المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الفجر بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ - التفسير البياني للقرآن الكريم - جـ ٢

[عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ]

الفصل: ‌ ‌سورة الفجر بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ

‌سورة الفجر

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }

صدق الله العظيم

ص: 123

السورة مكية مبكرة، ترتيبها العاشرة في النزول. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى.

والفجر ضوء الصباح أول ظهوره في سواد الليل، ومنه يطلق على وقت ظهور هذا الضوء.

وتقتصر معاجمنا على صيغة الفجر في هذا الاستعمال، فلا يقال أفجر فلان بمعنى دخل في الفجر، مثلما يقال أصبح وأضحى وأمسى المساء.

ولعل الاستعمال الحسي الأول للمادة، في تفجر الماء من الأرض. وتتصرف العربية في هذا الاستعمال فيأتي منه: فجَر وفجَّر وتفجر، كما تأتي صيغ اشتقاقية أخرى كالمتفجر والمفجر والمنفجر، وقريب من استعماله في الماء، التفجر والإنفجار في البراكين وشبهها.

ومن هذه الدلالة الحسية جاءت الاستعمالات المجازية فيما هو انبعاث واضح، فإذا كان في النور والخير والجود والمعروف فهو الفجر، وإذا كان في الشر والفاحشة فهو فُجر، وفي الفسق والمعصية فجور، وأيام الفجار أربعة كان فيها قتال في الأشهر الحرم بين قريش وقيس عيلان في الجاهلية. وانفجرت الدواهي أتت من كل وجه.

وفي القرآن الكريم:

جاءت المادة في أربعة وعشرين موضعاً، منها عشر مرات أفعالاً، يغلب مجئ الفعل منها في تفجر الماء وتفجيره، وانفجاره على المطاوعة.

(البقرة 60، 74، والإسراء 90، 91، والكهف 33، يس 34، القمر 12، الإنسان 9، الإنفطار 3)

ولم يأت الفعل في غير الماء غلآ مرة واحدة في الفجور في آية القيامة:

{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} 5.

ويقل استعماله اسماً في الماء، حيث لم يأت منه إلا في تفجير الأنهار بآية (الإسراء 91)

ص: 125

وتفجير عين بآية (الإنسان 6) ووردت ست مرات في الفجور: مقابلاً بالتقوى في آية (الشمس 8) وبصيغ فاجر وفجرة وفجار، مقابلة بالمتقين والأبرار، في آيات (نوح 17، عبس 42، الإنفطار 14، المطففين 7) .

وأما الفجر بدلالته على ضوء الصباح أول ظهوره في سواد الليل، أو على وقته، فجاء منه في القرآن ست آيات:

(القدر 5، والبقرة 187، والإسراء 78، والنور 58) وآية الفجر.

وتدل آية البقرة على أن علامة مطلع الفجر، أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إيذاناً بإنبثاق النور في الظلمة، كما تدل آية الإسراء على أن الفجر بعد غسق الليل.

والغسق ظلام مختلط ببوادر النور في آخر الليل. أو بقايا الضوء بعد مغيب النهار وغروب الشمس.

من ثم لا نرى وجهاً لتفسير الفجر بأنه النهار كله كما في "الطبري" عن "ابن عباس" وإنما هو الفجر المعهود عند تبين الخيط الأبيض من سواد الليل، وقد رده "الراغب" إلى معنى الشق "كما في تفجير الأرض عيوناً وأنهاراً، ومنه قيل للصبح فجراً لكونه فاجر الليل، والفجور شق في ستر الديانة".

ونؤثر أن نرده كذلك إلى دلالة الإنبثاق والإنبعاث، يكون حسياً بشق متعمد، كما يكون تلقائياً كالإنفجار، ومعنوياً في الفجور والإنبعاث المجازي.

وتأوله عدد من المفسرين في سورة الفجر، على الإضافة إلى محذوف اختلفوا في تقديره: قيل، ورب الفجر، أو وقرآن الفجر، على ما نقل الإمام الطبري، ومثله عند النيسابورى والزمخشري.

وخصه قوم بفجر بذاته، اختلفوا كذلك في المراد به" قيل هو "فجر النحر لأنه يوم الضحايا والقرابين" أو هو "فجر المحرم لأنه أول يوم من كل سنة، أو عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه وفيها حياة الخلق" (الرازي) .

ص: 126

أو هو فجر ذي الحجة، لقوله تعالى بعده:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} كما في (التبيان) لابن قيم الجوزية.

وهم في ذلك كله متأثرين بفكرتهم في تعظيم المقسم به بهذه الواو، وذلك ما نعرض له بعد تدبر الآيات الداخلة مع الفجر في حيز المقسم به.

* * *

{وَلَيَالٍ عَشْرٍ}

العشر والعشرة: أول العقود. وللعربية فيه استعمالات مختلفة الصيغ، ترد جميعاً إلى معنى العدد: فالعشر الجزء من عشرة أجزاء، والمعشار القسم منها والنصيب، والعشار الإبل أتى عليها عشرة أشهر من حملها. والعشار من يستحل قبض عشر المال وإنما الفرض فيه ربع العشر. والعشر أن ترد الإبل في اليوم العاشر، والمعشر الجماعة ذات العدد، والعشيرى أهل الرجل يتكثر بهم عدداً. والعشر أخص من العشيرة، فهو المعاشر يكون لعشيره رفيقاً وصاحباً فلا يبقى فراداً واحداً.

وفي القرآن الكريم:

جاء من المادة العشار بمعنى الحوامل من الإبل في آية التكوير:

{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}

وجاء الفعل من المعاشرة في آية النساء: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} كما جاء العشير والعشيرة في آيات (الحج 13، والشعراء 214، والتوبة 24، والمجادلة 22) ومعشر في آيات (الأنعام 128، 130، والرحمن 33) .

وجاء بدلالته على العدد في ثمانية عشر موضعاً، أحدها بلفظ معشار في آية سبأ 45:

{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} .

ويبدو أن المعشار فيها بدلالة بيانية على مطلق التجزئة والتقليل.

على حين يستعمل العشر بدلالته الرقمية المحددة: الجزء من عشرة، ولم يأت في القرآن بهذه الصيغة.

وجاء العدد: عشرون، مرة واحدة في آية الأنفال:

ص: 127

{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 65.

ودلالتها على النسبية أقرب من الدلالة الرقمية المحددة.

وجاءت عشر، أو عشرة، مفردة ومركبة، في ستة موضعاً، نتبدبرها جميعاً فنلمح ملحظاً دقيقاً في الاستعمال القرآني للعدد:

حين يأتي في سياق الأحكام أو الأنباء والأخبار، يحدد العدد دلالته الرقمية الحسابية كما في آيات:

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (البقرة 234)

{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (القصص 27)

{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة 196)

{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة 89)

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف 142)

{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (البقرة 60)

وآيات (الأعراف 160، المائدة 12، التوبة 36، يوسف 4) .

على حين تحتمل دلالة العدد نطلق التعدد والكثرة، في سياق الترغيب والعبرة، أو الوعيد والتحدي كالذي في آيات:

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام 160)

{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} (طه 103)

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود 13)

وليس بين المفسرين، فيما أعلم، خلاف على أن عشراً في آية الفجر {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} بدلالتها الرقمية الحسابية، لكنهم اختلفوا في هذه الليالي العشر وذهبوا في تأويلها مذاهب شتى:

ص: 128

* فهي العشر الأولى من ذي الحجة، في قول جماعة ذكرهم الإمام الطبري بأسمائهم. وابن القيم في (التبيان) والزمخشري في (الكشاف) . وأيده النيسابورى بما جاء في فضل هذه الأيام:"ما من أيام العمل فيهن أفضل من عشر ذي الحجة".

* وقيل هي العشر الأولى من المحرم. نقله الطبري والنيسابورى.

* وعن مسروق ومجاهد، أنها عشر موسى التي أتمها لله تعالى (آية الأعراف) .

وقد أورد الفخر الرازي الأقوال الثلاثة سرداً دون ترجيح.

* واختار الإمام الطبري أن تكون ليالي عشراً هي العشرة الأخيرة من رمضان.

* واختار الشيخ محمد عبده أن تكون عشر ليال من أول كل شهر، كما اختار في الفجر أن يكون "لجنس ذلك الوقت المعروف".

وتنكير ليال عشر، إطلاق قد يراد به، والله أعلم، كل ليال عشر من أواخر شهر رمضان، كما اختار الإمام الطبري. ويؤنس إليه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر:"فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان". ويكون اللفت بها - في آية الفجر - إلى نزول القرآن فيها هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

وعلى هذا الوجه ترتبط ليال عشر بما قبلها وما بعدها من الفجر الصادق البازغ، نوراً ينسخ ظلمة الليل إذا يسرى.

* * *

{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} .

اللفظان يستعملان في العربية، بدلالة على العدد الزوجي والفردي.

ومعنى الشفع لغة، ضم الشيء إلى مثله. وملحظ الأزدواج واضح في استعمال الشفع حسياً في: الناقة الشافع وهي التي يتبعها ولد وفي بطنها آخر. والشفوع من النوق: التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة، والشفائع ألوان من الرعى، ينبت اثنين اثنين....

ومن هذا الازدواج، جاءت الشفاعة بمعنى الإنضمام للتقوية والتأييد والنصره

ص: 129

ولا تكون الشفاعة إلا ممن هو أقوى أو أعلى حرمة ومرتبة، لمن هو أدنى منه، على ما لحظ الراغب في (المفردات) .

والشفعة في الشريعة: حق المالك لدار أو عقار، للشريك أو الجار، مع دفع العوض.

واستعمل الشفع، بملحظ الأزدواج، في العدد الزوجي.

ونقيضه الوتر، أي العدد المفرد لم يشفع بعدد آخر.

ويقول العرب: ناقة مواترة، تضع إحدى ركبتيها في البروك ثم تضع الأخرى، ولا تبرك بهما معاً، والمواترة بين الأشياء أن تقع بينهما فترة، ومواترة الصوم أن تصوم على غير مواصلة، ووتر القوم أو جعل شفعهم وتراً.

وفي القرآن الكريم: جاءت مادة (ش ف ع) اسماً وفعلاً إحدى وثلاثين مرة.

كلها في الشفاعة باستثناء آية الفجر، وفيها الشفع مقابلاً للوتر.

أما الوتر فلم يجئ من مادته في القرآن إلا ثلاث آيات، إحداها في الترة بمعنى النقص، بآية محمد 35:

{وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} .

ومرة في تتابع الرسل على فترة بينهم:

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} (المؤمنون 44)

وآية الفجر، وفيها الوتر مع الشفع.

قال الرازي: اضطرب المفسرون في تفسر الشفع والوتر وأكثروا فيهما. وقد جمع من تأويلاتهم:

قيل الشفع المخلوقات من حيث هي مركبات {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} والوتر هو الله من حيث هو الفرد الواحد. وعبارة "ابن القيم" في التبيان: كل شيء شفع والله وتر.

وقيل الشفع ولد آدم، والوتر آدم لأنه لم يأت عن والد. أو أن الوتر آدم وشفع بزوجه حواء.

ص: 130

وقيل: الشعائر المعظمة منها شفع ومنها وتر، في الأمكنة والأزمنه والأعمال: فالصفا شفع وعرفه وتر، والطواف وتر وركعتاه شفع، والصلاة منها شفع ومنها وتر.

وأقتصر "الراغب" من هذا الوجه على القول بأن الشفع يوم النحر من حيث إن له نظيراً يليه، والوتر يوم عرفه.

وقيل: العدد كله، شفع ووتر.

وقيل: الشفع درجات الجنة وهي ثمان، والوتر دركات النار وهي سبع.

وقيل: الشفع صفات الخلق، كالعم والجهل، والقدرة والعجز، والرغبة والكراهية، والحياة والموت

أما الوتر فهو صفة الخالق: وجود بلا عدم، حياة بلا موت، علم بلا جهل، قدرة ولا عجز، عزة ولا ذل.....

وقيل: الشفع كل نبي له اسمان، مثل: محمد وأحمد، عيسى والمسيح، ويونس وذي النون، إبراهيم والخليل....

والوتر كل نبي له اسن واحد مثل: نوح وهود وصالح....

وقيل: الشفع البروج عددها اثنا عشر، الوتر الكواكب السبعة....

وقيل: الشفع الأعضاء، والوتر القلب.....

وقد بلغ ما أورده الفخر الرازي مما اضطرب فيه المفسرون في الشفع والتر، عشرين وجهاً. وعنده "أن كل وجه من هذه الوجوه محتمل، والظاهر لا إشعار له بشيء منها على التعيين. فإن ثبت في شيء منها خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو إجماع من أهل التأويل، حكم بأنه المراد، وإن لم يثبت فيجب أن يكون التأويل على طريقة الجواز لا على وجه القطع. ولقائل أن يقول: إني أحمل الكلام على الكل، لأن الألف واللام في الشفع والوتر تفيد التعميم".

ولا نعلم أن أهل التأويل، قد أجمعوا على وجه في المواد بالشفع والوتر، وإنما اضطريت أقوالهم تحمل الآية، كما يقول الإمام الطبري: "ما لم تدل عليه بخير

ص: 131

ولا عقل، وهو تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر. ولم يخصص نوعاً من الشفع ولا من الوتر دون نوع. وكل شفع ووتر فهم مما أقسم به".

أو كما قال الزمخشري: "أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه".

ونحتكم إلى النص القرآني فلا نراه يحتمل كل هذه الأقوال المضطربة والتأويلات المسرفة في التكليف، وإنما حسبنا منت الشفع والوتر دلالتها الصريحة، لغة ونصاً وسياقاً، على الأزدواج والإفراد، مع ملحظ فيهما من التقابل والتضاد. ودون تكلف في تأويلهما بما يتجه بهما نحو التعظيم، فإذا كانت الشعائر المعظمة شفعاً ووتراً، فكذلك كل الأشياء، العظيم منها والحقير، تحتمل أن تكون شفعاً ووتراً...... ومثله في التقابل، الفجر وسرى الليل.....

ولا وجه عندنا، بعد أن تدبرنا آيات القسم بالواو في القرآن الكريم، للوقوف به عند أصل استعماله اللغوي في التعظيم، والأولى أن يخرج عنه إلى الاستعمال البلاغي الذي لا يتعلق بما جاء على أصل الوضع اللغوي، بل يعدل عنه لملحظ بياني، هو في آيات الفجر: اللفت إلى انبثاق نور الفجر في ظلمة الليل الساري، توطئة إيضاحية بالحسى المدرك، إلى معنويات من الهدى والضلال.

* * *

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}

السرى في العربية: السير عامة الليل. وفي دلالته اللغوية الأولى معنى الخفاء.

وربما كان أصل استعماله الحسي في السرى، وهو عرق الشجر دب تحت الأرض. لحظ فيه الامتداد مع الخفاء، فاستعمل في السرى لما في السير مدى الليل من خفاء، واختص السرى بالليل تمييزاً له عن عامة السير.

والأصل أن الليل يسرى فيه. فإسناد السرى إلى الليل في آية الفجر، من الإسناد

ص: 132

المجازى، وهو في صنعة البلاغيين لعلاقة الزمان أي وقت السرى. لكنه في الفن القولي أعمق نفاذاً من ذلك الملحظ القريب المتبادر الذي تكتفي به الصنعة، إذ فيه تجسيم لليل وتشخيص وفاعلية، بحيث يتمثل كائناً حياً يسرى. وفيه كذلك إلباس للحدث بزمانه، فالليل نفسه يسرى كما يسرى فيه كل كل سار بليل.

وقد جاءت المادة في القرآن الكريم ثماني مرات كلها في سرى الليل، باستثناء آية مريم:{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} 24.

والمرات السبع في سرى الليل، كلها أفعال:

مرة للماضي في آية الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} .

وخمس مرات فعل أمر للوطٍ وموسى، عليهما السلام بآيات: هو 81، الحجر 65، طه 77، الشعراء 52، الدخان 23.

وآية الفجر: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} على إسناد السرى إلى الليل نفسه مجازاً. في (تفسير الطبري) عن مقاتل: هي ليلة المزدلفة والساري هو الحج.

وهذا، فيما نرى، تخصيص قد يمنعه عموم اللفظ.

وفسره أبو حيان: إذا يمضى، كقوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} ومثله النيسابورى في الغرائب. وفسره ابن القيم في التبيان، بالإقبال أو بالإدبار.

ويبعده المفهوم من معنى السرى، يمتد من أول الليل إلى آخره، على وجه الاستغراق الذي يستوعب مداه.

وتأوله الشيخ محمد عبده بالظلمة! قال: "أقسم تعالى بالليل مراداً منه الظلمة، وكثيراً كا يطلق اسم الليل وتراد ظلمته".

ويمنعه أن الليل في آيات القسم به، لم يأت قط على إطلاقه، بل قيد هنا بـ: إذا يسرى، كما قيد في غير سورة الفجر، بـ: أذا سجى، وإذا يغشى، وإذا عسعس، وإذا أدبر..... وغير متصور أن يكون المراد منها جميعاً الظلمة، دون نظر إلى القيد في كل آية.

ثم توسع الشيخ في تأول وجه الإعظام والتفخيم لهذه الظلمة المقسم بها فقال: "ولما كان ظلام الليل واختلاط قطعة عظيمة منه بضوء القمر في الليلة الواحدة،

ص: 133

مقصوداً إلى تفخيم أمره بالقسم، خص الليالي التي يظهر فيها ضوء القمر مع تغلب الظلام فيها بعشر فقط، وإلا فقد يكون ظلام في أكثر من عشر من الشهر لكن زمنه قليل لا يليق ذكره بمقام التفخيم! وفي الفجر تفريجه كربه الليل من جهة، وتنبيه العامل إلى استقبال عمله من جهة أخرى، وفي ليالي القمر واستمالتها الأنفس للسمر وتيسير السير في السفر، ثم في قصر بقاء القمر وانتظار هجوم الظلمة وابتغاء الغنيمة (؟) مع الاستعداد للسكون عندما يرخى الليل ستاره، في كل ذلك رغبات للنفس ورهبات، وللهواجس غدوات وروحات، وللأماني فيه دبيب ووثبات، فهو جدير بأن يقسم به".

ولا يخفي ما في هذا التأويل من بعد التكلف وعسر الملحظ، وإلا فالعشر الوسطى من الشهر القمري أسنى وأبهى وأقوى استمالة للسمر! وإذا كانت قلة الظلام مما لا يليق ذكره بمقام التفخيم، فكيف يليق معهذكر الفجر تفخيماً له بما يخفف من كربة الظلام وما ينسخ من آية الليل! وفي أقسام القرآن قسم بالصبح إذا تنفس، وبالضحى وبالنهار إذا تجلى، كما فيها قسم بالليل إذا سجى وإذا عسعس، وإذا وقب، وإذا يغشى، وإذا أدبر!؟

ونعود فنقول إن مثل هذا القسم بالواو في القرآن الكريم ظاهرة أسلوبية عدل فيها البيان القرآني بالقسم عن أصل استعماله الأول للتعظيم، لملحظ بلاغي هو اللفت بالواو إلى واقع حسي مدرك لا مجال للمهاراة فيه، توطئة للإقناع بما هو موضع جدل أو ارتياب، من المعوويات والغيبيات غير المدركة.

وقد سبق بيان لهذه الظاهرة فيما تناولنا من سور الضحى والعاديات والنازعات في الجزء الأول، ثم في سورتى العصر والليل هنا. ونعرض ملحظنا فيها على آيات القسم بالواو في مستهل سورة الفجر، فنراها جميعاً لافتة لفتاً قوياً إلى صور مدركة من التقابل في الأضواء، ما بين نور الفجر وسرى الليل، وفي العدد، أياً كان المعدود، من شفع ووتر.

توطئة بيانية لما يتلو من آيات محكمات فيها تقابل بين الإبتلاء بالقوة وبالغنى والنعمة

ص: 134

أو بالفقر والحرمان، وما يظن معهما من إكرام أو إهانة، ثم التقابل في المصير ما بين عذاب الطاغين المغرورين، ونعيم النفس المطمئنة.

دون أن نتجشم عناء التأويل بما يفخم كل مقسم به ويعظمه، أو نخلط بين التفخيم والتعظيم والتشريف، والحكمة الإلهية في كل ما خلق الخالق، لا فيما أقسم به بالواو فحسب.

وبمثل هذا الأسلوب يبلغ البيان القرآني غايته من الإقناع والإلزام بالحجة. وعلى نحو ما يجلو معاني من الهدى والضلال، والإيمان والكفر، والحق والباطل، بحسيات مدركة من النور والظلمة، يجلو في سورة الفجر، بالضوء والظلمة في درجات متفاوتة، مغاني من الحق والباطل: فالفجر إذ ينبثق نوره فينسخ ظلمة الليل، والهلال إذ يبزغ وليداً إثر المحاق ويمضى رويداً في دحر الظلام، والليل إذ يسرى ما بين بدء الظلمة ومطلع الفجر، كل هذا بيان لافت إلى صراع الحق والباطل، وإلى انبثاق نور الهدى بعد أن غشيت ظلمة ليل طال، ضلت فيه أمم وطغى وأفسدوا في الأرض، مثلما نشهد في الواقع المحسوس مسرى اللسل ما بين إدبار النهار ومطلع الفجر. والقسم بالشفع والوتر في هذه الصورة البيانية، لافت إلى أن التقابل في آيات الفجر وليال عشر والليل إذا يسر، هو موضع التنبه والالتفات. ومن ثم لا نحمل هذه الآيات "ما لم تدل عليه بخبر ولا عقل" كما قال الإمام الطبري، ولا نخبط في متاهات التأويل التي "اضطرب فيها المفسرون"، كما قال الفخر الرازي، وأكثروا حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقع في الشفع والوتر وليال عشر:"وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه" بنص عبارة الزمخشري.

* * *

وشغل المفسرون بالبحس عن جواب القسم فاضطربوا فيه كمثل ما اضطربوا في الفجر وليال عشر والشفع والوتر.

فالزمخشري يذهب إلى أن الجواب محذوف تقديره: لتُعَذَّبنَّ، بدلالة قوله تعالى بعد آيات القسم:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} إلى قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .

ص: 135

ونرى السياق أولى بالعظة والإعتبار.

والفخر الرازي، يرى أن الجواب هو:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وما بينه وبين القسم معترض.

وابن القيم يفهم الجواب متضمناً، قال:"فلما تضمن القسم ما جاء بع إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم (؟) كان في ذلك ما دل على المقسم به".

وقال أوب حيان في البحر: "والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية وهو قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . وهو بنصه، ما في تفسير الشيخ محمد عبده.

وفي هذا الربط بين سورتى الفجر والغاشية وهو جر إليه أن سورة الغاشية تأتي قبل سورة الفجر مباشرة في ترتيب المصحف. ولكنها في ترتيب النزول متأخرة عنها، فالغاشية نزلت في أواخر العهد المكي، وترتيبها في النزول الثامنة والستون، فبينها وبن الفجر ثمان وخمسون سورة، على المشهور في ترتيب النزول.

ونفهم أن يكون ترتيب السور في المصحف لملحظ ذي شأن، لكنا لا نتصور ارتباط قسم بالفجر وليال عشر، بجواب عنه في سورة الغاشية، وكأن القسم ظل معلقاً بغير جواب، حتى نزلت به سورة الغاشية بعد ثمان وخمسين سورة!

ونطمئن إلى أن آيات القسم في سورة الفجر قد تم بها المقصود من اللفت إلى المقسم به، بما يغنى عن تأول جواب محذوف أو غر محذوف، وقد تمت آيات القسم بهذا السؤال الصادع:

{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} .

فلم يعد السياق في حاجة إلى تكملة أو جواب.

والحجْر: العقل.

ص: 136

ولعل أصل استعماله الحسي لغوياً في الحَجَر. أتخذ لصلابته حاجزاً فيما يراد منعه وحجزه، ومنه الحاجز: يمنع مسيل الماء إلى الوداي، والحجرة مكان يسور بالجدران ليحجز عن غير أهله، والمحجز: ما أحاط بالعين، والحمى لا يرعاه غير صاحبه.

والحِجْرُ: الثوب، بملحظ من إمكان ثنية لحفظ الأشياء وحملها.

وبمثل هذه الدلالة، يأتي الحجر في الحفظ المعنوي، فيقال: تربى في حجر فلان، اي في حفظه ورعايته، وسمى العقل حجراً بملحظ من حجزه صاحبه عما لا ينبغي ولا يليق. ومن الحجر على من لا حجر له يحجزه ويضبط أمره، لسفه أو جنون.

وفي القرآن الكريم:

جاءت المادة على أصل معناها اللغوي في الحجر بآيتى (البقرة 60، والأعراف 160) :

{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} خطاباً لموسى عليه السلام.

وفي الحجارة، عشر مرات، إما على أصل استعمالها اللغوي، وإما على وجه التشبيه والمجاز، في آيات:

{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة 24 والتحريم 9)

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ.....} (البقرة 74)

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا.....} (الإسراء 50)

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.....} (هود 82)

ومعها (الفيل 4، والأنفال 32، والحجر 74، والذاريات 23) .

وجاءت مرة في (الحجرات) بمعنى الغرف والبيوت، ومرة في الحجور بآية النساء 23:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ......}

وسميت ديار ثمود حجراً، لما كان الظن من مناعة مبانيها.

وجاء الحجر في المحتجز لأصحابه من أنعام ومرعى بآية الأنعام 138:

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ.....}

وبمعنى الحاجز المانع والحد الفاصل {حِجْرًا مَحْجُورًا} في آيتى (الأنفال 22، 53)

ص: 137

وكلها ملحوظ فيها الدلالة الأصلية للمادة، على الحجز والضبط والمنع.

وكذلك جاء حجز في آية الفجر بمعنى العقل، لا لمجرد رعاية الفاصلة بل اقتضاه معها ملحظ معنوي من السياق، في الحجز يحجز صاحبه عن السفه والضلال، ويمنع من الغي والطغيان، ويميز بين النور والظلام.

وبهذا فسره جمهور المفسرين. وأضاف ابن القيم في التبيان: "يحجز صاحبه عن الغفلة وإتباع الهوى ويحمله على إتباع الرسل".

أما وجه الاستفهام في الآية، فذهب الفخر الرازي إلى أن المراد منه التأكيد وقال الشيخ محمد عبده إنه "للتقرير وتفخيم أمر المقسم به".

والتأكيد والتقرير، طلاهما، ممت تكتفي به الصنعة البلاغية، ونؤثر أن نحمل الاستفهام على وجه الإلتزام بالمسئولية، حين يضع ذات الحجر في موقف المسئول عما ينبغي أن يكون له من رقابة عقله وضبط نهاه، حجر عما لا يليق بذي حجر من سفه وغرور وعتو وطغيان وضلال.

* * *

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .

وفي الايات لكل ي حجر عبرة....

وقد أكثر المفسرون في الكلام عن عاد إرم ذات العماد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، بما لم تتجه عناية القرآن إلى شيء مما ذكروه.

واختلفوا اختلافاً بعيداً.

ففي عاد إرم ذات العماد: قيل إن عاداً، هو ابن إرم بن عوص بن سام بن نوح، أو إن إرم هو جد عاد لا لأبوه، ثم صار عاد للقبيلة: قالقدامى منهم هم عاد الأولى، والمتأخرون هم عاد الأخيرة.

وفي رواية أخرى بالطبري: إن إرم ذات العماد اسم بلدة.

ص: 138

ثم لم يتفق اصحاب التأويل على بلدة إرم: قال الجمهور - فيما نقل أبو حيان بالبحر - إنما مدينة عظيمة كانت لهم باليمن. وقيل إنها الإسكندرية، أو دمشق، أو ديار ثمود في حضرموت بين الرمال المسماة بالأحقاف، كما حدد النيسابورى في (الغرائب) وقريب منه متا في تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده.

وقيل إن الإرم: العلم، يعني بعاد، اهل الأعلام ذات العمار - ذكره الزمخشري في الكشاف.

والأشبه بالصواب عند الإمام الطبري، أن تكون إرم ذات العماذ اسم قبيلة من عاد "ولذلك جاءت القراءة {عَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} بترك إضافة عاد إليها، ولوكانت اسم بلدة أو اسم جد لعاد، لجاءت القراءة بالإضافة".

وكان "ابن الزبير" يقرأ: "بعادِ إرمٍ" على الإضافة والكسر.

وقراءة الجمهور بتنوين عادٍ، فيها عند أبي حيان والرازي وجهان: إن جعلنا إرم اسم قبيلة، كان عطف بيان، وإن جعلناه اسم البلدة أو اإعلام، كان التقدير بعاد إرم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .

وفي {ذَاتِ الْعِمَادِ} قالوا إنها تعني أهل القوة والمنعة، وقيل إنها قد تعني أهل الأعمدة والخيام حلا وترحالاً. وقيل كذلك إنها القصور المشيدة والأبراج. وذكر مفسرون أنها مدينة بناها شداد لما سمع بذكر الجنة - نقله أبو حيان.

وتأولوا "التي لم يخلق مثلها في البلاد": إما بطول الأجسام، ثم أبعدوا فحددوا هذا الطول بين اثنى عشر ذراعاً في السماء، كما نقل الطبري، وأربعمائة ذراع كما في الكشاف وتفسير الرازي!

وإما بعظم مدينة بناها شداد بن عاد، وذكروا حكاية خلاصتها أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد، ملكا وقهرا زماناً ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فبدا له أن يبني مثلها، فبنى مدينة إرم في بعض صحارى عدن، وقد استغرق بناؤها ثلثمائة سنة من آخر عمر شداد - والحكاية

ص: 139

تقول إن عمره كان تسعمائة سنة! - فلم ير قط مثلها: كانت قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار. فلما تم بناؤها سار إليها "شداد" بأهل مملكته فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله فيهمة صيحة من السماء فهلكوا. وقيل إنه يكد يضع إحدى قدميه في إرم حتى فاضت روحه.

وكذلك تعددت أقوالهم في {ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} .

قيل معناه خرقوا الصخر ونحتوه بيوتاً، وقد كانت ثمود أول من نحت الجبال والصخور والرخام، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة فيما نقل الفخر الرازي. وقيل معناه قطعوا الوادي.

وقيل: إنهم شقوا الصخر واتخذوه وادياً يخزنون فيه الماء لمنافعهم "ولا يفعل ذلك إلا أهل القوة والفهم من الأمم" كعبارة الشيخ محمد عبده.

{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} تأولوه على عدة وجوه:

فهو كناية عن كثرة جند فرعون، بكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا. أو هو ذو الملك والرجال.

أو هي أوتاد لفرعون كان يشدها ليعذب الناس بشدهم عليها حتى يموتوا وعن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وحعل على صدرها رحى وأستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} ألاية، ففرج الله عن بيتها في الجنة فرأته!

وقول ثالث: إن الأوتاد تعني ملاعب كانت تقام مشدودة بالأوتاد، يلعبون تحتها وفرعون مطل عليهم.

وأولاها بالصواب عند الإمام الطبير، قول من قال: عنى بها الأوتاد من خشب

ص: 140

أو حديد لأن ذلك هو المعروف من معاني الأوتاد، ووصف فرعون بذلك إما لأنه كان يعذب الناس بها، أو لأنه كان يلعب له تحتها.

والزمخشري يختار تأويلها إما بكثرة جنود فرعون ومضاربهم، أو التعذيب بالأوتاد كما فعل بماشطة بنته، وبآسية زوجته!

والرازي يرى "أن الكلام يحتمل كل هذه الوجوه".

وذهب الشيخ محمد عبده إلى أن "أظهر أقوالهم فيها ملاءمة للحقيقة، أن الأوتاد المباني العظيمة الثابتة".

ثم أضاف متاولاً: "وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد، فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض، بل أن شكل هياكلهم العظيمة شكل الأوتاد المقلوبة.... وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين"!

* * *

وفي منهجنا أن كل هذه التأويلات تحمل القرآن الكريم ما ليس من بيانه وطبيعته، وقد بدا منه العمد الواضح إلى طي هذه التفصيلات الجزئية، اكتفاء بما يلفت إلى موضع العبرة لذي حجر، في مصاير هؤلاء الطغاة.

وأكثر ما قالوه في الأطوال والأحجام والأسماء والأرقام ومواد البناء، من الإسرائيليات المقحمة على كتاب الإسلام نصاً وسياقاً. ولكي نتقي التورط فيها، نحتكم إليه في كل هذه الأقوال التي أكثروا منها واختلفوا فيها، فإذا أردنا مزيد بيان لآيات الفجر، فإنما نلتمسه من القرآن الكريم:

"عاد" من العرب البائدة، وقد وردت في القرآن أربعاً وعشرين مرة، ليس فيها إشارة إلى نسب عاد أو تصريح باسم أبيه وجده أو ولديه شديد وشداد، أو بيان لأطوال أجسام أو تحديد لأعمار. وإنما يأتي ذكر "عاد" دائماً، لفتاً إلى ما كان من تكذيبها لنبيها هود عليه السلام، وطغيانها في الأرض، وما سلط الله عليها من العذاب، وحق عليها من عقاب.

فعاد في القرآن هم {قَوْمِ هُودٍ}

ص: 141

كان منزلهم {بِالْأَحْقَافِ} بعث الله فيهم أخاهم هوداً رسولاً ونذيراً:

{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأحقاف 21 ومعها هود 50)

فكذبوه {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (هود 53)

وكذبزا المرسلين (الشعراء 123، ص 12، ق 13، القمر 18، الحج 42) .

وكفروا بالله، وجحدوا آياته، وعصوا واستكبروا في الأرض بغير الحق (هود 59، 60، ق 13)

فأرسل عليهم الريح العقيم (الذاريات) وأهلكوا بريح صرصر عاتية (الحاقة 6) : {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (الأحقاف 25)

فكانوا عبرة لمن اعتبر:

{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}

{أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} .

و"العماد" تنفرد بصيغتها، لا تتكرر، في القرآن الكريم.

وجاءت صيغة عمد، جمع عمود، ثلاث مرات: اثنتين في السموات خلقها الله ورفعها بغير عمد ترونها (الرعد 2، لقمان 10) والثالثة في وعيد كل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده، بالحطمة {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} .

والعمود لغة: ما به قوام الشيء، مادياً كعمود الظهر وعمود الخباء، ويجمع على أعمدة جمع قلة، وعلى عَمَد وعُمُد بالتحريك فيهما، وعماد وتختص بالأبنية الرفيعة إلا أن تجئ على وجه المجاز والكناية.

فبملحظ التقوية جاء عماد القوم لمن يعتمدون عليه، فهو مقصدهم وسندهم. والعمد بمعنى القصد القوي الواضح.

ص: 142

ولم يرد لفظ "إرم" في القرآن إلا في هذه الآية من سورة الفجر. وهو في القاموس واحد الآرام بمعنى الأعلام، وذكر المفسرون أن إرم اسم قبيلة عاد أو هي بلدتهم.

ونص ألاية يقبل تفسير إرم باسم القبيلة أو البلدة، دون تزيد بتفصيلات أمسك القرآن عن ذكرها.

كما يكتفي في عاد القبيلة بأنها قوم هود من العرب البائدة، ومن البلدى بأنها مسكنهم بالأحقاف، ولا وجه لقول بأنها دمشق أو الإسكندرية

كما لا وجه لتحديد زمنها التاريخي، أو أعمار أهلها وأطوالهم، بل نكتفي في زمنها، بما في القرآن الكريم من أنها جاءت بعد قوم نوح، بصريح آيات:(التوبة 70، إبراهيم 9، الحج 42، غافر 31، ص 12) .

وأقرب ما يفهم من ذات العماد أنها ذات القوة والمنازل العالية، على مألوف البيان العربي في رفيع العماد، دون إقحام لعدد المباني أو مواد بنائها أو اسم بانيها، إلى آخر هذه الجزئيات التي لم يتعلق القرآن بها، وليس شيء منها بموضع عبرة، ومن ثم نستغنى في فهم النص، بهذا اللفت البليغ الموجز إلى ما مكن الله من أسباب القوة، لعاد التي لم يخلق مثلها في البلاد.

ونؤثر أن يكون الضمير في {مِثْلِهَا} عائد على ذات العماد، إذ هي أقرب مذكور. ولا مانع من أن يكون عود الضمير على {عَادٍ} بمعنى القبيلة أو على إرم، كما ذهب بعض المفسرون. والوجه متقاربة مع اتصال السياق.

ثم لا ضرورة لتحديد وجه المماثلة بما قالوه من العظم أو البطش والأيد، بل الأولى أن يبقى على ظاهرة من الإطلاق.

* * *

وثمود من العرب البائدة كذلك.

وزمنهم التاريخي تالٍ لعاد قوم هود، كالمفهوم من سياق آيات (إبراهيم 9، الفرقان 38، العنكبوت 38، غافر 31، النجم 51، الحج 42، التوبة 70) .

ونكتفي بما ذكره القرآن عنها، باستقراء الآيات التي جاءت في ثمود وعددها ست وعشرون آية، كلها في سياق العبرة بعاقبة الكفر والطغيان.

ص: 143

وجوهر قصتهم فيما نتلو من آيات الكتاب المحكم أنهم قوم صالح عليه السلام، بعثة الله فيهم داعياً إلى عبادة الله وحده، ما لهم من إله غيره (الأعراف 73، هود 61، النمل 45) .

فكذبوه وعقروا الناقة التي نهاهم عن ذبحها (الشمس 14، هود 65، ص 13)

{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت 17)

{فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} (الحاقة 5)

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} (الذاريات 44، فصلت 13)

{صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (فصلت 17)

ونجى الله صالحاً والذين أمنوا معه برحمة منه {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} (هود 68)

والجوب في العربية: القطع. ومن الاستعمالات الحسية فيه: الجوب درع يقطع للمرأة. والجوبة الحفرة، وفجوة بين البيوت، أو بين أرضين، ومنه جاب الوادي بمعنى قطعه وعبره، وجواب آفاق.

ومن القطع جاء النفاذ والحسم، فاستعمل في الجواب عن السؤال. وقد ذهب "الراغب" إلى أنه جاء "من قطع الفجوة بين فم المجيب إلى أذن السامع".

والأولى عندنا أن يكون قطعاً مجازياً، لما فيه من مظنة النفاذ إلى السامع وحسم ما يسأل عنه.

وفي القرآن الكريم، جاءت المادة في الجواب أربع عشرة مرة، وبمعنى الاستجابة ثمانيا وعشرين مرة، ولم تأت في الجوب إلا في آية الفجر.

ولا نرى حملها على غير معناها من القطع والنفاذ، دلالة على ما أتيح لثمود من قوة ومنعه إذ قطعوا الصخر بالوادى، وقد كانت لهم فيه ديارهم ومساكنهم المشيدة المأهولة قبل أن تأخذهم الصيحة {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} .

ص: 144

ونستأنس لفهمه ياستقراء "الوادي" في القرآن، وقد كان لعاد أوديتها بالأحقاف:37.

ولذرية إبراهيم مسكنهم بواد غير زرع: (إبراهيم 37)

وسميت مساكن النما وادياً في قصة سليمان: (النمل 18)

ويتخصص الوادي بالتعريف والوصف في "الوادي المقدس" حيث تجلى الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: (طه 12، القصص 30، النازعات 16)

* * *

وكذلك الأمر في {فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} .

نقتصر فيه على ما يلفت إليه سياق الآية مما كان لفرعون من قوة وجبروت.

مستأنسين في فهمها بآية (ص 12) :

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ}

ولم تأت الأوتاد، معرفة، إلا في هاتين الآيتين، وصفاً لفرعون ذي الأوتاد.

وجاءت نكرة في آية النبأ بياناً لرسوخ الجبال وصلابتها:

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} .

وفرعون - وإن كان لقباً لملوك مصر القديمة - يأتي في القرآن غالباً، خاصاً بفرعون موسى. ولا يتعلق البيان القرآني بتفصيلات جزئية من اسم فرعون أو زمنه أو تاريخه، وإنما تتجه العناية إلى ما هو مناط عبرة من جوهر القصة: لقد تهيأ لفرعون من ملك مصر وخيرات أرضها الطيبة ما لم يتح مثله لملك غيره، وآتاه الله ملأه من فضله، زينة وأموالاً (يونس 88) . فعلاً وتجبر واسرف (القصص 4، يونس 83) وأخذته العزة بالإثم فطغى (طه 24، 43، والنازعات 17) وتطاول فأمر "هامان" أن يبني له صرحاً لعله يبلغ أسباب السماء (غافر 36، والقصص 38) .

وحين دعاه موسى إلى عبادة رب العالمين، قال {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ ونادى في قومه:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ؟ (الزخرف 51)

ص: 145

{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص 38)

{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} (المزمل 16)

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف 130)

{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف 137)

وكل هذه الآيات في فرعون موسى.

وشاع مع ذلك، إطلاق فرعون على كل طاغية، حملاً على فرعون موسى.

وسواء أخذنا "فرعون" في آية الفجر على أنه فرعون موسى، أو طاغية مثله من الفراعين، ففيما قص علينا القرآن من نبأ عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، ما يغنى عن مزيد تفصيل لم يشأ البيان القرآني أن يعرض له.

ولا وجه لافتراض أن يكون المصطفى عليه الصلاة والسلام أو قومه الأميون الذين نزل فيهم القرآن عصر المبعث، قد علموا من تفصيل أنباء الأولين أكثر مما تزل به القرآن، ونخن نتلو ما عقب به على أنباء قوم نوح وعاد وثمود ومدين، في سورة هود:

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 49.

فمن أين جاءت كل هاتيك التفصيلات والحكايات التي حشيت بها كتب التفسير، ولا علم للرسول عليه الصلاة والسلام وقومه إلا بما نزل به القرآن، إلا أن تكون من الإسرائيليات التي أقحمها نفر من يهود، على فهمنا لكتاب ديننا، وأضافوا إلى ما جاء في التوارة منها، مرويات أسطورية لا يقبلها عقل ولا يعرفها تاريخ؟

* * *

ويتجه البيان القرآني، بما لفت إليه مما فعل ربك بعاد وثمود وفرعوم، إلى مناط العبرة وجوهر الموقف، اتجاهاً صريحاً مباشراً:

{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .

وفي الذي تقدم من تدبر لآياتهم في الفجر، مع الاستئناس بما جاء فيهم في القرآن الكريم، ما يغني عن طول وقوف عندما تأوله المفسرون في تحديد أنواع فساد أولئك

ص: 146

الطغاة ومعاصيهم وما نزل بهم من نقم.

والطغيان تجاوز الحد، وأصل استعماله في الماء يطغى فيغرق، ومنه في القرآن الكريم في الطوفان (آية الحاقة 11:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} .

ثم شاع استعماله في كل ما جاوز الحد من جبروت العتاة، وقد سبق تدبره في تفسير آية النازعات خطاباً لموسى عليه السلام:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} .

وللغويين والمفسرين في إعراب جملة {الَّذِينَ طَغَوْا} ثلاثة أوجه:

النصب على الاختصاص بالذم.

والرفع على تقدير مبتدأ محذوف: هم الذين طغوا.

والجر على الوصف.

والأوجه الثلاثة تقبلها قواعد الصنعة الإعرابية، لكن البيان الأعلى لا يراها متماثلة، بل لابد أن يكون وجه واحد منها أقوى في المعنى.

ونرى ربطه بالصلة على وجه الإتباع لما قبله، أولى من الاختصاص، ومن الخبرية التي تحتاج إلى تقدير مبتدأ محذوف يفصل الجملة عما قبلها بابتداء مستأنف.

وأصل الصب في اللغة إراقة الماء ونحوه مع تدفق: تصبب الماء وأنصب في الوادي أنحدر. ويطلق على ما يبقى منه: صبة وصبابة، ومن ثم تستعمل في بقية الشيء المادي والمعنوي.

وجاء الصب في القرآن، فعلاً ومصدراً، خمس مرات: اثنتان منها على الأصل اللغوي في الماء بآية (عبس){أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} ومرتان في صب الحميم وعذابه بالجحيم في آيتى (الدخان 48، والحج 19) وصب سوط عذاب في آية الفجر.

والسوط أداة الضرب المعروفة، وإذ غلب استعماله في التعذيب، صار الضرب بالسوط مثلاً لأليم العذاب.

أخذه بعض اللغويين من: ساط يسوط بمعنى خلط. قال الليث:

"ساطه إذا خلطه بالسوط، ومنه قول الشاعر:

أحارث إنا لو تساط دماؤنا تزايلن حتى ما يمس دم دما".

ص: 147

ولا حاجة إليه، مع ما شاع من استعمال السوط في الأداة المعروفة للضرب والجلد والتعذيب.

والأصل في السوط أن يضرب به، لكن البيان القرآني عدل عن الأصل إلى صب {سَوْطَ عَذَابٍ} فوصل بالتعذيب والعقاب إلى أقصى المدى، بما يعني الصب من تدفق وغمر، مع إسناده إلى "ربك" الخالق الجبار. ثم كانت إضافة سوط إلى عذاب مع التنكير، إطلاقاً له في الترويع، يذهب فيه التصور كل مذهب. وهذا أولى من تأويل "ابن القيم" في تنكير سوط عذاب:"ونكره إما للتعظيم، وإما لأن يسيراً من عذاب استأصلهم ولم يكن معه بقاء ولا ثبات".

* * *

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .

الرصد المراقبة، والمرصد والمرصاد الطريق أو المكان يرصد منه. وقد يغلب استعمال الأول قياسياً مفتوح الميم والصاد، في المصدر الميمي واسم المكان، ويكثر استعمال المرصاد في الترصد والمراقبة الشديدة.

وفي القرآن الكريم، جاءت المادة ست مرات كلها في المراقبة الشديدة التي لا تفلت شيئاً مما يرصد بالسمع أو بالبصر، منها آيتا الجن:

{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 9.

{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} 27.

وىيتا التوبة في رصد العدو وإرصاده:

{وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5.

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 107.

والمرصاد بآيتى النبأ والفجر، في سياق النذير بالعذاب للطغاة:

{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا} .

ص: 148

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .

نستأنس بهما معاً في لمح الملحظ القرآني في استعمال هذه الرقابة على الطغاة بالمرصاد، دون أن نخوض في الخلاف: هل الآية في العصاة والكافرين أو في عامة الناس، المؤمنين والكافرين؟. إذ المقام أولى بالطاغين.

كما لا مجال عندنا لمثل ما تأولوه في هذه الآية، من قناطر ثلاث على جهنم:

"قنطرة عليها الأمانة إذا مروا بها تقول: يارب هذا أمين،، وهذا خائن. وقنطرة عليها الرحم تقول: يارب هذا واصل وهذا قاطع. وقنطرة عليها الرب".

فالآية لن تتعلق بذكر قناطر، ثلاث أو أقل أو أكثر، والنص صريح على أن "ربك" هو الذي بالمرصاد للذين طغوا في البلاد، لا تخفي عليه سبحانه منهم خافية، ولا يفلت شيء من رقابته تعالى وعلمه.

* * *

وكما ارتبط هذا البيان لمصير الطغاة بالآية قبله {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} يرتبط الآيات بعده، على وجه العظة والإعتبار، في الإنسان المبتلى بالنعمة أو بالحرمان:

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} .

والابتلاء الإمتحان، يكون بالنعمة والخير كما يكون بالحرمان والشر:

{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء 35)

والإكرام العطاء والتشريف للمكرم، وهو من المكرم جود وفضل.

والإهانة الإذلال.

والقدر في اللغة المقدار لا يتجاوز حقه. يقال قدرت الثوب إذا جاء على مقداره

ص: 149

لا يزيد. والقدر والتقدير قياس الشيء على قدره، مادياً ومعنوياً. ومنه في القرآن الكريم آيات:

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام 91 والزمر 87 والحج 74)

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} (سبأ 11)

ومنه جاء القدر في القضاء والحكم، والقدرة في الطاقة المكافئة لاحتمال العبء، والتقدير إحكام وزن الأمور وضبط مقاييسها.

و"القدير، والقادر" من أسماء الله الحسنى، وهو تعالى:{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} .

ومن ملحظ القدرة واإحكام جاء القدر بمعنى المكانة الجليلة السامية. ومنه "ليلة القدر".

وبملحظ من عدم التجاوز في التقدير، جاء القدر مقابل البسط والتوسع، ومنه في القرآن الكريم:

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} .

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}

(في آيات: سبأ 36، 39، الرعد 26، الإسراء 30، الوم 37، الزمر 52، الشورة 12) .

والقدر فيها مقابل للبسط.

وجاء مقابلاً للسعة في النفقة بآية الطلاق 7:

{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}

وبهذا المعنى نفهم آية الفجر:

{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}

بمعنى أعطاه بقدر على غير بسط وسعة.

والإنسان في الآية، لعموم الإنسان على الإطلاق، وإن خصه بعض المفسرين

ص: 150

بنفر قيل إن الآية نزلت فيهم: عتبة بن أبي ربيعة وأبو حذيفة بن المغيرة في رواية عن "ابن عباس" أو أبي بن خلف فيما روع عن "الكلبي ومقاتل".

وقد جهد المفسرون في تأويل وجه الإنكار في قول المنعم عليه: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} .

وفيه إقرار بالنعمة، وقول من قدر الله عليه رزقه:{رَبِّي أَهَانَنِ} وفيه إقرار بأن الله هو الذي يبسط الرزق ويقدر.

تأوله بعضهم بأن الإكرام والإهانة لا يكونان في الدنيا، وإنما العبرة بما ينال الإنسان في الآخرة.

وقريب منه القول بأن الإكرام إنما يكون بالطاعة، والإهانة تكون بالعصيان. وهذا التأويل هو ما اختاره الإمام الطبري، ومثله في (البحر المحيط) .

وقيل إن الإنسان لا يدري حقيقة النعم والنقم، فقد يكون ما يبدو نعمة وبالاً على صاحبه، ما يبدو نقمة خيراً له، إذ يجول الإنغماس في النعم دون العكوف على الطاعات، كما قد يؤدي الحرمان إلى الزهد والتعبد.

أو أن النعمة تجعل فراق الدنيا صعباً قاسياً، والحرمان يجعل الحياة هينة وفراقها بالموت غير صعب.

أو ربما كانت كثرة النعم سبباً للتعرض للقتل والنهب والوقوع في أنواع العذاب، وكلن الحرمان سبباً للسلامة والأمن وراحة البال.

وقيل بل أنكر سبحانه أن يكون حمد الإنسان على نعمه تعالى دون فقره، وشكواه الفاقة. وكان ينبغي أن يحمد خالقه على الأمرين جميعاً.

ونحلص من هذه التأويلات إلى تدبر البيان القرآني. فنرى السياق صريحاً في أن الأمر في الإكرام والنعمة وفي التضييق في الرزق، إنما هو إبتلاء يمتحن به الإنسان ليعرف مدى صبره على فتنة النعم وبلاء الحرمان، ولتنكشف حقيقته في أداء حق النهمة والصبر على الضيق.

ووجه الزجر والإنكار، أن يتوهم المنعم أن الله. أكرمه ونعمه إلا لأنه أهل

ص: 151

لذاك، وأن يظن المبتلى بالتضييق أن هذا لهوان أمره على ربه تعالى.

كلا، ليس الأمر في الحالين على ما تصوره هذا الإنسان، فالله سبحانه وتعالى إنما يبلوه بالشر والخير فتنة.

وذلك ما انتهى إليه ابن القيم بقوله: "وأخبر تعالى أن توسعته على من وسع عليه وإن كان إكرامأ له في الدنيا فليس ذلك إكراماً على الحقيقة ولا يدل على أنه كريم عنده من أهل محبته، وأن تقتيره على من قتر عليه لا يدل على إهانته له وسقوط منزلته عنده، بل يوسع ويقتر ابتلاءً وامتحاناً. فيبتلى بالنعم كما يبتلى بالمصائب".

وبعد سورة الفجر، نزلت آيات محكمات في مثل هذل الإبتلاء، وأكثر ما يكون بالنعم والمال يمتحن الإنسان فيكشف عن خيريته وإيثاره أو غروره وأثرته، وبالفقر والحرمان يبلو تعففه وصبره أو ذلته وقنوطه. وبالجهاد يكشف عن ثباته وصدق إيمانه أضعفه وتخاذله، كآيتى القتال (محمد) :

{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} - 4.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 31.

ومن الإبتلاء جاء البلاء في المصائب ومواقف الشدة امتحاناً لطاقة الإنسان ومعدنه، كالذي في آيات:(الأعراف 141، إبراهيم 6، البقرة 49) .

والإبتلاء في سورة الفجر، إنما هو بالنعمة من حيث هي ذريعة ترف وفساد في الأرض، وبالإكرام من حيث هو منظة غرور وأثره واستكبار وتعال على الناس وعدوان على حقوقهم بدعوى الأهلية للتشريف والإكرام من الله. وكذلك الإبتلاء بالحرمان والضيق في الرزق، من حيث هما مظنه الشغف بالدنيا واشتهاء ما لم يتح للمحروم من ملاذها، والإحساس بهوانه على ربه الذي قسم الرزق، يبسطه سبحانه على من يشاء ويقدر....

* * *

{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)

ص: 152

وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} .

التراث ما يقتنى بالميراث.

وأصل اللم في اللغة، جمع الشتيت والمشعت. واللمة الجماعة تأتي من جهات شتى. وألم بهم جاء من غير وجه متوقع، ومنه استعمل في المصائب الملمات. واللمم خبال يلم بالعقل، والملموم المجنون.

واستعمل اللمم في صغار الذنوب، مما لا يظن أنها تدخل في الحساب.

وكونهم يأكلون التراث أكلاً لماً، فيه ملحظ من مادية الأكل ومذاق طعمه، فيمن يتهالكون على انتهاب التراث وجمعه دون نظر إلى وجهه ومصدره. والعرب تقول لملمت ما على الخوان، إذا أكلته كله فأتيت عليه.

وقد تأوله المفسرون بأنه: "الاعتداء على الميراث. يأكل الإنسان فيه نصيبه ونصيب غيره، وكانوا لا يورثون النساء والصغار، فيأكلون نصيبهم يقولون: لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة".

وقيل: كانوا يأكلون ما جمعه الميت من أموال الظلمة والبطالين، وهو عالم بذلك.

وأخذه "الراغب" من: لممت الشيء جمعته ولممت شعثه.

وأولى منه ما اختره "الإمام الطبري" وهو أكل الميراث لا يسأل عن وجهه ولا يدري أحلال هو أم حرام، إرضاء لشهوة حب المال.

وبهذا البيان المحكم، ترتبط الآيات التي لفتت ذا حجر إلى مصير الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، بفتنة المال وشر الفردية التي لا يعنيها إلا التكالب على حطام الدنيا في أثرة خاسرة تهين اليتيم ولا تخض على التكافل الإجتماعي، وأكل التراث أكلاً لما لا يميز بين طيب منه وخبيث، بين حلال وحرام، وحب المال حباً جماً يعطل الضمير ويعشى البصيرة ويحجر القلب.

ص: 153

وإن في ذلك لعبرة لكل ذي حجر.

* * *

{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} .

الدك لغة الهدم، وتسوية ما ارتفع من الأرض كالجبال والمباني، بما انخفض كالخور والقيعان والوديان. والذكاء الناقة لا سنام لها. وك البئر طمها ودفنها.

وباستثناء آية الأعراف 143 التي جاء فيها للجبل حين تجلى الله سبحانه:

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} .

يأتي الذك يوم القيامة، من أحداث الساعة وأهوال البعث والحشر:

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة 14، ومعها الكهف 98)

وكذلك الدك في آية الفجر، للأرض دكا دكا، يوم القيامة.

وقد نقل الطبير من الأقوال في تفسيرها: دكت، رجت وزلزلت وحركت تحريكاً بعد تحريك.

وقال الزمخشري: دكا بعد دك، كرر عليها الدك حتى عادت هباء منثوراً.

وكأنهم حملوا تكرار الدك، على المرة بعد المرة. والأقرب أن يكون من التأكيد. وأحداث قيام الساعة لا تقتصر في القرآن الكريم على دك الأرض، فلعل إيثاره بالذكر هنا - والله أعلم - أن الأرض هي مكان ما يحشده المتكالبون على الجدنيا من زخرف ومتاع، ومن يشيدونه عليها من المباني ذات العماد والأوتاد.

وبناء الفعل للمجهول، يتسق مع الظاهرة الأسلوبية التي يطرد فيها صرف النظر عن الفاعل، في أحداث الساعة.

* * *

ص: 154

والصف مصدر يصف، وواحد الصفوف.

ومن استعمالاته الحسية في اللغة: الصفيف ما صف في الشمس أو على النار لينضج. وتصافوا في القتال انتظموا صفوفاً. وصف الطائر جناحيه بسطهما، والمصفوف ما نسق وصف.

ومنه في القرآن الكريم:

صافات: للطير تبسط أجنحتها بآيات: (الصافات 1، الملك 19، النور 41)

الصافون: جمع صاف. بآية (الصافات 165)

صواف: في الشعائر من البدن. بآية (الحج 36)

مصفوفة: وصفاً لسرر الجنة ونمارقها: (الطور 20، الغاشية 15)

وجاءت صيغة "صف" سبع مرات، كلها منصوبة على الحال، فيما نرجح. منها آيتا _طه والصف) في الحشد والتجمع:

{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} . 64

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 4.

وآية الكهف 48 في الكافرين، يوم القيامة:

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} .

وآيتا النبأ والفجر:

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} 38.

{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} .

بمعنى الجمع المنسق.

وقد وقف المفسرون هنا عند {وَجَاءَ رَبُّكَ} وكأنهم كانوا في حاجة إلى التصريح بأنه "ليس مجئ نقله، والحركة عليه محال لأنها تكون من جسم والجسم يستحيل أن يكون أزلياً".

ومن ثم تألوه على أوجه:

ص: 155

أنه على حذف مضاف أقيم المضاف إليه مقامه، وتقديره: جاءت أمر ربك، أو جاء قهر ربك.

وعند الزمخشري "أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وسلطانه، بحال الملك إذا حضر بنفسه وظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر إلا بحضور عساكره ووزرائه وخواصه".

وهو تأويل ينبو عنه الحس، إذ لا وجه لتمثيل مهابة الله تعالى والملك، بحال ملوك الدنيا "فلا تظهر هيبتهم إلا بحضور عساكرهم ووزرائهم"! كما لا مجال لتمثيل ذلك الموقف المهيب في الآخرة، بمواكب الملوك في الدنيا.

وبعدي كذلك، قول من تأولوا "ربك" في الآية: "ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة، هو مرب للنبي صلى الله عليه وسلم، المراد من قوله تعالى {وَجَاءَ رَبُّكَ} .

وتأباه الآية نصاً وسياقاً، كما يجفوه حس البيان العربي لا يرى في مجئ الله إلا تجلياً مهيباً يوم يقوم الناس لرب العالمين.

* * *

{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} .

قال الأصوليون فيها: معلوم أن جهنم لا تنفك عن مكانها، فالمراد: وبرزت.

ثم ما أكثر ما جاء به المفسرون بعد ذلك من عجيب التأويلات والمرويات عن غيب لم يشر إليه القرآن من قريب أو بعيد! تأوله جماعه، قالوا:"جيء بجهنم مزمومة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع".

ومثله غرابة وبعداً، ما نقله الإمام الطبري من قول الضحاك بن مزاحم:

"إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء فنزل من فيها من الملائكة وأحاطوا بالأرض ومن عليها وصفوا صفاً. ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض ندوا فلا يأتون قطراً من أقطارها إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. فذلك قول الله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمٍ

ص: 156

التَّنَادِ} ، {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} .

وعن "ابن عباس": "إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها فيجئ الله والأمم جثى صفوفاً، وينادى مناد: "ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال فيقومون فيسرحون...."

وعن "ابن كعب القرظي" يرفعه إلى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توقفون موقفاً واحداً يوم القيامة مقدار سبعين عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم. قد حصر عليكم فتبكون حتى ينقطع الدمع ثم تدمعون دماً.... فتضجون ثم تقولون: من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ ويأتي أبوهم آدم فيأبى، ثم يأتون الأنبياء نبياً نبياً كلما جاءوا نبياً أبى، حتى يأتوني فإذا جاءوني خرجت حتى آتى الفحص قدام العرش فأخر ساجداً فلا أزال ساجداً حتى يبعث الله إلى ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني فأقول: يارب وعدتني الشفاعة، شفعني في خلقك فاقض بينهم. فأنصرف حتى أقف بين الناس فبينا نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً فهالنا، فنزل أهل السماء يمثلى من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت بنورهم وأخذوا مصافهم.....".

ويعفينا الدرس البياني للقرآن الكريم، من تعقب هذه المرويات والنظر في أسانيدها ورواتها عند أئمة النقاد وأصحاب الصحاح.

حسبنا أن نقول إن مجئ جهنم هنا، هو على وجه التشخيص والتجسيم والفاعلية، وهذه ظاهرة بيانية مطردة في أحداث اليوم الآخر، عرضنا لها بمزيد تفصيل في تفسير "سورة الزلزلة".

وكما عرضت جهنم {يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} في آية الكهف، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} في آية النازعات، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} في آية الشعراء، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} في آية النبأ.

جيء بجهنم هنا، تجسيماً للهول الأكبر بالتشخيص والإبراز.

* * *

ص: 157

{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} .

وجه القول هنا على التحسر كما حمله الزمخشري في (الكشاف) وإن استطرد فتأوله، على مذهب الإعتزال:"بأن فيه دليلاً على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم. وأنهم لم يكونوا محجوزين عن الطاعات مجبورين على المعاصي وإلا فما معنى التحسر؟ ".

وندع الخوض في مشكلة الجبر والاختيار، ونقبل توجيه القول في الآية على التحسر. وفي التحسر معنى الندم والإقرار بأن ما فات هيهات أن يعود.

ثم نخلص للملاحظ البيانية، فنقول:

أنى للبعد، وليت للتمني في البعيد والمستحيل، والإنسان يخصصه السياق بمن تصدق عليه الآيات التي سبقت من سورة الفجر.

يتمنى هذا الإنسان، الذي غرته الدنيا وغره بالله الغرور، يوم تقوم القيامة ويتحقق ما طالما استبعده أو نسيه، لو أن له كرة فيقدم لحياته من صالح الأعمال ما يتقى به هذا العذاب الأكبر.

واستغنى البيان القرآني عن تحديد "حياتي" فاختلف المفسرون بين أن يكون المراد بها حياتي الآخرة، أو وقت حياتي الأولى في الدنيا، أو في القرالذي كنت أكذب به؟.

والأولى أن تحمل على الحياة الأخرى الباقية، فما كانت الدنيا سوى رحلة عابرة لحياة فانية، لا يبقى منها سوى ما يتزود به الإنسان لأخراه، حين لا يجدى تحسر على ما ضاع، أو تمن لاستدراك ما فات، وقد قضى الأمر وفات الأوان.

* * *

{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}

قراءة الجمهور بكسر الذال والثاء في الفعلين، على البناء للمعلوم، وهي التي

ص: 158

أجمع عليها قراء الأمصار الأئمة، عدا "الكسائي" فإنه قرأهما بالفتح، على البناء للمجهول، اعتلالا منه بخبر روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرأة كذلك. وقال "الطبري" فيه: إنه واهي الإسناد.

وإسناد فعل التعذيب والإيثاق إلى الله تعالى، يبلغ به الترويع منتهاه، في موقف الحساب والجزاء والعقاب، بعد أن قامت القيامة ووقعت الواقعة.

وقد جاء التعذيب في القرآن الكريم إحدى وأربعين مرة، كلها مسندة إلى الله سبحانة باستثناء آيات:

في وعيد سليمان للهدهد:

{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (النمل 21)

وفي ذي القرنين:

{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} (الكهف 86، 87)

وفي قراءة آية الفجر بالفتح، على البناء للمجهول، قيل احتجاجاً لها:"كيف يجوز الكسر ولا معذب يومئذ إلا الله؟ " وهو قول فيه أثر الصنعة البلاغية التي تبنى للمجهول للعلم بالفاعل، ويفوتها استقراء آيات الكتاب المحكم الذي لم يأت فيه فعل العذاب إلا مبنياً للمعلوم:"عذب، عذبنا، نعذب، يعذب" مع الإسناد إلى الله سبحانه، سواء أكان العذاب في الدنيا أم في الآخرة، في المرات التي قاربت أربعين موضعاً.

ويأتي وصف عذاب الآخرة في القرآن الكريم، بأنه أشد العذاب، والعذاب الأكبر، وهو عذاب مهين، أليم، عظيم، مقيم، نكر، عذاب النار وعذاب الحريق.

وقيل إن الضمير في "عذابه" بآية الفجر، عائد على "أبي بن خلف خلف، نزلت فيه الآية".

ص: 159

واللفظ، في سياق آيات الفجر، يعم كل إنسان نكص عن تكاليف إنسانيته وتخلى عن أداء حق الله والجماعة، فهو ممن لا يكرمون اليتيم ولا يحاضون على طعام المسكين، ويأكلون التراث أكلاً لما، ويحبون المال حباً جماً.

وتأوله بعض المفسرين بأنه لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر، فسحبوه إلى الماضي بلفظ الدنيا. وهو قول واهٍ تضعفه الظرفية للمستقبل في "يومئذ" كما لحظ أبو حيان في البحر المحيط.

وقيل إن المعنى: يومئذ لا يكل الله سبحانه عذابه ولا وثاقه إلى أحد سواه، لأن الأمر يومئذ لله وحده. وهو ما اختاره أبو حيان.

والنص يحتمله، وإن يكن في غنى عن تقييد وتأويل، فهو العذاب الذي لا يماثله عذاب!.

* * *

وبعد هذا الوعيد الرهيب، تأتي خاتمة سورة الفجر فتبقى على الإنسانية ثقتها في إمكان اتقاء ذلك المصير الخاسر والعذاب الأكبر، وتفسح لها مجال الأمل في خير مصير:

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} .

قرأ الجمهور بتاء التأنيث في النداء. وفي قراءة "زيد بن علي": "يأيها النفس" قال أبو حيان:

"ولا أعلم أحداً ذكر أنها تنذكر من المنادى المؤنث، إلا صاحب البديع. وهذه القراءة ذاهدة بذلك".

ثم التمس لها أبو حيان وجهاً من القياس، وهو أن "أيها، لا تثنى ولا تجمع في نداء المثنى والجمع، فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث".

وقد فات أبا حيان هذه المقايسة أن نداء المثنى والجمع بـ "أيها" يطرد في نداء المذكر. وأما مثنى المؤنث وجمعه، فإن تاء التأنيث قلما تنفك عن ندائها مثنى أو

ص: 160

جمعاً: أيتها. وإثبات التاء في ندائهما بـ: أيتها، مع بقائها على الإفراد، أقرب إلى أن يكون وجهاً للقياس في تأنيث "أيتها" لنداء المؤنثة، من حيث بقيت التاء في نداء مثناها وجمعها، وأداة النداء فيهما على الإفراد.

ولا خلاف عند المفسرين في أن اطمئنان النفس هو أمنها وسكينتها. لكنهم اختلفوا بعد ذلك في تأويل وجه الاطمئنان في الآية.

قيل: المطمئنة التي لا يتفزها خوف ولا حزن.

وقيل: إنها لا تصير أمارة بالسوء (الراغب) .

وقيل: المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك.

أو هي التي اطمأنت إلى لقاء ربها، وإلى وعده أهل الإيمان من الكرامة في الآخرة.

أو هي المصدقة المؤمنة بأن الله ربها، المسلمة لأمره فيما هو فاعل بها (الطبري) .

كما اختلفوا في تحديد وقت الطمأنينة: هل تحصل للمؤمن عند الموت، وقت خروج نفسه وسماعه البشرى برضى ربه عنه؟

أو تكون الطمأنينة عند البعث ويوم الجمع؟

أو عند دخول الجنة لا محالة؟

كذلك اختلفوا في توجيه الخطاب في صدر الآية بالنداء: "إما أن يكون كلاماً من الله إكراماً للمؤمن كما كلم الله موسى عليه السلام، وإما أن يكون الكلام على لسان ملك".

وهي وجوه محتملة والأولى الإطلاق ليعمها دون قيد أو تحديد. وحسبنا أن نتدبر موضع العبرة وأسرار البيان:

الفعل "اطمأن" في العربية من أفعال القلوب، بمعنى أنه لا يكون إلا من القلب وفيه، حين تنتفى هواجس الحيرة والشك والقلق والخوف.

ص: 161

وكذلك تأتي الطمأنينة في القرآن الكريم، سكينة معنوية، عن راحة البال وهدوء النفس والقلب.

وقد جاء الفعل منها في القرآن الكريم ثماني مرات، خمس منها بصريح الإسناد إلى القلوب في سياق البشرى بنصر المؤمنين:

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} (آل عمران 126)(الأنفال 10)

وفيما نجد القلوب من راحة الإيمان:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد 28)

ومعها آية البقرة 260، فيما التمس إبراهيم من راحة القلب واطمئنانه:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .

واقترنت الطمأنينة بالأمن في آية (النحل 112) وعدم الخوف من العدو في الحرب (النساء 103) .

وهي في آية الفجر صفة للنفس، إيذاناً صريحاً بأن العبرة في الطمأنينة بسكينة النفس. وهذا يعفينا من التعرض لما أثار الكلاميون والفلاسفة والمجسمة من جدل حول هذه النفس المطمئنة، مما فصله الفخر الرازي في تفسيره.

فهل تكون طمأنينة للجسم إذا أعوزتها راحة النفس واطمئنان القلب؟ إن الأمر هنا لا يخرج عن مألوف حس العربية الأصيل في كل الأفعال التي تعرف بأفعال القلوب، كالخشوع والثقة والإيمان واليقين.

وكما اقترنت طمأنينة القلب بالبشرى في آيتى آل عمران والأنفال، وبحسن المآب في آية الرعد، وبالأمن من الخوف في آيتى النحل والنساء، جاءت النفس المطمئنة هنا مقترنة بالرضى، في سياق البشرى بحسن المآب، بعد كل الذي سبق من آيات الاعتبار بمصير الطغاة {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ

ص: 162

عَذَابٍ} ومن نذير ووعيد لمن أغواهم حب المال وفتنتهم النعمة وأعمتهم الأثرة فضلوا ضلالاً بعيداً.

* * *

وفي قوله تعالى: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} .

نقل الإمام الطبير من تأويلهم لها: قيل: إنه أمر لنفس المؤمن في جسد صاحبها. وتأولوا {رَبِّكِ} بمعنى صاحبك!

وقال آخرون: إن الأمر بالرجوع يكون عند الموت، ثم {ادْخُلِي جَنَّتِي} يوم القيامة.

فباعدوا بين المعطوفين بالواو، وجعلوا أحدهما عند الموت، والآخر عند نهاية المصير في الجنة!

واختلفوا كذلك في تأويل {عِبَادِي} .

قيل إنه بمعنى عبادي الصالحين، أو فادخلي في طاعتي، أو في حزبي.

واختار الإمام الطبري أن تكون بمعنى: فادخلي في عبادي الصالحين.

والمقام مستغنٍ عن وصفهم بالصالحين، إذ لا تكون النفس المطمئنة الموعودة بدخول الجنة، إلا من عباد الله الصالحين، ونظيره في القرآن الكريم آيتا الزمر 17:

{فَبَشِّرْ عِبَادِ} والزخرف 68: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} .

ورضى النفس المؤمنة في رضى الله، فهي راضية مرضية.

* * *

وأقول هنا، ما قلت في سورتى التكاثر والبلد، ثم في سورة العصر: هذه سورة مبكرة من العهد المكي الذي اتجهت فيه عناية القرآن الكريم إلى تقرير أصول الدعوة، توجه إلى تحرير البشرية من أوضاع فاسدة، وتقرر مسئولية الإنسان عنها، فتصل في رياضته إلى المدى الذي يصير فيه أداء حق الجماعة ديناً وعقيدة، وتكون طمأنينة النفس هي الزاد الذي يتزود به الإنسان لمصيره.

ص: 163

وكل نفس ذائقة الموت.

فأي عزاء يمكن أن يجده الإنسان المؤمن إذ يواجه هذا القضاء المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب، إلا أن يتلو آيات الفجر:

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} .

صدق الله العظيم

ص: 164