الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
[ردُّ شبهةِ استفتاء القلب]
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يدلُّ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ ويجري فِي النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دليلٌ صَرِيحٌ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا غير صريح؟ فقد خرَّج مسلمٌ عَنِ النَّوَّاس بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدرك وكرهت أن يطلع الناسُ عليه)) (1) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)) (2)، وَعَنْ وَابِصَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: ((يَا وَابِصَةُ! اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، البرُّ مَا اطمأنَّت إِلَيْهِ النَّفس واطمأنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وتردَّد فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أفتاك الناس وأفتوك)) (3) .
فهذه ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ ويهجُس بِالنَّفْسِ وَيَعْرِضُ بِالْخَاطِرِ، وأنَّه إِذَا اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ أَوِ ارْتَابَتْ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ، وَهُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ إنكارُه مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْخَاطِرُ، وَإِنْ لَمْ
(1) رواه مسلم (2553) وغيره.
(2)
[صحيح] رواه أحمد في المسند (3/153) ورواه النسائي والترمذي وأحمد من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. انظر ((الإرواء)) (12، 2074) .
(3)
[حسن] رواه أحمد (4/227، 228) ، والدارمي (2/245) ، وأبو يعلى (1586) وأورده النووي في الأربعين حديثاً وحسَّنه.
يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فإنَّه لَوْ كَانَ هُنَالِكَ دليلٌ شَرْعِيٌّ أَوْ كَانَ هَذَا التَّقْرِيرُ مقيَّداً بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يُحَل بِهِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ وَلَا عَلَى مَا يَقَعُ بالقلوب فدلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ لاستحسانِ الْعُقُولِ وميلِ النُّفُوسِ أَثَرًا فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وذلك أنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي أنَّ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مُعتبر فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ بعينِه، فإنَّ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ وسكون الْقَلْبُ مُجَرَّداً عَنِ الدَّلِيلِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فَهُوَ خِلَافُ مَا دلَّت عَلَيْهِ تلك الأخبار، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فَقَدْ صَارَ ثمَّ قسمٌ ثالث غير الكتاب والسنة.
وَإِنْ قِيلَ: إنَّها تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ، لَمْ تَخْرُجْ تِلْكَ عَنْ الْإِشْكَالِ الأوَّل، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فِعْلٌ لَا بُدَّ أَنْ يتعلَّق بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَقَدْ علَّق ذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ عَدَمِ طُمَأْنِينَتِهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٌ، فَهُوَ ذَلِكَ الأوَّل بِعَيْنِهِ، بَاقٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَالْجَوَابُ: أنَّ الْكَلَامَ الأوَّل صَحِيحٌ، وإنَّما النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِهِ.
فَاعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرَيْنِ: نَظَرٍ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَنَظَرٍ فِي مَنَاطِهِ؛ فأمَّا النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ إليهما عن إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَفْيُ رَيْبِ الْقَلْبِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا أو غير دليل.
وأمَّا النَّظَرُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فإنَّ الْمَنَاطَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ شرعيٍّ فَقَطْ، بَلْ يَثْبُتُ بدليلٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يُشترط فِيهِ بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ فضلاً عن درجة الاجتهاد.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ مَلَكَ لَحْمَ شاةٍ ذكيةٍ حلَّ لَهُ أكلهُ، لِأَنَّ حِلِّيَّتهَ ظاهرةٌ عنده إذا حصل له شرط الحِلِّيِّة لتحقق مَنَاطِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، أَوْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ ظاهرٌ مِنْ جِهَةِ فَقْدِهِ شَرْطَ الحِلِّيِّة، فَتَحَقَّقَ مناطُها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَنَاطَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، لَا بِحَسَبِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أنَّ اللَّحْمَ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَيَعْتَقِدُ وَاحِدٌ حِلِّيَّتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ له من مناطها بِحَسَبِهِ، وَيَعْتَقِدُ آخَرُ تَحْرِيمَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ مَنَاطِهِ بِحَسَبِهِ؛ فَيَأْكُلُ أَحَدُهُمَا حَلَالًا وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ الِاجْتِنَابُ، لأنَّه حَرَامٌ؟ وَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمِثَالُ وَكَانَ مُحَالًا، لِأَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ أَبَدًا فَإِذَا فَرَضْنَا لَحْمًا أَشْكَلَ عَلَى الْمَالِكِ تَحْقِيقُ مَنَاطِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ، كَاخْتِلَاطِ الْمَيِّتَةِ بِالذَّكِيَّةِ، وَاخْتِلَاطِ الزَّوْجَةِ بالأجنبية.
فها هنا قَدْ وَقَعَ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ وَالشُّبْهَةُ.
وَهَذَا الْمَنَاطُ مُحتاجٌ إِلَى دليلٍ شَرْعِيٍّ يُبَيِّنُ حُكْمَهُ، وَهِيَ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، كَقَوْلِهِ:((دَعْ مَا يريبك إلى مالا يَرِيبُكَ)) وَقَوْلُهُ: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ)) كأنَّه يَقُولُ: إِذَا اعْتَبَرْنَا بِاصْطِلَاحِنَا مَا تَحَقَّقْتَ مَنَاطَهُ فِي الحلِّيِّة أَوِ الْحُرْمَةِ؛ فَالْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ بيِّن، وَمَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ تَحْقِيقُهُ فَاتْرُكْهُ وَإِيَّاكَ والتلبُّس به، وهو معنى قوله:((اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ)) ، فإنَّ تَحْقِيقَكَ لمناطِ مَسْأَلَتِكَ أَخَصُّ بِكَ مِنْ تَحْقِيقِ غَيْرِكَ لَهُ إِذَا كَانَ مِثْلَكَ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ الْمَنَاطُ وَلَمْ يشكُل عَلَى غَيْرِكَ؛ لأنَّه لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا عَرَضَ لَكَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ((وَإِنْ أَفْتَوْكَ)) أَيْ: إنْ نَقَلُوا إِلَيْكَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ
فَاتْرُكْهُ وَانْظُرْ مَا يُفْتِيكَ بِهِ قَلْبُكَ؛ فإنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وتقوُّلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ الْحَقِّ، وإنَّما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.
فَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاقْتِنَاصِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ مَيْلِ الْقَلْبِ كَمَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ المُستشكِل، وَهُوَ تَحْقِيقٌ بَالِغٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنَعْمَتِهِ تتم الصالحات.