الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع
[في الابتداع، هل يختصُّ بالأُمور العباديَّة؟ أو يدخل في العاديَّات]
أفعالُ الْمُكَلَّفِينَ ـ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ.
فأمَّا الأوَّل: فلا نظر فيه ها هنا.
وأمَّا الثَّانِي: ـ وَهُوَ الْعَادِيُّ ـ فَظَاهِرُ النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ الأوَّلين أنَّ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَلِفُ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرشد كلامُه إِلَى أنَّ الْعَادِيَّاتِ كالعباديَّات، فَكَمَا أنَّا مَأْمُورُونَ فِي الْعِبَادَاتِ بِأَنْ لَا نحدث فيها، فكذلك العاديات وَالْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَادِيٌّ، لأنَّ أَحْكَامَهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ، إِذْ هِيَ مُقَيَّدة بأُمور شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ للمكلَّف فِيهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ اشْتِرَاكُ الْقِسْمَيْنِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ، فَإِنْ جَاءَ الِابْتِدَاعُ فِي الأُمور الْعَادِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، صَحَّ دُخُولُهُ فِي العاديَّات كَالْعِبَادِيَّاتِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا حُكْمُ الباب، ويتبين ذلك [بمثال] وَضْعُ الْمُكُوسِ (1) فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَا يَخْلُو هَذَا الْوَضْعُ المُحرَّم أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ حَجْرِ التَّصَرُّفَاتِ وَقْتًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ ما، لنيل حطام الدنيا، على هيئة غَصْبِ الْغَاصِبِ، وَسَرِقَةِ السَّارِقِ، وَقَطْعِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاس كالدِّين الْمَوْضُوعِ وَالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ، عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مَضْرُوبَةٍ، بِحَيْثُ تُضَاهِي الْمَشْرُوعَ الدَّائِمَ الَّذِي يُحمل عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، وَيُؤْخَذُونَ بِهِ وَتُوَجَّهُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ، كَمَا فِي أَخْذِ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فأمَّا الثَّانِي: فَظَاهِرٌ أنَّه بِدْعَةٌ، إِذْ هُوَ تَشْرِيعُ زَائِدٌ، وَإِلْزَامٌ للمكلِّفين يُضَاهِي إِلْزَامَهُمُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَالدِّيَاتِ المضروبة، بَلْ صَارَ فِي حَقِّهِمْ كَالْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَاللَّوَازِمِ الْمَحْتُومَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِيرُ بِدْعَةً بِلَا شَكٍّ، لأنَّه شرعٌ مُستدرك، وسَنٌّ فِي التَّكْلِيفِ مَهْيَع (2)، فَتَصِيرُ الْمُكُوسُ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ لَهَا نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤْخَذُ بِهِ النَّاسُ إِلَى الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ: نَهْيٌ عَنِ المعصية، ونَهْيٌ عن البدعة.
فَالْحَاصِلُ أنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أنَّها تَقَعُ وَتَظْهَرُ وَتَنْتَشِرُ أُمور مُبْتَدَعَةٌ عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ التَّعَبُّدِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عَادِيَّةً، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ بِدْعَةٌ، وَالْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ.
وإنَّ الْعَادِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَادِيَّةٌ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَمِنْ حَيْثُ يُتَعبَّد بِهَا أو
(1) المُكُوس: جمع ((مَكْس)) ، وهو ما يسمى اليوم بالضرائب.
(2)
أي: واضحٌ وبيِّنٌ أو واسعٌ.