المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثامن[في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان] - مختصر كتاب الاعتصام - جـ ١

[علوي السقاف]

فهرس الكتاب

- ‌((بُدِئ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بُدِئ

- ‌البابُ الأوَّل[في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً]

- ‌فصل[البدعة التَّرْكيَّة]

- ‌البابُ الثاني[في ذمِّ البدع وسوء منقلب أصحابها]

- ‌فصل[الأدلة من النظر على ذمِّ البدع]

- ‌فصل[ما جاء فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ]

- ‌فصل[مَا فِي الْبِدَعِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَحْذُورَةِ، وَالْمَعَانِي المذمومة]

- ‌فصل[الفرق بين البدعة والمعصية]

- ‌الباب الثالث[في أنَّ ذم البدع عامٌّ لا يخص واحدة دون أُخرىوفيه جملة من شُبَهِ المبتدعة]

- ‌فصل[أقسام المنسوبين إلى البدعة]

- ‌فصل[لفظ ((أهل الأهواء)) و ((أهل البدع)) ]

- ‌فصل[اختلاف مراتب إثم المبتدع]

- ‌فصل[أنواع القيام على أهل البدع]

- ‌فصل[تقسيم البدع إلى حسن وقبيح، والرد عليه]

- ‌فصل[تقسيم البدع إلى خمسة أقسام والرد عليه]

- ‌الْبَابُ الرَّابِعُ[فِي مَأْخَذِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالِاسْتِدْلَالِ]

- ‌فصل[بيان طرق أهل الزَّيغ]

- ‌الْبَابُ الْخَامِسُ[فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ والفرق بينهما]

- ‌فصل[البدع الإضافية]

- ‌فصل[سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما]

- ‌فصل[من البدع الإضافية: كلُّ عملٍ اشتبه أمرُه]

- ‌فصل[من البدع الإضافية: إخراج العبادة عن حدِّها الشرعي]

- ‌فصل[البدع الإضافية: هل يُعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله]

- ‌الباب السادس[في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة]

- ‌فصل[كلُّ بدعة ضلالة]

- ‌فصل[هل في البدع صغائر وكبائر]

- ‌فصل[شروط كون البدع صغيرة]

- ‌الباب السابع[في الابتداع، هل يختصُّ بالأُمور العباديَّة؟ أو يدخل في العاديَّات]

- ‌فصل[في أقسام نشوء البدع]

- ‌الباب الثامن[في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان]

- ‌فصل[في الفرق بين البدع والاستحسان]

- ‌فصل[ردُّ حججِ المبتدعة في الاستحسان]

- ‌فصل[ردُّ شبهةِ استفتاء القلب]

- ‌الباب التاسع[في السبب الذي لأجله افترقت فِرَقُ المبتدعة عن جماعة المسلمين]

- ‌فصل[حديثُ الفِرَق وفيه مسائل]

- ‌الباب العاشر[فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْعَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فضلَّت عَنِ الهُدى بعد البيان]

- ‌فهرس الموضوعات التفصيلي

الفصل: ‌الباب الثامن[في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان]

‌الباب الثامن

[في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان]

هَذَا الْبَابُ يُضْطَرُّ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ بِدْعَةٌ وَمَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ فإنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عدُّوا أَكْثَرَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِدَعًا، وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَعَلُوهَا حُجَّةً فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ اخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ، وقومٌ جَعَلُوا الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَقَالُوا: إنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ، وعدُّوا مِنَ الْوَاجِبِ كَتْبَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ، وَمِنَ المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارىء وَاحِدٍ.

وَأَيْضًا فإنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى اعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ معيَّن، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى هَذَا شَاهِدٌ شَرْعِيٌّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَا كَوْنُهُ قِيَاسًا بِحَيْثُ إِذَا عُرض عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، فإنَّها رَاجِعَةٌ إِلَى أُمور فِي الدِّينِ مَصْلَحِيَّةٍ ـ فِي زَعْمِ وَاضِعِيهَا ـ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ حَقًّا، فَاعْتِبَارُ الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ حَقٌّ، لأنَّهما يَجْرِيَانِ مِنْ وادٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْبِدَعِ حَقًّا، لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.

وَأَيْضًا فإنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَيْسَ مُتَّفَقاً عَلَيْهِ، بل قد اختلف فيه أهل الأُصول.

ص: 99

وكذلك القول في الاستحسان فإنَّه رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالنَّافِي لَهُ لَا يَعُدُّ الِاسْتِحْسَانَ سَبَبًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَحْكَامِ البتَّة، فَصَارَ كَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِذَا قِيلَ بردِّها.

فلمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مزلَّةَ قدمٍ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ مِنْ جِهَتِهِ، كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَيَّنُ النَّظَرَ فِي مَنَاطِ الْغَلَطِ الْوَاقِعِ لِهَؤُلَاءِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ أنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْبِدَعِ فِي وِرْد وَلَا صَدَر، بِحَوْلِ اللهِ، واللهُ الْمُوَفِّقُ، فَنَقُولُ:

الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ: الَّذِي يُربط بِهِ الْحُكْمُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(أَحَدُهَا) : أَنْ يَشْهَدَ الشَّرْعُ بِقَبُولِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُنَاقَضَةً لِلشَّرِيعَةِ، كَشَرِيعَةِ القِصاص حفظاً للنفوس والأطراف وغيرها.

(الثاني) : مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بردِّه فَلَا سَبِيلَ إِلَى قبوله باتفاق المسلمين.

(الثَّالِثُ) : مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ، فَلَمْ تَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا بِإِلْغَائِهِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِد نصٌ عَلَى وِفق ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَتَعْلِيلِ مَنْعِ الْقَتْلِ لِلْمِيرَاثِ، فَالْمُعَامَلَةُ بِنَقِيضِ المقصود تَقْدِيرِ إنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى وِفقه، فإنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا عَهْدَ بِهَا فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ بِالْفَرْضِ وَلَا بِمُلائمها بِحَيْثُ يُوجَدُ لَهَا جِنْسٌ مُعْتَبَرٌ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا، وَلَا بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ، وَمِثْلُ هَذَا تَشْرِيعٌ مِنَ الْقَائِلِ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ.

ص: 100

وَالثَّانِي: أَنْ يُلَائِمَ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى جِنْسٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلُ، الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ (1) وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول اللهِ.

(المثال الأوَّل)

أنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع المصحف، وليس تَمَّ نصٌ عَلَى جَمْعِه وكَتْبِه أَيْضًا، بَلْ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَرُوي عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَ إليَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مقتلَ (أَهْلِ) الْيَمَامَةِ، وَإِذَا عِنْدَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، قَالَ أَبُو بَكْرٍ:(إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ) : إنَّ الْقَتْلَ قَدِ استحرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وإنِّي أَخْشَى أَنْ يستحرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وإنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، ((قَالَ)) : فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ لِي: هُوَ ـ واللهِِ ـ خَيْرٌ.

فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لَهُ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.

قَالَ ((زَيْدٌ)) : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّك رجلٌ شابٌ عاقلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبْعَ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، قَالَ ((زَيْدٌ)) : فواللهِ لَوْ كلفَّوني نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عليَّ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ واللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ أبو بكر حتى شرح اللهُ صدري للذي شرح له صدورهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرِّقَاعِ والعُسُبِ واللِّخَاف (2) ،وَمِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ (3) فَهَذَا عَمَلٌ لم ينقل فيه

(1) إذاً المصالح المرسلة: هي المعنى الملائم لتصرفات الشرع الذي لم يأتِ دليلٌ معيَّن باعتباره ولا بالغائه.

(2)

((العُسُب)) : جمع عَسِيب، وهو سعفُ النخل، و ((اللِّخَاف)) : حجارة بيضاء رقيقة

(3)

رواه البخاري (4679، 7191) .

ص: 101

خلاف عن أحد من الصحابة.

وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا صَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلَحَةً تُنَاسِبُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ قَطْعًا، فإنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَمْرُ بِحِفْظِهَا مَعْلُومٌ، وَإِلَى مَنْعِ الذَّرِيعَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهَا الذي هو القرآن.

وَإِذَا اسْتَقَامَ هَذَا الْأَصْلُ فَاحْمِلْ عَلَيْهِ كَتْبَ الْعِلْمِ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الِانْدِرَاسُ، زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ من الأمر بِكَتْبِ العلم.

(المثال الثاني)

إنَّ الخلفاء الرَّاشدين قَضُوا بتضمين الصناع (1) ، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ أنَّ النَّاسَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى الصنَّاع، وَهُمْ يَغِيبُونَ عَنِ الْأَمْتِعَةِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ التَّفْرِيطُ وَتَرْكُ الْحِفْظَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ تَضْمِينُهُمْ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِمْ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الِاسْتِصْنَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ شاقٌ عَلَى الْخَلْقِ، وإمَّا أَنْ يَعْمَلُوا وَلَا يُضَمَّنُوا ذَلِكَ بِدَعْوَاهُمُ الْهَلَاكَ وَالضَّيَاعَ، فَتَضِيعُ الْأَمْوَالُ، وَيَقِلُّ الِاحْتِرَازُ، وتتطرق الخيانة؛ فكانت المصلحة التضمين.

وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنَ الْفَسَادِ وَهُوَ تَضْمِينُ الْبَرِيءِ، إِذْ لَعَلَّهُ مَا أَفْسَدَ، وَلَا فَرَّط؛ فَالتَّضْمِينُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ نَوْعًا مِنَ الْفَسَادِ، لأنَّا نَقُولُ: إِذَا تَقَابَلَتِ الْمَصْلَحَةُ والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقوع التَّلَفِ مِنَ الصنَّاع مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ وَلَا تَفْرِيطٍ بَعِيدٌ، وَالْغَالِبُ الْفَوْتِ فَوْتُ الْأَمْوَالِ، وأنَّها لَا تَسْتَنِدُ إِلَى التَّلَفِ السَّمَاوِيِّ، بَلْ تَرْجِعُ إِلَى صُنْعِ الْعِبَادِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّفْرِيطِ.

(1) انظر ص 74.

ص: 102

(المثال الثالث)

إنَّا إِذَا قَرَّرْنَا إِمَامًا مُطَاعًا مُفْتَقِراً إِلَى تكثيرِ الْجُنُودِ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمُلْكِ، الْمُتَّسِعِ الْأَقْطَارِ، وَخَلَا بَيْتُ الْمَالِ، وَارْتَفَعَتْ حَاجَاتُ الْجُنْدِ إلى مالا يَكْفِيهِمْ، فَلِلْإِمَامِ إِذَا كَانَ عَدْلًا أَنْ يوظِّف عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مَا يَرَاهُ كَافِيًا لَهُمْ فِي الْحَالِ، إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ.

وإنَّما لَمْ يُنقل مِثْلُ هَذَا عَنِ الأوَّلين لِاتِّسَاعِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فِي زَمَانِهِمْ بِخِلَافِ زَمَانِنَا، فإنَّ الْقَضِيَّةَ فِيهِ أَحْرَى، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ هَنَا ظَاهِرٌ؛ فإنَّه لَوْ لَمْ يَفْعَلِ الْإِمَامُ ذلك النظام صارت ديارُنا عُرضة لاستيلاء الكفار، وَشَرْطُ جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَهُمْ عَدَالَةُ الْإِمَامِ، وَإِيقَاعُ التَّصَرُّفِ فِي أَخْذِ الْمَالِ وَإِعْطَائِهِ عَلَى الوجه المشروع.

(المثال الرابع)

أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، والمُستند فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ؛ إِذْ لَا نَصَّ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

ووجه المصلحة أنَّ الْقَتِيلِ مَعْصُومٌ، وَقَدْ قُتل عَمْدًا، فَإِهْدَارُهُ دَاعٍ إِلَى خَرْمِ أَصْلِ الْقَصَاصِ، وَاتِّخَاذِ الِاسْتِعَانَةِ وَالِاشِتِرَاكَ ذَرِيعَةً إِلَى السَّعْيِ بِالْقَتْلِ إِذَا عُلِمَ أنَّه لَا قَصَاصَ فِيهِ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ قَتْلَ الْمُنْفَرِدِ فإنَّه قَاتِلٌ تَحْقِيقًا، وَالْمُشْتَرِكُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ تَحْقِيقًا.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أمرٌ بديعٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ، قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَمْ يُقْتَلُ إِلَّا الْقَاتِلُ، وَهُمْ الْجَمَاعَةُ من حيث الاجتماع، وَقَدْ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُبْتَدِعًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ في حقن الدماء.

ص: 103

فهذه أمثلة تُوَضِّحُ لَكَ الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَتُبَيِّنُ لَكَ اعْتِبَارَ أُمور:

(أَحَدُهَا) : الملاءَمة لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا تُنَافِي أَصْلًا مِنْ أُصوله ولا دليلاًمن دلائله.

(الثاني) : أنَّ عَامَّةَ النَّظَرِ فِيهَا إنَّما هُوَ فِيمَا عَقُل منها وجرى على دون الْمُنَاسِبَاتِ الْمَعْقُولَةِ الَّتِي إِذَا عُرضت عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التعبُّدات، وَلَا مَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الأُمور الشَّرْعِيَّةِ، لأنَّ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ لَا يُعقل لَهَا مَعْنًى عَلَى التَّفْصِيلِ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَانٍ مخصوص دون غيره، والحج، ونحو ذلك.

(الثالث) : أنَّ حَاصِلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حفظِ أمرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حرجٍ لازمٍ فِي الدِّينِ، وَأَيْضًا مَرجْعِهُا إِلَى حِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنْ بَابِ ((ما لم يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ

)) فَهِيَ إِذًا مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَرُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ راجعٌ إِلَى بَابِ التَّخْفِيفِ لَا إِلَى التشديد.

إِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ عُلم أنَّ الْبِدَعَ كَالْمُضَادَّةِ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لأنَّ مَوْضُوعَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مَا عَقُل مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، والتعبُّدات مِنْ حَقِيقَتِهَا أَنْ لَا يُعقل مَعْنَاهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ مَرَّ أنَّ الْعَادَاتِ إِذَا دَخَلَ فِيهَا الِابْتِدَاعُ فإنَّما يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةٍ مَا فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ لَا بِإِطْلَاقٍ.

وَأَيْضًا فإنَّ الْبِدَعَ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا لَا تُلَائِمُ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ، بَلْ إنَّما تُتَصور عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مناقضة لمقصوده، وإمَّا مسكوتاً عنه فيه.

وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى اطِّراح الْقِسْمَيْنِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا، وَلَا يُقَالُ: إنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَلْحَقُ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ

ص: 104