لا لنسق الفاصلة فحسب، ولكنه كذلك لتخليض الأفئدة من حس العضوية التي تدخل على دلالة لفظ القلوب في المألوف من لغة العرب، إذ نستعمل القلب بمعناه العضوي، ولا نستعمل الفؤاد بهذا المعنى قط.
وإسناد الإطلاع إلى نار الله الموقدة، فيه تشخيص لهولها وتقرير لفاعليتها، على نحو ما شخص القرآن الكريم هذا الهول بتقرير فاعلية النار، في آيات أخرى، تأتي النار فيها:
مبصرة منفعلة: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (الفرقان 12)
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} .
ناطقة داعية: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} (الملك 7، 8)
{تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (المعارج 17)
بل أعطاها كذلك صفة الولاية على المفتونين المغرورين والكفار الجاحدين:
* * *
{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} .
نلمح من سر البيان فيها، أنها {عَلَيْهِمْ} بما تفيد من الإطباق الملاصق المباشر.
ولا تقوم مقامها "فوقهم" مثلاً، لاحتمال أن تكون الفوقية غير ملاصقة ولا مطبقة ملابسة.
والعربية استعملت الوصيد للبيت الحصين يتخذ للمال من حجارة فب الجبال.
واستوصد في الجبل: اتخذ فيه حظيرة من حجارة.
والعمد: حمع عمود، وأصل استعماله فيما يقوم عليه الخباء، وعمد الحائط دعمه. وسبق استقراء مادته في ذات العماد من آية الفجر.
والمد: الجذب للبسط، وطراف ممدد مشدود بالأطناب. ومد بصره إلى الشيء طمح إليه. والمد فيضان الماء نقيض انحساره في الجزر.
فسره الزمخشري بقوله: فتوصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد استيثاقاً في استيثاق، ونظيره قول الشاعر:
تحن إلى أجيال مكة ناقتى ومن دونها أبواب صنعاء موصده
ونؤثر أن نستأنس في فهم الآية، بالحس اللغوي الأصيل للإيصاد، بمعنى الإغلاق المحكم، وباستعمال القرآن الكريم للمادة، في آياتها الثلاث:
الوصيد في آية الكهف 18:
ومؤصدة في ختام سورة البلد:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} .
والآية مسبوقة ببيان لغرور المال وفتنته، يضل الإنسان ضلالاً بعيداً:
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} ؟
وفي آية البلد من إيصاد النار وإطباقها المباشر، مقل ما في ختام سورة الهمزة:
{عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} .
نذيراً كذلك ووعيداً بويل {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} .
صدق الله العظيم