الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يروي ابن أبي حاتم عن أشعث، عن الحسن ومحمد:(أن هؤلاء الآيات مبهمات: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}). أورده ابن كثير وقال: (معنى مُبْهمات: أي عامة في المدخول بها وغير المدخول، فتحرُم بمجرد العقد عليها وهذا متفق عليه).
4 -
زوجة الأب: يحرم على الابن التزوج بحليلة أبيه مجرد العقد من الأب عليها، ولو لم يدخل لقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} .
ثالثًا: المحرمات بسبب الرضاع
.
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. أي: (الأم، البنت، الأخت، العمة، الخالة، بنات الأخ، بنات الأخت) المبينة بالآية السابقة.
وبناء على ذلك فَتُنْزَل المرضعة منزلة الأم، وتحرم على المرضَع، هي وكل من يحرم على الابن من قبل أمِّ النسب، فتحرم:
1 -
المرأة المرضعة، فبإرضاعها تعد أمًا للرضيع.
2 -
أم المرضعة، لأنها جدة له.
3 -
أم زوج المرضعة، لأنها جدة كذلك.
4 -
أخت الأم لأنها خالة الرضيع.
5 -
أخت زوجها لأنها عمة الرضيع.
6 -
بنات بنيها وَبناتها: لأنهن بنات إخوته وأخواته.
7 -
الأخت: سواء أكانت أختًا لأب وأم، أو أختًا لأم، أو أختًا لأب.
قلت: وأصل إلحاق ما يحرم من الرضاع بما يحرم من النسب، ما في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة]. وفي لفظ لمسلم: [يَحْرُمُ من الرضاعة ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه مالك (2/ 601)، ومن طريقه أخرجه البخاري (2646) ومسلم (1444)، والنسائي (6/ 99)، وأخرجه أحمد (6/ 178)، والبيهقي (7/ 159).
والرضاع المعتبر هو ما كان في الحولين، لقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} .
قال الإمام مالك: (ما كان من الرضاعة بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئًا، إنما هو بمنزلة الماء).
والرضعة: هي أن يأخذ الصبي الثدي ويمتص اللبن منه ولا يتركه إلا طائعًا من غير عارض.
أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يُحَرِّمُ من الرضاع إلا ما فتق (1) الأمعاء وكان قبل الفطام](2).
وقد اختلف الفقهاء في عدد الرضعات المحرمة:
1 -
ذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله إلى مطلق الرضاع.
لما روى البخاري ومسلم عن عقبة بن الحارث قال: [تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك. فقال: كيف وقد قيل؟
…
دعها عنك] (3).
2 -
وذهب أبو ثور والإمام أحمد - في رواية عنه - إلى ثلاث رضعات. لما روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تُحَرِّمُ المصة ولا المصتان](4). وفي لفظ آخر: [لا تُحرِّمُ الإملاجة ولا الإملاجتان].
ولما روى مسلم عن أم الفضل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان].
ومن ثمّ فإن أقله عند هؤلاء ثلاث رضعات.
3 -
وذهب الشافعي وأحمد إلى القول بخمس رضعات مشبعات.
وقد احتجوا بما روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: [كان فيما أنزل من القرآن
(1) فتق الأمعاء: أي وصلها وغذاها واكتفت به دون غيره.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (1152). انظر صحيح سنن الترمذي (921). وانظر تخريج المشكاة (3173)، والإرواء (2209)، وصحيح الجامع (7509).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2660)، كتاب الشهادات، باب شهادة المرضعة.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1451)، والنسائي (6/ 100)، وأحمد (6/ 340)، وغيرهم.
عشرُ رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن] (1).
أي نسخت الآية وبقي العمل بها على خمس رضعات، ويبدو في التحقيق أن هذا هو الذي استقر عليه الإسلام، بوفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام. وهو أن ما يحرم من الرضاع يكون بخمس رضعات مشبعات.
فائدة: الجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره. قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كقوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} .
وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وجمهور السلف والخلف.
ولكن هناك أثرٌ عند ابن أبي حاتم بسند قوي عن مالك بن أوس قال: (كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولدت لي فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب، فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف. قال: فانكحها. قلت: فأين قول الله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}؟ قال: إنها لم تكن في حِجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك)(2).
واختاره ابن حزم، وهي من المسائل التي حيّرت ابن تيمية. فقد ذكر الحافظ الذهبي للحافظ ابن كثير أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين بن تيمية فاستشكله وتوقف في ذلك.
قلت: والراجح ما ذهب إليه الجمهور من إطلاق الخطاب على الربيبة - ابنة الزوجة - سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن في حجره، والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} .
المعنى: تحريم الجمع بين الأختين في الزواج، وكذا في ملك اليمين، إلا ما كان
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1452)، وأبو داود (2062)، ومالك (2/ 608)، والترمذي بإثر (1150)، وابن حبان (4221)، وغيرهم.
(2)
انظر تفسير ابن كثير. سورة النساء، آية (23). وقال: هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم.
من ذلك منكم في جاهليتكم فيعفى عنه. ومن ثم فمن أسلم وتحته أختان خُيِّرَ، فيمسك منهما من شاء ويطلق الأخرى لا محالة.
أخرج أبو داود والترمذي بسند جيد عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه قال:[أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أُطلِّق إحداهما](1).
وفي لفظ: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اختر أيَّتهما شئت).
يروي ابن عبد البر في "الاستذكار" بسنده إلى إياس بن عامر قال: (سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني، اتخذت إحداهما سُرِّية فولدت لي أولادًا، ثم رغبت في الأخرى، فما أصنع؟ فقال علي رضي الله عنه: تعتق التي كنت تطَأُ ثم تطأُ الأخرى. قلت: فإن ناسًا يقولون: بل تزوجها ثم تطأ الأخرى. فقال علي: أرأيت إن طلّقها زوجها أو مات عنها، أليس ترجع إليك؟ لأَنْ تَعْتِقَها أسلمُ لك. ثم أخذ عليٌّ بيدي فقال لي: إنه يَحْرُمُ عليك مما ملكت يمينك ما يَحْرُمُ عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد، أو قال: إلا الأربع، ويَحْرُم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب. ثم قال أبو عمر: هذا الحديث رحْلةٌ، لو لم يُصِب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غَيْره لما خابَتْ رحْلَتُه).
وقال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن قَبيصة بن ذُؤَيب:(أن رجلًا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين، هل يُجْمع بينهما؟ فقال عثمان: أحَلَّتْهُما آية وحرّمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك).
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
أخرج الإمام مسلم وأكثر أهل السنن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أَي: فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن](2).
(1) حديث إسناده جيد. أخرجه أبو داود (2243)، والترمذي (1129)، وابن ماجة (1950)، (1951)، وأحمد (4/ 232)، والبيهقي (7/ 184).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1456) ح (35)، والترمذي (1132) و (3017)، والنسائي في "التفسير"(117)، وأحمد (3/ 72)، وغيرهم.
ومعنى الآية: تحريم نكاح الأجنبيات المحصنات، وهنّ المتزوجات، إلا ما مَلَكْتُموهُنَّ بالسبي، فإنه يحلّ لكم وطؤهن إذا اسْتَبْرَاتُموهُنّ.
وقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . أي كل ما سبق تحريمه عليكم قد كتبه الله عليكم، فالزموا كتابه، وشرعه وأمره، ولا تتجاوزوا حدوده.
وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . قال عطاء: (أي: ما عدا مَنْ ذُكِرْنَ من المحارم، هُنَّ لكم حلال).
وقوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} . يعني الزواج حتى أربع، أو السراري ما شئتم، بالطريق الشرعي من حضور الولي والشاهدين وبذل المهر وإشادة النكاح.
قال مجاهد: (السفاح: الزنا). وقال السدي: ({مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}: يقول: محصنين غير زُناة).
وقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} .
قال ابن زيد: (هذا النكاح، وما في القرآن إلا نكاح. إذا أخذتها واستمتعت بها، فأعطها أجرها، الصداق).
وقد ذهب بعضهم إلى أن الآية في نكاح المتعة، وهذا على خلاف فهم الجمهور، فإن المتعة حرام إلى يوم القيامة.
روى مسلم والطبراني عن الربيع بن سَبْرة الجُهني عن أبيه مرفوعًا: [نهى عن المُتعة زمان الفتح متعةِ النساء، وقال: ألا إنها حرامٌ من يومِكم هذا إلى يوم القيامة](1).
وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} .
قال ابن عباس: (والتراضي: أن يوفيها صداقها ثم يخيِّرها).
وقال ابن زيد: (إن وضعت لك منه شيئًا فهو لك سائغ). فالمعنى: لا حرج عليك ولا عليها إن كنت فرضت لها صداقًا فأبرأتك منه أو من بعضه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} . أي: {عَلِيمًا} بما يصلح شؤونكم في مناكحكم أيها الناس وفي سائر أمور حياتكم، {حَكِيمًا} فيما يدبره لكم ويشرعه من أمر ونهي يخصكم.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (4/ 134) ، والطبراني في "المعجم الأوسط"(1/ 174/ 2).
25.
في هذه الآية: تخفيف الله عن المسلمين بإباحة نكاح الإماء حالة الضيق، ونكاح الأمة بإذن سيدها، وحدّ المملوك نصف حد الحر ولا رجم عليه، والصبر على العزبة خير من نكاح الأمة لأنه يفضي إلى إرقاق الولد.
قال ابن عباس: ({وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} يقول: من لم يكن له سَعة). وقال مجاهد فيها: (الغنى). وقال سعيد بن جبير: (الطول الغنى، الطول السعة). وقال ربيعة: (الطول الهوى. قال: ينكح الأمة إذا كان هواه فيها). والقول الأول أرجح وهو اختيار شيخ المفسرين.
وقوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . قال سعيد بن جبير: (أما من لم يجد ما ينكح الحرة، تزوج الأمة). وقال ابن عباس: ({مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}: فلينكح من إماء المؤمنين).
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} جملة اعتراضية، مفادها أن لكم أيها الناس الظاهر من الأمور والله أعلم بحقائقها ودفائنها. فلا تستنكفوا من التزوج بالإماء عند الضرورة. قال القرطبي:(ففي اللفظ تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمَة أفضل من إيمان بعض الحرائر).
وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} مبتدأ وخبر، وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض: هذا فتاة هذا، وهذا فتاة هذا. قال القرطبي: (والمقصود بهذا الكلام تَوْطِئة نفوس
العرب التي كانت تستهجن ولد الأمَة وتُعيّره وتسميه الهجين (1)، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له، وإنما انحطت الأمة فلم يجز للحرّ التزوّج بها إلا عند الضرورة، لأنها تسبب إلى إرقاق الولد، وأن الأمة لا تَفرُغ للزّوج على الدوام، لأنها مشغولة بخدمة المَوْلى).
وقوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} .
ذهب الشافعي والأوزاعي إلى أنه إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه. قال ابن كثير: (فدلّ على أن السيد هو وَليُّ أمته لا تُزَوّجُ إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده، ليس لعبده أن يتزوج إلا بإذنه).
أخرج أبو داود وابن ماجة بسند حسن عن ابن عمر، النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أيما عبد تزوَّج بغير إذن مواليه فهو زان](2). وفي رواية: (فهو عاهر).
فإن كان من يملك الأمة امرأة لم يجز لها أن تعقد زواجها، بل يزوجها من يزوج المرأة بإذنها. لما أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تزوِّج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها](3).
وقوله: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . يعني الصداق. لا يجوز أن يبخس منه شيئًا لكونهن إماء غير حرائر، فلابد من دفع مهورهن عن طيب نفس، بالمعروف: أي على ما تراضيتم به.
وقوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} . قال ابن عباس: (يعني: تنكحوهن عفائف غير زواني في سرّ ولا علانية، {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}، يعني: أخلاء). وقال: (المسافحات: هن الزواني المعلنات). يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهن بالفاحشة. وقال مجاهد: ({وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} قال: الخليلة يتخذها الرجل، والمرأة تتخذ الخليل).
وقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} . قال ابن عباس: ({فَإِذَا أُحْصِنَّ}: يعني إذا تزوجن). وقال قتادة:
(1) الهجين: أبوه عربي وأُمه أمة. أي: غير عربية.
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (2078)، والترمذي (1111)، وابن ماجة، وأخرجه أحمد (3/ 301)، وأبو يعلى (2000) من جابر، وله شواهد.
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة وله شواهد، انظر صحيح الجامع الصغير (7175).
(أحصنتهن البعولة). وقال: ({فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} قال: خمسون جلدة، ولا نفي ولا رجم). وقال ابن عباس: (ليس على أمة حد حتى تحصن، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات) - رواه الطبراني وهو موقوف صحيح ولا يصح رفعه.
وقال ابن مسعود: (إسلامها إحصانها). وقال السدي: ({فَإِذَا أُحْصِنَّ}: إذا أسلمن)(1). والأول أرجح ويدل عليه السياق.
وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: [يا أيها الناس، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أَحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصِن، فإن أمةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت اتركْها حتى تماثل](2).
والخلاصة: إن الأمَةَ إذا زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رجم عليها، لأن الرجم لا يتنصّف.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وزيدِ بن خالد رضي الله عنهما: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الأمَةِ إذا زنت ولم تُحْصَنْ؟ قال: إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بِضَفِير](3).
قال الزُّهري: (فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث). وقال ابن عبده البر: (ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حدّ على أَمَةٍ وإن كانت مسلمة إلا بعد التزوج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن، فكان ذلك زيادة بيان).
وقال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله: (ولم يختلف المسلمون في أن لا رَجْمَ على
(1) هناك قراءة: {فَإِذَا أَحْصَنَّ} بمعنى: إذا أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام. وهي قراءة مشهورة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1703)، والترمذي في الجامِع (1441)، وأحمد في المسند (1/ 89). وعند عبد الله بن أحمد، عن غير أبيه:"فإذا تَعافَتْ من نفاسها فاجلدها خمسين". انظر زوائد المسند لعبد الله بن أحمد (1/ 136) ح (ح 114).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6837)، (6838)، ومسلم برقم (1704) ح (33)، ورواه أحمد في المسند (4/ 117).
مملوك في الزنا، وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب).
وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . قال مجاهد: (الزنا). وقال ابن عباس: (العنت الزنا).
وقوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . قال السدي: (يقول: وأن تصبر ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين، فهو خير لك). والمقصود: أن الصبر على العُزْبة خير من نكاح الأمة، لأنه يُفضي إلى إرقاق الولد.
وفي الأثر عن عمر: (أيّما حُرٍّ تزوَّج بأمَةٍ فقد أرقّ نصفه).
وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أي: غفور لكم نكاح الإماء وما سلف منكم إن أصلحتم، رحيم بكم إذ أذن لكم بنكاحهن عند الافتقار والحاجة.
26 -
28. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}.
في هذه الآيات: يريد الله سبحانه تبيان حلاله وحرامه، ففي معرفة ذلك والتزام حدوده رضاه جل ذكره، كما يريد إرشاد عباده المؤمنين إلى سبل أهل الإيمان والصلاح في الأمم قبلهم، وإلى مناهج الأنبياء والمرسلين في تحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات، فإن الله {عَلِيمٌ} بما يصلح أحوال عباده في أديانهم ودنياهم، {حَكِيمٌ} في قدره وشرعه وأمره ونهيه لهم جميعًا. والله يريد كذلك أن يتجاوز عما سلف منكم أيام الجاهلية ويريد أهل الباطل أن تستمروا على الفواحش. والله يريد اليسر بكم في أمر النكاح وفي كل أمر، فإن الإنسان ضعيف أمام النساء.
وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} - أي: يتجاوز عما كان في جاهليتكم من الاستهتار بنكاح حلائل الآباء والأبناء وغير ذلك مما يستبيحه أهل الجاهلية.
وقوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} . قال مجاهد: (أن
تكونوا مثلهم، تزنون كما يزنون). قال:({وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ}، قال: الزنا، {أَنْ تَمِيلُوا}، قال: أن تزنوا).
وقال ابن زيد: (يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، أن تميلوا في دينكم ميلًا عظيمًا، تتبعون أمو دينهم، وتتركون أمرَ الله وأمرَ دينكم).
وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} . قال مجاهد: (في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يسر).
وقوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . قال طاووس: (في أمور النساء. ليس يكون الإنسان في شيء أضعفَ منه في النساء)،
29 -
31. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}.
في هذه الآيات: يعقب الله سبحانه بتذكير عباده بأمور أخرى من أمور الجاهلية يحبهم أن يتنزهوا عنها ويترفعوا عن السقوط في أوحالها، كالربا والقمار، وفاسد العلاقات في الأموال، كما ينهاهم عن قتل النفس المفضي إلى عذاب النار، ثم يقرّر أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر من الأعمال.
يروي ابن جرير بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: (في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول: "إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهمًا"، قال: هو الذي قال الله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
وقال السدي: (أما أكلهم أموالهم بينهم بالباطل، فبالربا والقمار والبخس والظلم).
وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . قال قتادة: (التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرِّها. وقد كنا نحدَّث: أن التاجرَ
الأمين الصدوق مع السبعة في ظل العرش يوم القيامة). وقال السدي فيها: ({إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع).
وقرأها أكثر أهل الحجاز والبصرة {تِجَارَةً} ، والتقدير: إلا أن توجد تجارة، وعندها {إِلَّا أَنْ تَكُونَ} تامة لا حاجة بها إلى خبر.
وأما قراء الكوفة فقرؤوها {تِجَارَةً} بالنصب على الخبر. والتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض منكم. وكلاهما قراءتان مشهورتان عند قراء الأمصار.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن المُتَبايعَيْن بالخيار في بيعهما ما لم يتفرّقا، أو يكون البيعُ خِيارًا](1).
قال نافع: (وكان ابنُ عمر إذا اشترى شيئًا يُعجبه فارقَ صاحِبَه).
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن حكيم بن حِزامٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [البَيِّعَانِ بالخِيار ما لم يتفرّقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبَيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذّبا مُحِقَت بركةُ بيعهما](2).
وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [رحم الله رجلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشترى، وإذا اقتضى](3).
وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . قال السدي: (يقول: أهل ملتكم).
وقال عطاء: (قتل بعضكم بعضًا). قال ابن جرير: (يعني: ولا يقتل بعضكم بعضًا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة، ودين واحد. فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضَهم من بعض. وجعل القاتل منهم قتيلًا، في قتله إياه منهم، بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهلَ يد واحدة على من خالف مِلَّتَهما).
قلت: والآية في سياقها أعم من ذلك، فإن أكل أموال المسلمين بغير حق بمثابة قتل يُعمل فيهم، وإن ارتكاب المنكرات والمحرمات والآثام وتركها تفشو في حياة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2107)، كتاب البيوع، وأخرجه مسلم برقم (1531)، ورواه أحمد في المسند (2/ 73).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2079)، كتاب البيوع، وانظر صحيح مسلم (1531)، وسنن النسائي (7/ 249)، وسنن البيهقي (5/ 269)، وصحيح ابن حبان (4912).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2067)، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقًّا فليطلبه في عفاف.
المسلمين هو بمثابة إجهاز عليهم وقتل لوجودهم ومصدر إعدام لقوة شوكتهم وكيانهم في الأرض، فإن انتشار الفواحش موت للأمة.
أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خمس بخمس: ما نقض قومٌ العهدَ إلا سُلِّطَ عليهم عدوهه، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا مُنعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القطر](1)
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . أي: في ما أمركم به، ونهاكم عنه، فإنه ما شرع أمرًا إلا رحمة بكم، ولم يقض قضاء إلا كان خيرًا لكم.
أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند صحيح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبت للمؤمن، إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرًا له](2). وفي لفظ: [عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له].
وقد ورد ذكر هذه الآية على لسان عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل حين تيمّم وصلى بأصحابه - من شدهّ البرد - فأقرّ النبي صلى الله عليه وسلم فهمه لها.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن عبد الرحمن بن جُبَير، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، عام ذات السلاسل قال:[احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أَنْ أهْلِكَ، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح. قال: فلما قَدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكروا ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنُبٌ. قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلِكَ، فذكرت قول الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، فتيمّمتُ ثم صَلّيت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا](3).
ولا شك أن الآية تتناول أيضًا من قتل نفسه بحديدة أو سمٍّ أو أية وسيلة أخرى أراد بها إزهاق روحه ومعاجلة نفسه.
(1) حديث حسن. انظر تخريج الترغيب (1/ 271)، وصحيح الجامع الصغير (3235).
(2)
حديث صحيح. رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (5/ 24). وانظر مسند أبي يعلى (200/ 2)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (148).
(3)
حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 203)، وأبو داود (334)، والحاكم (1/ 177). وسنده حسن.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يَجَأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدًا مُخلَّدًا شيها أبدًا، ومن قتل نفسه بِسُمٍّ فَسُمُّهُ في يده، يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو مُتَرد في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا](1).
وفي الصحيحين عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جُرح، فأخذ سكينًا نَحَرَ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه، حَرَّمت عليه الجنة](2).
وفيهما عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَتَل نفسه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة](3).
وقوله قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . يخبر الله تعالى عن مصير من عاند أمره أو خالفه عامدًا متكبرًا ظالمًا متجاوزًا غير تائب ولا أواب، بأن له النار وبئس المصير.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ارحموا تُرحموا، واغفروا يُغفر لكم، ويلٌ لأقماع القول، ويلٌ للمصرِّين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون](4).
وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} . يروي ابن جرير بسنده عن مسروق، عن عبد الله قال:(الكبائر، من أول "سورة النساء" إلى ثلاثين منها).
وقد وردت أحاديث صحيحة تُعَرِّفُ بالسبع الكبائر أو التسع:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول إلله، وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، وقتل
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5778)، وأخرجه مسلم (109)، وأحمد (2/ 254).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1364)، ومسلم (113)، وأخرجه البيهقي (8/ 24).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1363)، ومسلم (110)، وأبو داود (3257)، وغيرهم.
(4)
إسناده صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 165)، والبخاري في "الأدب المفرد"(380).
النفس التي حرّم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقَذْفُ المحصنات الغافلات المؤمنات] (1).
الحديث الثاني: أخرج النسائي وأحمد بسند صحيح عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من عَبَد الله لا يشرك به شيئًا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر، فله الجنة - أو دخل الجنة. فسأله رجل: ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، وقتل نفس مسلمة، والفرار يوم الزحف](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، أو سئل عن الكبائر، فقال:[الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين. وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى. قال: قول الزور - أو شهادة الزور -](3). وفي لفظ: [ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت].
الحديث الرابع: أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح، عن طَيْسَلَة بن مَيّاس قال:[كنت مع النَّجَدَات (4)، فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر، فذكرت ذلك لابن عمر قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليست هذه من الكبائر. هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر (5)، وبكاء الوالدين من العقوق. قال لي ابن عمر: أتفرق من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: أي، والله! قال: أحيٌّ والدك؟ قلت: عندي أمي. قال: فو الله! لو ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر](6).
الحديث الخامس: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: [قلت: يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ - وَفي رواية: أكبر - قال: أن تجعل لله ندًّا وهو
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89)، وأبو داود (2874)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه النسائي في "الكبرى" -حديث رقم- (3472)، وأحمد في المسند (5/ 413)، ورجال النسائي ثقات.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5977) ومسلم (88) وأحمد (3/ 131)، وانظر الرواية الأخرى، وفيها: وكان متكئًا فجلس. أخرجه البخاري (5976)، ومسلم (87).
(4)
النَّجْدات: أصحاب نَجدة بن عامر الخارجي، وهم قوم من الحروريّة.
(5)
يستسخر: الاستسخار من السخرية.
(6)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" -حديث رقم- (8). باب لين الكلام لوالديه.
خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك] (1).
الحديث السادس: أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الخمر أمُّ الفواحش، وأكبرُ الكبائر، من شَرِبها وقع على أمه وخالته وعمته](2).
الحديث السابع: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، أو قتل النفس - شعبةُ الشاكّ - واليمين الغموس](3).
وفيه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه](4).
الحديث الثامن: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجلٌ كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعْطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سَخِط، ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال، والله الذي لا إله غيره لقد أَعْطيتُ بها كذا وكذا، فصدّقه رجل، ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]] (5).
وقد استعرضت بقية الكبائر في كتابي: "منهج الوحيين في معالجة زلل النفس وتسلط الجن". وفيه ذكر للأمور التي نهى الله عنها وحذر منها، بشيء من التفصيل، ولله الحمد والمنة.
وقوله: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . قال قتادة: (إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86)، وأحمد (1/ 431).
(2)
حديث حسن. رواه الطبراني (11372)، (11498)، وانظر السلسلة الصحيحة (1853).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6675)، وأحمد (2/ 201)، والترمذي (3021)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90)، وأحمد (2/ 214)، وغيرهم.
(5)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2358)، كتاب المساقاة، وأخرجه مسلم برقم (108)، ورواه النسائي (7/ 246).
وقوله: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} . قال السدي: ("الكريم"، هو الحسن في الجنة).
32.
في هذه الآية: النهي عن تمني ما بيد الآخرين من النعم، وما قسم الله لكل من الذكر والأنثى في الأموال والإرث، والترغيب بسؤال الله من فضله.
قال ابن عباس: (لا يتمنى الرجل يقول: "ليت أن لي مال فلان وأهلَه"! فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله).
وقال الحسن: (تتمنى مال فلان ومال فلان! وما يدريك؟ لعل هلاكه في ذلك المال).
وقال غيره: (نهيتم عن الأماني، ودُللتم على ما هو خير منه: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}).
وقال عطاء: (نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكنَّ رجالًا فيغزون) رواه ابن جرير.
قلت: والصحيح المسند في ذلك ما رواه الترمذي عن أم سلمة أنها قالت: [يغزوا الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}](1).
وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} .
قال ابن عباس: (يعني: ما ترك الوالدان والأقربون. يقول: للذكر مثل حظ الأنثيين).
وقال عكرمة فيها: (في الميراث، كانوا لا يورّثون النساء).
(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2419)، كتاب التفسير، سورة النساء، آية (32).
وقال ابن جرير: (للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا فعملوه من خير أو شر، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال).
وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} فعنده خزائن السماوات والأرض، فلا يشغلكم التمني بل ليشغلكم سؤاله جل ذكره.
أخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه](1). وفي رواية: [إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه].
وقال ليث - كما يروي ابن جرير -: {فَضْلِهِ} : (العبادة، ليس من أمر الدنيا).
وقال مجاهد: (ليس بعرض الدنيا). وقال السدي: ({وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم).
أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:[اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى](2).
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: [كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار](3).
وروى الطبراني بسند صحيح عن العرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه سر الجنة](4).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . قال ابن جرير: (يقول: ذا علم. فلا تتمنوا غير الذي قضى لكم، ولكن عليكم بطاعته، والتسليم لأمره، والرضى بقضائه، ومسألته من فضله).
قلت: وقد استثنى الحديث نوعًا من التمني، يجوز للعبد في مثله، لا في تمني عين النعمة التي عليها صاحبه.
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني بإسناد صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها. انظر صحيح الجامع الصغير حديث رقم (450)، وكذلك رقم (605) للرواية الثانية.
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم وغيره من حديث ابن مسعود. انظر صحيح الجامع (1286).
(3)
حديث صحيح. وفي لفظ مسلم: (كان أكثر دعوة يدعو بها يقول
…
). انظر مختصر صحيح مسلم (1873). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني بإسناد صحيح من حديث العرباض. انظر صحيح الجامع (606).
ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها].
وأخرجاه من حديث ابن عمر بلفظ: [لا حسد إلا على اثنين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار](1).
وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًّا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية يقول: لو أنّ لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء .. ] الحديث (2).
33.
في هذه الآية: لقد جعل الله سبحانه للناس عصبة - لكل منهم - يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له. وقد كان لمن تحالفتم معه - أيها المؤمنون - بالأيمان المؤكدة جزء من الميراث ثم نسخ هذا الحكم فصار الميراث في ذوي الرحم.
فقوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} . قال ابن جرير: (يقول: ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم). والعرب تسمي ابن العم "مولى".
قال ابن عباس: ({وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، قال: ورثة). وقال مجاهد: (الموالي، العصبة). وقال: (هم الأولياء). وقال قتادة: (الموالي، أولياء الأب،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4/ 491)، ومسلم (2/ 201)، وأحمد (2/ 9). وانظر للرواية الأولى مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (2108).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2325). انظر صحيح سنن الترمذي (1894). ورواه أحمد. انظر تخريج الترغيب (1/ 26)، وصحيح الجامع الصغير (3021)، وهو جزء من حديث أطول.
أو الأخ، أو ابن الأخ، أو غيرهما من العصبة). وقال السدي:(أما "موالي"، فهم أهل الميراث).
قال البخاري: (وقال مَعْمَر: {مَوَالِيَ} أولياءَ ورثة).
وقوله: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} . أي: من ترِكَة والديه وأقربيه من الميراث.
وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: تحالفتم معهم بالأيمان المؤكدة فأعطوهم من الميراث. وهذا حكم منسوخ فصار الميراث في ذوي الرحم.
أخرج البخاري عن ابن عباس: ({وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: وَرَثة، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحِمه، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم، بينهم، فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرِّفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي له)(1).
وقال البخاري: ({عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}. هو مولى اليمين: وهو الحليف. والمولى أيضًا: ابن العم، والمولى: المُنْعِمُ المُعْتِق، والمولى: المُعْتَقُ، والمولى: المليكُ، والمولى: مَوْلىً في الدين).
وقرأها قراء الكوفة: {عَقَدَتْ} ، وقرأها آخرون {عاقَدَتْ} وكلاهما مشهور.
أخرج الإمام مسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا حِلْفَ في الإسلام، وأيُّما حِلْفٍ كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدَّة](2).
قال الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجَّاج، عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} : فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، ويقول: ترثني وأرِثُكَ. وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام، فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا عَقْدَ ولا حلف في الإسلام". فَنَسَخَتْها هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4580)، كتاب التفسير، سورة النساء، آية (33).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2530)، وأحمد (4/ 83)، والبيهقي (6/ 262) وغيرهم.
(3)
ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير - سورة النساء - آية (33)، وإسناده صحيح.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي: فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرأي والله خير الشاهدين.
34.
في هذه الآية: إثبات القيادة للرجل في أهله وولده، فهو الأجدر بضم الأسرة ومعرفة مصالحها، وما ينبغي من الإنفاق فيها، فالرجل قيم على المرأة وهو رئيسها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت.
قال ابن عباس: (قوله: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، يعني: أُمراء، عليها أن تطيعه فيما أمرَها الله به من طاعته، وطاعته: أن تكون محسنة إلى أهله، حافظةً لماله، وفضّله عليها بنفقته وسعيه).
وقال السدي: ({الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} قال: يأخذون على أيديهن ويؤدّبونهنَّ).
وقال ابن المبارك: سمعت سفيان يقول: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، قال:(بتفضيل الله الرجال على النساء). قلت: وهذا التفضيل يشمل الإمارة والقضاء.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لَنْ يُفلحَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة](1).
وقوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} .
قال ابن عباس: (فضله عليها بنفقته وسعيه). وقال سفيان: (بما ساقوا من المهر).
وقال الشّعبي: (الصداق الذي أعطاها، ألا ترى أنه لو قذفها لاعنها، ولو قَذَفَتْه جُلِدَت).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4425)، (7099)، والنسائي (8/ 227)، وأحمد (5/ 43).
وقوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} .
قال سفيان: {فَالصَّالِحَاتُ} ، يعملن بالخير). وقال ابن جرير:({فَالصَّالِحَاتُ}، المستقيمات الدين، العاملات بالخير).
وقوله: {قَانِتَاتٌ} . قال ابن عباس: (مطيعات). وقال قتادة: (مطيعات لله ولأزواجهن).
وقوله: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} . قال السدي: (تحفظ على زوجها ماله وفرجَها حتى يرجع، كما أمرها الله). وقال قتادة: (حافظات لما استودعهن الله من حقه، وحافظات لغيب أزواجهن). وقال عطاء: (حافظات للأزواج).
وقد جاءت السنة الصحيحة بالثناء العطر على الزوجات الصالحات القانتات، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الدنيا كلُّها متاع، وخيرُ متاعِ الدنيا المرأةُ الصالحة](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خيرُ النساء التي تَسُرُّه إذا نَظَرَ، وتُطيعُهُ إذا أمَر، ولا تُخالفُهُ في نفسها ولا مالِها بما يكره](2).
وله شاهد عند الطبراني من حديث عبد الله بن سلام، بلفظ:[خير النساء من تُسِرُّك إذا أبْصَرْتَ، وتطيعك إذا أمرتَ، وتحفظُ غيبتك في نفسها ومالك].
الحديث الثالث: أخرج ابن حبان والحاكم بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أربعٌ من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسعُ، والجارُ الصالح، والمركب الهنيء. وأربعٌ من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1469) كتاب الرضاع. باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 251، 432، 438)، والنسائي (2/ 72). والشاهد رواه الطبراني كما قال الهيثمي (4/ 273). انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1838).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1232)، وأحمد (1/ 168) نحوه، والحاكم.
وقوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} .
النشوز: استعلاء المرأة على زوجها، بترك فراشه أو مخالفته فيما يلزم طاعته.
وأصل النشوز: الارتفاع. ويقال للمرتفع من الأرض "نشْز" و"نَشَاز".
وأقوال الصحابة والتابعين في ذلك متقاربة:
1 -
قال ابن عباس: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} ، تلك المرأة تنشز، وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره).
2 -
قال السدي: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} قال: بغضهن).
3 -
وقال ابن زيد: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} ، قال: التي تخاف معصيتها. قال: "النشوز"، معصيته وخِلافه). وقال عطاء:("النشوز": أن تحب فراقَه، والرجلُ كذلك).
وقوله: {فَعِظُوهُنَّ} . قال ابن عباس: (يعني: عظوهن بكتاب الله. قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظها ويذكّرها الله، ويعظِّم حقّه عليها). وقال سعيد بن جبير: (عظوهن باللسان).
وقد جاءت السنة الصحيحة بالتحذير الشديد للمرأة من النشوز ومعصية الزوج، والترغيب الكبير في خدمته وطاعته، فإن رضا الله في رضاه. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح](1).
ورواه البخاري بلفظ: [إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه، لعنتها الملائكة حتى تصبح](2).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال: [لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عِظَمِ حَقِّهِ عليها](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه، برقم (1436) ح (120).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5193)، ومسلم (1436)، وأحمد (2/ 439)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2322)، وابن ماجة (1853)، وابن حبان (4171)، وغيرهم.
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح، عن حصين بن محصن قال:[حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة فقال: أي هذه! أذات بعل؟ قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك](1).
فإن لم ينفع الوعظ مع المرأة، شرع الله له المرحلة الثانية في التأديب: وهي الهجر.
قال ابن عباس: (عظوهن، فإن أطعنكم، وإلا فاهجروهن).
وهو قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . وفيه أقوال متقاربة:
1 -
قال ابن عباس: (يعني بالهجران: أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها). وقال سعيد بن جبير: (الهجر هجر الجماع).
2 -
وقال السدي: (أمّا {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}، فإن على زوجها أن يعظها، فإن لم تقبل فليهجرها في المضجع. يقول: يرقد عندها ويولِّيها ظهره ويطؤها ولا يكلمها). وقال الضحاك: (يضاجعها، ويهجر كلامها، ويولّيها ظهره).
3 -
وقال سعيد بن جبير: ({وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، يقول: حتى يأتين مضاجعكم). وفي رواية لابن عباس قال: (يعظها، فإن هي قبلت، وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها، من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد).
4 -
وقال عكرمة: (إنما الهجران بالمنطق: أن يغلظ لها، وليس الجماع). وقال ابن عباس: (يهجرها بلسانه، ويُغْلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها).
قلت: وكلها معان محتملة يحتملها البيان الإلهي، وكذلك ما جاء في صحيح السنة. فقد أخرج أبو داود وأحمد وغيره عن معاوية بن حَيْدة القُشَيريِّ أنه قال: يا رسول الله، ما حق امرأةِ أحدنا عليه؟ قال:[أن تُطْعِمها إذا طَعِمْتَ، وتكسوها إذا اكتسيْتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهْجُر إلا في البيت](2).
وقوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} .
هي المرحلة الثالثة من مراحل التأديب، أي: إذا لم يرتدعن بالموعظة والهجران
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 341)، وابن أبي شيبة (7/ 47/ 1)، والنسائي في العِشرة.
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (2143)، وأحمد (5/ 5)، وابن ماجة (1850). وسنده حسن.
فيمكن أن تضربوهُنّ ضربًا غير مُبَرِّح. قال الحسن البصري: (يعني غير مؤثر).
وقال ابن عباس: (تهجرها في المضجع، فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها صْربًا غير مبرح، ولا تكسر لها عظمًا. فإن أقبلت وإلاّ فقد حلّ لك منها الفدية).
وعن عطاء قال: (قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه).
وفي صحيح مسلم من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع:[واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان، ولكم عليهن أن لا يُوطِئن فرشكم أحدًا تكوهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف](1).
وفي سنن أبي داود عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تضربوا إماء الله. فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذَئِرَت النساء على أزواجهنَّ، فَرَخَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهنَّ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثير يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجَهُنَّ، ليس أولئك بخياركم](2).
وقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} . قال ابن عباس: (إذا أطاعتك فلا تتجنَّ عليها العلل). وقال سفيان: (إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه، لأن قلبها ليس في يديها). وقال الثوري: (إذا أتت الفراش وهي تبغضه).
والخلاصة: إن رجعت إلى الطاعة وامتثلت ما يحب مما أباحه الله له منها فلا يحق له بعد ذلك ضربها أو هجرانها. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} : تهديد للرجال إذا تطاولوا بالضرب بعد الطاعة، فإن الله العلي الكبير وليّهن ينتقم ممن بغى عليهن أو ظلمهن فاحذروا البغي معاشر الرجال.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجة (3074)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2146)، والنسائي في "الكبرى"(9167)، وابن ماجة (1985).
35.
في هذه الآية: الترغيب في إعادة الوفاق بين الزوجين عند الخلاف، وسدّ السبل على الشيطان، والله يعين على الرفق والإصلاح.
قال السدي: (إن ضربها. فإن رجعت، فإنه ليس له عليها سبيل. فإن أبت أن ترجع وشاقّته، فليبعث حكمًا من أهله، وتبعث حكمًا من أهلها).
وذكر ابن جرير بسنده عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال:(بعثت أنا ومعاوبة حكمين، قال معمر: بلغني أن عثمان رضي الله عنهما بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تُفَرِّقا فرّقتما).
وقال قتادة: (إنما يبعث الحكمان ليصلحا. فإن أعياهما أن يصلحا، شهدا على الظالم بظلمه، وليس بأيديهما فرقة، ولا يُمَلّكان ذلك).
قلت: ووجه الجمع بين القولين في هذه المسألة أنّ الخطاب يشمل المسلمين والسلطان في ذلك، فأمر الله المسلمين ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما، فإن تعذر الإصلاح فالأمر للقاضي أو السلطان فهو الذي يفرِّق إن شاء.
وقوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . قال سعيد بن جبير: (إن يرد الحكمان إصلاحًا أصلحا). وقال مجاهد: (يوفق الله بين الحكمين).
يعني: إن أخلص الحكمان وأرادا بعملهما وجه الله تعالى يسدد خطاهما للإصلاح.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} . أي: {عَلِيمًا} بما أراد الحكمان من صدق الإصلاح {خَبِيرًا} بذلك وبغيره من أمورهما وأمور العباد جميعًا، لا يخفى عليه شيء، ثم يجازي كلًّا بنيّته وعمله.
36.
في هذه الآية: يخاطب سبحانه عباده آمرًا لهم أن يفردوه سبحانه بالعبادة والتعظيم، ثم يوصي بالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين خيرًا، ثم يوجه الوصية للعناية بالجار والإحسان إليه، ثم ابن السبيل وما ملكت الأيمان، فإن من لا يشكر الله ولا يقوم بحق أرحامه: الوالدين والأقربين، وجيرانه وما أوصى الله، كان مختالًا متكبرًا يبغضه الله.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: [كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: يا معاذُ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله: أن لا يعذب من لا يُشرك به شيئًا. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشِّر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا](1).
قال ابن القيم: ("الإله" هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالًا وإنابة، وإكرامًا وتعظيمًا، وذلًا وخضوعًا، وخوفًا ورجاء وتوكلًا).
وقال ابن رجب: ("الإله" هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالًا، ومحبة وخوفًا ورجاء، وتوكلًا عليه، وسؤالًا منه ودعاءً له، ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل. فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قوله "لا إله إلا الله" وكان فيه من عبودية المخلوق، بحسب ما فيه من ذلك)(2).
وقد قرن سبحانه في كتابه كثيرًا بين إفراده بالعبادة والإحسان إلى الوالدين، فقال جل ذكره:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . وقال تعالى: {وَإِذْ قَال لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} .
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (13/ 300)، كتاب التوحيد. وأخرجه مسلم (30) في الإيمان.
(2)
انظر فتح المجيد (47)، وكتابي: أصل الدين والإيمان، (1/ 100)، وكذلك لقول ابن القيم.
أخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجة في السنن، والحاكم في المستدرك، بسند حسن عن أبي الدرداء قال:[أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسع: لا تشرك بالله شيئًا وإن قُطِّعْتَ أو حُرِّقْتَ، ولا تتركن الصلاة المكتوبة متعمدًا، ومن تركها متعمدًا برئت منه الذمة (1)، ولا تشربنّ الخمر، فإنها مفتاح كل شر، وأطع والديك، وإن أمراك أن تخرجَ من دنياك، فاخرج لهما، ولا تُنازعنَّ ولاة الأمر، وإن رأيت أنَّك أنت (2)، ولا تفِرَّ من الزَّحف، وإن هلكت وفرَّ أصحابك، وأنفق من طَوْلك على أهلك، ولا ترفع عصاك عن أهلك، وأخِفْهم في الله عز وجل](3).
وأخرج هو والحاكم عن أبي أيوب الأنصاري: [أن أعرابيًا عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره، فقال: أخبرني ما يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم](4).
وقوله: {وَبِذِي الْقُرْبَى} . أي أَمْرٌ بالإحسان إليهم، وهم ذوو قرابة الرجل من قبل أبيه أو أمه، فأمر بصلتهما سبحانه، فإن الرحم تحتج على صاحبها يوم القيامة.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله عز وجل لما خلقَ الخلق قامت الرحم فأخذت بِحقْوِ الرحمن، فقال: مَهْ، قالت: هذا مقامُ العائذِ بكَ من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أَصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب! قال: فذاك لك. قال أبو هريرة: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالهَا}](5).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أثر صلة الأقارب بثراء المال وطول العمر والمحبة في الأهل. فقد أخرج الإمام أحمد والطبراني بسند صحيح عن عمرو بن سهل، عن
(1) أي: أن لكل أحد من الله عهدًا بالحفظ والكلاءة، فإذا ألقى بيده إلى التهلكة، أو فعل ما حرم عليه، أو خالف ما أُمر به خذلته ذمة الله. "النهاية". صحيح الأدب المفرد ص 38.
(2)
أي: أنك أنت وحدك على الحق.
(3)
حديث حسن. انظر: "صحيح الأدب المفرد" للإمام البخاري -حديث رقم- (14)، باب يبرُّ والديه ما لم يكن معصية.
(4)
حديث صحيح. انظر: "صحيح الأدب المفرد" للإمام البخاري - (35)، باب صلة الرحم.
(5)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 330)، وانظر:"صحيح الأدب المفرد" للبخاري - (36).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: [صلة القرابة مثراةٌ في المال، محبّةٌ في الأهل، منسأةٌ في الأجل](1).
وقوله: {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم. وهو الطفل قد مات والده وهلك.
وقوله: {وَالْمَسَاكِينُ} جمع مسكين، وهو من ركبه ذل الفاقة والحاجة، فتمسكن لذلك. فأمر سبحانه بالإحسان إليهم، ووعد على ذلك خيرًا.
أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إن أردت أن يلينَ قلبُكَ، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم](2).
وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} . قال ابن عباس: (يعني الذي بينك وبينه قرابة).
وقال مجاهد: (جارك، هو ذو قرابتك). وقال قتادة: (إذا كان له جار له رحم، فله حقّان اثنان: حق القرابة، وحق الجار).
وقوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} . قال ابن عباس: (الذي ليس بينك وبينه قرابة). وقال نوف الشامي: (اليهودي والنصراني) ذكره ابن جرير. وقال مجاهد: ({وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني الرفيق في السفر).
قلت: والتفريق في الآية بيق الجار ذي القربى والجار الجنب يقتضي قرابة الأول وبعد الآخر حتى لو كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وفي ذلك اشتمال بالوصية لكل أنواع الجيران. وقد امتلأت السنة الصحيحة بالوصايا بالجار، ومن ذلك:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سَيُوَرِّثُه](3).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[خيرُ الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره](4).
الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند حسن عن عبد الرحمن بن أبي قراد، عن
(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (2/ 374)، والحاكم (4/ 161)، وصحيح الجامع (3662).
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 263)، والطبراني في "مختصر مكارم الأخلاق"(1/ 120 / 1).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6015)، ومسلم (2625)، وأخرجه أحمد (2/ 85).
(4)
حديث إسناده جيد. أخرجه أحمد في المسند (2/ 167)، والترمذي (1944)، ورجاله ثقات.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن أحببتم أن يحبّكم الله تعالى ورسولهُ فأدّوا إذا اؤْتمنتم، واصدُقوا إذا حدَّثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم](1).
وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} . قال سعيد بن جبير: (الرفيق في السفر).
وقال مجاهد: (رفيقك في السفر، الذي يأتيك ويده في يدك).
وقال ابن مسعود: (هي المرأة). قال ابن عباس: (يعني: الذي معك في منزلك).
وقال زيد بن أسلم: (هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر). وقال سعيد بن جبير: (هو الرفيق الصالح).
وكلها أقوال يحتملها البيان الإلهي، وقد أوصى سبحانه بالإحسان إلى هذا الصاحب: سواء كان المرأة في البيت أو الرفيق في السفر.
وقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} . قال مجاهد: (هو الذي يمر عليك وهو مسافر).
وقال ابن عباس: (هو الضيف). وقال الربيع: (هو المارّ عليك، وإن كان في الأصل غنيًّا).
قلت: ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأن الضيف القادم عليك من سفر وإن كان غنيًّا فقد أوصى الله سبحانه بالإحسان إليه وإكرامه.
وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال مجاهد: (مما خوّلك الله، كل هذا أوصى الله به). فهي وصية بالأرقاء بالإحسان إليهم، فإن الرقيق ضعيف الحيلة أسير عند الناس، وقد كان من آخر كلامه عليه الصلاة والسلام في مرض موته:[الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم](2).
وقد امتلأت السنة الصحيحة بالتحذير من إيذاء الرقيق واستغلال ضعفه:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن المعرور بن سُويد قال: رأيت أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وعليه حُلَّةٌ وعلى غلامه حُلَّةٌ، فسألناه عن ذلك فقال: إني سابَبْتُ رَجُلًا فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعَيَّرتَهُ بأمِّه؟ ثم قال: [إن إخوانكم خَوَلُكُم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ولْيُلْبِسْهُ
(1) حديث حسن. رواه الطبراني بإسناد حسن. انظر صحيح الجامع الصغير، حديث رقم، (1422).
(2)
حديث صحيح لشواهده. انظر مسند أحمد (3/ 117)، وصحيح ابن حبان (6605). وله شواهد.
مما يَلْبَسُ، ولا تُكلّفوهم ما يَغْلِبُهُم، فإن كَلَّفتموهم ما يَغْلِبُهم فأعينوهم] (1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[للمملوك طعامه وكسْوته، ولا يُكَلّف من العمل إلا ما يُطيق](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا صنع لأحدكم خادمُه طعامه ثم جاء به، وقد وَليَ حَرَّه ودُخانه فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا قليلًا فليضع في يده منه أُكْلةً أو أُكْلَتين](3). قال داود وهو ابن قيس: يعني لقمة أو لقمتين.
الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن المقدام بن مَعْد يَكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أَطْعَمْتَ نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ ولدك فهو لك صدقة، وما أطعَمْتَ زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة](4).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} . قال مجاهد: (يعني متكبرًا، {فَخُورًا} قال: يعدّ ما أُعطي، وهو لا يشكر الله).
وقد حفلت السنة الصحيحة بأحاديث تحذر الكبر والفخر الجاهلي -أي على طريقة الجاهلية-:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جوّاظ مستكبر](5).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2545)، كتاب العتق، وأخرجه مسلم برقم (1661)، ورواه أحمد في المسند (5/ 158).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1662)، وأحمد (2/ 247)، والبيهقي (8/ 6)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1663)، كتاب العتق. وانظر مختصر صحيح مسلم (909).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 131)، والنسائي في "الكبرى"(9185).
(5)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 507)، (10/ 408)، وأخرجه مسلم (2853).
يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناس] (1).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [بينما رجل يمشي في حلة تُعْجِبُه نفسُه، مُرَجِّلٌ رأسَهُ، يختال في مِشْيَتِه، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة](2).
الحديث الرابع: أخرج الحاكم بسند صحيح عن مُطَرِّف قال: [كان يَبْلُغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءَه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم: "إن الله يحب ثلاثة ويبْغض ثلاثة"؟ فقال: أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي، ثلاثًا؟ قلت: مَن الثلاثة الذين يَبْغضُ الله؟ قال: المختال الفخور، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل؟ ثم قرأ الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}](3).
الحديث الخامس: أخرج الإمام أحمد من حديث أبي تميمة عن رجل من بَلْهُجَيم قال: قلت: يا رسول الله، أوصني. قال:[إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله لا يحبّ المَخيلة](4).
37 -
39. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (91)، وأبو داود (4091)، وأخرجه الترمذي (1999).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 221)، (10/ 222)، وأخرجه مسلم (2088).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 88 - 89) ح (2446)، والبيهقي في "الشعب"(9549)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
(4)
إسناده صحيح. وجهالة الصحابي لا تضر. وهو جزء من حديث أطول. انظر مسند أحمد (5/ 63). و (5/ 64)، ح (20109)(20110).
الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}.
في هذه الآيات: ذمّ الله تعالى أهل البخل عن الإنفاق فيما أمرهم الله، من الأرحام واليتامى والمساكين. وفضح أهل الرياء الذين حملهم عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر على فساد نياتهم. ثم التقريع عليهم بأنه ما الذي كان يمنعهم من صدق الله الإيمان والاستعداد للقائه والإنفاق في سَبيله! ! والله تعالى غني عنهم محيط بأعمالهم ونيّاتهم سواء صَدقوا أم كذبوا.
قال طاووس: (البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ أن يشِح على ما في أيدي الناس. قال: يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحِلِّ والحرام، لا يقنع).
وقال قتادة: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وهم أعداء الله أهل الكتاب، بخلوا بحق الله عليهم، وكتموا الإسلامَ ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل).
وهذا تأويل محتمل، وإن كان السياق يدل على التأويل الأول، وهو البخل بالمال.
وفي التنزيل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 8 - 11]. وكذلك قوله تعالى في سورة التغابن: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](1).
وله شاهد في المسند، للإمام أحمد، من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ:[إياكم والشّح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه، برقم (2578)، كتاب البر والصلة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 195)، والحاكم (1/ 11)، والبيهقي (10/ 243)، وغيرهم.
وقوله: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . تأكيد لشدة البخل المؤدي لجحود النعمة، فلا تظهر عليهم في مطعم أو ملبس أو إعطاء.
وفي التنزيل: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} .
أخرج الإمام أحمد والنسائي عن والد أبي الأحوص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا آتاك الله مالًا فَلْيُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامتِه](1).
وله شاهد عند الطبراني من حديث زهير بن أبي علقمة ولفظه: [إذا آتاك الله مالًا فَلْيُرَ عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس](2).
وسببه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل سيِّئ الهيئة، فقال: ألك مال؟ قال: نعم كل أنواع المال. قال: فَلْيُرَ عليك، فذكره
…
وله شاهد عند البيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله عز وجل إذا أنعم على عبدٍ نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه، ويكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف](3).
وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} .
قال القرطبي: (فَصَلَ تعالى تَوَعُّدَ المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الأولى عدم المحبة والثاني عذابًا مهينًا).
وقال ابن كثير: (والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه).
وقال ابن جرير: (وجعلنا للجاحدين نعمة الله التي أنعم بها عليهم، من المعرفة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين به بعد علمهم به، الكاتمين نعته وصفته مَنْ أمرهم الله ببيانه له من الناس، {عَذَابًا مُهِينًا} يعني: العقاب المذل من عُذِّب بخلوده فيه، عَتادًا له في آخرته، إذا قدِمَ على ربه وَجَدَه).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 473)، والنسائي في السنن (8/ 180). وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (252).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني رقم (5308)، ورجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد (5/ 132).
(3)
أخرجه البيهقي (2/ 231/ 1) في "الشعب". وله شواهد. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1320).
قلت: ولا شك أن البخل والشح بريد إلى الكفر بالله ونعمه فأول المطاف البخل والشح، وأوسطه استحلال المحارم وسفك الدماء وقطيعة الأرحام، ونهاية المطاف الكفر بالمنعم سبحانه وجحود نعمه. وهذا يجمع بين الأقوال السابقة، ولله الفضل والمنة.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} . يعني: أنهم يقصدون السمعة والمدح وحصول الثناء عليهم من الناس والشهادة لهم بالكرم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: [قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركتهُ وشِرْكَهُ](1).
وفي صحيح مسلم عن سليمانَ بن يسارٍ قال: تفرَّق الناسُ عن أبي هُريرة. فقال له نَاتِلُ أهل الشام (2): أيها الشَّيْخُ! حَدِّثْني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أوَّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجلٌ استُشهدَ، فَأُتيَ به فَعرَّفَه نِعْمَتَه فَعَرَفها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قَاتَلْتُ فيكَ حتى استُشهدت، قال: كذبتَ، ولكنَّك قاتَلْتَ لأَنْ يُقال جَرِيءٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وعَلَّمهُ وقرأ القرآنَ، فأُتِيَ به، فَعَرَّفهَ نِعَمَهُ فَعَرَفها. قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وعَلَّمْتُهُ وقرأت فيكَ القرآنَ. قال: كذبتَ ولكنكَ تَعَلَّمتَ العِلْمَ ليُقال عالِمٌ، وقَرَأْتَ القرآن ليُقال هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقيَ في النار، ورجلٌ وسَّعَ الله عليه وأَعطاهُ من أصناف المال كُلِّه، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركْتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أن يُنْفَقَ فيها إلا أَنْفَقْتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فَعَلْتَ ليُقَال هو جوادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهِهِ، ثم أُلقي في النار](3).
وقوله: {وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
يعني: ولا يصدقون بوحدانية الله، ولا بالرجوع إليه يوم المعاد.
(1) حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم (2985)، كتاب الزهد والرقائق.
(2)
وفي رواية: ناتل الشامي، وهو ناتل بن قيس الحزامي الشامي من أهل فلسطين، وهو تابعي، وكان أبوه صحابيًّا، وكان ناتل كبير قومه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1905)، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرج الإمام مسلم عن عائشة قالت: [قلت: يا رسول الله! ابْنُ جُدْعانَ كان في الجاهلية يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكينَ، فهل ذاكَ نافِعُهُ؟ قال: لا يَنْفَعُهُ، إنه لم يَقُلْ يومًا: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين](1).
والخلاصة: أنَّ الرياء الذي كان عليه هؤلاء كان بسبب عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، واتخاذهم الشيطان وليًّا فَسَوَّلَ لهم وأملى لهم، ولهذا قال تعالى:{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} .
والمعنى: من يكن الشيطان له خليلًا وصاحبًا وناصحًا فساء الصاحِب وهلك المصحوب.
المعنى: أي شيء كان يمنع هؤلاء من صدق الإيمان بالله، والتصديق بالدار الآخرة، والاستعداد لها، والإنفاق في وجوه الطاعات مما رزقهم الله.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} . أي: بنياتهم وأعمالهم، فمهما أرادوا فهو محيط به، سواء أرادوا الدنيا والسمعة أو أرادوا الله ورضوانه والدار الآخرة.
40 -
42. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى أنه لا يبخس أحدًا من عباده شيئًا حتى لو كان مثقال ذرة، فيضاعف للمؤمن، ويعطي الكافر من الدنيا ثم يحبط عمله في الآخرة. فكيف - يا محمد - إذا أُحضر من كل أمة من يشهد عليهم وجئنا بك على كل الأمم شهيدًا. يومئذ يتمنى الذين جحدوا الله ونعمه وشكره لو سواهم الله والأرض فصاروا ترابًا شأن مصير البهائم، ولم يكتموا شيئًا بل فضحهم الله وأخزاهم.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (214)، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل. ورواه أيضًا برقم (2791)، وأخرجه أحمد (6/ 35)، والترمذي (3121).
فعن ابن عباس: (الذرة: رأس النملة). وقال مرة: (النملة الحمراء).
وقال يؤيد بن هارون: (زعموا أن الذرة ليس لها وزن).
قلت: وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فلها وزن عند الله وترجح بها كفة الميزان، كما قال جل ذكره:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
وقال تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16].
وقال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8].
وفي صحيح مسلم ومسند الطيالسي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله لا يظلم المؤمن حسنته، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة](1).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري- في حديث الشفاعة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقالَ دينار من إيمان فأخرجوه، ويُحرِّمُ الله صورَهم على النار، فيأتونهم وبعضُهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقَيْهِ، فَيُخرجون مَنْ عَرَفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقالَ نصفِ دينار فأخرجوه، فيُخرجون مَنْ عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقالَ ذرةٍ من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا. قال أبو سعيد: فإنْ لم تُصَدِّقوا فاقرؤوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَال ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]] (2). وفي رواية: "أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار، فيُخرجون خلقًا كثيرًا".
قال قتادة: (كان بعض أهل العلم يقول: لأن تفضُل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرّة، أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعًا).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2808)، والطيالسي (2011)، وأحمد (3/ 123)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7439)، كتاب التوحيد، وأخرجه مسلم برقم (183)، ورواه أحمد في المسند (3/ 16).
وقوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} . يعني: وإن تك زنةُ الذرة حسنة يضاعفها.
وفي الصحيحين عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل:[إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك في كتابه، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومَنْ همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هو همَّ بها فعمِلَها كتبها الله سيئة واحدة. زاد مسلم في رواية: أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك](1).
وقوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} . قال ابن مسعود: (أي: الجنة يعطيها). وقال سعيد بن جبير: (الأجر العظيم: الجنة).
وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} .
أخرج البخاري عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يجيء نوحٌ وأمته، فيقول الله: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم أي ربِّ! فيقول لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: لا، ما جاء لنا من نبي، فيقول لنوحٍ: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، والوسط: العدل، فيُدعون، فيشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم](2).
وصحَّ أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد لكل نبي أيضًا بالبلاغ حين يكذبه قومه يوم القيامة.
فقد أخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبيّ ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيُقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيُقال لهم: هل بلّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: مَنْ يشهدُ لك، فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمدٌ وأمتُه، فيقال لهم: هل بَلَّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فَيُقال: وما عِلْمُكم بذلك؟ فيقولون: جاءَنا نبيّنا، فأخبرنا أن الرسل قد بلّغوا فصدَّقناه، فذلك
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (131) ح (207)، (208). ورواه بنحوه البخاري. انظر صحيح الجامع (1792)، وتفصيل الروايات في كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 219).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3339)، كتاب أحاديث الأنبياء. وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7890).
والخلاصة في المعنى: كيف إذا جئنا من كل أمة بمن يشهد عليها بأعمالها، وتصديقها رسلَها أو تكذيبها، وجئنا بك يا محمد على كل الأمم شهيدًا، بما فيها أمتك.
قال ابن جريج: ({فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}، قال: رسولها، فيشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى عليها فاضت عيناه).
فكل رسول يشهد على أمته، ثم يجيء محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون على جميع الأمم، ولا شك أن هذه الآية أبكت نبينا صلى الله عليه وسلم عندما سمعها تُتلى عليه.
ففي الصحيحين والمسند عن عبد الله بن مسعود قال: [قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ. فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: نعم، إني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: حَسْبُكَ الآن. فإذا عيناه تَذْرِفان](2).
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ} . أي: يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وتعظيمه وعصوا رسوله. {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} يعني لو سوّاهم الله والأرض فصاروا ترابًا مثلها شأن مصير البهائم.
وقرأها قراء الكوفة {لَوْ تُسَوَّى} . وقراء الحجاز ومكة والمدينة: {لو تَسَّوَّى} .
وقرأها غيرهم: {لو تُسَوى} ، وكلها قراءات مشهورة.
وقوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} فيه أكثر من تأويل:
1 -
قال قتادة: (معناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا).
2 -
قال ابن عباس: (لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (6/ 286)، ومسند أحمد (2/ 32)، ورواه النسائي. انظر صحيح الجامع (7889). من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5050)، ومسلم (800)، وأحمد (1/ 380)، وأخرجه أبو داود (3668)، وأخرجه النسائي (125) في "التفسير"، وأخرجه الترمذي (3028)، وابن حبان (735)، وغيرهم. من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثًا).
3 -
وقال الزجاج: (قال بعضهم: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} مستأنف، لأن ماعملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى: يودّ لو أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثًا لأنه ظهر كذبهم).
قلت: وكلها معان يحتملها البيان الإلهي المعجز، فإن صدقوا فأعمالهم تدل عليهم، وإن كتموا وكذبوا أنطق الله جوارحهم فشهدت بما كان من مكرهم وصنيعهم وشركهم.
43.
في هذه الآية: نَهْيُ الله المؤمنين أن يُصَلُّوا حالة سكرهم في تمهيد لتحريم الخمر، ولا جنبًا حتى يغتسلوا، وإباحة التيمم عند فقدان الماء.
قال مجاهد: (نُهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريمُ الخمر).
أخرج الإمام أحمد والإمام مسلم وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: [نزلت فيَّ أربع آيات: صنع رجل من الأنصار طعامًا، فدعا أناسًا من المهاجرين وأناسًا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجلٌ لَحْيَ بعير ففَزَر به أنف سعد، فكان سعد مَفْزور الأنف، وذلك قبل تحريم الخمر، فنزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}
…
الآية] الحديث (1).
وأخرج الترمذي بسند صحيح عن علي بن أبي طالب قال: [صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدّموني فقرأت {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ونحن نعبد
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1748) ح (34)، و (4/ 1878) ح (44)، وأخرجه أبو داود (208)، وأحمد (1/ 185 - 186)، والترمذي (3189)، وهو جزء من حديث أطول.
ما تعبدون، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ] (1).
وقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} .
تحذير مما يكون حالة السكر من التخليط بالقراءة وفقدان التدبر والخشوع في الصلاة. وقد حذرت السنة النعسان المغلوب من استمرار القيام في الليل، فربما يدعو على نفسه من حيث لا يدري.
أخرج البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فَلْيَنَمْ حتى يعلم ما يقول](2).
وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة: [إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع].
وفي لفظ عنده من حديث عائشة: [إذا نعس أحدكم فليرقد، حتى يذهب عنه النوم، فإنه إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه](3).
كما حذرت السنة من كل ما يشوش على المصلي ويشغله عن الإقبال بقلبه على الله كالجوع ومدافعة الأخبثين. ففي سنن أبي داود بسند حسن من حديث أبي هريرة قال: [لا يصلين أحدكم وهو حاقن](4). وروى مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافِعهُ الأخبثان](5). وروى عنها أيضًا مرفوعًا: [إذا حضر العَشاء وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعَشاء](6).
وقوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} .
اختلف فيه أهل التأويل على أقوال، أقربها للمعنى الصحيح الموافق للسنة الصحيحة ما يأتي:
1 -
قال ابن عباس: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} ، يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم
(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2422) - كتاب التفسير - سورة النساء، آية (43).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (213)، والنسائي (1/ 215) ح (442)، وأحمد (3/ 100).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (212)، وصحيح مسلم (786)، ومسند أحمد (6/ 56).
(4)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (91)، والحاكم (1/ 168) وصححه، ووافقه الذهبي، وله شواهد.
(5)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح برقم (560)، وأخرجه أبو داود في السنن برقم (89).
(6)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (671)، (5465)، وأخرجه مسلم (558)، وأحمد (6/ 40).
جُنب إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللتُ لكم أن تمسّحوا بالأرض).
2 -
وقال علي رضي الله عنه: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} ، قال:(إلا أن تكونوا مسافرين فلم تجدوا الماء، فتيمّموا) ذكره ابن جرير.
3 -
وقال مجاهد: (المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمّم، فيدخلُه فيصلي). وقال: (مسافرين، لا يجدون ماء فيتيممون صعيدًا طيبًا، لم يجدوا الماء فيغتسلوا).
وأما ما ذكر الحسن: (الجنب يمر في المسجد ولا يقعُد فيه)، وكذلك ما ذكر ابن مجاهد عن أبيه:(لا يمر الجنب في المسجد يتخذه طريقًا) فلا دليل على هذا المنع.
أضف إلى ذلك أن استنادهم في ذلك إلى أحاديث ضعيفة منها: [إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب] فهو ضعيف عند المحدثين، فيه أفلت العامري - مجهول - قاله الخطابي. وفيه جَسْرة. قال البخاري: عند جسرة عجائب. وفيه محدوج لم يوثق. والحديث في ضعيف سنن أبي داود.
وكذلك استنادهم لحديث: [يا علي، لا يحل لأحدٍ أن يُجْنِبَ في هذا المسجد غيري وغيرك]. أخرجه الترمذي وهو ضعيف، فيه علتان: عطية العوفي وسالم بن أبي حفصة كلاهما واهٍ.
وخلاصة المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا عابري سبيل في سفر ولم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدًا طيبًا. وهذا هو المعنى الذي يتوافق مع السنة الصحيحة: ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخُمْرَة من المسجد. فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضَتَك ليست في يدك](1).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: [لقِيَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا جُنُبٌ، فأخذ بيدي، فمَشَيْتُ معه حتى قَعَدَ، فانْسَلَلْتُ فأتيتُ الرَّحْلَ فاغْتَسَلْتُ، ثم جئت وهو قاعِدٌ فقال: أين كنتَ يا أبا هريرة؟ فقلت له: فقال: سبحان الله يا أبا هريرة! إنَّ المؤمن لا يَنْجُسُ](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (298)، وأبو داود (261)، والنسائي (1/ 192)، والترمذي (134)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 114).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (285)، كتاب الغسل. باب: الجُنُبُ يخرج ويمشي في السوق وغيره. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الصعيد الطيّب طَهورُ المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حِجَج، فإذا وجدت الماء فأمسَّهُ بشرتك، فإن ذلك خير](1).
ويشهد للمعنى السابق أيضًا ما رواه الإمام أحمد عن سعيد بن منصور في سننه بسند صحيح أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال سعيد بن منصور في سننه: [حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو الدّراورْدِيُّ - عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجلسون في المسجد وهم مُجْنِبُون، إذا توضوؤوا وُضوءَ الصلاة]. ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير، وقال: وهذا إسناد على شرط مسلم.
المرض المبيح للتيمم مع وجود الماء هو كل مرض لا ينصح معه باستعمال الماء لأنه يزيده أو يؤذي صاحبه. يروي ابن جرير بسنده عن ابن مسعود قال: (المريض الذي قد أرخص له في التيمم، هو الكسير والجريح. فإذا أصابت الجنابة الكسيرَ اغتسل، ولم يحلّ جبائره. والجريح لا يحل جراحته، إلا جراحة لا يخشى عليها).
قال ابن كثير: (أما المرض المبيح للتيمّم، فهو الذي يُخاف معه من استعمال الماء، فوات عضو أو شَيْنه أو تطويل البرء. ومن العلماء من جوز التيمّم بمجرد المرض لعموم الآية).
وقال الشافعي: (لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف)، وبه قال مالك.
قلت: وأشمل ما ذكر هو قول ابن كثير رحمه الله، فكل مرض يخشى معه من استعمال الماء بتأخر البرء أو الإفساد لبعض مناطق الجسم وأعضائه فيباح فيه التيمم.
وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} . يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء. وهو مذهب مالك.
قلت: ولا يقتصر التيمم على السفر بل يجوز في الحضر في الحالات التالية:
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (332)، وأحمد (5/ 155)، والترمذي (124)، وغيرهم.
1 -
عند الحاجة للماء للطعام والشراب، وعدم كفاية الماء المتوفر للطهارة.
2 -
عند البرد الشديد وصعوبة التسخين في الوقت وخشية الأذى من ذلك الماء البارد في الطقس البارد.
3 -
عند المرض في الحضر وخشية إمرار الماء على العضو المصاب.
وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} . يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم.
أخرج البخاري عن أبي الجُهَيْم بن الحارث بن الصِّمّة الأنصاري قال: [أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو "بئر جَمَلٍ" (1) فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجِدار فمسح بوجهه ويديه، ثم ردّ عليه السلام](2).
ورواه الدَّارقُطْنِيّ من حديث ابن عمر وفيه: [ثم ردّ على الرّجل السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أردّ عليك إلا أني لم أكن على طهر](3).
وقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} .
قُرِئ {لَمَسْتم} و"لامستم". وفيه قولان:
1 -
عني بذلك كلّ لمس، بيدٍ كان أو بغيرها. وأوجبوا منه الوضوء. وهو قول الشافعي وأصحابه، ومالك، والمشهور عن أحمد. وحجتهم أنه ببعض القراءات {لَمَسْتم} والنبي صلى الله عليه وسلم قال لِمَاعِزٍ حين أقرّ بالزنا:[لعلك قتلت أو لَمَسْت]. وقول ابن مسعود: (اللمس ما دون الجماع) ذكره ابن جرير. وقوله أيضًا: (يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده، ومن القُبلة).
2 -
عني بذلك الجماع دون ما سواه.
قال ابن عباس: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} : الجماع) رواه ابن أبي حاتم.
ويروي ابن جرير بسنده عن سعيد بن جُبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع. وقال ناس من العرب: اللمس الجماعُ. قال: فأتيت ابن عباس فقلت له: إن ناسًا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس
(1) موضع قرب المدينة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (337)، وبنحوه أخرجه مسلم (369)، وأخرجه النسائي (1/ 165)، وكذلك أخرجه ابن حبان (805).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (16)، والدراقطني (1/ 177) من عدة طرق، وسنده قوي.
بالجماع. وقالت العرب: الجماع. قال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: من الموالي. قال: (غُلب فريقُ الموالي. إن اللمس والمسَّ والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء).
قلت: ولا عبرة باستخدامات اللفظ المختلفة في زمن التنزيل، إنما العبرة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعه.
فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم: قَبَّلَ امرأة من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ](1).
قال عروة: فقلت لها: من هي إلا أنت؟ فضحكت (2).
وروى عن عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها ولم يتوضأ](3).
وله شاهد عند الإمام أحمد والنسائي عنها قالت: [كان يُقَبِّلُ بعضَ أزواجه، ثم يصلي ولا يتوضأ](4).
فالتقبيل مسٌّ وزيادة، وهذه الأحاديث الصحيحة تقطع الخلاف عند من نوّر الله حياته بعلم الحديث، ومن ثمَّ فاللمس المقصود بالآية بعد الاستئناس بالسنة الصحيحة هو الجماع، وهذا يوافق مرونة الشريعة ومقاصدها، فالحرج كل الحرج أن يتوضأ العبد لكل لمس عارض ليد أخته أو أمه أو زوجته أو ما يكون في طريق الناس وازدحام أسواقهم.
وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .
منه استنبط الفقهاء القاعدة المشهورة: (إذا حضر الماء بطل التيمم).
أخرج البخاري ومسلم عن عِمْران بن حُصين: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا معتزلًا لم يصل في القوم، فقال: يا فلان، ما منعك أن تُصَلّي مع القوم؟ ألست برجل مسلم؟
(1) حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود (165)، باب الوضوء من القُبلة.
(2)
هو عروة بن الزبير، الراوي عن عائشة وهو ابن أختها.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (164)، الباب السابق.
(4)
حديث صحيح. رواه أحمد في المسند، والنسائي في السنن. انظر صحيح سنن النسائي (164).
ورواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (4873).
قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك] (1).
والتيمّم لغة: القصد. والصعيد: كل ما سعد على وجه الأرض. ومن ثمّ فإن كل ما هو من جنس الأرض من التراب والرمل والحجر والجدران داخل في ذلك. والطيب: قيل الحلال، أو الذي ليس بنجس.
ففي صحيح مسلم عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعِلت صُفُوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلُّها مسجدًا، وجُعِلت تربَتُها لنا طَهورًا إذا لم نجدِ الماء]. وفي لفظ: [وجعل ترابها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء](2).
وفي مسند أحمد وجامع الترمذي وصحيح الحاكم عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الصعيد الطيِّبَ وَضُوء المسلم وإن لم يجد الماء عشرَ سنين، فإذا وجد الماء فليُمسَّه بشرتهُ، فإنّ ذلك هو خير](3).
وفي لفظ: [إن الصعيد الطيب طهور ما لم تجد الماء ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمِسَّه بشرتَك].
وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} .
أخرج البخاري ومسلم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: [أجنبت فلم أصب ماء، فتمعكت (4) في الصعيد وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك هكذا. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه](5).
وفي المسند عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[التيمم ضربة للوجه والكفين](6).
وسيأتي سبب نزول آية التيمم في أول سورة المائدة إن شاء الله تعالى.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (344) و (348)، ومسلم (682)، وأخرجه أحمد (4/ 434).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (522)، والنسائي في "الكبرى"(8022)، وأحمد (5/ 383).
(3)
حديث صحيح. انظر مسند أحمد (5/ 155)، وسنن الترمذي (124)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1663)، وكذلك رقم (1662) للفظ الذي بعده.
(4)
فتمعكت: تمرغت.
(5)
متفق عليه. أخرجه البخاري (347/ 455/ 1)، ومسلم (368/ 280/ 1)، والنسائي (166/ 1).
(6)
حديث صحيح. رواه أحمد وغيره. انظر صحيح الجامع (3017)، وهو في معنى الحديث السابق.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} . أي: عفوًا عن ذنوب عباده، ما لم يشركوا به، {غَفُورًا} فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم كما غفر وستر عن صلاتهم في ما مضى سكارى.
44 -
46. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}.
في هذه الآيات: فضحُ الله اليهود في تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم وقد عرفوه، وفي سلوكهم الفاسد وتعاملهم المنكر، وطردهم من رحمة الله بكفرهم.
قال قتادة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} ، فهم أعداء الله اليهود، اشتروا الضلالة).
والمقصود باشترائهم الضلالة: تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتركهم الإيمان به وهم عالمون أن الواجب عليهم كما جاء في كتبهم الإيمان به.
وقوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} . أي: يود هؤلاء اليهود لو تكفرون بما أنزل عليكم فتشابهونهم في الضلال.
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} . أي: بعداوة هؤلاء اليهود ومكرهم بكم أيها المؤمنون، فاحذروا الوقوع في أهوائهم.
وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} . أي: حسبكم الله يحرسكم من أعداء دينكم. {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} أي: وينصركم عليهم.
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} . {مِنَ} لبيان الجنس. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي: يبدلون معناها ويغيِّرونها عن تأويله. قال مجاهد: (تبديل اليهود التوراة).
وقوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} . قال ابن زيد: (قالوا: قد سمعنا، ولكن لا نطيعك). وقال مجاهد: (قالت اليهود: سمعنا ما تقول ولا نطيعك). يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} - فيه قولان:
1 -
قال الحسن: (كما تقول اسمع غيرَ مسموع منك).
2 -
وقال الضحاك عن ابن عباس: (أي: اسمع ما نقول، لا سمعت)، وهذا استهزاءٌ منهم واستهتار. واختاره ابن جرير.
وقوله: {وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} .
قال ابن عباس: (فإنهم كانوا يستهزئون، ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطعنون في الدين).
فهم يُوهِمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم راعنا، وإنما يريدون الرعونة، وقد مضى الكلام في ذلك في سورة البقرة، آية (104)، وكيف يستخدمون ذلك في سب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: (ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم، قالوا لنبي الله: سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا أمرك، وقبلت ما جئتنا به من عند الله، واسمع منا، وانظرنا ما نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا
…
لكان ذلك خيرًا لهم عند الله، {وَأَقْوَمَ} يقول: وأعدل وأصوب في القول).
وقوله: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} .
المعنى: ولكن استمرارهم على صفة التكبر والمكر أبعدهم عن الله، فلا يؤمنون إيمانًا نافعًا ينجيهم، وإنما هو خليط من التشكيك والاستهزاء والكبر والغرور.
47 -
48. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}.
في هذه الآيات: الخطاب موجه لأهل الكتاب، يأمرهم به الله سبحانه أن يؤمنوا بالقرآن الكريم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي فيه تصديق ما بأيديهم من بشارات
التوراة والإنجيل، وذلك قبل أن ينالهم ما يكرهون من طمس الوجوه واللعن وغير ذلك من أسباب الخزي والهلاك. فإن الله تعالى لا يغفر الشرك به وقد يغفر ما دون ذلك من الأعمال لمن يشاء، فالشرك أكبر الإثم وأعظم الظلم.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} - فيه أكثر من تفسير:
التفسير الأول: محوه آثارها حتى تصير كالأقْفاء، أو نطمس أبصَارها فنصيّرها عمياء، أوْ نجعل أبصارها من قبل أقفائها.
قال ابن عباس: (وطمسها: أن تعمى. {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، يقول: أن نجعل وجوههم من قبل أقفِيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه).
وقال قتادة: (نحول وجوهها قبل ظهورها).
التفسير الثاني: أن نعمي قومًا عن الحق فنردهم في الضلالة والكفر.
قال مجاهد: ({أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، فنردها عن الصراط، عن الحق، {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}، قال: في الضلالة).
وقال الضحاك: (يعني: أن نردهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردَّهم على أدبارهم، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به).
التفسير الثالث: أن نمحو آثارهم فنردهم من حيث جاؤوا من الشام.
قال ابن زيد: ({مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} قال: كان أبي يقول: إلى الشأم).
التفسير الرابع: أن نمحو آثارها فنجعل الوجوه منابت الشعر كالقردة، لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم.
واختار ابن جرير التفسير الأول: أي من قبل أن نطمس أبصار وجوههم ونمحو آثارها فنسويها بالأقفاء، فيمشون القهقرى، فإن السياق يقتضيه.
وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} . أي: نحولهم قردة. قاله قتادة والحسن.
وقال ابن زيد: (هم يهود جميعًا، نلعن هؤلاء كما لعنّا الذين لعنّا منهم من أصحاب السبت).
وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} . أي: لا يُخالف ولا يمانَع.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
المعنى: من لقي الله وهو يشرك به لا يغفر له، ويغفر سبحانه ما دون ذلك من الذنوب لمن شاء من عباده.
وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا المعنى، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي ذر قال: [أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. ثلاثًا، ثم قال في الرابعة: على رَغْم أنف أبي ذر. قال: فخرج أبو ذر وهو يجرُّ إزاره وهو يقول: وإن رَغِمَ أنف أبي ذر. وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر](1).
الحديث الثاني: أخرج الإِمام مسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار](2).
الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: يا ابن آدم! مهما عَبَدتني ورجَوتني ولم تشرك بي شيئًا غفرتُ لك على ما كان منك، وإن استقبلتني بملء السماء والأرض خطايا وذنوبًا استقبلتك بملئهنَّ من المغفرة، وأغفِرُ لك ولا أبالي](3).
الحديث الرابع: أخرج البزّار بسند جيد عن نافع، عن ابن عمر قال:[كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وقال أخَّرْتُ سْفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة](4).
وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} .
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5827)، ومسلم (94) ح (154)، وأحمد (5/ 166).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (93)، كتاب الإيمان. باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار. وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 72)، لتمام البحث.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (4217)، ومسند أحمد (5/ 154)، (5/ 153).
(4)
إسناده جيد. أخرجه البزار -حديث رقم- (3254)، وذكره ابن كثير في التفسير، وله شواهد.
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله قال: [قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك .. ] الحديث (1).
وفي التنزيل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
49 -
52. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)}.
في هذه الآيات: ذم الله الذين يزكون أنفسهم من أهل الكتاب، ويفترون على الله الكذب، ويؤمنون بالجبت والطاغوت، ويمدحون المشركين ويطعنون بالمؤمنين، أولئك الذين طردهم الله من رحمته في الملعونين.
قال قتادة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ، وهم أعداء الله اليهود، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه، فقالوا:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وقالوا: لا ذنوب لنا).
وقال الضحاك: (قالت اليهود: ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون! فإن كانت لهم ذنوب فإن لنا ذنوبًا! فإنما نحن مثلهم، قال الله تعالى ذكره:{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} .
وقال الحسن: (هم اليهود والنصارى، قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}. وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}).
وقيل: تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإمامتهم في الصلاة زعمًا أنه لا ذنوب
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6001)، كتاب الأدب، وأخرجه مسلم برقم (76)، ورواه أحمد في المسند (1/ 434)، وغيرهم.
لهم. أو زعمهم أن أبناءهم سيشفعون لهم. وكله مرجوح بالقول الأول المناسب للسياق.
وقد جاءت السنة الصحيحة بذم التمادح والتزكية، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن المقداد بن الأسود قال: [أَمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن نحثوَ في وجود المداحين التراب](1).
وفي لفظ: [إذا رأيتم المداحين، فاحْثوا في وجوههم التراب].
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى قال: [سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يُثني على رجل ويُطريه في المِدْحة، فقال: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل](2).
والإطراء المبالغة في المَدْح.
الحديث الثالث: أخرج الشيخان من حديث أبي بكرة وفيه: "إن كان أحدكم مادحًا لا محالة، فليقل: أحْسبُ كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، ولا يزكي على الله أحدًا] (3).
وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} .
1 -
قال ابن عباس: (الفتيل ما خرج من بين إصبعيك). يعني من الوسخ، إذا فتلت إحداهما بالأخرى.
2 -
وقال عطاء: (الفتِيل، الذي في بطن النواة). وقال مجاهد: (الفتيل، في النّوى).
3 -
وقال الضحاك: (الفتيل، شق النواة).
وكلها معان محتملة، مفادها أن الله يزكي من يشاء من خلقه فيوفقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه، ولا يظلم أحد عنده مقدار الفتيل.
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} يعني الذين يزكون أنفسهم من أهل
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (3002)، والبخاري في "الأدب المفرد"(339)، وأحمد (6/ 5).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (2662)، وصحيح مسلم -حديث رقم- (3000)، ومسند أحمد (5/ 46)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (10/ 397)، (10/ 398)، وصحيح مسلم (3000)، (3001)، وكذلك سنن أبي داود (4805)، وسنن البيهقي (10/ 242).
الكتاب ويقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وأنه لا ذنوب لهم، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، إلى غير ذلك من الزور والكذب.
وقوله: {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} . قال ابن جرير: (يعني أنه يبين كذبهم لسامعيه، ويوضح لهم أنهم أَفَكَةٌ فجرة).
أخرج الإِمام أحمد وابن حبان بسند صحيح عن ابن عباس قال: [لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم، قال: نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية. قال: أنتم خير منه، قال: فأنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}. وأنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}](1).
وفي قوله: {بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} أقوال:
1 -
قال عكرمة: (الجبت والطاغوت صنمان).
2 -
قال ابن عباس: (الجبت: الأصنام، والطاغوت: الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبّرون عنها الكذب ليضلوا الناس).
3 -
قال مجاهد: (الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان).
وقال: (والطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم).
4 -
قال سعيد بن جبير: (الجبت: الساحر، بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن).
والجمع بين هذه الأقوال: الجبت والطاغوت اسمان لكل معظَّم بعبادة من دون
(1) حديث صحيح. ورواه ابن جرير (9791) ورجاله رجال الصحيح. وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول -الوادعي- سورة النساء آية (54). والصنبور المنبتر: كناية عن الرجل الضعيف الذليل بلا أهل ولا عقب ولا ناصر.
الله، فيدخل في ذلك الحجر والإنسان والكاهن والساحر والشيطان، ومن دعا إلى عبادة نفسه، ومن عُبد وهو راض، وكل منهج يخالف شريعة الله ومنهجه الذي ارتضى لعباده.
وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} . يعني: أخزاهم وأبعدهم من رحمته بسبب إيمانهم بالجبت والطاغوت وكفرهم بالله ورسوله. {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} . يعني: من يخزه الله ويطرده من رحمته فلا ناصر له ولا منقذ.
53 -
55. قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}.
في هذه الآيات: ذمُّ القوم من أهل الكتاب الموصوفين بالبخل، والحاسدين لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه على النبوة والصحبة، وقد كانت النبوة فيهم من قبل والملك، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وكفى بجهنم سعيرًا.
قال ابن كثير: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} ؟ وهذا استفهام إنكاري، أي ليس لهم نصيب من الملك. ثم وصفهم بالبخل، فقال:{فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} : أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدًا من الناس ولا سيما محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا ما يملأ النقير).
قال ابن عباس: ({نَقِيرًا} يقول: النقطة التي في ظهر النواة). وقال مجاهد: (النقير، حبَّة النواة التي في وسطها).
والخلاصة: لقد وَصف الله هؤلاء القوم من أهل الكتاب بالبخل بالشيء اليسير الدنيء، حتى لو كانوا أهل سعة وقدرة. كما قال سبحانه في سورة الإسراء:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} . والقتور: البخيل.
وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
المعنى: توبيخ من الله لهؤلاء اليهود على حسدهم محمدًا وأصحابه، على اختياره الله سبحانه للنبوة، واختيار الأصحاب للجندية والمتابعة.
قال مجاهد: {النَّاسَ} محمدًا صلى الله عليه وسلم). وقال قتادة: (أولئك اليهود، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله). وقال ابن عباس: (نحن الناس دون الناس).
وقوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} . يعني جعلنا النبوة في ذرية إبراهيم، وأنزلنا عليهم الكتاب والسنن وجعلنا منهم الملوك.
وقولُه: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} . يعني بما اصطفينا للنبوة. {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أي: كفرَ وأعرض عنه قال مجاهد: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} : بما أنزل على محمد من يهود، {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} ).
وقوله: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} . أي: كفى بالنار لهيبًا وعقوبة وألمًا لمن كان من أهلها.
56 -
57. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}.
في هذه الآيات: آية هي من أشد آيات القرآن هولًا ورهبة ووعيدًا، يخبر بها سبحانه عن حال مقيت لأهل النار، وعن مصير فاجع مؤلم رهيب. وآية تقابل الأولى تَنْعَتُ الحال الهنيء لأهل الإيمان والعمل الصالح، في روضات الجنات حيث الظل الظليل وجريان الأنهار والزوجات المطهرة ذات الجمال.
فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} - أي: ندخلهم فيها لتذوق أجسامهم لهيبها.
وقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} .
يروي ابن جرير بسنده عن ابن عمر قال: (إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودًا بيضًا أمثال القراطيس). وقال قتادة: (كلما احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها). أي: هم في عذاب دائم يشبه ديمومة كفرهم في الأرض ومكرهم المتتابع بالرسل والمؤمنين.
وقوله: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} . أي: ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته، مقابلة لما كانوا يستكبرون ويبغون في الأرض بغير الحق.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} . أي: {عَزِيزًا} في انتقامه ممن عانده، {حَكِيمًا} في تدبيره وقضائه.
وقد جاءت السنة الصحيحة بوصف بعض ألوان العذاب للكفار ونعت بعض صفاتهم آنذاك:
الحديث الأول: أخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما بين منكبي الكافر في النار مسيرةُ ثلاثة أيام للراكب المسرع].
وفي رواية: [ضِرسُ الكافر مثل أحد، وغِلظ جلده مسيرة ثلاث](1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعًا، وإن ضِرْسَهُ مثل أحد، وإن مَجْلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة](2).
الحديث الثالث: أخرج الإِمام مسلم عن سمرة بن جندب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حُجْزَتِه، ومنهم من تأخذه النار إلى تَرْقُوَتِه](3).
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1983)، وكتابي: أصل الدين وإلإيمان (2/ 766) لمزيد من تفصيل عن صفة النار وصفة أهلها وأحوالهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3/ 342)، والحاكم (4/ 595). وانظر تخريج المشكاة (5675)، والسلسلة الصحيحة (1105)، وصحيح الجامع (2110) بزيادة:"وأربعون ذراعًا بذراع الجبار" أي: من جبابرة الآدميين ممن كان في القرون الأولى وأحسبه ملكًا من ملوك الأعاجم كان تام الذراع، وكان أعظم خلقًا وأطول أعضاء وذارعا من الناس.
(3)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1953) في تفصيل أكبر من حديث المقداد. والحجزة: وسط الإنسان، ومعقد إزاره.
الحديث الرابع: أخرج الحاكم في المستدرك بسند حسن عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل النار ليبكون، حتى لو أُجريت السفن في دموعهم جَرَتْ، وإنهم ليبكون الدم] (1).
هذه هي الصورة المقابلة للصورة الأولى. فجنات الخلود والنعيم والسعادة والاستقرار، وهي تجري من تحتها الأنهار، من ثواب العاملين المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} . قال ابن عباس: (مطهرة من الأقذار والأذى).
وقال مجاهد: (مطهرةٌ من البول والحيض والنُّخام والبزاق والمني والولد).
وقال قتادة: (مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كَلَف).
والمقصود أن الله سبحانه هيأ للمؤمنين في الجنة أزواجًا جمعن من الحسن والجمال والأدب والطهارة والفتنة والبهاء أعلى درجاته.
وقوله: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} . أي: ظلًّا كنينًا عميقًا ممدودًا. قال تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لشجرةً يسير الراكبُ الجوادَ المضمَّرَ السريع في ظلها مئة عام ما يقطعها] (2). زاد ابن جرير في رواية عنده: (اقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}).
58.
في هذه الآية: أَمْرٌ من الله سبحانه بأداء الأمانات إلى أهلها، وإقامة العدل عند الحكم بين الناس، فنعم الأمر هو من المنعم الكبير السميع البصير.
(1) حديث حسن. أخرجه الحاكم (4/ 605). انظر السلسلة الصحيحة، حديث رقم (1679).
(2)
حديث صحيح. وانظر صحيح البخاري (3251) من حديث أنس، وصحيح مسلم (2828) من حديث أبي سعيد. وانظر اللفظ السابق في صحيح الجامع - حديث رقم (2121).
أخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء](1).
وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك](2).
قال أبو العالية: (الأمانة ما أمروا به ونُهوا عنه). وقال أبيّ بن كعب: (من الأمانات أن المرأة اؤْتُمِنَتْ على فَرْجها). وقال ابن عباس: (يدخل فيه وَعْظُ السلطان النساء، يعني يوم العيد). وقال الربيع بن أنس: (هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس).
وفي الصحيح: [وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا].
وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} .
هذا أمر للولاة بإقامة العدل في الحكم بين الناس، ويدخل في ذلك كل من وُكل إليه أمر الفصل بين الناس في شؤونهم المختلفة، وأمر القضاء.
أخرج الإِمام أحمد بسند حسن عن معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى مع القاضي ما لم يَحِفْ عمْدًا](3).
ورواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى بلفظ: [إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجرْ، فإذا جارَ تبرّأَ منه، وألزمه الشيطان].
ورواه ابن حبان عنه بلفظ: [إن الله مع القاضي ما لم يَجُرْ عمدًا، فإذا جار وكلهُ إلى نفسه].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} .
أي: نعم ما يعظكم الله به من أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، فهو سبحانه لم يزل سميعًا بما تقولون وتنطقون، بصيرًا بما تعملون وتفعلون فيما وكل إليكم حفظه من الأمانة أو الرعية.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2583)، كتاب البر والصلة، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 235).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، وانظر صحيح الجامع (238).
(3)
حديث حسن. ورواه الطبراني عن ابن مسعود. انظر تخريج المشكاة (3741)، وصحيح الجامع الصغير (1824)، وانظر لرواية الحاكم وابن حبان بعده صحيح الجامع الصغير، الحديث رقم (1822)، (1823)، ورواه الترمذي وغيره.
أخرج أبو داود وابن خزيمة في الصفات بسند على شرط مسلم، عن المقري، حدثنا حرملة، حدثني أبو يونس، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، ويضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه ويقول:[هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع إصبعيه](1).
59.
في هذه الآية: أمْرُ الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وأمراء الحق والعلماء من بعدهم، وَبِرَدِّ الأَمْرِ عند الخلاف إلى الأصلين العظيمين: الكتاب والسنة، ذلك هو السبيل القويم لمن آمن بالله واليوم الآخر.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: [{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عَدِيّ إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرِية](2).
وعن عطاء: ({أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، قال: طاعة الرسول، اتباعُ سنته). أو قال: (طاعة الرسول، اتباع الكتاب والسنة). وقد ورد أكثر من قول في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} :
1 -
قال أبو هريرة: (هم الأمراء) - ذكره ابن جرير.
2 -
وقال مجاهد: (أولي الفقه منكم). أو قال: (أولي الفقه والعلم).
3 -
وقال ابن أبي نجيح: (أولي الفقه في الدين والعقل).
4 -
وقال ابن عباس: (يعني: أهل الفقه والدين).
(1) حديث على شرط مسلم. أخرجه أبو داود (4728)، وابن حبان (265)، وابن خزيمة في "الصفات" ص 42 - 43. وأورده الحافظ ابن كثير. النساء (58).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4584)، ومسلم (1834)، وأبو داود (2624)، وغيرهم.
5 -
قال مجاهد: (أهل العلم). وقال عطاء: (الفقهاء والعلماء).
6 -
وقال مجاهد في رواية: (أصحاب محمد). وقال عكرمة: (أبو بكر وعمر). واختار ابن جرير أنهم الأمراء والولاة. وقال الحافظ ابن كثير: (والظاهر -والله أعلم- أن الآية عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء).
قلت: ولا شك أن الأمراء المسلمين من الخلفاء والحكام ومن قام بالأمر منهم على منهاج الكتاب والسيرة النبوية يجب طاعتهم، فإن غابوا أو غاب الحكم بالإِسلام فالواجب طاعة العلماء الربانيين الذين هم يقتفون أثر المنهج النبوي لإعادة بناء جماعة المسلمين واستئناف الخلافة في الأرض والشوكة. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمعُ والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ وكَرِه، ما لم يؤمَرْ بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة] (1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[اسمعوا وأطيعوا، وإن أُمِّرَ عليكم عبدٌ حَبَشيٌ كأن رأسه زبيبة](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن عُبادة بن الصامت قال: [بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطِنا ومكرهنا، وعُسْرنا ويُسْرِنا، وأثرَةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كُفرًا بَواحًا عندكم فيه من الله برهان](3).
الحديث الرابع: أخرج الإِمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [أوصاني خليلي أن أسمع وأُطيعَ، وإن كان عبدًا حبشيًا مُجَدَّعَ الأطراف](4).
الحديث الخامس: أخرج البخاري ومسلم، وأحمد واللفظ له، عن علي قال: [بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار، فلما خرجوا وَجَدَ عليهم في شيء، فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: اجمعوا لي حطبًا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخُلُنَّها.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2955) و (7144)، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه (1839)، ورواه أحمد (2/ 17)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (693) و (7142)، وابن ماجه (2860)، وأحمد (3/ 114).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (7055 - 7056)، ومسلم (1840) ح (42)، وأحمد (5/ 321).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1837). وانظر الرواية رقم (1838) بمعناه أيضًا.
قال: فَهَمَّ القوم أن يدخلوها. قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تَعْجَلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا، إنما الطاعةُ في المعروف] (1).
الحديث السادس: أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[كانت بنو إسرائيل تَسُوسُهم الأنبياء، كلَّما هلك نبي خلفَهُ نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم](2).
الحديث السابع: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية](3).
وله شاهد في صحيح مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: [من خلعَ يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حُجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية].
وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . قال مجاهد: (أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله).
فهذا منهاج المؤمنين عند التنازع، التجرد من حظوظ النفس والشبهات، والنزول عند حكم الله ورسوله في أصول الدين وفروعه، ولا حياة للأمة ولا قوة ولا شوكة إلا بهذا المنهج العظيم، فهو الذي يوحد القلوب والنفوس ويحيي مجد هذه الأمة من جديد، وغيابه شر عظيم يمزق الأمة ويفرق قلوب أبنائها ويُسلط عليها أعداءها.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
في هذه الآية تشكيك بإيمان من لا يرضى بالتحاكم لله وسنة رسوله وسيرته العطرة عند التنازع، يشكك الله بها بإيمانه به وبلقائه في الدار الآخرة.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7257)، ومسلم (1840)، وأحمد (1/ 82)، (1/ 124).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842)، وأحمد (2/ 297)، وابن ماجه (2871)، وأبو يعلى (6211)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7053)، ومسلم (1849)، وانظر للشاهد بعده صحيح مسلم -حديث رقم- (1851).
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} . أي: التحاكم إلى المنهاج الأحكم والأمثل: كتاب الله وسنة نبيه.
وقوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . قال مجاهد: (أحسن جزاءً). وقال قتادة: (أحسن ثوابًا وخيرٌ عاقبة). وقال ابن زيد: (وأحسن عاقبة. والتأويل: التصديق).
60 -
63. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)}.
في هذه الآيات: أَمْرٌ مِنَ الله بالكفر بمناهج الطاغوت واقتراحات الشياطين، وتحكيم شرع الله الحكيم، وفضح لسبل المنافقين والمُبْطلين والمعاندين، وكَشْفٌ لِما في قلوبهم من الزيغ والهوى وما في ألسنتهم من الافتراء والكذب والحلف الباطل.
يروي الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، عن عكرمة عن ابن عباس قال:[كان أبو بَرْزَةَ الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} -إلى قوله- {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}](1).
ثم إن الآية عامة في كل من عدل عن الكتاب والسنة ورضي التحاكم إلى منهج من مناهج أهل الدنيا، وهو المراد بالطاغوت في تعريفه العام: كل منهج يخالف منهج الله
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انظر: الصحيح المسند من أسباب النزول -سورة النساء- آية (60).
ورسوله، فيدخل بذلك الشيطان ومناهج الكهنة والسحرة وأهل المناهج الوضعية الأرضية.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} . أي: يمتنعون من المجيء إليك لتحكم بينهم، كما يمنعون من المصير إليك غيرهم، فيعرضون عنك كبرًا وعُلوًا.
أي: كيف بهم يا محمد إذا نزلت بهم نقمة من الله أو مصيبة بما اكتسبوه من ذنوبهم ثم جاؤوك يعتذرون ويحلفون كذبًا وزورًا، أنهم ما ذهبوا ليتحاكموا إلى غيرك إلا مداراة ومصانعة، فإن قلوبهم معك ومع التحاكم إليك.
فقال سبحانه {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} . أي: من الكذب وإرادة التحاكم إلى الطاغوت لأنه يناسب أهواءهم وشهواتهم ومنهاج حياتهم الفاسد. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} . قال ابن جرير: (يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأسَ الله أن يحلّ بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذِّرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}، يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده).
64 -
65. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى أن الرسل طاعتهم مرهونة بإذنه سبحانه، فلا أحد يستطيع في هذه الدنيا أن يحدث طاعة لله إلا بإذن الله ومشيئته وتوفيقه، ثم يخبر عن حال العصاة المذنبين زمن النبوة أنهم لو تواضعوا حينئذ وجاؤوك -يا محمد- لتستغفر لهم الله، لوجدوا الله توابًا غفورًا رحيمًا يحب التوبة والاستغفار والندم من المذنبين،
تم يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أموره، ثم ينقاد للحق الذي يحكم به ويستسلم لذلك دون حرج أو مدافعة.
قال مجاهد: ({إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}: لا يطيعهم أحد إلا بإذن الله). وهذا توبيخ من الله للمنافقين المتحاكمين إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فإن من هداه الله ونوّر قلبه وفقه لطاعة رسله، وإلا تركه متخبطًا تائهًا في ظلمات الهوى.
إرشاد من الله للعصاة المذنبين أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، إذن لوجدوا مغفرة الله ورحمته قريبة منهم.
قلت: وهذه الآية خاصة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أما وقد غاب عنا ومات فلا يلجأ العبد عند استغفاره إلا إلى الله العزيز الغفار.
ففي صحيح مسلم عن الأغَرِّ بن يسار المُزَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة](1).
وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها](2).
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه](3).
قال القرطبي: (هذا الحديث أجري مجرى المثل الذي يُفهم منه قبول التوبة واستدامة اللطف والرحمة، وهو تنزل عن مقتضى الغني القوي القاهر إلى مقتضى اللطليف الرؤوف الغافر).
(1) حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه برقم (2702)(42) دون قوله: "واستغفروه"، وبزيادة "إليه" بعد "في اليوم"، وأخرجه أبو داود (1515)، وغيرهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه برقم (2759)، كتاب التوبة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2703) -كتاب الذكر والدعاء. باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه.
وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
أي: حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما تشابه واختلط عليهم والتبس حكمه.
وقوله: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} . قال مجاهد: (شكًّا). وقال الضحاك: (إثمًا).
وقوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . قال الضحاك: (ويُسلّموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهما بالطاعة، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا).
أخرج البخاري ومسلم عن عروة قال: [خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شريج (1) من الحَرَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصاري: يا رسول الله، أَنْ كان ابن عمتك؟ فتلوّنَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجعَ إلى الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حَقَّهُ في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سَعَة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
…
الآية] (2).
ورواه ابن ماجه بسند صحيح عن عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير حدثه:[أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبيرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِراج الحَرَّةِ التي يسقون بها النخل. فقال الأنصاري: سرِّح الماء يمر. فأبى عليه. فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسْقِ يا زُبَيْر. ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله، أَنْ كان ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا زُبيرُ، اسْقِ، ثم احبسِ الماء حتى يرجع إلى الجَدْر. قال، فقال الزبير: والله، إني لأحْسِبُ هذه الآية نزلت في ذلك. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}](3).
(1) أي في مسيل الماء من الحرة إلى السهل.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4585)(2361) مرسلًا، وأخرجه (2708)، ووصله البخاري (2359)، وأخرجه مسلم (2357)، وأحمد (4/ 4 - 5).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه (15) - باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه. والشراج جمع شرجة، وهي مسايل الماء. والحرة: أرض ذات حجارة سود. والجدر: الجدار. قيل المراد ما رفع حول المزرعة. وقيل أصول الشجر.
66 -
70. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى عن قلوب هؤلاء المتحاكمين للطاغوت وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، فلو أمروا بقتل أنفسهم أو الخروج من ديارهم طاعة لله ما فعلوا ذلك ولا هاجروا، ولو امتثلوا أمر الله لهم لكان لهم عنده ذخرًا وأجرًا ونورًا، فإن من يطع الله والرسول يجعله الله مع مَنْ أنعم عليهم من خير خلقه: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهؤلاء خير الرفقاء، وهذا فضل كبير من الله الكريم العلم.
قال مجاهد: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} ، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضًا بالخناجر، لم يفعلوا إلا قليل منهم).
وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} . قال السدي: (تصديقًا). أي: لو أنهم امتثلوا ما يُذكرونَ به من طاعة الله وتعظيم أمره لكان خيرًا لهم في عاجل دنياهم وآجل معادهم.
وقوله تعالى: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} . يعني: جزاء وثوابًا كبيرًا.
وقوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . أي: طريقًا لا اعوجاج فيه يسهل فيه الثبات، فهداية الله تحمل الثبات، والصراط المستقيم هو دين الله القويم.
أخرج الطبراني في "الصغير" بسند جيد، عن عائشة قالت: [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحَبَّ إلي من نفسي، وإنك لأحب إلى من أهلي
ومالي، وأحب إلى من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فانظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ] (1).
وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} . يعني في الجنة. فإن مرافقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ممّا أعظيم يوم القيامة.
أخرج البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من نبي يمرَضُ إلا خُيِّرَ بين الدنيا والآخرة. وكان في شكواه الذي قبض فيه فأخذته بُحَّةٌ شديدة، فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فعلمت أنه خُيِّرَ](2).
ثم قال عليه الصلاة والسلام وهو مسند ظهره إلى عائشة: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى. كرّرها ثلاثًا ثم مالت يده.
فكذلك أخرج البخاري عنها -في قصة وفاته عليه الصلاة والسلام قالت: [فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسَحُ بهما وجهه يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سَكَرات. ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى. حتى قُبِضَ ومالت يَدُه](3).
وفي رواية: [أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأصغَتْ إليه قبل أن يموتَ، وهو مسندٌ إليَّ ظهره يقول: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى". قالت عائشة: [فكانت آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى].
والرفيق: اسم جنس يشمل الواحد والجماعة. أي: أدخلني في جملة الرفقاء الذين
(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني في "الصغير"(52)، و"الأوسط"(480)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 7) بص (7): رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمران وهو ثقةٌ. وله شاهد من حديث ابن عباس، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" وله شواهد كما في تفسير ابن كثير تقويه. وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول -سورة النساء- آية (69).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4586)، ومسلم (2444)، وأخرجه أحمد (6/ 176)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4449)، كتاب المغازي، وهو جزء من حديث أطول. وأحمد (6/ 48). وانظر للروايات الأخرى صحيح البخاري -الحديث السابق-، ومسند أحمد (6/ 121)، ومسند أبي يعلى (4585).
خصصتهم بالمكانة الرفيعة في أعلى الجنان. وهم المذكورون في آية النساء السابقة.
وفي صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: [كنتُ أبيتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود](1).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أهلَ الجنة ليتراءَوْنَ أهل الغُرَف من فوقهم، كما تراءَونَ الكوكب الدُّرِيَّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين](2).
وفي صحيح البخاري عن أنس: [أن رجلًا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعةُ قائمة؟ قال: وَيْلَكَ، وما أعْدَدْتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها إلا أني أُحِبُّ الله ورسوله، قال: إنك مع من أحْبَبْت، فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: نعم، ففرِحْنا يومئذٍ فرَحًا شديدًا](3).
وفي رواية: [المرء مع من أحب]. قال أنس: (فما فرح المسلمون فَرَحهم بهذا الحديث). في رواية أخرى قال أنس: (إني لأحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبُّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجو أن يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم).
وقوله: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} . يعني ذلك عطاء الله المؤمنين وفضله عليهم.
وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} . أي: بطاعة المطيع منهم، ومعصية العاصي، ومن يستحق صحبة الذين أنعم الله عليهم من الرفيق الأعلى.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (489)، والنسائي (2/ 227)، (2/ 228)، وغيرهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3256)، وأخرجه مسلم (2834)، وابن حبان (7393).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6167) كتاب الأدب. وانظر لروايات أنس: صحيح البخاري (3688)، وصحيح مسلم (2639) ح (164)، ومسند أحمد (3/ 192)، وصحيح مسلم (2639) ح (163)، وكذلك صحيح ابن حبان (557).
71 -
74. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَال قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَاليْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)}.
في هذه الآيات: أَمْرٌ مِنَ الله تعالى عباده المؤمنين بالتأهب للعدو وأخذ الحذر واستكمال العدة لِقتالِهِ والحثّ على ملاقاته جماعة جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية لإنهاكه وتحقيق كسره. ثُمَّ تحْذيرٌ من سبيل المنافقين وأساليب مكرهم وخداعهم، وحث على الصدق في التجارة مع الله سبحانه وشراء الحياة الدنيا بالآخرة، وتذكيرٌ بأجر القتال في سبيل الله في الدنيا والآخرة.
فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} . كقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} . وكقوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102].
قال القرطبي: (هذا وصاة بالحذر لئلا ينال العدو أمله، ويدرك فرصته).
وفي معجم الطبراني بسند صحيح من حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود](1).
فالآية أمر من الله بأخذ العدة والسلاح الذي ينفع في مواجهة العدو وغزوه وحربه.
وقوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} . قال ابن عباس: (يقول: عصبًا، يعني سرايا متفرقين). وقال مجاهد: (فرقًا، قليلًا قليلًا). وقال قتادة: (الثبات: الفرق). والثبات: جمع ثُبَة، وقد تجمع على ثُبينَ. والمقصود انفروا جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، بما يحصل فيه كسر العدو وقهره.
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في المعاجم الثلاثة، وأبو نعيم في الحلية (5/ 215)، (6/ 96)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 291/ 1)، وانظر السلسلة الصحيحة (1453).
وقوله: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} . قال ابن عباس: (كلكم). وقال السدي: (مع النبي صلى الله عليه وسلم). وكل ذلك يرجع إلى قرار الإِمام والقائد. قال القرطبي: (ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإِمام ليكون متجسسًا لهم، عَضُدًا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى دَرْئه).
وقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} . قال قتادة: (عن الجهاد والغزو في سبيل الله). وقال ابن جُريج: (المنافق يُبَطِّئُ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله). وكلاهما صحيح.
وقوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَال قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} . فقوله: {مُصِيبَةٌ} . قال ابن زيد: (هزيمة). وقال ابن جريج: (بقتل العدو من المسلمين). فينطق يقول الشامت الكاذب: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} . ولم يدر هذا المنافق كم فاته من أجر الشهادة والصبر على القتال وحضور المعركة.
وقوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} . أي نصر وظفر وغنيمة. قال ابن جريج: (ظهور المسلمين على عدوهم فأصابوا الغنيمة).
وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} . قال القرطبي: (أي: كأن لم يعاقدكم على الجهاد).
وقال ابن كثير: (أي: كأنه ليس من أهل دينكم). وقال القاسمي: (أي: صلة في الدين، ومعرفة بالصحبة). والكلام فيه تقديم وتأخير.
فالمنافقون كانوا يوادّون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، ويبغون لهم الغوائل في الباطن، فقولهم هذا:{يَاليْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} -أي: أصيب غنائم كثيرة، وحظًا وافرًا- هو قول من لم تتقدم له معكم موادّة، بل هو قول الحاسد. قال قتادة وابن جريج:{يَاليْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} حسدًا منهم لهم).
ثم حثّ سبحانه المؤمنين على الجهاد -بعد ذم المبطئين المنافقين- فقال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} أي: يبيعونها بها. فهناك تأويلان:
1 -
قال السدي: (يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة). وقال ابن زيد: {يشري} : يبيع، {يشري}: يأخذ، وإن الحمقى باعوا الآخرة بالدنيا).
فالمعنى هنا: ليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة أعداءَ الله.
2 -
قيل: بل عني بالاسم الموصول {الذين} المنافقين المبطئين. قال القاسمي: (أي الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة، فيكون وعظًا لهم بأن يبدلوا التثبيط بالجهاد).
وقال ابن كثير: ({فَلْيُقَاتِلْ} أي: المؤمن النافر {فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} أي: يبيعون دينهم بعَرض قليل من الدنيا، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم).
وكلا المعنيين يحتملهما البيان الإلهي، والسياق القرآني.
وقوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجُه إلا جهادٌ في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجِعَهُ إلى مسكنه الذي خرج منه نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة](1).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مثلُ المجاهد في سبيل الله -والله أعلمُ بمن يجاهدُ في سبيله- كمثل الصائم القائم، وتوكَّلَ الله للمجاهد في سبيله بأنْ يتوفّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجنة أو يَرْجِعَهُ سالمًا مع أجْرٍ أو غنيمة](2).
وأما حديث عبد الله بن عمرو -رواه مسلم-: [ما من غازية تَغْزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجّلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم](3).
فلا تعارض مع الحديث قبله، فالحديث الأول محمول على مجرّد النية والإخلاص في الجهاد، فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة، وإما ردّه إلى أهله مأجورًا غانمًا، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فلما انقسمت نيّته انحط أجره. ذكره القرطبي.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (3123)، (7457)، وأخرجه مسلم (1876)، وأحمد (2/ 399). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2787)، كتاب الجهاد والسير.
وأخرجه مسلم (1876) ح (104). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1906)، وأبو داود (2497)، وأحمد (2/ 169)، وغيرهم.
75 -
في هذه الآيات: يحث تعالى أهل الصدق والإيمان على الجهاد لكسر شوكة الكافرين، واستنقاذ المستضعفين بمكة، -ثم الآية عامة في كل وضع مشابه إلى قيام الساعة- من الرجال والنساء والولدان الذين يقاسون تحت حكم الكفر. فالمؤمنون يقاتلون في سبيل الله العظيم، والكافرون يقاتلون في سبيل الشيطان الرجيم المهين.
قال مجاهد: (أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين، كانوا بمكة). وقال ابن عباس: (هم أناس كانوا بمكة، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: (كنت أنا وأمي من المستضعفين)(1).
وفيه عن ابن مُلَيْكة أن ابن عباس تلا: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} قال: (كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل.
قال ابن زيد: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} ، قال: وما لكم لا تفعلون؟ تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوة، فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم الله هؤلاء ودينهم؟ قال: و {الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} ، مكة).
وقوله: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} .
أي: هم يسألون الله سبحانه أن سخّر لنا من عندك وليًّا وناصرًا لنخرج مما نحن فيه من الفتنة في الدين.
وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . أي: في سبيل إعلاء كلمته وإقامة منهاج
(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4587)، والأثر بعده أخرجه أيضًا البخاري (4588).
دينه وشريعه. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} -أي: في سبيل طاعة الشيطان وحزبه وفي سبيل نشر منهاجه وطريقه.
وقوله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} .
أمْرٌ من الله للمؤمنين بقتال أعدائه الذين يتولون الشيطان وحزبه، ويريدون أن يحكموا في الأرض بمنهاجه، وتهوين لكيد الشيطان وأوليائه، فإنه ضعيف مهزومٌ لا يثبت أمام الصدق مع الله والصدق في الجهاد.
77 -
79. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَال إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَال لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}.
في هذه الآيات: لقد كان الأمر في بدء الإِسلام بتمكين إقامة الدين والمجاهدة بالقرآن الكريم، فأُمر المسلمون بمكة بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة -دون نصاب معلوم قد عرف بعد- بمواساة الفقراء والمحتاجين والأرحام، وكان كثير من الصحابة يتمنون لو أُمروا بالقتال ليشفوا صدورهم من جَلّاديهم ومن الطغاة المجرمين الذين كانوا يعيثون في البلاد فسادًا -وهي البلاد أشرف بقاع الأرض وفيها بيت الله الحرام- فلما حوّلهم الله إلى المدينة وصارت للمسلمين دولة وشوكة ونزل الأمر بالقتال خاف بعضهم من سفك الدماء ويتم الأولاد وتأيم النساء ومتاع الحياة الدنيا، فنزلت هذه الآية تقرعهم. إن الموت الذي تفرون منه قادم ولو تحصّنتم في قصور مشيدة، والنصر والهزيمة من عند الله، وإنما ينصر المسلمون لإخلاصهم لربهم، ويهزمون بمعصيتهم وتخاذلهم عن الحق والصبر.
أخرج النسائي والحاكم والبيهقي بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس: [أن عبد
الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا، فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال فكفوا، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
…
} الآية] (1).
وقوله: {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وهو الموت. قال ابن جريج: (قال: إلى أن نموت موتًا، و"الأجل القريب").
وقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} . قل يا محمد لهؤلاء: إن عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل لأنها فانية وما فيها فان، وإن نعيم الآخرة هو النعيم الباقي لمن أقام الدين وجاهد في سبيل الله. {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}: أي لا ينقصكم الله من أجوركم مقدار فتيل -وهو ما يكون في شق النواة.
وقرأ الحسن: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} فقال: (رحم الله عبدًا صَحِبها على حَسب ذلك، وما الدنيا كلُّها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومةً، فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه) - ذكره ابن كثير بسَنده عند ابن أبي حاتم.
وقال ابن معين: كان أبو مُسْهر ينشد:
ولا خيرَ في الدنيا لمن لم يكنْ له
…
من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجِب الدنيا رجالًا فإنها
…
متاعٌ قليل والزّوال قريب
وقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} .
قال قتادة: (في قصور محصنة). وقال ابن جريج: (قصور مشيدة). وقال السدي: (وهي قصور بيض في سماء الدنيا، مبنية). وقال الربيع: (ولو كنتم في قصور في السماء).
والمقصود أن الموت قادم إلى العبد لا محالة ولو تحصن في أعلى أبراج الدنيا وقصورها. وفي التنزيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)} .
(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي (6/ 3)، وفي "التفسير"(132)، والحاكم (2/ 66)، والبيهقي (9/ 11)، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي. النساء (77).
قال ابن جرير: "وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة "يقولوا هذه من عند الله"، يعني: من قبل الله ومن تقديره، "وإن تصبهم سيئة"، يقول: وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم، يقولوا لك يا محمد: "هذه من عندك"، بخطئك التدبير).
وقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . قال ابن عباس: (يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها).
وقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} . أي لا يكادون يعلمون حقيقة ما يجري حولهم في شأن الحسنات والسيئات، وقسمة الله ذلك بين عباده كالأرزاق، فمن رضي الله عنه وفقه لفعل الحسنات، ومن سخط على منهجه ذلل له فعل السيئات، والله وحده أعلم بالشاكرين.
وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . المعنى: الحسنة فضل من الله ييسّرها للعبد ليرفعه عنده سبحانه، والسيئة عقاب من الله لتقصير في حياة العبد يبتعد العبد بها عن ربه.
قال ابن جريج: ({مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، قال: عقوبةً بذنبك).
أخرج الإِمام مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما يصيب المسلمَ من نصب ولا وصب ولا همٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يُشاكُها إلا كفّر الله بها من خطاياه](1). والنصب: التعب، والوصب: المرض.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما اختلج عِرْقٌ ولا عينٌ إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر](2).
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1798)، ومسند أحمد (2/ 303)، وسنن البيهقي (3/ 373)، وصحيح مسلم (2573)، وسنن الترمذي (966).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"(رقم 1053)، وانظر: الصحيحة (2215).
وفي التنزيل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} .
المعنى: وإنما جعلناك يا محمد رسولًا إلى الخلق كافة، تبلغهم رسالة ربك فيما أوحى إليك، وقد أيّدك الله بحجة الوحي وبإثباتات النبوة، فما عليك إلا البلاغ، ثم الله شهيد على أعمال عباده ومطلع على قلوبهم، وهو جامعهم بين يديه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
80 -
81. قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}.
في هذه الآيات: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة لأنها من طاعة الله، ولا عذر لأحد عند الله في التنكر لمنهاج نبيه وسنته وسيرته، فهو رسوله الذي دعا إلى دينه الذي ارتضى، والله محيط بما يبيِّت المنافقون والكافرون من المكر بدينه ورسوله، فتوكل عليه يا محمد، وكفى بالله وكيلًا.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني](1).
وقوله: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . قال ابن زيد: (هذا أول ما بعثه، قال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]. قال: ثم جاء بعد هذا بأمره بجهادهم والغلظة عليهم حتى يسلموا).
والمقصود أن من أطاعه فقد نجا، ومن عصاه فقد خاب وخسر، فلا عليك منه يا محمد.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كل أمتي يدخلون الجنة إلا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7137)، ومسلم (1835)، وأحمد (2/ 270)، وغيرهم.
من أبى، قيل: ومن يأبى؟ قال: من أَطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى] (1).
وقوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} خبر عن المنافقين يظهرون الموافقة ويقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم أمرك طاعة، وهم الذين ذُكر أنهم يخشون الناس من الجهاد كخشية الله أو أشد خشية.
وقوله: {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} .
أي: إذا خرجوا من لقائك غيّر جماعة منهم ليلًا الذي تقول لهم. قال قتادة: (يغيّرون ما عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم). وقال ابْن عباس: (غَيَّرَ أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم).
وقوله: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} ، أي: ما يقولون ويغيرون. قال الضحاك: (هم أهل النفاق). وقال ابن جرير: (والله يكتب ما يغيرون من قولك ليلًا في كُتب أعمالهم التي تكتبها حفظتُه).
وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .
إرشاد من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح عنهم وعدم مكاشفتهم، والاعتصام بالله سبحانه وكفى به منتقمًا منهم، ودافعًا عنك ووليًّا وناصرًا ومعينًا.
82 -
83. قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}.
في هذه الآيات: يرشد تعالى هؤلاء ويأمرهم بِتَدَبُّرِ هذا الكتاب وتفهم معانيه، ويحذرهم مغبة الإعراض عنه، فإنه لو كان مفتعلًا لوجدوا فيه اضطرابًا كثيرًا. ثم يحذر سبحانه من الإشاعة الكاذبة وبث الأخبار بيّن المسلمين دون تثبت من مصادرها ونقلتها، وأنهم لو ردوها إلى عالميها لكان خيرًا لهم من بثها وخلخلة الصفوف بها، وتدخل الشيطان في محاولات الإفساد والتخريب لمجتمع المسلمين.
(1) حديث صحيح. رواه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7280)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أي: قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف).
وقال الضحاك: ({يَتَدَبَّرُونَ}، النظر فيه).
وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ
…
}.
أخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: [لما اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله نساءه، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب. قال عمر: فقلت: لأعلمن ذلك اليوم -فذكر الحديث، وفيه بعد استئذانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أطلقتهنَّ يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والناس ينكتون بالحصى يقولون: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: نعم إن شئت، فذكر الحديث وفيه: فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. قال: وكنت أنا استنبطت ذلك، وأنزل الله آية التخيير](1).
فالآية إنكار على من يبادر بنشر الأمور قبل التحقق منها، فإنه قد لا يكون لها أساس من الصحة.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع](2). قلت: والآيتان مترابطتان مع بعضهما في المنهج، فإن العلم بالواقع جزء من العلم بالدين، فكما أن فهم القرآن لا يكون إلا من عالم بتأويله وبتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكذلك الواقع لا يؤخذ الخبر فيه إلا من أهل التثبت والدقة. وتفصيل ذلك:
أ - في أمر الدين وفهم المتشابه من القرآن
أخرج الإِمام أحمد بسند حسن عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده قال: [لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أحب أن لي به حُمْرَ النَّعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب من أبوابه، فَكَرِهْنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (1479) ح (30) من حديث ابن عباس عن عمر. وهو حديث طويل.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (5)، وأخرجه أبو داود (4992)، وابن حبان (30). عن أبي هريرة.
حتى احمرَّ وجهه يرميهم بالتراب ويقول: مهلًا يا قوم، بهذا أُهْلِكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكَذّبُ بعضه بعضًا، إنما نزل يُصَدِّقُ بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه] (1).
وله شاهد عند ابن ماجه بسند حسن عنه قال: [خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حَبُّ الرمّان من الغضب. قال: فقال لهم: ما لكم تَضْرِبُون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم. قال: فما غَبَطْتُ نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده](2).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: [هَجَّرْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فإنّا لجلوسٌ إذ اختلف اثنان في آية، فارتفعت أصواتهما فقال: إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب](3).
ب- في أمر الواقع وفقهه
أخرج البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله حَرَّم عليكم عقوق الأمهات، ووأدَ البنات، ومَنَعَ وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال](4).
فقوله: "وكره لكم قيل وقال" يشمل إشاعة الأخبار بين الناس دون تثبت من صحتها، ودون الرجوع إلى مصادرها، وسؤال أهل العلم فيها وبمدلولاتها.
وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} .
يعني بفضل الله ورحمته كان حفظ المؤمنين من اتباع سبيل المنافقين والشياطين.
قال ابن زيد: (هذه الآية مقدَّمة ومؤخرة، إنما هي: أذاعوا به إلا قليلًا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 181) ح (6663)، وله شواهد.
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجه (85)، وأحمد (2/ 178). وانظر صحيح ابن ماجه (69).
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2666)، وأحمد (2/ 192)، والنسائي في الكبرى (8095).
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2408)، كتاب الاستقراض، وكذلك (5975)، وأخرجه مسلم (3/ 1341) ح (14)، وأحمد (4/ 233)، وغيرهم.
84 -
87. قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}.
في هذه الآيات: أَمْرٌ مِنَ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بمجاهدة المشركين أعداء الله وقتالهم، ثم لا عليك يا محمد بمن نكل عنك، وإنما عليك أن تحرض المؤمنين وتحثهم على قتال الكفار لعل الله أن يكف قتال من جحد وعاند، والله أشد نكاية في عدوه من هؤلاء الكفار في المؤمنين. ثم إن من يسعى في أمر فيترتب عليه خير يناله من ذلك نصيب، ومن يسعى في أمر يترتب منه شر يناله من ذلك الوزر والله حفيظ على كل ذلك. ثم مَن سلم عليكم فردوا عليه بمثل ما سلم أو أحسنوا والله حفيظ كذلك على كل ذلك. فهو إلإله المعبود وحده لا شريك له ليبعثنكم بعد مماتكم وليحشرنكم جميعًا إلى موقف الحساب فهو وعْدُه، ومن أصدق من الله حديثًا.
أخرج الإِمام أحمد بسند صحيح عن أبي إسحاق قال: [قلت للبراء: الرجلُ يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التَّهلُكة؟ قال: لا، إن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}، إنما ذلك في النفقة](1).
وقوله: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} . أي: وحضهم على قتال من أمرت بقتاله.
وقد امتلأت السنة الصحيحة بكنوز في الحث على الجهاد والترغيب بأجره ومقامه.
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى ألزكاة، وصام رمضان، كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي وُلد فيها. قالوا:
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 281) بإسناد صحيح. وله شاهد آخر ذكره ابن كثير.
يا رسول الله، أفلا نبشر الناس بذلك؟ فقال: إن في الجنة مئة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّرُ أنهار الجنة] (1).
الحديث الثاني: أخرج الإِمام مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيا أبا سعيد، من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيًّا، وجَبَتْ له الجنة. قال: فعَجِبَ لها أبو سعيد، فقال: أَعِدها عَليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأخرى يرفع الله العبد بها مئة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله] (2).
الحديث الثالث: أخرج الإِمام مسلم عن أنس -في غزوة بدر حين دنا المشركون-: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض](3).
الحديث الرابع: أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ راح روحةً في سبيل الله، كان له بمثل ما أصابه من الغبار مِسْكًا يوم القيامة](4).
الحديث الخامس: يروي الطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم](5).
وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . قال ابن كثير: (أي: بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هِمَمُهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حَوزَةِ الإِسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2790)، ورواه ابن حبان (1748)، والبيهقي (9/ 15) من حديث أبي هريرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1884)، والنسائي (6/ 19)، وأحمد (3/ 14)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1951)، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، ضمن حديث طويل.
(4)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجه (2775). انظر صحيح سنن ابن ماجه (2239) -كتاب الجهاد- باب الخروج في النفير. وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6136).
(5)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة، وأخرجه الحاكم (2/ 74 - 75)، وانظر مسند أحمد (5/ 326)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1941).
وقوله: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} . قال قتادة: (أي عقوبة).
وقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} . قال مجاهد: (شفاعة بعض الناس لبعض).
وقال الحسن: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} ، كتب له أجرها ما جرت منفعتها).
وقال السدي: (أما "الكفل" فالحَظّ). وقال الربيع: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} قال: حَظّ منها، فبئس الحظّ).
وخلاصة المعنى: أنَّ من يسعى في أمر يترتب عليه نفع وخير كان له نصيب من ذلك، كما لو سعى في أمر ترتبت عليه مفسدة في حياة الناس كان له من ذلك الوزر.
وفي الصحيحين والمسند من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اشفعوا تُؤْجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء](1).
وأصل الشفاعة والشّفعة من الشَّفع وهو الزوج من العدد، ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شَفْعًا. والشفاعة تشمل البر والطاعة والدعاء وكل وجوه الخير. وفي صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[منْ دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك الموكَّلُ به: آمين، ولك بِمثل](2).
وفي لفظ: [دعوة المرء المسلم لأخيه -بِظَهْرِ الغَيْبِ- مستجابة، عند رأسه ملك مُوَكَّلٌ، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكَّلُ به: آمين، ولك بمثل].
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} .
قال ابن عباس: (حفيظًا). وقال مجاهد: (شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا).
وقال السدي: (قديرًا). وقال الضحاك: (المقيت الرزاق).
وقال عبد الله بن كثير: (المُقيت: الواصب). أي القائم على الأمر أحسن القيام.
قلت: وكلها معان يحتملها البيان الإلهي، وهي تزيد المعنى ثراء وتوضح آفاقه.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1431)، وأخرجه مسلم برقم (2627)، وأخرجه أحمد (4/ 400)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2732)، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب.
وقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
قال ابن زيد: قال أبي: حق على كل مسلم حيِّي بتحية أن يحيِّيَ بأحسن منها، وإذا حيّاه غير أهل الإِسلام أن يردّ عليه مثل ما قال).
وقال ابن كثير: (أي: إذا سَلّم عليكم المُسَلِّم فرُدوا عليه أفضل مما سلَّم، أو ردوا عليه بمثل ما سَلَّم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة).
وقال الحسن البصري: (السلام تطوع، والردّ فريضة).
أخرج الإِمام أحمد بسند صحيح عن عِمْران بن حُصَين: [أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليكم يا رسول الله، فرَدَّ عليه ثم جلس. فقال: عَشْرٌ. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله، فرَدَّ عليه ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردَّ عليه، ثم جلس فقال: ثلاثون](1).
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك، فقل: وعليك](2).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطرُّوهم إلى أضيقه](3).
قلت: "السلام" اسم من أسماء الله تعالى وضعه بين المؤمنين في الأرض ليفشوه بينهم، فإذا فعلوا تحاببوا، وزادت المودة والأخوة بينهم.
فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وضع في الأرض فأفشوا السلام بينكم] (4).
ورواه البيهقي من حديث ابن مسعود بلفظ: [السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم]. ورواه البزار وزاد: [فإن الرجلَ المسلمَ إذا مرَّ بقوم فسَلَّمَ عليهم
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 439)، وأبو داود (5195)، والترمذي (2689)، وله شواهد.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6257)، ومسلم (2164)، وأحمد (2/ 19)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2167)، والترمذي (1602)، وأحمد (2/ 266)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(989)، وانظر السلسلة الصحيحة (184).
فردوا عليه، كان له عليهم فضل درجة، فإن لم يردوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب] (1).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتُم؟ أفشوا السلام بينكم](2).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} . قال مجاهد: (حفيظًا). أي حتى يجازيكم بها جزاءه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} .
المعنى: هو الإله المعبود سبحانه الذي لا تنبغي الألوهية إلَّا له، ولا يليق التعظيم والكبرياء إلا به، ليبعثنكم من بعد مماتكم، ثم ليحشرنكم في مشهد الحساب، ثم يضع الميزان سبحانه ليزن أعمالكم، فيجازي كلًّا حسب عمله، قوله الصدق وخبره الحق وليس في الوجود أصدق من الله حديثًا وخبرًا، سبحانه وتعالى عما يشك المنافقون علوًا كبيرًا.
88 -
91. قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
(1) حديث صحيح أخرجه البزار (رقم- 1999)، وانظر معجم الطبراني الكبير (10392)، والسلسلة الصحيحة (1894). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (54) كتاب الإيمان. باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها.
فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}.
في هذه الآيات: إنكار من الله على المؤمنين اختلافهم في شأن المنافقين الذين تخاذلوا يوم أحد، وهؤلاء المنافقون كانوا يتمنّون أن تجحدوا وحدانية ربكم وتصديق نبيكم كما جحدوا، فإياكم أن توالوهم حتى يهاجروا من دار الشرك إلى دار الإِسلام ابتغاء دين الله ونصره، فإن أبوا الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم، إلا من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد وميثاق فدخلوا فيهم، أو جاؤوكم ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، ولو شاء الله لسلط هذين الفريقين عليكم ولكنه كفّهم سبحانه، فإن اعتزلكم هذان الفريقان: مَنْ دخل منهم مع قوم بينهم وبينكم موادعة أو ضاقت نفوسهم عن قتالكم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلًا بالقتل والسبي. وهناك قوم آخرون من المنافقين يظهرون الإِسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خوف القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار، كُلما خلوا إلى قومهم عبدوا الأوثان معهم وأشركوا بالله، فهؤلاء إن لم يستسلموا إليكم بالصلح ويكفوا أيديهم عن قتالكم فخذوهم أين أصبتموهم فاقتلوهم ولكم عليهم حجة بذلك وسلطان.
أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: [لما خرج رسول الله باب إلى أحد رجع ناس ممن خرج، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}. وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد](1).
وفي لفظ: [إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة].
وقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} . قال ابن عباس: (أوقعهم). وقال قتادة: (أهلكهم).
وقال السدي: (أضلهم). أي بسبب عصيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخاذلهم عنه، والمراد عبد الله بن أبي بن سلول حين رجع بثلث الجيش يوم أحد، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبع مئة.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1884)، و (4050)، ومسلم (1384)، وأحمد (5/ 184).
وقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} . خطاب من الله للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين، أتريدون هدايتهم وقد أعمى الله قلوبهم بنفاقهم وخشيتهم على دنياهم، ومن يضله الله فلا طريق له إلى الهدى والنور، بل إلى العمى والظلام والأفول.
وقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . يقول: تمنى هؤلاء المنافقون أنكم نافقتم مثلهم، وجحدتم أمر الله كما جحدوا لتكونوا سواء، وما ذلك إلا لشدة بغضهم لكم وشدة عداوتهم. فإياكم أن توالوهم حتى يخلصوا لله ويهاجروا كما هاجرتم. قال ابن عباس:(يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم، يعني الهجرة في سبيل الله).
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} . قال ابن عباس: (فإن تولوا عن الهجرة).
وقال السدي: (يقول: إذا أظهروا كفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم).
وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} . أي: لا توالوهم ولا تناصروا بهم على عدوكم.
وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} . استثناء لبعض هؤلاء القوم. قال السدي: (يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة).
وقال ابن زيد: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} ، يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء).
وقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} .
قال السدي: (رجعوا فدخلوا فيكم، .. ، ضاقت صدورهم، {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} . فهؤلاء لا لكم ولا عليكم، يبغضون أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أن يقاتلوا قومهم.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} . أي: من رحمته سبحانه بكم كفّهم عنكم. وقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: صالحوكم وسالموكم.
وقوله: {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} . أي: لم يجعل الله لكم إذنًا بقتل فيهم أو سباء.
قال ابن كثير: (أي: فليس لكم أن تقتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره).
وقوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} .
هؤلاء منافقون أظهروا الإِسلام حقنًا لدمائهم وأموالهم وذراريهم، وهم يصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون. قال تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالوا إِنَّا مَعَكُمْ} .
وقوله: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} . قال قتادة: (كما عرض لهم بلاءً، هلكوا فيه). والفتنة في كلام العرب: الاختبار، والإركاس: الرجوع. والمقصود كما دعاهم قومهم إلى الماضي المشترك المليء بالوثنية والشرك وتعظيم الآبائية في منهجها الجاهلي، ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم. قال مجاهد في هذه الآية:(ناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا وها هنا. فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويُصلحوا) ذكره ابن جرير.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} . قال الربيع: (الصلح).
والمقصود أن هؤلاء لا بد أن يستسلموا وينقادوا إلى الحق وإلى طريق المؤمنين.
وقوله: {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} . أي عن قتالكم، فيصالحوكم ويعطوكم المقاد.
وقوله؛ {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} . يعني: خذوهم أين أصبتموهم فاقتلوهم إن لم يفعلوا ما أمروا به. {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} . قال السدي: (أما السلطان المبين فهو الحجة). وقال عكرمة: (ما كان في القرآن من "سلطان"، فهو الحجة).
92 -
93. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}.
في هذه الآيات: تحذير ووعيد أن يقتل مؤمن أخاه المؤمن، فإن حصل فالمسوِّغُ الوحيد هو الخطأ، ومع ذلك ففيه الكفارة والدية. فإلى تفصيل ذلك كما ذكر الفقهاء:
القتل ثلاثة أنواع:
1 -
القتل العمد: وهو أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم بأداة يغلب الظن أنه يقتل بها. كالإحراق بالنار، والإغراق بالماء، والإلقاء من شاهق، أو إلقاء حائط عليه، أو خنق الأنفاس، أو حبس الإنسان ومنعه من الطعام والشراب، أو تقديمه لحيوان مفترس، أو تقديم الطعام المسموم له.
فقد ثبت في صحيح أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل اليهودية التي سمت النبي صلى الله عليه وسلم في طعام قدّمته إليه فمات منه بشر بن البراء بن معرور.
أخرج الطبراني بسند صحيح لغيره من حديث عمرو بن حزم مرفوعًا: [العَمْدُ قَوَدٌ، والخطأ دِيَةٌ](1).
وله شاهد عند الدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا: [العمد قود، والخطأ عقل لا قود فيه].
ومعنى: "قَوَد": قصاص، وهو مجازاة الجاني بمثل صنيعه.
وولي المقتول -في القتل العمد- بالخيار بين القود والعفو على الدية، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [البقرة: 178].
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "الكبير". انظر مجمع الزوائد (6/ 286)، وأخرجه -كما في الشاهد- الدارقطني في "سننه"(ص 324). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1996).
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ قُتِلَ له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُودي وإما أن يقاد](1).
وليست هذه الدية هي الواجبة بالقتل، بل بَدل عن القصاص، ومن ثم فإن لهم أن يصالحوا على غير الدية، ولو بالزيادة عليها.
فقد أخرج الترمذي وابن ماجه بسند حسن، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ قتَلَ مُتعَمدًا دُفِعَ إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتَلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدِّيَة، وهي ثلاثون حِقَّةً، وثلاثون جَذَعَةً، وأربعونَ خَلِفَةً، وما صالحوا عليه فهو لهم. وذلك لتشديد العَقْل](2).
وأما العفو مجانًا فهو أفضل عند الله تعالى، لقوله سبحانه:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: [وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا](3).
2 -
القتل شبه العمد: وهو أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم بما لا يقتل عادة، كأن يضربه بعصا خفيفة، أو حجر صغير، أو لكزة بيده، أو سوط. فإن مات فشبه عمد، وفيه دية مغلظه: مئة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها.
وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وجماهير الفقهاء.
خالف مالك والليث، قالوا: يعتبر عمدًا وفيه القصاص. إذ الأصل عندهم عدم اعتبار الآلة في إزهاق الروح، فكل ما أزهق الروح أوجب القصاص.
أخرج الإِمام أحمد بسند صحيح عن ابن عمر: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الفتح فقال: ألا إن دية الخطأِ العمد بالسوط أو العصا مغلظةٌ مئة من الإبل منها أربعون خلِفة في بطونها أولادها](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6880/ 205/ 12)، وأخرجه مسلم (1355/ 988/ 2).
(2)
حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (1121)، أبواب الديات، وسنن ابن ماجه (2626).
و"حِقّة": من الإبل ما طعن في السنة الرابعة والجمع حقاق. و"جذعة" مؤنث جذع، ولد الشاة في السنة الثانية، وولد البقرة في السنة الثالثة. وللإبل في السنة الخامسة. و"خلفة" هي الحامل من الإبل.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (1894) من طريق أبي كبشة الأنماري، وصحيح مسلم (2588)، وهو جزء من حديث أطول.
(4)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند. انظر تخريج "الإرواء"(7/ 257). وانظر صحيح سنن ابن ماجة (2127)، باب دية شبه العمد مغلظة.
وأخرج أبو داود بسند حسن من حديث ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[عقلُ شبه العمد مُغَلظٌ مثل عقل العمد، ولا يُقْتَلُ صاحبُه](1).
3 -
القتل الخطأ: وهو أن يفعل المكلف ما يباح له فعله، كأن يرمي صيدًا، أو يقصد غرضًا، فيصيب إنسانًا معصوم الدم فيقتله، وكأن يحفر بئرًا فيتردى فيها إنسان، أو ينصب شبكة حيث لا يجوز فيعلق بها رجل فيقتل. وكأن يقود سيارة مسرعًا فيقفز طفل إلى الطريق من مدخل بيته أو البناء الذي هو فيه، إلى غير ذلك مما فيه نوع تقصير من الذي رُمي بالقتل الخطأ.
موجب القتل الخطأ:
1 -
الدية المخففة.
2 -
الكفارة: (عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، كما بنص الآية السابقة).
أخرج الإِمام أحمد بسند حسن من حديث ابن عمرو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[منْ قُتل خطأً فديته مئةٌ من الإبل: ثلاثون بنتَ مخاض، وثلاثون بنتَ لبون، وثلاثون حِقّة، وعشرة بني لبون](2).
والدية تسمى العقل لأن القاتل يجمع الدية من الإبل فيعقلها بفناء أولياء المقتول، أي يشدها بعقالها ليسلمها إليهم.
فقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} . قال قتادة: (ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه، من عهد الله الذي عهد إليه). وقوله: "إلا خطأ" استثناء منقطع.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلم
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (4565) -كتاب الديات. انظر صحيح سنن أبي داود (3819). وانظر صحيح الجامع الصغير- حديث رقم (3904)، وتخريج المشكاة (3501).
(2)
حديث حسن. انظر صحيح سنن ابن ماجه -حديث رقم- (2128)، وسنن أبي داود (4318)، والنسائي (43/ 8). من حديث عبد الله بن عمرو.
وبنت المخاض: الأنثى من الإبل تم لها سنة، وبنت اللبون: الأنثى من الإبل تم لها سنتان، والحِقّة: الأنثى من الإبل تمّ لها ثلاث سنين. والجَذَعَة: حوالي أربع سنين.
يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّبُ الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة] (1).
فإن وقع المسلم في خصلة مما سبق، فلا يحل لأي واحد أن يقتله، بل إن ذلك راجع إلى الإِمام العام أو نائبه، فلا ينتقل ذلك إلى آحاد المسلمين.
ففي المسند بسند صحيح، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يزال العبدُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا](2).
وقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} .
قال ابن عباس: (يعني بالمؤمنة: من قد عقل الإيمان وصام وصلى. فإن لم يجد رقبة، فصيام شهرين متتابعين، وعليه دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا بها عليه).
وقال قتادة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، لا يجزئ فيها صبي).
وفي مسند الإِمام أحمد بسند صحيح عن الزُّهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار:[أنه جاء بأمَةٍ سوداء فقال: يا رسول الله، إنّ عليَّ عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. قال: أعتقها](3).
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} يعني: إلا أن يضعوها. ذكره ابن زيد.
وقوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .
قال إبراهيم: (هو الرجل يُسْلم في دار الحرب فيقتل. قال: ليس فيه دية، وفيه الكفّارة). وقال عكرمة: (يعني المقتول يكون مؤمنا وقومه كفار. قال: فليس له دية، ولكن تحرير رقبة مؤمنة). وقال ابن زيد: (لا يؤدي إليهم الدية فيتقوون بها عليكم). قلت: فإن أسلم العدو أثناء القتال وجب إيقاف السيف، فإن حصل خطأ وجبت الدية. أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر قال: [بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جُذيمة، فدعاهم إلى الإِسلام، فلم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صَبَأْنا صَبَأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه وقال: اللهم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6878)، وأخرجه مسلم (6876)، وأحمد (1/ 444).
(2)
حديث صحيح. رواه أحمد، ورواه البخاري، انظر صحيح الجامع الصغير - رقم (7568).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 452)، ورجاله رجال الصحيح، وجَهالة الصحابي لا تضرّ.
إني أبرأ إليك مما صنع خالد. وبعث عليًّا فوَدى قتلاهم وما أتلف من أموالهم، حتى مِيْلغَةَ الكلب] (1).
قال الحافظ ابن كثير -وذكر هذا الحديث في التفسير-: (وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإِمام أو نائبه يكون في بيت المال).
يعني: إن كان المقتول أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم (دية المؤمن كاملة، ودية الكافر نصف دية المسلم)، ويجب على القاتل أيضًا تحرير رقبة مؤمنة.
أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[دية المعاهدِ نصف ديةِ الحرّ](2) أي المسلم، فقد صح من حديث ابن عمر بلفظ:[دية المسلم]. وله شاهد عند الترمذي عنه بلفظ: [ديةُ عَقْلِ الكافرِ نصْفُ معقل المؤمن].
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} .
يعني من لم يجد عتق رقبة مؤمنة، فعليه صيام شهرين لا إفطار بينهما، فإن أفطر لعذر: مرض أو حيض أو نفاس، استأنف ولا حرج.
وقول: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} .
قال ابن جرير: (يعني: تجاوزًا من الله لكم إلى التيسير عليكم، بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها، بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين).
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} . أي: لم يزل سبحانه "عليمًا" بما رفع أمر عباده وما هو الأمثل لهم في التكليف "حكيمًا" بما يشرع لهم ويقضي فيهم ويأمر وينهى ويريد.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4339)، و (7189)، وأحمد (2/ 150 - 151)، وأخرجه النسائي (8/ 236)، وميلغة الكلب: الإناء الذي يشرب منه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4583) -كتاب الديات-، وابن ماجه (2644). انظر صحيح سنن أبي داود (3831). وانظر الإرواء (2252)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (3389)، وكذلك -حديث رقم- (3391) للشاهد بعده.
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا المغيرة بن النعمان، قال: سمعت ابن جُبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرَحلْت إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال:[نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء](1).
وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن زيد بن ثابت قال: [لما نزلت هذه الآية التي في "الفرقان": {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} عَجِبْنا لِلِيْنِها، فلبثنا ستة أشهر، ثم نزلت ضد التي في "النساء": {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} حتى فرغ](2).
وروى ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: (إن الرجل إذا عرف الإِسلام وشرائع الإِسلام ثم قتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه جهنم ولا توبة له). فذكرت ذلك لمجاهد فقال: "إلا من ندم".
وقد جاءت السنة الصحيحة بالتهديد والوعيد لمن أهدر دم مسلم أو أصاب من ذلك.
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم صْ ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء](3).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) حديث موقوف، أخرجه البخاري (4590)، وغيره. وله شواهد عند ابن جرير في التفسير.
(2)
حديث حسن. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(5/ 150/ 4869)، وإسناده حسن في المتابعات والشواهد. وأخرجه النسائي (4007)، وابن جرير في "التفسير"(4/ 139)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2799).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6533)، وكذلك (6864)، وأخرجه مسلم برقم (1679)، وغيرهما. من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
قال: [لا يزال المؤمن مُعْنِقًا صالحًا ما لم يُصب دمًا حرامًا، فإذا أصابَ دمًا حرامًا بَلَّحَ](1). والمعنى: طويل العنق، الذي له سوابق في الخير. وقوله:"بَلَّحَ" أي: أعيا وانقطع وتعرض للهلاك.
الحديث الثالث: وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء أيضًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركًا، أو مؤمن قتل مؤمنًا متعمدا](2).
الحديث الرابع: أخرج الترمذي والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لزوال الدنيا أهونُ عند الله من قتل رجل مسلم](3).
الحديث الخامس: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرْفا ولا عدْلا](4).
وروى عن أبي مجلز في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: (هي جزاؤه، فإن شاء الله أن يتجاوز عنه فعل)(5).
وعند ابن جرير عن ابن عباس قال: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. وقال ابن مسعود في هذه الآية: (إنها لمحكمة، وما تزداد إلا شدّة).
94.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود وغيره. انظر صحيح سنن أبي داود (3590)، باب: في تعظيم قتل المؤمن. من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم (3588) - الباب السابق.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا، (1395)، ورواه النسائي (7/ 82).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود عن عبادة. انظر صحيح سنن أبي داود (3589) - الباب السابق.
(5)
حسن مقطوع. أخرجه أبو داود عن أبي مجلز. انظر صحيح سنن أبي داود (3595) - الباب السابق.
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
في هذه الآية: أمْرٌ من الله سبحانه بالتأني أثناء القتال وعدم التعجل بقتل من التبس أمره، وعدم الإسراع في القتل إلا لمن كان حربًا لله ورسوله، فإن ما عند الله أكبر من غنيمة الدنيا بأسرها، وإسلام الناس أحب إلى الله من سفك الدماء حتى لو كان ظاهره الخوف من أهوال السلاح والحرب، فقد كنتم أيها المؤمنون في جاهلية وامتن الله عليكم وأنقذكم منها فتمهلوا والله خبير بنواياكم وأعمالكم.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عطاء، عن ابن عباس:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} . قال: قال ابن عباس: [كان رجل في غُنَيْمةٍ له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتَه، فأنزل الله في ذلك: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قال ابن عباس: عَرَض الدنيا تلك الغنيمة](1). ولفظ الترمذي: [مرّ رجل من بني سُليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غنم له، فسلم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا وقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}].
وأخرج الإِمام أحمد بسند جيد عن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال: [بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربْعيّ، ومُحَلِّم بن جَثَّامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم، مَرَّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعود له، معه مُتَيّع له وَوَطْبٌ (2) من لبن، فلما مرَّ بنا سَلَّم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه مُحلِّم بن جَثَّامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومُتَيِّعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} إلى قوله تعالى: {خَبِيرًا}](3).
وأخرج الحافظ أبو بكر البزار بسند جيد عن ابن عباس قال: [بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4591)، ومسلم (3025)، وأبو داود (3974). وانظر صحيح سنن الترمذي (2426) -كتاب التفسير- سورة النساء، آية (94).
(2)
القَعود: البكر من الإبل: متيع: تصغير متاع، والوطب: سقاء اللبن.
(3)
حديث رجاله ثقات. أخرجه أحمد (6/ 11)، والطبري (10217)، والطبراني وغيرهم.
سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجَدُوهم وقد تفرّقوا، وبقي رجل له قال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلتَ رجلًا شهدَ أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إن رجلًا شهدَ أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد. فقال: ادعوا لي المقداد، يا مقداد: أقتلت رجلًا يقول: لا إله إلا الله، فكَيف لك بلا إله إلا الله غدًا؟ قال: فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل] (1).
وله شاهد عند البخاري عن سعيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: [إذا كان رجل مؤمن يُخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل](2).
وقوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أي من الخير والنعيم والخلود مما هو أجمل وأطيب من كل ما حرصتم عليه من هذه الدنيا الفانية، إذ حملكم ذلك على قتل من شهد أن لا إله، لا الله، واعتبرتموها تقية وتجاوزتم.
وقوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} - فيه تأويلان:
1 -
قال سعيد بن جبير: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ، تستخفون بإيمانكم، كما استخفى هذا الراعي بإيمانه). وقال في لفظ:(تكتمون إيمانكم في المشركين). واختاره ابن جرير.
2 -
قال ابن زيد: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} ، كفارًا مثله، {فَتَبَيَّنُوا} ).
قلت: وكلاهما يحتمله البيان الإلهي.
(1) إسناده جيد. أخرجه البزار (2202)، والطبراني (12379) ، وانظر ما بعده.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (6866) معلقًا، وانظر ما قبله.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . قال سعيد بن جبير: (هذا تهديد ووعيد).
95 -
96. قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}.
في هذه الآيات: معذرة أولي الضرر من الجهاد، وفضيلة المجاهدين على القاعدين، فالجهاد ذروة سنام الإِسلام، ويترتب عليه الدرجات العظيمة والمغفرة والرحمة، والله هو الغفور الكريم الرحيم.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: [لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فجاءه بكتف فكتبها وشكى ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (1).
وفي الصحيحين عن البراء قال: [لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع فلانًا. فجاءه ومعه الدواةُ واللوحُ والكتف، فقال: اكتب: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، وخَلْف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، أنا ضرير؟ فنزلت مكانها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "](2).
وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي: [أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلتُ حتى جلست إلى جنْبهِ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليَّ: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4593)، كتاب التفسير، وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول"، سورة النساء، آية (95).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4594)، ومسلم (1898)، والترمذي (1670)، والنسائي (6/ 10). من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
الله". فجاءه ابن أم مكتوم، وهو يمليها علي، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وكان فخذه على فخذي، فثقلت عليَّ حتى خفت أن تُرَضَّ فخذي، ثم سُرِّيَ عنه، فأنزل الله: "غير أولي الضرر"] (1).
وقد جاءت رواية صحيحة عند الإِمام أحمد وأبي داود تفصل ما حصل، قال زيد بن ثابت:[إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه، قال: وغَشِيته السكينة، قال: فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة. قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئًا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سُرِّيَ عنه فقال: اكتب يا زيد. فأخذت كتفًا فقال: اكتب: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" إلى قوله: "أجرًا عظيمًا" فكتبت ذلك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم -وكان رجلًا أعمى- فقام حين سمع فضيلة المجاهدين وقال: يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك؟ قال زيد: فوالله ما قضى كلامه -أو ما هو إلا أن قضى كلامه- غَشِيَت النبي صلى الله عليه وسلم السكينةُ، فوقعت فخِذُه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرّة الأولى، ثم سُرِّيَ عنه فقال: اقرأ. فقرأت عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غير أولي الضرر". قال زيد: فألحقتُها، فوالله لكأني أنظر إلى مُلْحَقِها عند صَدْع كان في الكتف](2).
وقد جاء تفسير عن ابن عباس للآية رواه البخاري من حديث مِقْسم: [أن ابن عباس أخبره: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر، والخارجون إلى بدر](3).
قال الحافظ ابن كثير: (فقوله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} كان مُطْلقًا، فلما نزل بوحيٍ سريعٍ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}، صار ذلك مخرجًا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد -من العمى والعَرَج والمَرَض- عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4592)، والترمذي (3033)، وأحمد (5/ 84)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2507)، وأحمد (5/ 190 - 191)، والحاكم (2/ 81).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4595)، وانظر تفسير ابن كثير، وعزاه أيضًا إلى عبد الرزاق، ثم ذكر له شاهدًا عند الترمذي (3032) والنسائي (137) في التفسير.
قلت: فالمؤمن قد يبلغ بنيته ما لا يبلغه بعمله، وهؤلاء قوم علم الله في قلوبهم الصدق فأنزل الوحي ليستدرك ما يشمل أعذارهم ويشركهم بالأجر والفضيلة.
وفي صحيح البخاري عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه. قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم حَبَسَهُم العذر](1).
وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} .
قال ابن جريج: (على أهل الضرر). وقال ابن جرير: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، على القاعدين من أولي الضرر، درجة واحدة -يعني: فضيلة واحدة- وذلك بفضل جهاده بنفسه، فأما فيما سوى ذلك، فهما مستويان).
وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . قال السدي: (الجنة).
وقوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} . تأكيد لرجوح مباشرة الجهاد وقتال الأعداء، فإن ركوب أهوال الحرب ودخول ساحات الموت له ثوابه الخاص عند الله.
ففي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن في الجنة مئة درجة أعدّها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة](2).
وقوله: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
تأكيد لدرجات اختصهم الله بها في الآخرة من درجات الجنة، رفعهم بها سبحانه على القاعدين لقاء ما أبلوا في ذات الله أثناء مواجهة الأعداء في ساحات القتال.
قال قتادة: (كان يقال: الإِسلام درجة، والهجرة في الإِسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيًّا، وجَبت له الجنة. قال: فعَجِبَ لها أبو سعيد، فقال: أعِدْها عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2839)، و (4423)، وأخرجه أحمد (3/ 103)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (2790)، ورواه أحمد في المسند، وقد مضى.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأخرى يرفع الله العبد بها مئة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله] (1).
ثم أضاف سبحانه إلى الدرجات، مغفرة الذنوب والزلات، وحلول الرحمة والبركات، فهو سبحانه لم يزل {غَفُورًا} لذنوب عباده المؤمنين، يصفح عنهم ما يقلقهم من الخطايا وركام التقصير، {رَحِيمًا} يتفضل عليهم بنعمه، مع ما كان منهم من خلاف أمره ونهيه، ووقوعهم وركوبهم معاصيه.
97 -
100. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
في هذه الآيات: تَحْذيرٌ من التهاون في الدين بحجة الظروف وتحكّم الطغاة وكثرة الفساد، فإن أرض الله واسعة والهجرة ممكنة إلى حيث الأمن على الدين والإيمان، فمن اختار التهاون والمذلة في الدين فإن سوء المصير ينتظره ويتوعده، ولا استثناء في ذلك إلا للمستضعفين من الرجال الشيوخ أو النساء والولدان لا حيلة لهم، فأولئك عسى أن يصفح الله عنهم. ثم إن في الهجرة خيرًا كثيرًا وأجرًا كبيرًا وَكان الله غفورًا رحيمًا.
أخرج البخاري في صحيحه عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: [قُطِعَ على أهلَ المدينة بَعْثٌ، فاكتتبتُ فيه، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبَرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثِّرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهمُ يُرْمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1884)، والنسائي (6/ 19)، وأحمد (3/ 14)، وغيرهم.
يُضْرَب فيُقْتَل، فأنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ] (1).
وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن عكرمة، عن ابن عباس قال:[كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا! فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء: 97]، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فكتبوا إليهم بذلك:"إن الله قد جعل لكم مخرجًا"، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل] (2).
وفي سنن أبي داود بسند حسن عن سَمُرَة بن جندب قال: [أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله](3).
وقوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} . أي بالمكوث في جو الكفر وترك الهجرة.
وقوله: {قَالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} . أي لا نقدر على إقامة ديننا في بلادنا بسبب تسلط الكفار.
وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} - استنكار عليهم بعدم خروجهم في أرض وبلاد الله الواسعة يلتمسون فيها أمن دينهم وتوحيد ربهم وتعظيمه لا شريك له.
وقوله: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} . يعني مسكنهم ومصيرهم. {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي: ساءت مسكنًا ومستقرًا لمن كانت مسكنه ومصيره في الآخرة.
وقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية. قال ابن جرير: (وهم العجزة عن الهجرة، بالعُسْرة، وقلّة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق، من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الإسلام).
وقوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} . أي يصفح عنهم لعذرهم في ترك الهجرة.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4596)، و (7085)، والنسائي في "التفسير"(139).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبري (10265)، وإسناده صحيح، رجاله ثقات كلهم.
(3)
حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (2787)، وانظر صحيح سنن أبي داود (2420).
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} . أي ذو صفح سبحانه عن ذنوب عباده، وذو مغفرة وستر لذنوبهم بعفوه عنها.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: [بَيْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي العِشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد: اللهم أنج عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِني يوسف](1).
وأخرج عبد الرزاق في "التفسير" بسند صحيح عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: (كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان)(2).
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن أبي مُليكة عن ابن عباس: "إلا المستضعفين" قال: (كانت أمي ممن عذر الله عز وجل (3).
وقوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} .
قال ابن عباس: (المُراغَم التحول من أرض إلى أرض). وقال مجاهد: ("مراغمًا كثيرًا": يعني مُتَزحزحًا عما يكره). وقال سفيان بن عيينة: ("مراغمًا كثيرًا": يعني بروجًا).
وقال ابن جرير: ("مراغمًا كثيرًا": وهو المضطرب في البلاد والمذهب).
وقال ابن كثير: (والظاهر -والله أعلم - أنه الممتَنَعُ الذي يُتحصَّن به، ويُراغَمُ به الأعداء).
والمقصود ترغيب المؤمن بمفارقة دار الكفر والفساد وحياة المشركين، إلى دار الإيمان وأخوة الإسلام، فإنه حيثما اتجه المؤمن يجد بإذن الله مندوحة وملجأ يتحصن فيه ويفرّ بدينه. والمُراغَمُ في كلام العرب المذهَبُ والمَهْرب.
وقوله: {وَسَعَةً} . قال ابن عباس: (السعة في الرزق). وقال قتادة: (إي والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن العَيْلة إلى الغنى).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4598)، ومسلم (675) ح (295)، وأخرجه أبو داود (1442).
(2)
حديث صحيح. أخرجه عبد الرزاق في "التفسير"(632)، وأورده الحافظ ابن كثير في التفسير.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4597) من حديث ابن أبي مُليكة عن ابن عباس، وكذلك أخرجه من وجه آخر (1357)، (4587).
وقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . ضمان من الله سبحانه بكامل الأجر ووافي الثواب لمن خرج من منزله بنية الهجرة فمات أثناء الطريق، أي فله أجر من هاجر دون نقصان.
أخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال: [نزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}، فكان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر، وكان مريضًا فقال لأهله: أخرجوني من مكة فإني أجد الحر، فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة، فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى آخر الآية](1).
ورواه أبو يعلى وفيها: (فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا المعنى في تمام أجر من خرج مهاجرًا إلى الله ومات في الطريق:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن والمسانيد عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه](2).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخْرِجُهُ إلا إيمانٌ بي وتصديق بِرُسلي أن أرْجِعَهُ بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخِلَه الجنة، ولولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولودِدْتُ أني أُقتل في سبيل الله، ثم أُحيا، ثم أُقتل، ثم أُحيا ثم أقتل](3).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كان في بني إسرائيل رجلٌ قتل تسعة وتسعين إنسانًا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبًا فسأله فقال له: توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قريةَ كذا وكذا، فأدْركه الموت فناءَ بصدْرِه نحوَها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن جرير في "التفسير"(10299) ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - سورة النساء، آية (100).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907)، وأحمد (1/ 43)، وأبو داود (2201) والترمذي (1647) والنسائي (7/ 13)، وابن ماجة (4227)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (36)، كتاب الإيمان، وانظر كذلك (7457)، كتاب التوحيد.
العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقرّبي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوُجِدَ إلى هذه أقربَ بشبرٍ فغُفِرَ له] (1).
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . يعني لم يزل ساترًا ذنوب عباده المؤمنين، يصفح عن ذنوبهم ويتجاوز عن كثير مما سقطوا فيه من الآثام إذا تابوا إليه، "رحيمًا" بهم رفيقًا ورؤوفًا وحليمًا.
101.
في هذه الآية: ترخيصٌ من الله سبحانه في قصر الصلاة لمطلق السفر والضرب في الأرض.
فقوله: {ضَرَبْتُمْ} . أي: سافرتم. وفي التنزيل: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: [إن الصلاة فُرضت في الخضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة](2).
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن يعلى بن أمية قال: [سألت عمر بن الخطاب قلت له: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد أمَّنَ الناس؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبْتُ مما عجِبْتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته](3).
فبقيت الرخصة قائمة في مطلق السفر ومطلق الظروف، فالآية تدل على تشريع القصر، وتحدده بالخوف من الكفار، والسنة تطلقه في جميع الأحوال.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3470)، كتاب أحاديث الأنبياء، ومسلم (2766)، وأحمد (3/ 20). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (687)، وأبو داود (1247)، والنسائي (3/ 168 - 169)، وغيرهم. من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (686)، وأبو داود (1199)، والترمذي (3034)، وابن ماجة (945)، وأحمد (1/ 25)، (1/ 36)، والبيهقي (3/ 134)، (3/ 140).
أخرج الترمذي بسند صحيح عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس: بأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين، فصلى ركعتين] (1).
وله شاهد عند ابن أبي شيبة عنه بلفظ: [صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، ونحن آمنون لا نخاف بينهما، ركعتين ركعتين](2).
وأخرج البخاري عن حارثة بن وَهْب قال: [صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمَن ما كان بمنى ركعتين](3).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فَأُقِرَّت صلاة السفر، وزيدَ في صلاة الحضر](4).
قلت: والورع هو الأخذ بالرخصة في السفر وقصر الصلاة فهو الأحب إلى الله ورسوله، وليس الإتمام.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحبُ أن تؤتى عزائِمه](5).
وفي لفظ: (كما يكره أن تؤتى معصيته).
ويرى مالك أن القصر فرض، في حين أكثر العلماء أنه سنة وهو مذهب الشافعي.
وقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} . أي: قد أبانوا عداوتهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله ورسوله، فتمسكوا بدينكم فهو عزّكم وبه تغيظون عدوكم، واحرصوا على رخصة ربكم، ففيها إظهار لجمال شعائركم وهديكم.
102.
قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (547)، والنسائي (3/ 117)، وأحمد (1/ 215)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 337)، والنسائي (3/ 117 - 118).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1083)، (1656)، وأخرجه أحمد (4/ 306)، وابن حبان (2757). من حديث حارثة بن وهب - رضي الله تعالى عنه -.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (350) و (1090)، ومسلم (685) وأحمد (6/ 272)، وغيرهم.
(5)
حديث صحيح. وأخرجه البيهقي والطبراني وابن حبان. انظر صحيح الجامع (1881)، (1882).
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}
في هذه الآية: تشريعُ صلاة الخوف أثناء القتال في المعركة: للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة، ولها أيضًا أشكال كثيرة. فإلى تفصيل ذلك التشريع الرهيب.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي قال:[كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعُسْفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غِرَّتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، قال: فصففنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعًا، ثم رفع فرفعنا جميعًا .. ](1).
قلت: وقد وردت صلاة الخوف في السيرة في أشكال مختلفة، راعى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ظروف القتال.
قال الخطابي: (صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوقى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة).
وتفصيل ذلك:
الشكل الأول: صف مع الإمام وصف وُجَاه العدو، فيصلي بالذين يلونه ركعة ثم يقوم قائمًا حتى يصلي الذين معه ركعة أخرى، ثم ينصرفون وجاه العدو، وتجيء الطائفة الأخرى التي دخلت معه بالصلاة ليصلي بهم ركعة، ويثبت جالسًا، فيُتِمُّونَ لأنفسهم ركعة أخرى، ثم يسلم بهم جميعًا.
والدليل ما روى البخاري من حديث أبي حثمةَ رضي الله عنه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 59 - 60)، وأبو داود (1236)، والنسائي (3/ 176).
بأصحابه في خوف (1) فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قُدّامَهُمْ، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم] (2).
الشكل الثاني: صفان خلف الإمام، يركع بهم جميعًا، ثم يسجد بالصف الأول والآخرون قيام يحرسونهم، فإذا قاموا سجد الآخرون، ثم تأخر الصف الأول لمكان الثاني، وتقدم الثاني لمكان الأول، ثم يركع بهما ويسجد بالأول والآخرون يحرسونهم، فإذا جلس الإمام والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعًا ثم سلم بهم جميعًا.
والدليل ما روى أبو داود عن أبي عياش الزرقي قال: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة. لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستقبل القبلة والمشركون أمامه، فصَفَّ خلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صف، وصفَّ بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذين يلونَهُ، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم.
فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، فسلم عليهم جميعًا، فصلاها بعُسْفان، وصلاها يوم بني سليم] (3).
الشكل الثالث: صف خلف الإمام وصف وجاه العدو، فيصلي بالأول ركعة ويثبت قائمًا، ويتموا لأنفسهم ركعة ثم يسلموا وينصرفوا وجاه العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى، واختلف في السلام.
(1) والمراد كما في رواية: يوم ذات الرقاع.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4131)، كتاب المغازي، وانظر كتابي: السيرة النبوية (2/ 1157) لتفصيل أشكال صلاة الخوف في عهد النبوة.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (1096)، باب صلاة الخوف.
والدليلَ ما في الصحيحين عن صالح بن خوّات: عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: [أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو. وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم](1).
وفي سنن أبي داود عن سهل بن أبي حثمة نحوه قال: [ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم ويسجد بهم، ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون](2).
ورواه البخاري دون ذكر التسليم. قال الألباني رحمه الله: (وهو موقوف، وما قبله مرفوع، وفيه سلام الإمام بالطائفة الثانية وهو الأصح).
الشكل الرابع: يكبرون معًا وإن كانوا مستدبري القبلة ثم يصلي بمن معه ركعة، ثم يأتون مصاف أصحابهم ويجيء الآخرون فيركعون لأنفسهم ركعة، ثم يصلي بهم ركعة ثم تقبل الطائفة التي كانت مقابل العدو فيصلون لأنفسهم ركعة، والإمام قاعد، ثم يسلم بهم جميعًا.
فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن مروان بن الحكم: [أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، قال مروان: متى؟ فقال أبو هريرة: عام غزوة نجد، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر، فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، ظهورهم إلى القبلة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعًا الذين معه والذين مقابلي العدو، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة، وركعت الطائفة التي معه، ثم لم سجد فسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلي العدو، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو، ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه، ثم كان
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4129)، كتاب المغازي، ورواه مسلم وغيره.
(2)
حديث إسناده صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (1104)، باب صلاة الخوف.
السلام، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعًا، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة] (1).
الشكل الخامس: يصلي بكل طائفة ركعة ثم يسلم، فيقوم كل صف فيصلون لأنفسهم ركعة.
والدليل ما في الصحيحين عن ابن عمر: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا، فقاموا في مقام أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم عليهم، ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم](2).
الشكل السادس: يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون.
والدليل ما روى أبو داود بسند صحيح عن ثعلبة بن زهدم، قال:[كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا](3).
وقد مضى حديث ابن عباس عند الإمام مسلم وفيه فرض الله تعالى الصلاة في الخوف ركعة.
الشكل السابع: يصلي بكل طائفة ركعتين.
فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي بكرة قال: [صلّى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو، فصلى بهم ركعتين ثم سلّم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتيان](4).
قال أبو داود: (وبذلك كان يفتي الحسن).
وجملة القول: فصلاة الخوف تُصلى بأشكال مختلفة، وذلك حسب ما يقرره القائد المسلم.
(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود، حديث رقم- (1105) - باب صلاة الخوف.
(2)
حديث صحيح. رواه الشيخان عن ابن عمر، ورواه أبو داود. انظر المرجع السابق (1108).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم (1159) - باب صلاة الخوف.
(4)
حديث صحيح. انظر المرجع السابق - حديث رقم (1112) - الباب السابق.
قال الحافظ ابن كثير: (وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ورجالًا وركبانًا، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة).
ثم ذكر قول الأوزاعي رحمه الله: (إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين).
وقال: ومن العلماء من قال: (يصلون والحالة هذه ركعة واحدة). وبه قال أحمد بن حنبل. وقال إسحاق بن راهويه: (أما عند المسابقة فيجزيك ركعة واحدة تؤمئ بها إيماء)(1).
قلت: فَيَا وَيْلَ من ضيّع صلاة الجماعة في الحضر والرخاء دون عذر، وقد أبى الله إلا الجماعة حتى في القتال وأثناء الخوف واقتراب العدو، وقد استدل كثير من الفقهاء من صلاة الخوف وتشريعها على وجوب الصلاة في المسجد مع الجماعة لمن سمع النداء إلا من عذر، كمرض أو سفر.
المعنى: تمنى الكفار لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم ليحملوا عليكم حملة واحدة، ولينالوا منكم غِرَّة يكون فيها قتلكم واستباحة عسكركم.
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: [{إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال: عبد الرحمن بن عوف وكان جريحًا](2).
قال الحافظ ابن حجر: (أي فنزلت الآية). قلت: والتصريح بلفظ النزول أخرجه الحاكم (3).
(1) انظر تفسير ابن كثير - سورة النساء، آية (102) -، وكتابي: السيرة النبوية (2/ 1162).
(2)
حديث صحيح. انظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة النساء - آية (102).
(3)
أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. وانظر المرجع السابق.
وقوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} . أَمْرٌ بأخذ الحذر، لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} . أي: عذابًا مذلًا موجعًا فيه الألم والذل والمهانة.
103 -
104. قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}.
في هذه الآيات: تأكيد على ذكر الله عقب صلاة الخوف مع ورود الترغيب فيه عقب كل صلاة، إلا أنه أثناء المعركة وفي ساحات القتال أمر أبلغ، فإن حاجة المجاهد إلى عون الله ومدده شديدة لإحداث الهزيمة في العدو. ثم تأكيد على وجوب صلاة الجماعة والمحافظة على أوقات الصلوات المكتوبات. ثم حث على تحمل آلام القتال والنزال فإن العدو يألم كما تألمون معشر المسلمين مع أنهم لا يرجون ما ترجون، وكل أمر يمضي بعلمه وحكمته سبحانه وتعالى.
فقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} .
قال ابن جرير: (بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسّر والعلانية، وعلى كل حال). وقال ابن كثير: (أي في سائر أحوالكم).
وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} . يعني: إذا ذهب الخوف فصلوا صلاتكم بإقامة أركانها وواجباتها وخشوعها وجميع شؤونها، ويشمل ذلك عند انتهاء القتال أو العودة إلى حياة السلم.
قال قتادة: (يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم، فأتموا الصلاة). وقال السدي: (فإذا اطمأننتم بعد الخوف). وقال ابن زيد: (فإذا اطمأننتم فصلوا الصلاة، لا تصلّها راكبًا ولا ماشيًا ولا قاعدًا).
وقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} . قال ابن عباس: (أي مفروضًا).
وقال ابن مسعود: (إن للصلاة وقتًا كوقت الحج). وقال زيد بن أسلم: (منجَّمًا، كلما مضى نجم جاء نجْم آخر. يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر) ذكره ابن جرير.
قال قتادة: (يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تيجعون، فإنهم ييجعون كما تيجعون، وترجون من الله الأجر والثواب ما لا يرجون).
أي: كما ينزل بكم ألم الجراح والقتل، فإنه ينزل بعدوكم، وأنتم أولى بالصبر منه فإنكم:{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} يعني المثوبة والجنة مقابل القتال والجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض.
وفي التنزيل: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140].
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} . أي يعلم أمثل القضاء والتقدير فيمضيه بحكمته الكاملة، فهو أحكم الحاكمين.
105 -
159. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}.
في هذه الآيات: خِطاب من الله لرسوله بأن الكتاب المخزل عليه حق من الله ويتضمن الحق في كل أمره وخبره، ليحكم به بين الناس ووفق منهاجه، فلا تدافع به عن خائن. وأَمْرٌ من الله لرسوله باستغفاره عما سلف من خصومته لذلك الخائن أو هَمّ بذلك. ثم تحذير من المجادلة عن الخونة ومرتكبي الخيانة والآثام فإن الله لا يحب أهل الخيانة والإثم. الذين يستخفون في الدنيا والله مطلع على سرائرهم ومكرهم وتنتظرهم فضيحة الآخرة، فإنه إن وجد من يجادل عنهم في الدنيا فمن لهم بين يدي الله يوم القيامة، ومن يتوكل بالدفاع عنهم؟ !
أخرج الترمذي وابن جرير بسند حسن
…
حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: [كان أهل بيت منا يقال لهم: بَنُو أُبيرق: بِشْر وبُشَير ومُبَشَّر، وكان بُشَير رجلًا منافقًا، يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يَنْحَلُهُ، لبعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث قالوا: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدِمت ضافِطَةٌ (1) من الشام من الدَّرْمَكِ (2) ابتاع الرجل منها فخصَّ بها نفسَهُ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافِطةٌ من الشام فابتاع عمي رفاعةُ بن زيد حمْلًا من الدَّرْمَكِ فجعله في مَشْرَبة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعُدِي عليه من تحت البيت، فنُقِّبت الْمشربة، وأخد الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي، إنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه، فَنُقِبَتْ مشربتنا، فذُهِبَ بطعامنا وسلاحنا. قال: فتحسَّسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أُبَيرقٍ استوقَدوا في هذه الليلة، ولا نُرى فيما نُرى إلا على بعض طعامكم. قال: وكان بنو أُبَيرقٍ قالوا - ونحن نسأل في الدار - والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجلًا منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ ! والله ليخالطنَّكم هذا السيف أو لتُبَينُنَّ هذه السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها. فسألنا في الدار حتى لم نَشُكّ أنهم أصحابُها، فقال لي عمّي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء عَمَدُوا إلى عمي رفاعة بن زيد، فنَقَبُوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سآمر في ذلك. فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلًا منهم يقال له: أُسير بن عُروة فكلّموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمَّه، عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينةٍ ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلّمتُه، فقال: عَمَدْتَ إلى أهل بيت ذُكِرَ منهم إسلام وصلاح،
(1) الضافطة: الضفاط: القوم الذين يجلبون الميرة والطعام إلى المدن وكانوا يومئذ قومًا من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغير ذلك.
(2)
الدرمك: الدقيق الأبيض.
ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت؟ قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، ما صنعتَ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} يعني بني أبيرق، {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي مما قلت لقتادة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} إلى قوله:{رَحِيمًا} أي لو استغفروا الله لغفر لهم {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} - إلى قوله - {وَإِثْمًا مُبِينًا} قولهم للبيد. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} - إلى قوله - {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة. فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا قد عشا أو عسا -الشك من أبي عيسى- في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولًا، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} . فلما نزل على سلافة بنت سعد، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير] (1).
وقوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} .
قال القرطبي: (معناه على قوانين الشرع، إما بِوَحيٍ وَنَص، أو بنظر جارٍ على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئًا أصاب، لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العِصْمة، فأما أحدنا إذا رأى شيئًا يظنه فلا قطع فيما رآه).
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (3036)، والحاكم (4/ 385)، وابن جرير الطبري في التفسير (10416)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وله شواهد. وانظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2432) - كتاب التفسير- سورة النساء - الآيات (105 - 109).
فهذه الآية تبين أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم باجتهاده، وقد استدل بها علماء الأصول على ذلك.
وفي الصحيحين عن أم سلمة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جَلبة خَصْمٍ بباب حُجْرَتِه، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون أَلْحَق بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعة من نار فَلْيَحْمِلْها أو لِيَذَرها](1).
وتفصيل هذا الحديث في مسند أحمد، قالت أم سلمة:[جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريثَ بينهما قد دَرَسَتْ، ليس عندهما بَيّنةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعةً من النار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة". فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقِّي لأخي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخَّيا الحق بينكما ثم اسْتهِمَا، ثم ليُحْلِلْ كل واحد منكما صاحبه](2).
وقوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} . فيه نهي عن الدفاع عن المبطل والمتَّهم في الجور والخصومة أو عضده والنيابة عنه.
وقوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
قال ابن عطية: (وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم). قيل: فالمعنى استغفر الله للمذنبين، وقيل: أمر بالاستغفار على طريق التسبيح. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} ، ذكره القرطبي.
وذهب ابن جرير إلى أن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر من ذنبه في خصام الخائن، وهذا مذهب من جوّز الصغائر على الأنبياء صلوات الله عليهم.
قلت: والعبد يحتاج إلى الاستغفار في كل أحواله، وكذلك الحاكم والعالم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713)، وأحمد (6/ 203)، وأكثر أهل السنن. من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2)
إسناده جيد. أخرجه أحمد (6/ 308) - (6/ 320)، وأبو داود (3583)، والبيهقي (6/ 66).
والمجتهد ليسلم منهاجه عند الله حتى لو اجتهد فأصاب، فالاستغفار تطهير للنفس من حظوظها، وكلما رقيت مرتبة العبد بين الناس احتاج لذلك الاستغفار أكثر، فالخطاب وإن كان موجهًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو للولاة والقضاة والحكام بعده من باب أولى.
وفي صحيح مسلم عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة](1).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة](2).
وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} .
أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، والمجادلة المخاصمة. قيل من الجدل: الفتل، أو من الجَدالة وهي وجه الأرض، فكل واحد من الخصمين يريد أن يُلقي صاحبه عليها. والخوّان: الخائن، إلا أنه في لفظ أبلغ، لعظم خيانته.
وقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} . أي: يستترون من الناس لئلا يفتضحوا، وقد غفلوا عن رؤية الله لهم {وَهُوَ مَعَهُمْ} أي بعلمه وسمعه وبصره.
وقوله: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} . أي: يقولون ما لا يرضاه تعالى لأهل طاعته. قاله ابن عباس.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} . أي: محصيًا حافظًا لا يخفى عليه من أمرهم شيء حتى يوافيهم ويجازيهم به يوم القيامة.
استفهام بمعنى التوبيخ والإنكار، فهو يشمل كل من خاصم عن الخونة وقام بتدبير أمورهم والدفاع عنهم في أكلهم أموال الناس وحقوقهم بالباطل، فهم إن عبروا في الدنيا ولم يكشف أمرهم أو ظهروا بمظهر مزيف كاذب، فمن لهم يوم القيامة يقوم
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2702)(41)، وأبو داود في السنن -حديث رقم- (1515). والغين: ما يتغشى القلب من الغفلات.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 85)، وأخرجه الترمذي في السنن (3255)، وغيرهما.
بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار، ومن يتوكل للدفاع عنهم يومئذ، وقد جُعل الوكيل والموكل له في نقاش الحساب، ومن نوقش الحساب فقد هلك.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس أحد يحاسبُ يومَ القيامة إلا هلك. قلت: أو ليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش في الحساب يهلك](1).
وفي سنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أعان على خصومة بظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع](2).
وله شاهد عند أبي داود في السنن، وعند الحاكم والسياق له عن عبد الله بن عمر مرفوعًا:[من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دينٌ فليس ثَمَّ دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال](3).
110 -
113. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}.
في هذه الآيات: تَرغيبٌ في التوبة مما اكتسب العبد من الظلم واجترح من الآثام،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه برقم (4939)، وأخرجه مسلم (2876).
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (2320). انظر صحيح ابن ماجة (1878). ورواه الحاكم. انظر تخريج الإرواء (2376)، وصحيح الجامع الصغير- رقم (5925).
(3)
صحيح الإسناد. أخرجه أبو داود (2/ 117)، والحاكم (2/ 27)، وأحمد (2/ 70). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (438)، وله شواهد.
وتَحْذيرٌ من الإصرار والتعمد، أو الافتراء والظلم ونسب المعصية إلى غير صاحبها، وتَفضُّلٌ من الله على نبينا صلى الله عليه وسلم بالرعاية والحماية من الزلل، وإنزال الكتاب والسنة عليه وتعليمه الحق والحكم وكان فضل الله عليه عظيمًا.
قال ابن عباس: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} ، قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه، وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال).
وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} . المعنى: لا يغني أحد عن أحد، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وهذا من علم الله وحكمته.
وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . هذا في الذي يرمي بما أتى من المعصية من هو بريء، فقد أتى فرية وكذبًا وهو البهتان، وتحمل وزرًا عظيمًا، يبين عن أمر متحمِّله وجراءته على ربه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكْرُكَ أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه](1).
وفي لغة العرب: بَهَتَه بَهْتًا وبَهُتًا وبُهْتانًا إذا قال عليه ما لم يفعله. وبُهِتَ: دُهِشَ وتحيّر.
وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} . قيل: بأن نبهك للحق، وقيل: بالنبوءة والعصمة. {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} عن الحق، وذلك في شأن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أُبيرق من التهمة ويُلحقها اليهودي.
وقوله: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} - لأن وبال ذلك راجع عليهم.
وقوله: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} - لأنك معصوم وقد تكفل الله بحمايتك من الزلل.
وقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . أي: القرآن والسنة. قيل هذا ابتداء، وقيل الواو للحال.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2589)، وأبو داود (4874)، وأحمد (2/ 230)، وغيرهم.
قال القرطبي: (فالكلام متصل، أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن. "والحكمة" القضاء بالوحي).
وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} . أي من التشريع وفصل القضاء والأحكام.
وقوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} - بكل ما سبق بيانه وبغيره من النعم الكبيرة الأخرى.
114 -
115. قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}.
في هذه الآيات: الندب إلى الصدقة وفعل الخيرات والإصلاح بين الناس والنجوى بنحو ذلك، والتحذير من ترك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاج المؤمنين.
قال ابن جرير: (لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا).
وقوله: " {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} . المعروف: هو ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير. والإصلاح بين الناس: يعني بين المتخاصمين ليعودوا إلى الألفة ووحدة الكلمة ويسدوا الباب على الشياطين.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه، عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[ليس الكذاب الذي يُصْلِحُ بين الناس فَيَنْمي خيرًا أو يقول خيرًا](1).
وقالت: [لم أسمعه يرخِّص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها](2).
وفي سنن أبي داود والترمذي بسند جيد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2692)، كتاب الصلح. باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس. من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 403)، وأبو داود (4920)، وانظر صحيح مسلم (2605)، ورواه الترمذي (1938)، وانظر سنن البيهقي (10/ 197)، وصحيح ابن حبان (5733).
[ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البَيْن. قال: وفساد ذات البين هي الحالقة](1).
وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .
أي: من يأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس يريد بذلك وجه الله سبحانه، فإن الله سبحانه قد تكفل له بأعظم الثواب وأحسن الأجر.
أي: من يفارق طريق رسول الله أو يعاديه، ويمضي على غير سبيل ومنهاج أصحابه المؤمنين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فإن الله يتوعده أسوأ العذاب في جهنم وبئس المصير.
وقد عوّل الشافعي رحمه الله في هذه الآية على الاحتجاج بكون الإجماع حُجّة تَحْرُم مخالفته.
116 -
122. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَال لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}.
في هذه الآيات: ترهيب من مغبة الشرك وسوء عاقبته عند الله وإمكانية مغفرة ما دونه
(1) إسناده جيد. أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2519)، وأحمد (6/ 444)، وغيرهم.
من الكبائر والصغائر، فالشرك ضلال بعيد، إنهم يدعون أوثانًا ويزعمون الملائكة بناتًا، وهم يدعون شيطانًا مريدًا استحق لعنة الله فتوعد بإضلال الذرية من بني آدم، بأمرهم بتغيير خلق الله وتبتيك آذان الأنعام واتباع الجاهلية، فيتوعد الله من يطيعه بصلي نار جهنم. وأما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فقد وعدهم ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار فيها نعيم وخلود، والله أصدق القائلين.
قال السدي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين).
وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} . أي زال بشركه عن قصد السبيل، وطريق الحق زوالًا شديدًا، فالضياع كل الضياع، والضلال كل الضلال في الشرك.
وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} - فيه أكثر من تأويل:
1 -
إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى ومناة، فسماهن الله إناثًا بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث. قال السدي. (يسمونهم "إناثًا": لاتٌ ومناة وعُزَّى).
وقال أبو مالك: (اللات والعزى ومناة، كلها مؤنث). وقال ابن زيد: (آلهتهم، اللات والعزى ويَسَاف ونائلة، إناث، يدعونهم من دون الله. وقرأ: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}).
2 -
قيل بل المعنى: إن يدعون من دونه إلا مواتًا لا رُوح فيه.
قال ابن عباس: ({إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} يقول: مَيْتًا). وقال قتادة: (إلا ميتًا لا رُوح فيه). وقال الحسن: (و"الإناث" كل شيء ميت ليس فيه روح: خشبة يابسة أو حجر يابس).
3 -
قيل بل عني بذلك قول المشركين: الملائكة بنات الله.
قال الضحاك: ({إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا}، قال: الملائكة، يزعمون أنهم بنات الله).
4 -
قيل بل المعنى: (الإناث: الأوثان). قال مجاهد: ("إناثًا". أوثانًا).
والقول الأول هو الراجح وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله.
وقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} . قال قتادة: (تَمَرَّدَ على معاصي الله).
والمقصود أنه متمرد على الله بمخالفة أمره وتكبّره وغروره.
وقوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ} . أي: أخزاه وأقصاه وأبعده من كل خير، فهو ملعون رجيم.
وقوله: {وَقَال لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} . قال الضحاك: (معلومًا).
فالشيطان أخذ على نفسه إذ أبعده الله إغواء ذرية بني آدم حسدًا وعلوًا وبغيًا، بتزيين الضلالة لهم حتى يزيلهم عن منهج طريق الهدى ويركبوا طريق الضلال، فمن اتبع ذلك فهو من نصيبه المعلوم، وحَظِّهِ المقسوم، ويكون قد صدّق بذلك ظن إبليس وأمانيه إذ رضي لنفسه أن يكون جزءًا من حظ أماني إبليس اللعين.
وقوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} . أي: لأصدنهم عن الطريق، ولأزيغنهم بالأماني الكاذبة التي تملأ نفوسهم.
وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} . قال قتادة: (البتك في البحيرة والسائبة، كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم). وقال السدي: (فيشقونها، فيجعلونها بحيرة).
وقال عكرمة: (دينٌ شرعه لهم إبليس، كهيئة البحائر والسُّيَب).
والمقصود: تشقيق آذان بعض الأنعام وجعلها علامة وَسِمَةً للبحيرة والسائبة والوصيلة. فكانت العرب في الجاهلية إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر شقوا أذنها وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تمنع عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي المنقطع به لم يركبها. وهذه هي البحيرة.
وأما السائبة: فهي الناقة تسيّب للأصنام لنحو بُرْء من مرض أو نجاة في حرب.
وسيأتي تفصيل ذلك في آية المائدة إن شاء الله.
وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . قال ابن عباس: (يعني بذلك خصاء الدواب). وقال الحسن: (الوشم). وقال مجاهد: (الفطرة، دين الله).
قلت: وكل ما يجري اليوم من عمليات التجميل والوشم والنمص وتغيير لون البشرة وتفليج الأسنان للحسن وغير ذلك مما يشير إلى عدم الرضا عن الله في خلقه داخل في مفهوم هذه الآية ووعيدها.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصِلَة والمُسْتَوْصِلَة والواشِمة والمُسْتَوشِمة](1).
والواشمة هي التي تغرز إبرًا في الجلد ليخرج الدم وتذرّ بموضعه كحل أو نيل ليتلون به، والمستوشمة من تطلب أن يفعل بها ذلك.
والوشر تحديد الأسنان، وقد جاء النهي عن تفليج الأسنان للحسن.
ففي الصحيحين عن ابن مسعود قال: [لعن الله الواشمات والمستوشِمات، والنامِصات والمتنمصات، والمتفلّجات للحُسْن، المغيّرات خلقَ الله](2).
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجْتالتهُم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحْلَلْتُ لهم](3).
والمقصود أن خلق الله هو الأقوم والأمثل، كما قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . وفطرة الله التي فطر الناس عليها هي الأحسن والأكمل، ومخالفة ذلك اتباع لسبيل الشياطين.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يمجِّسَانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاءَ، هل تُحسّون فيها من جدعاء](4).
وقوله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} .
أي: من يطع الشيطان ويرضاه ويواليه نصيرًا من دون الله فقد أورد نفسه موارد العطب والخسارة والهلاك.
وقوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} . قال ابن جرير: (يعد الشيطان المَرِيدُ أولياءَه الذين هم نصيبُه المفروض: أن يكون لهم نصيرًا ممن أرادهم بسوء، وظهيرًا لهم عليه، يمنعهم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 317)، ومسلم (2124)، وأخرجه الترمذي (2784)، وغيرهم. من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 313)، و (10/ 314)، وأخرجه مسلم (2125)، وغيرهما. من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2865)، وأحمد (4/ 266)، وابن حبان (653)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4775)، ومسلم (2658)، وأحمد (2/ 253)، وغيرهم.
منه ويدافع عنهم، ويمنيهم الظفر على من حاول مكروههم والفَلَج عليهم). وقال ابن كثير:(يعد أولياءه ويمنِّيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك).
وقوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} . أي: إلا باطلًا وكذبًا ومكرًا.
وقوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} . أي: جهنم مأوى الذين اتخذوا الشيطان وليًّا من دون الله، ولا يجدون عنها مَعْدِلًا يعدلون إليه، ولا مندوحة ولا مناص ولا خلاص. وفي لغة العرب: حاصَ فلان عن أمر فهو يحيص حَيْصًا إذا عدل عنه.
هذه هي الصورة المقابلة لتلك الصورة، بساتين نعيم وجمال وخلود، وأنهار تجري في ربوعها، أعدّها الله نزلًا للقائمين بأمره المتنكرين لسبل الشيطان وغروره ومنهاجه، وَعْدٌ من الله وهو أصدق من وعد سبحانه وتعالى، وأصدق من قال.
وفي صحيح مسلم من حديث جابر: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صَوْتُه، واشتد غضبُه، حتى كأنه مُنْذِرُ جيش يقول: صبّحكم مَساكُم
…
ويقول: أما بعدُ، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد].
وفي روايات أخرى عند النسائي والبيهقي وابن ماجة وأحمد - واللفظ للنسائي: [إن أصدق الحديث كلام الله، وخيرُ الهَدْي هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرُّ الأمور مُحْدَثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار](1).
123 -
126. قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
(1) حديث صحيح. انظر للروايات المختلفة صحيح مسلم (867)، وسنن النسائي (3/ 188)، وابن ماجة (45)، وأحمد (3/ 310 - 311 - 337 - 338 - 371)، والبيهقي (3/ 213).
نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا}.
في هذه الآيات: تأكيدٌ على مجازاة الذنوب والخطايا في الدنيا والآخرة وما يدفع الله أكثر، وترغيب في اتباع الخطايا بالتوبة والعمل الصالح، فإنّ ذلك من أحسن ما يعالج به الزلل، ثم تنبيه لثواب الإخلاص لله في المنهج واتباع ملة التوحيد ملة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو أعلى مقامات العمل، والله له كل ما في هذا الكون الفسيح، وهو محيط بكل شيء، قد وسع كل شيء علمًا.
يروي ابن جرير بسنده عن مسروق قال: (تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! قال: فأنزل الله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} .
وكذلك روى عن قتادة قال: (ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيُّنا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبيُّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله! فأنزل الله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، إلى قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، فأفلج الله حُجَّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان).
وذكر عن السدي نحوه وفي آخره: (ثم فضل الله المؤمنين عليهم فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} .
ثم قال ابن جرير: (إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان. وما إليه صائرة أمانيهم، مع سيِّئ أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمّ جل ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}، لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنِّيهموها بقوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ}).
وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} . أي كل من عمل سوءًا صغيرًا أو كبيرًا من مؤمن أو كافر، جوزي به. وفي هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج سعيد بن منصور بسند حسن عن عُبيد بن عُمير، عن عائشة:[أن رجلًا تلا هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، فقال: إنا لنُجْزى بكل عمل؟ هلكنا إذن. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نعم يُجْزَى به المؤمن في الدنيا في نفسه وفي جسده فيما يؤذيه](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: [لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بلغَتْ من المسلمين مَبْلغًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسدِّدوا، ففي كلِّ ما يُصابُ به المسلم كفَّارةٌ، حتى النَّكبَةِ يُنكَبُها، أو الشوكةِ يشُاكها](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما يُصيبُ المسلم من نصب ولا وصب ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ، حتى الهمِّ يُهَمُّه إلا كفَّر الله بها من سيئاته](3).
الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن زينب بنت كعب بن عُجرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذه الأمراض التي تُصيبنا، ما لنا بها؟ قال: كفارات. قال أُبيّ: وإن قَلَّت. قال: وإن شوكة فما فوقها. قال: فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعكُ حتى يموت، في أن لا يشغله عن حَجّ ولا عُمْرة ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسَّه إنسان إلا وجد حرَّه، حتى مات رضي الله عنه] (4).
وذكر ابن جرير بسنده عن الربيع بن زياد قال: (قلت لأبيّ بن كعب: قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، والله إن كان كل ما عملنا جُزينا به هلكنا! قال: والله إن كنتُ لأراك أفقهَ مما أرى! لا يُصيب رجلًا خدشٌ ولا عثرةٌ إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللَّدغة والنَّفْحة).
(1) إسناده حسن، رجاله ثقات. انظر تفسير ابن كثير، حديث رقم (2279).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (2574)، كتاب البر والصلة، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 248).
(3)
حديث صحيح: أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2573)، وأحمد (3/ 4)، (3/ 48)، وغيرهم. من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(4)
حديث رجاله ثقات. أخرجه أحمد في المسند (3/ 23)، ورواه أبو يعلى (995)، وله شواهد.
ثم روى عن أبي المهلب قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ، قالت:(ذاك ما يصيبكم في الدنيا).
والخلاصة: لَا مَفَرَّ من تذوق أثر الخطايا والذنوب في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وما يدفع الله أكثر، ثم إن من تاب وتاب الله عليه نجّاه يوم القيامة وستر عليه.
يروى الطبراني بسند حسن عن البراء بن عازب مرفوعًا: [ما اختلج عِرْقٌ ولا عَيْنٌ إلا بذَنْبٍ، وما يدفَعُ الله عنه أكثر](1)
وقوله: {وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} . أي لا يجد فاعل المعصية من بعد الله من يحميه من غضب الله وبأسه أو ينصره من عقاب الله وألمه.
قال السدي: (أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان).
والمقصود: لابد من العمل الصالح مع الإيمان، فإن الإيمان يشمل القول والعمل معًا، والموعد الجنة ولا يظلم أحد نقيرًا. قال مجاهد:(النقير، الذي يكون في ظهر النواة). وقال عطية: (النقير، الذي في وسط النواة).
فإن شرط القبول: الإخلاص وسلامة المنهج. والمنهج هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ملة التوحيد وإفراد الله بالتعظيم.
قال القاسمي رحمه الله: ("وهو محسن" أي آت بالحسنات تارك للسيئات. أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي).
فخلاصة المعنى: أحسن الدين عند الله ما كان:
(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"(رقم 1053) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2215).
1 -
على الإخلاص ابتغاء وجهه تعالى لا شريك له. أي على منهاج التوحيد ملة أبينا إبراهيم.
2 -
على منهج الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم في العمل الصالح وبلوغ مرتبة الإحسان.
وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} . أي: وليًّا. والخلة أرفع درجات المحبة، وقد ثبتت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيضًا. ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: [أما بعد، أيها الناس، فلو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا، لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله](1).
وفي صحيح مسلم من حديث جُندب بن عبد الله البَجلي وعبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا](2).
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} .
المعنى: كل ما في هذا الكون الفسيح: مخلوقاته وجماداته وما في أرجاء سماواته رأرضه تحت تصرفه سبحانه، وعلمُه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية فله الكبرياء وحده لا شريك له.
127.
في هذه الآية:
1 -
تحذير من نكاح اليتيمة - في حجر صاحبها - دون أن يمهرها مهر مثلها.
2 -
وتحذير إن لم يكن له رغبة في نكاحها أن يعضلها ويمنعها عن الأزواج خشية
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3904)، ومسلم (2383) ح (6) - واللفظ له. وأخرجه الترمذي (3660)، وابن حبان (6861) بلفظ مشابه، وله ألفاظ متقاربة في الصحيحين.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (532) ح (23)، وانظر النسائي في "التفسير"(143).
أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها.
3 -
دعوة إلى العدل في القسمة والمواريث.
أخرج البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير: [أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} - فذكرت نحو ما تقدم في أول السورة - قال: قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}].
وفي لفظ البخاري عن عائشة رضي الله عنها: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليّها ووارثها، قد شركته في ماله حتى في العَذْقِ، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوِّجها رجلًا فيشركه في ماله بما شرِكته، فيعضُلها، فنزلت هذه الآية] (1).
وقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} .
أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: [وقول الله عز وجل: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حِجْرِه حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن](2).
ويلخص معنى الآية ما ذكره علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:
قال ابن عباس: (كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيُلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدًا، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدًا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها فحَرَّم الله ذلك ونهى عنه).
وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} .
قال السدي: (كانوا لا يورثون جارية ولا غلامًا صغيرًا، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط. و"القسط": أن يعطى كل ذي حق منهم حقه، ذكرًا كان أو أنثى،
(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (4600)، وصحيح مسلم (3018)، وسنن أبي داود (2068)، والنسائي في "التفسير"(144)، والبيهقي (7/ 141)، وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" للرواية الأولى - سورة النساء - آية (127).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (2494)، ومسلم (3018) من حديث عائشة مطولًا.
الصغير منهم بمنزلة الكبير). وبنحوه عن ابن عباس وفيه: (كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: "لا تؤتونهن ما كتب لهن").
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} .
دعوة إلى التجارة الرابحة - مع الله سبحانه -، فإن الله لم يزل عالمًا بما يكون منكم، وهو يحصي ذلك ليجازيكم به يوم الحساب.
128 -
130. قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}.
في هذه الآيات: إرشاد للمرأة الخائفة من إعراض زوجها عنها لبغض أو كراهة أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه لاستدامة مُقامه على عقدها والصلح خير من الفراق عند المشاحة. وإرشاد للزوج أن يتجاوز ما يجده من كراهية ويحسن لزوجته والله لا يخفى عليه هذا الإحسان ويجزي به. ثم في الآيات تَنْبيه لعدم طاقه الرجال غالبًا في العدل بين النساء في المحبة، وتحذير من الجور عند الميل لواحدة دون أخرى، وإن تصلحوا وتعدلوا يستر عليكم سبحانه ما فات من الجور. فإن أبت المرأة التي أعرض عنها زوجها إلى ضرتها لجمال أو شباب أو شيء مما تميل إليه النفوس الصلحَ بصفحها لزوجها عن يومها وليلتها وطلبت حقها كاملًا بالقَسْم والنفقة وأبى الزوج الإحسان وتفرقا بطلاق فإن الله يغني كلًّا من سعته وكان الله واسعًا لهما في رزقه حكيمًا فيما قضى بينهما من الفرقة والطلاق.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت: الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها
فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك] (1).
وأخرج أبو داود والحاكم عن عائشة - قالت لعروة -: [يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسَنّتْ وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي لعائشة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منها. قالت: تقول في ذلك أنزل الله عز وجل وفي أشباهها أراه قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا}](2).
وأخرج الحاكم بسند صحيح عن رافع بن خديج: [أنه كانت تحته امرأة قد خلا من سنها فتزوج عليها شابة، فآثر البكر عليها، فأبت امرأته الأولى أن تقرّ على ذلك، فطلقها تطليقة، حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأمر، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك. قالت: بل راجعني أصبر على الأثرة، ثم آثر عليها فلم تصبر على الأثرة، فطلقها الأخرى وآثر عليها الشابة. قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله قد أنزل فيه: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (3).
وخلاصة المعنى:
لو خافت المرأة نفور زوجها عنها فلها أن تُسقط عنه بعض حقها في النفقة أو الكسوة أو المبيت، وله أن يقبل ذلك منها. يدل على ذلك قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} . ثم قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، أي: من الفراق.
وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} .
أي: وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهم.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2450) و (5131)، وأخرجه مسلم (3021) ح (13).
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (2135)، والحاكم (2/ 186)، والبيهقي (7/ 74 - 75).
وأخرج نحوه الترمذي عن ابن عباس قال: [خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل فنزلت: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز]. صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2434) - كتاب التفسير - سورة النساء، آية (128).
(3)
حديث صحيح. انظر مستدرك الحاكم (2/ 308 - 309)، والصحيح المسند من أسباب النزول - سورة النساء، آية (128). من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
قال ابن عباس: ({وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}، قال: نصيبها منه). وقال عطاء: (في الأيام والنفقة). وقال سعيد بن جبير: (المرأة تشحُّ على مال زوجها ونفسه).
وقيل: وأحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة، الشحَّ بحقه قِبل صاحبه. والأول أرجح واختاره ابن جرير. فتأويل المعنى: وأحضرت أنفس النساء أهواءَهن، من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضرائرهن. قال ابن عباس:(والشح: هواه في الشيء يحرص عليه).
فالصلح خير من الفراق عند المشاحة، ولذلك صالحت سودة بنت زمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كبرت وعزم على فراقها، على أن يمسكها وتهب يومها لعائشة، فقبل ذلك منها وأبقاها.
ففي الصحيحين عن عائشة قالت: [لما كَبرتَ سَوْدَةُ بنت زَمْعة وهبَتْ يومها لعائشة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لها بيوم سَوْدَةَ](1).
وقوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .
قال ابن كثير: (وإن تَتَجشّموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن وتَقْسِموا لهنَّ أسوة أمثالهن، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء).
وقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} .
قال مجاهد: (واجب، أن لا تستطيعوا العدل بينهن). وقال عبيدة: ({وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}. قال: بنفسه في الحب والجماع).
والمقصود: مهما حاول الرجل العدل الظاهر في المبيت والنفقة، فإنه لا بد من التفاوت في أمر المحبة والشهوة والجماع.
وقوله: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} . أي: إن حصل الميل فانتبهوا من المبالغة المؤذية. وقوله: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} . أي: فتبقى الأخرى معلقة. قال قتادة: (كالمسجونة). وقال ابن عباس: (تذروها لا هي أيّم، ولا هي ذات زوج). وقال الربيع: (لا مطلقة ولا ذات بعل). وقال الضحاك: (لا تدعها كأنها ليس لها زوج).
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (212)، وأخرجه مسلم (1463)، وأبو يعلى (4621).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شقّيه ساقط](1). وفي رواية: (وشقّه مائل).
وقوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
أي: إن تداركتم ما حصل منكم من ميل أو ظلم فأصلحتم واتقيتم الله عاد عليكم سبحانه بالمغفرة والتوبة والرحمة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} .
يعني إن تعذر كل ما فيه إصلاح وكان الفراق آخر المطاف، فإن الله سبحانه بكرمه يغني كل واحد منهما فيعوضه خيرًا من صاحبه، ويبارك له في حياة جديدة أفضل، إنه سبحانه واسع الفضل والكرم، عظيم المنّ والعطاء، حكيمٌ في كل ما يقدر ويشرع.
131 -
134. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى أنه الحاكم لهذا الكون، فكل ما في السماوات والأرض ملك له يمضي بأمره، وليس للإنسان في ذلك من شيء إلا أن يتقي الله، فهي وصية الله لكل الأمم والله هو الغني الحميد، وهو الوكيل القائم على كل نفس بما كسبت، ولو شاء أذهبكم وأتى بقوم آخرين يطيعونه ولا يعصونه، فمن أراد هذه الدنيا فليعلم أن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليكن سعيه لهما جميعًا وإن الآخرة خير وأبقى.
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2133)، والترمذي (1141)، والنسائي (7/ 63)، وأحمد (2/ 471)، وابن أبي شيبة (4/ 388)، وغيرهم.
فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
قال ابن جرير: (ولله جميع مُلك ما حوته السماوات السبع والأرضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}، تنبيهًا منه خلقَه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوَحشة بفراق سكنه وزوجته، وتذكيرًا منه له أنه الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء، فغير متعذر عليه أن يغنيه وكلَّ ذي فاقة وحاجة، ويؤنس كلَّ ذي وحشة).
التقوى عماد كل أمر، وعنوان كل عمل، فبدونها يهزل العمل ويصبح صورة وحركة بلا مضمون. قال تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} . وقال جل ذكره: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} .
والتقوى حالة في القلب يرجح بها تعظيم أمر الله ومحابه، فتنعكس بالخوف منه سبحانه على أعمال الجوارح. وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان قول ابن عمر رضي الله عنه:(لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقِرُه، التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات
…
] (1).
ولأهمية التقوى، أوصى الله بها أهل الكتاب قبلنا -أهل التوارة والإنجيل- كما أوصانا بها، "اتقوا الله" أي احذروا الوقوع في ما يسخطه ويغضبه.
أي: إن كفرتم فلا تضرون بخلافكم وصيته سبحانه، ورضاكم بالكفر إلا أنفسكم فالله ملك هذا الكون الفسيح ذي السماوات السبع والأرضين السبع.
(1) حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه -حديث رقم- (2559)، كتاب البر والصلة.
وعن علي رضي الله عنه: ({وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}، قال: غنيًّا عن خلقه، "حميدًا"، قال: مستحمدًا إليهم) ذكره ابن جرير.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} . قال قتادة: (حفيظًا).
وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} .
قال سعيد، عن قتادة:(قادرٌ والله ربنا على ذلك: أن يهلك من يشاء من خلقه، ويأتي بآخرين من بعدهم).
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} قال ابن كثير: (أي: بيده هذا وهذا، فلا يقتصرَنَّ قاصرُ الهمَّة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن هِمَّتُه ساميةً إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كلِّه إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة، بين الناس وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا وممن يستحق هذا. ولهذا قال: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}).
قلت: بل طلب العبد سعادة الآخرة بصدق يورثه سعادة الدنيا والآخرة، وحرصه على الآخرة بصدق يقابله مجيء الدنيا إليه وهي راغمة.
أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من كانت الآخرة همَّهُ، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له](1).
135 -
136. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 76). وله شاهد عند ابن ماجة (2/ 524)، وابن حبان (72) من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (949 - 950).
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}.
في هذه الآيات: أَمْرٌ مِنَ الله عباده بإقامة العدل والقسط وأداء الشهادة ابتغاء وجه الله دون تحريف أو كتمان، وإن كانت الشهادة على الوالدين أو الأقربين أو على غني أو فقير، فإياكم والهوى أو التحاكم إلى العواطف وميل النفس فإن فعلتم نالكم الوعيد والتهديد. ثم أَمْرٌ للمؤمنين بالاستمرار على منهج الإيمان والثبات عليه فإن منْ كفر به أو حاد عنه فقد سلك سبيل الضلال يعقبه الهلاك.
قال قتادة: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الآية، هذا في الشهادة. فأقم الشهادة، يا ابن آدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو شَرَفِ (1) قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يردّ الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق).
وقال ابن زيد: (لا يحملك فقرُ هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة. قال: يقول هذا للشاهد).
وقوله: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} . أي عن الحق، فتجوروا. وفيه ثلاثة أقوال متقاربة:
1 -
إن عدلتم عن الحق كنتم من الجائرين ممن يتبع الهوى.
2 -
لا تتبعوا أهواء نفوسكم هربًا من القسط في إقامة الشهادة.
3 -
لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، بمعنى النهي عن ذلك لأجل إقامة العدل.
والخلاصة: نهي عن اتباع الهوى وتقديم العصبية والتحاكم إلى العاطفة عند الحكم، فإن ذلك يباعد من القسط وإقامة العدل. وفي التنزيل:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} .
(1) شَرَف: جمع شريف، كما يجمع "شريف" على أشراف وشرفاء.
وقوله. {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .
اللَّي: هو التحريف وتعمد الكذب، والإعراض: كتمان الشهادة وتركها. فإلى أقوال أهل التفسير:
1 -
قال ابن عباس: (يقول: تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللَّجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض: الترك).
2 -
قال مجاهد: ("وإن تلووا"، بتبديل الشهادة، و"الإعراض" كتمانها).
وقال: (إن تحرفوا أَو تتركوا).
3 -
عن ابن عباس قال: (هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون ليُّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر). فوجه الخطاب هنا إلى الحكام، عندما يميل الحاكم في الحكم لأحد الخصمين على الآخر.
واختار ابن جرير المعنى الأول والثاني. قلت: والبيان الإلهي يحتمل التأويل الثالث والله تعالى أعلم.
وفي مسند أحمد بسند حسن عن الشريد بن سويد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليُّ الواجِدِ يُحِلّ عرضه وعقوبته](1).
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . أي: مطلع على قضائكم وشهادتكم ليجازيكم بها.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
قال الحافظ ابن كثير: (يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشُعَبهِ وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه).
وقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} يعني القرآن. {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} يشمل جميع الكتب المتقدمة. والفرق بين "نزّل" و"أنزل" أن القرآن نزل منجمًا مفرقًا على الوقائع، بينما أنزلت الكتب السابقة دفعة واحدة.
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (3628)، وابن ماجة (2427). وأخرجه أحمد والنسائي والحاكم. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5363). قال ابن الأعرابي:(عقوبته حبسه، وعرضه شكايته).
وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} . أي: من يخرج عن سبيل المؤمنين في منهاج الإيمان فقد رضي لنفسه الضلال عن قصد الطريق وما يعقبه من الهلاك والعطب.
137 -
140. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.
في هذه الآيات: تحذيرٌ من سلوك المنافقين في أمر الإيمان، الذين يتقلبون يتذبذبون بين الإيمان والكفر، ثم يختم الله لهم بالكفر مقابل نفاقهم ولا يغفر لهم، ولهم عذاب أليم. ذلك بأنهم اتخذوا الكافرين بطانة لهم من دون المؤمنين يبتغون عزة فارغة جوفاء، والعزة الحقيقية هى بالله ودينه وبالمؤمنين. لقد حذر الله المؤمنين من الجلوس مع قوم يستهزئون بالله أو رسله أو دينه ووعد ليجمعن الكافرين والمنافقين في جهنم جميعًا.
فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} .
أي دخلوا في الإيمان ثم رجعوا ثم عادوا فيه ثم رجعوا واستمروا على الضلال حتى ماتوا. قال ابن عباس: (تمّوا على كفرهم حتى ماتوا).
وقوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} . أي: لم يكن الله ليستر عليهم كفرهم وذنوبهم، بل الأمر غير ذلك، سيفضحهم بها على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، ولا سبيل لهم إلى هدايته سبيل التوفيق والنجاة.
1 -
قيل: لا يخصهم بالتوفيق كما يخص أولياءه.
2 -
وقيل: "لا ليهديهم سبيلًا": طريقًا إلى الجنة.
يروي ابن أبي حاتم وابن جرير عن عامر الشعبي، عن علي رضي الله عنه، أنه قال:(يستتاب المرتد ثلاثًا، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}).
وقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . أي: موجعًا في نار جهنم.
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . أي: يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، وإذا خلوا بهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. يعني بأهل الإيمان، يحرصون على عرض الدنيا ورياستها وزينتها الفانية على حساب نصرة الدين الحق والجهاد في سبيل الله.
وقوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} .
هل يريد هؤلاء الذين ينافقون للذين كفروا العزة من هؤلاء؟ ! فهؤلاء الكفار هم الأذلاء في الدنيا والآخرة، رغم ما يظهر للناس من سلطانهم وكبرهم وغرورهم، فإن هذا الظاهر من أسباب العلو والبغي سيفنى عما قريب، وتبقى العزة لله جميعًا. كما قال جل ذكره:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وكما قال جل ذكره: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} .
إن فخر الأمة بالانتساب لغير الإسلام والاعتزاز بغير الله هو مصدر ذلها وشقائها، فلا فخر للأمة ولا فرح لها إلا لنصر هذا الدين العظيم، وانهيار كل مناهج النفاق والكفر والانحراف في الأرض، فلا بد أن يرتبط أي فرح للأمة بمعنى من معاني نصر دينها.
أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجُعَلِ الذي يُدَهْدِه الخُرْءَ بأنفه، إن الله أذهبَ عنكم عُبِّيَةَ الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من التراب](1).
وكذلك أخرج الإمام أحمد في المسند، بإسناد صحيح عن أُبيّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [انتسب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، حتى عدَّ
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (3955). انظر صحيح الترمذي (3100). ورواه أحمد.
انظر تخريج المشكاة (4899)، وصحيح الجامع الصغير- رقم (5358).
تسعة فمن أنت لا أمَّ لك؟ قال: أنا فلانُ بن فلان ابن الإسلام. فأوحى الله إلى موسى، أن قل لهذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة] (1).
هذه الآية العظيمة -آية المفاصلة- أو -آية الولاء والبراء- بين المؤمنين والمنافقين أو الكافرين، فلا يجوز للمسلم أن يجلس في مكان يُستهزأ به في دين الله، ولا يجوز له أن يقعد مع قوم ينالون من أمر الله أو منهاجه أو من رسله، أو يتحاكمون لغير هذا الدين العظيم، الذي ارتضاه سبحانه منهجًا فريدًا للعالمين. فإن استمر في الجلوس معهم وهم على ذلك كان مثلهم، وتوعده الله أن يجمعه معهم في العذاب يوم القيامة.
وقد كان الوعيد أخف في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى أن قال: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وهي مكية. فجاء التهديد الشديد في آية النساء -وهي مدنية-: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} . أي في المأثم.
أخرج الترمذي والدارمي والحاكم بسند حسن عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمّام بغير إزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُدخل حليلتَه الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلسْ على مائدة يُدار عليها الخمر](2).
قال الشيخ الإسلام: (فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته باطنًا وظاهرًا هو موجب محبة الله، كما أن الجهاد في سبيل الله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه هو حقيقتها)(3).
وفي الصحيحين وسنن ابن ماجة عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تكون دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، هم قومٌ من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا،
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 128)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 88/ 1).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (2801)، والدارمي (2/ 112). وانظر صحيح الجامع (6382).
(3)
انظر تفصيل ذلك في "التحفة العراقية": ص (76).
فالزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم تكن جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كُلَّها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموتُ وأنت كذلك] (1).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} .
قال الحافظ ابن كثير: (أي: كما اشتركوا في الكفر، كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدًا ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال، والقيود والأغلال، وشراب الحميم والغسلين لا الزُلال).
141 -
143. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}.
في هذه الآيات: فَضْحٌ لسلوك المنافقين وطبيعة قلوبهم المريضة الهزيلة، فهم ينتظرون السوء والمصائب أن تحل بالمؤمنين ليفرحوا وليشمتوا، فإن ظهر المسلمون جاؤوا يدّعون النصرة ويطالبون بالاشتراك في الغنيمة. إنهم يخادعون أنفسهم والله يمكر بهم لقاء قيامهم الهزيل إلى الصلاة، ومقابل الرياء الذي شغل عليهم قلوبهم، حتى أصبحوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولا سبيل ولا فلاح لمن أعماه الله عن سواء السبيل.
قال ابن جريج: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} : المنافقون يتربصون بالمسلمين، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} ، قال: إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة قال المنافقون: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ، قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون، {وَإِنْ
(1) حديث صحيح. رواه البخاري في الفتن (7084)، ورواه مسلم في الإمارة (1847)، ورواه ابن ماجة. وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (2991).
كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ}، يصيبونه من المسلمين، قال المنافقون للكافرين:{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قد كنا نثبِّطهم عنكم).
وقوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} من الاستحواذ، وهو الغلبة. قال السدي:(نغلب عليكم). وقال ابن جرير: (ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه). وفي التنزيل: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19].
وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} . قال السدي: (حُجّة). وقال ابن عباس: (ذاك يوم القيامة).
وقد يكون المعنى في الدنيا، أي: لن تكون العاقبة والغلبة للكفار على المؤمنين وإن كانت لهم جولة، فالنهاية لابد أن تكون بالنصر الأكيد للمؤمنين، لقوله تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . ولقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
قال ابن كثير: (وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصحِّ قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر، لما في صحّة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال).
وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} .
قال السدي: (يعطيهم يوم القيامة نورًا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم، ويُضرب بينهم بالسُّور).
والمقصود أن الله سبحانه يستدرجهم في طغيانهم ويخذلهم عن الحق الذي عادوه إلى حيث هلاكهم وهم لا يشعرون، كما قال جل ذكره:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. ومن السنة الصحيحة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الشيخان من حديث جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من سَمَّعَ سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به](1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6499)، ومسلم (2987)، وأحمد (4/ 313)، وغيرهم.
أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة] (1).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلته](2).
الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نَسِيَ ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعلَ له وزيرَ سوء، إن نسيَ لم يذكِّره، وإن ذكر لم يُعِنْهُ](3).
وقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ النَّاسَ} .
قال ابن زيد: (هم المنافقون، لولا الرياء ما صلوا). وقال قتادة: (والله لولا الناس ما صلّى المنافق، ولا يُصَلي إلا رياء وسُمْعة).
وقال ابن عباس: (يكرهُ أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طَلْق الوجه عظيم الرَّغبة شديد الفرح، فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو ابن عباس هذه الآية:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالى} . رواه ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس.
وقوله: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} . قال الحسن: (إنما قلَّ لأنه كان لغير الله).
وقال قتادة: (إنما قلّ ذكر المنافق، لأن الله لم يقبله. وكل ما ردَّ الله قليل، وكل ما قبل الله كثير).
والمقصود أن المنافقين هذه صفتهم في أجل الأعمال وأشرفها وهي الصلاة، فقد أفسدت عليهم نيّتهم كل خشية أو خوف من الله، فقاموا بين يديه كسالى مستهترين.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال، ومعهم حُزَمٌ
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 64)، والبيهقي في "الأسماء" ص (154).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، كتاب التفسير. وأخرجه مسلم (2583)، كتاب البر والصلة. ورواه ابن ماجة والترمذي وغيرهم. انظر صحيح الجامع (1818).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2932). انظر صحيح سنن أبي داود (2544).
من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار] (1).
وفي رواية للبخاري: [والذي نفسي بيده، لو عَلِمَ أحدهم أنه يجد غَرْقًا سمينًا أو مَرْماتَيْن حَسَنَتين، لشَهِدَ الصلاة](2).
زاد أحمد في رواية: [ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرَّقْتُ عليهم بيوتهم بالنار].
وفي الموطأ ومسند أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق: يجلس يَرْقُبُ الشمس حتى إذا كانت بين قَرْني الشيطان، قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا](3).
وقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} .
قال مجاهد: (يقول: لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى هؤلاء اليهود).
وقال ابن زيد: (بين الإسلام والكفر). وقال ابن جريج: (لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين، وليسوا مع أهل الشرك).
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَثَلُ المنافق كمثل الشاة العائِرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذاه مرة، ولا تدري أيتهما تَتْبَع](4).
وفي مسند أحمد بسند صحيح، عن أبي جعفر محمد بن علي قال:[بينما عُبيد بن عُمَير يقُصُّ وعنده عبد الله بن عمر، فقال عُبيد بن عمير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلُ المنافق كالشاة بين رَبيضَين، إذا أتت هؤلاء نطحتها، وإذا أتت هؤلاء نطحتها. فقال ابن عمر: ليس كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كشاة بين غنمين. قال: فاحتفظ الشيخ وغَضِبَ، فلما رأى ذلك ابن عمر قال: أما إني لو لم أسمعه لم أردُدْ ذلك عليك](5).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (657)، ومسلم (651) ح (252)، وأبو داود (548)، وأخرجه أحمد (2/ 424)، وابن ماجة (791)، والبيهقي (3/ 55)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (644). والزيادة لأحمد في المسند (2/ 367).
(3)
حديث صحيح. أخرجه مالك (1/ 221)، ومن طريقه أخرجه أبو داود (413)، وأخرجه أحمد (3/ 149)، وكذلك أخرجه مسلم (622)، والبيهقي (1/ 443).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2784)، وأحمد (2/ 102)، والنسائي (8/ 124)، وابن جرير.
(5)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 32)، والطيالسي (1802)، وأورده الحافظ ابن كثير بأسانيد مختلفة يقوي بعضها بعضًا، في سورة النساء، آية (142).
وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} .
أي: من صرفه الله عن سبيل المؤمنين مقابل النفاق الذي مشى عليه ورضيه لنفسه منهجًا، فلا طريق له ولا منقذ ولا هادي له، قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186].
وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبدًا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه](1).
144 -
147. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}.
في هذه الآيات: نَهْيٌ عَنْ موالاة الكفار، ومناصحتهم وإطلاعهم على أسرار المؤمنين، ومن فعل ذلك كان من المنافقين، ممن يجعلون لله عليهم حجة يوم القيامة، وقد وعد الله المنافقين أسفل دركات جهنم، إلا من تاب وأصلح وأخلص لله من جديد فإن الله يقبله مع المؤمنين، أصحاب الأجر العظيم، فما يفعل الله بعذابكم إن أصلحتم وتبتم وشكرتم، فإن من شكر شكر الله له، ومن آمن قلبه به علمه، وأحسن جزاءه وثوابه.
وعن قتادة: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
(1) حديث صحيح. رواه الإمام مسلم وغيره. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1990).
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} قال: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول: عذرًا مبينًا).
قال عكرمة: (ما كان في القرآن من "سلطان"، فهو حجة).
وفي التنزيل: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28].
وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} .
أي في الطبق الأسفل من أطباق جهنم، وبئس المقر وبئس المصير، حيث لا نصير لهم. وقرأها كذلك قراء الكوفة "الدرْك" بتسكين الراء، في حين قرأها قراء المدينة والبصرة "الدَّرَك" بفتح الراء، وهما قراءتان مشهورتان.
قال ابن عباس: ({إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار}، يعني: في أسفل النار). وروى ابن جرير، عن خيثمة، عن عبد الله قال:(توابيت من نار تُطْبَقُ عليهم).
وفي جامع الترمذي ومسند الإمام أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحشَرُ المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عُصارة أهل النار، طينة الخبال](1).
أي: فمن ندم وتاب وأصلح ما كان أفسد من علاقة بالله سبحانه ودينه وعباده المؤمنين -بنفاقه أو موالاته الكفار أو ركوبه معصية الله- فرجع واعتصم بالله وأخلص له السريرة والعمل، فبدل الرياء بالإخلاص فإن الله سبحانه بكرمه يقبله مع المؤمنين {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} .
وقوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} .
أي ما يصنع الله بعذاب المنافقين إن تابوا وآمنوا وأحسنوا الرجوع والشكر لله.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن. أبواب صفة القيامة. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2025). ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع -حديث رقم- (7896).
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} . أي: يشكر سبحانه من يشكر له، ويعلم من آمن وصدق قلبه الإيمان، فيجزيه أحسن الثواب.
148 -
149. قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}.
في هذه الآيات: لا يحب الله سوء القول وأن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلومًا، فالله يسمع ويعلم ما يكون، وإن تقولوا جميلًا من القول أو لا تجهروا به أو تصفحوا فالله يحب العفو ويعفو عن خلقه، وهو ذو قدرة على الانتقام منهم.
لقد ورد الجهر بسوء القول بمعنيين أو أكثر:
1 -
عند الظلم واسترجاع الحقوق:
قال ابن عباس: (لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلومًا، فإنه قد أَرْخَصَ له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، وإن صبر فهو خير له). وقال قتادة: (عذر الله المظلوم كما تسمعون: أن يدعو). وقال السدي: (إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد من الخلق، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظُلم، فليس عليه جناح).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[المُسْتَبّانِ ما قالا، فعلى البادئ، ما لمْ يعتد المظلوم](1).
فإن تمكن المظلوم من استرجاع حقه دون تشهير بمن ظلمه، أو عفا عنه فذلك أرفع. ففي صحيح مسلم أيضًا عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2587)، كتاب البر والصلة، باب النهي عن السباب.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2589)، الكتاب السابق، باب استحباب العفو والتواضع.
2 -
عند التفريط بحق الضيافة.
فقد روى ابن جرير بسنده إلى مجاهد قال: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} الآية. قال: ضاف رجل رجلًا فلم يؤدِّ إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال: ضفت فلانًا فلم يؤد حق ضيافتي! فذلك جهرٌ بالسوء إلا من ظلم، حين لم يؤد إليه ضيافته). وقال:(هو في الضيافة، يأتي الرجل القوم، فينزل عليهم فلا يضيفونه، رخَّصَ الله له أن يقول فيهم).
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري، عن عقبة بن عامر قال:[قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تَبْعَثُنا فنَنْزِلُ بقومٍ لا يَقْرونَنا، فما ترى فيه؟ فقال لنا: إن نزلتم بقوم فَأُمِرَ لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقَّ الضيف](1).
وله شاهد أخرجه أحمد والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أيما ضيف نزل بقوم، فأصبح الضيف محرومًا، فله أن يأخذ بقدر قِراه، ولا حرج عليه](2).
وشاهد آخر أخرجه أحمد عن المقدام أبي كريمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا له عليه، فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه](3).
3 -
عند اشتداد أذى الجار.
أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي جحيفة قال: [شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاره، فقال: احمل متاعَكَ فضعه على الطريق فمن مر به يلعنه. فجعل كل من مرَّ به يلعنه. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لقيت من الناس؟ فقال: إنَّ لعنة الله فوق لعنتهم. ثم قال للذي شكا: كُفيتَ أو نحوه](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2461)، ومسلم (1727)، وأحمد (4/ 149)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 380)، والحاكم. وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 40). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (640).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 130) من حديث المقدام، وأخرجه أبو داود في السنن (3750)، وإسناده على شرط الشيخين.
(4)
حسن صحيح. انظر صحيح الأدب المفرد (93)، باب شكاية الجار. وانظر للشاهد بعده مسند البزار (1903)، وسنن أبي داود (5153)، ومستدرك الحاكم (4/ 160).
ورواه البزار من حديث أبي هرِيرة: [أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي جارًا يؤذيني. فقال له: أخرج متاعك فَضَعْه على الطريق. فأخذ الرجل متاعه فطرَحَهُ على الطريق، فكل من مَرَّ به قال: ما لك؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه. قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لا أؤذيك أبدًا].
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} .
أي: كان الله ولم يزل {سَمِيعًا} بما تجهرون به من سوء القول ومن جميع كلامكم، {عَلِيمًا} بما تخفون وما تعلنون من قولكم وكلامكم، وسيجازيكم على إحسانكم أو إساءتكم.
وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} .
المعنى: إن إخفاءكم خير القول أو إظهاره، أو عفوكم عمن أساء إليكم، هو مما يقربكم عند ربكم. والله هو العفو القدير: يعفو عن مسيئكم إن تاب ويصفح عنه، وهو ذو قدرة على الانتقام من كل مسيء بقول أو عمل.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثٌ أُقْسِمُ عليهن: ما نقصَ مالٌ قط من صدقة، فتصدقوا. ولا عفا رجل عن مظلمة ظُلِمَها إلا زاده الله تعالى بها عِزًّا، فاعفوا يزدكم الله عِزًّا، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة يسأل الناس إلا فتح الله عليه باب فقر](1).
150 -
152. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
(1) حديث صحيح. رواه أحمد والبزار، انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (3022)، وله شاهد عند الإمام مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2588).
مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}.
في هذه الآيات: تَوَعُّدٌ من الله للذين يكفرون به وبرسله من اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، كما فعلت اليهود بتكذيبهم عيسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم، فأولئك توعدهم الله عذابًا مهينًا. وأما المؤمنون الذين آمنوا بالله وبجميع رسله دون تمييز في ذلك فأولئك أعد لهم نزلًا كريمًا.
قال قتادة: (أولئك أعداء الله اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم)
وقال السدي: ({إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ}، يقولون: محمد ليس برسولٍ لله، وتقول اليهود: عيسى ليس برسولٍ لله! فقد فرقوا بين الله وبين رسله، {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}، فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض).
وقال ابن جريج: (آمنت اليهود بُعزيرٍ وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزير، وكانوا يؤمنون بالنبي ويكفرون بالآخر، {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}، قال: دينًا يدينون به الله).
إن منهاج الإيمان عند المؤمنين أن يؤمنوا بالله ويعظموه وحده لا شريك له، ولا يفرقوا بين أحد من رسله، بل يقرون أن الجميع جاؤوا بالحق من عند الله، وأن خاتمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء بشرع ناسخ لكل الشرائع قبله فيفردوه بالمتابعة فهو أسوة الأمة إلى يوم القيامة، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} يغفر ما سلف من الآثام والتقصير لمن شاء من عباده، {رَحِيمًا} لم يزل كذلك بتفضله على المخلصين بالهداية في الدنيا والنجاة يوم الحساب.
153 -
154. قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)}.
في هذه الآيات: يسألك يا محمد أهل التوراة من اليهود أن تنزل عليهم كتابًا خاصًّا بهم على سبيل التعنت والعناد والكبر والإلحاد، شأن كفار قريش سألوا نحو ذلك، فاعلم يا محمد أن هؤلاء اليهود أحفاد من سلفهم من أجدادهم الذين عاجزوا موسى بالأسئلة ومحاولات التشكيك فسألوا رؤية الله فنالتهم صاعقة من الله سبحانه بتنطعهم، ثم عبدوا العجل وانتكسوا عن عبادة الله بعدما هداهم بالبينات الواضحات، ثم عفا عنهم وأكرم موسى عليه السلام بالحجج الدالة على نبوته وصدقه، فلما عادوا إلى التشكيك رفعنا الطور فوقهم بما أعطوا الله الميثاق والعهد بالعمل بالتوراة، وقلنا لهم اختبارًا ادخلوا باب بيت المقدس سجدًا، وألا يأكلوا الحيتان يوم السبت، وواثقناهم على ذلك.
قال السدي: ({يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ}، قالت اليهود: إن كنت صادقًا أنك رسول الله، فآتنا كتابًا مكتوبًا من السماء، كما جاء به موسى). وقال قتادة: (أي: كتابًا، خاصة).
وقال محمد بن كعب القرظي: (جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك! فأنزل الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}).
وقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} . يعني أسلاف هؤلاء اليهود.
وقوله: {فَقَالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} . أي: عيانًا نعاينه وننظر إليه.
وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} . أي: فصعقوا بظلمهم لأن مسألتهم رؤية الله مما لم يكن لهم مسألته.
وفي التنزيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} [البقرة: 55 - 56].
وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} .
أي: من بعد ما رأوا من المعجزات الكبيرة كإغراق فرعون وجنوده، وآيات على يد موسى صلى الله عليه وسلم. فلما مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم:{قَالوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. ثم اتخذوا العجل الذي كان السامري نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام، إلهًا يعبدونه من دون الله، كل ذلك من بعد ما أراهم الله الآيات الواضحات على صدق موسى ووجوب اتباعه ونبذ كل أشكال الهوى.
وقوله: {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} . أي: فعفونا عن عبدة العجل صنيعهم بتوبتهم، وعن السائلين رؤية الله حين أنابوا إلى الطريق وأعطينا موسى زيادة من الحجج التي تبين صدقه وحقيقة نبوته.
وقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} . قال ابن كثير: (وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام، ورفع الله على رؤوسهم جَبَلًا، ثم أُلزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقُطَ عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171]).
وقوله: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} . قال قتادة: (كنا نحدّث أنه باب من أبواب بيت المقدس). أمروا أن يدخلوه سجدًا مع قولهم حطة، أي: اللهم حُطَّ عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونُكولنا عنه، حتى تُهنا في التيه أربعين سنة، وكانوا أمروا بتلك الهيئة في الدخول ليظهر منهم التواضع لله سبحانه والشعور الحقيقي بندم التقصير والزلل، إلا أنهم كانوا عند أسوأ الظن، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يستهزئون ويقولون: حِنْطة في شعيرة.
وقوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} . أي: بترك أكل الحيتان يوم السبت أو صيدها، وكذلك ترك التحايل عليها يوم السبت، فمكروا وتحايلوا ونصبوا لها الشباك ليأخذوها في اليوم التالي.
وقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . أي: عهدًا مؤكدًا بالعمل بهذه الأوامر وترك كل ما جاء النهي عنه.
155 -
159. قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}.
في هذه الآيات: ومن ذنوبهم وإجرامهم نقض المواثيق والعهود، وإنكار المعجزات والآيات وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا في غطاء لا تعي ما يقال، وإنما ختم الله عليها بكفرهم وعنادهم فَقَلَّ ما آمنوا حق الإيمان، بل كفروا وتجرؤوا على مريم بالبهتان، وادّعوا تطاولًا وغرورًا قتل المسيح عليه السلام، ولم يفعلوا بل شبه لهم شبهًا له، وقد التبس عليهم وما قتلوه يقينًا، بل رفعه الله إليه، وسيعود قبل يوم القيامة ويؤمن به أهل الكئاب، أو يضرب رقابهم بالسيف، وسيحتج عليهم يوم القيامة ويشهد بما كذبوه أو صدقوه.
فعن قتادة: ({فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}، يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعنّاهم، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: لا نفقه، {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}، ولعنهم حين فعلوا ذلك).
وقوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} . قال ابن عباس: (يعني: أنهم رموها بالزنا).
وقوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} . فكذبهم الله بادعائهم وسفاهتهم وجراءتهم ووقاحتهم فقال جل ذكره: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} .
قال ابن إسحاق: حدثني رجل كان نصرانيًّا فأسلم: (أن عيسى حين جاءه من الله: "إني رافعك إليّ" قال: يا معشر الحواريين، أيّكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني؟ فقال سرجس: أنا، يا روح الله! قال:
فاجلس في مجلسي. فجلس فيه، ورُفِعَ عيسى صلوات الله عليه. فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشُبِّه لهم به) - ذكره ابن جرير بسنده عنه.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} . قال ابن جرير: ({وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}، اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم، فيما ذكر. فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدًا منهم، فالتبس أمرُ عيسى عليهم بفقدهم واحدًا من العدَّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى).
وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} . قال ابن عباس: (يعني لم يقتلوا ظنَّهم يقينًا).
وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} . أي: رفع الله المسيح إليه، وهذه من الآيات العظيمة الدالة على علو الله على جميع خلقه، وأنه على السماء واستوى على العرش، وكل المخلوقات دونه، سبحانه وتعالى عما يضل الجهال به علوًا كبيرًا.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} . أي: في انتقامه من أعدائه وأعداء رسله وأوليائه.
{حَكِيمًا} في تدبيره وخلقه وقدره وتشريعه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} . قال ابن عباس: (يعني: أنه سيدرك أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى، فيؤمنون به).
قال الحسن: (قبل موت عيسى. والله إنه الآن لحيٌّ عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون).
وقال ابن جريج: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} ، أنه قد أبلغهم ما أُرسل به إليهم). وقال قتادة:(يكون عليهم شهيدًا يوم القيامة على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه).
قلت: يحكم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حين ينزل بالقرآن والسنة، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويقاتل الناس على الإسلام فلا يقبل الجزية بل الإسلام أو السيف، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام. فمن أدركه من أهل الكتاب آمن به واتبع منهجه في الحكم بالكتاب والسنة، وإلا كان بينه وبينهم السيف. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابنُ مريم، حكمًا عدلًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها. ثم يقول أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليس بيني وبينه نبيُّ - يعني عيسى - وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مَرْبوعٌ، إلى الحمرة والبياض، بين ممَصَّرتَيْن - الممصرة: ثياب فيها صفرة خفيفة - كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدقُّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يُتوفى فيصلي عليه المسلمون](2).
الحديث الثالث: يروي ابن ماجة والحاكم وابن خزيمة بسند صحيح من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ .. فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكمًا عدلًا، وإمامًا مقسطًا، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية،
…
وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها .... ] الحديث (3).
وقد فصلت كل هذه الأحوال - من صفات عيسى عليه الصلاة والسلام، ونزوله وأعماله إلى موته - في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فَلِلّه الحمد والمنة.
160 -
162. قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَال النَّاسِ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2222)، (2476). وأخرجه مسلم برقم (133)، ورواه أحمد في المسند (2/ 240). وأخرجه الترمذي (2233)، وابن ماجة (4078).
وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6954)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1051) لتفصيل الروايات وصفات عيسى عليه السلام.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن من حديث أبي هريرة. انظر صحيح سنن أبي داود (3635)، والمرجع السابق (2/ 1052).
(3)
جزء من حديث طويل. رواه ابن ماجة والحاكم وابن خزيمة. انظر صحيح الجامع الصغير (7752).
بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}.
في هذه الآيات: إنه بسبب ظلم اليهود واجتراحهم الذنوب والآثام حرم الله عليهم طيبات كان أحلها لهم، ومن هذه الآثام نقض الميثاق مع ربهم، وكفرهم بآياته وقتلهم الأنبياء وقول البهتان على مريم، والصد عن سبيل الله وأخذ الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وفي الآخرة عذاب أليم. واسثتنى الله من أهل الكتاب من آمن بالله واليوم الآخر وما أنزل عليهم وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فأولئك لهم أجر عظيم.
قال قتادة: ({فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية، عوقب القوم بظلم ظلموه وبَغْيٍ بَغَوْه، حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم).
وعن مجاهد: ({وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}، قال: أنفسهم وغيرهم عن الحق).
وقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} . يعني: انتشار الربا بينهم وهو محرم يعرفونه.
وقوله: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} . يعني أخذهم الرُّشا على الحكم، وأخذهم أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم ثم يقولون {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79].
وفي التنزيل: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62].
وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . أي: للكافرين بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود، أعد الله لهم عذابًا مؤلمًا موجعًا.
قال قتادة: (استثنى الله أُثْبِيَّةً (1) من أهل الكتاب، وكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم، وما أنزل على نبي الله، يؤمنون به ويصدّقون، ويعلمون أنه الحق من ربهم).
(1)"الأثبية" و"الثُّبَة": الجماعة من الناس.
وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} .
ذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} . والراجح أنها {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} وهي كذلك في مصاحف الأئمة، ومصحف أبي بن كعب، والأشهر عند جماهير القراء.
فيكون التأويل بأحد طريقين:
1 -
وأمدح {وَالْمُقِيمِينَ} للصلاة، أو: وأخص {وَالْمُقِيمِينَ} الصلاة منهم. فيكون لفظ {وَالْمُقِيمِينَ} قد نصب على المدح أو الاختصاص، كقوله تعالى:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]. . أي: وأخص الصابرين، أو: وأمدح الصابرين.
2 -
أن يكون مخفوضًا، أي: في محل جر، والتأويل:(بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة) - أي: بالعطف على ما سبقها، والتقدير: وبإقامة الصلاة، أي: يعترفون بوجوبها ويقرون بكتابتها عليهم.
وذهب ابن جرير إلى أن المقصود الملائكة، ولا وجه له ولا يدل عليه السياق، بل الأنسب أن يقال: استثنى أهل الرسوخ في العلم من يهود من المؤمنين الذين يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة الذين يقيمون الصلاة مع المؤمنين {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} - زكاة الأموال، وزكاة النفوس. {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: أي: يشهدون لله بالوحدانية ويؤمنون بالبعث بعد الموت والجزاء والحساب.
وقوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} . أي: الجنة، لقاء هذا التحول في تجديد الإيمان من رسولهم إلى خاتم المرسلين، عليه الصلاة والسلام، ومتابعتهم له بمنهج الإيمان والعمل الصالح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي بُردة بن أبي موسى عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثة يؤتون أجوهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أذّى حق الله عز وجل عليه وحق سَيّده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غِذاءها ثم أدّبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 93). وانظر مختصر صحيح مسلم (21).
163 -
165. قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}.
في هذه الآيات: إنا أرسلنا إليك يا محمد بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح وإلى سائر الأنبياء الذين سميتهم من بعده، والذين لم أسمهم لك، واختص الله موسى بالتكليم فكلّمه كما كلّمك يوم المعراج، وأراد الله بإرسال جميع الرسل إقامة الحجة على عباده، لئلا يكون لأحد من خلقه حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا.
قال الربيع بن خُثَيم: ({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}، قال: أوحى إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله).
وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} - وهو الكتاب المسمى (زبورًا)، .
وقوله: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} . يعني: وأوحينا إلى رسل قد قَصَصْناهُم عليك، ورسل لم نقصصهم عليك.
وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . أي: كلامًا مباشرًا دون جبريل عليه السلام. وهو تشريف لموسى صلى الله عليه وسلم.
ففي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم! قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وأنزل عليك التوراة، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني؟ فحجّ آدم موسى](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4738) و (6614). وأخرجه مسلم برقم (2652). وأخرجه أبو داود (701)، وابن ماجة (80)، وأحمد (2/ 248)، وأخرجه ابن حبان (6180). وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (182).
وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . التقدير: أرسلتهم رسلًا إلى جميع عبادي مبشرين برحمتي وثوابي وجنتي لمن أطاعني، منذرين غضبي وعقابي وناري لمن عصاني، فلا حجة لأحد بعد ذلك.
وفي الصحيحين والمسند عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا أحد أغْيَرُ من الله، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبُّ إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحبُّ إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين](1).
وفي لفظ عند الإمام مسلم: [من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه](2).
166 -
170. قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}.
في هذه الآيات: فإن يكفر هؤلاء -ممن أشرك وكفر من أهل الكتاب وأنكر نبوتك والتنزيل- فالله يشهد بتنزيله إليك بعلم منه بأنك خيرته من خلقه وخليله وصفيّه، وكذلك الملائكة يشهدون بذلك، فلا يحزنك تكذيب من كذب فالله خير الشاهدين. إن جزاء المكذبين بك يا محمد، وبأن الله اصطفاك وأوحى إليك هذا القرآن، هو الحرمان من المغفرة والهداية إلا إلى طريق جهنم، وهو أمر يسير على الله فالخلق خلقه والكل مقهور بإرادته. فأنيبوا أيها الناس إلى ربكم وتابعوا نبيّه وصدقوه خير لكم، فإن أبيتم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4634)، (7403)، وأخرجه مسلم (2760)، وأخرجه أحمد (1/ 381)، (1/ 436)، والترمذي (3530)، والنسائي في "الكبرى"(11173) و (11183)، وأخرجه ابن حبان (294) من حديث ابن مسعود.
(2)
رواية صحيحة. رواها مسلم برقم (2760) ح (35)، من حديث عبد الله بن مسعود.
فالله ملك هذا الكون يعلم ما تبيتون وما أنتم صائرون إليه من طاعة أو كفر، وهو الحكيم في إيرادكم المصير الذي ينتظركم، وفي كل أمر قدره وشرعه.
وعن قتادة: ({لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. قال: شهودٌ والله غيرُ مُتَّهمة).
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} . أي: جاروا عن قصد السبيل جورًا أكيدًا شديدًا، حين وضعوا مكرهم أمام تقدم الناس لمتابعة الرسل لإقامة الحق في الأرض وتحكيم شرع الله العظيم.
هذه هي الهداية إلى النار يوم القيامة. فمراتب الضلال ثلاثة:
1 -
مرتبة الضياع والانحراف. قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108].
2 -
مرتبة الخذلان والحرمان. قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34].
3 -
هداية إلى النار يوم القيامة. قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 22 - 24].
وقوله: {وَأَزْوَاجَهُمْ} . قال ابن عباس: (ومن أشبههم من الظلمة). وقال أبو العالية: (الذين ظلموا وأشياعهم).
وبنحو هذا قوله تعالى في آية النساء السابقة: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} فهي الهداية إلى النار يوم القيامة بعد تجاوز مرحلة الضياع إلى مرحلة الخذلان إلى بئس المصير.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى
بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال] (1)،
وتفصيل هذا البحث - مراتب الهداية والضلال - في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فَلِلَّه الحمد والمنة وعليه التكلان.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . قال ابن جرير: (وكان تخليد هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم، على الله يسيرًا، لأنه لا يقدر من أراد ذلك به على الامتناع منه، ولا له أحد يمنعه منه،
…
لأن الخلق خلقُه، والأمرَ أمرُه).
التأويل -أيها الناس: قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بدين الحق الذي لا يقبل الله سواه، فآمنوا والتمسوا طريق النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعلوا فالله غني عنكم وعن إيمانكم ولا يؤثر كفركم على ملكوته، وهو العليم بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبمن يستحق الضلال فيضله ويشقيه، وهو الحكيم في أمره ونهيه وقدره وشرعه وفي كل شأنه.
171.
في هذه الآية: نهي الله سبحانه أهل الكتاب عن الغلو والتنطع في الدين، كما أبعدوا الإطراء والوصف في شأن عيسى عليه السلام، الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ودعوة لهم للإيمان بالله ورسله ونبذ عقيدة التثليث التي خاضوا فيها، فإنما الله إله واحد لا شريك له ولا ولد، له ما في هذا الكون الفسيح، وحسب
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025). ورواه أحمد. انظر تخريج المشكاة (5112)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7896).
ما في السماوات وما في الأرض بالله قيّمًا ومدبّرًا ورازقًا، من الحاجة معه إلى غيره.
قال الربيع: (صاروا فريقين: فريق غَلوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه، وفريق منهم قصّروا عنه، ففسقوا عن أمر ربهم).
وأصل الغلو في لغة العرب مجاوزة الحد. وهذا واقع في النصارى إذ تجاوزوا الحد في أمر عيسى فرفعوه من مرتبة النبوة لمرتبة الألوهية، وغلوا في أتباعه فنسبوا العصمة لهم. كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن ابن عباس، عن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم. فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله](1).
فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من سلوك سبيلهم بالغلو في المدح، والمبالغة في الإطراء.
وأخرج الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح عن أنس بن مالك: [أن رجلًا قال: يا محمد، يا سيدَنا وابن سيِّدنا، وخَيْرَنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهوينَّكُم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحِبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل](2).
وقوله: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} . أي: لا تتجرؤوا على الله بوصفه بغير صفاته سبحانه، فلا تنسبوا له صاحبة ولا ولدًا ولا غير ذلك مما يسخطه سبحانه، تنزهت أسماؤه وصفاته، وتفرّد با لتعظيم والوحدانية والتقديس والكبرياء.
قال قتادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} : هو قوله: "كن"، فكان).
وقوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} . قال مجاهد: (ورسول منه). وقال غيره: (ومحبة منه).
وقال غيره: (ورحمة منه).
وخلاصة المعنى: أي إنَّ عيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق من روح مخلوقة،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3445)، وأحمد (1/ 23، 24)، وأبو يعلى (153).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 153)، (3/ 241)، والنسائي في "الكبرى"(10078).
خلقها سبحانه، ثم أرسلها إلى مريم فدخلت بها، فَصَيَّرَها الله تعالى روحَ عيسى عليه السلام، وقد أضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف.
أخرج البخاري عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل](1).
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} . أي: الزموا منهج الإيمان بالله ورسوله دون تحريف أو تشبيه، فالله واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم تكن له صاحبة، وعيسى بن مريم عبده ورسوله.
وقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} .
قال ابن جرير: (يعني: ولا تقولوا: الأرباب ثلاثة. قال: انتهوا أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، عما تقولون من الزور والشرك بالله، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قيله، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم - على قيلكم ذلك، إن أقمتم عليه).
وفي التنزيل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73]. وكذلك: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72].
وقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171].
أي: تعالى الله وتقدس أن يكون له صاحبة أو ولد، فهو الملك له جميع ما في السماوات والأرض، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101]. فإن من كان له ولد لا يستحق الإلهية، وكذلك من كان له صاحبة، لا يصح أن يكون إلهًا معبودًا.
قال تعالى: {وَقَالوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَال هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28)، وأحمد (5/ 313)، وغيرهم.
وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95].
وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} . قال ابن جرير: (يقول: وحسب ما في السماوات وما في الأرض بالله قيِّمًا ومدبِّرًا ورازقًا، من الحاجة معه إلى غيره).
172 -
173. قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}.
في هذه الآيات: لن يأنف المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام أن يكون عبدًا خاضعًا لله ولن يتكبر عن ذلك، وكذلك الملائكة المقربون، لا يمتنعون من الإقرار لله بالعبادة والتعظيم وحده لا شريك له، فمن يأنف من التذلل لله ويستكبر فالجميع قادمون يوم الحشر لموعده. فيعز المؤمنين الخاضعين ويزيدهم من الثواب ويضاعف لهم أعمالهم الصالحات، ويعذب الذين تكبروا عن عبادته عذابًا مخزيًا لا نصير لهم ولا منقذ ولا سبيل لمنعه عن أنفسهم.
قال قتادة: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} : لن يحتشم المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة).
وقوله: {الْمُقَرَّبُونَ} . أى: الذين قرّبهم الله ورفع منازلهم واختصهم بمراتب مميزة.
وقوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} . أي: - كما قال شيخ المفسرين -: (ومن يتعظّم عن عبادة ربه، ويأنف من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم، ويستكبر عن ذلك، {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}، يقول: فسيبعثهم يوم القيامة جميعًا، فيجمعهم لموعده عنده).
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . يعني: يثيبهم على الأعمال الصالحة، ويزيد في بعضها من الثواب ورفع الدرجات مما
لا يعلمه إلا هو سبحانه، فإن الأعمال تتفاوت أحوالها وأوزانها عند الله.
أخرج الحاكم بسند جيد عن سلمان، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال:[يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لَوَسِعَت، فتقول الملائكة: يا رب: لِمَنْ يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك](1).
أي: وأما الذين تعظموا عن عبادته سبحانه وإفراده بالإلهية والتعظيم فينتظرهم عذاب موجع لا منقذ منه ولا دافع ولا مانع.
أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال](2).
174 -
175. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}.
في هذه الآيات: يا أيها الناس من كل الأصناف والملل - التي مضى ذكرها في هذه السورة - قد أتتكم حجة الله عليكم وهي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والوحي الذي أنزله الله عليه، فآمنوا بالله واعتصموا بمنهجه وهدي نبيّه، يدخلكم في رحمة منه تنجيكم من عقابه، ويهديكم إلى سبيل النعيم في الدنيا والآخرة.
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 586)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (941).
(2)
حديث حسن. اْخوجه الترمذي (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025). ورواه أحمد.
انظر تخريج المشكاة (5112)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7896)، وقد مضى.
فعن مجاهد: ({بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ}، قال: حجة). وقال قتادة: (بينة من ربكم).
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} . قال ابن جريج: (القرآن).
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} . قال ابن جريج: (بالقرآن).
وقوله: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} . قال ابن جرير: (فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، ويلحقهم من فضله ما لَحِقَ أهل الإيمان به والتصديق برسله).
وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} . أي ة في الدنيا والآخرة. أي: طريقًا واضحًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف. قال ابن كثير: (وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات).
176.
هذه الآية: هي آية الميراث، أو آية الفرائض، وفيها تفصيل لأحكام كثيرة.
أخرج الإمام مسلم والترمذي وابن ماجة عن محمد بن المنكدر، أنه سمع جابر بن عبد الله قال:[مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فَأُغمي عليَّ، فتوضأ ثم صَبَّ عليَّ من وضوئه فأفقت، قلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد علي شيئًا حتى نزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالةِ}](1).
وفي لفظ عند الإمام أحمد والبخاري - قال محمد بن المنكدر: سمعت جابر بن عبد الله قال: [دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صبَّ عَلَيَّ - أو
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1616) ح (5). وأخرجه الترمذي (2097)، وابن ماجة (2728)، وأحمد (3/ 307)، وأخرجه أبو داود (2886).
قال: صُبّوا عليه - فَعَقَلْتُ فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض] (1).
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء قال: [آخر سورة نزلت: "براءة"، وآخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ}](2).
وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالةِ} فيه محذوف، والتقدير: يستفتونك عن الكلالة! {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالةِ} . والكلالة مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه. قال ابن كثير: (ولهذا فسَّرَها أكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد ولا والد. ومن الناس من يقول: الكلالة من لا ولد له، كما دلت عليه هذه الآية: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}).
قلت: ولا شك أن فهم الكلالة وأحكامها يحتاج إلى رسوخ في العلم، وصبر في متابعة علم الفرائض وأحكام المواريث، وحسن فقه واستنباط.
ففي الصحيحين عن عمر أنه قال: [ثلاث وَدِدْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عَهِدَ إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجَدُّ، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا](3).
وفي صحيح مسلم عن مَعْدان بن أبي طلحة قال: قال عمر بن الخطاب: [ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طَعَنَ بإصبعه في صَدْري وقال تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء](4).
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن البراء قال: [آخر آية أنزلت، أو آخر شيء أنزل {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالةِ}](5).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (149)، (5676)، ومسلم (1616) ح (8)، وأحمد (3/ 298). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3605)، و (4654)، ومسلم (1618)، وأخرجه أبو داود (2888)، والترمذي (3044)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5588) و (7337)، ومسلم (3032)، وابن حبان (5353).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (567) و (1617)، وأخرجه أحمد (1/ 15)، والنسائي، وغيرهم.
وقال بعض أهل العلم: سميت هذه الآية بذلك لأن نزولها كان في الصيف.
(5)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود والترمذي. انظر صحيح سنن الترمذي (2435) - كتاب التفسير، - سورة النساء، آية (176). وأصله في الصحيحين.
وفيه عن البراء قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالةِ} فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تجزئك آيةُ الصيف"](1).
وذكر ابن جرير بسنده عن قتادة قال: (وذُكِرَ لنا أنّ أبا بكر الصديق قال في خطبته: ألا إن الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، مما جَرَّت الرحم من العَصَبَة).
وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} . أي: مات. قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} .
وقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} . قال الحافظ ابن كثير: (تمسَّكَ به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الولد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الوالد. وهو رواية عن عمر بن الخطاب، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه. ولكن الذي يُرْجَعُ إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد، ويدلّ على ذلك قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ولو كان معها أب لم ترث شيئًا، لأنه يحجبها بالإجماع، فدلَّ على أنه من لا ولد له بنصِّ القرآن، ولا والد بالنص عند التأمل أيضًا، لأن الأُخت لا يُفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية).
وقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} .
أخرج البخاري عن هُزيل بن شُرَحبيل قال: [سئل أبو موسى الأشعري عن ابنةٍ، وابنة ابن، وأخحط. فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائْتِ ابن مسعود فَسَيُتابِعُني. فَسُئِل ابن مسعود - وأُخْبِرَ بقول أبي موسى - فقال: لقد ضَلَلْتُ إذن وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السُّدُسُ تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحَبْرْ فيكم](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي وأبو داود. انظر صحيح سنن الترمذي (2436) -كتاب التفسير- سورة النساء، آية (76)، وأصله في صحيح مسلم من حديث عمر كما تقدم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6736)، (6742)، وأبو داود (2890)، وأحمد (1/ 440).
وقد ثقل ابن جرير عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتًا وأختًا: إنه لا شيء للأخت، لقوله:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} قال: (فإذا ترك بنتًا فقد ترك ولدًا فلا شيء للأخت). قال ابن كثير: (وخالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة: للبنت النصف بالفَرْض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وهذه الآية نَصَّت أن يُفْرْض لها في هذه الصورة. وأما وراثَتُها بالتعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود قال: [قضَى فينا مُعاذ بن جَبَل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: النصف للبنت، والنصف للأخت] (1)).
وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} .
المعنى: إذا ماتت كلالة فإن الأخ يرث كل مالها، وذلك حالة ليس لها ولد، أي: ولا والد. فإذ الأخ لا يرث مع وجود الوالد.
قال ابن كثير: (فإن فرض أن معه من له فَرْضٌ صُرِفَ إليه فرضُه، كزوج أو أخ من أم، وصُرِف الباقي إلى الأخ. لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أَلحِقُوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأَوْلى رجل ذكر] (2)).
وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} .
أي: إن ترك الميت كلالة أختين فلهما الثلثان، وما زاد على الأختين فهو في حكمهما. ويشبه ذلك حكم البنتين فأكثر، كما قال تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} .
وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .
أي: إن كان المتروكون من إخوته رجالًا ونساءً فيخصص للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من أخواته. قال ابن جرير: (وذلك إذا ورث كلالةً، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه، أو: لأبيه).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6741)، وانظر تفسير ابن كثير، سورة النساء، آية (176).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6732)، ومسلم (1615)، وأحمد (1/ 292)، وغيرهم.
وقال ابن كثير: (هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين ومن الإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم، أُعطي الذكر منهم مثل حظ الأنثيين).
وقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
أي: يبين الله لكم القسمة الشرعية للمواريث، وحكم الكلالة، وكل ما تحتاجونه من الحق لئلا تقعوا في الجور أو الإثم. قال ابن جريج:({يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}، قال: في شأن المواريث). والله عليم بمصالح عباده، وأفضل القسمة لمواريثهم، وبعواقب الأمور في الدنيا والآخرة.
تم تفسير سورة النساء بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه