المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٢

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌6 - سورة الأنعام

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (165).

قال ابن عباس: (أنزلت سورة الأنعام بمكة). أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا سرّك أنْ تعْلمَ جهلَ العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومئة في سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى قوله: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ})(1).

‌موضوع السورة

ذمّ المشركين والثناء على ملة إبراهيم وبيان وحدة منهاج المرسلين، وامتنان الله على عباده بنعمة الثمار والأنعام وبيان منهاج التحريم.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

البدء بحمد الله خالق السماوات والأرض وجاعل الظلمات والنور وعالم السر والعلن.

(1) حديث موقوف. أخرجه البخاري في صحيحه (3524) عن ابن عباس موقوفًا. كتاب المناقب. باب قصة زَمْزَمَ وجَهْل العرب. والآيات من سورة الأنعام ما بين 130 - 140. والآية المذكورة (140).

ص: 574

2 -

إعراض الكافرين عن آيات الله الكونية والقدرية وسوف يعلمون.

3 -

تذكير الله المعرضين عن الإيمان به وطاعته هلاك الأمم السالفة المكذبة رغم القوة والبنيان، والأموال والأنهار والعمران.

4 -

استكبار المشركين عن الإيمان بالرسول حتى لو كان ملكًا كما تمنوا.

5 -

السعيد من صُرِف عن عذاب الله في الآخرة والشقي من هلك فيه.

6 -

الضر والنفع بيد الله، والله تعالى هو القاهر فوق عباده.

7 -

المشركون يودون الرجعة إلى الدنيا حين يرون العذاب ليخلصوا لله الإيمان، ولكن هيهات هيهات وقد فات الأوان.

8 -

حسرة الكفار يوم القيامة على تفريطهم وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم.

9 -

تسلية الله نبيّه عما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم، بصبر المرسلين قبله على تكذيب أقوامهم، حتى جاءهم نصر الله.

10 -

تشبيه الله تعالى الكفار بالموتى لأنهم موتى القلوب لا يفقهون ولا يسمعون.

11 -

جميع ما يدُبّ في الأض أو يطير في السماء أمم خلقها الله وهداها، وهو محاسبها، حتى يقتص يوم القيامة للشاة الجماء من الشاة القرناء.

12 -

عطاء الله للعصاة إنما هو استدراج لهم، فإذا أخذ الله الظالم لم يفلته.

13 -

الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب إلا ما علمه الله.

14 -

النهي عن طرد المستضعفين المؤمنين، والأمر بتقريبهم وإكرامهم.

15 -

الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك إيقاع العذاب بأحد، وإنما ذلك لله وحده.

16 -

الغيب كله لله تعالى لا يشاركه فيه أحد.

17 -

النوم موت مؤقت، وهو وفاة الليل.

18 -

المشركون يخلصون الدين لله في الضراء، ويشركون به في السراء.

19 -

هجر المجلس الذي يُكذَّبُ فيهِ بآيات الله واجب، ولا يُتابعُ الجلوسَ مع الاستهزاء بالدين إلا منافق. ومن يهد الله قلبه إلى الحق فلا مضل له.

20 -

دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه آزر إلى التوحيد، فلما أصر على الشرك تبرأ منه.

21 -

علو محاكمات إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على الربوبية المقتضية للألوهية، وتألقه

ص: 575

عليه السلام في إقامة الحجة على قومه، وأن الشرك هو أكبر الظلم، وأن الأمن في الإيمان.

22 -

الأنبياء دعوتهم واحدة، وهي دين الإسلام، وتبليغ الدعوة ثوابه عند الله، ولا أظلم ممن أشرك بالله أو ادّعى النبوة، أو مماثلة القرآن.

23 -

النجوم: زينة للسماء ورجم للشياطين وهداية في ظلمات الليل، والمخلوقات المتعددة من كل شيء دالة على كمال قدرة الخالق عز وجل.

24 -

اختلاق الكافرين لله بنين وبنات وشركاء تعالى الله وتقدس عمّا يصفون.

25 -

القرآن للمؤمنين هدى، وللكافرين عمى، وعلى الرسول البلاغ، وعلى الله الحساب.

26 -

النهي عن سب أصنام المشركين حتى لا يسبوا الله عدوًا بغير علم.

27 -

المشركون يطالبون الرسل بالمعجزات، فإذا نزلت لا يؤمنون.

28 -

أكل ما لم يذكر اسم الله عليه حرام، إلا أن يكون اضطرارًا.

29 -

علامة محبة الله العبد وتوفيقه شَرْحُ صَدْرِه للإسلام، وعلامة غضبه تعالى عليه تضييق صدره وخذلانه عن الحق.

30 -

استمتاع الجن بالإنس بخضوع الإنس لهم وتعظيمهم من دون الله، واستمتاع الإنس بالجن بالسحر وما يتبعه من الفجور والزنا وأخذ أموال الناس بالباطل.

31 -

الله تعالى يسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس بما كانوا يكسبون.

32 -

استثناء الخلود في النار إنما هو لعصاة الموحدين، ولا يهلك على الله إلا هالك.

33 -

إقامة حجة الله على الثقلين يوم القيامةِ بإرساله الرسل.

34 -

لكل من الجن والإنس درجات في الجنة أو النار، كل بحسب عمله.

35 -

ذمّ المشركين بجعل شيء من الحرث والأنعام لله وآخر لأصنامهم، وكذلكَ بقتل الأولاد سفهًا بغير علم، وبتحريم ما رزقهم الله افتراء عليه.

36 -

امتنان الله تعالى على الناس بخلقه لهم أنواع الثمار وألوان الزروع وأصناف الأنعام، والأمر بالصدقة مما تنبت الأرض.

37 -

بَيانُ المحرمات من المآكِل، وتضييق الله على اليهود في مآكلهم جزاء لبغيهم، والله تعالى لم يحرم على المشركين ما حرموه على أنفسهم، وأظلم الناس من كذب على الله.

ص: 576

38 -

الوصية الجامعة: تحريم الشرك بالله والعقوق بالوالدين وقتل الأولاد واقتراف الفواحش وأكل مال اليتيم، والأمر بالوفاء في الكيل والميزان والعدل في الرضا والغضب وقول الحق واتباع سبيل خير المرسلين.

39 -

أَمْرُ الله المؤمنين بالجماعة، ونَهْيُهم عن الاختلاف والتفرقة.

40 -

الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، ولا يظلم الله أحدًا.

41 -

الصراط المستقيم هو ملة إبراهيم، ملة التوحيد لله والتعظيم.

42 -

صلاة المؤمن ونُسكُه ومنهاج حياته كله لله رب العالمين.

43 -

لا تزر وازرة وزر أخرى، وصحف العباد تشمل جميع أعمالهم.

44 -

جعل الله العباد خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضًا، وابتلاهم برفع بعضهم فوق بعض درجات.

45 -

إن الله سريع العقاب وإنه لغفور رحيم.

ص: 577

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

3. قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}.

في هذه الآيات: ثنَاءُ الله سبحانه مادحًا نفسه الكريمة بما تفرد به جلت عظمته في خلق السماوات والأرض وتعاقب الظلمات والنور لمنافع عباده، ثم مع ذلك يعدل عن عبادته الكافرون. ثم أعقب ذلك بذكر خلق آدم عليه السلام أصل بني البشر وقد قضى لنسله آجالًا، ثم وعدهم لقاءه في المحشر يوم القيامة، الذي يشك فيه الممترون. وهو سبحانه الإله الواحد الأحد المعبود في السماوات وكذلك في الأرض لا يخفى عليه سركم وجهركم ويعلم كسبكم وجميع أعمالكم.

فقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .

قال ابن جرير: (وهذا كلام مخرجه مَخرج الخبر، يُنْحى به نحو الأمر. يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خلقكم، أيها الناس، وخلق السماوات والأرض، ولا تشركوا معه في ذلك أحدًا أو شيئًا، فإنه المستوجب عليكم الحمدَ بأياديه عندكم ونعمه عليكم، لا من تعبدونه من دونه، وتجعلونه له شريكًا من خَلْقه).

وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضلَ من تلك النعمة](1).

وله شاهد عن ابن ماجة بسند حسن من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](2).

(1) حديث حسن. أخرج الطبراني في "الكبير" من حديث أبي أمامة. انظر صحيح الجامع (5438).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في "السنن"(3805) - باب فضل الحامدين. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3067). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 578

وقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} .

قال السدي: (الظلمات ظلمة الليل، والنور نورُ النهار). وقال الحسن: (الكفر والإيمان).

قال ابن كثير: (فجمع لفظ الظلمات ووحَّدَ لفظ النور، لكونه أشرف، كما قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ

} [النحل: 48]، وكما قال في آخر هذه السورة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ

} [الأنعام: 153]).

قلت: ولا شك أن الآية تعم إضافة لظلام الليل ونور النهار، ظلمات الباطل وسواد سبله، ونور الحق وسبيل أهل الإيمان. كما قال تعالى في هذه السورة:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

والنور: هو نور الوحي ونور السنة، نور النبوة والرسالات. نور الفطرة والميثاق مع الله، الذي أخذه سبحانه على عباده -بِنَعْمانَ- وهو: واد إلى جنب عرفات.

وأما الظلمة: فهي ظلمة الطباع والجهل والأهواء، ظلمة الخضوع للغرائز والشهوات.

أخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ](1).

وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار مرفوعًا: [قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كُلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحْلَلْتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا](2).

وقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .

قال ابن عطية: (فـ {ثُمَّ} دالة على قبح فعل الكافرين).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في صحيحه (1812)، والحاكم في المستدرك (1/ 30)، وانظر مسند أحمد (2/ 176)، (2/ 197). وسنده صحيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2865)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 266).

ص: 579

والمعنى: إن خلقه سبحانه السماوات والأرض قد تقرّر، وآياتها العظيمة في هذا الكون قد سطعت، وإنعامه جل ذكره قد تبيّن، ثم بعد ذلك كله عدل الكافرون عن عبادة ربهم وتعظيمه، إلى تعظيم أهوائهم وشهواتهم من دون الله.

قال مجاهد: ({يَعْدِلُونَ}. يشركون).

وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} .

قال قتادة: ({هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}، بدء الخلق، خلق الله آدم من طين).

وقال ابن زيد: (خلق آدم من طين، ثم خلقنا من آدم حين أخذنا من ظهره).

فالمعنى: بدأ الله تعالى الخلق بأن خلق آدم عليه السلام من تربة الأرض المختلفة، ثم خرج منه نسله وذريته فانتشروا في مشارق الأرض ومغاربها، فكان الأصل من ذلك الطين الأول.

أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

[إن الله تعالى خلق آدم من قَبْضَةٍ قَبَضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسَّهْلُ والحزْنُ، والخبيث والطيِّبُ، وبين ذلك](1).

وقوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} - فيه أقوال:

1 -

قال قتادة: (أجل حياتك إلى أن تموت، وأجل موتك إلى أن تُبْعَث. فأنت بين أجَلين من الله تعالى ذكره).

2 -

وقال الضحاك بن مزاحم: ({قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، قال: قضى أجل الموت، وكل نفس أجلها الموت. قال: ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، يعني: أجل الساعة، ذهاب الدنيا، والإفضاء إلى الله).

3 -

وعن ابن عباس: (قوله: {أَجَلًا}، قال: الدنيا، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، الآخرة).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 406)، وابن حبان (2083)(2084)، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(327)، (385).

ص: 580

وقال أيضًا: ({ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} يعني أجل الموت، والأجل المسمى: أجل الساعة والوقوف عند الله).

4 -

وقيل: أما قوله: {قَضَى أَجَلًا} فهو النوم، تُقبض فيه الروح، ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} ، هو أجل موت الإنسان. وقيل: أخذ الأجل والميثاق في أجل واحد مسمى في هذه الحياة الدنيا.

والراجح ما ذكره ابن جرير: (ثم قضى أجل الحياة الدنيا، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، وهو أجل البعث عنده). وبنحوه الأقوال الثلاثة الأولى.

وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} .

قال السدي. (يعني تشكون في أمر الساعة). وقال: (الشك. وقرأ قول الله: {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [هود: 17]. قال: في شك منه).

وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} .

حَمَلَ الجهمية هذه الآية على أن الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.

والتفسير الصحيح لهذه الآية كما قال الحْافظ ابن كثير رحمه الله -وهو قول أهل السنة والجماعة-: (فأصح الأقوال أنه: المدعوّ الله في السماوات وفي الأرض، أي: يعبده ويوحِّدُه وَيُقِرُّ له بالإلهية مَنْ في السماوات وَمَنْ في الأرض، ويسمُّونه الله، ويدعونه رَغَبًا وَرَهَبًا، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ

} [الزخرف: 84]، أي: هو إله مَنْ في السماء وإلهُ مَنْ في الأرض، وعلى هدْا فيكون قوله:{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} خبرًا أو حالًا. والقول الثاني: أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض، من سِرٍّ وجهر. فيكون قولُه:{يَعْلَمُ} متعلقًا بقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} ، تقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون. والقول الثالث: أن قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} وقفٌ تام، ثم استأنف الخبر فقال:{وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} . وهذا اختيار ابن جرير. وقولُه: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي: جميعَ أعمالكم خيرها وشرها) انتهى.

4 -

6. قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا

ص: 581

مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارٌ من الله تعالى عن كفر المشركين ومعاندة المكذبين، وأن الآيات لم تنفع مع عنادهم وكبرهم، ولا بد أن يروا مغبة استهزائهم ويذوقوا وبال استهتارهم. فهل نسوا القرون التي سبقتهم والأمم التي سلفتهم، وقد أمددناهم بأسباب القوة والتمكين من الأموال والأولاد والجنود والملك والجاه والقوة -ما لم نمكن لهؤلاء الذين خلفوهم وساروا على منهاجهم في الكفر والعناد والتكذيب-، إضافة إلى تكثير أمطار السماء وتفجير ينابيع الأرض استدراجًا لهم وإملاءً إلى أجل، فلما جاء أجلهم أهلكناهم بسيئاتهم فكانوا كأمس الذاهب وصيرناهم أحاديث للناس على مدار الزمان، وأنشأنا من بعدهم جيلًا جديدًا وأمة تلو أمة.

فقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} .

أي: علامة ودلالة، كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، وآيات القرآن فيها خبر الأمم السالفة وما نزل بهم بسبب بغيهم، وغيرها {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} الدالة على وحدانيته وحقيقة نبوتك يا محمد {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .

قال القرطبي: (والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله جل وعز من خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأنه يرجع إلى قديم حي غني عن جميع الأشياء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء من المعجزات التي أقامها لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ليُستَدلّ بها على صدقه في جميع ما أتى به).

وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} - المراد مشركو مكة حين كذبوا بالحق: وهو القرآن، أو محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: سوف يأتيهم أخبار استهزائهم بما كانوا به يستهزئون من

ص: 582

آياتي وأدلتي التي آتيتهم. ثم وفّى لهم بوعيده لمّا تمادوا في غَيِّهم، وعَتَوْا على ربهم، نقتلهم يوم بدر بالسيف).

وقال ابن كثير: (وهذا تهديد لهم ووعيدٌ شديد على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بدَّ أن يأتيهم خَبَرُ مَا هُمْ فيه من التكذيب، وليجدُنّ غِبَّهُ، وَليَذوقُنَّ وبَاله).

فالمراد ما نالهم يوم بدر من القتل والهزيمة. وقيل: المراد يوم القيامة. وكلا المعنيين حق يحتمله التأويل والبيان الإلهي.

وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} .

قال قتادة: (يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم) - أي من الدنيا.

قال ابن كثير: (أي: من الأموال والأولاد والأعمار، والجاه العريض، والسَّعَةِ والجنود).

وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} .

قال ابن جرير: (أمطرت فأخرجت لهم الأشجارُ ثمارها، وأعطتهم الأرض رَيْع نباتها، وجابوا صخور جبالها، ودَرَّت عليهم السماء بأمطارها، وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني، فغمطوا نعمة ربهم، وعصوا رسولَ خالقهم، وخالفوا أمرَ بارئهم، وبَغَوْا حتى حَقَّ عليهم قَوْلي، فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم، وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم، وأهلكت بعضهم بالرَّجفة، وبعضهم بالصيحة، وغير ذلك من أنواع العذاب).

وقوله: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} .

أي: أخرجنا بعد هلاكهم جيلًا آخر للابتلاء، بعد ما هلك الأولون فكانوا كأمس الذاهب، فاحذروا معشر المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته أن ينزل بكم مثل ما نزل بتلك الأمم، قبلكم إذ دَكَّها الله دكًا وصيّرها للناس أحاديث، فما أنتم بأعزَّ على الله منهم، فإن الله تبارك وتعالى لا يحابي أحدًا من خلقه.

7 -

11. قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ

ص: 583

لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارٌ من الله تعالى عن عميق كفر المشركين وشدة عنادهم ومكابرتهم للحق وجدالهم المتخبط كقلوبهم: فلو شاهدوا الوحي النازل عليك يا محمد في قرطاس يمسونه بأيديهم لاتهموا ذلك بالسحر. ثم سألوك أن ينزل ملك من السماء يشهد لك بصدق ما يوحى إليك، ولو أنزلنا ملكًا كما سَأَلوا ثم كفروا لَعَاجَلَهُم العذاب والخزي ولم يُنْظَروا حتى يتوبوا، ولو كان النازل إلى البشر رسولًا ملكِيًّا لكان على هيئة رجل ليُفهم منه وينتفع بمخاطبته، وحينئذ يلتبس عليهم أمره، فلم يدروا أمَلَكٌ هو أم إنسيّ! فلم يوقنوا به أنه ملك، وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقة أمرك، وصحة برهانك على نبوتك. فلا تحزن يا محمد، فلقد تعرض إخوتك الرسل قبلك إلى استهزاء المعانادين، حتى نزل بالمستهزئين سوء الوبال، وهذه الأرض تشهد بمواقع تلك الأمم ومساكن تلك الأقوام التي كذبت فَدَمَّرَ الله عليهما، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت خاتمتها.

فقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} .

قال قتادة: {فِي قِرْطَاسٍ} ، يقول: في صحيفة). وقال السدي: (الصحف).

قال ابن عباس: (يقول: لو نزلنا من السماء صُحُفًا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم، لزادهم ذلك تكذيبًا). وقال مجاهد: ({كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}، قال: فمسّوه ونظروا إليه، لم يصدِّقوا به). وقال قتادة: (فعاينوه معاينة).

وقوله: {لَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .

قال شيخ المفسرين -الإمام ابن جرير-: (أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحَرْتَ به أعيننا، ليست له حقيقة ولا صحة، {مُبِينٌ}، يقول: مبين لمن تدبّره وتأمَّله أنه سحر لا حقيقة له).

وفي التنزيل: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15].

ص: 584

وقوله تعالى: {وَقَالوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} .

قال قتادة: (يقول: ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكًا، ثم لم يؤمنوا، لم يُنْظَروا).

وقال السدي: ({وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}، يقول: لجاءهم العذاب).

وقال مجاهد: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} في صورته، {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} ، لقامت الساعة).

كما في التنزيل: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8].

وكذلك: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22].

وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} .

أي: لو أنزلنا ملكًا من السماء مصدقًا لك يا محمد، لجاءهم في صورة رجل، إذ لا تطيق أبصارهم رؤية الملك على صورته، ولحصل الالتباس عليهم فلم يدروا أملك هو أم إنسيّ. قال ابن عباس:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ، يقول: لشَبَّهْنَا عليهم). أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون.

قال قتادة: (ما لبَّسَ قوم على أنفسهم إلا لَبَّسَ الله عليهم. واللَّبْس إنما هو من الناس). وقال السدي: (شبهنا عليهم ما يشبِّهون على أنفسهم). وقال الضحاك: (لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور).

وفي التنزيل: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95].

وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .

يُسَلّي الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم مما يلقى من تكذيب قومه وعنادهم، بأن هذه كانت طبيعة في أقوام إخوته الرسل قبله، فصبروا على ما كذبوا حتى جاءهم نصر الله وفرجه، ونزل بالمكذبين نكال ما كذبوا واستهزؤوا. قال السدي:(وقع بهم العذاب الذي استهزؤوا به).

ص: 585

وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .

أي: قل يا محمد لهؤلاء المعاندين الجاحدين النبوة والتنزيل بعدما ظهر لهم أنه الحق: جولوا في بلاد المكذبين قبلكم وانظروا في مساكنهم التي خلفوها بعدما نزل بهم العذاب والعطب وخزي الدنيا وعارها، وتفكروا فيما صاروا إليه من البوار وخراب الديار وعفوِّ الآثار. قال قتادة:(دمَّر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيّرهم إلى النار).

قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال:(لما فتحت قبرس فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، رأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى).

وأخرج أبو داود بسند صحيح عن عمرو بن مُرّة قال: سمعت أبا البختري يقول: أخبرني مَنْ سَمعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لَنْ يَهْلِكَ الناسُ حتى يُعْذَروا مِن أنفسهم](1).

في مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا ظهرت المعاصي في أمتي عَمَّهم الله بعذاب من عنده. فقلت: يا رسول الله، أما فيهم يومئذ أُناسٌ صالِحون؟ قال: بلى. قلت: فكيف يُصْنَعُ بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصابَ الناسَ، ثم يصيرون إلى مغفرةِ من الله ورضوان](2).

12 -

16. قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (4347) - في الملاحم، باب الأمر والنهي. وأخرجه أحمد في المسند (4/ 260)، (5/ 293).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 304)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 441/ 2) من حديث عائشة.

ص: 586

يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}.

في هذه الآيات: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بربهم المشركين في عبادته: لمن ملك هذه السماوات والأرض وما فيها؟ ثم أخبرهم أن ذلك للملك سبحانه الذي قهر بسلطانه وجبروته كل شيء لا للأوثان والطواغيت، وقد مضى أنه بعباده رؤوف رحيم، لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم التوبة والإنابة، وليجمعنكم أيها العادلون بالله، ليوم القيامة لينتقم منكم بكفركم به، فالذين أهلكوا أنفسهم بالشرك فخسروها بغبنهم إياها حَظّها لا يصدقون بالمعاد ولا يستعدون لشر ذلك اليوم. إن الله الذي تشركون به -أيها القوم- ملك كل شيء، له ما استقر في الليل والنهار وهو السميع لما تقولون، العليم بما تُضْمِرون وَتبَيِّتُون. فكيف استنصر غيره واستعينه على النوائب والحوادث وهو مبدع السماوات والأرض، ويَرْزُق ولا يُرْزَق، بل إني أمرت أن أكون أوّل من خضع له بالعبودية والتعظيم، وأن أجتنب أن أكون من المشركين. ثم قل لهم يا محمد: إني أخاف إن عبدت غيره سوء يوم عظيم، لا ينجو من عذابه ومصائبه إلا من رحمه ربه وذلك الفوز المبين.

فقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} - أي وعد بها فضلًا وكرمًا، ولذلك يمهل عباده ويعطيهم فرصة ليتداركوا أنفسهم بالاستغفار والتوبة.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله لَمَّا خلق الخلقَ كتب كتابًا عنده فوق العرش، إنَّ رحمتي تَغْلِبُ غضبي](1).

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} .

قال ابن جرير: (وهذه اللام التي في قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}، لام قسم).

وقال ابن كثير: (هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعنَّ عباده لميقات يوم مِعلوم، وَهُوَ يَوْمُ القيامة الذي لاريبَ فيه، ولا شكَّ عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يتردّدون).

وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

قال القرطبي: (ابتداء وخبر، قاله الزجاج، وهو أجود ما قيل فيه).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3194)، (7404)، (7333)، ومسلم (2731)، وأحمد (2/ 313)، وغيرهم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 587

فالمعنى: الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة هم الذين أنكروا المعاد وجحدوا ذلك اليوم ومضوا في غيّهم وكفرهم.

وقوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} - قال السدي: (يقول: ما استقرّ في الليل والنهار).

قال القاسمي: (والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار، مما طلعت عليه الشمس أو غربت. شبه الاستقرار بالزمان، بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه. أو {سَكَنَ} من السكون، مقابل الحركة. أي ما سكان فيهما وما تحرك، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر).

وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: (ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض، إذ لا مكان سواهما. وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار، إذ لا زمان سواهما. فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات، ومالك للزمان والزمانيات).

وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . أي: يسمع كل ما تكلم به خلقه، ويعلم ما سكن وما تحرك وما تخفي صدور عباده.

وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} .

قال السدي: (أما "الولي"، فالذي يتولَّونه ويُقرون له بالربوبية). وقال ابن جرير: (أشيئًا غير الله تعالى ذكره: {أَتَّخِذُ وَلِيًّا}، استنصره واستعينه على النوائب والحوادث).

وقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

قال قتادة: (خالق السماوات والأرض). أي مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما على غير مثال سبق.

وقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} .

قال السدي: (يَرْزُق ولا يُرزق).

قال القاسمي: (أي المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. أي: فيجب

ص: 588

اتخاذه وليًّا ليعبد شكرًا على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عوض).

وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

أي: أمرت أن أكون أول من استسلم لأمر الله تعالى وخضع له بالعبادة والتعظيم.

وعن الحسن: (أول من أخلص أي من قومي وأمتي).- أي بالعبادة لله وحده لا شريك له.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .

أي: إني أخاف إن صرفت العبادة لغير ربي عز وجل أن ينالني السوء والعذاب يوم القيامة.

قال ابن عباس: ({أَخَافُ} هنا بمعنى أعلم). وقال القرطبي: (والخوف توقع المكروه).

وقوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} .

قال قتادة: (من يصرف عنه العذاب). {فَقَدْ رَحِمَهُ} ، أي: فقد فاز وظفر ونجا.

وقوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} .

أي: هو غاية الربح والفوز، وأعظم الجائزة. كما في التنزيل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ

} [آل عمران: 183].

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يومَ القيامة، فَيُصْبَغُ في النار صَبْغَةً، ثم يُقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيرًا قط؟ هل مَرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فَيُصْبَغُ صَبْغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هلا رأيت بؤسًا قط؟ وهل مَرَّ بك شدة قط؟ قيقول: لا والله، يا رب، ما مَرَّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط](1).

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1986)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 741 - 751) في تفصيل أحداث الحساب والقصاص والميزان، وكذلك بحث الصراط على جهنم والشفاعة.

ص: 589

17 -

21. قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}.

في هذه الآيات: خِطَابٌ من الله سبحانه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن يصبك الله بشدة أو ضيق فلن يكشف عنك ذلك إلا الله، وإن يصبك بخير أَوْ سَعَةٍ ورغد عيش فهو وحده القدير على تصريف ذلك. فهو الله المستعبد خلقه العالي عليهم، الحكيم في تصريفه شؤون عباده، الخبير بمنافعهم ومضارهم. فقل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أي شيء أعظم شهادة وأكبر! ثم أخبرهم أن الله سبحانه أعظم شهادة، فهو شهيد بيني وبينكم، بالمحق منا من المبطل، والرشيد من السفيه، وقد أوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم عقابه، ولأنذر به أيضًا من بلغَهُ من سائر الناس، إنْ لَمْ يقم أمر الله وشرعه، نزولَ نقمة الله به، فيا أيها المشركون: أئنكم تشهدون أن معه معبودات غيره من الأوثان والأصنام، فأنا لا أشارككم هذا الغي، فإنما الله إله واحد، لا شريك له يستحق التعظيم والعبادة، وإنني بريء من كل شريك تدعونه معه أو تصرفون له شيئًا من العبادة والتعظيم. وإن أصحاب التوراة والإنجيل يعرفون أنما هو إله واحد، وأن محمدًا نبيٌّ مرسل، وهؤلاء خسروا أنفسهم وأهلكوها بإنكارهم ذلك وجحودهم ما يجدونه مكتوبًا في كتبهم. فمن أَشَدُّ اعتداء وظلمًا وبغيًا ممن تجرأ على الله بالكذب فزعم له شريكًا أو ولدًا أو صاحبة! إنه لا يفلح الظالمون.

فقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

كقوله في سورة فاطر: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} .

ص: 590

أخرج البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة -وقد كتب إلى معاوية-: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دُبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ لا مانعَ لما أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنك الجَدّ](1). وقال الحسن: جَدٌّ: غِنىً.

والخطاب في الآية من الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم، يثبِّتُه على ما يلقى من قومه، كما قال ابن جرير: (يا محمد، إنْ يصبك الله، {بِضُرٍّ} يقول: بشدة في دنياك، وشظف في عيشك وضيق فيه، فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أول من أسلم لأمره ونهيه، وأذعن له من أهل زمانك، دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام، ودون كل شيء سواها من خلقه، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} يقول: وإن يُصِبْكَ بخير، أي: برخاء في عيش، وسعة في الرزق، وكثرة في المال، فتقرّ أنه أصابك بذلك {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}

قال ابن كثير: (أي هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقَهَرَ كلَّ شيء ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلالهِ وكبريائه وعظمته وعُلُوِّه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حُكْمِه وقَهْرِه. {وَهُوَ الْحَكِيمُ}، أي في جميع ما يَفْعَلُه، {الْخَبِيرُ} بمواضع الأشياء ومحالِّها، فلا يعطي إلا لمن يستحق، ولا يمنع إلا من يستحِق).

أخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، بسند على شرط البخاري، عن عائشة رضي الله عنها قالت:[كان إذا تَضَوَّر (2) من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القَهَّار، ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما العزيز الغَفَّار](3).

وفي الصحيحين عن ابن عباس: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند الكرب: [لا إله إلا الله

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (844) - كتاب الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة. وأخرجه مسلم (593)، وأبو داود (1505)، والنسائي (3/ 70)، وأحمد (4/ 250)، والبيهقي (2/ 185).

(2)

أي تلوى وتقلب.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 540)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(753)، وأخرجه ابن نصر في "قيام الليل" ص (43)، وابن حبان (2358). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2066).

ص: 591

الحليم الحكيم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم] (1).

وقوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ،

أي من أعظم الأشياء شهادة. قال القرطبي: (ولفظ {شَيْءٍ} هنا واقع موقع اسم الله تعالى، المعنى: الله أكبر شهادة أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، فهو شهيد بيني وبينكم على أني قد بلّغتكم وصدقت فيما قلته وادّعيته من الرسالة).

وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} .

أي: والقرآن شاهد بنبوتي لأنذركم به يا أهل مكة، وكذلك مَنْ بلغه القرآن في أرجاء هذه المعمورة. قال مقاتل:(من بلغَه القرآن من الجن والإنس فهو نذير به).

وقال القُرَظي: (من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم وسمع منه).

قلت: ولكن لا بد أن يكون البلاغ مبينًا، كبلاغ الرسل، قال تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . فإن البلاغ المشوّه ليس ببلاغ مبين، ومن ثمَّ فإن القرآن حجة على الخلق جميعهم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى العالمين كافة، ولا نبي بعده.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار](2).

وفي صحيح مسلم عنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [فُضِّلْتَ على الأنبياء بِسِتٍّ: أُعطيت جوامعَ الكَلِم، وَنُصِرْت بالرعب، وأحلت لي المغانم، وَجُعِلَت لي الأرض طهورًا ومَسْجِدًا، وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافة، وخُتِمَ بي النَّبِيُّون](3).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (6345)، (7426)، وصحيح مسلم (2730). ورواه أحمد والترمذي، والطبراني وزاد:(اصرف عني شرّ فلان). انظر صحيح الجامع (4816).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 93)، وانظر مختصر صحيح مسلم (20) ص (13).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (523) - كتاب المساجد ومواضع الصلاة. باب المساجد ومواضع الصلاة. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 592

وله شاهد عند الطبراني من حديث السائب بن يزيد بلفظ: [فضلت على الأنبياء بخمس: بعثت إلى الناس كافة، وادّخرت شفاعتي لأمتي، وبُصرْتُ بالرعْب شهرًا أمامي، وشهرًا خلفي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا، وأُحِلّتْ لي الغَنائم، ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي](1).

وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ} .

هذا استفهام فيه توبيخ وتقريع. والتقدير: إن تردى قومك إلى هذا السقوط بإشراك مخلوقات من الأوثان والأصنام والطواغيت مع الله في العبادة، فترفع أنت بلا إله إلا الله، وقل: فأنا لا أشهد معكم. كما قال له تعالى في آية الأنعام: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} .

ولكن: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .

وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} .

قال قتادة: (يعرفون أن الإسلام دين الله، وأن محمدًا رسول الله، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل). وقال: (النصارى واليهود، يعرفون رسول الله في كتابهم، كما يعرفون أبناءهم).

وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

أي خسروا أنفسهم كل الخسارة، وأوردوها مواقع الهلاك والعطب، عندما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم، ظلمًا وبغيًا وعلوًا.

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .

أي: من أشدّ اعتداء وبغيًا ممن تقَوَّل على الله، فزعم أنه مرسل من الله ولم يكن كذلك، ثم من أظلم ممن جَحَدَ بآيات الله بعد ظهور حججه وبراهينه ودلالاته الواضحات القاطعات، لا شك أنه لا أظلم ممن سلك سبيل هذا النكران والجحود، ومن ثم فإنه لا يفلح هذا ولا ذاك، فإن الله سبحانه يكشف المنافق ويفضح المكذب:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني عن السائب، وقريب منه أخرجه البيهقي عن أبي أمامة. انظر صحيح الجامع الصغير- حديث رقم (4097)، (4096)، (4098)، والإرواء (283).

ص: 593

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله يدني المؤمن فيضَعُ عليه كنَفَهُ (1) ويستُرُه فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربِّ، حتى قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)}](2).

22 -

26. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}.

في هذه الآيات: يخبر جل ثناؤه عن هؤلاء المفترين على الله الكذب الجاحدين آياته ونبوة رسوله، أن لا فلاح لكم بهذه البضاعة في الدنيا ولا في الآخرة، فتجارتكم خاسرة، فكيف إذا ناداكم يوم الحشر أين شركاؤكم الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله، ثم لكن يكن جوابهم إلا كذبًا منهم في أيمانهم:{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . فانظر يا محمد كيف استخدم هؤلاء الأخلاق الفاسدة التي كانوا يتخلقون بها في الدنيا -من الكذب والفرية- في أرض المحشر. ومنهم يا محمد من يستمع القرآن منك، وما تدعوه إليه من توحيد ربك، وأمره ونهيه، ولكنه لا يفقه ما تقول، ولا يوعيه قلبه، ولا يتدبره عقله، ولا يصغي له سمعه، فالقلوب مقفلة، والاذان غشيها الصمم، فلا يفهمون أي آية، بل يتهمون الحجج الدامغة أنها أساطير الأولين، وهم بذلك ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون عنه، وما يهلكون بصدهم عن سبيل الله ورسوله إلا أنفسهم وما يشعرون.

(1) أي: حفظه وستره.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2441)، وأخرجه مسلم (2768)، وأخرجه أحمد (2/ 74).

ص: 594

فقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .

قال ابن عباس: (كل زعم في القرآن فهو كذب). وعلى ذلك فللآية تأويلان:

التأويل الأول: أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم. فهو متصل مع الآية السابقة.

التأويل الثاني: أي انظر كيف يكذبون يوم نحشرهم. فهو متعلق بما بعده.

وقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} .

قال القرطبي: (سؤال إفضاح لا إفصاح).

وقوله: {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .

أي: أنهم شركاء وشفعاء، وهذا توبيخ لهم.

قال القاسمي: (فالقصد من السؤال توبيخهم وتقريعهم، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه). وفي التنزيل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62].

وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .

قال ابن عباس: ({ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ}: قولهم). وقال قتادة: (مقالتهم). وقال غيره: (معذرتهم).

والمقصود: اعتذارهم بالباطل والكذب. وقال أبو إسحاق الزجاج في تأويل ذلك: (تأويل هذه الآية لطيف جدًّا، أخبر الله عز وجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك).

وقد أجاد الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية حيث قال: (الفتنة الاختبار، أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي:{إِلَّا أَنْ قَالوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . تبرؤوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: أما إذْ كتموا الشرك فاختموا على أفواهِهم، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد

ص: 595

أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يُكتم حديثًا، فذلك قوله:{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ).

وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .

قال مجاهد: ({انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: بتكذيب الله إياهم).

وقال القاسمي رحمه الله: ({انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب، بحضرة من لا ينحصر من الشهود. {وَضَلَّ} أي: وكيف ضاع وغاب {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: من الشركاء، فلم تغن عنهم شيئًا، ففقدوا ما رجوا من شفاعتها ونصرتها لهم، كقوله تعالى: {قَالوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالوا ضَلُّوا عَنَّا

} [الأعراف: 37]).

قلت: وقد ثبت في السنة الصحيحة تكذيب الجوارح للعبد ونطقها بما يكتم.

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: [كنا عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فَضَحِك فقال: هل تدرون مِمّا أضحك؟ قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: مِنْ مُخاطبة العَبْدِ ربَّهُ، يقول: يا ربِّ! ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أُجِيزُ على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شُهودًا. قال: فَيُخْتَمُ على فيه، فيقال لأركانه: انطِقي، قال: فتَنْطِقُ بأعماله، قال: ثم يُخَلّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا، فَعَنكُنَّ كنتُ أُناضِلُ](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وكذلك ابن حبان من حديث أبي هريرة قال: [قالوا: يا رسول الله! هل نرى رَبَّنا يوم القيامة؟ قال: هل تُضَارُّون في رُؤية الشمس في الظهيرة، ليستْ في سَحابة؟ قالوا: لا، قال: فهل تُضارُّونَ في رؤية القمر ليلةَ البَدْر، ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده! لا تُضَارُّون في رؤية ربكم إلا كما تُضَارُّونَ في رؤية أحدِهما، قال: فَيَلْقى العَبْدَ فيقولُ: أي فُلْ (2)! ألم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2969) - كتاب الزهد، باب:"الدنيا سجن للمؤمن جنة للكافر". من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه.

(2)

أي فل: معناه يا فلان، وهو ترخيم على خلاف القياس. وقيل: هي لغة بمعنى فلان حكاها القاضي.

ص: 596

أُكْرِمْكَ، وَأسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لك الخَيْلَ والإبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فيقولُ: بلى، قال: فيقول: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساكَ كما نسيتني، ثم يَلْقَى الثاني فيقول: أَيْ فُلْ! أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجِكَ، وَأُسَخِّرْ لك الخَيْلَ، والإِبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فيقول؟ بلى، ياربِّ! فيقول: أَفَظَنَنْتَ أَنك مُلَاقِيَّ؟ قال: فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مِثْلَ ذلك، فيقول: يا رَبِّ! آمنتُ بك وَبِكِتَابكَ وَبِرُسُلِكَ وصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ ما استطاع، فيقول: هاهنا إذن (1). قال: ثم يقال له: الآن نَبْعَثُ شاهِدَنا عليك، ويَتَفَكَّرُ في نفسه: مَنْ ذا الذي يَشهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ على فيه، وَيُقال لفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِه: انْطِقي، فَتَنْطِقُ فَخِذُه وَلَحْمُهُ وعِظامُهُ بعَمَلِه، وذلك لِيُعْذِرَ من نَفْسِه (2). وذلك المنافِقُ، وذلك الذي يَسخَطُ اللهُ عليه] (3).

وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} .

أي: حجب الله الفهم والوعي عن قلوبهم بغطاء الكفر والضياع، وأصم آذانهم عن السماع النافع.

قال قتادة: (يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئًا، كمثل البهيمة التي تسمع النداء، ولا تدوي ما يُقال لها).

وقال السدي: (أمّا {أَكِنَّةً}، فالغطاء أكن قلوبهم، لا يفقهون الحق، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، قال: صمم). وقال مجاهد: (قول الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}، قال: قريش).

وفي التنزيل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].

(1) هاهنا إذن: معناه قف هنا حتى يشهد عليك جوارحك إذ قد صرت منكرًا.

(2)

من الإعذار، والمعنى ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه، بحيث لا يبقى له عذر يتمسك به.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2968)، كتاب الزهد، وأخرجه ابن حبان (4642).

ص: 597

وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .

قال القاسمي رحمه الله: (إشارة إلى أنه لا يختص ما ذكر منهم بالقرآن، لرؤيتهم قصورًا فيه، بل مهما يروا من الآيات والحجج مما يدل على صدق الرسول لا يؤمنوا بها، ويحملوها على السحر، لفرط عنادهم، واستحكام التقليد فيهم، فلا فهم عندهم ولا إنصاف. كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 32]. {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ}. أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاؤوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل. ثم فسّر المجادلة بقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي: أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها. قال: وَعَدُّ أحسن الحديث وأصدقه، من قبيل الأباطيل "وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" -رتبةٌ من الكفر لا غاية وراءها) انتهى.

قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .

أما قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ففيه قولان:

1 -

أي ينهون الناس عن اتباع الحق، وتصديق الرسول والانقياد للقرآن، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}: أي ويبتعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحَيْن، لا ينتفعون ولا يتركون أحدًا ينتفع، ويبتعدون. قال قتادة:(جمعوا النهي والنأي. و"النأَي"، التباعد).

قال ابن عباس: ({وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ}: ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به).

وقال أيضًا: ({وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}، يقول: لا يلقونه، ولا يدعون أحدًا يأتيه).

وقال سالم عن ابن الحنفية: (يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه، وينهون الناس عنه).

وقال قتادة: (ينهون عن القرآن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه).

2 -

أي ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عن دينه واتباعه.

فعن ابن عباس: (نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن محمد أن يؤذى، وينأى عما جاء به أن يؤمن به).

ص: 598

والراجح القول الأول، وهو اختيار شيخ المفسرين الإمام ابن جرير، وتابعه على ذلك الحافظ ابن كثير، وهو أكثر مناسبة لسياق الآيات، والله تعالى أعلم.

وقوله: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .

أي لا يعود وبال هذا الصنيع إلا عليهم، فهم يوردون أنفسهم موارد الهلاك والعطب ويختارون لها مستقبل الخزي والآلام وما يشعرون.

27 -

30. قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالوا يَاليْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَال أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالوا بَلَى وَرَبِّنَا قَال فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}.

في هذه الآيات: خِطَابٌ من الله سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم ولو ترى يا محمد هؤلاء الجاحدين المكذبين إذ حبسوا في النار فقالوا يا ليتنا نرد إلى الدنيا فنتوب ونراجع طاعة الله ولا نجحد آياته ولا نكذب رسله ونكون من المؤمنين، وما بهم في حقيقة الأمر الأسى والندم على ما فرطوا وكفروا، بل هو الإشفاق مما هو نازلٌ بهم من عقاب الله وأليم عذابه، على ما اجترحوا من آثام وكانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم، فأبداها الله وكشفها على رؤوس الأشهاد، ففضحهم بها وأخزاهم أمام الخلق ثم جازاهم بها. ولو رددناهم إلى الدنيا لرجعوا في حقيقة الأمر إلى جحود الآيات والنعم والعمل بما يسخط ربهم، لأنهم قالوا ذلك خشية من العذاب لا إيمانًا بالله ولا رغبة في تعظيم أمره وشرعه وهدي رسوله. إنهم كانوا ينكرون الوقوف بين يدي ربهم يوم النشور، بعد الفناء والبعث من القبور، فلو ترى يا محمد هؤلاء المجرمين حين حبسوا على حكم الله وقضائه فيهم فقيل لهم: أليس هذا البعث والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونه في الدنيا، حقًّا؟ فقالوا: بلى والله إنه لحق، فقال الله لهم: فذوقوا عذاب الخزي والألم الذي كنتم به تكذبون.

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالوا يَاليْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

معنى: {إِذْ وُقِفُوا} إذ حُبسوا. قال القرطبي: (أي إذا وُقفوا غدًا، و"إذْ" قد تستعمل

ص: 599

في موضع "إذا" و"إذا" في موضع "إذْ" وما سيكون فكأنه كان، لأن خبر الله تعالى حقّ وصدق، فلهذا عَبَّرَ بالماضي).

وقوله: {عَلَى النَّارِ} - فيه أكثر من تأويل:

1 -

أي هم فوقها على الصراط وهي تحتهم. قال النسفي: ({إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} أروها حتى يعاينوها أو حبسوا على الصراط فوق النار).

2 -

قيل "على" بمعنى الباء، أي وَقَفوا بقربها وهم يعاينونها. قال الضحاك:(جُمعوا، يعني على أبوابها).

3 -

وقيل "على" بمعنى "في" أي وقفوا في النار. والمقصود أنهم دخلوها.

قال ابن جرير: ({عَلَى النَّارِ} ، يعني: في النار- فوضعت "على" موضع "في" كما قال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ

} [البقرة: 102]، بمعنى: في ملك سليمان).

قلت: وكل هذه المعاني يحتملها التأويل والإعجاز القرآني، وجواب {لَوْ} محذوف ليتسع لكل أنواع التصور من ألوان الشقاء، وليذهب الوهم إلى كل شيء مبالغة في التخويف والتصوير لتلك الساعات العصيبة من حياة المشركين، والتقدير: لو تراهم يا محمد وهم في تلك الحال لرأيت مشهدًا مفزعًا، ومنظرًا عجيبًا هائلًا، وحالًا سيئًا.

وقوله: {فَقَالوا يَاليْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

أي: يتمنون لو أعطوا فرصة أخرى بأن يردوا إلى الحياة الدنيا فيصدقوا بآيات الله ورسله ولا يجحدوا حججه كما فعلوا أول مرة.

وقوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .

أما قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} ففيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: بدت لهم معاصيهم التي كانوا يخفونها ويسترونها عن أعين الناس ففضحهم بها الله تبارك وتعالى على رؤوس الأشهاد.

قال السدي: ({بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} ، يقول: بدت لهم أعمالهم في

ص: 600

الآخرة، التي أخفوها في الدنيا). وقال قتادة:({بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}، قال: من أعمالهم).

قال ابن كثير: (أي: بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يُخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا، أو في الآخرة كما قال قبل هذا بيسير: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}).

التأويل الثاني: بل ظهر حينئذ ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صِدْق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يُظهرون لأتباعهم خلافه.

قال القرطبي: (وقيل: المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغُواة ما كان الغُواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة).

وهذا المعنى كما جاء فيِ القرآن من خبر موسى عليه السلام حين قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ .. } [الإسراء: 102]. وقال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} .

التأويل الثالث: المراد المنافقون، كانوا يظهرون للناس الإيمان ويبطنون الكفر.

أي: يظهر نفاقهم الذين كانوا يسرونه. قال القاسمي: (ولا ينافي هذا كون السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب بعد الهجرة. لأن الله تعالى ذكر وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت، فقال: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}).

التأويل الرابع: بل بدا لهم ما كانوا يخفونه في الدنيا- النار التي وقفوا عليها.

ذكره العلامة أبو السعود، واعتبر أن النار هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها، و (بإخفائها) تكذيبهم بها، فإن التكذيب بالشيء كفر به، وإخفاء له لا محالة. ثم قال:(وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن: 43]، وقوله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 14]، مع كونه أنسب بما قبله من قولهم: {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا .. } [الأنعام: 27] لمراعاة ما في مقابلته من البدو. هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم).

التأويل الخامس: بل هو في أهل الكتاب، يظهر لهم ما كتموه في كتبهم.

ص: 601

قال النسفي: (أو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قلت: وكل ما سبق يحتمله النظم الشريف وهو من وجوه إعجاز هذا القرآن العظيم، وإن كان التأويلان الأول والثاني من أقواها. وأضيف على ذلك فأقول: بدا لهم ما كانوا يخفونه من معرفة صدق الرسل وصدق التنزيل وحقيقة النار التي وُعد بها الكافرون وقد دعتهم الرياسة والكبر وحب العلو في الأرض وحظوظ النفس والشهوات إلى إخفاء ذلك ومحاربته في أقوامهم لتكون لهم الكلمة في الدنيا والكبرياء، فلما عاينوا ذلك يوم القيامة وأبصروا النار التي ودفوا عليها وشعروا بلهيبها على أجسامهم تَمَنَّوا الرَّجْعَةَ والتصديق لا التكذيب الذي أوردهم هذا المصير الشقي، وهنا بدا لهم ما أخفوه -ليتأكد قوله تعالى بعدها:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . أي: إن الذي دعاهم إلى إخفاء ما أخفوه لم يختلف، فإنه ما بهم حب الله ودينه ورسوله، وإنما بهم ألم جهنم، ومن ثمّ فلو كتب الله لهم العودة إلى الدنيا لتجاوزوا مرة أخرى صدق المرسلين إلى تعظيم أهوائهم وشهواتهم- وإنهم لكاذبون.

فقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .

هو من علم الله سبحانه الذي اختص به نفسه ولا يشاركه فيه أحد، فإنه يعلم سبحانه ما كان وما يكون وما سيكون، وما لن يكون- لكن إن قُدِّر أن يكون كيف سوف يكون.

قال قتادة: ({وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، يقول: ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم، لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء).

قال شيخ المفسرين -الإمام ابن جرير- رحمه الله: (لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب، لا إيمانًا بالله). أي: ما بهم الأسى والندم على ترك الإيمان بالله والتصديق برسله، بل هو إشفاق مما هو نازل بهم من عقاب الله وأليم عذابه.

وقوله تعالى: {وَقَالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .

قال القرطبي: (أي: لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال).- ولأنكروا المعاد.

وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} .

قال الجلال: (أي: عرضوا عليه). وقال ابن جرير: ({إِذْ وُقِفُوا} ، يوم القيامة،

ص: 602

أي: حبسوا). وقال ابن كثير: (أي: أوقفوا بين يديه). وقال النسفي: (مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه، أوْ وُقِفُوا على جزاء ربهم). قلت: وكلها معان متقاربة متكاملة في إظهار آفاق المعنى.

وقوله: {قَال أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} .

أي: أليس هذا المعاد -الذي أنكرتم وكذبتم في الدنيا- حقًّا؟

فأجابوه: {قَالوا بَلَى وَرَبِّنَا} .

أي: بلى والله إنه لحق. قال القاسمي: (أكدوا اعترافهم باليمين إظهارًا لكمال يقينهم بحقيّته، وإيذانًا بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط، طمعًا في نفعه).

فأجابهم مهينًا لهم قاطعًا كل أمل في نفوسهم بالنجاة أو العودة: {قَال فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .

أي: ذوقوا مسَّ العذاب الذي أنكرتم أو أخفيتم مقابل الكبر في الأرض وتعظيم الأهواء والشهوات وكبت المؤمنين ورفع شأن المجرمين الملحدين.

وفي التنزيل: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَال اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 105 - 111].

وفي التنزيل -كذلك-: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].

أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بالعبد يوم القيامة فيقولُ له: ألمْ أجْعَلْ لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا وسخرت لك الأنعامَ والحرثَ، وتَرَكْتُكَ تَرْأَس وتَرْبعُ فكنت تَظُنُّ أنكَ مُلاقيَّ يومَكَ

ص: 603

هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني] (1).

قال أبو عيسى: (ومعى قوله: "اليوم أنساك كما نسيتني": اليوم أتركك في العذاب).

31 -

32. قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارٌ من الله تعالى عن خسارة المكذبين بلقائه، وعن خيبة أملهم وفرط ندمهم إذا عاينوا المشهد يوم القيامة وقد جاؤوا مثقلين بأوزارهم وخطاياهم. وإنما هذه الحياة باغيها في لعب ولهو، وإن الدار الآخرة هي دار القرار للمتقين أفلا تعقلون.

فقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} .

قال ابن جرير: (قد هلك وَوُكِسَ، في بيعهم الإيمان بالكفر). وقال النسفي: ({قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره لأن منكر البعث منكر للرؤية).

وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} .

قال القرطبي: (سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها).

وقال السدي: (أما {يَاحَسْرَتَنَا}، فندامتنا، {عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}، فضيعنا من عمل الجنة).

وقال القاسمي: (والحسرة: التلهف على الشيء الفائت. وذكرت على وجه النداء للمبالغة. والمراد: تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة. {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} أي: قصرنا {فِيهَا} أي: في الحياة الدنيا. أضمرت وإن لم يجر ذكرها، للعلم بها. أي: على ما ضيعنا فيها، إذ لم نكتسب من الاعتقادات والأخلاق والأعمال ما ينجينا. أو

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2558) -كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وانظر صحيح سنن الترمذي- حديث رقم (1978). وأصل معناه في صحيح الإمام مسلم.

ص: 604

الضمير للساعة، أي: على ما فرطنا في شأنها، ومراعاة حقها، والاستعداد لها، بالإيمان بها، واكتساب الأعمال الصالحة).

وقال ابن جرير: (الضمير يعود إلى الصفقة التي دل عليها قوله. {قَدْ خَسِرَ .. } إلخ، إذ الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت. قال: والمعنى: قد وُكِسَ الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانَه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سَخَطَهُ وعقوبته. ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك، حتى تقوم الساعة. فإذا جاءتهم الساعة بغتة، فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم، قالوا حينئذ تندمًا: {يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}).

وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .

الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، وسمي به الذنب لثقله على صاحبه، والوَزَرُ الجَبَل. وخَصَّ الظهر بالحمل لأن المعهود حمل الأثقال عليه، كما عهد الكسب بالأيدي.

قال القاسمي: (ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يُسْند إليه من تدبير الولاية: والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها).

وقوله: {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .

أي: ما يحملون من الإثم والتبعات.

قال قتادة: ({أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، قال: ساء ما يعملون).

وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} - فيه أكثر من معنى:

1 -

قال ابن جرير. (يقول: ما باغي لذاتِ الحياة التي أدْنيت لكم وقربت منكم في داركم هذه، ونعيمها وسرورها، فيها، والمتلذذُ بها، والمنافس عليها إلا في لعب ولهو، لأنها عما قليل تزول عن المستمتع بها والمتلذذُ فيها بملاذّها، أو تأتيه الأيام بفجائعها وصروفها، فَتُمِرُّ عليه وتكدُر، كاللاعب اللاهي الذي يسرع اضمحلال لهوه ولعبه عنه، ثم يعقبه منه ندمًا، ويورثه منه تَرَحًا).

2 -

قال القرطبي: ({وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: لِقِصَرِ مدتها).

3 -

قال النسفي: ({وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} جواب لقولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع، واللهو الميل عن الجد إلى الهزل. قيل

ص: 605

ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو. وقيل: ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو لأنها لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة).

4 -

وقيل: معنى {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور. وقيل: (المعنى متاعُ الحياة الدنيا لعب ولهوٌ، أي: الذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له، فهو بمنزلة اللعب واللهو) ذكره القرطبي.

3 -

وقال ابن كثير: ({وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: إنما غالبها كذلك).

قلت: والراجح من المعنى لهذه الآية أنها متصلة بالآية قبلها، لتدحض قول الكافرين:{وَقَالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} - فجاء توضيح حقيقة هذه الحياة الدنيا، أنها للكفار دار لهو ولعب، وللمؤمنين دار استثمار وعمل، فيفوز العاملون المؤمنون في الآخرة، ويشقى الكفار اللاهون اللاعبون.

أخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح من حديث سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو كانت الدنيا تَعْدِلُ عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافِرًا منها شَرْبَةَ ماء](1).

وأخرج ابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده، بسند صحيح عن ابن عباس:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال: ما لي وللدنيا؟ ! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها](2).

وله شاهد عند الترمذي وابن ماجة عن عبد الله مرفوعًا: [ما لي وللدنيا؟ ! ما أنا والدنيا؟ ! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها](3).

وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن خولة بنت قيس امرأة حمزة بن عبد المطلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على حمزة فتذاكرا الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الدنيا خَضِرَةٌ

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2320)، وابن ماجة (4110)، والحاكم (4/ 306)، وله شواهد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (2326)، وأحمد (1/ 301)، والحاكم (1/ 301)، وبنحوه البيهقي. من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

(3)

حديث صحيح. أخرجه انترمذي (2/ 60)، والحاكم (4/ 310)، وابن ماجة (2/ 526)، وأحمد (1/ 391) بإسناد صحيح من حديث عبد الله مرفوعًا.

ص: 606

حلوةٌ، فمن أخذها بحقها بُوركَ له فيها، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ في مال الله ومال رسوله ليس له إلا النارَ يوم يلقى الله] (1).

وقوله: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .

كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

وكقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

قال ابن جرير: ({أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، يقول: أفلا يعقل هؤلاء المكذبون بالبعث حقيقة ما نخبرهم به، من أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وهم يرون من يُخْتَرم منهم، ومن يهلك فيموت، ومن تنوبه فيها النوائب وتصيبُه المصائب وتفجعه الفجائع. ففي ذلك لمن عقل مدَّكر ومزدجر عن الركون إليها، واستعباد النفس لها، ودليلٌ واضح على أن لها مدبِّرًا ومصرفًا يلزم الخلقَ إخلاصُ العبادة له، بغير إشراك شيء سواه معه).

وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينَه وبينه ترجمان، ولا حجابٌ يَحْجُبُهُ، فينظرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظرُ أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقِّ تمرة](2).

33 -

36. قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا

(1) حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي (3/ 277)، وأحمد (6/ 364)(6/ 378) من طريقين.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (1413) -كتاب الزكاة، وكذلك (7443)، كتاب التوحيد، ورواه مسلم في الصحيح (1016) ح (67) - كتاب الزكاة.

ص: 607

يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}.

في هذه الآيات: تَسْلِيَةُ الله سبحانه نَبِيّهُ صلى الله عليه وسلم مما يلقى هن تكذيب قومه، فإنهم يا محمد لا يكذبونك فيما آتيتهم به من الوحي، بل يعلمون صحته، وإنما يجحدون حقيقته قولًا فلا يؤمنون به. فاصبر على ذلك العناد، فقد كذبت رسل من قبلك أرسلتهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه، فصبروا حتى حكم الله بينه وبينهم وأنزل نصره، فتأس بإخوتك الرسل ممن مضى قبلك. وإن كان عظم عليك إعراضهم فشق عليك ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم فإن استطعت أن تتخذ سربًا في الأرض أو درجًا في السماء فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك أفضل مما أتيناهم فافعل، فإن الله تعالى لو شاء لجمعهم على محجة الحق ملة واحدة فتنبه، فإنما يستجيب لدعائك من فتح الله عليه، ونوّر قلبه بالحياة، وسمعه بالحق، وأما الأموات المبطلون فلا سبيل إليهم فقد طبع الله على قلوبهم وأصم آذانهم لكبرهم وتعاليهم على الحق، ثم يبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاء ونكال العقاب.

فقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .

قال قتادة: (يعلمون أنك رسول الله ويجحدون). وقال سعيد بن جبير: (ليس يكذبون محمدًا، ولكنهم بآيات الله يجحدون).

وفي التنزيل: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].

وكذلك قوله جل ذكره: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].

وقوله جلت عظمته: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 3].

يروي ابن جرير من طريق السدي قال: (التقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرُك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحكَ؟ والله إن محمدًا لصادق، وما كَذَب محمدٌ قَطٌّ، ولكن إذا ذَهَبت بنو قُصَيّ باللواء والسقاية والحِجابة والنُّبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ ).

وأخرج البيهقي في "الدلائل" نحوه من طريق محمد بن إسحاق: (قال الأخنس بن

ص: 608

شريق لأبي جهل: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سَمِعت من محمد؟ -وكان يستمع كل منهما قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل- قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشَّرف: أَطْعَموا فَأَطعَمْنا، وحمَلُوا فحَملنا، وأعطَوا فأعْطَيْنا، حتى إذا تجاثَينا على الركب، وكنا كفرسي رِهَان، قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحيُ من السماء! فمتى نُدْرِكُ هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه) (1).

وقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} .

قال قتادة: (يُعَزّي نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمعون، ويخبره أن الرسل قد كُذِّبَتْ قبله، فصبروا على ما كذبوا، حتى حكم الله وهو خير الحاكمين).

قال القرطبي: ({فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} أي: فاصبر كما صبروا. {وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} أي: عوننا، أي: فسيأتيك ما وُعِدْتَ به).

وقوله: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} .

قال ابن جرير: (يقول: ولا مُغَيِّرَ لكلمات الله، و {كَلِمَاتِهِ} تعالى ذكره: ما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من وعده إياه النصر على من خالفه وضادّه، والظفَر على من تولّى عنه وأدبر).

وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} .

قال القاسمي: (أي: من خبرهم في مصابرة الكافرين، وما منحوه من النصر، فلا بد أن نزيل حزنك بإهلاكهم، وليس إمهالهم لإهمالهم، بل لجريان سنته تعالى بتحقيق صبر الرسل وشكرهم).

وقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} .

أي: إن شق عليك وثقل نأيهم عن الإيمان بما نزل عليك من القرآن، ونهيهم الناس عنه، فإنه وجدت منفذًا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض لتستخرج لهم معجزة خارقة مما اقترحوه، أو تصعد مصعدًا في السماء لتأتيهم بذلك فافعل.

قال ابن عباس: (قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} ، و"النفق" السَّرب، فتذهب فيه، {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ، أو تجعل

(1) مرسل. أخرجه البيهقي في "الدلائل"(2/ 206 - 207) من طريق ابن إسحاق به.

ص: 609

لك سلمًا في السماء، فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل).

قال قتادة: ({نَفَقًا فِي الْأَرْضِ}: سَرَبًا، {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ}، قال: السلم الدَّرَج).

قال الزجاج: (وهو مشتق من السلامة كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد).

قال النسفي: (فافعل- وهو جواب {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ}، وإن استطعت وجوابها جواب {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ}. والمعنى إنك لا تستطيع ذلك، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم).

وقال القاسمي: (وَحَسُنَ حذف الجواب لعلم السامع به. أي: لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة، إذ يصير الإيمان ضروريًا غير نافع).

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} .

قال ابن عباس: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من قد سَبَقَ له من الله السعادة في الذكر الأول).

وهناك أقوال للمفسرين تكمل المعنى وتزيده وضوحًا وبيانًا:

1 -

قال القرطبي: ({وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} أي: لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، بَيَّن تعالى أن كفرهم بمشيئة الله ردًّا على القدرية. وقيل المعنى: أي لأراهم آية تَضْطَرّهم إلى الإيمان، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن).

2 -

قال النسفي: ({وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}: لجعلهم بحيث يختارون الهدى، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم يشأ أن يجمعهم على ذلك).

3 -

قال القاسمي: ({وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} أي: ولكنه شَاء بمقتضى جلاله وجماله، إظهار غاية قهره، وغاية لطفه).

4 -

وأكّد شيخ المفسرين هذه المعاني حيث قال: (يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار، يا محمد، فيحزنك تكذيبهم إياك، لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدين، وصواب من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة، لجمعتهم على ذلك، ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأني

ص: 610

القادر على ذلك بلطفي، ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم).

قلت: وهذه الآية العظيمة تندرج ضمن مفهوم المشيئة الإذنية، فإن المشيئة كما وردت في الكتاب والسنة ثلاثة أقسام: كونية وشرعية ومشتركة.

أولًا: المشيئة الكونية. وهي نوعان:

1 -

المشيئة الإجبارية.

2 -

المشيئة الإذنية.

ثانيًا: المشيئة الشرعية.-أمر الله ونهيه-.

ثالثًا: المشيئة المشتركة.-اشتراك المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية-.

وقد فصلت ذلك ببيان مُدَلّل في كتابي: أصل الدين والإيمان -عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان- في أبحاث القدر- الباب السادس: مفهوم المشيئة والاستطاعة. فلله الحمد والمنة.

وأما الآية الكريمة موضوع التفسير هنا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} - فهي تدل على مفهوم المشيئة الإذنية: وهي المشيئة المرتبطة بعلم الله وعدله وحكمته، إذ علم سبحانه الأعمال وكتبها فلا أحد اختار الإيمان رغم مشيئة الله، ولا أحد اختار الكفر رغم مشيئة الله، بل الكل داخل في اختياره تحت مشيئته تعالى، فلا أحد يخرج بإرادته ومشيئته عن إرادة الله ومشيئته عز وجل.

قال سبحانه في سورة يونس: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} . وقال جل ذكره في سورة النساء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ (64)} . وقال جل ثناؤه في سورة النحل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)} . وقال جلت عظمته في سورة يونس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .

ص: 611

فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل لتمام علمه وكمال حكمته وعدله.

أخرج أبو نعيم في الحلية بسند حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله لو شاء أن لا يُعصى ما خلق إبليس](1).

وفي لفظ عند البيهقي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:[يا أبا بكر، لو أراد الله أن لا يُعصى ما خلق إبليس].

وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}

فيه أكثر من تأويل:

1 -

قال ابن جرير: (يقول: فلا تكونَنَّ ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه بلطفه، وأن من يكفر له من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه ونافذ قضائه بأنه كائن من الكافرين، به اختيارًا لا اضطرارًا)،

2 -

قال القرطبي: ({فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي: من الذين اشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحِل. أي: لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين).

3 -

وقال النسفي: ({فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي: من الذين يجهلون ذلك. وهو أن لو شاء سبحانه: لجعلهم بحيث يختارون الهدى، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم يشأ أن يجمعهم على ذلك - كذا قاله الشيخ أبو منصور رحمه الله.

4 -

وقال القاسمي: ({مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي: بما تقتضيه شؤونه تعالى، التي من جملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم. إما اختيارًا، فلعدم توجههم إليه. وإما اضطرارًا، فلخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختيار).

5 -

وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة، فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذابتهم.

قلت: والآية درس في إفهام أحد أركان الإيمان بالقدر، فإن هذا الركن العظيم يرتكز على أركان ثلاثة: هي صفات لله سبحانه:

1 -

العلم. 2 - الحكمة. 3 - العدل.

(1) حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 92)، والبيهقي في "الأسماء"(157).

ص: 612

فقد قضى سبحانه بعلمه وحكمته أن لا يجبر الناس على الإيمان، بل بسط لهم صفحات هذا الكون الفسيح يقرؤون فيها دلالات إفراده تعالى بالتكبير والتعظيم، ثم بسط لهم صفحات التنزيل الكريم، يقرؤون فيها عن أسمائه و. صفاته الحسنى، وآياته ونعمه العظمى، وخبر الأمم التي أهلكها الله بالكفر والكبر والعناد، وخبر المرسلين وأتباعهم المؤمنين، وما أعدّ الله لهم من النعيم المقيم، وما هيأ لأعدائه من العذاب المقيم. فالكتابة في اللوح المحفوظ عن كلٍّ من اختيار الفريقين مصيرَهم هي كتابة علم لا كتابة جبر أو قهر. وبذلك يفهم حديث الكتابين اللذين أخرجهما رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أمام أصحابه:

فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: [خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا: لا، إلا أن تُخْبِرنا يا رسول الله. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم، فلا يُزادُ فيهم ولا ينْقَصُ منهم أبدًا. ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقَصُ منهم أبدًا. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء إذن نعمَلُ إن كان هذا أمْرًا قد فُرِغ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدِّدُوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير](1).

وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .

قال مجاهد: ({إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}، المؤمنون، للذكر، {وَالْمَوْتَى}، الكفار، حين يبعثهم الله مع الموتى).

وقال قتادة: (هذا مثل المؤمن، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله. والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم، وهذا مثل الكافر أصم أبكم، لا يبصر هدى ولا ينتفع به).

(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (4/ 186)، وصحيح ابن حبان (1806)، ومستدرك الحاكم (1/ 31)، ومسند أبي يعلى (2/ 171)، وصحيح الجامع الصغير - حديث (88).

ص: 613

فالكفار موتى القلوب، فكان ذلك تشبيهًا من الله لهم بأموات الأجساد.

وفي التنزيل: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70].

وقال في هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . قال ابن كثير: (وهذا من باب التهكم بهم، والإزراء عليهم).

37 -

39. قوله تعالى: {وَقَالوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى عن قيل هؤلاء المعرضين الجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: هلا نزل على محمد آية من ربه؟ قل يا محمد لهؤلاء - قائلي ذلك - إن الله قادر أن ينزل حجة على ما يسألون، ولكن أكثر الذين يسألون ذلك لا يدرون تبعات ذلك عليهم، أو وجه ترك إنزال ذلك. ثم أعلمهم أن الله محيط بأعمالهم وأقوالهم ومواقفهم، فلا يغفل سبحانه عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغير أو كبير، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل كُلُّ هؤلاء أُمَمٌ مُصَنَّفَة، قد أحصى أحوالهم سبحانه، وأثبت ذلك في أم الكتاب، وجميعهم آتيه إلى أرض المحشر يوم القيامة. ولكن مثل الكافر كالأصم الأبكم، لا يبصر هدى، ولا ينتفع به، صم عن الحق في الظلمات، لا يستطيع منها خروجًا، والله سبحانه يضل من يشاء من عباده عدلًا، ويهدي من يشاء إلى صراطه القويم فضلًا.

فقوله: {وَقَالوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} .

قال الحسن: ({لَوْلَا} ها هنا بمعنى هلَّا). قال القرطبي: (وكان هذا منهم تعنتًا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الوصف وعلم الغيوب).

ص: 614

وقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} .

أي: قل لهم يا محمد إن الله قادر على إنزال الخوارق والمعجزات والآيات، بنحو ما تعنتوا كقولهم:{وَقَالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} [الإسراء]. وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} - فيه تفاسير متكاملة:

1 -

لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، فهو العليم بمصالحهم.

2 -

لا يعلمون ما يترتب عليهم في نزول ذلك من البلاء، أو ما يعقب ذلك من العقوبة لو كفروا بعد معاينة تلك الآيات.

3 -

لا يعلمون ما كتب الله من إخراج عباد صالحين من أصلابهم يؤمنون بالله ورسوله، فلم يرد سبحانه من أجل ذلك استئصالهم.

4 -

لا يعلمون ما وجه ترك إنزال ذلك عليك من حكمة الله التي لا يحيط بها أحد.

5 -

لا يعلمون أن ذلك الاقتراح منهم دليل على جهلهم.

وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالكُمْ} .

فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال مجاهد: (أصناف مصنفة تُعرف بأسمائها).

2 -

قال قتادة: (يقول: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة).

3 -

وقال السدي: ({إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالكُمْ}، يقول: إلا خلق أمثالكم).

4 -

وقال ابن جريج فيها: (الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب).

قال ابن جرير: (وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغير أو كبير، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مُجَنَّسَة وأصنافًا مصنفة، تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سخرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب).

ص: 615

وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .

يعني كتابة جميع دقائق تلك الأمم والعوالم في اللوح المحفوظ.

قال ابن عباس: (ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب).

وقال ابن زيد: (لم نغفل الكتاب، ما من شيء إلا وهو في الكتاب).

وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} .

فيه قولان:

1 -

قال ابن عباس: (موت البهائم حشرها). قال: (حشرها الموت).

2 -

قال أبو هريرة: (يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدوابَّ والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجَمَّاء من القَرْناء، ثم يقول: "كوني ترابًا"، فلذلك يقول الكافر: {يَاليْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}) - ذكره بسنده ابن جرير.

والراجح القول الثاني، وهو أن الحشر هنا يُعنى به الجمع لبعث الساعة وقيام القيامة.

أخرج عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، عن عثمانَ رضي الله عنه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن الجماء لتقتصّ من القرناء يوم القيامة](1).

ويشهد له ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لَتُؤدُّنَ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القَرْناء](2).

وكذلك يشهد له ما أخرجه الطيالسي في "مسنده" عن الأعمش قال: سمعت منذرًا الثوري يحدث عن أصحابه عن أبي ذر قال: [رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! أتدري فيما تنتطحان؟ قلت: لا، قال: ولكن ربك يدري، وسيقضي بينهما يوم القيامة](3).

وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} .

قال قتادة: (هذا مثل الكافر، أصم أبكم، لا يبصر هدى، ولا ينتفع به، صَمَّ عن الحق في الظلمات، لا يستطيع منها خروجًا، متسكّعٌ فيها).

(1) صحيح بشواهده. أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند"(1/ 72)، والبزار (3449).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2582) - كتاب البر والصلة - باب تحريم الظلم.

(3)

حديث حسن. أخرجه الطيالسي في "مسنده"(480)، وأخرجه أحمد (5/ 162). وله شواهد.

ص: 616

وفي التنزيل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17 - 18].

فالأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم، وبذلك شبّه الله المكذبين بحججه وآياته في جهلهم وقلة علمهم وسوء فهمهم. قال القرطبي:(أي: عَدِموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم، فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون).

وقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

أي: هو سبحانه المتصرف في خلقه كما يشاء، فيهدي من يشاء منهم فضلًا، ويضل من يشاء منهم عدلًا، فهو وحده تبارك وتعالى الذي اطلع على قلوب عباده.

قال القاسمي: (فمن أحب هدايته، وَفَّقَهُ بفضله وإحسانه للإيمان، ومن شاء ضلالته تركه على كفره. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]).

قلت: ومفهوم ذلك أن الله سبحانه يعاقب العبد على حبه الضلال بقسوة القلب، ويجازي المؤمن على إيثاره طاعة ربه بالهداية والثبات.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تُعْرَضُ الفتنُ على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبدًا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه](1).

والصراط المستقيم هو طريق الحق الذي مشى عليه الرسل والصالحون وثبتهم الله عليه، حتى أكرمهم يوم القيامة بتجاوز الصراط إلى دار النعيم المقيم، جعلنا الله والمؤمنين الصادقين من أهل صراطه المستقيم.

40 -

45. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ

(1) حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1/ 89 - 90)، وانظر مختصر صحيح مسلم (1990) - كتاب الفتن - من حديث حذيفة رضي الله عنه.

ص: 617

وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (45)}.

في هذه الآيات: قل يا محمد لهؤلاء المعاندين من قومك: أخبروني إن جاءكم عذاب الله كالذي نزل على أمم قبلكم فهلكوا - كالرجفة والصيحة والصاعقة والغرق - أو جاءتكم الساعة التي تخرجون فيها من قبوركم لمشهد الحساب يوم القيامة، أغير الله هناك تدعون لكشف ما نزل بكم! ! هل تدعون شركاءكم وآلهتكم المكذوبة! ؟ بل إنكم هنالك تفزعون إلى الله وحده ليكشف عنكم ما أغمكم من الشدائد والأهوال دون كل شيء غيره، وتنسون حينئذ ما تشركونه في العبادة. لقد أرسلنا إلى جماعات قبلكم من الأمم فأمرناهم ونهيناهم وامتحناهم بالفقر والضيق والأسقام لعلهم يخلصون العبادة لله ويفردونه بالتعظيم، وإذ لم يتضرعوا بل أقاموا على تكذيبهم واستكبارهم قساوة قلب منهم، واستهتارًا بعقاب الله، وقد حَسَّنَ الشيطان لهم أعمالهم التي يسخطها الله منهم، فلما أصروا على غيّهم استدرجناهم بعاجل لذات الدنيا حتى إذا فرحوا بسعة العيش والصحة وسكروا فاجأناهم بعقوبة مؤلمة وأخذناهم فأصبحوا هالكين. فاستؤصل القوم الذين عتوا على ربهم والحمد لله رب العالمين.

فقوله: ({قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} . أي: أخبروني. وقوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} . أي: بمثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة التي عتت عن أمر ربها ورسله. {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} يعني القيامة.

وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

قال القرطبي: (أي: أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضًا، فلم تصرّون على الشرك في حال الرفاهية؟ ! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب).

وقوله: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} . أي: تخصون بالدعوة. {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} .

قال القاسمي: (أي: إن شاء كشفه. والتقييد بالمشيئة لبيان أن إجابتهم غير

ص: 618

مطردة، بل هي تابعة لمشيئته تعالى، المبنية على حِكَم استأثر بعلمها).

وقوله: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} .

أي: وقت الحاجة والضرورة وحلول المهالك. وفي التنزيل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].

وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} .

يعني: الفقر وضيق العيش والقحط والشدائد. {وَالضَّرَّاءِ} يعني الأمراض والأسقام والآلام. وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} . أي: يتذللون لله ويدعونه ويتضرعون إليه ويخشعون.

وقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} .

قال ابن كثير: (أي: فهلَّا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتَمَسْكَنُوا لدينا).

وقوله: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} .

قال القرطبي: (أي: صَلُبَت وغَلُظَت، وهي عبارة عن الكبر والإصرار على المعصية، نسأل الله العافية). وقال القاسمي: (وجيء بـ "لولا" ليفيد أنه لم لكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، كما قال: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فلم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينزجروا وإنما ابتلوا به).

وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

أي: من الكبر والشرك والعجب والغرور.

قال النسفي: (وصاروا معجبين بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم).

أخرج ابن عدي والبيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك: العجب](1).

وفي لفظ البيهقي: [لو لم تكونوا تذنبون، لخِفْتُ عليكم ما هو أكبَرُ من ذلك، العُجْبَ العُجْبَ].

(1) حديث حسن. أخرجه ابن عدي (1/ 164)، والعقيلي (171)، والبيهقي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (658).

ص: 619

وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} .

أي: لما تمادوا بالغي والغرور والعجب والاستكبار فتحنا عليهم أبواب الملذات والرزق من كل ما يختارون استدراجًا لهم وعلامة على اقتراب النهاية.

قال ابن عباس: ({فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}، يعني: تركوا ما ذكروا به). وقال ابن جريج: (ما دعاهم الله إليه ورسله، أبوْه وردّوه عليهم).

وعن مجاهد: ({فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قال: رخاء الدنيا ويُسْرها، على القرون الأولى). وقال قتادة: (يعني الرخاء وسعة الرزق).

وقوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} .

قال السدي: (أخذهم العذاب بغتة، فإذا هم مهلكون، متغيِّر حالهم).

وقال مجاهد: ({فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}، قال: الاكتئاب).

وقال ابن زيد: (المبلس الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه. والمبلس أشد من المُسْتكين، وقرأ: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]، وكان أول مرة فيه معاتبة وبقية. وقرأ قول الله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}، حتى بلغ: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ثم جاء أمرٌ ليس فيه بقية. وقرأ: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}، فجاء أمر ليس فيه بقية. وكان الأول، لو أنهم تضرعوا كُشف عنهم).

قلت: والإبلاس في كلام العرب الانكسار والحزن. يقال: أبلس فلان إذا سكت غمًّا. قال الرازي: ("أبلس" من رحمة الله أي: يئس. ومنه سمي "إبليس").

أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن جرير في التفسير، بسند قوي، عن عقبة بن عامر مرفوعًا:[إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}](1).

وقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} .

قال السدي: (قطع أصل الذين ظلموا). وقال ابن زيد: (استؤصلوا).

(1) صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (4/ 145)، وابن جرير (7/ 115)، والبيهقي في "الشعب"(4540).

ص: 620

قال النسفي: (أي: أهلكوا عن آخرهم ولم يترك منهم أحد. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ}: إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم وأجزل القسم، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله).

وفي كلام العرب: الدابر الآخر. دبر فلان القوم إذا كان آخرهم في المجيء.

قال القرطبي: (ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور).

يروي ابن أبي حاتم عن قتادة قال: (بغتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون).

فالحمد لله الذي أظهر حججه، ونصر رسله، وأهلك أعداءه، تمكينًا لدينه في الأرض، وتكرمة لأوليائه وأهل طاعته أتباع رسله، فله الحمد في الأولى والآخرة، وفي كل حال.

46 -

49. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}.

في هذه الآيات: يقول جل ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله العادلين به الأوثان والطواغيت، المكذبين بنبوتك ماذا لو أصمّكم الله فذهب بأسماعكم، وأَعْماكُم فذهب بأبصاركم، وطبع على قلوبكم فعميت الفقه والحجة وعدمت الفهم! فأي إله غير الله - جلت عظمته - يرد عليكم ما ذهب عنكم، انظر يا محمد كيف نتابع عليهم الأمثال والحجج ليعتبروا ثم هم يعدلون ويعرضون. قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، المكذبين بنبوتك ماذا لو فاجأكم الله بعذاب من عنده، هل يحيق الهلاك إلا بالظالمين الآثمين. إنّما نرسل رسلنا بشارة لأهل الطاعة، نذارة لأهل المعصية فمن آمن وعمل صالحًا فلا خوف عليهم عند قدومهم على ربهم، ولا هم

ص: 621

يحزنون على ما خلفوا وراءهم في هذه الدنيا. وأما الذين كذبوا بالآيات والحجج وعاندوا فأولئك يباشرهم العذاب بما كانوا يكسبون.

فقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} .

أي: بأن أَصَمَّكُم وأَعْمَاكُم وغطى على قلوبكم ما يزول به عقلكم وفهمكم.

وقوله: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} .

أي: بما أخذ منكم وحرمكم من الاستمتاع بهذه النعم العظيمة. قال القاسمي: (وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر، لأنها أشرف أعضاء الإنسان، فإذا تعطلت اختل نظام الإنسان، وفسد أمره، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا).

وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} .

أي: انظر يا محمد كيف نورد هذه الدلالات والأمثال ثم يُصِرُّ هؤلاء المشركون على الجحود والعناد والإعراض بغيًا وحسدًا وكبرًا. قال ابن عباس: ({يَصْدِفُونَ}: يعدلون).

وقال مجاهد: ({يَصْدِفُونَ}: يعرضون). وقال السدي: (يصدّون).

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} .

أي: أخبروني إن فاجأكم الله بعذابه على غرة أو معاينة تنظرون إليه.

قال مجاهد: ({قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً}، فجأة آمنين، {أَوْ جَهْرَةً}، وهم ينظرون).

وقوله: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: هل يهلك الله منا ومنكم إلا من كان يعبد غير من يستحق علينا العبادة، ويترك عبادة من يستحق علينا العبادة).

وقال القرطبي: (والظلم هنا بمعنى الشرك، كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}).

وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} .

قال الحسن: (مبشرين بِسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة. قال: ومعنى {مُنْذِرِينَ} مخوفين عقاب الله).

ص: 622

وقوله: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: فمن آمن قلبُه بما جاؤوا به وأصلح عمله باتباعه إياهم {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، أي: بالنسبة إلى ما يستقبلونه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها، الله وليهم فيما خَلَّفُوه، وحافظهم فيما تَرَكوه).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .

أي: إن الذين كذبوا بالقرآن والمعجزات ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم سَيُبَاشِرُهُم العذاب بما كانوا يكفرون ويجحدون. قال ابن زيد: (كل {فِسْقٌ} في القرآن، فمعناه الكذب).

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أَحَدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصرانيٌّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار](1).

50 -

54. قوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}

في هذه الآيات: خِطَابٌ من الله سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (153) - كتاب الإيمان. باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته.

ص: 623

نبوتك - لست أملك خزائنِ الرب عز وجل، خزائن السماوات والأرض، ولست أعلم ما يغيب ولا أدعي أني مَلك، وإنما أنا عبد رسول أتبع ما يوحى إليّ من ربي عز وجل، فهل يستوي الأعمى عن الحق والبصير به أفلا تتفهمون هذه الحجج! ! وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين يخافون ربهم، والموقف في الحشر وأهوال ذلك اليوم، حيث لا ناصر ولا شفيع يشفع عند الله من عقابه الذي قضاه لأهل الكفر والجحود، لعلهم يرهبون ويحذرون ما يسخطه ويعملون ما يحبه - جلت عظمته. ثم لا تطرد المؤمنين المستضعفين من مجلسك من أجل الطغاة المجرمين، فإن جلوس المؤمنين أحب إلى الله من جلوس أولئك الذين يستكبرون أن يقعدوا جنب المؤمنين، فحذار أن تطردهم فتكون من الظالمين. فإنما فتَنَّا هؤلاء بهؤلاء بقسمة الأرزاق والأخلاق والقوة والضعف ليقول المجرمون المخدوعون بالقوة والمال أهؤلاء الفقراء الضعفة مَن الله عليهم بالهدى ونحن أحق! فأجابهم الله تعالى: أليس الله بأعلم بالشاكرين. وإذا جاءك المؤمنون يا محمد وقد انكسرت قلوبهم بذنوب زلّت نفوسهم وجوارحهم بها فبشرهم بسعة مغفرة الله ورحمته لمن تاب وآمن وعمل صالحًا وأنه سبحانه غفور رحيم.

فقوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} .

أي: فيكون أمر التصرف بها إليّ، وأجيبكم ما خَطَرَ لكم.

قال القاسمي: (لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إليّ، فأعطيكم منها ما تريدون من قلب الجبال ذهبًا، وغير ذلك). وقال القرطبي: (هذا جواب لقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} فالمعنى: ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات، ولا أعلم الغيب فأخبركم به).

والخزائن جمع خزانة. وهي المكان الذي يخزن فيه الشيء. قال الرازي: (خزن المال جعله في الخزانة). وَخَزْنُ المال أو الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي.

أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا يَحْلُبَنَّ أحَدٌ ماشِيةَ امرئٍ بغير إذنه، أَيُحِبُّ أحدُكُم أن تؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فتكْسَرَ خِزَانتهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُه؟ فإنما تَخْزُن لهم ضروعُ مواشيهم أَطْعماتِهم، فلا يَحْلُبَنَّ أحد ماشيةَ أحدٍ إلا بإذنه](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2433) - كتاب في اللقطة - باب: لا تُحْتَلَبُ ماشية أحد بغير إذنه. من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 624

وقوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} .

أي: لا أدعي أني ملك من الملائكة أُظهر الخوارق.

قال ابن جرير: (لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرًا بصورته لأبصار البشر في الدنيا، فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك). وقال القرطبي: (وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل، أي: لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر).

والخلاصة: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست ملكًا حتى تكلفوني بِخوارق العادات مما لا يطيقه البشر، من الرقيّ في السماء، ورؤية الأمور العظام، إنما أنا بشر يأكل ويشرب وينام ولكن الله اصطفاني بالوحي لأبلغ كلامه ورسالته، ولذلك قال:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} .

وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} .

قال مجاهد: ({قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}، قال: الضال والمهتدي). وقال قتادة: ({الْأَعْمَى} الكافر الذي قد عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه، و {الْبَصِيرُ}، العبد المؤمن الذي أبصر نافعًا، فوحد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما آتاه الله).

وقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} .

قال ابن جرير: (ومعناه، يعلمون أنهم يحشرون، فوضعت "المخافة" موضع "العلم"، لأن خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك).

وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: أنذِرْ هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، فيعملون في هذه الدار عملًا يُنْجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويُضاعف لهم به الجزيل من ثوابه).

وقوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سعد قال: [فِيَّ نزلت: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ

ص: 625

{رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ، قال: نزلت في ستة، أنا وابن مسعود منهم، وكان المشركون قالوا: تُدْني هؤلاء] (1).

وأخرج ابن ماجة والحاكم وابن جرير بسند صحيح عن المقدام بن شُرَيح عن أبيه، عن سعد قال:[كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدّث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}](2).

وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} - في تأويله أقوال:

1 -

ذكر ابن عباس ومجاهد أن المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة.

قال ابن عباس: ({يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}، يعبدون ربهم، {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، يعني: الصلاة المكتوبة).

وقال مجاهد: (الصلاة المفروضة، الصبح والعصر).

2 -

ذكر إبراهيم أن المقصود بالدعاء الذكر. قال إبراهيم: (لا تطردهم عن الذكر).

وقال منصور: (هم أهل الذكر).

3 -

ذكر أبو جعفر أن المراد تعلمهم القرآن وقراءته. قال أبو جعفر: (كان يقرئهم القرآن، من الذي يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم).

4 -

ذكر الضحاك أن المقصود العبادة. قال الضحاك: ({يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قال: يعني: يعبدون، ألا ترى أول قال: {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ

(43)} [غافر: 43]، يعني: تعبدون).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (2413)، وسنن ابن ماجة (4128)، ومستدرك الحاكم (3/ 319). ورواه النسائي في "التفسير"(183)، وأخرجه أبو يعلى (826)، والطبري (13266)، وغيرهم. من حديث سعد رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. انظر سنن ابن ماجة (4128) - باب مجالسة الفقراء. ومستدرك الحاكم (3/ 319) وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي. وانظر الواحدي (431)، والصحيح المسند - الوادعي. الأنعام (52). وأخرجه النسائي في "الكبرى"(11163)، والطبري في "التفسير"(13266)، وأبُو يعلى (826). من حديث سعد رضي الله عنه.

ص: 626

قلت: والدعاء يشمل كل ما ذكر، فالصلاة دعاء، والذكر والقرآن والعبادة بجميع ألوانها وأشكالها من الدعاء. وفي الحديث:[إن الدعاء هو العبادة](1). وفي الحديث: [ليس شيء أكرم على الله سبحانه من الدعاء](2).

وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} - فيه قولان:

القول الأول: يريدون طاعته، والإخلاص في عبادتهم لله تعالى، فلا يتوجهون بذلك إلا إليه.

قال ابن جرير: (يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنو من رضاه).

القول الثاني: يبتغون الله الموصوف بالوجه. قال القرطبي: (يريدون الله الموصوف بأن له الوجه، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. وهو كقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ .. } [الرعد: 22]. وخصّ الغداة والعشي بالذكر، لأن الشغل غالب فيهما على الناس، وما كان في وقت الشغل مقبلًا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل).

قلت: وكلا القولين صحيح. فإن الآية تفيد الإخلاص في العمل لله الواحد الأحد، كما تفيد إثبات صفة الوجه لله الكريم. وقد أكدت السنة الصحيحة هذه الصفة الجليلة.

ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا ينام، ولا ينبغي أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور (أو النار)، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره]. وفي لفظ: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)(3).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد وأصحاب السنن من حديث النعمان بن بشير. انظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (3086).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (3087) - كتاب الدعاء- باب فضل الدعاء. انظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (3087).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (179)، كتاب الإيمان. والحجاب هو الذي يحجب الأبصار أن تراه في الدنيا، وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بحديث أبي ذر:[قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه]. أخرجه مسلم في صحيحه (178) - كتاب الإيمان. باب قوله صلى الله عليه وسلم: "نور أنى أراه"، "رأيت نورًا".

ص: 627

وقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} .

كقول نوح عليه السلام حين ردّ على قومه مثل ذلك، قال تعالى في سورة الشعراء:{قَالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَال وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)} .

والمعنى: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليّ من حسابهم شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء. ذكره القاسمي.

قال أبو السعود: (وذكر قوله تعالى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} مع إن الجواب قد تم بما قبله، للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم، بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلًا، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام، عليهم، على طريقة قوله تعالى:{لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .

وقال النسفي: (وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال: حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم).

وقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} .

جواب النفي وهو: "ما عليك من حسابهم".

وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} .

جواب النهي، وهو قوله:{وَلَا تَطْرُدِ} . أو في موقع العطف على {فَتَطْرُدَهُمْ} على وجه التسبيب، لأن كونه ظالمًا مسبب عن طردهم.

وقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} .

قال ابن عباس: ({وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الأغنياء للفقراء: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}، يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاء وسُخْرِيًّا).

فأجابهم سبحانه بهذه الآية التي تقرع العقول والقلوب وتفَهِّم بحث القدر: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} .

أي: هو تعالى وحده الذي اطلع على قلوب عباده وعلم أعمالهم وكتب ذلك في اللوح المحفوظ كتابة علم لا كتابة جبر، فقسم الأعمال والأخلاق والأرزاق. فهدى

ص: 628

المؤمنين هداية توفيق وإلهام، اختصاصًا بهم بعد هداية الرسل الكرام. كما قال جل ذكره:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} .

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم]. وفي لفظ: [إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم](1).

وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّبَ إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصوه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما تردّدت عن شئ أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته](2).

فهذا الشكر المتتابع من العبد لربه عز وجل بحرصه على محابه، جلت عظمته، أعقبه الله فيه اختصاصًا وولاية، حتى صار في ذمة الله فمن عاداه فقد أعلن الله تعالى عليه الحرب، ومن آذنه الله بالحرب فقد هلك.

وقوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .

يعني: إذا جاءك يا محمد أهل الإيمان والتصديق فأكرمهم برد السلام عليهم، وبَشِّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة، وقرِّبهم منك ولا تبعدهم.

قال البيضاوي: (وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن، واتباع الحجج، بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأهم بالتسليم، أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذانًا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل. ومن كان كذلك ينبغي أن يقرّب ولا يطرد، ويُعَزّ وَلا يُذَل، ويُبَشَّر من الله بالسلامة في الدنيا، والرحمة في الآخرة).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2564)(33)، وكذلك (34) من حديث أبي هريرة، كتاب في البر والصلة. وأخرجه أحمد في المسند (7814).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4/ 231) من حديث أبي هريرة، والبغوي في شرح السنة (1/ 142/ 2)، ويشهد له ما في المسند (6/ 256).

ص: 629

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله لمّا خلق الخلق كتب كتابًا عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي](1).

وقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

قال النسفي: ({أَنَّهُ} الضمير للشأن {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا} ذنبًا {بِجَهَالةٍ} في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل بما يتعلق به من المضرة، أو جعل جاهلًا لإيثاره المعصية على الطاعة {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} من بعد السوء أو العمل {وَأَصْلَحَ} أخلص توبته {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}).

55 -

59. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}.

في هذه الآيات: يقول جلَّ ذكره: كما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة من ابتدائها حتى هذا الموضع، كذلك نفصل لك الأدلة والحجج في كل حق لإزهاق محاولات أهل الباطل ولتتضح لك سبيل المجرمين. قل لهؤلاء المشركين -يا محمد-: إن ربي عز وجل نهاني عن عبادة ما تدعون من دونه ولن أوافق أهواءكم، وإن فعلت فقد اخترت حينئذ سبيل الضلال. إني على بيان من الله وحجة ناصعة وبرهان، وكذبتم أنتم بربكم، وما تستعجلونه من النقم والعذاب ليس بيدي، إنما الحكم في كل شأن في هذا الكون لله أعدل الحاكمين وخير الفاصلين. ولو أن بيدي ذلك لعجلت لكم به،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (3194)، (7404)، (7553)، وأخرجه مسلم برقم (2751)، ورواه أحمد في المسند (2/ 313).

ص: 630

ولأريتكم الآيات والخوارق، والعذاب الذي تستعجلون، ولكنه بيد الجبار سبحانه، وهو أعلم بوقت إرساله على الظالمين. فعنده مفاتح الغيب لا يشركه بذلك أحد، وهو الذي يعلم ما في البر والبحر وما يجري فيها وما يكون، وما تسقط ورقة في الصحارى والجبال والبراري والأمصار والقرى إلا يعلمها، وكذلك لا يغيب عنه علم كل حبة أو شجرة وكل رطب أو يابس في أرجاء هذا الكون، بل هو مثبت في اللوح المحفوظ.

فقوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} .

أي: كما فعلنا في هذه السورة من بدايتها وقد بسطنا لك يا محمد في ذكر ما يدحض حجج المبطلين، فالأمر سيستمر كذلك في كل هذا القرآن العزيز. قال ابن جرير:(كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل).

قال قتادة: ({وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}، نبين الآيات).

وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} - فيه قراءات:

1 -

قرأها عامة قراء المدينة: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ} بنصب سبيل. أي: لتستبينَ أنت يا محمد سبيل المعاندين المجرمين الذين رغبوا بطرد المؤمنين. قال ابن زيد: ({وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ}: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء).

2 -

وقرأها بعض المكيين والبصريين: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} . والتقدير: ولتتضح لك يا محمد وللمؤمنين طريقُ المجرمين.

3 -

وقرأها عامة قراء الكوفة: {وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} بالياء في الكلمة الأولى بدل التاء. وأشهر هذه القراءات وأقربها القراءتان الثانية والثالثة، وهذا اختيار ابن جرير.

وقوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

أي: فلا يستحق التعظيم إلا الله.

قال النسفي: (أي: صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله).

وقوله: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} - تأكيد لقطع أطماعهم.

قال البيضاوي: (هو إشارة إلى الموجب للنهي، وعلة الامتناع عن متابعتهم،

ص: 631

واستجهال لهم، وبيان لمبدأ ضلالهم، وأن ما هم عليه هوى، وليس بهدى. وتنبيه لمن تحرّى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد).

وقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} .

أي: إن ركبت أهواءكم، ومضيت كما مضيتم في تخبطكم.

وقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} .

أي: دخلت حينئذ في متاهات الضلال، وانحرفت عن سبيل الهدى والرشاد، فشاركتكم في ضلالكم وضياعكم.

وقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} .

أي: على بصيرة ونور من شريعة ربي عز وجل.

وقوله: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} .

أي: وقد كذبتم بالحق الذي شرفني الله به وعميتم عنه.

وقوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} .

قال القرطبي: (أي: العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء (1). وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها) (2).

وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} .

قال ابن كثير: (أي: إنما يرجع أمرُ ذلك إلى الله، إن شاء عجَّلَ لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجَّلكم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة).

وقوله: {يَقُصُّ الْحَقَّ} .

قال القرطبي: (أي: يقص القصص الحق، وبه استدل من منع المجاز في القرآن).

ص: 632

وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} .

أي: خير من فصل الخلافات والخصومات والقضايا، وهو سبحانه خير الفاتحين الحاكمين بين عباده. وفي التنزيل:{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].

أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح، عن هانئ بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله هو الحكم، وإليه الحُكْمُ](1).

وقوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .

أي: لو كان أمر العذاب بيدي لأنزلته بكم وعاجلتكم به كما ترغبون، حتى ينقضي الأمر إلى آخره.

قال أبو السعود: (لأهلكتكم عاجلًا، غضبًا لربي، واقتصاصًا من تكذيبكم به).

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} .

قال القرطبي: (أي: المشركين وبوقت عقوبتهم).

وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}

قال السدي. ({وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}، يقول: خزائن الغيب).

وعن عطاء، عن ابن عباس: ({وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، قال: هن خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .

والمفاتح جمع مِفْتَح. يقال: مِفْتح ومِفْتاح. قال ابن جرير: (فمن قال: "مِفْتَح"، جمعه "مفاتح"، ومن قال: "مفتاح"، جمعه "مفاتيح").

أخرج البخاري في صحيحه عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مفاتحُ الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4955). ورواه النسائي. انظر تخريج الإرواء (2682)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1841).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4627)، وأخرجه النسائي في السنن "الكبرى"(7728).

ص: 633

وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي، وابن ماجة - واللفظ له - من حديث أبي هريرة قال:[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجل. فقال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر. قال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: أن تعبدَ الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيمَ الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصومَ رمضان. قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إنْ لا تراه فإنه يراك. قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعْلمَ من السائل، ولَكِنْ سَأُحَدِّثك عن أشراطِها. إذا وَلَدَت الأمَةُ رَبَّتَها فذلك من أشراطِها، وإذا تطاول رِعاء الغنم في البُنْيان فذلك من أشرِاطها، في خَمْسٍ لا يعْلَمُهُن إلا الله. فتلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}](1).

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} .

أي: من الخلق والعجائب. فإنه سبحانه يحيط علمه بجميع عوالم السماوات والأرض، ولا يخفى عليه شيء من ذلك ولو كان مثقال ذرة.

وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} .

قال ابن جرير: (ولا تسقط ورقة في الصحارى والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها). قال القرطبي: (أي: من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء).

وقوله: {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .

قال ابن عباس: (خلق الله النُّون - وهي الدَّواة - وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خَلْق مخلوق، أو رِزْقٍ حلال أو حرامٍ، أو عَمَلِ بِرٍّ أو فجور، وقرأ هذه الآية: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا .. } إلى آخر الآية) - رواه ابن أبي حاتم.

وظلمات الأرض بطونها، والمعنى: لا تنبت حبة في أية بقعة في الأرض إلا يعلم سبحانه متى تنبت، وكم تنبت، ومن يأكلها. ولا تيبس أرض أو ترطب إلا يعلم

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (8)، وسنن ابن ماجة (64) - باب في الإيمان - واللفظ له.

وأخرجه بنحوه الترمذي في السنن (2610)، والنسائي (8/ 97)، وأخرجه ابن حبان (168).

ص: 634

سبحانه يبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رطبت.

قال النسفي: (وقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} كالتكرير لقوله {إِلَّا يَعْلَمُهَا}، لأن معنى {إِلَّا يَعْلَمُهَا} ومعنى {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} واحد، وهو علم الله أو اللوح).

وقال القرطبي: ({إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. أي: في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك. وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي: اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب).

قلت: وقد دلت السنة الصحيحة على آفاق هذا المعنى، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألف سنة](1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند صحيح عن عَبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة](2).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني بإسناد صحيح عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس: من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد](3). وفي رواية: (من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه).

وله شاهد عند ابن عساكر بسند جيد عن أنس، بلفظ:[فرغ الله من أربع: من الخَلق والخُلق والرزق والأجل].

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 69)، وأخرجه الترمذي (2259) من حديث عبد الله بن عمرو، وانظر صحيح مسلم (8/ 51) بلفظ قريب. وأخرجه ابن حبان (6138).

(2)

حديث صحيح. رواه الطبراني بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو. انظر تخريج الطحاوية (78)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (4080)، ورواه البيهقي.

(3)

إسناده صحيح. أخرجه أحمد (5/ 197)، وابن عساكر (17/ 493/ 2)، والطبراني في الكبير والأوسط، من حديث أبي الدرداء. قال الهيثمي (7/ 195):(رواه أحمد والبزار والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات). وانظر تخريج السنة لابن أبي عاصم (303)، (304)، (305) - الألباني. وانظر للشاهد بعده "صحيح الجامع"(4079).

ص: 635

60 -

62. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}

في هذه الآيات: عَطْفٌ على البيان السابق: - وقل لهم يا محمد: إن الله تعالى هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم، ويعلم ما كسبتم من الأعمال في النهار، ثم يوقظكم من نومكم في النهار فيبعثكم، ليقضي الأجل الذي كتبه لحياتكم بالموت عند انتهاء العمر الذي اختاره لكم ثم معادكم ومردكم إليه سبحانه فيخبركم بما كنتم تعملون. وهو الغالب خلقه والعالي عليهم بقدرته وجبروته ويرسل ملائكته فيكم فيتعاقبون ليلًا ونهارًا يحفظون أعمالكم ويصعدون بذلك إلى الله، فإذا جاء الموت أرسل إليكم ملائكة يقبضون أرواحكم من ملك الموت ولا يفرطون في ذلك ويصعدون بها. ثم رُدَّت الملائكة الذين جاؤوا بالأرواح بعد نزعها - إلى الله سيدهم الحق، ألا له الحكم والقضاء وهو أسرع من حسب أعماركم وآجالكم وأعدادكم وأعمالكم.

فقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} .

قال السدي: (أما {يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} ففي النوم، وأما {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} فيقول: ما اكتسبتم من الإثم). وقال قتادة: ({وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}، رمني بذلك نومهم، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}، أي: ما عملتم من ذنب فهو يعلمه، لا يخفى عليه شيء من ذلك). قال ابن جرير: (وهذا الكلام وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن قدرته وعمله، فإن فيه احتجاجًا على المشركين به، الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم).

قلت: والتوفي المذكور في هذه الآية هو التوفي الأصغر، دون القبض التام للروح الذي هو التوفي الأكبر. كما قال تعالى في سورة الزمر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا

ص: 636

وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى

} [الزمر: 42].

قال الشوكاني: ({اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}: أي: يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان).

وقال الفراء: (المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها. قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت وفاتها نومها). قال ابن زيد: (فالنوم وفاة). والمقصود: يقبضها عن التصرف والتمييز مع بقاء الأرواح في أجسادها. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا آوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن حذيفة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خدّه، ثم يقول: "اللهم باسمك أموت وأحيا". وإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور"](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره](3).

الحديث الرابع: أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" بسند صحيح عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، [النوم أخو الموت، ولا يموت أهل الجنة](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6720) - كتاب الدعوات، وكذلك (7393) - كتاب التوحيد.

ورواه مسلم (2714) - كتاب الذكر والدعاء. باب الدعاء عند النوم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6314) - كتاب الدعوات - باب وضع اليد تحت الخد اليمنى.

وانظر (6312) منه - باب ما يقول إذا نام، وكذلك (6324)، (7394).

(3)

حديث حسن. انظر تخريج الكلم الطيب (34)، (43)، وصحيح الجامع الصغير (326).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 36/ 2)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 90).

ص: 637

قلت: فالوفاة هنا في هذه الآية بمعنى النوم، والنوم أخو الموت، ولا ينام أهل الجنة. وقد بسطت القول في مفهوم الوفاة وأنواع استخدام لفظها، وكذلك الصلة بين الروح والنفس والفؤاد والعقل والجسد والمشاعر في كتابي:"تحصيل السعادتين" فلله الحمد والمنة.

وقوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} .

قال مجاهد: ({ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}، قال: في النهار). وقال قتادة: (والبعث اليقظة).

وعن السدي: ({لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى}، قال: هو أجل الحياة إلى الموت). وقال مجاهد: (وهو الموت). وقال عبد الله بن كثير: ({لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى}، قال: مدّتهم).

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

أي: ثم إلى الله بارئكم يكون معادكم ومآلكم، ثم تعرض عليكم أعمالكم في صحفكم، ثم يجازيكم بها، ولا تظلم نفس مثقال ذرة.

وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: {وَهُوَ الْقَاهِرُ}، والله الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته، لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم).

وفي مسهتدرك الحَاكم عن عائشة قالت: [كان إذا تَضَوَّرَ من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القهار، ربّ السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار](1).

وقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} .

أي: من الملائكة، يحفظون بدن العبد، وغيرهم يحفظ أعماله ويحصيها.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11].

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان والحاكم من حديث عائشة. انظر صحيح ابن حبان (2358)، ومستدرك الحاكم (1/ 540)، والسلسلة الصحيحة (2066).

ص: 638

2 -

وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].

3 -

وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق].

قال السدي: ({وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، قال: هي المعقبات من الملائكة، يحفظونه ويحفظون عمله). وعن ابن عباس: (والمعقبات من الله هي الملائكة، "يحفظونه من أمر الله" قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه).

وقال مجاهد: ({عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}: عن اليمين الذي يكتب الحسنات، وعن الشمال الذي يكتب السيئات).

وفي مُعْجَم الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن صاحب الشمال ليرفع القلم ستَّ ساعات عن العبد المسلم المخطيء، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة](1).

وفي المسند بسند صحيح عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه](2).

وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} .

قال إبراهيم: (أعوان ملك الموت). وكان ابن عباس يقول: (لملك الموت أعوان من الملائكة). وقال الكلبي: (إنّ ملك الموت هو يلي ذلك، فيدفعه، إن كان مؤمنًا، إلى ملائكة الرحمة، وإن كان كافرًا إلى ملائكة العذاب).

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا المعنى، في أحاديث:

(1) حديث صحيح. رواه الطبراني في "الكبير"(ق 25/ 2)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 394/ 1).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 469)، ومالك (2/ 985/ 5)، والترمذي (2/ 52)، وأخرجه ابن ماجة في السنن (3969)، وابن حبان (1576)، والحاكم (1/ 45 - 46)، وغيرهم.

ص: 639

الحديث الأول: حديث البراء - أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم والطيالسي وفيه: [إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كان وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي لفظ: المطمئنة) اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، حتى إذا خرجت روحه صلّى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}] الحديث. ثم يقول: [وإن العبد الكافر (وفي لفظ: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد سود الوجوه معهم المسُوح من النار، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفود الكثير الشعب من الصوف المبلول .... فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند صحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحًا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بِرَوْحٍ ورَيْحان، وربٍّ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج (2). قال: فإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسَّاق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 287، 288، 295، 296)، وأبو داود (1/ 282) بسند صحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وانظر أحكام الجنائز (159).

(2)

وفي رواية: [ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى].

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 364 - 365)، وأبو داود (3212) نحوه، وابن ماجة (4262).

ص: 640

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا - وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أي: حكمًا - فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة](1).

وقوله: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} .

قال ابن عباس: (لا يضيّعون).

وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} .

قال ابن جرير: (ثم ردت الملائكة التي توفَّوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم، إلى الله سيدهم الحق، {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ}، يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}، يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم، أيها الناس، وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها).

وقال القاسمي: ({أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} يومئذ لا حكم فيه لغيره، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} يحاسب الخلائق في أسرع زمان).

قلت: والله سبحانه من أسمائه الحكم، وهو بمعنى الحاكم، وحقيقته: الذي سُلِّم له الحكم وَرُدَّ إليه. كما قال تعالى في سورة الأنعام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} .

وكقوله في سورة المائدة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6/ 373 - 374) من حديث أبي سعيد، وأخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (2766)، وغيرهما.

ص: 641

وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن هانيء بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله هو الحَكَمُ، وإليه الحُكْمُ](1).

63 -

65. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}.

في هذه الآيات: خِطَابُ الله المتتابع لنبيّه صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء المشركين بربهم -يا محمد-: من الذي ينجيكم إذا دخلتم في ظلمات سبل البر أو البحر وشعرتم بالخوف ومظنة الهلاك وتحيّرتم بهذا الضياع والضلال، إلا الله تعالى الذي إليه مفزعكم حينئذ بالدعاء، تدعونه استكانة سرًّا وجهرًا، لئن أنجيتنا يا رب من هذه لنخْلِصَنَّ لك الشكر والعبادة. قل لهم يا محمد: الله وحده القادر على نجاتكم وفرَجكم ثم أنتم بعد تَكَرُّمِه عليكم بالنجاة والفرج تشركون. إنه - جلت عظمته - هو القادر أن يعيدكم في الظلمات والأهوال مرة أخرى مقابل خيانتكم العهود والمواثيق وانتكاسكم مرة ثانية في أوحال الشرك، وأن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابًا متفرقة يقتل بعضكم بعضًا، فانظر يا محمد تتابع هذه الحجج والآيات على هؤلاء المشركين لعلهم يفقهون.

فقوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} .- قال قتادة: (يقول: من كرب البر والبحر).

قال القاسمي: ({ظُلُمَاتِ الْبَرِّ} ، أي: شدائده، كخوف العدو، وضلال الطريق. {وَالْبَحْرِ} كخوف الغرق، والضلال، وسكون الريح. استعيرت الظلمة للشدة، لمشاركتها في الهول، وإبطال الأبصار، ودهش العقول. يقال لليوم الشديد: يوم

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4955) - كتاب الأدب - باب في تغيير الاسم القبيح، وأخرجه النسائي في السنن (5387) - وانظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (4145)، وصحيح سنن النسائي -حديث رقم- (4980).

ص: 642

مظلم، ويوم ذو كواكب. أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، وظهرت الكواكب فيه).

وقوله: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} .

قال ابن جرير: ({تَضَرُّعًا} منكم إليه واستكانة وجهرًا، {وَخُفْيَةً}، يقول: وإخفاء للدعاء أحيانًا، وإعلانًا، وإظهارًا).

وقوله: {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .

قال القرطبي: ({لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ} أي: من هذه الشدائد {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: من الطائعين. فوبّخَهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد، وهم يدعون معه في حالة الرخاء غيره بقوله:{ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} .

وفي التنزيل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

} [يونس: 22 - 23].

وفيه كذلك: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)} [النمل: 63].

وقال في هذه الآيهْ: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} .

أي: إن الله وحده القادر أن ينجيكم من هذه الظلمات ومن كل كرب وهم وغم دون شفاعة أحد ولا عون، ثم أنتم بعد ذلك إذا رجعتم إلى الرخاء تشركون ولا تشكرون.

قال القرطبي: ({ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} تقريع وتوبيخ، مثل قوله في أول السورة: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}. لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا بدلًا منه وهو الإشراك، فَحَسُنَ أن يُقَرَّعُوا ويُوَبَّخُوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة).

وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} - فيه أقوال:

1 -

قيل {مِنْ فَوْقِكُمْ} عذاب السماء. {ومن تحتكم} الخسف في الأرض.

قال السدي: ({قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} ، عذاب السماء، {أَوْ مِنْ

ص: 643

تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، فيخسف بكم الأرض). وكذا قال مجاهد:(الخسف).

2 -

وقيل: (معنى: {مِنْ فَوْقِكُمْ} الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح، كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح). ذكره سعيد بن جبير. ومعنى: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الخسف والرجفة كما فعل بقارون وأصحاب مدين. واختاره ابن جرير.

3 -

قيل: {مِنْ فَوْقِكُمْ} يعني: الأمراء الظلمة، و {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني: السّفِلة وعبيد السوء.

قال ابن عباس: (فأما العذاب من فوقكم، فأئمة السوء، وأما العذاب من تحت أرجلكم، فخدم السوء). وفي رواية: ({قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، يعني: من أمرائكم، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، يعني: سفلتكم).

قلت: والراجح القول الأول وما في معنى القول الثاني، إذ عليه يدل السياق، وآيات التنزيل. قال تعالى:{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} [الإسراء: 66 - 69].

قال البخاري في كتاب التفسير من صحيحه - باب: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الآية. يلبسكم: يَخْلِطَكُم من الالتباس. {يَلْبِسُوا} يخلِطوا. {شِيَعًا} : فِرَقًا. حدثنا حَمَّاد بن زيد بن عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه قال:[لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك. {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: أعوذ بوجهك. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أهْوَنُ- أو هذا أيْسَرُ](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4628) - كتاب التفسير -. ورواه في كتاب التوحيد (7406)، وأخرجه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7313) وفي لفظه:(هاتان أهون، أو أيسر).

وأخرجه الترمذي (3065)، والنسائي في "التفسير"(184)، وأبو يعلى (1982)، وغيرهم.

ص: 644

وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} .

أي: أو يخلطكم فرقًا ويجعلكم ملتبسين شيعًا متناحرين متخالفين. وفيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: ({أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}: الأهواء والاختلاف).

2 -

قال مجاهد: (الأهواء المتفرقة). قال: (ما كان منكم من الفتن والاختلاف).

3 -

قال السدي: (يفرق بينكم). وقال ابن زيد: (الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء، وسفك دماء بعضهم بعضًا).

وقوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} .

قال ابن عباس: (يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب).

وقال السدي: (بالسيوف). وقال مجاهد: (عذاب هذه الأمة أهل الإقرار، بالسيف: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، وعذاب أهل التكذيب، الصيحة والزلزلة). وقال نوف البكالي: ({وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: هي والله الرجال في أيديهم الحراب، يطعنون في خواصركم).

قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن عامر بن سعدٍ عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذاتَ يوم مِنَ العالية، حتى إذا مَرَّ بمسجد بني مُعاويةَ، دخَلَ فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربَّهُ طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم:[سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألتُ ربي أَنْ لا يُهْلِكَ أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهْلِكَ أمتي بالغَرَق فأعطانيها، وسألته أنْ لا يَجْعَلَ بأسَهُمْ بينهم فَمَنَعَنِيها](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند جيد عن جابر بن عَتِيك أنه قال: [جاءنا عبد الله بن عُمَر في بني معاوية -قرية من قُرى الأنصار- فقال لي: هل تَدْرِي أين صَلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا؟ فقلت: نعم. فأشرتُ إلى ناحيةٍ منه، فقال: هل تدري ما الثلاثُ التي دعا بهنّ فيه؟ فقلت: نعم. فقال: فَأخبرني بهنَّ،

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2890)، كتاب الفتن، وأخرجه أحمد (1/ 175)، (1/ 181)، وأبو يعلى (734).

ص: 645

فقلت: دعا بِأَلَّا يُظهرَ عليهم عَدُوًّا من غيرهم، ولا يُهْلِكَهُم بالسِنين فَأُعْطِيَهُما، ودَعا بألَّا يجعل بأسهم بينهم، فَمُنِعَها. قال: صَدَقْتَ، فلا يزال الهَرْجُ إلى يوم القيامة] (1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح، عن شدّاد بن أوس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارِقَها ومغاربها، وإن مُلْكَ أمَّتي سَيَبْلُغ ما زُوِيَ لي منها، وإني أعطيتُ الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي عز وجل ألَّا يُهلِكَ أمتي بِسنَةٍ بِعَامّةٍ، وألا يُسَلِّطَ عليهم عَدُوًّا فيهلكهم بِعَامَّةٍ، وألَّا يلبسَهُم شيعًا، وألا يذيق بعضَهم بأس بعض. فقال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قَضَاءً فإنه لا يُرَدّ، وإني قد أعطيتُك لأمتك ألَّا أُهْلِكَهُم بسنةٍ بعامَةٍ، وألا أسلِّطَ عليهم عَدُوًّا ممن سواهم فَيهلكِوهم بعامَّة، حتى يكونَ بعضُهم يُهلِكُ بعضًا، وبعضُهم يقتل بعضًا، وبعضهم يَسْبي بعضًا. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المُضِلّين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يُرْفَع عنهم إلى يوم القيامة](2).

الحديث الرابع: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال: [صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا صلاة، فأطال فيها، فلما انصرف قلنا: يا رسول الله أطلتَ اليوم الصلاةَ؟ قال: إني صليتُ صلاة رغبةٍ ورهبة، سألت الله عز وجل لأمتي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، وردَّ عليَّ واحدةً، سألتُه أن لا يُسَلّط عليهم عدوًا من غيرهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلكهم غَرَقًا، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها عَلَيَّ](3).

وفي رواية عند أحمد: (أن لا يبعث عليهم سنة تقتلهم جوعًا) بدل "غرقًا".

(1) إسناده جيد. أخرجه أحمد (5/ 445)، والطبراني في "الكبير"(1781)، وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 221): رواه أحمد، ورجاله ثقات. وقال الحافظ ابن كثير في "التفسير":(ليس هو في شيء من الكتب الستة، وإسناده جيد قوي، ولله الحمد والمنّة).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 123)، والبزار (3291)، وقال الهيثمي في "المجمع"(7/ 221) رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح. ولأجزائه شواهد في الصحيح.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (3951)، وابن خزيمة في "صحيحه"(رقم- 1218)، وأخرجه أحمد (5/ 240)، ورجاله ثقات رجال الشيخين غير رجاء الأنصاري - قال الذهبي: ما روى عنه سوى الأعمش. لكن له شواهد في المسند (5/ 243)(5/ 247) من طريقين. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1724).

ص: 646

ويبدو من مجموع هذه الأحاديث أن ذكر الغرق والسنة محفوظ في أصل الحديث، والله تعالى أعلم.

وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} .

أي: انظر يا محمد كيف نبين لهم الحجج والدلالات ونفسر لهم الآيات لعلهم يفهمون مقصد هذه الحجج ويتدبرون آفاق هذه الدلالات وما يراد بها من بيان بطلان ما هم عليه من الشرك والمعاصي والآثام.

66 -

69. قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}.

في هذه الآيات: يتابع الله تعالى ذكره خطابه لنبيّه، فيقول: وكذب -يا محمد- قومك بما تخبر عن الله من الوحي وتنذر، قل لهم: لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، ولكل خبر مستقر ونهاية، فيظهر في آخر المطاف الحق من الباطل ويتميز الصدق من الكذب وسوف تعلمون. وإذا رأيت - يا محمد - المشركين المستهترين الذين يخوضون في الوحي وآيات التنزيل هزوًا ولعبًا فصدّ عنهم وجهك وإياك ومجالستهم، بل قم عنهم واعتزلهم حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم، وإن أنساك الشيطان أمرنا هذا باجتنابهم حالة سخريتهم ثم ذكرت ذلك فامتثل الأمر فوْرَ الذِّكرى ولا تقعد مع القوم الظالمين. ومن اتقى الله فعظم أوامره واجتنب نواهيه، وحصل أن جلس ولم يعرض عن مجلس هؤلاء المستهزئين فما عليه من تبعة إثمهم ما دام سخط ما كانوا عليه، ولكن الإعراض هو الأقرب للتقوى -وهو الذي سيستقر عليه الأمر- لعلهم يتقون.

فقوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

ص: 647

قال السدي: (كذبت قريش بالقرآن وهو الحق، وأما {الوكيل} فالحفيظ، وأما {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ}، فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب).

وقال مجاهد: ({لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ}، لكل نبأ حقيقة، إما في الدنيا وإما في الآخرة، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم).

وقال ابن عباس: ({لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، يقول: فعل وحقيقة، ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة).

وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} .

أي: إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والردّ والاستهزاء فاجتنب مجلسهم واعتزلهم، والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عام لجميع المؤمنين. قال القرطبي:(فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه).

قال مجاهد: ({وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}: هم الذين يستهزئون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام).

قال ابن العربي: (وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل).

وقال ابن خُوَيْزَ مَنْداد: (من خاض في آيات الله تُركت مجالسته وهُجر، مؤمنًا كان أو كافرًا).

وقال السدي: (كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فسبوه واستهزؤوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره).

قلت: وهذا النهي ينسحب اليوم على أهل الأهواء والبدع فلا يجلس معهم أثناء بدعتهم.

قال الفضيل بن عياض: (من جَلَسَ مع صاحبِ بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رَجَوْتُ أن يغفر الله له). وقال: (ومن زوّجَ كريمته من مُبْتدع فقد قطع رحمها).

وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات:

ص: 648

[لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غير منار الأرض](1).

فقوله: "لعن الله من آوى محدثًا"، أي: مبتدعًا، وإيواؤه الرضا عنه، وحمايته عن التعرض له، واتخاذه جليسًا ونديمًا، وتقريبه وتوقيره.

وقوله: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} .

أي: حتى يأخذوا في كلام آخر غير الذي فيه تكذيب واستهزاء وسخرية بالشريعة.

وقوله: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

قال أبو مالك: (إن نسيت فذكرت فلا تجلس معهم) ذكره السدي عنه.

وفي التنزيل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]. أي: لو تابعتم الجلوس بعد ورود النهي فقد أقررتموهم على استهزائهم فشاركتموهم في الإثم.

وكذلك: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث سلمة -يوم الحديبية والصلح- قال: [فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض، أتيتُ شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى

] الحديث (2).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند حسن عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من كان

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (6/ 84). وانظر مختصر صحيح مسلم (1261) - باب: في من ذبح لغير الله. من حديث علي رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1807)، كتاب الجهاد، باب غزوة ذي قرد، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 52 - 54) من حديث سلمة رضي الله عنه.

ص: 649

يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدار عليها الخمر] (1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن نافع، عن صَفِيّة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أتى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عن شيء لم تُقْبَلْ له صلاةُ أربعين ليلة](2).

وله شاهد عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [من أتى عَرّافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم].

وقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} - فيه أقوال:

1 -

ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك، أي: إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم. قاله سعيد بن جبير.

2 -

بل معناه وإن جلسوا معهم فليس عليهم من حسابهم من شيء. وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية، وهي قوله:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} ، قاله مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم، وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير.

3 -

أي: إذا تجنّبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك، فقد برئوا من عهدتهم، وتخلصوا من إثمهم.

قلت: والقول الثالث أقواها، أي: إن امتثلتم الاجتناب فاعتزلتم القوم الذين استطردوا بالخوض والاسْتهزاء بآيات الله، فما عليكم من حسابهم من شيء، وإن لم تفعلوا وتابعتم الجلوس فقد أشركتموهم في الإثم - كما قال تعالى في آية النساء:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} . وبذلك تكون الآيتان منسجمتين إذ لا دليل على النسخ المزعوم.

وقوله: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرًا لهم عما هم فيه، لعلهم يتقون ذلك، ولا يعودون إليه).

قلت: وهذا تفسير قوي منسجم مع السياق، ومع ما قبله، وقد ذكر ابن جرير نحوه

(1) حديث حسن. وهو جزء من حديث أطول، أخرجه الترمذي (2965) - باب ما جاء في دخول الحمام. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2230) - كتاب السلام. باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. وانظر للشاهد صحيح الجامع (5815)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 476) لتفصيل البحث.

ص: 650

عن السدي: ({وَلَكِنْ ذِكْرَى}، يقول: إذا ذكرت فقم، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مساءتكم، إذا رأوكم لا تجالسونهم استحيوا منكم، فكفوا عنكم).

70.

قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)} .

في هذه الآية: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم في متابعة خطابه: ذر يا محمد هؤلاء الذين حوّلوا علاقتهم بدينهم إلى اللهو واللعب والاستهزاء، وقد اغتروا بزينة هذه الحياة الدنيا فألهتهم وفتنتهم وأنستهم الموت والسؤال والعذاب، وذكرهم بهذا القرآن وما فيه من الوعيد فلا تبسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار فتحبس وتسلم للعذاب، ثم لا يقبل من أي نفس أبسلت يومئذ ولو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به من الشراب الحميم والعذاب الأليم، الذي أعدّ للذين أبسلوا بما كسبوا من الآثام وكانوا يكفوون.

فقوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} .

أي: دعهم واعتزلهم فإنهم بذلك على خَطر عظيم.

قال القرطبي: (أي: لا تعلّق قلبك بهم فإنهم أهل تَعنّت وإن كنت مأمورًا بِوَعْظِهم).

وقال النسفي: ({وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام {لَعِبًا وَلَهْوًا} سخروا به واستهزؤوا).

وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .

أي: انحصر اهتمامهم وعلمهم بهذه الحياة الفانية وزينتها.

وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ} .

أي: بالقرآن أو الحساب أو الموقف يوم الحسرة والندامة.

ص: 651

وقوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} .

المعنى كما قال ابن كثير: (لئلا تُبْسَل). وقال ابن جرير: (أن لا تبسل). فحذفت لا، لدلالة الكلام عليها، كما في قوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} . أي: أن لا تضلوا، أو كي لا تضلوا. وفي معنى {تبسل} أقوال متكاملة:

1 -

قال ابن عباس: (تُفضح).

2 -

قال عكرمة والحسن ومجاهد: (تبسل: تُسْلَم).

3 -

قال قتادة: (تُحْبَس).

4 -

وقال مُرّة وابن زيد: (تؤاخذ).

5 -

وقال الكلبي: (تجازى).

وكلها أقوال متقاربة متكاملة في بيان المعنى، مفادها كما قال القاسمي:(مخافة أن تسلم إلى الهلاك، وترتهن بسوء كسبها، وغرورها بإنكار الآخرة).

وأصل الإبسال المنع. يقال: أبسله لكذا: عرضه ورهنه، أو أسلمه للهلكة. قال الرازي:(أبسله: أسلمه للهلكة).

وقوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} .

قال النسفي: ({لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ} ينصرها بالقوة، {وَلَا شَفِيعٌ} يدفع عنها بالمسألة). قال: والمعنى: (وذكر بالقرآن كراهة أن تبسل نفس عادمة وليًّا وشفيعًا بكسبها).

وفي التنزيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].

وقوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} .

قال قتادة: (لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها).

وقال السدي: (فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قبل منها).

وقال ابن زيد: ({وَإِنْ تَعْدِلْ}، وإن تفتد، يكون لهُ الدنيا وما فيها يفتدي بها، {لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}، عدلًا عن نفسه، لا يقبل منه).

وفي التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا

ص: 652

وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91].

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} .

أي: هؤلاء المشار إليهم الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا وأسلموا للهلاك ولا ناصر ولا شفيع، إنما أسلموا إلى العذاب والهلاك بسبب اغترارهم بهذه الحياة الدنيا، وإنكارهم الحساب في الآخرة، والانهماك في الشهوات المحرمة واستباحتها.

قال القاسمي: ({لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}. أي: ماء مغليّ يتجرجر في بطونهم، وتتقطع به أمعاؤهم، {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: بنار تشعل بأبدانهم، {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي: بسبب كفرهم).

71 -

73. قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}.

في هذه الآيات: يقول جلت عظمته لنبيه صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين إفراد الله تعالى بالتعظيم، العادلين بربهم الأوثان والأنداد، الداعين لك إلى عبادة آلهتهم والأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا أو خلقًا آخر ضعيفًا لا يملك القدرة على جلب منفعة أو دفع مضرة، ونترك عبادة الله الواحد الأحد الصمد الذي بيده النفع والضر والحياة والموت والعز والذل، ونرد على أدبارنا منتكسين لم نظفر بحاجتنا ولم تجب دعوتنا، بعد أن لمسنا عز الهداية وأُنْسَ القرب من الله، فنكون في هذا التدلي كالرجل استتبعه الشيطان فهو يمضي في الحياة حيران، له أصحاب على الحق واستقامة المنهج ينادونه إلى الامتثال وسلوك سبيل النجاة، وهو يأبى ذلك ويهوي في ضلاله. قل يا محمد لهؤلاء المتخبطين في منهاجهم ذلك: إن طريق الله هو الهدى وأمرنا بلزومه

ص: 653

فهو ينقلنا إلى شاطئ السلامة ودار النعيم والأمن والقرار. وَأُمِرْنا بإقامة الصلاة والتزام تقوى الله فإليه المرد والمآل ويحشر الناس إليه جميعًا. إنه وحده - جلت عظمته - الذي خلق السماوات والأرض بالحق والعدل الذي هو إفراده سبحانه بالتعظيم والعبادة، والأمر يومئذ قوله كن فيكون، فقوله الحق وله السلطان ولا يشاركه أحد في الآخرة بأمر أو سلطان، فقد انقطع سلطان كل ذي سلطان يوم ينفخ في الصور، ولم يبق إلا أمر الواحد القهار عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير.

فقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية.

قال السدي: (قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، صلى الله عليه وسلم.

فقال الله تعالى ذكره: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} ، هذه الآلهة، {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} ، فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض. يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون:"ائتنا، فإنا على الطريق"، فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام) - ذكره ابن جرير.

ثم روى عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:(هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجل ضل عن الطريق تائهًا ضالًا، إذ ناداه مناد: "يا فلان ابن فلان، هلم إلى الطريق"، وله أصحاب يدعونه: "يا فلان، هلم إلى الطريق"! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق).

وعن مجاهد: (في قوله: {مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}، قال: الأوثان).

وعن قتادة: ({اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} قال: أضلته في الأرض حيران).

وقال مجاهد: (رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، فذلك مثل من يضل بعد إذ هدي، وقال: (هذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: الكافر حيران، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب).

ص: 654

وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} إلى قوله: {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالمِينَ} .

قال قتادة: (علمها الله محمدًا وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضلالة).

وقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} .

كقوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ .. } [الزمر: 37].

وكقوله سبحانه: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].

وقوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالمِينَ} .

قال ابن جرير: (وأمرَنا ربنا وربّ كل شيء تعالى وجهه، لنسلم له، لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية، فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة).

وقوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} . أي: وأمرنا -تعالى ذكره- أن أقيموا الصلاة.

وقوله: {وَاتَّقُوهُ} .

قال ابن كثير: (أي: وَأُمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال).

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . أي: يوم الحشر، يوم الحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} .

قال القرطبي: (أي: فهو الذي يجب أن يعبد لا الأصنام. ومعنى {بِالْحَقِّ} أي: بكلمة الحق. يعني قوله: {كُنْ}).

وقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} .

قال القاسمي: (بيان لقدرته تعالى على حشرهم، بكون مراده لا يتخلف عن أمره، وأن قوله وأمره هو النافذ والواقع. والمراد بـ (القول) كلمة {كُنْ} تحقيقًا أو تمثيلًا).

والتقدير: واذكر يوم يقول كن. أو اتقوا يوم يقول كن، أو قدّر يوم يقول كن. ذكره القرطبي. فيكون {يَوْمَ} قد نُصِبَ على العطف على قوله {وَاتَّقُوهُ} - أي: اتقوا يوم يقول كن فيكون. أو على قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} - أي: وخلق يومَ يقول كن فيكون.

ص: 655

وإما على إضمار فعل تقديره اذكر - أي: واذكر يوم يقول كن فيكون. ذكره ابن كثير. قلت: وكلها من وجوه الإعجاز القرآني يحتملها السياق وتفيد في بسط المعنى وآفاق مفهومه.

وقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} .

قال النسفي: (والمعنى: أنه خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة وحين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أي: لا يكون شيئًا من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب).

وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} .

أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو قال: [قال أعرابي: يا رسول الله، ما الصّور؟ قال: قَرْنٌ ينفخ فيه](1).

فالصور هو القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام حين يأخذ الأمر من ربه عز وجل. كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68].

وكما قال - جلت عظمته -: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87].

يروي البخاري عن ابن عباس: [قال في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} الصور. و {الرَّاجِفَةُ}: النفخة الأولى. و {الرَّادِفَةُ}: الثانية](2).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا؟ قال: أبيت (3). قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت. ثم ينزل الله من السماء ماءً فينبتون كما ينبتُ البقلُ.

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 312)، وأبو داود في السنن (4742)، والترمذي في الجامع (3243)، والحاكم في المستدرك (2/ 506).

(2)

حديث صحيح. رواه البخاري في ترجمة باب. انظر تخريج المشكاة (5529). وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 727) - بحث النفخ في الصور - لمزيد من التفصيل.

(3)

أي: امتنعت عن الجواب لأني ما أدري ما الصواب.

ص: 656

قال: وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظمًا واحدًا وهو عَجْبُ الذنب (1)، ومنه يُركب الخلق يوم القيامة] (2).

فإذا تذكر المسلم هول ذلك اليوم ونفخة الصور قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.

فقد أخرج الترمذي في جامعه بسند حسن، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كيف أنعم وصاحبُ الصور قد التقمه وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ؟ فقالوا: يا رسول الله! وما تأمرنا؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل](3).

وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} إما أن يكون بدلًا من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} .

أو أن يكون ظرفًا لقوله سبحانه: {وَلَهُ الْمُلْكُ} ، كما قال جل ذكره:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]. وكقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26].

وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .

قال ابن عباس: (يعني: أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور).

والراجح أن {عَالِمُ} صفة لـ {الَّذِي} خلق السماوات والأرض. أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هو".

والتقدير: أي وهو الذي خلق السماوات والأرض عالم الغيب. واختاره شيخ المفسرين، وكذلك الإمام القرطبي.

وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .

أي: الحكيم في أقواله وأفعاله، الخبير بأعمال عباده وأعمارهم ومستقبلهم بين يديه. قال النسفي:({وَهُوَ الْحَكِيمُ} في الإفناء والإحياء. {الْخَبِيرُ} بالحساب والجزاء).

(1) هو العظم بين الأليتين أسفل الصلب، فمنه خُلِق - الإنسان - وفيه يركب. ففي رواية لمسلم:[كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجبَ الذنب، منه خلق وفيه يركب].

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4935)، وأخرجه مسلم (2955/ 141)، وغيرهما.

(3)

حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2585) - أبواب فضائل القرآن - سورة الزمر.

ص: 657

74 -

79. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}.

في هذه الآيات: يتابع الله سبحانه في ذكر براهين الحق وحجج الدلالة والحكمة ليواجه نبيه صلى الله عليه وسلم خصومه المنكرين الجاحدين المشركين - واذكر يا محمد خليلي إبراهيم إذ قال لأبيه آزر معيبًا عليه اتخاذ الأوثان آلهة من دون الله، ومنكرًا عليه وعلى قومه باطل ما هم مقيمون عليه من الضلال في العبادة: كيف تعبد - يا أبت - هذه الأصنام وتتخذها ربًّا دون الله الذي خلقك وسَوّاك ورزقك. وكذلك - يا محمد - نُبَصِّرُ - إبراهيم في دينه، ونريه الحق في ملكوت السماوات والأرض ليكون أحسن العابدين المؤمنين. فلما واراه الليل وغيّبه أبصر كوكبًا حين طلع فقال هذا ربي، فلما زال وقد علم أن ربه دائم لا يزول قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر قد طلع وسطع قال هذا ربي فلما ذهب قال لئن لم يمنّ الله عليّ بهدايته لأكونّن من الذين أخطؤوا طريق الحق والهدى، وعبدوا غير الله. فلما رأى الشمس طالعة قال هذا الطالع ربي، هذا أكبر من الكوكب والقمر، فلما غابت قال إبراهيم لقومه إني بريءٌ من عبادة الأوثان والأصنام وهذه المخلوقات الزائلة، بل وجهت وجهي في عبادتي للذي خلق السماوات والأرض وهو الحي لا يموت ولا يزول ولا يفنى، مخلصًا له الدين وما أنا من المشركين.

فقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} .

قال السدي: (اسم أبيه آزر).

وكذلك قال محمد بن إسحاق: ({آزَرَ} أبو إبراهيم).

ص: 658

قلت: ولا عبرة بكلام آخر غير هذا، فالقرآن صرّح باسم والد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه {آزَرَ} ، وكذلك صرّحت السنة الصحيحة.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

[يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قتَرَةٌ وغَبَرَة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد. فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافريق. ثم يقال لإبراهيم: ما تحتَ رجليك؟ فينظر فإذا هو بذِيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار](1).

وقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} .

أي: تتأله لصنم تصرف له العبادة من دون الله.

وقوله: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

أي: إني أراك والقوم السالكين دربك وطريقتك في العبادة تائهين ضالين جائرين عن الحق وعن قصد السبيل.

وفي التنزيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 41 - 48].

قال ابن كثير: (فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه مُدَّةَ حياته، فلما مات على الشرك وتبيّن إبراهيم ذلك رجع عن الاستغفار له، وتبرّأ منه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]).

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري (1344). والقترة: السواد من الكآبة والحزن. والذيخ: ذكر الضبع الكثير الشعر. والحديث ذكره الإمام البخاري في كتاب الأنبياء.

ص: 659

وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

قال القاسمي: (أي: نطلعه على حقائقهما، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل، من حديث إنهما بما فيهما، مربوبان ومملوكان، له تعالى. و {الملكوت} مصدر على زنة المبالغة، كالرَّهَبوت والجبروت، ومعناه: الملك العظيم، والسلطان القاهر. وقيل: ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

2 -

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185].

3 -

وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9].

وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} .

قال النسفي: (فعلنا ذلك أو ليستدل، وليكون من الموقنين عيانًا كما أيقن بيانًا).

وقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ}

أي: ستره بظلمته. قال ابن جرير: (وكل ما توارى عن أبصار الناس، فإن العرب تقول فيه: "قد جَنَّ"). ومنه الجَنّة والجِنّة والجُنّة والجَنين والمِجَنّ والجن كله بمعنى الستر. قال القرطبي: (وجَنان الليل ادلهمامُه وستره).

قال: (ويقال: جنون الليل أيضًا. ويقال: جَنّه الليل وأجَنّه الليل، لغتان).

والمقصود: فلما أظلم الليل على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وستره بظلامه {رَأَى كَوْكَبًا} . أي: نجمًا، والكوكب لغة النجم.

وفي قوله: {رَأَى كَوْكَبًا} .

قال النسفي: (أي: الزهرة أو المشتري، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئًا منها ليس بإله لقيام دليل الحدوث فيها، ولأن لها محدثًا أحدثها ومدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها).

ص: 660

وقوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي}

قال القاسمي: (إرخاء للعنان معهم بإظهار موافقته لهم أولًا، ثم إبطال قولهم بالاستدلال، لأنه أقرب لرجوع الخصم).

قال الزمخشري: (قول إبراهيم ذلك، هو قول من ينصف خصمه، مع علمه بأنه مبطل. يحكي قولَهُ كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأنجى من الشغَب. ثم يكرّ عليه بعد حكايته، فيبطله بالحجة).

وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ} . أي: غاب. {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} . قال قتادة: (علم أنَّ ربه دائم لا يزول).

وقوله: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} . أي: طالعًا منتشر الضوء. وبزغت الشمس إذا طلعت، وكذلك القمر.

وقوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي} . على الأسلوب المتقدم. {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} . قال ابن جرير: (أي: من القوم الذين أخطؤوا الحق في ذلك، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله).

قال النسفي: (نبّه قومه على أن من اتخذ القمر إلهًا فهو ضال، وإنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الاحتجاج به أظهر، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب).

وقوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} .

فنصب قوله {بَازِغَةً} على الحال، لأن هذا من رؤية العين. وفي لغة العرب: بزغ وأفل متضادان. بزغ يَبْزُغ بُزوغًا إذا طلع، وأفلَ يأفِلُ أفولًا إذا غاب.

قال الكسائي: ({هَذَا رَبِّي} على معنى: هذا الطالع ربي). وقيل: هذا الضوء.

قال القرطبي: (وقال: {هَذَا} والشمس مؤنثة، لقوله: {فَلَمَّا أَفَلَتْ}. فقيل: إن تأنيث الشمس لتفخيمها وعِظمها، فهو كقولهم: رجل نَسّابة وعلّامة).

وقال ابن جرير: ({هَذَا أَكْبَرُ}، يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر، فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه).

وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَتْ} . أي: غابت. {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .

ص: 661

قال ابن كثير: (فلما انتفتِ الإلهيّة عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنورُ ما تقعُ عليه الأبصارُ، وتحقَّق ذلك بالدليل القاطع {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)}، أي: أنا بريء من عبادتهنَّ وموالاتهنَّ، فإن كانت آلهةً فكيدوني بها جميعًا ثم لا تُنْظرون).

وقوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

أي: إنما أتوجه بالعبادة وكمال التعظيم لخالق هذه الموجودات والأشياء ومخترعها ومسخّرها ومقدّر أمورها ومدبر أحوالها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وكل شيء في هذا الكون فقير إليه محتاج إلى قوته وقيوميته وتدبيره وتصريفه.

وفي التنزيل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف].

وفي التنزيل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} [النمل].

أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، بسند صحيح، عن أبي تميمةَ عن رجل من قومه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: أنت رسول الله أو قال: أنت محمد؟ فقال: نعم. قال: فإلامَ تَدْعو؟ قال: [أدعو إلى ربك الذي إن مَسَّكَ ضر فدعوته كشَفَ عنك، والذي إن أضللت بأرض قفرٍ فدعوته ردّ عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك](1).

وقد أثنى الله سبحانه على إبراهيم عليه الصلاة والسلام في غير ما موضع في القرآن:

قال تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (4084). ورواه أحمد بسند صحيح. انظر تخريج المشكاة (918)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (242). وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (3442).

ص: 662

وقال تعالى في سورة النحل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

وقال تعالى في سورة النساء: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}

أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنكم تحشرون إلى الله حُفاة عُراةً غُرْلًا، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]. وأول من يُكْسى يوم القيامة إبراهيم] (1).

وفي صحيح البخاري أيضًا عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:[أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصُّورَ في البيت لم يدخل حتى أمرَ بها فمُحِيَتْ، ورأى إبراهيم وإسماعيلَ عليهما السلام بأيديهما الأزلامُ فقال: قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط](2).

وقوله: {حَنِيفًا} .

أي: مائلًا عن الأديان الباطلة، والتصورات الزائفة الزائغة، إلى الحق القويم، دين رب العالمين، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كل مولود يولد على الفِطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسَانه، كما تولد البهيمة بهيمةً جمْعاء، هل تحسون فيها من جدعاء](3).

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حِمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنَفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحْلَلْتُ لهم](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3349) ضمن حديث أطول - كتاب أحاديث الأنبياء.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (3352) - كتاب أحاديث الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام. من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4775)، ومسلم (2658)، وأحمد في المسند (2/ 253)، والترمذي في الجامع (2138). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2865)، وأحمد في المسند (4/ 266)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (653).

ص: 663

80 -

83. قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}.

في هذه الآيات: يقول سبحانه: وجادل إبراهيم قومه في إفراده الله سبحانه بالتعظيم وبراءته من أصنامهم، وكانوا يزعمون أن آلهتهم خير من إلهه، فقال: أتجادلونني في توحيد الله الواحد الأحد الصمد وقد وفقني برحمته لمعرفة توحيده وإفراده بالعبادة والتعظيم، ولا أخاف آلهتكم التي تدعونها فما تملك لي ضرًا ولا نفعًا، بل خوفي من الله الذي بيده النفع والضر، والرزق والضيق أو النقصان. ثم كيف أرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم وهو مخلوق ضعيف لا يملك ضرًا ولا نفعًا وأنتم لا تخافون الله الواحد القهار الذي دان له الكون بكل ما فيه، فمن الذي هو أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. إن المؤمنين الصادقين في توحيد ربهم وتعظيمه أحق بالأمن، فالأمن أمن الإيمان، والهلاك في الشرك وأهله، وهذه بعض حججنا علمناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليواجه بقوارعها بهتان قومه وعنادهم، نختار للمعالي والدرجات من نشاء من عبادنا، إن الله حكيم - حيث يضع رسالته، عليم بقلوب وأفعال عباده.

فقوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} .

قال ابن جريج: ({وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، قال: دعا قومُه مع الله آلهة، وخوّفوه بآلهتهم أن يُصيبَهُ منها خَبَل، فقال إبراهيم: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، قال: قد عرفت ربي، لا أخاف ما تشركون به).

قال ابن جرير: ({إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السماوات والأرض، فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو

ص: 664

بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني به، لأنه القادر على ذلك. {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يقول: وعلم ربي كلَّ شيء، فلا يخفى عليه شيء، لأنه خالق كل شيء، ليس كالآلهة التي لا تضر ولا تنفع ولا تفهم شيئًا، وإنما هي خشبة منحوتة، وصورة ممثلة، {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} يقول: أفلا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من عبادتكم صورة مصوّرة وخشبة منحوتة، لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله، وترككم عبادة من خلقكم وخلق كل شيء، وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم بكل شيء).

وقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} .

قال محمد بن إسحاق: (يقول: كيف أخاف وثنًا تعبدون من دون الله لا يضر ولا ينفع، ولا تخافون أنتم الذي يضر وينفع، وقد جعلتم معه شركاء لا تضر ولا تنفع).

وقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

قال ابن جريج: (أمَنْ يعبد ربًّا واحدًا، أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ ).

قال محمد بن إسحاق: (يضرب لهم الأمثال، ويصرِّف لهم العبر، ليعلموا أن الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبدون من دونه).

قال مجاهد: (قول إبراهيم حين سألهم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ}، هي حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .

قال محمد بن إسحاق: (أي: الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وتوحيده، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: بشرك، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، الأمن من العذاب، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة).

وقال ابن زيد: ({الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قال بِشرك. قال: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. فأما الذنوب فليس يبرأ منها أحد).

أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله قال: [لمَّا نَزَلَتْ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ

ص: 665

بِظُلْمٍ}، قال أصحابه: وأيّنا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ] (1).

وأخرج الإمام مُسلم في صحيحه عن عَلْقَمَةَ، عن عبد الله قال:[لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لا يظلمُ نَفْسَهُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تَظُنُّون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]] (2).

وفيِ لفظ أحمد: [إنه ليسَ الذي تعنُون! ألم تسمعوا ما قال العبدُ الصالح: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، إنما هو الشرك].

وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} .

قال مجاهد: (قال إبراهيم حين سأل: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ}؟ قال: هي حجة إبراهيم، وقوله: {آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، يقول: لقناها إبراهيم وبصَّرناه إياها وعرَّفناه).

وقرأ قراء الكوفة: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} ، في حين قرأها قراء الحجاز والبصرة:{نرفع درجاتِ مَنْ نشاء} . وهما قراءتان مشهورتان متقارب معناهما. قال ابن جرير: (وذلك لأن من رفعت درجته، فقد رفع في الدرج، ومن رفع في الدرج، فقد رفعت درجته. قال: فمعنى الكلام إذن: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، فرفعنا بها درجته عليهم، وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة. فأما في الدنيا فآتيناه فيها أجره، وأما في الآخرة، فهو من الصالحين، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}، أي: بما فعل من ذلك وغيره).

وفي الصحيحين عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يا أيها الناس! إنكم تحشرون

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (32)، (4629). وأخرجه مسلم (124)، وأحمد (1/ 387)، وغيرهم. من حديث عبد الله رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (124) - كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، ورواه ان حبان في صحيحه (253)، وأخرجه ابن مندة (268)، وغيرهم. وانظر للفظ التالي مسند أحمد (1/ 378) بإسناد على شرط الشيخين.

ص: 666

إلى الله حُفاة عُراة غُرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} . ألا وإن أول الخلائق يُكْسَى يوم القيامة إبراهيم .. ] الحديث (1).

وقال القرطبي: ({نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}: أي: بالعلم والفهم والإمامة والملك). وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .

قال القاسمي: ({حَكِيمٌ} في رفعه وخفضه، {عَلِيمٌ} بحال من يرفعه واستعداده له).

وقال شيخ المفسرين: (إن ربك، يا محمد، {حكيم}، في سياسته خلقَه، وتلقينه أنبياءَه الحجج على أممهم المكذبة لهم، الجاحدة توحيد ربهم، وفي غير ذلك من تدبيره، {عَلِيمٌ}، بما يؤول إليه أمر رسله والمرسل إليهم، من ثبات الأمم على تكذيبهم إياهم، وهلاكهم على ذلك، أو إنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى ذكره وتصديق رسله، والرجوع إلى طاعته).

84 -

90. قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}.

في هذه الآيات: اختصاصُ الله سبحانه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذرية فيها النبوة، منهم ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب، هديناهم لسبيل الرشاد، كما هدينا

(1) حديث صحيح. غُرْلًا أي غير مختونين. انظر مختصر صحيح مسلم (2151) ص (571). ورواه البخاري في صحيحه (3349)، ضمن حديث أطول.

ص: 667

نوحًا لذلك من قبل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، كذلك نجزي بالإحسان كل محسن. كما هدينا أيضًا من ذرية نوح إسماعيل واليسع ويونس ولوطًا وفضلناهم على العالمين. كما هدينا من آباء هؤلاء وذرياتهم أمة اخترناها لهذا الدين، وهذا الهدى توفيق الله ولطفه بمن يشاء من عباده، ولو أشرك هؤلاء الأنبياء لبطل ما كانوا يعملون ولذهب جزاء ما كانوا يتقربون. وهؤلاء الذين سميناهم من الأنبياء والرسل قد آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، فإن يكفر بها قومك يا محمد، فقد استحفظناها أولئك الرسل والأنبياء ومن سار معهم على هداهم وما كانوا بها كافرين، وهؤلاء الذين هدى الله من إخوتك الأنبياء والرسل قبلك يا محمد موضع القدوة والأسوة في أمة الدعوة من الخلق أجمعين، فامض على منهاجهم واصبر على إقامة الحق والدين في الأرض، وأخبر قومك أنك لا تريد بهذا البلاغ عوضًا فما هو إلا ذكرى للعالمين.

فقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا} .

قال ابن كثير: (يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طَعَنَ في السنِّ، وأيس هو وامرأته "سارّة" من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبَشَّروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت: {يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 72، 73]. وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلًا وعَقِبًا، كما قال تعالى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]. وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال:{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، أي: ويولد لهذا المولود ولدٌ في حياتكما، فتقرّ أعينكما به كما قَرَّتْ بوالده، فإن الفَرَح بِوَلَدِ الولدِ شديدٌ لبقاء النَّسل والعَقِب. ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يُتَوهَّم أنه لا يُعْقَبُ لضعفه وقعت البشارة به وبولده باسم "يعقوب"، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاةً لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وترَكهم، ونزَحَ عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبًا إلى عبادة الله في الأرض، فعوّضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صُلْبِه على دينه، تَقَرُّ بهم عينه، كما قال تعالى:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49]. وقال ها هنا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} ).

ص: 668

وقوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} .

أي: وفقناه إلى اتباع منهج الحق قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. قال القاسمي: ({وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبله، هديناه كما هديناه. وعدّ هداه نعمة على إبراهيم، من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد). قال ابن كثير: (كل منهما له خصوصية عظيمة. أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض، إلا مَن آمن به، وهم الذين صَحِبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذرية نوح وكذلك الخليل إبراهيم عليه السلام، لَمْ يبعث الله عز وجل بعده نبيًا إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ. . .} [العنكبوت: 27] الآية، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} [مريم: 58]).

أخرج الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في "الأسماء"، بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن نبيّ الله نوحًا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك الوصية، آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين، آمرك بـ: "لا إله إلا الله" فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كنّ حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق، وأنهاك عن الشرك والكبر. قال: قلت: أو قيل: يا رسول الله هذا الشرك قد عرفناه فما الكبر؟ قال: أن يكون لأحدنا نعلان حسنتان لهما شراكان حسنان؟ قال: لا، قال: هو أن يكون لأحدنا أصحاب يجلسون إليه؟ قال: لا. قيل: يا رسول الله فما الكبر؟ قال: سفه الحق وغمص الناس](1).

وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . فيه قولان:

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 169 - 170)، والبخاري في "الأدب المفرد"(548)، وأخرجه البيهقي في "الأسماء"(79)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (134).

ص: 669

القول الأول: وهدينا من ذريته - أي: من ذرية نوح صلى الله عليه وسلم هؤلاء الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام.

قال ابن جرير: ({وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ}، من ذكر نوح. وذلك لأن الله تعالى ذكره ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطًا فقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}. ومعلوم أن لوطًا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليهم أجمعين. قال: ولكنه من ذرية نوح).

القول الثاني: وهدينا من ذريته - أي: ذرية إبراهيم صلى الله عليه وسلم هؤلاء الرسل الكرام.

قال ابن عباس: (هؤلاء الأنبياء جميعًا مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم مَنْ لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم، لأن لوطًا ابن أخي إبراهيم).

والعرب تجعل العمّ أبًا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]. وإسماعيل عمُّ يَعْقوب.

قال القرطبي: (وعدّ عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذريّة النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد. قال أبو حنيفة والشافعي: من وَقَفَ وقفًا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا).

قلت: وفي السنة الصحيحة ما يدل على هذا:

فقد أخرج البخاري من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي: [إن ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يُصلح به فئتين عظيمتين من المسلمين](1).

قال ابن كثير: (وعود الضمير - في {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} إلى {نوح} لأنه أقرب المذكورين، ظاهر. وهو اختيار ابن جرير، ولا إشكال عليه. وعودُه إلى {إبراهيم} لأنه الذي سيقَ الكلام من أجله حَسَن، لكن يشكل على ذلك {لوط} ، فإنه ليس من ذرية {إبراهيم} ، بل هو ابن أخيه ماران بن آزَرَ، اللهم إلا أن يُقَالَ: إنه دخل في الذريَّة تغليبًا، كما في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2704) و (3629)، وأبو داود (4662)، وأحمد (5/ 49). وأخرجه النسائي (3/ 107). والحديث يدل أن بني البنات تدخل في وصية الرجل لذريته.

ص: 670

مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، فإسماعيل عمه، ودخل في آبائه تغليبًا. وكما في قوله:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ. .} [الحجر: 30، 31]، فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود، وذُمَّ على المخالفة، لأنه كان قد تشبه بهم، فعومل معاملتهم ودخل فيهم تغليبًا، وإلا فهو كان من الجِنّ وطبيعته من النار والملائكة من نور).

قلت: وكلا المعنيين حق، ويحتملهما السياق، وإعجاز البيان الإلهي الكريم.

و(داود): هو داود بن إيشا. و (سليمان) هو ابنه: سليمان بن داود. و (أيوب): هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم. و (يوسف): هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. و (موسى): هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. و (هرون): هو أخو موسى.

وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .

قال النسفي: (ونجزي المحسنين جزاء مثل ذلك، فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف).

وقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا لمثل الذي هدينا له نوحًا من الهدى والرشاد من ذريته: زكريا بن إدُّو بن برخيَّا، ويحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا). ثم ذكر قولين في إلياس:

1 -

كان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسي بن فنحاص بن العيزار بن هرون بن عمران، ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.

2 -

وكان غيره يقول: هو إدريس. فعن عبد الله بن مسعود قال: ("إدريس" هو "إلياس"، و"إسرائيل"، هو "يعقوب") - ذكره بسنده إليه.

ثم قال شيخ المفسرين: (وأما أهل الأنساب فإنهم يقولون: "إدريس"، جدّ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و"أخنوخ" هو "إدريس بن يرد بن مهلائيل". وكذلك روي عن وهب بن منبه، والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب. وذلك أن الله تعالى ذكره نسب "إلياس" في هذه الآية إلى "نوح"، وجعله من ذريته، و"نوح" ابن "إدريس" عند أهل العلم، فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبًا إلى أنه من ذريته).

ص: 671

وقوله: {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} .

يعني هؤلاء الرسل الكرام: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} .

المعنى: وكذلك هدينا أيضًا من تلك الذرية {إسماعيل} ، وهو: إسماعيل بن إبراهيم، {واليسع} ، وهو: اليسع بن أخْطُوب بن العجوز، كما ذكر ابن جرير.

قال القرطبي: (وتوهّم قوم أن اليسع هو إلياس، وليس كذلك، لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر. وقال وهب: اليسع هو صاحب إلياس، وكانا قبل زكرياء ويحيى وعيسى). وقيل: إلياس هو الخضر، وقيل: بل اليسع هو الخضر، والله تعالى أعلم.

{ويونس} : هو يونس بن متى. {وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} يعني: على عالم أزمانهم.

وقوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} .

يعني: وهدينا كذلك مما لم نذْكر آخرين سواهم من آباء مَنْ سمَّيْنا، وكذلك من ذرياتهم وإخوانهم، هديناهم للحق والدين الخالص {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ}. قال مجاهد:(أخلصناهم).

وقوله: {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

وهو الدين الحق الذي ارتضاه الله للأنبياء والرسل والعباد.

وقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .

أي: هذا التسديد والتوفيق لطاعة الله على منهاج الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - إنما هو شرف يؤتيه الله من يشاء من عباده، واصطفاء واجتباء منه سبحانه، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعرف بقلوب عباده وحبهم له ولطاعته وإقامة دينه كما قال جل ذكره:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} .

وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

تحْذيرٌ من مغبة الشرك وتَغْليظٌ لأمره. وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله تعالى: ({قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]. وكقوله

ص: 672

جل ذكره: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17].

فالمعنى: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سمّاهم ربهم فعبدوا معه غيره، لبطل ثواب عملهم ولذهب الأجر وكان الهلاك. ولكنهم لم يفعلوا فقد كانوا خير البشر بحق، واستحقوا الاصطفاء بصدق، فليحذر مغبة الشرك أقوامهم ومن جاء بعدهم من أمة الخلق. فإن الله تعالى لا يحابي أحدًا.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعِزّ إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذّبته](1).

ورواه الإمام أحمد عنه بلفظ: [قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار](2).

ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، فمن نازعني في ردائي قصمته](3).

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} .

يعني الفهم بالكتاب، وَفِقْهَ ما فيه من الأحكام والشرائع، واصطفاء مقام النبوة. والحديث عن الأنبياء والرسل الذين مضى ذكرهم والثناء عليهم، فقد قاموا بمهمة النبوة والحكم بمنهاج الوحي أحسن قيام - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} .

قال ابن عباس: (يقول: إن يكفروا بالقرآن). والمعنى: فإن يكفر - يا محمد - هؤلاء المشركون من قومك. قال قتادة: (أهل مكة).

وقوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}

قال قتادة: (أهل المدينة) - يعني الأنصار الذين استجابوا لله والرسول وحرسوا هذا الدين مع إخوانهم من المهاجرين. قال السدي: (إن تكفر بها قريش، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا}

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 35 - 36)، وروى البخاري في الأدب المفرد (552) نحوه. من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 248)، (2/ 376)، وانظر سنن أبي داود (4090)، وسنن ابن ماجه (4174)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (541).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 61) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (4185).

ص: 673

الأنصار). قال ابن كثير: (أي: إن يكفر بهذه النعم (1) من كَفَرَ بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عَرَبٍ وعجم، ومِلّيين وكتابيِّين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، يعني: المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} ، أي: لا يجحدون شيئًا منها، ولا يَرُدّون منها حرفًا واحدًا، بل يؤمنون بجميعها: مُحْكَمِها ومُتَشَابهها، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه وإحسانه).

وقيل: المقصود: الملائكة. وقيل بل المقصود: الأنبياء الثمانية عشر. واختاره ابن جرير.

قلت: والراجح ما ذهب إليه الحافظ ابن كثير، من أن المقصود مَنْ يحملُ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أمته بعد استكبار كفار قريش وبعض العرب والملل عن ذلك، فيشمل المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم ومضى على منهاجهم إلى يوم الدين، من جماعة الحق وطائفة المؤمنين حفظة هذا الدين.

أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أكرموا أصحابي فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، ألا من سرَّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهم، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن](2).

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

قال ابن عباس: (ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الآية: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}).

والمعنى: هؤلاء أهل الهداية والمراتب الرفيعة عند الله - يا محمد - من إخوتك الأنبياء الذين سبقوك وكانوا على منهاج الحق والنبوة، فاقتد بهم في الطريق والمنهج فإن دين الأنبياء والمرسلين واحد.

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن جريج قال: أخبرني سُليمان الأحْوَلُ: [أن

(1) يعني: النعم السابقة - الكتاب والحكم والنبوة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 177) من حديث عمر رضي الله عنه، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (431) بلفظ "أحسنوا".

ص: 674

مجاهدًا أخْبَرَهُ: أنَّه سألَ ابن عباس أفي {ص} سَجْدَةٌ؟ فقال: نَعَمْ، ثم تلا {وَوَهَبْنَا} إلى قوله:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ثم قال: هو منهم.

زاد يزيدُ بنُ هارون، ومحمدُ بن عُبَيْدٍ، وسَهْلُ بنُ يوسفَ عن العَوَّام، عن مجاهد: قُلْتُ لابن عباس، فقال: نبيّكم صلى الله عليه وسلم مِمَّن أمِرَ أَنْ يُقْتَدي بهم] (1).

وقوله: {هو منهم} ، قال الحافظ في الفتح (8/ 295):(أي: داود ممن أُمِرَ نبيكم أن يقتدي به). ومراد ابن عباس - كما ذكر أهل العلم - إثبات سنية السجود في سورة {ص} إذ سجد داودُ عليه السلام.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أولادُ علّات (وفي رواية: الأنبياء إخوة من علات)، أمهاتهم شتى ودينهم واحد](2).

وبنو العلات هم أولاد الرجل الواحد من نساء شتى، لذلك أمرنا نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بالصلاة عليهم كما نصلي عليه.

فقد أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" بإسناد حسن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني](3).

وله شاهد عند ابن عساكر بسند حسن عن وائل بن حجر ولفظه: [صلوا على النبيين إذا ذكرتموني، فإنهم قد بُعثوا كما بُعثت].

فربط الله تعالى منهاج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمنهاج إخوته الأنبياء قبله، وأمرنا بالصلاة عليهم كلما ذكرناه وصلينا عليه، فإنهم قد بعثوا جميعًا بدين واحد ومنهج واحد فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4632) - كتاب التفسير، باب قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3442)، كتاب أحاديث الأنبياء، وكذلك (3443)، ورواه مسلم في الصحيح (2365) ح (144)(145)، كتاب الفضائل.

(3)

حديث حسن. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان". انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (3676)، وللشاهد بعده - حديث رقم - (3675)، وكذلك انظر تخريج فضل الصلاة - حديث رقم - (42) - الألباني. وروى الخرائطي نحوه.

ص: 675

وقوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .

أي: لا أطلب منكم على القرآن جُعْلًا ولا أجرة ولا مالًا، بل هو موعظة للخلق، فمن شاء استفاد من هذه الذكرى واتعظ وتهيأ ليوم المعاد، ودافع الكفر بالصدق واليقين والإيمان.

91 -

92. قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}.

في هذه الآيات: يقول جلت عظمته: وما عظموا الله حق تعظيمه، وما أَجَلُّوه حق إجلاله، حين قالوا ما أنزل الله على آدمي كتابًا ولا وحيًا! فقل يا محمد - لمشركي قومك -: من أنزل التوراة جلاءً وضياء وبيانًا للناس يجعلها حملتُها قراطيس - أي: قِطعًا - يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرِّفون فيها ويبدلون ويغيرون ويقولون كذبًا هذا من عند الله، ثم قل لهم يا محمد: ومَنْ أنزل القرآن الذي علَّمكم الله فيه خبر الأمم التي سبقتكم، وأنبأكم فيه ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم؟ ! قل الله أنزله بعلمه ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يتخبطون ويلعبون. وهذا القرآن كتاب مبارك أنزله الله سبحانه وختم به الكتب من عنده مصدقًا لما قبله ولتنذر به مكة وما حولها من أحياء العرب وسائر طوائف بني آدم من عرب وعجم، وكل من آمن بالله واليوم الآخر يؤمن بهذا الكتاب ويحافظ على الصلاة وسائر الفرائض من شعائر هذا الدين.

فقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} .

قال ابن عباس: (ما آمنوا أنه على كل شيء قدير). وقال الحسن: (ما عظموه حق عظمته).

قال القرطبي: (وشرحُ هذا أنهم لما قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح، فلم

ص: 676

يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته). وقال أبو عبيدة: (أي: ما عرفوا الله حق معرفته).

قلت: والخطاب في الآية لقريش، كما قال ابن عباس:(يعني مشركي قريش). وقيل لليهود، والأول أرجح. وبه قال ابن جرير، ورجحه كذلك ابن كثير، لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما قريش فقد حكى الله ذلك عنهم:

قال تعالى في سورة يونس: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} .

وقال تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} .

وقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} .

فقد حاجَّهم سبحانه بقضية معروفة يَعْلمونها هُمْ نتيجة صلتهم ومعاملتهم لليهود، ويعلمها كل أحد، أن التوراة كتاب من عند الله أنزله على موسى ليستضاء به في كشف الشبهات والظلمات ومحو الجهالات التي كانت في حياة بني إسرائيل.

وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} .

فيه قراءتان:

القراءة الأولى: {يَجعلونه قراطيس يُبْدونها ويخفون كثيرًا} بالياء. وهي قراءة مجاهد.

فالمعنى: أن اليهود كانوا يجعلون التوراة في قراطيس يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون فيها ويبدلون حسب الأهواء والمصالح، حتى أخفوا ما جاء فيها من إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب متابعته والإيمان معه.

القراءة الثانية: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} .

والمعنى، كما قال القاسمي رحمه الله:(فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين. وهو التفات عند الأدباء - حكاه الخفاجيّ - وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية، تعريضًا لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان، وعدم الإسناد إلى برهان).

ص: 677

قلت: وكلا المعنيين حق يحتمله السياق، ويقتضيه البيان الإلهي، فإن كانت هذه الآية مدنية دون سائر السورة، وعني بالخطاب اليهود، كان التأويل واضحًا وسهلًا.

وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} .

قال ابن كثير: (أي: ومَن أنزل القرآن الذي عَلَّمَكُم الله فيه من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تَعْلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم. وقد قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب. وقال مجاهد: هذه للمسلمين).

وقوله: {قُلِ اللَّهُ} .

قال ابن عباس: (أي: قلُ: الله أنزله).

وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} . تهديد ووعيد.

قال القاسمي: (أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجرّ لهم نفعًا، ولا يدفع عنهم ضررًا، مع تضييع الزمان).

والمقصود: اتركهم واعتزلهم حتى يأتيهم - وهم في غمرة ضلالهم وجهلهم - اليقين من الله، وحتى يوقنوا ويعاينوا لمن ستكون العاقبة أللمتقين أم للجاحدين المستهزئين.

وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .

أي: وهذا القرآن كتاب من الله تعالى أنزله مباركًا مصدقًا ما سبقه من الكتب ومهيمنًا عليها، وناسخًا لما سلفه من الشرائع السابقة بأحكام استقرت إلى يوم الدين، ولا يقبل الله من أحد يجحد بهذا الكتاب وَلَوْ آمَنَ بكل الكتب السابقة.

وعن ابن عباس: (يعني بـ: {أُمَّ الْقُرَى} مكة، {وَمَنْ حَوْلَهَا} من القرى إلى المشرق والمغرب).

وقال قتادة: ({أُمَّ الْقُرَى} ، مكة، {وَمَنْ حَوْلَهَا}، الأرض كلها). وقال: (بلغني أن الأرض دُحِيَت من مكة).

قلت: وأم كلّ شيء وسطه ومركزه وأصله - هكذا في كلام العرب - ومنه سميت مكة أم القرى لأنها توسطت الأرض.

والخلاصة: لتنذر - يا محمد - أهل مكة - ومن حولها من أحياء العرب وقبائلهم وكذلك من سائر طوائف بني آدم عربهم وعجمهم، فالكل داخل تحت بلاغ هذا النبي صلى الله عليه وسلم ونذارته.

ص: 678

قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. . .} [الأنعام: 19]. وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. . .} [الأعراف: 158]. وقال جل ذكره: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].

وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أعطيت خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قبلي: نُصِرْتُ - بالرعب مسيرةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وطَهورًا، فأيُّما رجل من أمَّتِي أدركتْهُ الصلاةُ فليصلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصّةً وبُعثت إلى الناس عامة](1).

وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .

المعنى: إن كل مَنْ صَدّق بالآخرة خاف الوعيد الذي سينزل بمن كذب بهذا القرآن وهذا النبي - عليه الصلاة السلام - فيحمله هذا الخوف - ولا بد - على الإيمان واليقين، والمحافظة على الصلاة عمود هذا الدين. قال النسفي:(خصت الصلاة بالذكر لأنها علم الإيمان وعماد الدين فمن حافظ عليها يحافظ على أخواتها ظاهرًا).

وقال القاسمي: (وتخصيصها لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان، وأعظمها خطرًا).

وقال الرازي: (ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة]. أي: صلاتكم. ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال عليه الصلاة والسلام: من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر (2). فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام).

أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق، قال في هذه الآية:{وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} : أأي: يحافظون على مواقيتها).

ولا شك أن المحافظة عليها تشمل أيضًا المحافظة على أركانها وواجباتها ووضوئها وركوعها وسجودها وخشوعها، فهي عنوان التزام العبد بهذا الدين وَعَلَمُهُ وعمودُه.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (335) كتاب التيمم، وكذلك (438)، (3122)، ورواه مسلم.

(2)

روى مسلم في صحيحه عن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة]. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (204).

ص: 679