الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - سورة المائدة
وهي سورة مدنية، وعدد آياتها (120).
أخرج الحاكم بسند جيد عن جُبير بن نُفَير قال: [حَجَجْتُ فدخلتُ على عائشة، فقالت لي: يا جُبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه](1).
ورواه أحمد عن عبد الرحمن بن مَهْدي، عن معاويةَ بن صالحٍ، وزاد:[وسألتها عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: القرآن].
موضوع السورة
العقود والصيد وقصة المائدة والتنطع في الدين، وذم أهل الكتابين في تحريفهم وتركهم العمل بالوحي المبين.
-
منهاج السورة
-
1 -
أمْرُ الله تعالى عبادهُ المؤمنين الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق.
(1) إسناده جيد. أخرجه النسائي في "الكبرى"(11138)، والحاكم (2/ 311) وصححه ووافقه الذهبي، وهو على شرط مسلم، والرواية بعده لأحمد (6/ 188).
2 -
إعلام الله تعالى عباده بكون بهيمة الأنعام حلالًا إلا ما استثني بنص تحريم الميتة والدم وما أهل لغير الله وما شابهها.
3 -
الصيد محرم حالة الإحرام.
4 -
ما ذبح لغير الله نجس وأكله حرام.
5 -
يعفى أكل جوارح السباع المعلمة.
6 -
إكمال الله تعالى هذا الدين، وكل بدعة ضلالة ولو سموها حسنة.
7 -
إباحة كل المحرمات للمضطر، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه.
8 -
الصبد بالجوارح المعلمة مع التسمية عند الانطلاق حلال أكله.
9 -
طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم حلال لنا.
10 -
لا يقبل الله صلاة بغير طَهُور، وأركان الوصوء: غسل اليدين إلى المرافق وغسل الوجه ومسح جميع الرأس وغسل القدمين، مع النية والتتابع.
11 -
العدل واجب حتى على الأعداء والخصوم، فلا يجوز جعل البغض مانعًا من العدل.
12 -
تذكير الله المؤمنين بنعمهِ عليهم بأن أنجاهم من غدر اليهود.
13 -
أَخْذُ الله الميثاق على بني إسرائيل، وحلول لعنة الله بهم بنقضهم العهد.
14 -
أَخْذُ الله الميثاق على النصارى، وحلول العداوة والبغضاء فيهم بإخلافهم.
15 -
تِبيانُ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخفى أهل الكتاب وما بدلوا وما حرّفوا.
16 -
إثبات كفر من قال إن الله هو المسيح، وتكذيب اليهود والنصارى في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه،
17 -
قطْعُ الله ببعث محمد صلى الله عليه وسلم حجة من سيقول: ما جاءنا من نذير. ومحمد صلى الله عليه وسلم هدى الخلائق وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء.
18 -
أَمْرُ الله بني إسرائيل استرداد بيت المقدس من العمالقة، وتحريم الله على اليهود دخول بيت المقدس أربعين سنة لعصيانهم.
19 -
اليهود هم المغضوب عليهم من الله، ويزعمون أنهم أحباؤه.
20 -
هابيل أول مقتول، وقابيل أول قاتل، وتَقَبُّل الله قربان هابيل، وسخَطُه على قابيل الذي قتل أخاه حسدًا.
21 -
قاتِلُ النفس ظلمًا كأنما قتل الناس جميعًا، والحاكم مُحَيَّرٌ في قطاع الطريق بين القتل والقطع والنفي.
22 -
مفهوم التوسل، وإثبات الخلود في النار للكافرين، وعدم الخلود لعصاة الموحدين.
23 -
تشريع قطع اليد في السرقة.
24 -
تحاكم اليهود إلى محمد صلى الله عليه وسلم بشرط موافقة أهوائهم، والرسول يحكم في زناة يهود بالرجم الذي حرفوه وأخفوه في توراتهم.
25 -
من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.
26 -
تشريع القصاص في الجراح، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
27 -
الإنجيل تصديق للتوراة، وأهل الإنجيل مأمورون بالتحاكم لما أنزل الله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
28 -
الأمر بالتحاكم إلى القرآن، فهو أمين وشاهد وحاكم على الكتب قبله، وأحكامه هي النافذة، ولا أحسن من الله حكمًا للمؤمنين الموقنين.
29 -
النهي عن اتخاذ المؤمنين أولياء من غيرهم، ومن يفعل ذلكَ فإنه منهم، ورسول الله والمؤمنون هم حزب الله، وإنهم هم الغالبون.
30 -
غضب الله على بعض اليهود فمسخهم قردة وخنازير.
31 -
علماء اليهود ورؤساؤهم لم ينهوهم عن قول الإثم وأكل السحت.
32 -
قول اليهود: يد الله مغلولة -غلت أيديهم- بل يداه مبسوطتان.
33 -
لو اتبع أهل الكتابين كتابيهما لقادهم ذلكَ إلى الحق.
34 -
بلاع الرسول الحق جعله الله له حصانة فاستغنى عن الحراسة.
35 -
إخبار أهل الكتاب أنهم ليسوا على شيء من الدين حتى يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
36 -
اليهود حكموا بأهوائهم وشهواتهم وقدموها على ما جاءت به الشرائع.
37 -
إثبات كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم أو إن الله ثالث ثلاثة، وتبرئة عيسى عليه الصلاة والسلام من هذا الزيغ والضلال.
38 -
لَعْنُ الكافرين من بني إسرائيل لتآمرهم على فشو المنكر وعدم التناهي عن فعله.
39 -
اليهود والمشركون أشد الناس عداوة للمؤمنين، والنصارى أقربهم مودة لهم.
40 -
نهي الله المؤمنين عن تحريم طيبات أحلت لهم، فالحرام ما حرّم الله ورسوله.
41 -
لا عبرة للغو اليمين، وإنما العبرةُ باليمين المنعقدة، والكفارة إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
42 -
آية تحريم الخمر، والخمر ما خامر العقل، وكل مسكر خمر، وكل خمر حرام.
43 -
ما يقتل من الحيوانات المضرة في الحل والحرم.؟
44 -
الحكم بذبح مثل ما قتل يجب أن يصدر عن عدلين مسلمين، فإن لم يجد مثل ما قتل فإطعام أو صيام بحسب نوع الصيد.
45 -
صيد البحر حلال، وصيد البر محرم حالة الإحرام.
46 -
النهي عن السؤال عن أشياء إذا علمت ساءت سائلها.
47 -
الإنكار على أهل الجاهلية أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وتشريع ما لم يأذن به الله استجابة لضلالهم وضلال آبائهم.
48 -
المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ثم لا يضرهم من ضل إذا اهتدوا.
49 -
جواز استشهاد الذميين في الوصية عند فقدان المسلمين في السفر، وأولياء الميت يحلفون الشاهدين الذميين بعد الصلاة إذا ارتابوا منهما، فإن تبين خيانتهما حلف شاهدان من أولياء الميت ببطلان شهادة الذميين، وعند ذلك يستحقون ما يدعون عليهما.
50 -
الغيب لا يعلمه إلا الله، وعلم المرسلين بالنسبة لِعِلْمِ الرَّبِ كَلا علم.
51 -
امتنان الله تعالى على المسيح ابن مريم وعلى والدته.
52 -
طَلَبُ أصحاب عيسى صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء، ونزول المائدة فعلًا، امتحانًا لهم.
53 -
سؤال الله تعالى عيسى صلى الله عليه وسلم غدًا: أَأَنْتَ قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، وبراءة عيسى من ذلك.
54 -
شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنال المشركين، بل هي للمؤمنين الموحِّدين.
55 -
الله تعالى جَلَّ عن النظير والعديل والصاحبة والوالدة والولد.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
2. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}.
في هذه الآيات: أَمْرٌ من الله لعباده المؤمنين بالوفاء بالعهود والمواثيق. وإعْلامٌ بكون بهيمة الأنعام حلالًا إلا ما استثني بنص تحريم الميتة والدم وما أهل لغير الله وما شابهه، وكذلك حالة الإحرام حرم عليكم الصيد، والله سبحانه له الحكم يحكم ما يشاء. ثم فيها نهي عن تعدي حرمات الله وحدوده، والقتال في الشهر الحرام - إلا حالة الاعتداء - ولا تتركوا الإهداء إلى البيت، ففيه تعظيم لشعائر الله، وكذلك لا تتركوا تقليدها في أعناقها، لِيُعْلَمَ أنها هَدْيٌ إلى الكعبة، ولا تستحلوا قتال القاصدين بيت الله الحرام فمن دخله كان آمنًا، فإذا فرغتم من إحرامكم وحَلَلْتُم حَلَّ لكم الصيد، ولا يَحْمِلَنَّكُم بغض قوم كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام - عام الحديبية - أن تقتصوا منهم ظلمًا، بل أقيموا العدل في كل أحد، وتعاونوا على فعل الخيرات، ولا تعاونوا على فعل الآثام والمنكرات، واتقوا الله واحذروا أن تنزل بكم العقوبات.
وتفصيل ذلك:
قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
قال ابن عباس: (العهود). وقال مجاهد: (ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرّم عليهم). وقال عبد الله بن عبيدة: (العقود خمس: عُقدة الأَيمان، وعُقدة النكاح، وعقدة العَهد، وعقدة البيع، وعقدة الحِلف).
وقال ابن زيد: (العقود خمس: عقدة النكاح، وعقدة الشركة، وعقد اليمين، وعقدة العهد، وعقدة الحلف).
والعقود: جمع عَقْد. وعقد الشي بغيره هو وصله به. ومنه قولهم: يعقد الحبل بالحبل. وعقد فلان مع فلان عقدًا: إذا واثقه وعاهده على الوفاء بما في العقد.
قلت: ولا شك أن الآية عامة في الوفاء بجميع العهود والمواثيق ووجوب القيام بمقتضاها.
وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} .
قال الحسن: (بهيمة الأنعام، هي الإبل والبقر والغنم)، وهو قول قتادة والربيع. أتي يشمل الأنعام كلها.
والجنين يباح أكله إذا وجد في بطن البقرة أو الشاة المذبوحة ولو كان ميتًا.
وفي ذلك حديثان:
الحديث الأول: أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن لغيره عن أبي سعيد قال: [قلنا: يا رسول الله! ! ننحر الناقة، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه](1).
وهو قول ابن عمر، وابن عباس، والشافعي وأحمد.
الحديث الثاني: أخرج أحمد والحاكم وابن حبان بسند صحيح عن أبي سعيد،
(1) حسن لشواهده. أخرجه أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجة (3199)، وأخرجه أحمد (3/ 71)، (3/ 53)، والبيهقي (9/ 335)، وغيرهم.
وكذلك أبو داود والحاكم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ذكاة الجنين ذكاةُ أمه](1).
وقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} .
قال ابن عباس: (يعني بذلك: الميتةَ، والدمَ، ولحمَ الخنزير).
وقال قتادة: (يعني بذلك: الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه).
قال ابن كثير: (والظاهر -والله أعلم- أن المراد بذلك قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}، فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} يعني: منها، فإنه حرام لا يمكن استدراكه، وتلاحقُه. ولهذا قال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}، أي: إلا ما سَيُتْلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال).
وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} .
قال القرطبي: (أي ما كان صيدًا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدًا فهو حلال في الحالين). والإحرام يشمل الحج والعمرة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} .
أي له الحكم يشرع لعباده ما يشاء، كما يشاء. وهذا كقوله تعالى في سورة الرعد:{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} .
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} .
أي لا تتعدوا حدود الله - والخطاب للمؤمنين - والشعائر جمع شعيرة. قال ابن عباس: (يعني بذلك: مناسك الحج). وقال مجاهد: (الصفا، والمروة، والهدي، والبدنُ من شعائر الله).
قلت: ويبدو أن الآية تعم أكثر من ذلك. كما قال عطاء: (شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه). وقال الحسن: (دين الله كله). فالمراد تعظيم حرمات الله والتحذير من انتهاكها، كما قال سبحانه:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} .
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2828)، وأحمد. انظر صحيح أبي داود (2452). ورواه الحاكم عن أبي أيوب وعن أبي هريرة. انظر صحيح الجامع (3425)، والحديث السابق.
وقوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} .
المقصود النهي عن استحلال القتال فيه، إلا إن اعتدى العدو وبادر إلى انتهاك هذه الحرمات. كما قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} .
قال ابن القيم: (والمقصود: أن الله سبحانه قد حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبْرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة، لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:
وإذا الحبيبُ أتى بذنب واحد
…
جاءت محاسنه بألف شفيع
فكيف يُقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن) (1).
وقوله: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} .
نَهْيٌ عن استحلال الهَدْي جملة، ثم خصّ ذوات القلائد تأكيدًا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد. والهديُ ما أُهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة. والقلائد كل ما عُلّق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه.
قال ابن كثير: ({وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ}، يعني: لا تتركوا الإهداء إلى البيت، فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هَدْي إلى الكعبة، فيجتنبها من يريدُها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعه، ومن غير أن ينقص من أجورهم شيئًا).
(1) انظر: "زاد المعاد"(3/ 170 - 171)، وكتابي: السيرة النبوية (1/ 527).
أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: [أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة إلى البيت غَنَمًا فقلّدها](1).
وهو قول الشافعي وأحمد، وأنكر ذلك مالك وأصحاب الرأي، وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم. والصواب أن التقليد سنة بالغنم والبقر. وأما البقر إن كان لها أسنمة أُشعرت كالبُدن، وهو قول ابن عمر، وبه قال مالك.
وقوله: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} .
المعنى: نَهْيٌ عن قتال من قصد البيت الحرام طالبًا فضل الله ورضوانه أو التجارة.
قال ابن عباس: ({وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: يعني من توجه قبل البيت الحرام).
وقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} . قال مطرف بن الشِّخِّير: (التجارة في الحج، والرضوان في الحج). وقال ابن عباس: (يعني: أنهم يترضّون الله بحجهم).
وقال مجاهد: (يبتغون الأجر والتجارة).
وذكر ابن جرير الإجماع أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان، وإن أمّ البيت الحرام أو بيت المقدس، وروى عن قتادة قال:(نسخ من "المائدة": {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}، نسختها "براءة" قال الله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .. (5)}. وقال: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ .. (17)} . وقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا .. (28)} .
وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، فنادى فيه بالأذان).
ولا شك أن من قَصَد البيت بالإلحاد فيه، والشرك عنده، والكفر به، يمنع للآية السابقة.
وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} .
فيه إباحة الصيد عند الفراغ من الإحرام والتحلل. قال مجاهد: (هي رخصة). وقال: (إذا حلّ، فإن شاء صاد، وإن شاء لم يصطد). وكان مجاهد لا يرى الأكل من هدي المتعة واجبًا ويتأول الآية السابقة.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1701)، (1702)، (1703)، وأخرجه مسلم (1321) ح (365). من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} .
الشنآن: البُغْض. قال ابن عباس: (لا يحملنكم شنآن قوم) - أي على العدوان.
والمقصود: الحكم بالعدل وترك الاقتصاص ممن منع المسلمين يوم الحديبية من الوصول إلى المسجد الحرام. كما قال جل ثناؤه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (8)} . وهو أمر بالعدل في جميع الأحوال.
أخرج البزار والطبراني بسند حسن عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثٌ مهلكات، وثلاثٌ منجياتٌ، فقال: ثلاث مهلكات: شُحٌّ مطاع، وهوىً مُتَّبَعٌ، وإعجاب المرءِ بنفسه. وثلاث مُنْجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا](1).
قال بعض السلف: (ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعَدْلُ به قامت السماوات والأرض).
وقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
أَمْرٌ من الله عباده بالتعاون في فعل الخيرات وأعمال البر والتقوى، وترك المنكرات والمآثم وعدم المعاونة عليها. وفي السنة الصحيحة كنوز كثيرة في هذا المعنى:
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. قيل: يا رسول الله! هذا نصرتُه مظلومًا، فكيف أنصره إذا كان ظالمًا؟ قال: تحجُزُه وتمنعه، فإن ذلك نصره](2).
وفي رواية: [تمنعه من الظلم فذاك نصْرك إياه].
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن يحيى بن وثّاب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أظنه ابن عمر -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [المؤمن الذي يُخالط
(1) حديث حسن. أخرجه البزار (رقم - 80)، وبنحوه الطبراني في "الأوسط"(5584)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1832)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (3041).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2443)، (6952)، أخرجه أحمد (3/ 99).
الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرًا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم] (1).
وفي رواية: (خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم وأبو داود من حديث أبي مسعود البدري الأنصاري قال: [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أُبْدِعَ بي (2) فاحملني. فقال: ما عندي. فقال رجل: يا رسول الله! أنا أَدُلُّه على من يَحْمِلُهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دَلَّ على خير فله مِثْلُ أجرِ فاعِله](3).
وله شاهد عند البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: [الدال على الخير كفاعله].
الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن خالد الجُهَنِيِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من جَهَّزَ غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا](4).
وله شاهد عند ابن خزيمة والنسائي عنه بلفظ: [من جهز غازيًا، أو جهز حاجًّا، أو خلفه في أهله، أو فطّر صائمًا، كان له مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيء].
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
أَمْرٌ بالتقوى، وتحذير من عقوبة المتجرئ بالمعصية.
3.
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 365)، ورجاله رجال البخاري ومسلم، وجهالة الصحابي لا تضر. وانظر للرواية الأخرى المسند (2/ 43)، وابن ماجة (4032)، وغيرهم.
(2)
أي هلكت دابتي وهي مركوبي.
(3)
حديث صحيح. أخرج مسلم (1893)، كتاب الإمارة. وأخرجه أبو داود (5129)، وغيرهما. وانظر للشاهد مسند البزار (154)، وصحيح الجامع الصغير- حديث رقم (3393).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1895)، كتاب الإمارة. من حديث زيد بن خالد الجهني. وانظر للشاهد بعده صحيح الترغيب (1/ 1072).
النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}.
في هذه الآية: إخبار من الله عن بعض المحرمات: كالميتة - وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه -، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، وما مات خنقًا، أو بالضرب، أو بالتردي من شاهق، أو بسبب نطح غيرها، أو بسبب اعتداء السبع عليها، إلا ما أمكن تداركه من هذه الأنواع بالذبح الشرعي، وكذلك حرّم من الحيوان ما ذبح عند الأصنام أو الآلهة المزيفة ولو ذكر اسم الله عليها، كما يحرم الاستقسام بالأزلام، فإن تعاطيه فسق وغي وضلال وشرك، فاليوم يئس الكفار أن تراجعوا دينهم فأفردوا الله بالخشية، فقد أتم لكم دينكم في هذا اليوم وأكمل بيان تشريعه لكم، فمن وقع في العنت وألجأته الضرورة لأكل بعض ما سبق من المحرمات فبالحد الأدنى ويستغفر الله الغفور الرحيم.
وتفصيل ذلك:
قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} .
أي ما مات حَتْف أنفه دون صيد أو ذكاة شرعية، والتحريم خير، لما تتضمن الميتة عادة من المضرّة كالدم المحتقن الفاسد، وإمكانية تجمع الجراثيم وتشكل الأوبئة والأمراض.
ويستثنى من الميتة السمك والجراد. وفي ذلك حديثان:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحلت لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر. ونحمل معنا القليل من
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (96/ 255/ 1)، والبيهقي (1/ 254)، وانظر صحيح الجامع (208).
الماء. فإن توضأنا به عطشنا. أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطَّهُور ماؤه، الحِلُّ ميتَتُه] (1).
وقوله: {وَالدَّمُ} . يعني به: الدم المسفوح. ويؤيده قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} .
قلت: والنهي عن أكل الدم لا يعني نجاسة الدم، فنجاسته في الأكل مثل نجاسة الخمر -أي نجاسة معنوية. وإلا فدم مأكول اللحم طاهر غير نجس، وكذلك دم الإنسان طاهر- إلا دم الحيض والنفاس فهو نجس.
أخرج البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت: [جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع؟ فقال: تحتّه ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه، ثم تصلي فيه](2).
وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله، ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟ قال: فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه. قالت يا رسول الله: إن لم يخرج أثره؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره](3).
وقوله: {لَحْمَ خِنْزِيرٍ} .
يعني: حُرِّم عليكم لحم الخنزير -أهْلِيُّه وبَرِّيُهُ، إِنْسِيُّه وَوَحْشِيُّه. واللحم يعمّ جميع أجزائه حتى الشحم.
أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: [أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بمكةَ عام الفتح: إن الله ورسولَه حَرَّم بَيْعَ الخمرِ والمَيْتَةِ والخِنْزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحومَ المَيْتَةِ فإنَّها يُطْلى بها السُّفُن
(1) حديث صحيح. أخرجه مالك (1/ 44 - 45) ومن طريقه أخرجه أصحاب السنن. انظر صحيح أبي داود (76)، وكذلك صحيح سنن ابن ماجة (309)، والسلسلة الصحيحة (480).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (291/ 240/ 1) واللفظ له، وأخرجه البخاري (307/ 410/ 1). والقرص: هو الأخذ بأطراف الأصابع، والحديث أورده الفقهاء في بحث النجاسات - دم الحيض. والنفاس له حكم الحيض.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (361/ 26/ 2). انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (351)، ورواه البيهقي (2/ 408).
ويُدْهَنُ بها الجلود، ويَسْتَصْبِحُ بها الناس، فقال: لا، هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لمّا حرّم شحومَها جَمَلوه ثم باعوه فأكلوه ثمنَه] (1).
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمِيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لعبَ بالنَّرْدَشِير (2) فكأنما صبغَ يده في لحم الخنزير ودمه](3). وفي لفظ أحمد: (فكأنما غمس يده في لحم الخِنزير ودمِه).
قال ابن كثير -في التفسير-: (فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به. وفيه دلالة على شُمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره).
وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} .
هو كل ما ذُبح فذكر عليه اسم غير الله، من صنم أو وثن أو طاغوت أو أي مخلوق، فهو حرام لاقترانه بالشرك.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].
وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال: [حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى مُحْدِثًا، لعن الله من غيَّر منار الأرض](4).
قال شيخ الإسلام: ({وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا)(5).
وقال الزمخشري: (كانوا إذا اشتروا دارًا أو بنوها أو استخرجوا عينًا ذبحوا ذبيحة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2236)، كتاب البيوع. ومسلم (1581)، وأحمد (3/ 324).
(2)
النرد: معرَّب، لعبة معروفة اخترعها أردشير بن بابك، ولهذا يقال النردشير.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2260)، وأبو داود (4939)، وأحمد (5/ 352)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - رقم (1978)(43)، كتاب الأضاحي.
(5)
انظر لهذا الأثر وما بعده كتابي: أصل الدين والإيمان - (1/ 457). وفتح المجيد (157).
خوفًا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك).
وذكر إبراهيم المروزي: (أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه، لأنه مما أهل لغير الله).
وفي سنن أبي داود بسند حسن عن ابن عباس قال: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن مُعَاقَرَةِ الأعراب](1).
قال الخطابي في معالم السنن (2702): (والمعاقرة: هو أن يتبارى الرجلان كل واحد يجادل صاحبه فيعقر هذا عددًا من إبله، ويعقر صاحبه فأيهما كان أكثر عقرًا غلب صاحبه. وكره أكل لحومها لئلا يكون مما أهل لغير الله به).
أي: كان يتبارى الرجلان في الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلًا ويعقر هذا إبلًا حتى يعجز أحدهما رياء وسمعة وتفاخرًا ولا يقصدون به وجه الله، فشبه به ما ذبح لغير الله.
ويشهد لهذا ما روى أبو داود أيضًا بسند حسن عن عكرمة يقول: وكان ابن عباس يقول: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعامِ المتبارِيَيْنِ أن يُؤْكَل](2).
وقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} . هي التي تموت خنقًا عمدًا أم دون قصد، فهي حرام.
وقوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} . هي التي تموت بالضرب. قال الضحاك: ({وَالْمَوْقُوذَةُ}: التي تضرب حتى تموت). وقال قتادة: (كان أهل الجاهلية يضربونها بالعِصِيّ، حتى إذا ماتت أكلوها). وقال عبيد بن سليمان: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} : (كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم، حتى يقتلوها فيأكلوها).
أخرج البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المِعْراض فقال: [إذا أصَبْتَ بحَدِّه فكل، فإذا أصاب بعَرْضه فَقَتَلَ فإنه وقيذٌ فلا تأكل](3).
(1) حسن صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (2446) - باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب.
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (3754)، بإسناد حسن - لأجل هارون بن يزيد - وباقي رجاله ثقات.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5476)، (5486)، وأخرجه مسلم برقم (1929)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 256)، وغيرهم.
وفي لفظ: [قلت يا رسول الله! إني أرمي بالمِعْراض الصيدَ فأصيب. قال: إذا رميت بالمِعْراض فَخَرق فَكُلْه، وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذٌ فلا تأكله].
وقوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} - هي التي تسقط من شاهق فتموت.
قال ابن عباس: (التي تتردّى من الجبل). وقال قتادة: (كانت تتردى في البئر فتموت، فيأكلونها). وقال السدي: (هي التي ترَدّى من الجبل، أو في البئر، فتموت).
وقوله: {وَالنَّطِيحَةُ} - هي التي تموت بسبب نطح غيرها لها. فهي نطيحة على وزن فعيلة بمعنى مفعولة - أي منطوحة. فهي حرام ولو خرج الدم بسبب النطح. قال ابن عباس: ({وَالنَّطِيحَةُ}: الشاة تنطح الشاة). وقال الضحاك: (الشاتان تنتطحان فتموتان). وقال السدي: (هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت).
وقال قتادة: (كان الكبشان ينتطحان، فيموت أحدهما، فيأكلونه).
وقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} - أي ما عدا عليها حيوان مفترس فأكل بعضها فماتت، ولو سال الدم من افتراس ذلك الحيوان لها، والسَّبُعُ يدخل في اسمه الأسد والفهد والنمر والذئب والكلب ونحو ذلك.
قال قتادة: (كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي). فجاء التحريم: أي حرَّم عليكم ما أخذ السبع، أو ما أكل السبع غير المُعَلَّم من الصوائد.
وقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} .
أي: إلا ما تداركتم من الأنواع السابقة بالذبح الشرعي قبل خروج الروح منه.
قال ابن عباس: (يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه، فهو ذَكِيّ).
وقال أيضًا: (ما أدركت ذكاته من هذا كله، يتحرّك له ذنب، أو تطرِف له عين، فاذبح واذكروا اسم الله عليه، فهو حلال).
وروى ابن جرير بسنده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال:(إذا ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، وحركت ذنبها، فقد أجزأ).
قال الضحاك: (كان أهل الجاهلية يأكلون هذا، فحرّم الله في الإسلام إلا ما ذُكِّيَ
منه، فما أُدرك فتحرّك منه رجل أو ذنب أو طَرْف، فذكِّي، فهو حلال).
وخلاصة القول: إن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال، وبه قال الجمهور، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل. خالف الإمام مالك وقد سئل عن الضَّبعُ يعدو على الكبش فيَدُق ظهره، أترى أن يذكى قبل أن يموت، فيؤكل؟ فقال: إن كان قد بلغ السُّحرة -وفي لفظ: إن كان بلغ السَّحْر- أي الرئة - فلا أرى أن يؤكل، وإن كان إنما أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدَقّ ظهره؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ قال: إذا شق بطنها، فلا أرى أن تؤكل. ذكره ابن جرير بسنده عن يونس عن أشهب.
قلت: ولا دليل على هذا التخصيص، فالآية عامة لا استثناء فيها، والقول قول الجمهور، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
أخرج البخاري ومسلم عن رافع بن خَدِيج أنه قال: [قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غَدًا، وليس معنا مُدىً، أفنذبحُ بالقصب؟ فقال: ما أنهرَ الدم وذُكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السِّنَ والظفرَ، وسأحدِّثكم عن ذلك، أما السِّنُ فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة](1).
وقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . هو نوع من الشرك كان عليه أهل الجاهلية.
قال مجاهد: (كانت النُّصب حجارة حول الكعبة). وقال ابن جريج: (وهي ثلاث مئة وستون نُصُبًا، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها، ويَنْضَحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويُشَرِّحون اللحم ويضعونه على النُّصب).
قال ابن كثير: (فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحَرَّم عليهم أكل هذه الذبائح التي فُعِلت عند النُّصب حتى ولو كان يُذكر عليها اسم الله في الذبح عند النُّصُب، من الشرك الذي حرّمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا، لأنه قد تمّ تحريم ما أُهِلَّ به لغير الله).
وقوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} .
نوع آخر من الشرك بالله، والأزلام قداح ثلاثة: مكتوب على أحدها: "افْعَل"،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (5543) - كتاب الذبائح والصيد. ورواه مسلم وغيره.
وعلى الآخر: "لا تَفْعَلْ"، والثالث غُفْل ليس عليه شيء. وقيل مكتوب على أحدها:"أمرني ربي"، وعلى الآخر:"نهاني ربي"، والثالث دون شيء. فإذا أجالها فخرَج السهم الآمر فَعَل، أو الناهي ترك، وإن ظهر الذي ليس عليه شيء أعاد الاستقسام.
والاستقسام مأخوذ من طلب القَسْم من الأزلام، والأزلام: جمع زَلَم أو زُلَم.
قال ابن عباس: (والأزلام قِداحٌ، كانوا يستقسِمون بها في الأمور).
وقال سعيد بن جبير: ({وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}: القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحًا للجلوس والخروج. فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا). وقال أيضًا فيها: (حصىً بيض كانوا يضربون بها). وقال مجاهد: (حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها "القِداح").
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدِمَ أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فَأُخرِجَتْ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيلَ في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله، أمَا والله لقد عَلِموا أنهما لم يستقسِما بها قط](1).
وفي صحيح البخاري أيضًا - من حديث سراقة بن مالك في قصة لحاقه بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أثناء الهجرة -: [فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستَقْسَمْتُ بها: أضُرّهم أمْ لا؟ فخرَج الذي أكْرَه، فركبت فرسي وعَصَيْتُ الأزلام](2).
وأخرج الطبراني بسند حسن عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لن يلجَ الدرجات العُلا من تكهَّنَ، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيُّرًا](3).
وقوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} .
قال ابن عباس: (يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق). فيدخل في ذلك أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وكل ما ذكر من المحرمات في الأكل، والاستقسام بالأزلام. فإن الله سبحانه قد حرّم الخبائث واباح الطيبات، ونهى عن كل ألوان الشرك وأمو بالتوكل عليه وإقامة منهاج التوحيد.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1601) - كتاب الحج. وكذلك (398). ورواه أحمد (1/ 334).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3906) - كتاب مناقب الأنصار- وهو ضمن حديث طويل.
(3)
حديث حسن. أخرجه الطبراني كما في المجمع (5/ 118) ح (8487). وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5102). وإسناده حسن.
فالبديل عن المحرمات هو ألوان الطيبات التي لا تُحصى، والبديل عن الذبح على النصب هو النسك لوجه الله، والبديل عن الاستقسام بالأزلام هو التوكل على الله وطرق باب الاستخارة.
أخرج الإمام البخاري وأحمد وأهل السنن عن جابر قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: إذا همّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدِركَ بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر -ويسميه باسمه- خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدُرْه لي ويسِّره لي وبارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلمه شرًّا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرِفْني عنه، واصْرفْه عني، واقْدُر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به](1).
وقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} - فيه تفاسير متكاملة، منها:
1 -
الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود من دينكم أن تتركوه فترتدوا عنه راجعين إلى الشرك.
قال ابن عباس: ({الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدًا).
وقال السدي: (أظن، يئسوا أن ترجعوا عن دينكم).
2 -
قيل بل المراد: يئسوا من مشابهة المسلمين، بما تميّز به المسلمون من صفات المخالفة للشرك وأهله.
3 -
وقيل: بل المراد يئس المشركون من أي تنازل يكون في دينكم لصالحهم.
وقد صنّف الإمام مسلم في صحيحه بابًا في هذا المعنى: "باب تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قرينًا".
روى فيه عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1162)، (6382)، وأحمد (3/ 344) واللفظ له، وأهل السنن.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2812)، وأحمد (3/ 313)، والترمذي (1938).
وروى فيه عن جابر أيضًا، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[يَبْعَثُ الشيطان سراياه فَيَفْتِنُون الناسَ، فأعْظَمُهُم عنده منزلة أعظمهم فتنة].
وقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} .
قال ابن جريج: (فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم).
وقال ابن جرير: (فلا تخشوا، أيها المؤمنون، هؤلاء الذي قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم، فيقهروكم ويردوكم عن دينكم،
…
ولكن خافون، إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي، وتعدّيتم حدودي، أن أُحل بكم عقابي وأنزل بكم عذابي).
قال ابن كثير: (أي: لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني، أنصرُكم عليهم، وأُبيدُهم، وأُظْفِركُم بهم، وأَشْفي صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة).
والخشية تعرف بضدها كما قال الحسن: (عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا).
قال ابن القيم رحمه الله: (والوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة).
وفي التنزيل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} . هو وصف لحال قلوب المؤمنين.
أخرج الإمام أحمد في المسند، عن عائشة رضي الله عنها:[أنها قالت: يا رسول الله! الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات](1).
قال ابن عباس: (وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيهُ الله فلا يَسْخَطه أبدًا).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 159)، والترمذي (2/ 201)، وانظر السلسلة الصحيحة (162).
وهذه الآية شرف عظيم لهذه الأمة، إذ كمل دينها فلا تحتاج إلى أحد بزيادة أو حذف، ولا إلى نبيّ يقدّم لها بعد وفاة نبيّها، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء، وقد بعث إلى الجن والإنس، والدِّين هو ما تركنا عليه يوم مات، لا يحيد عن منهاجه إلا هالك، والحلال والحرام هو الذي استقر عليه الأمر بمغادرة النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري عن طارق بن شهاب، عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه:[أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمثين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا مَعْشَر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أيُّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. قال عمر: قد عَرَفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يَوْمَ جُمُعَة](1).
وأخرج ابن جرير وإسناده على شرط الصحيح - عن عمّار- مولى بني هشام -[أن ابن عباس قرأ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومَها عيدًا. فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيدٍ ويوم جمعة](2).
وقوله. {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قال ابن عباس: ({فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}، يعني: في مجاعة). وقال السدي: (ذكر الميتة وما فيها، فأحلها في الاضطرار، {فِي مَخْمَصَةٍ}، يقول: في مجاعة). وقال ابن زيد: (المخمصة: الجوع).
وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} .
قال ابن عباس: (غير متعمد لإثم). وقال ابن زيد: (لا يأكل ذلك ابتغاء الإثم، ولا جراءة عليه).
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
يعني من ألجاته الضرورة لأكل بعض هذه المحرمات فلا حرج والله غفور له رحيم، يتجاوز عن عبده ما أوقعه فيه العنت والهلاك.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (45)، ومسلم (3017)، والنسائي (8/ 114)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبري في "التفسير" -حديث رقم- (11102) - وإسناده على شرط الصحيح، من حديث عمار - مولى بني هاشم - عن ابن عباس.
4.
في هذه الآية: يسألك يا محمد أصحابك عن حلال الطعام فأخبرهم أنه ما كان من الطيبات. يعني الذبائح الحلال الطيبة. وما اصطدتموه بالحوارح المعلمة. فكلوا منه واذكروا اسم الله واشكروه وعظموه.
قال مقاتل: (فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق).
وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} .
الجوارح: هنّ الكواسب من سباع البهائم: من الكلاب والفُهود والصُّقور وأشباه ذلك. يعني أحل لكم ما اصطدتموه بهذه الجوارح. سميت كذلك من الجَرْح، وهو الكَسْبُ. والعرب تقول: جر فلان لأهله خيرًا: إذا أكسبهم خيرًا. وفلان جارحةُ أهله: يعني كاسبهم. ولا جارح لفلان، أي: لا كاسب له. وفي التنزيل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]- يعني ما كسبتم وعملتم من خير أو شر.
والجمهور على أن صيد الطيور كصيد الكلاب، لأنها تَكْلَبُ الصيدَ بمخالبها، كما تَكْلَبُهُ الكلاب. وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وكذلك الإمام أحمد إلا أنه استثنى صيدَ الكلب الأسود، لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه. وفي ذلك حديثان:
الحديث الأول: روى مسلم عن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[يقطع الصلاة الحمارُ والمرأة والكلب الأسود. فقلت: ما بالُ الكلب الأسود من الأحمر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم وأحمد وأبو داود عن مُطَرِّفِ بن عبد الله يحدث
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (510) - كتاب الصلاة. باب قدر ما يستر المصلي.
عن ابن المُغَفَّل قال: [أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَتْلِ الكلاب. ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رَخَّصَ في كلب الصيد وكلب الغنم](1).
وفي حديث أبي داود عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لولا أن الكلاب أُمَّةٌ من الأمم لأمرت بقَتْلِها، فاقتلوا منها الأسود البهيم](2).
قلت: والراجح قول الجمهور، فإن الكلب الأسود المعلّم يَجوز صيده، ولا حرج. فكونه يقطع الصلاة أو يستحب قتله أمر آخر- والله تعالى أعلم.
المعنى: إذا كان الجارح مُعَلَّمًا وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عليه عند إرساله حلَّ ذلك الصيد وإن قتله بالإجماع. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الشيخان وأصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال: [سألت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: إني أرسل الكلاب المُعْلَمة فتمسك عَليَّ أفآكل؟ قال: إذا أَرْسَلْتَ الكلاب المُعْلَمَة، وذكَرْتَ اسمَ الله، فكلْ ممّا أمْسَكْنَ عليك. قلت: وإن قَتَلْنَ؟ قال: وإن قَتَلْنَ ما لم يَشْرَكْهَا كلبٌ ليس منها. قلت: أرمي بالمعراض فأصيب أفآكل؟ قال: إذا رَمَيْتَ بالمِعْرَاضِ وَذَكَرْتَ اسمَ الله، فأصابَ فخَرَّقَ فَكُلْ، وإن أصابَ بِعَرْضِه فلا تأكُلْ](3).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن عدي بن حاتم قال: [سألت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: إنا نصيد بهذه الكلاب؟ فقال لي: إذا أرسلت كِلَابَكَ المُعْلَمَةَ وذكرتَ اسم الله عليها فكل مما أمْسَكْنَ عليك، وإن قَتَلَ، إلا أن يأكل الكلبُ، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمْسَكَهُ على نفسه](4).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ وذكرتَ اسم الله فوجدتَه من الغد ولم تجده في ماء ولا فيه أثرٌ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (280)، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2845) كتاب الصيد: باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5476)، ومسلم (1929)، وأبو داود (2847) واللفظ له، ورواه بقية أهل السنن. والمعراض: سهم بلا ريش ولا نصل. والمزراق: رمح قصير.
(4)
حديث صحيح. أخرجه الشيخان وأبو داود - واللفظ له. انظر صحيح سنن أبي داود (2474).
وصحيح البخاري (175)، (5477)، وكذلك صحيح مسلم (1929).
غَيْرَ سهمك فكلْ، وإذا اخْتَلَط بكلابك كَلْبٌ مِن غيرها، فلا تأكلْ، لا تَدْري لعلَّهُ قَتَله الذي ليس منها] (1).
وفي رواية: [أرسل كلبي فأجد عليه كلبًا آخر، فقال: لا تأكلْ لأنك إنما سميت على كَلبك].
الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله، إني أصيد بكلبي المعلم، وبكلبي الذي ليس بمعلم، قال:[ما صدت بكلبك المُعْلَم، فاذكر اسم الله وكُلْ، وما أَصَّدْتَ بكلبك الذي ليس بِمُعْلَمٍ، فأدْرَكت ذكاتَهُ فكل](2).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
أي: احذروا مخالفة حدود ربكم، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة، أو مما أمسكت على نفسها، أو أن تطعموا ذبائح المشركين عبدة الأوثان، فإن الله سريع حسابه، يجازي الشكور والمطيع، ويعاقب العاصي بمعصيته.
5.
في هذه الآية: اليوم أحل لكم أيها المؤمنون حلال الطعام وذبائح أهل الكتاب دون غيرهم من سائر أهل الشرك، وذبائحكم أيها المؤمنون حِلّ لأهل الكتاب، وأحل لكم نكاح المحصنات - أي العفيفات - من نسائكم ونساء أهل الكتاب إذا دفعتم لهن مهورهن وأنتم أعفاء لا معالنين بسفاح ولا متخذي أخدان - ذات الخدن، ذات الخليل
(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (2475)، (2479) - كتاب الصيد. ورواه الشيخان.
انظر صحيح البخاري (5486)، وصحيح مسلم (1929)، ومسند أحمد (4/ 256).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2855) من حديث أبي ثعلبة. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (2480) - كتاب الصيد. وأصله في الصحيحين.
الواحد - ومن يجحد ما أمر الله بالإيمان به بطل ثواب عمله وهو في الآخرة من الهالكين.
فقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} .
يعني الحلال من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها. ذكره ابن جرير.
وقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} .
قال مجاهد: (ذبائحهم). وقال الضحاك: (أحل الله لنا طعامهم ونساءهم) - وبه قال ابن عباس.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [لما فُتحت خَيْبَرُ أُهدِيَت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سُمّ .... ] الحديث (1).
قال ابن إسحاق: (فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سلاّم بن مِشْكم، شاة مَصْلِيَّة - أي مشوية -، وقد سألت أي عُضْو من الشاة أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السُّم، ثم سمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تناول الذراع فلاكَ منها مضغة، فلم يُسغها، ومعه بِشْرُ بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بِشْر فأَساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليُخبرني أنه مسموم).
قال ابن كثير: (ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم: هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شَحْمِها أم لا؟ . قال: وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديٌّ على خُبْزِ شَعير وإهالة سَنِخَةٍ (2)، يعني: وَدَكًا زَنخًا).
وقوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} .
المعنى: ولكم أن تجازوهم بإطعامهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم، فهو من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة. ذكره ابن كثير ثم قال: (فأما الحديث الذي فيه:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (5777) - كتاب الطب. ضمن حديث طويل.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 210 - 211) من حديث أنس، وأخرجه البخاري (5437)، ومسلم (2041)، وأخرجه أبو داود (3782)، وأخرجه ابن حبان (4539).
"لا تصحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"(1)، فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم).
وقال القرطبي: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} : دليلٌ على أنهم مخاطبون بتفاصيل شَرْعنا، أي إذا اشتروا منا اللحم يَحِلُّ لهم اللحم ويَحِلّ لنا الثمن المأخوذ منهم).
وخلاصة المعنى: لكم - أيها المؤمنون - أن تأخذوا ثمن اللحوم التي يشترونها منكم، ولكم أن تكافئوهم على إطعامكم ذبائحهم بإطعامهم من ذبائحكم، ولهم أن يأكلوا من ذبائحكم فهي حل لهم، يعلمون ذلك عندهم.
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} .
يعني أحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات. وقد تقدم المعنى في "البقرة" و"النساء" ولله الحمد.
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
أي يحل لكم نكاح نساء أهل الكتاب بشروطٍ:
1 -
أن تكون من العفيفات العاقلات.
2 -
أن تكون تحصن فرجها فلا تزني.
3 -
أن يكون المؤمن صلبًا في دينه لا يترك دينه لدينها ولا يتأثر بمحاولاتها في ذلك.
4 -
أن لا يتزوج من نساء أهل الكتاب إلا عندما تلجئه الحاجة إلى ذلك، فالأصل نكاح المؤمنات الطاهرات، والنظر القويم إلى مستقبل أولاده وأسرته.
فعن مجاهد: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال: العفائف).
وقال الشعبي: (إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني).
وعن سعيد بن المسيب والحسن: (أنهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنصارى، وقالا: أحلّه الله على علم).
يروى ابن جرير بسنده عن الحسن - وسأله رجل: أيتزوج الرجل المرأة من أهل
(1) حديث إسناده جيد. أخرجه أبو داود (4832)، والترمذي (2395)، وأحمد (3/ 38)، وغيرهم.
الكتاب؟ - قال: (ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات، فإن كان لا بد فاعلًا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة).
ولا فرق بين الحرة والأمة، فالعفاف أهم شوط في نكاح الذمية، وهو قول الجمهور.
وقوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . قال ابن عباس: (يعني: مهورهن).
وقال ابن جرير: (فإن "الأجر": العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر).
وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} .
قال ابن عباس: (يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة، غير مسافحين متعالنين بالزنا، {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} يعني: يسرّون بالزنا).
قال رجل للحسن: ما المسافحة؟ قال: (هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتّبعته).
وقال ابن كثير: ({مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}.، فكما شرط الإحصان في النساء، هي العفة عن الزنا، كذلك شَرَطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضًا مُحْصِنًا عفيفًا، ولهذ! قال: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وهم: الزناة الذين لا يرتدِعون عن معصية، ولا يَرُدّون أنفسَهم عمن جاءهم، {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}، أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن).
وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} .
قال مجاهد: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} ، قال: بالله). وقال عطاء: (الإيمان: التوحيد).
وقال ابن عباس: (أخبر الله سبحانه أن "الإيمان" هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملًا إلا به، ولا يحرِّم الجَنَّة إلا على من تركه).
ومن ذلك الإيمان ما أحل الله من تزوج نساء أهل الكتاب على تلك الشروط.
وقوله: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
أي من الهالكين، نتيجة الكفر بأوامر الله أو بعضها.
6 -
في هذه الآية: ذكر أحكام شرعية تتعلق بالطهارة، من أركان الوضوء وأحكام تخص التيمم ومشروعيته، وبيان نعمة الله سبحانه على المؤمنين بهذا التشريع، وغير ذلك.
أخرج البخاري عن عائشة قالت: [خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذاتِ الجَيْش - انقطع عِقْدٌ لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعتْ عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ رأسه على فخذي قد نام. فقال: حَبَسْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يَطْعَن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكانُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمُّم، فتيمُّموا. فقال أُسَيْدُ بن الحُضَير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العِقْدَ تحتَه](1).
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} .
أي على غير طهر. وعليه أقوال المفسرين:
4 -
سئل عكرمة عن قول الله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (334)، ومسلم (367)، والنسائي (1/ 162 - 164)، وغيرهم.
الْمَرَافِقِ}، فكل ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: (لا وضوءَ إلا من حَدَث).
وقال عكرمة: (كان سعد بن أبي وقاص يُصلي الصلوات بوضوء واحد).
وقال: (كان سعد بن أبي وقاص يقول: صلّ بطهورك ما لم تحدث) رواه ابن جرير.
2 -
عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن يزيد بن طريف - أو: طريف بن يزيد: (أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطئ دجلة، فتوضؤوا، فصلَّوا الظهر، فلما نودي بالعصر، قام رجال يتوضؤون من دجلة، فقال: إنه لا وضوء إلا على من أحدث).
3 -
عن زيد بن أسلم قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} قال: (يعني: إذا قمتم من النوم).
أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أنس قال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلتُ (1): فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوءٍ واحد ما لم نُحْدِث](2).
وقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .
قال الحافظ ابن كثير: (قد استدل طائفة من العلماء بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} على وجوب النية في الوضوء، لأن تقدير الكلام: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها).
قلت: بل النية ركن من أركان الوضوء الذي بيّن الله في هذه الآية، فأركان الوضوء:
1 -
النية: ومحلها القلب، وتعني القصد والإرادة، والتلفظ بها لا أصل له. وقد ثبت في الصحيحين من حديث عمر:[إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى](3).
2 -
غسل الوجه: عرضًا من شحمة الأذن اليمنى إلى شحمة الأذن اليسرى، ومن منبت الشعر من الرأس إلى أسفل اللحيين طولًا. لقوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .
(1) هو عمرو بن عامر الأنصاري راوي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 132)، والبخاري في الصحيح (214)، وأبو داود في السنن (171)، والترمذي في الجامع (60).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (1) - كتاب بدء الوحي، ورواه مسلم وأهل السنن.
أخرج الإمام الترمذي بسند جيد عن أبي وائل قال: [رأيت عثمان توضأ - فذكر الحديث - قال: وخلل اللحية ثلاثًا حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت](1).
وأخرج البخاري عن عطاء عن ابن عباس: [أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غَرْفَة من ماء فمَضْمَضَ بها واسْتَنْشَق، ثم أخَذَ غَرْفَةً من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى، فَغَسَل بها وَجْهَهُ، ثم أخذ غَرفَة من ماء فغسل بها يدَه اليمنى، ثم أَخَذَ غَرْفَةً من ماء فغسل بها يده اليُسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غَرْفَةً من ماء فَرَشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غَرْفَةً أُخْرى فغسل بها رِجْلَهُ يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ](2).
3 -
غسل اليدين إلى المرافق.
المرفق هو العظم "المفصل" الذي بين العضد والساعد. لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} .
4 -
مسح الرأس كله. لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} .
والباء تفيد الإلصاق - وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك - ومن ذهب إلى التبعيض فالحديث التالي حجة عليه، إذ فيه وصف مسحه صلى الله عليه وسلم الذي علينا أن نتابعه فيه.
أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والبيهقي وابن حبان - من حديث عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجُلًا قال لعبد الله بن زيد - وهو جدّ عمرو بن يحيى -: أتستطيع أن تُرِيَني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء فَأَفْرَغ على يديه فغسل مرتين، ثم مَضْمَضَ واستنثر ثلاثًا، ثم غَسَل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بِمُقَدَّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قَفاه، ثم ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غَسَلَ رجليه] (3).
(1) حديث إسناده جيد. أخرحه الترمذي في السنن (31)، وابن ماجة (430)، والحاكم (1/ 149).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (140)، كتاب الوضوء. وأخرجه أحمد (1/ 268).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (185) - كتاب الوضوء. باب مسح الرأس كله. وأخرجه مسلم (235)، وأبو داود (118)، والترمذي (32)، والنسائي (1/ 71)، وابن ماجة (434)، وأخرجه =
فالحديث يدل على وجوب تكميل مسح جميع الرأس، وهو مذهب مالك وأحمد.
5 -
غسل القدمين إلى الكعبين. لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
ونصبت {وَأَرْجُلَكُمْ} بالعطف على {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} . قال ابن عباس: (رجعت إلى الغسل).
والكعبان هما العظمان الناتئان على جانبي مشط القدم، ويدخل مع القدم العقب وهو العظم الناتئ أسفل القدم آخر المشط الذي يرتكز عليه الإنسان إذا مال إلى الخلف ويسمى عند الناس أحيانًا "كاحلًا" فيجب غسله مع القدم.
ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال: [تخلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفْرَةٍ سافرناها، فأدرَكَنا وقد أَرْهَقَتنَا الصلاةُ صلاة العصر ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: أَسْبِغُوا الوضوءَ، ويل للأعقاب من النار](1). وفي لفظ عند أحمد: [ويل للعراقيب من النار].
وفي لفظ آخر: [ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار](2).
6 -
الموالاة: أي غسل الأعضاء بعضها إثر بعض بلا فارق زمني.
ففي مسند أحمد وسنن داود من حديث خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي، وفي ظَهْر قَدَمِه لُمْعَةٌ قدرُ الدِّرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء](3).
زاد أبو داود: [والصلاة].
وأما واجبات الوضوء وسننه فلها مكان آخر في الفقه سيأتي في موسوعة خاصة به إن شاء الله تعالى.
= أحمد (4/ 38)، والبيهقي (1/ 59)، وابن حبان (1084)، (35).
(1)
حديث صحيح. أخرجه جابر في في الصحيح (60)، (96)، ومسلم (241)، وأحمد (2/ 193).
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد (4/ 121)، والحاكم (1/ 162)، من حديث جابر بن عبد الله.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 424)، وأبو داود في السنن (175)، لكن "عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، وجهالة الصحابي لا تضر.
تقدم الكلام عن تفصيل ذلك في سورة النساء، وبيان أسباب النزول في ذلك.
وقد أخرج البخاري - حول هذه الآية - عن عائشة رضي الله عنها: [سقطت قِلادةٌ لي بالبيداء ونحن داخِلون المدينة، فأناخ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ونَزَلَ، فثنى رأسَهُ في حِجْري راقِدًا، أَقْبَلَ أبو بكر فلكزَني لكْزَةً شديدة وقال: حبست الناس في قِلادَةٍ، فَبِيَ الموتُ، لِمكانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوْجَعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظَ وحَضَرَتِ الصُّبْحُ، فالتُمِسَ الماء فلم يوجدْ، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، فقال أُسيد بن حُضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركةٌ لهم](1).
وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} .
قال عكرمة: (من ضيق). أي أباح سبحانه لكم التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ولئلا يعنتكم.
وقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
قال ابن جرير: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ، ولكن الله يريد أن يطهركم، بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث، والغسلِ من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظّفوا وتطهّروا بذلك أجسامكم من الذنوب).
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إذا توضأ العبدُ المسلمُ - أو المؤمن - فغسل وَجْهَهُ، خرج من وجهه كُلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو: مع آخِر قطْرِ الماء - فإذا غسل يديه خرجَ من يديه كُلُّ خطيئة بطشتها يداه مع الماء - أو: مع آخر قطر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو: مع آخر قطر الماء - حتى يخرج نقيًّا من الذنوب](2).
وأخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4608)، كتاب التفسير. تفسير سورة المائدة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (244)، والترمذي (2)، ومالك (1/ 32)، وأحمد (2/ 303).
توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سَمْعه وبصره ويديه ورجليه] (1).
وروى أحمد وأبو يعلى والبزار بسند صحيح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه دعا بماء فتوضأ ثم ضحكَ، فقال لأصحابه: ألا تسألوني ما أضحكني؟ فقالوا: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: [رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم توضأ كما توضأت، ثم ضحك فقال: ألا تسألوني: مَا أضحكك؟ فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: إن العبد إذا دَعَا بِوَضوءٍ، فغسل وَجْهَهُ، حَطَّ الله عنه كلَّ خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذِراعَيْه كان كذلك، وإذا طَهّرَ قَدَميه كان كذلك. زاد البزار: فإذا مسح رأسَه كان كذلك](2).
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
أي كي تشكروا الله على هذه النعم الجليلة عليكم، بطاعتكم إياه وتعظيمكم لأوامره، فقد خصّكم بجزيل الثواب على الطاعة والتعظيم.
7 -
11. قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}.
في هذه الآياتِ: تَوْجِيهٌ من الله سبحانه لذكر نعمته عليكم - أيها المؤمنون - في
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 252)، (5/ 256)، والطبري (11548)، وغيرهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد وأبو يعلى. إسناد أحمد جيد، ورواه البزار بسند صحيح. انظر صحيح الترغيب (1/ 179) - كتاب الطهارة، الترغيب في الوضوء وإسباغه.
ما هداكم له من ميثاق طاعته ونجاتكم من الضلالة والرّدى. وأَمْرٌ منه سبحانه أن تكونوا قائمين بالحق لا يحملكم بُغض قوم على ترك العدل، وهو سبحانه عليمٌ بذات الصدور، خبيرٌ بأعمالكم، وقد وعد المؤمنيمن القائمين بمنهاج العمل الصالح مغفرة وأجرًا عظيمًا، في حين وعد الكافرين عذابًا أليمًا. ثم ذكرهم إذ نجّاهم من مكر قوم من أعدائهم هموا ببسط الأذى لهم - أفلا يحملكم هذا كله على التقوى وصدق التوكل على الله جل ثناؤه. فإلى تفصيل ذلك:
فعن مجاهد: ({اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، قال: النعم، آلاء الله).
وعن ابن عباس: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الآية، يعني: حيث بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، فقالوا:"آمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب وأقررنا بما في التوراة"، فذكَّرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء به). فالنعمة الإسلام، والميثاق كما قال ابن جرير:(يعني: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنَشط والمكره والعُسر واليسر).
ففي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: [بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشْطِنا ومكرهنا، وعُسْرِنَا ويُسْرنا، وأَثرةٍ علينا، وأن لا نُنَازعَ الأمر أهله. قال: إلا أن تَرَوْا كُفرًا بَوَاحًا عندكم فيه من الله برهان](1).
- وقيل هو العهد المأخوذ على ذرية آدم يوم استخرجها من صلبه، وقيل بل هو العهد المأخوذ على اليهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والأول أظهر ورجّحه ابن جرير.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
أَمْرٌ بالتقوى، وتَحْذِيرٌ من مخالفة عهد من يعلم السر وأخفى.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} .
قال ابن كثير: (أي: كونوا قائمين بالحق لله عز وجل لا لأجل الناس والسمعة).
وقوله: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} .
أَمْرٌ بإقامة العدل وتحذير من انظلم والجَوْر.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7055)، (7056)، ومسلم (1833)، وأحمد (5/ 321).
وقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} .
أي لا تقحموا حظوظ نفوسكم في القضاء والحكم بين الناس، بل أقيموا العدل على كل أحد، قريبًا كان أم بعيدًا، صديقًا كان أم عدوًا.
وقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
أي مقام العدل هو الذي يحبه الله ويرضاه، وأما الظلم فهو بغيض إليه جلت عظمته.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذه الوصية من اللَّه تعالى لعباده المؤمنين: الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أنه قال: [نَحَلني أبي نَحلًا، فقالت أمي عَمْرَةُ بنتُ رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه لِيُشْهِدَه على صدقتي، فقال: أَكُلَّ ولدك نحلت مثله؟ قال: لا. قال: اتقوا الله، واعدِلُوا في أولادكم. وقال: إني لا أشهد على جَور. قال: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشّح فإن الشّح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم - أيضًا - من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاة الجَلْحَاء من الشاة القرناء](3).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} .
أي: احذروا معشر المؤمنين الجور ومغبة الظلم، فإن الله قد اطلع على أعمالكم.
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2586)، ومسلم (1623)، والنسائي (6/ 258)، ومالك (2/ 751). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2578) - كتاب البر والصلة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2582) - الباب السابق، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والجلحاء: الشاة التي لا قَرْنَ لها.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}.
هذا من تمام عدله سبحانه: موافاة المؤمنين نتيجة أعمالهم وإقامة الحق والعدل المغفرة والأجر العظيم، في حين ينتظر الكافرين: الظالمين أنفسهم بالكفر وغيرهم بالظلم والجور، عذاب الجحيم.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} . فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: قيل نزلت في شأن بني النضير حين همّوا بإلقاء الرّحى على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ذهب إليهم ليعينوه في دية الرجلين من بني كلاب اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في أعقاب حادثة بئر معونة، وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة، فكانت نعمة الله بفضحهم وإجلائهم.
قال مجاهد: ({إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}: اليهود، دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطًا لهم وأصحابُه من وراء جداره، فاستعانهم في مَغْرَمِ دِية غرمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله. فخرج يمشي القهقرى ينظر إليهم، ثم دعا أصحابه رجلًا رجلًا حتى تتاموا إليه)(1).
ويروي ابن جرير في التفسير أن حيي بن أخطب قال لهم: ألا ترون أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا، فجاؤوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم حتى جاءه جبريل).
التأويل الثاني: قيل بل نعمة الله المذكورة هنا إعلام الله نبيّه بطعام قدمه له يهود أرادوا به قتله وقتل أصحابه. قال ابن عباس في الآية: (وذلك أن قومًا من اليهود صنعوا لرسول الله وأصحابه طعامًا، ليقتلوه إذا أتى الطعام، فأوحى الله إليه بشأنهم فلم يأت الطعام، وأمرَ أصحابه فلم يأتوه).
التأويل الثالث: قيل بل النعمة هنا إطلاع الله نبيّه صلى الله عليه وسلم على محاولة عدوه المشرك قتله في بَطْن نَخْل حين استلّ سيفه، وتشريع صلاة الخوف للأمة.
(1) انظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين. (2/ 802) - غدْر اليهود وإجلاء بني النضير - وانظر تفسير الإمام الطبري (11560 - 11563)، وأسباب النزول (387) - للواحدي.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر قال: [أَقْبَلْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بذاتِ الرِّقاع قال: كُنَّا إذا أتَيْنَا على شجرة ظَليلةٍ تَركْناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء رجل من المشركين وسيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بشجرة، فأخذ سيف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فاخترطَه - أي سَلّهُ - فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يَمْنَعُني مِنْك. قال: فتهدَّدَهُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَغْمَدَ السيف وعَلّقَهُ، قال: فنودي بالصلاة، فَصَلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعُ ركعات، وللقوم ركعتان" (1).
قال معمر: (وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أن قومًا من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا هذا الأعرابي، وتأوّل: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية) ذكره ابن جرير.
قلت: والراجح التأويل الأول، ورجحه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله، وقد بسطت القول في ذلك في كتابي السيرة النبوية - على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة - عند إجلاء بني النضير، فلله الحمد والمنة.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
أَمْر من الله بالتقوى فهي سرّ كل فلاح، وإِخْبَارٌ عن صفة المؤمنين بتوكلهم على الله واعتمادهم عليه كما عَلَّمَهُم ذلك نبيّهم، فالله يحب المتوكلين، ومن توكل على الله كفاه وعصمه وحفظه.
12 -
14. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَال اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (843)، كتاب صلاة المسافرين - باب صلاة الخوف.
ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَال تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}.
في هذه الآياتِ: ذِكْرٌ للعهود والمواثيق التي أخذها الله على أهل الكتابين: اليهود والنصارى، وبيان مغبة نقضهم تلك العهود وما حلّ بهم من ضنك العيش في الدنيا، وما ينتظرهم من شقاء يوم القيامة. فإلى تفصيل ذلك:
قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} .
قال الحسن: (اليهود من أهل الكتاب). وقال أبو العالية: (أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له، ولا يعبدوا غيره).
والنقيب في لغة العرب كالعريف، بل هو فوقه، وهو الأمين الضامن على القوم.
يقال: نقَب فلان على بني فلان فهو ينقُبُ نقْبًا. ويقال: عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافة.
قال قتادة: ({وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}، من كل سِبْط رجل شاهد على قومه). وقال الربيع: (النقباء: الأمناء).
والمقصود أنهم عرفاء القوم ينوبون عن في قبائلهم بالتمثيل والمبايعة، قال ابن كثير:(يعني: عرفاء على قبائلهم بالمبايعة، والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه).
وقال ابن جرير: (إنما كانَ الله عز ذكره أمر موسى نبيه صلى الله عليه وسلم ببعثة النقباء الاثني عشر من قومه بني إسرائيل على أرض الجبابرة بالشام، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم، إذْ أراد هلاكهم، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل، بعدما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر. فبعث موسى الذين أمره ببعثهم إليها من النقباء).
وقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ العقبة اثنا عشر نقيبًا من الأنصار، هم الذين وَلُوا
المبايعة والمعاقدة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس.
أخرج البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت - أحد النقباء - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. قال: فبايعته - وفي رواية: فبايعناه على ذلك](1).
وكذلك فإن الخلفاء في هذه الأمة الذين هم على منهاج النبوة عددهم اثنا عشر خليفة. ففي الصحيحين والمسند عن جابر بن سَمُرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليَهم اثنا عشر رجلًا. ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خَفِيَتْ عليّ، فسألت أبي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش](2).
وقد مضى منهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم. وكذلك عمر بن عبد العزيز، وقيل عبد الله بن الزبير أيضًا. ويبدو أن البقية الستة يكونون مع عودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة مرّة أخرى كما في حديث حذيفة:
فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال: [كنا قعودًا في المسجد، وكان بشير رجلًا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفض خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3892) - كتاب مناقب الأنصار.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7222)، - ومسلم (1821) ح (6)، واللفظ له، ورواه أحمد في المسند (5/ 86)، وأخرجه أبو داود (4279)، والترمذي (2223)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 519)، وغيرهم.
تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت] (1).
وقوله: {وَقَال اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} .
أي بحفظي وكَلاءتي، بسمعي وبصري، وإني ناصركم على عدوكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم.
وقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} .
أي حافظتم على إقامة الصلاة وإعطاء الزكاة، وصدقتم بما أتاكم به رسلي من شرائع ديني.
وقوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} .
قال مجاهد: (نصرتموهم). وقال ابن زيد: (التعزيز والتوقير: الطاعة والنصرة).
وقوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . أي أنفقتم في سبيله وابتغاء مرضاته.
أي أستر عليكم ذنوبكم، وأتجاوز عنها فأمحوها، وأتحفكم بدخول جنات النعيم التي تجري من تحتها الأنهار.
وقوله: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
أي: فمن جحد هذا الميثاق منكم - يا بني إسرائيل - بعد شدّه وتوكيده، فقد أخطأ طريق النجاة، وَزَلَّ في طريق الهلاك.
وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} .
قال ابن عباس: (هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه). وقال قتادة: (فبنقضهم ميثاقهم لعناهم). - أي طردناهم عن الهدى والحق.
وقوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} .
أي: فلا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا لغلظتها وقسوتها.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 273)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (5)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 989) لتفصيل البحث.
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} .
قال ابن عباس: (يعني: حدود الله في التوراة، ويقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا).
والمقصود أنهم حملوا كلام الله في التوراة على غير مراده ومعناه، وأشاعوا فهمًا منحرفًا له يوافق أهواءهم وشهواتهم.
وقوله: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} .
قال السدي: (يقول: تركوا نصيبًا).
وقال الحسن: (تركوا عُرَى دينهم، ووظائفَ الله جل ثناؤه التي لا تُقبل الأعمال إلا بها).
والمقصود: أنَّهم تركوا العمل بما ذكروا به رغبة عنه إلى دنيا عكفوا عليها.
وقوله: {وَلَا تَزَال تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} .
يعني الغدر من أكثرهم والخيانة.
قال قتادة: {وَلَا تَزَال تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} ، قال: على خيانة وكذب وفجور).
وقال مجاهد: (هم يهودُ، مِثْلُ الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم).
وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} .
قال ابن كثير: (وهذا هو عينُ النَّصر والظفر، كما قال بعض السلف: "ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تُطيع الله فيه". وبهذا يحصُلُ لهم تأليفٌ وجَمْعٌ على الحق، ولعل الله أن يهديهم، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، يعني به: الصفح عمن أساء إليك).
أي: وكذلك الذين زعموا أنهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنهم متابعوه على هديه ومناصروه ومآزروه، وقد عقدوا لذلك المواثيق والعهود - كما فعل اليهود من قبل - على الإيمان به وبكل نبي يرسله الله بعده إلى الأرض، إلا أنهم كانوا كسابقيهم عند أسوأ الظن. قال قتادة: (نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهدَ الله الذي
عهده إليهم، وأمر الله الذي أمرهم به). وقال السدي:(قالت النصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظًا مما ذكروا به).
وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
يعني: أوقع الله بينهم، فأصبحوا طوائف يأكل البغض والحسد بعضُهم بعضًا.
قال إبراهيم النخعي: (هذه الأهواء المختلفة والتباغض، فهو الإغراء).
وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} .
فيه تَوَعُّدٌ من الله بالانتقام منهم إذ كذبوا على الله ورسوله، وجعلوا لله صاحبة وولدًا، ونقضوا العهود والمواثيق، وحرّفوا التنزيل والأمر والنهي، تعالى الله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، وتقدست أسماؤه وجلت عظمته.
15 -
16. قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}.
في هذه الآياتِ: عالمية دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: إلى الناس كافة، إلى الجن والإنس، إلى الأمم جميعها من أهل الكتاب وغيرهم. وبيان ما حصل من التحريف والتبديل في الكتب المتقدمة، وإخبار عن القرآن العظيم وما فيه من النور المبين، وطريق السعادتين في الدنيا والآخرة.
فعن قتادة: ({يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}: وهو محمد صلى الله عليه وسلم).
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: (من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب. قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}، فكان الرجم مما أخفوا) رواه ابن جرير والحاكم.
وقوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . أي يسكت عن أشياء أخرى مما غيّروا وبدلوا وحرّفوا لا فائدة ببيانها.
وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} .
قال ابن جرير: (يعني بالنور محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، .. ومن إنارته الحق، تبيينه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من لكتاب. وقوله: {وَكِتَابٌ مُبِينٌ}، يقول جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور لذي أنار لكم به معالم الحق، {وَكِتَابٌ مُبِينٌ}، يعني كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبيِّن للناس جميع ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله).
وعن السَّدي: ({يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملًا إلا به، لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية).
قال القرطبي: (قوله {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} أي: ما رضيه. {سُبُلَ السَّلَامِ}: طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة، وهي الجنة).
وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .
أي من ظلمات الجاهلية والكفر إلى نور الحق والإسلام.
وقوله: {بِإِذْنِهِ} .
قال ابن جرير: (تحبيبُه إياه الإيمان، برفع طابع الكفر عن قلبه، وخاتم الشرك عنه، وتوفيقه لإبصار سُبل السلام).
فمن باشر السير في طريق رضوان الله سبحانه، هيّأَ له سُبلًا من الخير والتوفيق والإلهام، وأسبابًا لسعادة الدنيا والآخرة.
وأصل الهداية في لغة العرب من الهدى، وهو الرشاد والدلالة، وهو يذكر ويؤنث.
والهداية هنا تعني هداية التوفيق والإلهام، وهي هداية خاصة بالمؤمنين الذين صدقوا الرسل واتبعوهم، وصار لهم قدم صدق في الإسلام والإيمان والإحسان، وتعلقت قلوبهم بالله ومحابه، فهناك يكرمهم ربهم تباركت أسماؤه وصفاته بهداية خاصة بعد هداية الدلالة والإرشاد. فإن مراتب الهداية كما وردت في الكتاب والسنة:
1 -
هداية الخلق العامة.
2 -
هداية الدلالة والإرشاد.
3 -
هداية التوفيق والإلهام.
4 -
هداية إلى طريق الجَنَّة يوم القيامة.
فقوله هنا: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} كقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وكقوله في سورة مريم: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76].
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعْطِيَنَّهُ، وإن استعاذني لأعيذنه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته](1).
وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} .
أي: يرشدهم إلى دين الله القويم، ويسدِّد خُطاهم إليه، وينجيهم من فساد واعوجاج بقية المسالك، فليس بعد الحق إلا الضلال.
17 -
18. قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1/ 234)، والبغوي في شرح السنة (1/ 142/ 2)، ويشهد له ما في مسند الإمام أحمد (6/ 256)، وانظر تمام بحث الهداية في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 900).
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}.
في هذه الآياتِ: حكم الله في الذين ادعوا الألوهية في عيسى عليه الصلاة والسلام، وإثبات عبودية المسيح وأمه لله الملك سبحانه، وتكذيب الذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه من أهل الكتابين، وإثبات العذاب على المكذبين بالله ورسله وتوحيده يوم القيامة.
فقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} .
قال القرطبي: (وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم على جهة الدينونة به؛ لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا).
وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . أي: أخبر الله المسيح عليه الصلاة والسلام أن لو كان إلهًا لقدر على دفع الضرّ عنه مما أصابه، فقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع ذلك عنها، وكذلك لو أراد سبحانه إهلاكه وإهلاك جميع أهل الأرض.
أي: كل المخلوقات والموجودات في هذا الكون الفسيح تحت تصرفه سبحانه وفي ملكه ينفذ فيها أمره، فلو كان المسيح وأمه إلهين فأين سيكونان؟ إن المسيح وأمه {بَيْنَهُمَا} أي مخلوقان محصوران بين السماوات والأرض، وما أحاط به الحدّ والنهاية لا يصلح للإلهية، والله وحده على كل شيء قدير.
وقوله: {وَقَالتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} .
فرأوا لأنفسهم فضلًا وشرفًا. قال ابن عباس: (خوّف رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحِبّاؤه، فنزلت الآية).
قال ابن كثير: (أي: نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية، وهو يحبُّنا. ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: "أنت ابني بكري". فحملوا هذا على غير تأويله وحرّفوه. وقد ردّ عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم، وقالوا: هذا يُطلَقُ عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني: ربِّي وربِّكم. ومعلوم أنهم لم يدّعوا لأنفسهم من البُنُوَّةِ ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك مَعَزَّتهم لديه وحُظْوَتَهم عنده، ولهذا قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه).
وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} . تكذيب لهم من الله في ادعائهم.
وفيه أكثر من تأويل:
1 -
التأويل الأول: قيل معنى {يُعَذِّبُكُمْ} عَذَّبكم. أي حين مسخهم قردة وخنازير. ذكره القرطبي.
2 -
التأويل الثاني: قيل فلم أعدّ لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم. ذكره ابن كثير.
3 -
التأويل الثالث: هو اعتراف اليهود أن الله سيعذبهم أربعين يومًا عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل. ذكره ابن جرير.
قلت: والبيان الإلهي يحتمل بإعجازه كل ما سبق ذكره. والسنة الصحيحة تؤيده في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج ابن حبان في صحيحه، والطبراني في "المعجم الكبير" بإسناد صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الحيَّات مسخُ الجن، كما مُسِخَت القردة والخنازير من بني إسرائيل](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: [لما فُتحت خَيْبَرُ أُهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ فيها سُمٌّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا إليَّ من كان هاهنا من يهود. فجمعوا له، فقال: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادِقيَّ عنه. فقالوا: نعم، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا: فلان، فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان.
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (1080)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11946). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1824)، وصحيح الجامع الصغير (3198).
قالوا: صدقت. قال: فهل أنتم صادِقيَّ عن شيءٍ إن سألْتُ عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عَرَفْتَ كَذِبَنا كما عرفْتَه في أبينا، فقال لهم: مَنْ أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تَخْلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسؤوا فيها، واللهِ لا نخلفكم فيها أبدًا. ثم قال: هل أنتم صادِقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لم يَضُرَّك] (1).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار](2).
وقد استدل قوم بهذه الآية: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} أن الحبيب لا يعذب حبيبه. وهذا استدلال طيب، فإن اليهود لو قالوا لا يعذبنا كذّبوا ما في كتبهم من أن الله سيعذب العصاة، ولو قالوا يعذبنا أقرّوا أنهم ليسوا أبناء الله وأحباءه.
أخرج الحاكم بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: [مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من أصحابه، وصبي بين ظهراني الطريق، فلما رأت أمه الدواب خشيت على ابنها أن يوطأ، فسعت والهة، فقالت: ابني! ابني! فاحتملت ابنها، فقال القوم: يا نبي الله! ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والله، لا يلقي اللهُ حبيبَه في النار](3).
وأخرج الإمام أحمد والبخاري من حديث عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لن يُوافِيَ عَبْدٌ يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي بها وَجْهَ الله، إلا حَرَّمَ الله عليه النار](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في كتاب الجزية من صحيحه. انظر مختصر صحيح البخاري - حديث رقم - (1281). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر - صحيح مسلم - حديث رقم: (20) -، وصحيح مسلم (1/ 93).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 177)، وأحمد (3/ 104)، وهو على شرط الشيخين.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6423) - كتاب الرقاق. ورواه أحمد في المسند. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (5106).
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} .
قال السدي: (يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه).
وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)} .
أي جميع الخلق في هذا الكون ملك لله، والمرد إليه سبحانه لا محالة. وفيه تهديد ووعيد للمغترين بالأماني وفضائل الآباء والأسلاف كأولئك القائلين:{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} .
19.
في هذه الآية: الخطاب لأهل الكتابين في أن الله أرسل لهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم النبيين والمرسلين.
قال قتادة: (وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فَرَق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمةٌ لمن أخذ به).
وقوله: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} .
أي على انقطاع من الرسل. وقد روى ابن جرير في التفسير قال: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال:(كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، ذكر لنا أنَّها كانت ست مئة سنة، أو ما شاء من ذلك والله أعلم). ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وهناك أقوال أخرى ولكن ذكرت الراجح، وربما يعود اختلاف الأرقام بين المفسرين لاختلاف السنة الشمسية والقمرية. ثم إنه لم يكن بين عيسى عليه الصلاة والسلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعثة نبي.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياءُ أولادُ عَلّات، ليس بيني وبينه نبيّ](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3442) - كتاب أحاديث الأنبياء. وانظر كذلك (3443).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (والمقصود أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وطُمُوس من السُّبُل، وتَغَيُّر الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمةُ به أتمَّ النعم، والحاجة إليه أمرٌ عَمَمٌ، فإن الفساد كان قد عمَّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهرَ في سائر العباد، إلا قليلًا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعُبَّاد النصارى والصابئين).
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن عياضِ بن حِمَارٍ المُجَاشِعيِّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خُطْبَتِه:[ألا! إن ربي أَمَرَني أن أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُم مِمَّا عَلَّمَني، يَوْمي هذا، كُلُّ مال نَحَلْتُهُ عبدًا، حلالٌ، وإني خَلقْتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنهم أَتَتْهُم الشياطين فاجْتالتْهُم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُم أن يُشركوا بي ما لمْ أُنْزِلْ به سلطانًا، وإن الله نَظَرَ إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُم وعَجَمَهُم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بَعَثْتُك لأبتليك وأَبْتَلِيَ بك، وأَنْزَلْتُ عليك كتابًا لا يَغْسِلُه الماءُ، تَقْرَؤُه نائِمًا ويَقْظانَ، وإن الله أَمَرَني أن أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: ربِّ! إذن يَتْلَغُوا رأسيِ فيَدَعوه خُبْزَةً، فقال: استَخْرِجْهُم كما استخرجوك، واغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وأَنْفِقْ فسَيُنْفقَ عليك، وابْعَث جَيْشًا نبعثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وقاتِلْ بِمَنْ أطاعك من عصاكَ، قال: وأهل الجَنَّة ثلاثة: ذو سُلطان مُقْسِطٌ مُتَصَدِّق مُوَفَّقٌ، ورجُلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكل ذي قُربى ومُسْلِم، وعفيفٌ ومُتعففٌ ذو عيال. قال: وأهل النار خَمْسَةٌ: الضعيفُ الذي لا زَبْرَ لَهُ، الذين هم فيكم تَبَعًا لا يَتْبَعونَ أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يخفى لَهُ طَمَعٌ - وإن دَقَّ - إلا خانَهُ، ورجُلٌ لا يُصْبحُ ولا يُمْسي إلا وهو يخادِعُكَ عنْ أهلِكَ ومالِكَ. وذكر البُخْلَ أو الكذِبَ وَالشِّنْظيرُ: "الفَحَّاشُ"](1).
وقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} .
أي كي لا تقولوا، أو أن لا تقولوا. قال ابن جرير:(كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عزّ ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة).
والبشير المبشِّر بالثواب لمن أطاع الله وآمن برسوله، والنذير المنذر بالعقاب لمن عصى الله وكذب رسوله.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2865)، كتاب الجَنَّة ونعيمها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجَنَّة وأهل النار، ورواه أحمد (4/ 262)، والبيهقي (9/ 60).
وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
تأكيد لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإرساله إلى الأمم كافة، والله لا يعجزه مجازاة من أطاع، ولا معاقبة من كذب وتولى، فهو القادر على كل شيء، والفعال لما يريد.
20 -
26. قوله تعالى: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالمِينَ (20) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَال رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَال رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}.
في هذه الآيات: إِخْبَارٌ من الله عن تذكير موسى عليه السلام قومه نعم الله المتراكمة عليهم في تتابع الأنبياء فيهم، وجمع الله أسباب الدنيا وخيرها عليهم، وجعلهم أشراف الناس في زمانهم. ثم تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول في بيت المقدس، الذي كان بأيديهم زمان أبيهم يعقوب عليه السلام، وبشرهم بالنصر والظفر فنكلوا وعصوا، وتخوفوا قومًا جبارين فيها، حتى حرَّضهم رجلان ممن يخاف أمر الله وحلول عقابه ولهم في مهابة، بأنكم إن توكَّلْتُم على الله وواجهتم عدوكم ينصركم سبحانه، فنكلوا بأشبع وجه وقالوا لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، فهنالك دعا موسى ربه أن يقضي بينه وبينهم وقال لا أملك إلا نفسي وأخي، فحكم الله عليهم بتحريم دخولها مدة أربعين سنة يقعون في التيه ولا يهتدون للخروج منه. وتفصيل ذلك:
قوله: {وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
قال ابن عباس: (عافية الله عز وجل. وقال ابن عيشة: (أيادي الله عندكم وأيامه).
وقوله: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} .
قال ابن كثير: (أي: كلما هَلَكَ نبيٌّ قام فيكم نبيٌّ، من لَدُن أبيكم إبراهيم وإلى ما بعده وكذلك كانوا، لا يزال فيهم الأنبياء يدعُونَ إلى الله ويُحذرون نقمتَه، حتى خُتموا بعيسى بن مريم عليه السلام ثم أوحى الله إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله، المنسوب إلى إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ عليه السلام، وهو أشرف من كل من تقدَّمه منهم، صلى الله عليه وسلم).
وقوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} .
قال ابن جرير: (سخَّر لكم من غيركم خدمًا يخدمونكم).
قال قتادة: (كنا نحدَّثُ أنهم أول من سُخِّر لهم الخدم من بني آدم وملكوا).
وعن ابن عباس في قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} قال: (الزوجة والخادم والبيت).
وقال: (كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكًا). وعن السدي قال: (يملك الرجل منكم نفسه وأهلَه وماله).
وذكر الطبري بسنده إلى أبي عبد الرحمن الحُبُلي قال: (سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم! قال ألك مسكنٌ تسكُنُه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال: إن لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك) - ورواه مسلم (1).
أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن عبيد الله بن محصن، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أصبح منكم معافىً في جسده، آمِنًا في سِرْبِهِ، عنده قوت يومِه، فكأنما حِيزتْ له الدنيا بحذافيرها](2).
وقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالمِينَ} .
كانوا أفضل أهل زمانهم، وأشرف من سائر بني آدم. كما قال تعالى في سورة
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2979) - كتاب الزهد. ورواه ابن جرير.
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (2346)، وابن ماجة (4141)، وقال الترمذي: حَسَن غريب.
الجاثية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالمِينَ (16)} . وكذلك قوله في سورة البقرة: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالمِينَ (47)} .
وعن مجاهد: ({وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالمِينَ}، قال: المنّ والسلوى والحجر والغمام).
ولكن هذه الأمة أفضل عند الله منهم، وأشرف منزلة يوم القيامة، لقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . وذلك لحسن صحبتها لنبيِّها محمد صلى الله عليه وسلم يوم كان بين ظهرانيهم، ولبشائر استمرار طائفة على الحق في حراسة هذا الدين ومنهاجه في الأرض إلى يوم القيامة. فإلى ذكر بعض الأحاديث الصحيحة في ذلك:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يَضُرّهم من خَذَلَهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: [قام معاوية خطيبًا فقال: أين علماؤكم؟ أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة إلا وطائفة من أمتي ظاهرون على الناس، لا يبالون من خذلهم وَلا من نصرهم" (2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود وأحمد بسند جيد عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أمتي أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابُها في الدنيا الفتنُ والزلازل والقتل].
وفي لفظ: [أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1920) - كتاب الإمارة. وانظر صحيح ابن ماجة (10).
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن. انظر صحيح ابن ماجة (9) - باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصله في صحيح مسلم (1037) من حديث عمير بن هانئ.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4278)، وأحمد (4/ 410)، (8/ 414)، والحاكم (4/ 444) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأقره الألباني، انظر السلسلة الصحيحة، حديث (959).
وقوله: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، فيه أقوال متكاملة، مفادها أن الأرض المقدسة هي بيت المقدس.
1 -
قال مجاهد: ({الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}: الطور وما حوله).
2 -
قال قتادة: ({الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}: هي الشأم).
3 -
قال ابن زيد: ({ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال: أريحا) - والمراد بيت المقدس.
4 -
وقيل: إن {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} ، دمشق وفلسطين وبعض الأرْدن. ذكره ابن جرير، ثم روى عن مجاهد:({الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} قال: المباركة).
قال ابن كثير: (قال تعالى مخبرًا عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس، الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب، لما ارتحل هو وبَنُوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى، فوجدوا فيها قومًا من العمالقة الجبارين، قد استحوَذُوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول الله موسى عليه السلام بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبَشَّرهم بالنصرة والظَّفَر عليهم، فنكَلُوا وعَصَوا وخالفوا أمره، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سَيْرهم حائرين، لا يدرون كيف يتوجَّهونَ فيه إلى مَقْصِدٍ مُدّةَ أربعين سنة، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى، فقال تعالى مُخبرًا عن موسى أنه قال: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} أي: المُطَهَّرَة).
وقوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} .
قال القرطبي: (أي فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم). والقصود أنَّ الله سبحانه قد وعدهم دخولها على لسان أبيهم إسرائيل أنه وراثةُ من آمن منكم.
وقوله: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ}
تحذير لهم من تضييع الجهاد وتركه والركون إلى الدنيا. ولذلك قال: {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} .
فاعتذروا عن الدخول والقتال بقولهم إن فيها رجالًا عمالقة ذوي خِلَق هائلة وقوى شديدة: {قَالوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} . يريدون بذلك أن لا طاقة لهم على الصمود أمامهم ولا مصاولتهم، فإن خرجوا دخلوها آمنين مستقرين. فلما نكلَ بنو إسرائيل عن طاعة الله ورسوله
موسى صلى الله عليه وسلم: {قَال رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
أي حثّهم على الجهاد رجلان صالحان منهم ممن يخاف بأس الله وعقابه، قد أنعم الله عليهما بالإيمان واليقين والصلاح، فأشارا إلى بني إسرائيل أن لا يهولَنَّكُم عظم أجسامهم فقلوبهم مُلئت رُعبًا وحرصًا على الدنيا، فالأجسام عظيمة والقلوب خاوية ضعيفة، وهذا شأن الكفار على مدار الزمان، فثقوا بالله وأقدموا، وقد وعد الله المؤمنين المتوكلين عليه النصر والظفر.
فأجابوا مرّة أخرى بالجبن والخوف، وبالموقف المخزي في تاريخهم مع موسى عليه السلام الذين قاسى منهم الكثير، ومن ضعف إيمانهم وتردد قلوبهم وظهور النفاق الذي تكشفه الشدائد:{قَالوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} .
ومن هنا تدرك أفضلية هذه الأمة - أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم عُرضت عليها الشدائد كما عرضت على بني إسرائيل قبلها، فأجابوا بقوة الدين والصدق عند اللقاء، النابع من علو الثقة بالله ونصره:(والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون). فإلى استعراض هذه الصفحات المشرقة والمواقف المشرفة من تاريخ هذه الأمة:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان (1) قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغُمَاد لفعلنا، قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا](2).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح عن أنس: [أن
(1) يبدو أن هذه هي المشاورة الأولى في المدينة قبل الخروج إلى بدر، شاور فيها كبار أصحابه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1779) - كتاب الجهاد والسير. وانظر كتابي: السيرة النبوية (1/ 531). وبرك الغماد: موضع بعيد باليمن، وقيل بل هي مدينة بالحبشة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار عليه عُمر، ثم استشارهم فقالت الأنصار: يا معشرَ الأنصار، إياكم يريدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: إذن لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْتَ أكبادها إلى بَرْكِ الغُمَاد لاتبعناك] (1).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والبخاري - واللفظ لأحمد - عن طارق بن شهاب قال: قال عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه: [لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبَه أحبُّ إليّ مما عُدِلَ به: أتى رسول الله وهو يدعو على المشركين، فقال: والله - يا رسول الله - لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يَسارك، ومن بين يديك ومن خلفِكَ. فرأيت وَجْهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشْرِقُ لذلك، وسَرَّه بذلك](2).
الحديث الرابع: يروي ابن إسحاق بسند صحيح إلى ابن عباس، وكذلك الطبراني بسند حسن، وبنحوه البيهقي وأحمد في خبر أحداث بدر، يقول ابن عباس رضي الله عنهما:[وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم، فاستشار الناس (3)، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقدادُ بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغُمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تَبْلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، ودعا له به](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 105)، (3/ 188)، والنسائي في "التفسير"(161).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 389 - 390)، وانظر صحيح البخاري (3952)، (4609)، بلفظ قريب، وكذلك ما أخرجه النسائي في "التفسير"(160).
(3)
وهذه هي الاستشارة الثانية من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بدر، وكانت قبل بدء المعركة.
(4)
حديث صحيح. انظر سيرة ابن هشام (1/ 614 - 615) بإسناد صحيح، فقد صرح ابن إسحاق بالسماع. وأخرجه الطبراني بسند حسن. انظر تفصيل الروايات في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 530 - 541).
وقوله تعالى: {قَال رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
قال ابن عباس: (يقول: اقض بيني وبينهم). وقال السدي: (غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، فدعا عليهم فقال: {قَال رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}).
والمعنى: لقد غضب موسى عليه الصلاة والسلام حين أظهروا الخوار والضعف وعدم الأهلية لحمل الأمانة وراية الجهاد، فقال داعيًا: رب إني لا أقدر على أحد أن أحمله على أمرك لقتال عدوك إلا نفسي وأخي، فافصل بيننا وبين هؤلاء القوم الخارجين عن طاعتك بما تحب وترضى لهم. فأجابه الله سبحانه:
{قَال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} . أي: قضى الله عليهم أن حرَّم عليهم - حين أبوا حَرْب الجبارين - دخول مدينتهم أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه، وقيل هنا حصل لهم من الخوارق العجيبة: كتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وإخراج الماء الجاري من صخرة صماء تُحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينًا تجري لكل شَعْبٍ عين، والله تعالى أعلم.
وأصل التِّيه في لغة العرب الحَيرة، يقال: تاه يتيه إذا تَحَيَّرَ، والأرض التَّيْهاء هي الأرض التي لا يُهتدى فيها، فكانت عقوبة من الله لبني إسرائيل مقابل نكولهم عن الجهاد وركونهم إلى الدنيا والشهوات، أن حرّم عليهم دخول مدينتهم أربعين سنة يتيهون، ثم فتحها عليهم وأسكنهموها وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد انقضاء الأربعين سنة وخروجهم من التيه.
وعن السدي: (لما ضُرب عليهم التّيه، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما ندم أوحى الله إليه: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، لا تحزن على القوم الذين سمّيتهم فاسقين، فلم يحزن).
وهذه الآيات تحمل الدرس البليغ لهذه الأمة أَنَّ تركها الجهاد هو تشبه منها بأمة يهود التي حلّ بها غضب الله سبحانه وعقوبته، عندما جبنوا عن لقاء عدوهم، وخافوا على دنياهم، فالجهاد عِزُّ المسلمين وشوكتهم إلى يوم القيامة.
أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند صحيح عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عليكم
بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فإنه باب من أبواب الجَنَّة، يُذهِبُ الله به الهَمَّ والغَمِّ] (1).
27 -
31. قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَال لَأَقْتُلَنَّكَ قَال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَال يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}.
في هذه الآياتِ: بيان ما يؤول إليه البغي والحسد، ويوقع الإنسان في شباك الندم، وبيان مرتبة التقوى والصلاح وما تؤول إليه من القبول عند الله، وبيان أثر إحداث المعصية في الأرض وما يؤول إليه من تراكم الآثام على محدث الذَّنْب الأول. كل ذلك يرد في قصة ابن آدم القاتل الأول مع أخيه التقي المقتول.
فقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} .
أي: اتل يا محمد على هؤلاء المكرة اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم، وعلى أشباههم من الظلمة، وعلى أصحابك كذلك خبرَ ابني آدم - قابيل وهابيل -، وعرِّفهم بذلك ما يعقب الظلم من وخيم العاقبة وسوء المنقلب. وقوله:{بِالْحَقِّ} أي على اليقين الذي لا يشوبه لبس أو كذب.
وقوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} .
قال ابن كثير: (وكان من خبرهما، فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى كان قد شرع لآدم عليه السلام أن يَزَوِّجَ بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "الأوسط". من طريق أبي أمامة، والحاكم (2/ 74 - 73) من طريق عبادة بن الصامت. وانظر مسند أحمد (5/ 314) " (5/ 326)، وصحيح الجامع (3942).
قالوا: كان يُولَد له في كل بطن ذكرٌ وأنثى، فكان يزوِّجُ أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيلَ دَمِيمةً، وأخت قابيلَ وضيئةً، فأراد أن يستأثِر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقرِّبا قربانًا، فمن تُقُبِّلَ منه فهي له، فقرَّبا فَتُقُبِّلَ من هابيل ولم يُتَقَبَّل من قابيل، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه).
وقوله: {قَال لَأَقْتُلَنَّكَ قَال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} .
قال قتادة: (ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل، فكان صاحب ماشية، فعمدَ إلى خير ماشيته فتقرَّب بها، فنزلت عليه نار فأكلته - وكان القربان إذا تُقبِّلَ منهم، نزلت عليه نار فأكلته. وإذا رُدَّ عليهم أكلته الطّير والسباع - وأما قابيل، فكان صاحب زرع، فعمد إلى أردأ زرعه فتقرب به، فلم تنزل عليه النار.، فحسد أخاه عند ذلك فقال: للأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين) ذكره ابن جرير.
قال ابن عباس: (ما أنا بمنتصر، ولأمسكنَّ يدي عنك). وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: ايم الله، إن كان المقتول لأَشَدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسط إلى أخيه) (1). والتحرج: الورع.
وقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالمِينَ} . أي: أخاف في بسط يدي إليك لقتلك مالكَ الخلائق كلها عقوبته.
وقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .
قال ابن عباس: (إثم قتلي، إلى إثمك الذي في عنقك).
وقال قتادة: (يقول: بقتلك إياي، وإثمك قبل ذلك).
وقال مجاهد: (إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء بهما جميعًا).
وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
قال مجاهد: ({فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ}: شجعته على قتل أخيه).
(1) ذكره الطبري في التفسير بإسناده إلى عبد الله بن عمرو. انظر تفسير الطبري (11730).
وقال قتادة: (زينت له نفسه قتل أخيه فقَتله).
وأصل "طوّعت" من الطوع: وهو الانقياد. أي آتته نفسه وساعدته عليه. قيل: قتله بحديدة في يده، وقيل بل وجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
أي في الدنيا والآخرة، فقد وقع في شباك ذنبه فلا رجوع ولا استئناف، إذ ترك نفسه للشيطان فتسلَّط عليها حتى أوقعه.
وفي القصة فوائد كثيرة أخبرنا بها نبيِّنا صلى الله عليه وسلم:
الفائدة الأولى: تحريم التقاء المسلمين بالسلاح.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا تواجَهَ المسلمان بسيفيهما، فانقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه](1).
الفائدة الثانية: اعتزال الفتن وعدم المشاركة فيها.
فقد أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن بينَ يدي الساعةِ فِتَنًا كَقِطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، القاعدُ فيها خير من القائم، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، فكسروا قسيكم، وقَطعوا أوتاركُمْ، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخِل - يعني: على أحد منكم - فليكن كخير ابْنَي آدم](2).
وفي مسند الإمام أحمد عن بُسر بن سعيد، أن سَعْدَ بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة، القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي. قال: أفرأيت إن دَخَلَ عليَّ بيتي
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (31)، (7083)، وأخرجه مسلم برقم (2888)، ورواه أحمد في المسند (7/ 46)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3582) - باب في النهي عن السعي في الفتنة، وسنن ابن ماجة (3961). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
فبسط يده إلي ليقتلني؟ ! قال: كن كابن آدم] (1). ورواه أبو داود من طريقه عن يزيد بن خالد الرملي عن المفَضَّل عن عيّاش بن عباس عن بُكير عن بُسر. وقال فيه: [وتلا يزيد: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالمِينَ}].
الفائدة الثالثة: لزوم الصبر عند اختلاط الأمور، وبيت الرجل خير له من مشاهدة الفتن، والتماس التقوى والعمل الصالح للنجاة.
أخرج أبو داود وابن ماجة عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: كيف أنت إذا أصاب الناسَ موتٌ يكون البيت فيه بالوصيف - وفي لفظ: بالعَبْدِ: يعني القبر -؟ قلت: الله ورسوله أعلم، أو قال: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بالصَّبْر. أو قال: تَصْبر. ثم قال لي: يا أبا ذر! قلت: لبيك وسعديك، قال: كيف أنت إذا رأيت أحْجار الزيت (2)، قد غرقت بالدم؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بمن أنت منه. قلت: يا رسول الله أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القومَ إذنْ. قلت: فما تأمرني؟ قال: تَلْزمُ بيتك. قلت: فإن دُخِلَ على بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يَبْهَرَكَ شعاعُ السيف، فألقِ ثوبك على وجهك، يبوءُ بإثمك وإثمه] (3).
وأخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن بين أيديكم فِتنًا كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم](4).
وفيه من حديث المقداد بن الأسود قال: ايم الله! لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 185)، والترمذي في الجامع (2195)، وقال: حديث حسن، بل هو صحيح لكثرة شواهده، وانظر للرواية بعده سنن أبي داود (4257)، وكذلك مسند أحمد (1/ 168 - 169). وصحيح أبي داود (3381) - باب النهي عن السعي في الفتنة. ولبعضها شواهد في صحيح الإمام مسلم.
(2)
موضع في الحرة - خارج المدينة المنورة -، أحجاره فيها لمعان.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4261) - الباب السابق. انظر صحيح أبي داود (3583)، وصحيح ابن ماجة (3197)، باب التثبت في الفتنة. والوصيف: القبر. والمعنى: يكون العبد قيمة للقبر بسبب كثرة الأموات، أو يباع البيت بالعبد لقلة من يسكنه من كثرة الموت.
(4)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4262)، وانظر صحيح أبي داود - حديث (3584).
[إن السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَن، إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبَرَ فواهًا](1).
الفائدة الرابعة: تعلّق الآثام بمحدثها ومن سنّ أمرها.
فهذا ابن آدم الأول القاتل يتحمل تبعة كل قتل ظلم في الأرض إلى يوم القيامة.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن مسروق، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دَمِها؛ لأنه أَوَّل من سَنَّ القتل](2).
وفي لفظ: [ليس من نفس تُقْتَلُ ظُلْمًا إلا كان على ابن آدَمَ الأول كِفْلٌ منها - وفي رواية: من دمها - لأنه سنَّ القتل أولًا].
وفي صحيح مسلم من حديث المنذر بن جرير، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجْرُها، وأجْرُ من عَمِلَ بها بعدَه، من غيرِ أن ينقُصَ من أجورهم شيءٌ، ومنْ سَنَّ في الإسلام سنَّةً سيئة، كان عليه وزْرُها وَوزْرُ من عمِلَ بها من بعدِه، مِنْ غَير أن يَنْقُصَ من أوزارهم شيءٌ](3).
قال السدي: (لما مات الغلام تركه بالعراء، ولا يعلم كيف يُدفن، فبعث الله غرابين أخَوين، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثا عليه).
وقال ابن عباس: (جاء غراب إلى غراب مَيت، فبحث عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4263)، وإسناده صحيح على شرط مسلم. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (975).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3335) - كتاب أحاديث الأنبياء، وكذلك (7321) للرواية الثانية، وأخرجه مسلم (1677)، والترمذي (2673)، وأحمد (1/ 382)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1017) - كتاب الزكاة، وكذلك في كتاب العلم، ورواه أكثر أهل السنن. من حديث المنذر بن جرير عن أبيه مرفوعًا.
وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} .
قال القرطبي: (حيث رأى إكرام الله هابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة. وقيل: إنما ندمه كان على فقده لا على قتله، وإن كان فلم يكن موفيًا شروطه. أو ندم ولم يستمر ندمه).
قال ابن عباس: (ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه).
قلت: ويؤيد هذا ما أخرج الطبراني عن أبي سعيد الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الندم توبة، والتائب من الذَّنْبَ كمن لا ذنب له](1).
فلو استوفى العبد لشروط التوبة - وأهمها الندم على ما وقع منه يعقبه الاستغفار والعزم على ألا يعود، تاب الله عليه وقبل منه.
32 -
34. قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}.
في هذه الآياتِ: تشريع القصاص على بني إسىرائيل من أثر جناية ابن آدم القاتل ظلمًا، وَبِأَنَّ سَفْكَ دَمٍ ظلمًا هو بمثابة سفك للدماء وانتشار للفساد والهرج في الأرض إن لم يُردع بحد القصاص، فحياة النفس هي حياة للنفوس جميعًا، ثم في الآياتِ تشريع حد المحاربة والإفساد في الأرض: القتل والصلب وقطع اليد والرِّجل من خلاف
(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في الحلية. انظر صحيح الجامع (6679).
أو النفي من الأرض حسب المصلحة التي يراها الحاكم المسلم خزيًا ورعًا للمفسدين، ثم من لم يتب فينتظره في الآخر عذاب عظيم.
فقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} .
أي: من جريرة وجناية القاتل الأول من ولد آدم أخاه ظلمًا وعدوانًا.
وقوله: ({كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} - أي شرعنا القصاص لهم.
قال الضحاك: ({مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا).
فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: من قتل نبيًّا أو إمامًا عادلًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شدّ على عضد نبي أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا.
قال ابن عباس: (من شدّ على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا).
وقال: (يقول: من قتل نفسًا واحدة حَرّمْتُها، فهو مثل من قتل الناس جميعًا، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مخافتي، واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعًا، يعني بذلك الأنبياء).
التأويل الثاني: من قتل نفسًا ظلمًا فكأنه ققل الناس جميعًا عند المقتول في الإثم، والعكس بالعكس.
يروي ابن جرير بسنده عن مرّة الهمداني، عن عبد الله، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}، عند المقتول، يقول في الإثم، {وَمَنْ أَحْيَاهَا}، فاستنقذها من هلكة، {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، عند المستنقَذ).
التأويل الثالث: قاتل النفس ظلمًا يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا.
قال مجاهد: (لو قتل الناس جميعًا، كان جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه
ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا). وقال: (يصير إلى جهنم بقتل المؤمن، كما أنه لو قتل الناس جميعًا لصار إلى جهنم). وقال: (من لم يقتل أحدًا فقد استراح الناس منه).
التأويل الرابع: القصاص الواجب على القاتل للنفس ظلمًا مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعًا.
قال ابن زيد: (يجب عليه من القتل مثلُ لو أنه قتل الناس جميعًا).
وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} . أي: من عفا عمن وجب له القِصاص منه فلم يقتله.
قال الحسن: (مَنْ قُتِلَ حَميمٌ له فعفا عن دمه).
التأويل الخامس: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} - أي من أنجاها من غرق أو حرق.
قال مجاهد: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} قال: من أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ أو هَلَكة). أو قال: (من غَرَقٍ أو حَرَقٍ أو هَدَمٍ).
وقال الضحاك: (لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس، فلم يستحلّ محرمًا).
قلت: وكلها تدل على آفاق المعنى، وتزيد في بيان أبعاده ومعانيه.
وإن كان الأظهر منها - كما قال سعيد بن جبير: (من استحل دم مسلم فكأنما استحلّ دماء الناس جميعًا، ومن حَرَّم دمَ مسلم فكأنما حَرّم دماء الناس جميعًا).
ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: [المسلمون تتكافأ دماؤهم].
فقد أخرج أبو داود وابن ماجة بسند حسن عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المُسلمون تتكافأ دماؤهم: يسعى بذمَّتِهم أدناهم، ويجير عَليهم أقصاهم، وهم يَدٌ على من سواهم، يَرُد مُشِدُّهُمْ على مُضْعِفِهم، ومُتَسرعهم على قاعِدهم، لا يُقْتَلُ مؤمن بكافر، ولا ذو عَهْد في عهده](1).
وذكر ابن جرير بإسناده عن سليمان بن علي الربعي قال: (قلت للحسن: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية، أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا).
(1) حديث حسن صحيح. أخرجه أبو دواد في السنن من حديث عبد الله بن عمرو. انظر صحيح أبي داود (2390) - كتاب الجهاد - باب في السرية. ورواه ابن ماجة (2683).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي من حديث عثمان، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال:[لا يحل دمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاثٍ: رجل زنى بعدَ إحصان، أو ارتد بعد إسسلام، أو قتل نفسًا بغير حق، فيقتل به](1).
وأصله في الصحيحين والمسند والسنن من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: النفس بالنفس، والثيِّبُ الزاني، والمفارق لدينه التاركُ للجماعة](2).
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} .
أي بالآيات الواضحات، والأدلة والحجج والبراهين القاطعات.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} .
يعني اليهود من بني إسرائيل كما ذكر ابن جرير.
قال ابن كثير: (وهذا تقريع لهم وتوبيخٌ على ارتكابهم المحارِمَ بعد عِلْمِهم بها، كما كانت بنو قُرَيظَةَ والنَّضير وغيرهم من بني قَينُقاع ممن حَوْل المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فَدَوا من أسروه، وَوَدَوا من قتلوه).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا
(1) حديث صحيح. ورواه أحمد والنسائي من حديث عائشة كذلك. انظر صحيح الجامع (7517).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6878) - كتاب الديات. وأخرجه مسلم برقم - (1676) - كتاب القسامة والمحاربين، باب ما يباح به دم المسلم، وأخرجه أحمد وأهل السنن. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7519).
أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}. فيه سببان للنزول:
السبب الأول:
أخرج أبو داود بسند صحيح عن أنس بن مالك - في حديث العرنيين - قال فيه: [فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في طلبهم قافَة (1)، فأتى بهم، قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الآية](2).
وأصله في الصحيحين من حديث أنس بن مالك: [أن نفرًا من عُكْلٍ ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا المدينة، وسَقِمت أجسامُهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟ فقالوا: بلى، فخرجوا، فشربو من أبوالها وألبانها، فَصَحُّوا، فقتلوا الراعِيَ وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم، فأُدْرِكوا، فجيء بهم، فَأَمر بهم فقطْعت أيديهم وأرجلهم، وسُمِرت أعينهم، ثم نُبِذُوا في الشمس حتى ماتوا](3). وفي لفظ لهما: [من عُكل أو عُرينة]. وفي لفظ عند البخاري وأبي داود:
قال أبو قلابة: (فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إِيمانهم، وحاربوا الله ورسوله).
وقال أنس: (فلقد رأيت أحدهم يَكْدِمُ الأرض بفيه عطشًا حتى ماتوا).
وفي لفظ لمسلم والنسائي عن أنس قال: (إنما سَمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك، لأنهم سَملوأ أعين الرعاة)(4). وفي لفظ لأبي داود عن ابن عمر قال: (ونزلت فيهم آية المحاربة).
وقوله: (سمل أعينهم): أي فاقأ أعينهم بمسمار أو حديدة محماة. وثبت في صحيح البخاري: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم[أمر بمسامير فأحميت فكَحلهم].
(1) القائف: الذي يعرف الآثار، والجمع: القافَة. يقال: قافَ أثره إذا تبعه، مثل قفا أثره.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4366)، انظر صحيح سنن أبي داود (3670) - باب في المحاربة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (233) و (1501)، (4192)، وأخرجه مسلم (1671)، وأبو داود (4364)، والنسائي (7/ 94)، وأحمد (3/ 198)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (3773)، ورواه مسلم. وانظر لرواية ابن عمر بعدها - حديث رقم - (3674) من صحيح أبي داود.
السبب الثاني:
أخرج أبو داود والنسائي واللفط للنسائي عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية قال: [نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يُقدر عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست هذه الآية للرجل المسلم، فمن قتل وأفسد في الأرض، وحارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يُقام فيه الحَدُّ الذي أصاب](1).
والمحاربة: هي المضادّة والمخالفة. قال ابن كثير: (وهي صادِقَةٌ على الكفر، وعلى قَطْعِ الطويق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يُطلق على أنواع من الشر). وقد جاء في تفسيرها أقوال متقاربة ومتكاملة:
1 -
قال قتادة وعطاء: (هذا اللص الذي يقطع الطريق، فهو محارب) - وهو قول الأوزاعي.
2 -
قال الوليد بن مسلم: وأخبرني مالك: (أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة). قلت: وما قتل الغيلَة؟ قال: (هو الرجل يخدَع الرجلَ والصبيَّ فيدخِله بيتًا أو يخلو به، فيقتله، ويأخذ ماله. فالإمام وليّ قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قَوَد ولا قصاص). وهو قول الشافعي.
3 -
قال مجاهد: (الزنا، والسرقة، وقتل الناس، وإهلاك الحرث والنسل).
4 -
قال أبو حنيفة: (لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لِبُعده ممن يُغِيثُه ويُعينه).
قلت: والراجح أن الحرابة هي خروج طائفة مسلمة في دار الإسلام، لإحداث الفوضى، وسفك الدماء وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل، متحدِّية بذلك الدين والأخلاق والنظام والقانون (2).
يبدو أن الأمر للتخيير، وهو يرجع إلى قرار الحاكم المسلم، وبه قال الإمام مالك.
(1) صحيح الإسناد. انظر صحيح سنن النسائي (3776)، وصحيح سنن أبي داود (3675).
(2)
انظر فقه السنة (2/ 393)، وكتاب "الوجيز" ص (444) في حدّ الحرابة.
قال ابن عباس: (من شهر السلاح في قبّة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظُفِرَ به وقُدِر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله). وقال الحسن: (ذلك إلى الإمام).
قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا التخيير. فقد أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يحِلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربًا لله ورسوله، فإنه يقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسًا فيقتل بها](1).
وقد وَرَدَتْ "أو" في موضع التخيير كثيرًا من القرآن، من ذلك:
1 -
في جزاء الصيد. قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ....... } [المائدة: 95].
2 -
في كفارة الفدية. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
…
} [البقرة: 196].
3 -
في كفارة اليمين. قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
…
} [المائدة: 89].
واختلف الفقهاء هل يُصَلَّبُ حيًّا ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب أو يُقتل ثم يُصَلّب تنكيلًا وتشديدًا وعبرة لغيره من المفسدين. والذي يبدو لي أنه راجع إلى قرار الحاكم من خلال رؤيته لطبيعة إفساده أو مماثلته بصنيع مثل صنيعه - والله تعالى أعلم.
وأما النفي من الأرض فيه أقوال:
1 -
قال ابن عباس: (نفيُه أن يطلب). وقال الزهري: (نفيه أن يُطلب فلا يقدر عليه، كلما سُمِعَ به في أرض طُلِبَ).
2 -
قال سعيد بن جبير: (من أخاف سبيل المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن من حديث عائشة. انظر صحيح سنن أبي داود (3659) - كتاب الحدود - باب الحكم فيمن ارتد. وصحيح النسائي (4418).
الله جل وعز: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ). وقال الضحاك: (إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام).
3 -
وقيل: (النفي من الأرض هنا الحبس) - وهو قول أبي حنيفة.
قال ابن جرير: (هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبْسُه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصية ربِّه).
قلت: وكل ما سبق محتمل، والقرار في اختيار الشكل يعود للحاكم.
وقوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} .
أي هو لهؤلاء المحاربين شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، فإن لم يتوبوا كان ينتظرهم عذاب أشد خزيًا في نار جهنم.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
هذه الآية تؤيد أن المحاربة هي من خروج طائفة مسلمة في دار الإسلام لإحداث الفوضى من سفكٍ للدماء أو سلبٍ للأموال، أو هَتْكٍ للأعراض، أو غير ذلك على ما سبق بيانه. قال القرطبي:(ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحوالهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة. والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا يُنفى ولا تُقطع يده ولا رجله ولا يخلّى سبيله بل يقتل إن لم يُسلم، ولا يصلب أيضًا).
وقال القاسمي: (دلَّ قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} على أن توبة المحاربين قبل الظفر بهم تسقط عنهم حد المحاربين المذكور في الآية. سواء كانوا مشركين أو مسلمين).
وقال ابن كثير: (أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك، فظاهر). أي: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة. فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مالٍ أو دم. قال:(وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القَتْل والصَّلْب وقطع الرجل، وهل يسقط قطعُ اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة).
قال القرطبي: (استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه
عنهم بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط).
وفي مذهب الشافعي أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصًا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
قلت: وهذا هو الراجح، فالحدود كفارات لأهلها وتبقى حقوق الآدميين.
أخرج الإمام البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. قال: فبايعناه على ذلك](1).
35 -
37. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}.
في هذه الآياتِ: أَمْرٌ من الله سبحانه المؤمنين بلزوم طاعته والخوف منه والتقرب إليه بالتقوى والعمل الصالح والجهاد، وإخبار منه جل ذكره عن خزي موقف الكفار يوم القيامة وهم يتمنون كل ما في الدنيا وأمثاله لو كان لديهم ليفتدوا به من عذاب جهنم وما الله بقابل ذلك، وقد قضى عليهم لزوم عذاب السعير وبئس المصير.
وقوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . يعني القربة.
(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (3892) - كتاب مناقب الأنصار. وكتابي: السيرة النبوية (1/ 402) لتفصيل هذه البيعة.
وفي لغة العرب: توسلت إلى فلان بكذا، أي تقربت منه. وأقوال المفسرين على ذلك:
1 -
قال عطاء: ({وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، قال: القربة). وقال أبو وائل: (القربة في الأعمال).
2 -
وقال قتادة: (أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه).
3 -
وعن السدي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ، قال: فهي المسألة والقربة).
4 -
وقال ابن زيد: (المحبّة، تحبّبوا إلى الله. وقرأ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}).
والوسيلة أيضًا هي منزلة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، جاءت الأحاديث الصحيحة تحث المؤمنين أن يسألوها لنبيّهم، لتنالهم شفاعته بإذن ربهم.
الحديث الأول: أخرج البخاري وأحمد وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قال حين يَسْمَعُ النداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة، والصلاةِ القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، إلا حَلَّت له الشفاعة يوم القيامة](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم وأحمد وأكثر أهل السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يَقول، ثم صَلُّوا عليَّ، فإنه مَنْ صَلَّى عليَّ صلاةً صلّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجَنَّة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حَلَّت عليه الشفاعة] (2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي سعيد، عن
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (614)، وأبو داود (529)، والترمذي (211)، والنسائي (2/ 26)، (2/ 28)، وابن ماجة (722)، وأخرجه أحمد (3/ 354).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (384)، وأبو داود (523)، والترمذي (3614)، والنسائي (2/ 25)، وأخرجه أحمد (2/ 168)، والبيهقي (1/ 410)، وغيرهم.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الوسيلة درجة عند الله، ليس فوقَها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة](1).
وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} .
أي: جاهدوا أيها المؤمنون أعداء الله الذين يحادون الله ورسوله، والذين يعادون دينه وشرعه ويحولون دون ظهوره على الدين كله، لعلكم تبلغون فلاح الدنيا وفلاح الآخرة.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم وألسنتكم](2).
أخرج البخاري ومسلم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يقول الله لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أنَّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تُشرك بي].
وفي لفظ آخر: [يقول الله لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: يا ابن آدم! كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال له: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: كذبت، قد أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب (وفي رواية: ظهر) آدم، أن لا تشرك بي شيئًا ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك، فيؤمر به إلى النار](3).
وفي التنزيل: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . [الحج: 22].
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي سعيد بسند صحيح. انظر صحيح الجامع (7028)، وكذلك صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو (2/ 4).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2504). انظر صحيح أبي داود (2186). ورواه أحمد ورواه النسائي وابن حبان والحاكم. انظر صحيح الجامع (3085).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. انظر مختصر صحيح مسلم (1905)، وصحيح البخاري (3334)، ومسند أحمد (3/ 127).
وكذلك قوله جلت عظمته: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 20].
فلا مندوحة للكافر عن العذاب يوم القيامة ولا محيص له ولا مناص، فقد قضى الله تعالى ليملأن جهنم من المشركين والمجرمين، وأنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به، وأَنَّ ذَهَبَ الأرض وكنوزها لا تنفع أحدًا منهم يوم الحساب.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} .
أي عذاب دائم مستمر ثابت لا يزول عنهم ولا يتحول، هو للذين كفروا بربهم يوم القيامة.
يروي ابن جرير بسنده عن عكرمة: أنَّ نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُمُ أن قومًا يخرجون من النار، وقد قال الله جل وعز:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} ؟ فقال ابن عباس: (ويحك، اقرأ ما فوقها! هذه للكفار).
وفي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حُجْزَتِه، ومنهم من تأخذه النار إلى تَرْقُوَته](1).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما بين منكبي الكافر في النار مسيرةُ ثلاثة أيام للراكب المسرع](2).
38 -
في هذه الآياتِ: تشريع قطع يد السارق، وأنَّ الله يقبل توبته بعد سرقته إذا أناب
(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح من حديث سمرة. انظر تفصيل الروايات في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 766). وانظر مختصر صحيح مسلم (1903).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 154)، من حديث أبي هريرة مرفوعًا. وانظر مختصر صحيح مسلم (1983)، وله شاهد عند الترمذي. انظر صحيح الجامع (2110).
إلى الله وأصلح، وأن الله له ملك كل شيء وهو الحكم وإليه المرجع في كل تشريع وفي كل أمر، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وهو على كل شيء قدير.
السرقة: هي أخذ مال الغير على وجه الخفية والاستتار، وهي من الكبائر، وحدّها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وأما السنة ففيها أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لَعَنَ الله السارقَ، يَسرِقُ البيضة فَتُقطعُ يده، ويسرِقُ الحَبْلَ فتقطع يده](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا تُقطعُ يد السارق إلا في رُبع دينار فصاعدًا](3).
فقه الأحاديث والمسألة:
1 -
قال ابن المنذر: (وأجمعوا على أن قطع يد السارق يجب إذا شهد عليه بالسرقة شاهدان عدلان، مسلمان حرّان)(4).
فإذا سرق البالغ العاقل مختارًا فقد وجب عليه الحدُّ بإقراره أو بشهادة عدلين.
2 -
ويشترط أن يبلغ المسروق نصابًا، وأن يكون محروزًا.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6795)، (6798)، ومسلم (1686)، وأحمد (2/ 54).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6799)(6783)، ومسلم (1687)، وأحمد (2/ 253).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6789)، ومسلم (1684)، وأبو داود (4362)، وغيرهم.
(4)
انظر الإجماع (621/ 140)، وانظر كتاب:"الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز" ص (443).
قال ابن المنذر: (وأجمعوا أن القطع إنما يجب على من سرق ما يجب فيه قطعٌ من الحرز)(1)،
والحرز هو ما يُصَانُ في مثله المال ويحفظُ، كالدار المغلقة، والخزانة، والمحل المغلق، ونحو ذلك.
قال صاحب "الروضة الندية"(2/ 277): (والحرز ما يعدُه الناس حرزًا لمثل ذلك المال، فالمتبن حرزٌ للتبن، والاصطبل للدواب، والمراح للغنم، والجرين للثمار).
والجرين: مثل البيدر للقمح، يجفف فيه التمر.
أخرج أبو داود بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّه سُئِل عن الثَمر المعلق فقال: [من أصابَ بفِيهِ مِن ذي حاجَة، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَة، فلا شيء عليه، ومَنْ خَرَجَ بشيء منه فَعَلَيْه غَرامَةُ مِثْلَيْهِ (2) والعقوبة، ومَنْ سَرَقَ منه شيئًا بعد أن يؤوِيَه الجَرينُ فبلغ ثمن المجنِّ فعليه القطع](3). والمجن: الترس.
3 -
وللمسروق منه أن يعفو عن السارق قبل رفعه إلى السلطان.
فقد أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن صفوان بن أمية قال: [كنت نائمًا في المسجد عَليَّ خميصة لي ثمنُ ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخذ الرجلُ فأَتي به رسول الله فأُمِر به ليُقطَعَ. قال: فأتيتهُ، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟ قال: فهلّا كان هذا قبل أن تأتيني به](4).
وفي سنن النسائي وأبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [تعافَوا الحدودَ فيما بينكم، فما بلغني من حَدٍّ فقد وجب](5).
4 -
حكم تكرر السرقة من السارق.
قال صاحب "الروضة الندية"(2/ 279): (اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق
(1) انظر الإجماع (615/ 139)، والمرجع السابق ص (443).
(2)
وفي رواية: (ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة).
(3)
حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم (3689) - باب ما لا قطع فيه.
(4)
حديث صحيح. أخرجد أبو داود في السنن (4394). انظر صحيح أبي داود (3693). وانظر صحيح سنن ابن ماجة (2103) - باب من سرق من الحرز.
(5)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (3680) - باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان، وانظر سنن النسائي (4885)، (4886)، وصحيح سنن النسائي (4538)، (4539).
أول مرة تقطع يده اليمنى، ثم إذا سرق ثانيًا تقطع رجله اليسرى، واختلفوا فيما إذا سرق ثالثًا بعد قطع يده ورجله، فذهب أكثرهم إلى أن تقطع يده اليسرى- قلت: قد صحّ هذا عن أبي بكر وعمر عند البيهقي (8/ 284) - ثم إذا سرق أيضًا تقطع رجله اليمنى، ثم إذا سرق أيضًا يعزّر ويحبس).
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} .
قال قتادة: (لا تَرْثوا لهم أن تقيموا فيهم الحدود، فإنه والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ قطُ إلا وهو فساد).
وقوله: {نَكَالًا} .
أي: تنكيلًا من الله بهما مقابل ما اقترفاه. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي: في انتقامه من السارق والسارقة وأهل المعاصي والآثام. {حَكِيمٌ} في تشريعه وحكمه وقضائه.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} .
أي: من أناب إلى الله وتاب من هذا الصنيع وأصلح نفسه وزكاها بطاعة الله فإن الله يتوب عليه، ولكن لا بد من ردّ الحقوق إلى أهلها.
أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر: [كانت امرأة مخزومية تَستعِيرُ متاعًا على ألسنة جاراتها وتجحَدُه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها](1).
وفي لفظ آخر: [أن امرأة كانت تستعيرُ الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتتب هذِه المرأة إلى الله ورسوله وتَرُدَّ ما تأخذُ على القوم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قمْ يا بلال فخذ بيدها فاقطعها](2).
ويبدو أن المرأة قد تابت وحسنت توبتها، بعد أن قطعت يدها.
ففي الصحيحين عن عائشة: [أن قُريشًا أهمهم شأنُ المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يُكَلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَنْ يَجْتَرِئ عليه إلا أسامةُ بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَأُتيَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمَهُ فيها أسامة بن زيد، فتَلَوَّنَ وجْه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفعُ في حَدٍّ من حدود الله عز وجل؟ فقال له أسامة:
(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "الكبرى"(7375)، وأبو داود في السنن (4395).
(2)
حديث حسن. أخرجه النسائي في "الكبرى"(7376)، وله شواهد.
استغفِر لي يا رسول الله. فلما كان العَشِيّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختَطَبَ، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريف تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمةَ بنت محمد سَرَقَتْ لقطعتُ يدها. ثم أمر بتلك المرأة التي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يدُها. قالت عائشة: فَحَسُنَتْ توبتُها بعدُ، وتزوَّجت، وكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).
أي: الله سبحانه هو المالك لجميع ما في هذا الكون، وهو الحكم يحكم بين عباده، وشرعه أعلى من كل تشريع، والرحمة والمغفرة أو العذاب بأمره وحكمته، فيغفر لمن يشاء أو يعذب من يشاء، وهو القادر على ذلك لا شريك له.
41 -
44. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4375)، ومسلم (1688)، وأبو داود (4373)، والترمذي (1430)، والنسائي (8/ 73 - 74)، وابن ماجة (2547)، وغيرهم.
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
في هذه الآيات: التقريع على اليهود الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المتحاكمين لأهوائهم وما تعارفوا عليه في أقوامهم، المعرضين بذلك عن حدود الله وتعظيمها.
بيان أسباب النزول:
السبب الأول للنزول:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال: [مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلودًا، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: أَنْشُدُكَ بالله الذي أَنْزَلَ التوراة على موسى! أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كِتابِكُم؟ قال: لا، ولولا أنك نَشَدْتني بهذا لم أخبركَ، نَجِدْهُ الرَّجْمَ، ولكنه كثُرَ في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف، أقَمْنا عليه الحَدّ، قلنا: تَعَالوا فلنَجْتَمِعْ على شيءٍ نُقيمُهُ على الشريف والوَضِيع، فجعلنا التحميم والجَلْدَ مكانَ الرَّجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أَوَّلُ من أَحْيا أَمْرَك إذ أماتوه. فأمَرَ به فَرُجم، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}. يقول: ائتوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فإن أَمَرَكُم بالتحميم والجَلْدِ فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذروا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفار كُلُّهَا](1).
السبب الثاني للنزول:
أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس، قال: [كان قريظة، والنضير، وكان النضيرُ أشرفَ من قريظة، فكان إذا قَتَل رجل من قريظة رجلًا من
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1700) -كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة، في الزنى، وأخرجه أبو داود في السنن (4447)، والنسائي في الكبرى (7218)، ورواه ابن ماجة (2558)، وأحمد (4/ 286).
النضير قُتِلَ به، وإذا قتَلَ رجلٌ من النضير رجلًا من قريظة، فودِيَ بمئة وَسْقٍ من تمر. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، قتلَ رجلٌ من النضير رجلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم، فائتوه، فنزلت:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ، والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} ] (1).
قلت: ولا مانع من اجتماع السببين معًا في نزول الآيات- والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
فيه أقوال يفسر بعضمها بعضًا:
القول الأول: يروي ابن جرير بسنده عن علقمة ومسروق: (أنهما سألا ابنَ مسعود عن الرَّشوة، فقال: مِنَ السُّحت. قال: فقالا: وفي الحُكم؟ قال: ذاك الكفر! ثم تلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}).
القول الثّاني: قار السُّدي: (يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت، فتركَه عمدًا، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين).
القول الثالث: قال ابن عباس: (من جَحَد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرَّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسق).
قلت: والفصل في هذه المسألة أن من ترك التحاكم لشرع الله جحودًا وعنادًا فهو الكفر المخرج من الملة، ومن تركه لشهوة أو ظلم مع إقراره به فهو كفر دون كفر، قال طاووس:(ليس بكفر ينقل عن المِلّة). وقال ابن عباس: (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه). وقال في تفسير الآية: (هي به كفر). وقال عطاء: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق) رواه ابن جرير وقال ابن طاووس: (وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله) ذكره ابن كثير. وقد فضلت في هذه المسألة في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، في بحث توحيد التشريع، فلله الحمد والمنة.
فائدة (1): الحكم بغير ما أنزل الله سبب إلى الفقر.
فقد أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [خمسٌ بخمس:
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4494) - كتاب الديات، باب النفس بالنفس، انظر صحيح أبي داود (3772)، وأخرجه النسائي (8/ 18 - 19)، والحاكم (4/ 366)، والبيهقي (8/ 24).
ما نقض قومٌ العهدَ إلا سُلِّطَ عليهم عدوُّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهمُ الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفَّفُوا المِكيال إلا مُنِعوا النبات، وأُخِذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القَطر] (1).
فائدة (2): ترك الحكام التحاكم لشرع الله هو عقوبة الله للأمة عند استهتارها. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
وفي المسند ومعجم الطبراني بسند صحيح عن عابس الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[بادروا بالأعمال سِتًّا: إمارةَ السفهاء، وكثرةَ الشُّرَط، وبيعَ الحكم، واستخفافًا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوًا يتخذون القرآن مزاميرَ، يقدمون أحدَهم ليغنيهم، وإن كان أقَلَّهم فِقْهًا](2).
45 -
47. قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}.
في هذه الآيات: تأكيد على العدل في القصاص الذي أنكره اليهود وخالفوا كتابهم التوراة وفي نصه: أن النفس بالنفس، أي: تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة، وكذلك: العين بالعين -تفقأ عين المعتدي بالعين المفقوءة- والأنف بالأنف -يجدع الأنف بالأنف- وتقطع الأذن بالأذن، وتقلع السن بالسن، ويقتص من الجارح غَيْرَهُ ظلمًا للمجروح، فمن تصدق به فهو كفارة -للمجروح- وقيل للجارح، ومن ترك
(1) حديث حسن. رواه الطبراني بإسناد حسن. انظر صحيح الجامع الصغير (3235).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 324)(1 - 2)، والحاكم (3/ 443)، وانظر مسند أحمد (3/ 49)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (979).
التحاكم لما أنزل الله كان من الظالمين. وفي الآيات: أن عيسى بن مريم جاء بالإنجيل من عند الله يُصَدّق التوراة في المنهج الذي ارتضاه الله لعباده في العبادة والتحاكم، فمن ترك التحاكم له من النصارى كان من الفاسقين. وتفصيل ذلك:
قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
1 -
يراعى في القصاص اختلاف الدين فلا يقتل مسلم بكافر.
أخرج البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يقتل مسلم بكافر](1).
2 -
لا فرق بين الرجل والمرأة في القصاص.
فقد أخرج النسائي والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: [أن الرجل يُقْتَلُ بالمرأة](2).
وقد مضى قوله عليه السلام: [المسلمون تتكافأ دماؤهم]- أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (3).
3 -
القصاص من حق الحاكم.
قال القرطبي: (لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرضٌ عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وغير ذلك).
وعلة ذلك ما ذكره الصاوي -حاشيته على الجلالين- قال:
(فحيث ثبت أن القتل عمدًا عدوانٌ، وجب على الحاكم الشرعي أن يمكن ولي المقتول من القاتل، فيفعل فيه الحاكم ما يختاره الولي من القتل، أو العفو، أو الدية، ولا يجوز للولي التسلط على القاتل من غير إذن الحاكم، لأن فيه فسادًا وتخريبًا. فإذا قتله قبل إذن الحاكم عُزِّر)(4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (111)، ومسلم (1370)، وأحمد (1/ 81)، وأخرجه أبو داود في السنن (2035)، وغيرهم. من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
حديث حسن. أخرجه النسائي (8/ 57 - 58)، والحاكم (1/ 395)، والبيهقي (1/ 77 - 78).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4531)، وابن ماجة (2659)، وأحمد (2/ 191)، وغيرهم.
(4)
انظر: "فقه السنة"(2/ 453)، وكتاب:"الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز" ص (457).
هذا الحكم وإن كان قد كتب على من قبلنا من أمم أهل الكتاب إلا أنه في التحقيق شرع لنا، وذلك لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم له في أمته.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: [أن الرُّبَيِّع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية، ففرضوا عليهم الأَرْش، فأبوا إلا القصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله تكسر ثنية الربيع! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس كتاب الله القصاص. فرضي القوم وعفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله مَنْ لو أقسم على الله لأبرّه](1).
وشروط القصاص فيما دون النفس:
1 -
تكليف الجاني.
2 -
تعمد الجناية. فالخطأ لا يوجب القصاص في النفس فما دونها أولى.
3 -
تكافؤ دم المجني عليه والجاني. فلا يقتص من مسلم جرح ذميًّا، ولا من حرّ جرح عبدًا، ولا من والد جرح ولدًا.
شروط القصاص في الأطراف:
1 -
إمكان الاستيفاء بلا حيف. بأن يكون القطع من مفصل كالمرفق والكوع.
2 -
المماثلة في الاسم والموضع. فلا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين، ولا خنصر ببنصر.
3 -
استواء طرف الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال. فلا يؤخذ عضو صحيح بعضو أشل، ولا يد صحيحة بيد ناقصة الأصابع، ويجوز العكس.
وأما دية الأعضاء.
إذا أتلف إنسان من آخر عضوًا وجبت الدية كاملة، ولو أتلف أحد زوجي العضو وجب نصف الدية. فتجب الدية كاملة في الأنف، والعينين، وفي العين الواحدة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2703)، والنسائي في "التفسير"(1650)، وابن ماجة (2649). ولفظ مسلم مقارب، انظر صحيح مسلم (1675)، ومسند أحمد (3/ 128)، (3/ 284).
نصفها، وفي أصابع اليدين والرجلين الدية كاملة، وفي كل أصبع عشر من الإبل، وفي الأسنان كامل الدية، وفي كل سن خمس من الإبل.
ففي سنن النسائي والبيهقي بسند صحيح لغيره عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[في الأنف الدية إذا استُوعب جدعُه مئة من الإبل، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي العين خمسون، وفي الآمة ثلث النفس، وفي الجائفة ثلث النفس، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي الموضحة خمس، وفي السنّ خمس، وفي كل أصبع مما هنالك عشر](1).
الآمّة أو المأمومة: هي التي لا يبقى بينها وبين الدماغ إلا جلدة رقيقة. وفيها ثلث الدية.
الجائفة: هي كل ما يصل إلى الجوف: كبطن، وظهر، وصدر، وحلق، ومثانة.
وفيها ثلث الدية أيضًا.
المُنَقِّلَة: هي التي ينقل منها العظم من موضع إلى موضع. وفيها خمس عشرة من الإبل.
المُوضِحة: هي الإصابة التي تبلغ إلى العظم، وفيها خمس من الإبل.
دية المرأة:
دية المرأة إذا قُتِلت خطأ نصف دية الرجل، وكذلك دية أطرافها وجراحاتها على النصف من دية الرجل وجراحاته.
فعن شريح قال: [أتاني عروة البارقي من عند عمر أن جراحات الرجال والنساء تستوي في السن والموضحة، وما فوق ذلك فدية المرأة على النصف من دية الرجل](2).
دية أهل الكتاب:
إن دية أهل الكتاب إذا قتلوا خطأ نصف دية المسلم، فدية الذكر منهم نصف دية المسلم، ودية المرأة من نسائهم نصف دية المرأة المسلمة.
(1) حديث صحيح بشواهده. انظر صحيح سنن النسائي (4513)، والبيهقي (8/ 86).
(2)
إسناده صحيح. انظر: تخريج "الإرواء"(7/ 307)، وانظر كذلك كتاب:"الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز" ص (465).
ففي سنن الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى](1).
وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . أي: مقاصّة.
قال القرطبي: (ولا قصاص في كل مَخُوف ولا فيما لا يُوصَلُ إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص).
وأخرج الترمذي بسند صحيح عن عمران بن حصين: [أنّ رجلًا عضَّ يد رجل فنزع يده فوقعت ثنيتاه فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أخاهُ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ، لا دِيةَ لك". فأنزل الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}](2).
وقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} .
أي: تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي: للمتصدق. وقيل: بل كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة، والقول الأول أظهر وعليه أكثر الصحابة، وهو أحد قولي ابن عباس، والسنة الصحيحة تؤيده:
فقد أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلاّ رفعه الله به درجة وحَطّ عنه به خطيئة](3).
وله شاهد عند النسائي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من رجل يُجْرَح مِن جسده جراحة، فيتصدَّق بها، إلا كفّر الله عنه مثل ما تَصَدَّق به](4).
وشاهد آخر عند أحمد من حديث أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من أصيب بشيء من جسده، فتركه لله، كان كفارة له](5).
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (1434)، وابن ماجة (2644)، والنسائي (8/ 45) نحوه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن من حديث عمران بن حصين. انظر صحيح سنن الترمذي (1144) - أبواب الديات- باب القصاص. وأصله في الصحيحين.
(3)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (1393)، وابن ماجة (2693)، والطبري (12085).
(4)
حديث صحيح. أخرجه النسائي في "التفسير"(166)، وأحمد (5/ 316)، وهو صحيح لشواهده.
(5)
أخرجه أحمد (5/ 412) ح (22983). انظر تخريج أحاديث تفسير ابن كثير- (2665) - المهدي.
قال ابن العربي: (والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل، فلا معنى له)(1).
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
قال طاووس: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق).
والمقصود أن جحود التحاكم إلى الله وإنكاره بالكلية هو الكفر الثاني المخرج من الملة وهو الظلم والفسق الثاني الذي دونه الظلم الأول والفسق الأول.
أي: أتبعنا عيسى بن مريم على آثار النبيين من قبله، وبعثناه بالإنجيل مصدقًا لكتاب موسى من قبل، وفيه هدى للحق، وهو نور لكشف الشبهات والمعضلات وحل المشكلات.
وقوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)} .
قال ابن جرير: (يقول: وزجرًا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال، وتنبيهًا لهم عليه).
وقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} - أَمْرٌ لأهل الإنجيل أن يعظموا الوحي النازل إليهم من ربهم. وقوله {وَلْيَحْكُمْ} فيه قراءتان:
القراءة الأولى: {وَلْيَحْكُمْ} بالنصب- قراءة جماعة من قراء الكوفة. والمعنى: وآتيناه الإنجيل كي يحكنمَ أَهلُهُ بِمَا فيه من حكم الله. أو: وآتيناه الإنجيل ليحكمَ أهل مِلّتِه به في زمانهم.
القراءة الثانية: {وَلْيَحْكُمْ} بتَسْكين اللام- قراءة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. أي: على وجه الأمر. والتقدير: وآتيناه الإنجيل وأمرنا أهله أن يحكموا بما فيه.
وكلاهما قراءتان مشهورتان، ومن ثمّ فإن الآية تحتمل آفاق المعنيين، وهذا من إعجاز هذا الكتاب الكريم.
(1) ذكره القرطبي في التفسير. سورة المائدة- آية (45).
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
قال ابن زيد: (الكاذبون). وقال: (كل شيء في القرآن إلا قليلًا "فاسق" فهو كاذب. وقرأ قول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ}. قال: "الفاسق" هاهنا، كاذب).
قلت: والفسق يشمل أكثر من ذلك، فهو يتضمن جميع أشكال الخروج عن الطاعة وارتكاب المخالفات الشرعية.
قال ابن كثير: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق).
48 -
50. قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (5)}.
في هذه الآيات: ثنَاءٌ من الله سبحانه على القرآن الكريم وَمَدْحٌ له، وَأَمْرٌ منه جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالتحاكم إليه وإقامة منهاجه في الحكم، وتَحْذِيرٌ من الانحراف عنه إلى مناهج أهل الشبهات والشهوات وطريقة الجاهلية.
فقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} . أي: هذا القرآن.
وقوله: {بِالْحَقِّ} . أي: بالصدق واليقين.
وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} . أي: يصدق ما جاء في كتب الله المتقدمة.
وقوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} - فيه أقوال متكاملة:
1 -
عن ابن عباس: (قوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}، يقول: شهيدًا). قال: القرآن شاهد على التوراة والإنجيل، مصدقًا لهما).
وقال السدي: (شهيدًا عليه). وقال قتادة: (أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله).
2 -
قال مجاهد: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} ، مؤتمنًا على القرآن، وشاهدًا ومصدِّقًا).
وقال ابن جريج: وقال آخرون: (القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر، إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا).
وقال ابن جريج: (القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل).
3 -
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:(والمهيمن الأمين. قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله). وقال: (يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب).
قلت: ولا شك أن اسم "المهيمن" يشمل هذه المعاني، فالقرآن أمين وشاهد وحاكم على الكتب قبله. وأما ما جاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمن على القرآن). فهو صحيح المعنى، لكنه بعيد التفسير والتأويل في هذا الموضع، لذلك استبعده شيخ المفسرين الإمام ابن جرير، وتبعه على ذلك ابن كثير وغيره من المفسرين. فالآية تدل على هيمنة القرآن الكريم على الكتب التي كانت قبله إلى يوم القيامة، وقد تكفل الله سبحانه بحماية فهم هذا الكتاب كما حمى تنزيله.
فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، عن أبي سعيد الخدري قال: [كنا جلوسًا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، فقمنا معه، فانقطعت نعله، فتخلّفَ عَلَيْهَا عليٌّ يَخْصِفُها، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه، ثم قام ينتظره، وقمنا معه، فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله.
فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر، فقال: لا، ولكنه خاصف النعل. قال: فجئنا نبشِّره] (1).
وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} .
أَمْرٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقيم القرآن في الأمة منهاجًا للحكم والتحاكم.
وقوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .
أي: آراءهم وأعرافهم التي تعارفوا على تحكيمها وهي مخالفة في هديها لشرع الله.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح لغيره عن أبي ذر قال: كنت مخاصرًا للنبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى منزله، فسمعته يقول:[غيرُ الدجال أخوفُ على أمتي من الدّجال، الأئمة المضلون](2).
أخرج البزار والبيهقي بسند حسن، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات. فقال: ثلاث مهلكات: شحٌ مطاع، وهَوىً مُتَّبَعٌ، وإعجاب المرء بنفسه. وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا](3).
وقوله: {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} .
قيل المعنى: لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعًا أهواءهم. وقيل التقدير: عادلًا عمّا جاءك. ذكره القاسمي. وقال القرطبي: (ومعنى: "عمّا جاءك" على ما جاءك).
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
الشريعة في كلام العرب هي الطريق الذي يُتوصل منه إلى الماء. والشريعة أيضًا ما شرع الله لعباده من الدّين. قال الرازي: ("والشِّرْعة" الشريعة، ومنه قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}). والشارع الطريق الأعظم. وشرعَ لهم: أي: سنَّ. فيكون مفهوم الشرعة والشريعة أنه الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة.
والمنهاج: الطريق الواضح. يقال: نَهَجَ الطريق أبانه وأوضحه. ونَهَجَه أيضًا سَلَكه.
(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "خصائص علي" ص (29)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 33). وسنده صحيح.
(2)
حديث صحيح لغيره. أخرجه أحمد (5/ 145)، وبلفظ قريب - أخرجه أبو داود (2/ 203)، والدارمي (1/ 70)، (2/ 311)، وأخرجه الترمذي (3/ 231)، والحاكم (4/ 449).
(3)
حديث حسن. أخرجه البزار (رقم-80)، والبيهقي في شعب الإيمان" (2/ 382/ 1).
قال أبو العباس محمد بن زيد: (الشريعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر).
قال القرطبي: (والمنهاج الطريق المستمر، وهو النَّهْجُ والمَنْهَج).
وأما أقوال أهل التأويل في ذلك:
1 -
قال قتادة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، يقول: سبيلًا وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل).
2 -
قال ابن عباس: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، قال: سبيلًا وسنة).
وفي رواية عنه: (سنة وسبيلًا).
3 -
قال مجاهد: (الشرعة: السنة، و {وَمِنْهَاجًا} قال: السبيل، لكلكم، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجًا. يقول: القرآن، هو له شرعة ومنهاج). وقال: (الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام، وقد نسخ به كل ما سواه).
قلت: والراجح عندي أن الشرعة هي الأحكام الشرعية والسنن الخاصة بكل أمة من أمم الأنبياء، والمنهاج هو الكتاب المنزل في ذلك الذي يوضح الله فيه بيان الطريق الكامل لإقامة أمره في كل أمة. فالتوراة منهاج، والإنجيل منهاج، والقرآن منهاج. ويجمع هذه المناهج توحيد الله وإفراده بالتعظيم والعبادة. والله تعالى أعلم.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخْوَةٌ لعلّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد](1).
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} .
قال ابن كثير: (أي: إنه تعالى شرعَ الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومَعْصِيَتهِ، بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله). وقال
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (3442)، (3443) - كتاب أحاديث الأنبياء، ورواه مسلم وغيره.
عبد الله بن كثير: {فِي مَا آتَاكُمْ} ، يعني: من الكتاب). وقال ابن جريج: (ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب).
أي: سارعوا إلى الطاعات، وبادروا إلى الأعمال الصالحات، فالمرد إلى الله سبحانه وهو يفصل بين عباده يوم القيامة، فيجازي المحسنين بإحسانهم، والعصاة والمجرمين، بآثامهم.
المعنى: أقم حكم القرآن في الأمة يا محمد، واحذر أعداءك اليهود الذين يمكرون لئلا تقيم فيهم أمر الله، فإن أعرضوا عن الامتثال للحق فاعلم أن الله قد كتب ذلك وقدّره عقوبة لهم نتيجة تماديهم واستهتارهم ليصرفهم عن الهدى فقد تراكمت ذنوبهم وأقفلت قلوبهم، وإن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم.
وفي التنزيل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].
وكذلك قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
وهذه الآيات وأمثالها تفيد أن الكثرة في الغالب ليست في موضع المدح، وأن القلة المؤمنة الصادقة هي الممدوحة في القرآن، سنة الله في عباده، فإن الجنة قد حفت بالمكَاره، وحفت، النار بالشهوات.
وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
قال أبو السعود: (إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم).
والمعنى: أيعدلون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية. فليس من حق أحد أن يضع قوانين وتشريعات للناس إلا الخالق سبحانه، ومن ثم فمن جعل من نفسد أو غيره مشرعًا لقوانين وأنظمة لم يأذن بها الله فقد أشرك بالله، ودعا إلى عبادة غير الله. قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وقال جل ذكره: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .
قال أبو العالية: (أُسِّس الدين على الإخلاص لله وحده لا شريك له).
أخرج الدارمي بسند صحيح عن زياد بن حُدَير قال: [قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زَلّةُ العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين](1).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: أن النبي قال: [أبغض الناس إلى الله ثلاثة: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبْتَغٍ في الإسلام سُنّةَ الجاهلية، ومُطَّلِبُ دَم امرئٍ بغير حقٍّ لِيُهريقَ دَمَهُ](2).
51 -
53. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}.
في هذه الآيات: نَهيٌ عن موالاة اليهود والنصارى، وَتَوَعُّد مِنَ الله مَنْ خَرَقَ ذلك من المسلمين. ثم فيها فضْحٌ لسبيل المنافقين، وَإِنكارٌ لأساليبهم وحججهم الواهية في ذلك، وتوضيحٌ وتأكيدٌ لانهيار أعمالهم وخسارتهم في الآخرة.
فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} .
تَحْذيرٌ من تقريبهم ومعاشرتهم ومناصرتهم.
قال المهايمي: (إذا كان تودّد أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقصد افتتانه عن بعض ما أنزل الله مع غاية كماله، فكيف حال من يتودد إليهم من المؤمنين؟ ).
وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
إشارةٌ لعلة النهي. قال القاسمي: (أي: فإنهم متفقون على خلافكم، يوالي بعضهم
(1) حديث صحيح. انظر سنن الدارمي (1/ 71)، وتخريج المشكاة (1/ 269).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6882)، كتاب الديات، وروى نحوه الطبراني (10749).
بعضًا لاتحادهم في الدين. وإجماعهم على مضادتكم. فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم! ! ).
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .
قال الزمخشري: (وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله).
وقال القرطبي: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} شرط وجوابه، أي: لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي: من أصحابهم).
قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى:
الحديث الأول أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن جرير عن عبد الله البجلي: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على أن: "تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر"](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن جرير بن عبد الله قال: [بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود. فأسرع فيهم القتل. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل. وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله! لِمَ؟ قال: لا تراءى ناراهما](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن أبي شيبة -والطبراني- عن ابن مسعود مرفوعًا: [أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله](3).
الحديث الرابع: أخرج الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله](4).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (4/ 357)، (4/ 358)، وله شواهد.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2645)، كتاب الجهاد- باب على ما يقاتل المشركون. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2304) وقال:(صحيح) دون جملة العقل.
(3)
حديث حسن. انظر كتاب "الإيمان" لابن أبي شيبة ص (45)، والمسند (4/ 286).
(4)
ذكره السيوطي في "الجامع الصغير"(1/ 69). وهو حديث حسن. انظر صحيح الجامع (2536).
وقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(11537)، وله شاهد في مسند أحمد (4/ 286) من حديث البراء. انظر الحديث السابق.
الحديث الخامس: أخرج ابن جرير ومحمد بن نصر المروزي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا](1).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}
المقصود: إن الله لا يوفق من أعطى الولاية لأعدائه، وكان لهم ظهيرًا ونصيرًا. وقوله:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} .
ففي المقصود بذلك قولان:
1 -
قيل عني بذلك عبد الله بن أبي بن سلول. قاله عطية بن سعد. وقال: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} (أي: في ولايتهم). أي: لقول ابن أبي: (إني أخشى دائرة تصيبني).
2 -
قيل بل المعني قوم من المنافقين كانوا يناصحون اليهود ويغشُّون المؤمنين.
قال مجاهد: (المنافقون، في مصانعة يهود، ومناجاتهم، واسترضاعهم أولادَهم إياهم. وقول الله تعالى ذكره: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} قال يقول: نخشى أن تكون الدائرة لليهود).
وكلا التأويلين وارد محتمل، فهو خبر عن المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى ويخدعون المؤمنين بحجة احتمال أن يدور الدهر فيظفر اليهود أو النصارى، أو أهل الشرك، أو تنزل نازلة بهؤلاء المنافقين، فيكون لهم إلى أولئك حاجة.
الفتح عني به أمران عند المفسرين:
1 -
فتح مكة. فعن السدي: ({فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}، قال: فتح مكة).
2 -
قيل القضاء والفَصْل. فعن قتادة: ({فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} قال: بالقضاء).
(1) انظر: "حلية الأولياء"(1/ 312) عن ابن عباس، و"جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبلي ص (30)، الطبعة الثالثة، سنة (1382) هـ.
ويجوز أن يكون القضاء والفصل هو فتح مكة فيجتمع المعنيان. فإن الفتح في لغة العرب القضاء.
وقوله: {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} . قال السدي: (الأمر الجزية- يعني ضرب الجِزية على اليهود والنصارى).
وقوله: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .
أي: يصبح المنافقون الذين ارتضوا لأنفسهم موالاة اليهود والنصارى نادمين على ما أقدموا عليه، إذ لم يجنوا من ذلك إلا الضعف والخزي والفضيحة بين المؤمنين.
فيه تفسيران:
1 -
هو قول بعض المؤمنين لبعض بعد الفتح نزول النصر: أهؤلاء -إشارة إلى المنافقين- الذين حلفوا واجتهدوا في الأيمان وقالوا إنهم لمعكم معشر المؤمنين، فهاهم قد فضحهم الله وأخزاهم وهتك سترهم اليوم. ذكره ابن جرير.
2 -
هو قول المؤمنين لليهود على جهة التوبيخ: أهؤلاء -إشارة إلى المنافقين- الذين حلفوا بالله غاية أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد. ذكره القرطبي.
وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالهُمْ} .
أي: بطلت بنفاقهم. {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} فيه معنيان:
المعنى الأول: قد خسروا الثواب وضيّعوا مستقبلهم بنفاقهم.
المعنى الثاني: قد خسروا في موالاة اليهود، فقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم اليهود وقتل طائفة
منهم.
والخلاصة: قد خسر هؤلاء المنافقون الصفقة الهزيلة مع اليهود الذين أخزاهم الله بالقتل والإجلاء، وكذلك فقد خسروا رضوان الله، فضيّعوا الدنيا والآخرة.
54 -
56. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}.
في هذه الآيات: إِخبَارٌ من الله سبحانه عن استغنائه وقدرته، فمن ترك دين الإسلام أو ارتد عنه فإنه يخلق جلت عظمته لدينه العظيم رجالًا أوفياء ينصرون هذا الدين ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون أحدًا وقف في طريقهم. إنه ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلا الله ورسوله وأهل الإيمان -أهل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتعظيم شرائع الحق- فمن وثق بالله وتولى الله ورسوله وعباده المؤمنين فهؤلاء لهم الدولة والغلبة على فئة الشيطان وحزبه.
قال ابن عباس: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية، وعيد من الله أنه من ارتَدَّ منكم، أنه سيستبدل خيرًا منهم).
وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
قال ابن جرير: (أرقَّاء عليهم، رحماءَ بهم).
وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
قال علي: (أهل غلظة على من خالفهم في دينهم)
وقوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} .
قال ابن كثير: (أي: لا يردُّهم عَمّا هُم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يَردُّهم عن ذلك رادّ، ولا يصدّهم عنه صادّ، ولا يَحيكُ فيهم لوَمُ لائم، ولا عَذْلُ عاذِلٍ).
وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، والطبراني في الأوسط، بسند جيد عن أبي ذرّ قال: [أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحبِّ المساكين والدنوِّ منهم، وأمرني أن أَنْظُرَ إلى من هو دُوني، ولا أنظُرَ إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصِلَ الرَّحِمَ وإن أدْبَرَت، وأمرني ألا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحقَّ وإن كان مُرًّا،
وأمرني ألا أخافَ في الله لومة لائم، وأمرني أن أُكثِرَ من قولِ: لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنْزٍ تحت العرش] (1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الله ليَسْألُ العبدَ يوم القيامة. حتى يقول: ما منعكَ، إذ رأيت المُنْكَرَ أن تُنكرَهُ؟ فإذا لَقَّنَ الله عبدًا حُجَّتَهُ، قال: يارب! رَجَوْتُكَ وَفَرِقْتُ من النَّاس](2). وفي لفظ: [وثقت بك، وفرقت من الناس].
الحديث الثالث: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح لغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: [لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه (أو شهده أو سمعه)](3).
وروى أحمد نحوه وفيه: [إذا رآه أو شهد، فإنه لا يُقَرِّبُ من أَجَل، ولا يباعِدُ من رِزْق، أنْ يقولَ بِحَقٍّ، أو يُذَكِّرَ بعظيم](4).
وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} .
أي: تلك الصفات والنعوت السابقة هي من فضل الله على المؤمنين الذين اتصفوا بها.
وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} . أي: جواد بفضله وكرمه ومنّه، {عَلِيمٌ} بموضع ذلك الجود والعطاء ومن يستحقه من عباده.
وقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .
أي: ليس لكم، أيها المؤمنون، ناصر ومعين ومؤيد ومحب إلا الله ورسوله وأهل الإيمان، الذين وصفت خصالهم بقوله تعالى:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} .
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 159)، والطبراني في "الأوسط" (5635). وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 263): وأحد إسنادي أحمد ثقات.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4017)، وابن حبان (1845)، وغيرهما.
(3)
صحيح لغيره. أخرجه الترمذي (2191)، وابن ماجة (4007)، والحاكم (4/ 506)، وغيرهم.
وانظر للزيادة مسند أحمد (3/ 53) بسند صحيح على شرط مسلم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 50)، (3/ 87)، وأبو يعلى (88/ 1 - 2)، وهو صحيح الإسناد.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} .
قال السدي: (أخبرهم -يعني الرب تعالى ذكره- مَنِ الغالب، فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة، فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} و"الحزب"، هم الأنصار).
فمن نصر دين الله نصره الله وكتب له الغلبة على عدوه، سنة الله ولن تجد لسنته تبديلًا.
57 -
58. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}.
في هذه الآيات: تَحْذِيرٌ من الله للمؤمنين من موالاة أعداء الإسلام من الكتابيين والمشركين، الذين يستهزئون بأفضل أديان البرية الذي لا يقبل الله غيره بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. وَتَنْفِيرٌ من صنيع أولئك المستهزئين عند ندائكم لصلاتكم، إذ يرونها من اللهو واللعب، وقد اتهمهم الله بعقولهم مقابل ذلك.
قرأ جماعة من قراء الحجاز والبصرة والكوفة {وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} بكسر الراء. والتقدير: لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء. في حين قرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة بالفتح: {وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} . والتقدير: لا تتخذوا -أيها المؤمنون- الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا والكفارَ- أولياء. أي: "ولا الكفارَ أولياء". وذلك بالعطف للكفار على الذين اتخذوا.
قال ابن جرير: (إنهما قراءتان متفقتا المعنى، صحيحتا المخرج، قد قرأ بكل واحدة منهم علماء من القرأة، فبأي ذلك قرأ القارئ فقد أصاب).
وفي التنزيل: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} [آل عمران: 28].
فالموالاة والمحبة والنصرة والتأييد للمؤمنين، فإنما المؤمنون إخوة.
أخرج الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم](1).
وأخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذُله، كل المسلم على المسلم حرام، عِرضه، وماله، ودمُه، التقوى هاهنا -وأشار إلى القلب- بحَسْب امرئٍ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم](2).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
أي: بشرع الله العظيم الذي يحاول هؤلاء المبطلون الاستهزاء به.
وقوله. {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإذا أذن مؤذنكم، أيها المؤمنون، بالصلاة سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك). وقال ابن كثير: (وهذه صفات أتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر وله حُصاص -أي: ضُراط- حتى لا يسمع التأذين).
وَقَدْ جاءت السنة الصحيحة بهذا المفهوم في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا نُودِيَ للصلاة أدبر الشيطان له ضُراط، حتى لا يسمعَ التأذين، فإذا قُضي النداءُ أقبل، حتى إذا ثُوِّبَ للصلاة أدْبر، حتى إذا قُضيَ التَّثْوِيبُ أقبلَ حتى يَخْطُرَ بين
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح- حديث- قم- (2442) -كتاب المظالم. باب: لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسْلِمُه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي عن أبي هريرة. انظر صحيح الترمذى (1572). باب ما جاء شفقة المسلم على المسلم. وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6582)، (6583).
المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكرُ حتى يظل الرجل لا يدري كم صَلّى] (1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أذن المؤذن أدْبَرَ الشيطان، ولهُ حُصَاص](2).
وفي لفظ: [إن الشيطان، إذا نُودي بالصلاة، وَلّى وله حُصَاص].
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الشيطان إذا سمع النداءَ بالصلاة، ذهب حتى يكون مكان الروحاء](3).
قال سليمانُ: فسألتُه عن الرَّوحاء؟ فقال: هي من المدينة سِتَةٌ وثلاثون ميلًا.
وقوله: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} .
أي هزوًا بالدعاء إلى الصلاة ولعبًا بذلك. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} . أي: ما لهم في إجابة النداء إلى الصلاة، وما عليهم في سخريتهم من العقاب، فلو عقلوا ما فعلوا ذلك.
ولقد تألق مُعَلِّم البشر وعالم النفس الأول في هذه المعمورة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عالج هذا النقص والعيب في الشخصية، وهو مرض هزال الروح وحب السخرية والاستهزاء الذي ما زال الناس يضربهم الشيطان به من زمان آدم ونوح عليهما السلام، إلى زماننا هذا. فلنصغ معًا كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم ما اعترى أبا محذورة من هزال النفس والاستهزاء عندما سمع النداء!
أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة -واللفظ له- عن عبد الله بن مُحيريز، وكان يتيمًا في حِجر أبي مَحذورة بن مِعْيَر، حين جهزه إلى الشام. فقلت لأبي محذورة: أي عم! إني خارج إلى الشام، وإني أُسأل عن تأذينك؟ فأخبرني أن أبا محذورة قال: [خرجت في نفر. فكنا ببعض الطريق. فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، عند
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (608) -كتاب الأذان- باب فضل التأذين. وروى مسلم نحوه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (389) -كتاب الصلاة. ابن فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (388) -كتاب الصلاة. الباب السابق.
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون. فصرخنا نحْكيه. نهزأ به. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل إلينا قومًا فأقعدونا بين يديه. فقال: أيّكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشارَ إليَّ القوم كُلُّهم، وصَدَقوا. فأرسل كُلَّهُم وحَبَسني. وقال لي: قُمْ فأذِّن. فقُمتُ، ولا شيء أكرهُ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مِمَّا يأمُرُني به. فقمتُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عَلَيَّ رسولُ الله التأذين هو بنفسِه. فقال: قُلْ: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. أشهد أنْ لا إله إلا الله، أشهدُ أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسولُ الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة. حيَّ على الفلاح، حي على الفلاح. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله. ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فِضّة. ثم وضع يَدَه على ناصية أبي مَحْذورة. ثم أَمَرَّها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبِدِه، ثم بَلَغَتْ يَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَّة أبي محذورة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك وبارك عليك. فقلت: يا رسول الله! أمرتني بالتأذين بمكة؟ قال: نعم. قد أمرتُك. فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كُلُّهُ مَحَبَّةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فَقَدِمْتُ على عَتّاب بن أَسِيدٍ، عامِل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فَأَذنتُ مَعَهُ بالصلاة عَنْ أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).
لقد عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشكلة الهزال والسخرية بالأمور الآتية:
1 -
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفور فجمع القوم بين يديه.
2 -
سأل بقوة وحزم عن صاحب ذلك الصوت.
3 -
أشار القوم جميعهم إلى مصدر الصوت ذبًّا عن أنفسهم ما يُرى أنه ذمّ.
4 -
أطلق النبي صلى الله عليه وسلم القوم وحبس صاحبه ليزيده خوفًا وندمًا على ما فعل.
5 -
أمره أن يقوم فيؤذن بما استهزأ به، فداواه بالتي كانت هي الداء.
6 -
ألقى عليه التأذين بحزم ليردّده خلفه، ثم دعاه فكافأه بالمال ليظهر قيمة ما فعل، وليبقى راسخًا في ذهن أبي محذورة إلى الأبد أن هذا التأذين غال وثمين ولا يُهزأ به.
7 -
ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على ناصية ووجه وَصدر وكبد أبي محذورة ودعا له بالعافية والبركة فبرأ مما كان في نفسه بإذن الله.
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (503)، والنسائي (2/ 5)، وابن ماجة (708). انظر صحيح ابن ماجة (581) -كتاب الأذان والسنة فيها- باب الترجيع في الأذان. ورواه أحمد في المسند (3/ 409).
وانظر صحيح مسلم (379)، وسنن الترمذي (192)، وسنن البيهقي (1/ 393).
8 -
ثم استعمله بالعمل نفسه على أهل مكة، فبَتَرَ بذلك الاستهزاء بالتأذين من نفسه إلى الأبد، إذْ أصبح قائمًا على هذا العمل فكيف يهزأ بنفسه؟ !
فهذه لمسات من بعض أساليب التربية النبوية في معالجة أمراض السلوكية، وقد بسطت بذلك القول في كتابي:"الأمراض النفسية وعوامل الشد إلى الخلف"، ولله الحمد والمنة.
59 -
63. قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}.
في هذه الآيات: يقول جل ثناؤه: قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين بدينكم من أهل الكتاب: هل يحملكم على ذلك إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنزل إلينا من القرآن، وبما أنزل إلى المرسلين قبلنا، وإلاّ أَنَّ أكثركم عاصون لله خارجون عن طاعته. فهل أنبئكم يا معشر أهل الكتاب بشِرٍّ من جزاء ما تنقمون منا من الإيمان -إنه من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم المُسوخ القردة والخنازير غضبًا من الله وسخطًا وخزيًا عاجلًا في الدنيا قبل الآخرة-. فهؤلاء شر مكانًا ممن نقمتم عليهم من المؤمنين، وأنتم معشر اليهود أضل عن قصد الطريق وَأَجْوَرُ عن سبيل الهدى والرشاد. وإذا جاءكم -أيها المؤمنون- هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا آمنا بألسنتهم، وما تبطن صدورهم هو الكفر والله أعلم بما يبطنون. ثم إن أكثرهم يسارعون بالمعصية والبغي وأكل الرشوة وسيِّيء العمل، فأين علماؤهم لينهوهم عن ذلك ويحذروهم سيِّيء ما كانوا يعملون.
وتفصيل ذلك:
قال القاسمي: (أي ما تعيبون وتنكرون منا {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} وهو رأس الكمالات {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} وهو أصل الاعتقادات والأعمال والأخلاق {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} وهو يشهد لما أنزل إلينا {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر).
وقال ابن كثير: (أي: وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي خارجون عن الطريق المستقيم).
وفي التنزيل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8].
وفيه أيضًا: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ
…
(74)} [التوبة].
أي: إن من اتصف بهذه الصفات الذميمة هم شر مكانًا، وهم أصحاب الخزي يوم القيامة، لا الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه وصدقوا المرسلين والتزموا العمل الصالح.
فمن {لَعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} فلا يرضى بعدها عنه، ومسخ حاله وهيئته إلى أحوال وهيئات القردة والخنازير خزيًا عاجلًا لهم في الدنيا قبل الآخرة هم ومن مضى على منهاجهم الفاسد من أحفادهم موضع النقص والعيب والعار ومظنة الهلاك في الآخرة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: وذكرت عنده القردة -أي عند النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: فقال رجل: يا رسول الله! القردة والخنازير هي مما مُسِخَ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله عز وجل لم يُهْلِك قومًا، أو يُعَذِّب قومًا، فيجعلَ لهم نسْلًا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك](1).
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان بسند صحيح عن ابن عباس، عن
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2663)، كتاب القدر، وأخرجه أحمد (1/ 413)(1/ 390)، ورواه أبو يعلى (5313) من طريق مسعر عن علقمة به.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الحياتُ مسخ الجن صورةً، كما مُسِخَت القِرَدةُ والخنازيرُ من بني إسرائيل](1).
وقوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} - فيه قراءتان أو أكثر.
القراءة الأولى: قراءة قراء الحجاز والشام والبصرة وبعض الكوفيين: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي: وجعل منهم من عَبَدَ الطاغوت كما جعل منهم القودة والخنازير.
القراءة الثانية: قراءة جماعة من الكوفيين: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} . والمعنى: وجعل منهم خدم الطاغوت. أي خدّامه وعبيده.
وكلاهما قراءتان مشهورتان وإن كانت القراءة الأولى أشهر، واختار ذلك ابن جرير.
وقد مضى بيان مفهوم كلمة {الطَّاغُوتَ} في مواضع سابقة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
فيه أكثر من تأويل:
1 -
قال الزجاج: (أولئك شر مكانًا على قولك).
2 -
قال النحاس: (ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانًا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر).
3 -
وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانًا من الذين لعنهم الله.
4 -
وقيل: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانًا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر.
5 -
وقال القرطبي: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} لأن مكانهم النار، وأما المؤمنون فلا شرَّ في مكانهم).
6 -
وقال ابن كثير: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} ، أي: مما تظنون بنا).
قلت: والسياق يقتضي ما ذكره القرطبي وابن كثير، إذ جاء قوله تعالى:{أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} بعد قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً} ، والله تعالى أعلم.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 348) ح (3254)، والطبراني (1146)، وابن حبان (1080).
وقوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} .
قال ابن عباس: (وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق، وتُسِرُّ قلوبهم الكفر، فقال: {دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه}).
وفي التنزيل: {وَقَالتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} .
أي: بما تنطوي عليه سرائر هؤلاء المنافقين.
وقوله: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} .
قال السدي: (الإثم: الكفر). وقال قتادة: ({وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وكان هذا في حكّام اليهود بين أيديكم).
قال ابن جرير: (وأما قوله: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به).
والمقصود كشف هؤلاء اليهود في تعاطيهم المآثم والمحرمات والاعتداء على الناس، وكشف خداعهم ولعبهم بدينهم مقابل الرشوة والمال الباطل.
وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . أي: مما سبق من المخالفات الشرعية.
الأحبار: العلماء. والربانيون: العلماء العُمَّال أرباب الولايات عليهم، فهم أخص. والآية توبيخ للطرفين مقابل سكوتهم عن انحراف ومخالفات بني إسرائيل في انتشار الآثام والمعاصي بينهم، وانتشار السحت: أي الرشوة والمال الحرام.
قال ابن عباس: (ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية).
وقال الضحاك: (ما في القرآن آية أخوف عندي منها: أنا لا ننهى). وقال: ({الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم. وما أخوفني من هذه الآية).
وقال ابن جرير: (وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها).
قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذه الآية.
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق أنه قال:[أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا بيده، أَوْشَكَ أن يعمّهم الله بعقاب منه](1).
ورواه ابن ماجة بلفظ: [وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر لا يُغَيِّرونه، أوشكَ أن يَعُمَّهُم الله بعقابه](2).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي وابن ماجة -واللفظ له- والحاكم عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام خطيبًا. فكان فيما قال:[ألا، لا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا، هَيْبَةُ الناس، أن يقول بحقِّ، إذا عَلِمَهُ](3). قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله! رأينا أشياء، فهبنا.
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن عبيد الله بن جرير، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من قوم يُعْمَلُ فيهم بالمعاصي، هُمْ أَعَزُّ مِنهم وأَمْنَعُ، لا يُغَيِّرون، إلا عَمَّهُم الله بعقاب](4).
64 -
66. قوله تعالى: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (29)، (53)، وأبو داود (2/ 217)، والترمذي (2/ 25) وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3236) -باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 30)، وابن ماجة (4007)، والحاكم (4/ 506).
(4)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (4009)، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3238).
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ جرأة اليهود على ربهم وتطاولهم في الكلام بصفاته دون تأدب أو خجل، وتجاهل نعمه عليهم وكثرة صفحه، وعفوه عنهم، فوصفوه بالبخل كما وصفوه بالفقر عليهم لعائن الله، بل هو الواسع الفضل الجزيل العطاء وعنده خزائن كل شيء. ثم فيها إِخبارٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن ما أكرمك الله به من الوحي والحق سيكون نقمة على اليهود وأمثالهم وسيزدادون به حسدًا حقدًا وطغيانًا، كما يزداد به المؤمنون إيمانًا وإحسانًا. ثم لا تجتمع قلوبهم بل سيفتك الحقد والبغي بين فرقهم مقابل كفرهم، وكلما أبرموا حالة اجتماع ليحاربوك فيها يمزقها الله ويبطلها، ومن صفاتهم استمرار إشعال الأرض بنار الفساد والله لا يحب المفسدين. ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله وكفوا عن الظلم والآثام وأقاموا التوراة والإنجيل ثم أقاموا القرآن النازل إليهم لبسط الله لهم ألوان البشائر والنعيم في الدنيا والآخرة، ولكن قليل مَنْ آمن واتقى منهم، وأكثرهم فاسقون.
وتفصيل ذلك:
قوله: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} .
قال ابن عباس: (ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا،
فكذبهم الله بما قالوا ووبّخَهم فقال جل ثناؤه: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} .
قال قتادة: (قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}).
وقال الضحاك: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، يقولون: إنه بخيل ليس بجواد! قال الله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . وقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ
…
(29)} [الإسراء]، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة).
قال القرطبي: ({غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا} . قيل: المراد أنهم أبخل الخلق، فلا
ترى يهوديًّا غير لئيم. وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو، أي قالوا: يد الله مغلولة وغلت أيديهم. واللعن الإبعاد).
فيكون المعنى: كذب اليهود المتجرئون على صفات الله سبحانه، فهم البخلاء الفاسدون المنعوتون بصفات الشح والبخل والطمع والبغي، والله تعالى هو الواسع الفضل الجزيل العطاء الكثير النعم، فنعمه لا تحصى، وكرمه على عباده لا حدود له، وعنده خزائن السماوات والأرض ينفق كيف يشاء وهو الحكيم الكريم المتعال.
قال في سورة إبراهيم: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} .
وقال فيِ سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً
…
(20)} [لقمان: 20].
قلت: وضلّ قوم أَوَّلوا صفة اليد بالنعمة أو القدرة، فبماذا يستقيم على زعمهم قوله:{بَلْ يَدَاهُ} هل يقال بل قدرتاه أو نعمتاه حينئذ! هذا مما لا يستقيم في لغة العرب. والحق أن هذه الآية تثبت صفة اليدين لله العظيم، كما تثبتها الآية الأخرى في سورة (ص):{قَال يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} . وقد جاءت السنة الصحيحة بإثبات ذلك لله كما يليق بجلاله وكماله -أي: دون تشبيه ولا تعطيل- بل كلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، كما ثبت في الصحيح.
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ يمين الله مَلأى لا يَغيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ، الليلَ والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقُصْ ما في يمينه، وعَرشُهُ على الماء، وبيده الأخرى الفَيضُ -أو القَبْضُ- يَرْفعُ ويخْفِض](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [احتَجَّ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1827)، كتاب الإمارة. باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (7419) كتاب التوحيد. وانظر (4684) منه. وأخرجه مسلم (993) ح (37)، وأحمد (3/ 312)، وابن حبان (725)، والترمذي (3045).
آدمُ وموسى عليهما السلام عند ربِّهما، فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنت آدمُ الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من رُوحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جَنّتِه، ثم أهْبَطْتَ الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ قال آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تِبْيان كل شيء، وقرّبك نَجِيًّا، فبِكَمْ وَجَدْت الله كتب التوراة قبل أن أُخلقَ؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} . قال: نَعَمْ. قال: أفتلومني على أن عَمِلْتُ عملًا كتبه الله عليَّ أن أعْمَلَهُ، قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى] (1).
وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} .
قال قتادة: (حملهم حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم).
وفي التنزيل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82].
وقوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
قال مجاهد: (أي بين اليهود والنصارى). وقيل: (ألقينا بين طوائف اليهود).
قال القرطبي: (فهم متباغضون غير متفقين، فهم أبغض خلق الله إلى الناس).
وفي التنزيل: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر].
قلت: والراجح أنه من ذكر اليهود، فإن السياق يقتضي ذلك، والمقصود: أن الفرقة والتمزق ستعم طوائف بني إسرائيل، فلا تجتمع قلوبهم، وتسري العداوة بينهم. قال إبراهيم النَّخَعِي:{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} قال: الخصومات والجدال في الدين).
وقوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} .
قال السدي: (كلما أجمعوا أمرهم على شيء فَرَّقَهُ الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2652) ح (15)، كتاب القدر، وانظر صحيح البخاري (4738).
وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
قال ابن كثير: (أي: من سَجِيَّتِهم أنهم دائمًا يَسْعَوْنَ في الإفساد في الأرض، والله لا يحب من هذه صفته).
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)} .
قال قتادة: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} ، يقول: آمنوا بما أنزل الله، واتقوا ما حرّم الله، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ).
قال ابن جرير: {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ، يقول: مَحَوْنا عنهم ذنوبهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها، {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، يقول: ولأدخلناهم بساتين ينعمون فيها في الآخرة).
وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} .
قال ابن عباس: (يعني القرآن). أي وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} . يعني من القَطْر والنبات.
قال ابن عباس: ({لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ}، يعني: لأرسل السماء عليهم مدرارًا، {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، تخرج الأرض بركتها).
وقال قتادة: (إذن لأعطتهم السماء بركَتَها، والأرض نباتها).
وقال السدي: (يقول: لو عملوا بما أنزل إليهم مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، لأنزلنا عليهم المطر، فلأنبت الثّمر).
وفي الآية تنبيه لهذه الأمة ألا تسقط كما سقطت أمة يهود، وأن تتمسك بقرآنها فهو فلاحها في الدنيا والآخرة، وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة أن تترك قرآنها والعمل به كما حصل في أمم أهل الكتاب. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج ابن ماجة بسند صحيح، عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقال: [ذاك عِنْدَ أوانِ ذهاب العِلم. قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقْرِئهُ أبناءنا ويُقْرِئهُ أبناؤنا أبناءَهم، إلى يوم القيامة؟ قال: ثَكِلَتْكَ
أُمُّكَ، زيادُ! إن كُنْتُ لأراكَ مِنْ أفقه رجلٍ بالمدينة. أو لَيْسَ هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل، لا يَعْمَلُون بشيءٍ مما فيهما؟ ] (1).
الحديث الثاني: أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعًا: [لتركبن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب دخلتم، وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند يإسناد صحيح عن أبي عامر -عبد الله بن يحيى- قال: [حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلهما في النار إلا واحدة -وهي الجماعة- وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاءكم به نبيّكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به](3).
وقوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} .
يعني: منهم جماعة مقتصدة في القول في عيسى بن مريم، وبعيدة عن الغلو والتنطع.
قال قتادة: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} ، يقول: على، كتابه وأمره. ثم ذمّ أكثر القوم فقال:{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} ).
وقال السدي: ({مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}، يقول: مؤمنة).
وقال الربيع بن أنس: (فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جفَوا في الدين ولا هم غَلوا).
وفي التنزيل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159].
(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3272) - باب ذهاب القرآن والعلم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 455) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، ورجاله ثقات. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1348).
(3)
حديث صحيح. انظر مسند أحمد (2/ 332)، وسنن أبي داود (2/ 503)، والترمذي (3/ 367)، وابن ماجة (2/ 479)، والحاكم (1/ 128)، وصحيح الجامع (1093)، (1094).
هذا في قوم موسى. وقال في أتباع عيسى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} [الحديد: 27].
قال ابن كثير: (فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا
…
} الآية [فاطر: 32 - 33]. والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة).
67.
في هذه الآية: يأمر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم بإقامة البلاغ المبين لهذا التنزيل العظيم والوحي الكريم، ومن ثم فإن أحدًا لن يستطيع أن يتسلط عليه بأذى، فهو في عصمة الله وحمايته، والله هو يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو أعلم بمن يستحق الفضل والهداية.
أخرج ابن حبان في صحيحه، بسند حسن عن أبي هريرة قال:[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلًا نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي صلى الله عليه وسلم، فينزل تحتها وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجر، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فأيقظه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله. فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}](1).
قلت: ولا شك أن البلاغ المبين لهذا الدين عصمة للمؤمن من الله، يجد بركته في حياته، ونوره في قبره، وغبطته وسروره في أهله، ونجاته وفوزه يوم القيامة. وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ولقي هذا الدين أتم البلاغ وجاهد من أجل ذلك أرفع الجهاد، وتحمل في ذات الله
(1) حديث حسن. انظر صحيح ابن حبان (2882) و (4537)، ومسند أحمد (3/ 364) من حديث جابر، وأصله في الصحيحين. انظر صحيح البخاري (2913)، ومسلم (4/ 1786) (13). وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول -الوادعي- سورة المائدة، آية (67).
عز وجل ما أصابه لينقذ الأمة من جحيم مناهج أهل الشهوات والأهواء ومن جحيم النار يوم القيامة، إلى نور الحياة في ظل منهج الله سبحانه في الدنيا وظل روضات الجنان في الآخرة.
أخرج البخاري عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: [مَنْ حَدَّثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنزِلَ عليه فقد كَذَبَ، والله يقول: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية](1).
قال البخاري: قال الزهري: (من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم).
وقد استنطق النبي صلى الله عليه وسلم أمته في أعظم المحافل، فشهدت له بأتم البلاغ، وفهمت منه الوداع.
الحديث الأول: أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يومَ النَّحر فقال: [يا أيها الناس، أيُّ يوم هذا؟ قالوا: يومٌ حرام، قال: فأي شَهْرٍ هذا؟ قالوا: شَهْرٌ حرام، قال: فإن دِماءَكُم وأموالكم وأعراضَكُم عليكم حرامٌ كحُرْمةِ يومِكُم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. فأعادها مِرَارًا، ثم رَفَعَ رأسه فقال: اللهم هل بَلَّغْتُ؟ اللهم هل بَلَّغْتُ؟ - قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده! إنها لَوَصِيَّتُهُ إلى أُمَّتِه- فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كُفّارًا يَضْربُ بعضكم رقابَ بعض](2).
قال البخاري: وقال هِشامُ بنُ الغازِ: أخبرني نافعٌ عن ابن عمرَ رضي الله عنهما: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بين الجَمَراتِ في الحَجَّة التي حَجَّ بهذا، وقال: هذا يوم الحج الأكبر. فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اشهد. فوَدَّع الناسَ فقالوا: هذه حَجَّة الوداع)(3).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4612) -كتاب التفسير- باب: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} .
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1739) -كتاب الحج. باب الخطبة أيامَ منى. وأخرجه أحمد في المسند (1/ 230).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه عقب حديث (1742) -كتاب الحج. الباب السابق. وانظر كذلك الحديث (4403) منه.
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر -في حجة النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: [أيها الناس، إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهدُ أنك قد بَلَّغْتَ وأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فجعل يرفَعُ إصْبَعَهُ إلى السماء وينكتها إليهم ويقول اللهم هل بَلّغت، اللهم هل بلغت. وفي لفظ: فقال بإصبعه السبّابة، يرفعها إلى السماء ويَنْكتُها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد. ثلاث مرات](1).
الحديث الثالث: أخرج ابن أبي حاتم عن هارون بن عَنترة، عن أبيه قال:[كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال له: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يُبدِه رسِول الله صلى الله عليه وسلم للناس. فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، والله ما وَرَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء](2).
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .
أي: يمنعك من أن ينالوك بسوء أو أذى، فأنت في حفظ الله وكلاءته وتأييده. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس عند وصوله المدينة قبل نزول هذه الآية.
أخرج الترمذي بسند حسن عن عائشة قالت: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله](3).
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [سَهِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ المدينة ليلةً، فقال: ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: فبينا نحن
(1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث رواه مسلم (1218) من حديث جابر- في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
إسناده جيد، كما ذكر الحافظ ابن كثير في التفسير- سورة المائدة (آية 67). ويشهد له ما في صحيح البخاري من حديث أبي جُحَيفة:[قلت لعلي: هل عندكم شيءٌ من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاكُ الأسير، وألا يُقتلَ مسلم بكافر].
(3)
حديث حسن. أخرجه الترمذي بإسناد حسن من حديث عائشة رضي الله عنها. انظر صحيح سنن الترمذي (2440). أخرجه الحاكم (2/ 313)، وأخرجه الطبري (12279).
كذلك سمعنا خَشْخَشَةَ سلاح، فقال: مَنْ هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام] (1).
ورواه أحمد وفيه: [فقال: ما جاء بك؟ قال: جئتُ لأحرُسكَ يا رسول الله. قال: فَسَمعتُ غطيطَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه].
قال الحافظ ابن كثير: (ومن عصمة الله لرسوله حافظُهُ له من أهل مكة وصناديدها وحُسَّادها ومُعَانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبَغْضَة ونَصبِ المحاربة له ليلًا ونهارًا، بما يَخْلُقُهُ الله تعالى من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمِّه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعيَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعِيَّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارُها وكبارها، ولكن لَمَّا كان بينه وبينهم قَدَرٌ مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أَذىً يسيرًا، ثم قيَّضَ الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحَوَّلَ إلى دارهم -وهي المدينة- فلما صار إليها حَمَوْه من الأحمر والأسود، فكلّما هَمَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله وَرَدَّ كيدَه عليه، لَمَّا كاده اليهود بالسحر حَمَاه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء. ولما سَمَّ اليهود ذراعَ تلك الشاة بِخَيْبَرَ، أعلمَهُ الله به، وحماه منه. ولهذا أشباه كثيرة جدًّا يطول ذكرها).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .
أي: لا يوفقهم لسلوك سبيل الهداية والرشاد جزاء استهتارهم وردّ شرع الله وبلاغ الرسل.
قال القرطبي: (أي لا يرشدهم. وقيلَ: أبْلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}. وقال ابن جرير: (إن الله لا يوَفِّقَ للرُّشْد من حَاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2410) -كتاب فضائل الصحابة- وانظر صحيح البخاري (2885) وكذلك (7231)، ومسند أحمد (6/ 141)، والنسائي في "الكبرى" (8867). وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 522 - 523) لتفصيل تلك الأحداث والروايات.
68 -
69. قوله تعالى، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}.
في هذه الآيات: يقول جل ثناؤه: قل يا محمد لأهل الكتاب إنكم لستم على شيء من الدين الحق حتى تعملوا بما جاءكم في كتبكم فتؤمنوا بما فيها، وبما تضمنته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب متابعته ونصرته، ولكَن يا محمد لن يكون الأمر كما تحب، فإن الكبر والغرور قد أهلك هؤلاء، فلن يزيدهم ما أنزل إليك من القرآن إلا كبرًا وجحودًا وعنادًا وطغيانًا، فلا تحزن عليهم فهُمْ إنما يَرِدونَ بذلك مهالكهم. إنّ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا من المؤمنين واليهود والصابئين والنصارى والتزم ما أُمِرَ له فلا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا ولا على ما خلّفوا وراءهم فيها من ذرية ودنيا، بعد أن يبصروا نعيم الآخرة وما أعدّ الله لهم من عظيم الثواب والسرور والملذات.
قال ابن زيد: ({لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا}، حتى تعملوا بما فيه). أي بما جاء في التوراة والإنجيل دون التحريف. وعن مجاهد: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني: القرآن العظيم).
وعن ابن عباس: ({وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} قال: الفرقان، يقول: فلا تحزن). وقال ابن جرير: (وأقسم: ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قصّ قصصهم في هذه الآيات، الكتاب الذي أنْزلته إليك يا محمد، {طُغْيَانًا}، يقول: تجاوزًا وغُلوًّا في التكذيب لك، على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول الفرقان، {وَكُفْرًا}، يقول: وجحودًا لنبوتك).
وقوله: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . قال السدي: (لا تحزن).
ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} . وهم: المسلمون الذين صدقوا بالله ورسوله.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} هم اليهود حملة التوراة. وقوله: {وَالصَّابِئُونَ} . قال ابن كثير: (لما طال الفصل حسن العطف بالرفع) - والصابئون: طائفة بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين. قاله مجاهد. وعنه: بين اليهود والمجوس. وقال سعيد بن جبير: (بين اليهود والنصارى). وعن الحسن: (إنهم كالمجوس). وقال قتادة: (هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير القبلة، ويقرؤون الزبور). وقال وهْب بن مُنبه: (هم قوم يعرفون الله وحده، وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفرًا). وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم.
وأما النصارى: فهم حملة الإنجيل، الذين بعث فيهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
يعني: من آمنَ بالله فَصدَقَهُ التوحيد والتعظيم، وآمن باليوم الآخر، واستعدّ له بالعمل الصالح، فكان على منهاج كتابه الذي أنزل إليهم، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إن عاصره وأدركه فنصره وتابعه، فأولئك لا خوف عليهم في مشهد المحشر يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا وعلى ما خلّفوا فيها، فالطمأنينة والأمن في الدنيا والآخرة.
70 -
71. قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}.
في هذه الآيات: تَذْكِيرٌ من الله سبحانه بالمواثيق والعهود التي أخذها على بني إسرائيل بالصدق والسمع والطاعة ومتابعة الرسل، ولكنهم كانوا عند أسوأ الظن، فقد خانوا العهود ونقضوا المواثيق وركبوا أهواءهم، فإن وافق الرسول المرسل إليهم شهواتهم قبلوه وإلا قتلوه. وظنوا أن الأمر هكذا دون امتحان واختبار فعموا عن الحق
والوفاء بالميثاق وصموا عنه ثم تاب الله عليهم ثم عادوا إلى التكذيب والخيانة والله يرى أعمالهم وسيجازيهم بها.
وقولُه جل ذكره: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} .
قال ابن جرير: (كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق مَحَبَّتَهم، كذّبوا منهم فريقًا.، ويقتلون منهم فريقًا، نقضًا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجرأة علينا وعلى خلاف أمرنا).
وقوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} . قال ابن عباس: (الشرك). وقال قتادة: (حسب القوم أن لا يكون بلاء). وقال السدي: (حسبوا أن لا يبتلوا).
وقوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} .
قال قتادة: (كلما عرض بلاء ابتلوا به، هلكوا فيه).
وقال السدي: (حسبوا أن لا يبتلوا، فعموا عن الحق وصموا). وهم كما قال مجاهد: (اليهود).
وقال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال:(هذه الآية لبني إسرائيل. قال: والفتنة: البلاء والتمحيص).
والمقصود أنهم عموا عن الحق وصموا، فلا يبصرون الحق ولا يصغون له ولا يهتدون إليه.
وقوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي: مما كانوا فيه من العمى والصمم. {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} مرة أخرى وعادوا للانتكاس. {كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: يبصر أعمالهم ويحصيها عليهم ليجازيهم بها يوم يلقونه.
72 -
75. قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَال الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)}.
في هذه الآيات: حُكْمٌ من الله بتكفير الذين ادّعوا ألوهية المسيح ابن مريم من فِرق النصارى: من الملكِيَّةِ واليَعْقوبية والنَّسْطورية، وَتَبرِئَةٌ للمسيح ابن مريم من ذلك وأنه دعا إلى عبادة الله وحده وَحَذَّرَ من الشرك به، وبيّن أن مصير من أشرك بالله تعالى النار ثم لا سبيل ولا نصير.
ثم في الآيات حُكْمٌ بالكفر على من قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وتوعّدٌ لهم من الله بعذاب أليم إن لم يتوبوا ويرجعوا عن قولهم واعتقادهم. ثم بيانٌ من الله لحقيقة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بأنه رسول كبقية الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأمه مؤمنة صادقة، يأكلان الطعام كسائر الناس، فأين يذهب هؤلاء بضلالهم!
فقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} .
كقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
وقال ابن جرير: (قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}. وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. كانوا فيما بلغنا يقولون، "الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعةً بينهما). فكذبهم الله بقوله سبحانه: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} .
وقوله: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
يشمل قائلي المقالتين، ولذلك قال:{لَيَمَسَّنَّ} ولم يقل "ليمسَّنهم" كما ذكر شيخ المفسرين.
وقوله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
دَعْوَةٌ لهم طيبة كريمة من الله ليستأنفوا التوحيد بعد الشرك والإيمان بعد الكفر، والله بمنّه وكرمه يتجاوز عن ذلك مما سلف منهم، كيف لا وهو سبحانه لم يزل يعافيهم ويرزقهم مع ما يسمعه من شركهم.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا أَحَدَ أَصْبَرُ على أذىً يَسْمَعُهُ من الله عز وجل، إنه يُشرك به، ويُجْعلُ له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم](1).
وفي لفظ: [ما أحَدٌ أصبرَ على أذىً يَسْمَعُه من الله تعالى، إنهم يجعلون له نِدًّا، ويجعلونَ له وَلَدًا، وهو مع ذلك يَرْزقُهم ويُعَافيهم وَيُعطيهم].
وقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} .
قال القرطبي: (أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل، فإن كان إلهًا فليكن كل رسول إلهًا، فهذا ردّ لقولهم واحتجاج عليهم).
وفي التنزيل: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} [الزخرف].
وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي مؤمنة صادقة، آمنت بالله وصدقته بآياته.
وعن الحسن: (إنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به).
قلت: والآية لا تدل أنها كانت نبيّة. فإن الله لم يبعث بالنبوة والرسالة إلا الرجال.
قال الحافظ ابن كثير -في التفسير-: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي: مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدَلّ على أنها ليست بنبيّة، كما زعمه ابن حزم وغيره، ممن ذهب إلى نبوة سارَّة أُمِّ إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استدلالًا منهم بخطاب الملائكة لسارَّة ومَرْيم، وبقوله:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]. وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًّا إلا من الرجال، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
…
} [يوسف: 109].
وقوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} .
أي هما كسائر البشر لا تقوم حياتهما دون غذاء، ومن كان هذا شأنه فلا يصلح إلهًا.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2804) -كتاب صفات المنافقين. باب في الكفار.
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ}
أي: نظهر لهم الدلالات الواضحات والحجج الدامغات.
وقول: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
أي: كيف يصرفون عن الحق وإلى أي ضلال يذهبون.
76 -
77. قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}.
في هذه الآيات: زيادة توبيخ لصنيع هؤلاء، والذين يعبدون ما يعبدون من الأوثان والأصنام والأنداد، وتَحْذيرٌ من اتباع الأهواء وأصحاب الضلال.
قال القرطبي: (أي أنتم مقرون أن عيسى كان جَنينًا في بطن أمه، لا يملك لأحد ضرًّا ولا نفعًا، وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلهًا؟ {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي لم يزل سميعًا عليمًا يملك الضرّ والنفع، ومن كانت هذه صفته فهو الإله على الحقيقة).
وقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} . الآية.
قال ابن كثير: (أي: لا تُجاوزوا الحدَّ في اتباع الحق، ولا تُطْروا من أُمْرِتُم بتعظيمه فتبالغوا فيه، حتى تخرجوه عن حيّز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتُم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال، الذين هم سلَفُكم ممن ضل قديمًا، {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}، أي: وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال، إلى طريق الغواية والضلالة).
قلت: وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين، وتقليد أهل الكتاب فيما سلكوه،
كما حذّر من أئمة الجهل والضلال الذين يقودون الأمة إلى المهالك. وفي ذلك أحاديث من السنة الصحيحة المطهرة:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، ولكن قولوا عبد الله ورسوله](1).
والإطراء: مجاوزة الحد في المدح، أي لا تمدحوني بالباطل.
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[هلك المتنطعون- قالها ثلاثًا](2). وهم المتعمقون المتشددون.
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو](3).
الحديث الرابع: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبيِ هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الدين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحَدٌ إلا غَلبَهُ، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغَدْوةِ والرَّوحة وشيءٍ من الدُّلْجَةِ](4).
الحديث الخامس: أخرج الإمام أحمد في المسند، والطبراني في المعجم الكبير عن أبي الدرداء، وأبو نعيم في الحلية عن كعب عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون](5). قال كعب: (فقلت والله ما أخاف على هذه الأمة غيرهم). ولفظ أحمد: [إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلّون].
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 355) -كتاب أحاديث الأنبياء.
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1824). وصحيح مسلم (2670)، كتاب العلم. من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 215)، وانظر تحقيق:"فتح المجيد"(249 - 250).
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (39)، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، ورواه النسائي. انظر صحيح سنن النسائي -حديث رقم- (4661).
(5)
حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 46)، وأحمد في المسند (6/ 441). وسنده حسن.
78 -
81. قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}.
في هذه الآيات: إِخْبَارٌ من الله سبحانه عن لعن الكافرين المغالين في الإثم والمعصية واستحلال المنكر من بني إسرائيل، بسبب اجترائهم في المعصية وبغيهم وإشاعة المنكر والفواحش في الأرض. فقد كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه، ويتولون المشركين أعداء الله ويعادون أولياء الله ورسله، ولو كانوا موحدين صادقين في تعظيمهم لله ووحيه وما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما اجترؤوا على كل ذلك ولكن كثيرًا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى ما يسخطه وإلى ما يغضبه، وأهل استحلال لما حرم من القول والفعل.
قال ابن عباس: (قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، قال: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن).
وقال قتادة: (لعنهم الله على لسان داود في زمانه، فجعلهم قردة خاسئين، وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير).
وقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي: بسبب مخالفاتهم الشرعية وتجاوزهم حدود الله سبحانه.
وقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}
قال ابن جريج: (لا يتناهون أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر).
أخرج ابن أبي حاتم بسند حسن في الشواهد عن أبي عبد الله بن مسعود قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذَّنْب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيلَه وخليطه وشريَكه -وفي لفظ: وشريبه-، فلما رأى الله ذلك منهم ضَرَب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لتأمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد المسيء ولتأطرُنَّهُ على الحق أطرًا، أو ليضربَن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم](1).
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن قيس، قال: [قال أبو بكر، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
…
} [المائدة: 105]، وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أَوْشَكَ أن يعمَّهم الله بعقاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما مِنْ قومٍ يُعْملُ فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب] (2).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مرُوا بالمعروف، وانْهوا عن المنكر، قَبْل أن تَدْعُوا فلا يُسْتَجابُ لكم](3).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا، فكان فيما قال: ألا، لا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا، هيْبَةُ الثاني، أن
(1) حسن بشواهده. أخرجه أبو داود (4337)، وأبو يعلى (5035)، والطبري (12309) والبغوي في "التفسير"(816) بإسناد منقطع، لكن له شواهد يتقوى بها، منها ما أخرجه الطبراني كما في "المجمع"(12153) من حديث أبي موسى، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (3644) -كتاب الفتن، باب الأمر والنهي. وسنن ابن ماجة (4005). من حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
(3)
حديث حسن. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3235) - كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
يقول بحقٍّ، إذا عَلِمَهُ. قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله! رأينا أشياء، فهبنا] (1).
الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ رأى منكم مُنكرًا فليُغَيِّرْهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطِعْ فبقلبِه، وذلك أضعف الإيمان](2).
الحديث الخامس: أخرج أبو داود بسند صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لن يَهْلِكَ الناس حتى يَعْذِرُوا، أو يُعْذِرُوا، من أنفسهم](3).
ورواه أحمد بلفظ: [لن يهلِكَ الناس حتى يُعْذَروا من أنفسهم].
وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . أي: في تركهم الانتهاء عن معاصي الله وركوب محارمه- والذي سيوردهم المهالك والآلام.
وقوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
قال مجاهد: (يعني بذلك المنافقين).
وقوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} .
قال ابن كثير: (يعني بذلك مُوالاتهم للكافرين، وتركهم موالاةَ المؤمنين التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سُخطًا مُسْتمرًا إلى يوم مَعادِهم، ولهذا قال: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وفَسّر بذلك ما ذَمَّهُم بِه. ثم أخبر عنهم أنهم {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} يعني يوم القيامة).
قال مجاهد: (المنافقون).
أي: لو كان هؤلاء المنافقون الذين يتولون كفار يهود يصدقون الله ويؤمنون به حق الإيمان ويوحّدونه، ويصدّقون نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أُنزل إليه من القرآن العظيم، ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين.
وقوله: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . أي خارجون عن طاعة الله إلى
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4007) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، الباب السابق. وانظر صحيح ابن ماجة -حديث رقم- (3237).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (49) -كتاب الإيمان، باب بَيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4347)، وانظر صحيح الجامع -حديث رقم- (5107).
معصيته، سالكون في سبيل ما يغضبه ويسخطه، أهل استحلال لما حرّم الله عليهم من القول والفعل.
82 -
86. قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}.
في هذه الآيات: خِطَابٌ من الله سبحانه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة للمؤمنين -من أهل الإسلام الذين صدقوك واتبعوك- اليهود وعبدة الأوثان والطواغيت، ولتجدنّ أقرب الناس مودة ومحبة لأهل الإسلام الذين زعموا أنهم نصارى (1) على منهاج عيسى عليه السلام، فقرُبت مودة هؤلاء لأهل الإيمان من أجل أن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون. وأنهم إذا سمعوا الوحي الكريم يُتلى فاضت أعينهم مما عرفوا من صدق هذا التنزيل، يسألون ربهم بإيمانهم أن يكتبهم مع الشاهدين وفي القوم الصالحين. وقد تكرم الله على هؤلاء الصادقين الذين آمنوا بالإنجيل ثم آمنوا بالقرآن بأن أثابهم بصدقهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها جزاء الإحسان والصدق والإيمان، في حين هيأ للكافرين صلي السعير والجحيم والنيران.
(1) أي أنصار الله ودينه ورسوله. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]. وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَال مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)} [آل عمران: 52].
قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} .
قال الحافظ ابن كثير: (ما ذاك إلا لأن كفر اليهود عنادٌ وجحودٌ ومباهتةٌ للحق، وغَمْطٌ للناس وتَنَقُّصٌ بحملة العلم. ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتى هَمُّوا بقَتْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم غير مَرَّةٍ وسَحَرُوه وأَلَّبُوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة).
وقال القرطبي: (بيَّن الله سبحانه في هذه الآياتِ أنّ أشدّ الكفار تمردًا وعتوًّا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وبيّن أن أقربهم مودة النصارى).
وقوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالوا إِنَّا نَصَارَى} .
قال عطاء: (هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين).
وقال قتادة: ونزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، فله، بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم).
وفي التنزيل: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27].
فصدق الإيمان بالوحي جعل في قلوبهم رأفة ورحمة ومودة لأهل الإيمان على اختلاف الكتب المنزلة إليهم.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} .
القسيسون: جمع قِسِّيس وقَسّ. والرهبان: جمع راهب.
قال ابن زيد: ({القسيسين} عبّادهم). قلت: ولكن لفظ القسيسين يشمل أيضًا علماءهم وخطباءهم وحكماءهم. في حين يدل لفظ الرهبان على العبّاد. فهو مشتق من الرهبة وهي الخوف.
وقوله: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} .
قال القاسمي: (أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود. وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراء من الكبر - محمود. وإن كان ذلك من كافر).
أخرج البزار والنسائي وابن جرير بسند صحيح عن عبد الله بن الزبير قال: [نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الآية](1).
قال القرطبي: (وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموّتون، كما قال الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]).
وقوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .
أي: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذين يشهدون بالحق، وهم أمة الشهادة على الناس في الدنيا والآخرة.
وفي التنزيل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. قال الحسن: (الذين يشهدون بالإيمان). وقيل: الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك.
وقال ابن عباس: ({فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}، قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بَلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت).
قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى:
أولًا - في الدنيا: هم أمة الشهادة على الناس يقبل الله شهادتهم.
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم وأحمد وأهل السنن عن أنس رضي الله عنه قال: [مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثني عليها خيرًا، وتتابعت الألسن بالخير، فقالوا: كان - ما علمنا - يحب الله ورسوله، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأُثني عليها شرًّا، وتتابعت الألسن لها بالشر، فقالوا: بئس المرء كان في دين الله، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، فقال عمر: فدىً لك أبي وأمي، مُرَّ
(1) أخرجه البزار ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عثمان وهو ثقة، وأخرجه النسائي في "التفسير"(168)، وابن جرير (12330)، وإسناده صحيح إلى عروة. وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة المائدة - آية (83).
بجنازة فأُثني عليها خيرًا، فقلت: وجبت وجبت وجبت، وَمُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًّا، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجَنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء وأنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، (وفي رواية: والمؤمنون شهداء الله في الأرض)، إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر] (1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري وأحمد والنسائي عن أبي الأسود الديلي قال: [أتيت المدينة، وقد وقع بها مرض، وهم يموتون موتًا ذريعًا، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمرت جنازة، فأثني خيرًا، فقال عمر: وجبت، فقلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجَنَّة، قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله في الواحد](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل جيرانه الأَدْنِينَ أنهم لا يعلمون منه إلا خيرًا، إلا قال الله تعالى وتبارك: قد قبلت قولكم، أو قال: بشهادتكم، وغفرت له ما لا تعلمون](3).
وفي لفظ: [قد قبلت علمكم فيه وغفرت له ما لا تعلمون].
ثانيًا - في الآخرة: هم أمة الشهادة على أقوام الرسل، يشهدون للرسل بالبلاغ.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد مرفوعًا: [يجيء النبيُّ ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثرُ من ذلك وأقلُّ، فيُقال له: هل بلّغت قومَك؟ فيقول: نعم، فيُدْعى قومُهُ، فيُقال: هل بلّغَكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال: من شهِدَ لك؟
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 177 - 178)، ومسلم (3/ 53)، والنسائي (1/ 273)، والترمذي (2/ 158)، وابن ماجة (1/ 454)، وأبو داود (2/ 72)، وأحمد (3/ 179)، و (3/ 186) من طرق، وهذه مجموع روايات من الصحيحين والمسند والسنن. وانظر أحكام الجنائز (26).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري والنسائي والترمذي وصححه البيهقي (4/ 75)، وأحمد (129)(204). من حديث أبي الأسود الديلي.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 242) من حديث أنس رضي الله عنه، والحاكم في المستدرك (1/ 378)، وقال:"صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
فيقول: محمدٌ وأمته، فتُدْعى أمةُ محمدٍ، فيُقال: هل بَلَّغَ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما عِلْمُكُمْ بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبيُّنا بذلك أن الرسل قد بلَّغوا، فَصدَّقناه، قال: فذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .... } ] (1).
وقوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} .
قال ابن زيد: (القوم الصالحون: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
وقوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} .
قال القرطبي: (دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالتهم، فأجاب الله سؤالهم وحقّق طمَعَهم - وهكذا من خَلصَ إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجَنَّة).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
أي: الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك هم سكان جهنم ذات الجحيم، وهو ما اشتد حرّه من النار والعياذ بالله.
قال ابن جرير: {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ، هم سكّانها واللابثون فيها).
87 -
88. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}.
في هذه الآياتِ: نَهْيٌ من الله سبحانه المؤمنين أن يتشبهوا بالقسيسين والرهبان من أهل الكتاب الذين حرموا على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم، وتَرْغِيبٌ بالاستمتاع بالرزق الحلال الطيب مع شكر الله المنعم المتفضل.
قال ابن جرير: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} يعني بـ {الطيبات} ، اللذيذات
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 58)، وأخرجه ابن ماجة (2/ 573 - 574)، وغيرهما.
التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، فتمنعوها إيّاها، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرّموا على أنفسهم النساء والمطاعِمَ الطيِّبة، والمشارِبَ اللذيذة، وحَبَس في الصَّوامِع بعضُهم أنفسَهم، وساحَ في الأرض بعضهم).
وقد دلت السنة الصحيحة على آفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: [جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبروا كأنهم تقالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفَرَ الله له ما تقدَّمَ من ذنبهِ وما تأخَّرَ، فقال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدَّهْرَ ولا أُفْطِر، وقال آخَرُ: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفْطِر، وأصلِّي وأَرْقُدُ، وأتزوج النساء، فمن رَغِبَ عن سنتي فليس مني](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: [كنا نَغْزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليْسَ معنا نِساءٌ فقلنا: ألا نَخْتصي؟ فنهانا عن ذلك، فرَخَّصَ لنا بعد ذلك أن نتزَوَّجَ المرأة بالثوب، ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند حسن لغيره، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [النِّكاح من سُنَّتِي، فمنْ لم يَعْمَلْ بسنتي فليس مني، وتزوّجوا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم، ومن كان ذا طَوْلٍ فَلْيَنْكِح، ومنْ لمْ يَجِدْ فعليه بالصيام، فإن الصومَ له وِجاءٌ](3).
وقوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} - فيه أقوال متقاربة:
1 -
أي لا تحرموا ما أحلّ الله وشرع - فالمراد التأكيد. ذكره السدي وعكرمة.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5063)، كتاب النكاح، ورواه مسلم برقم (1401)، ورواه أحمد في المسند (3/ 241)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4615)، كتاب التفسير، وأخرجه مسلم برقم (1404)، ورواه البيهقي (7/ 79).
(3)
صحيح في الشواهد. أخرجه ابن ماجة (1846)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2383)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6683)، وكذلك أخرج نحوه البزار (ص 146 - زوائده).
2 -
أي لا تعتدوا فتحلوا حرامًا، ولا تشدّدوا فتحرموا حلالًا. ذكره الحسن البصري، واختاره القرطبي.
3 -
لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليكم - قاله بعض السلف. 4 - أي: كما لا تُحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خذوا منه بقَدْر كفايتكم وحاجتكم، ولا تجاوزوا الحدَّ فيه، كما قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وكقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. ذكره الحافظ ابن كثير وقال: (فشَرْعُ الله عدلٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط).
وقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} .
قال عكرمة: (يعني: ما أحل الله لهم من الطعام).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} .
أي: خافوا الله معشر المؤمنين من الاعتداء بتحليل الحرام أو تحريم الحلال أو التنطع في الدين، فإن هذا الدين متين، ولن يشاده أحد إلا غلبه، فخافوا الله واتقوه حق تقاته.
89.
في الآية: تَمْييزٌ بين لغو اليمين، واليمين المنعقدة. فالأولى لا حرج فيها، والثانية في مخالفتها الكفارة: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. ثم تَنْبِيهٌ من الله سبحانه عباده أن يحفظوا أيمانهم ولا يستخدموها في كل أمر، تعظيمًا لأسماء الله تعالى وصفاته.
وتفصيل ذلك:
أولًا - تعريف الأيمان.
الأَيمان - بفتح الهمزة - جمع يمين. وأصل اليمين في لغة العرب: اليد. وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كلٌّ بيمين صاحبه.
وهي في الشرع: توكيد الشيء بذكر اسمٍ أو صفةٍ لله.
ثانيًا: بم تنعقد اليمين.
لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى. أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته.
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسيرُ في رَكْبٍ يَحْلِفُ بأبيه فقال: الا إن الله ينهاكم أن تَحْلِفُوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو لِيَصْمُت](1).
قال عمر: (فوالله ما حلفْتُ بها مُنْذُ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكِرًا ولا آثِرًا).
وفي الصحيحين وجامع الترمذي عن أنس بن مالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم:[لا تزال جهنّم تقول: هل من مزيد، حتى يضع ربّ العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط وعزتك، ويُزوى بعضها إلى بعض](2).
ثالثًا: الحلف بغير الله شرك.
فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك](3).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من حلف منكم فقال في حلفه: باللات. فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك. فليتصدق](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6646) - كتاب الإيمان والنذور، وكذلك (6647)، ورواه مسلم (1646).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6661)، ومسلم (2848)، والترمذي (3326).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (1574)، أبواب النذور والأيمان. وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6204).
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6650) بزيادة "باللات والعزى"، ورواه مسلم (1647)، ورواه النسائي (7/ 7).
رابعًا: من حلف بملة غير الإسلام.
أخرج البخاري ومسلم عن ثابت بن الضحاك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من حلف بملّة سوى الإسلام كاذبًا متعمِّدًا، فهو كما قال](1).
وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة بسند صحيح عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يَعُد إليه الإسلامُ سالمًا](2).
خامسًا: مَنْ حُلِفَ له بالله فليرض.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأى عيسى بن مريم رجلًا يسرق، فقال: أسرقت؟ قال: لا. والذي لا إله إلا هو. فقال عيسى: آمنت بالله، وكذّبت بصري](3).
وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح عن ابن عمر، قال:[سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم. مَنْ حَلَفَ بالله فليصدق. ومَنْ حُلِفَ له بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله](4).
سادسًا: أقسام اليمين:
تنقسم الإيمان أقسامًا ثلاثة:
1 -
اليمين اللغو.
2 -
اليمين الغموس.
3 -
اليمين المنعقدة.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6652)، ومسلم (110)(177) واللفظ له، وأبو داود (3240).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3241)، والنسائي (6/ 7)، وابن ماجة (2100)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3444)، ومسلم (2368)، والنسائي (8/ 249)، وابن ماجة (2102). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (2101)، وانظر صحيح ابن ماجة -حديث رقم- (1708). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
1 -
اليمين اللغو وحكمها:
لغو اليمين: هو الحلف من غير قصد اليمين، كقول الرجل: والله لتأكلن، أو لتشربن ونحو ذلك، لا يريد به يمينًا. أو هو كلام المرء دون قصد: لا والله، وبلى والله، وهو مذهب الشافعي.
قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} .
قال القاسمي رحمه الله: (إنه ما يسبق إليه اللسان بلا قصد الحلف، كقول الإنسان: لا، والله! وبلى والله! والمراد بالمؤاخذة: مؤاخذة الإثم والتكفير، أي: فلا إثم في اللغو ولا كفارة).
أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها: [{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} قالت: أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله](1).
2 -
اليمين الغموس وحكمها:
هي اليمين الكاذبة التي تُهضَم بها الحقوق، أو التي يقصد بها الفسق والخيانة. وسميت بذلك لأنَّها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.
وهي من أكبر الكبائر، ولا كفارة فيها، لأن الله يقول:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، وهذه يمين غير منعقدة، لأن المنعقد ما يمكن حقه، ولا يتأتى في اليمين الغموس البرُّ أصلًا (2).
قال تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)} [النحل: 94].
قال الطبري رحمه الله: (معنى الآية: لا تجعلوا أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم توفون بالعهد لمن عاهدتموه، دخلًا أي خديعة وغدرًا، ليطمئنوا إليكم وأنتم تضمرون لهم الغدر).
أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: [جاء أعرابي
(1) حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود (2789)، وكذلك صحيح البخاري (6663).
(2)
انظر تفصيل ذلك كله في بحث الإيمان - كتاب الإيمان والنذور - الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز ص (385).
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين. قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغَمُوس. قلت: وما اليمينُ الغَمُوس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئٍ مُسلمٍ هو فيها كاذب] (1).
وفي رواية: [الكبائر: الإشراك بالله، وعُقوق الوالدين، وقَتْلُ النفس، واليمين الغموس].
وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، أو نهب مؤمن، أو الفرار من الزحف، أو يمين صابرة يقتطع بها مالًا بغير حق](2).
3 -
اليمين المنعقدة وحكمها.
اليمين المنعقدة هي اليمين التي يقصدها الحالف ويصمِّم عليها، توكيدًا لفعل شيء أو تركه. وبعبارة أخرى: هي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل أمرًا أو ليفعلَنَّه.
فإن برّ بيمينه فلا شيء عليه، وإن حنث فعليه الكفارة، لقوله تعالى:
- {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .... } [البقرة: 225].
- {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ .... } [المائدة: 89].
أي يؤاخذكم بما صَمَّمْتُم عليه من الإيمان وقصدتموها، ثم حنثتم بعد توثيقكم لها. وفي الكلام محذوف، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم.
وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
أي: محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه. قال سعيد بن جبير: (الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6920) - كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، وكذلك (6675).
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد (220/ 68/ 14)(الفتح الرباني)، وانظر صحيح الجامع (3247).
وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} .
قال ابن عباس: (أي من أعدل ما تطعمون أهليكم). وقال عطاء: (من أمثل ما تطعمون أهليكم).
وقال ابن جرير: (أي: في القلّة والكَثْرة). وروى بإسناده عن ابن سيرين عن ابن عمر في قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: (الخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والتمر، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم: الخبز واللحم).
وأما مقدار ما يطعمهم ففيه أقوال:
1 -
قال الحسن ومحمد بن سيرين: (يكفيه أن يُطْعِمَ عشرة مساكين أكلة واحدة خبزًا ولحمًا).
زاد الحسن: (فإن لم يجد فخبزًا وسمنًا ولبنًا، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخلًا حتى يشبعوا).
2 -
قال علي رضي الله عنه: (يغديهم ويعشيهم). ذكره ابن أبي حاتم بإسناده عن الشعبي عن الحارث عنه.
3 -
الإطعام عند مالك مُدٌّ لكل واحد من المساكين العشرة، وبه قال الشافعي.
4 -
قال أبو حنيفة: (يُخْرجُ من البرّ نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعًا).
5 -
وقال آخرون: (يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من برّ أو تمر ونحوهما).
وهو قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعي.
قلت: والراجح أنه يشبعهم من أوسط طعامه ولا فرق هنا بين مقدار البرّ والتمر والشعير في كون البرّ نصف صاع والتمر والشعير كامل الصاع. فإن الفرق قد ثبتَ فقط في زكاة الفطر. لما أخرج الطحاوي عن عروة بن الزبير: [أن أسماء بنت أبي بكر كانت تخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهلها - الحر منهم والمملوك - مُدَّين من حنطة أو صاعًا من تمر، بالمد أو الصاع الذي يقتاتون به](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه الطحاوي (2/ 43) من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه.
وأما كيفية إطعامهم ففيه أقوال:
1 -
قال مالك: (إن غَدَّى عشرة مساكين وعشّاهم أجزأه).
2 -
قال الشافعي: (لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مدًّا).
3 -
قال القرطبي: (لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي. وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، فمنهم من أجاز ذلك وأنه إذا تعدّد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يُمنع من الذي دُفعت إليه أوّلًا، فإن اسم المسكين يتناوله).
4 -
وقال آخرون: (يجوز دفع الكفارة إلى مسكين واحد في أيام، وإن تعدّد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين). وقال أبو حنيفة: (يجزئه ذلك، لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه).
قلت: والراجح في المسألة إمكان جمع المساكين على مائدة واحدة، والأفضل أن يكونوا مختلفين - أي عشرة مساكين مختلفين - لعموم الآية في ذلك، فإن دعا عائلة مؤلفة من عشرة أشخاص - من الفقراء - جاز ذلك، فإن كانوا خمسة أشخاص ودعاهم مرتين على طعام مشبع حصل المقصود. فإن لم يتيسر له ورأى إطعام مسكين واحد عشر مرات حصل المقصود، فإن تعذر عليه وقدّر قيمة ذلك من المال وأعطاها لذلك المسكين أو لتلك العائلة فهذا من البدائل للتيسير، والأفضل الإطعام لصراحة الآية في ذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} .
فيه أقوال:
1 -
قال مجاهد: (في كسوة المساكين في كفارة اليمين: أدناه ثوب). أو قال: (أدناه ثوب، وأعلاه ما شئت). وكذا قال الحسن: (ثوب لكل مسكين). وقال مجاهد: (يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان (1)).
(1) التُّبَّان: سروال قصير إلى الركبة أو ما فوقها، يستر العورة.
2 -
قال منصور: (القميص، أو الرِّداء، أو الإزار).
3 -
قال ابن عباس: (ثوب ثوب لكل إنسان، وقد كانت العباءة تقضي يومئذ من الكسوة). وقال: (الكسوة: عباءة لكل مسكين، أو شِمْلة) ذكره ابن جرير.
4 -
قال سعيد بن المسيب: (عباءة وعمامة لكل مسكين).
5 -
قال ابن عمر: (في الكسوة في الكفارة: إزار ورداء وقميص) ذكره ابن جرير.
6 -
قال الشافعي: (لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يَصْدُقُ عليه اسمُ الكُسْوَةِ من قميص أو سراويل، أو إزار أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك).
7 -
وقال مالك وأحمد: (لا بُدَّ أن يدفعَ إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصحُّ أن يصلي فيه، إن كان رجلًا أو امرأة، كل بحسبه).
8 -
وقال إبراهيم النَّخَعِيِّ: (ثوب جامع كالمِلْحَفَةِ والرِّداء). ولا يرى الدرع (1) والقميص والخمار ونحوه جامعًا.
قلت: والراجح في ذلك ما يصدق عليه اسم الكسوة: (إزار وقميص مثلًا)، مما يكسى به بدن المسمكين، كأن كان عاريًا ثم كساه، وهو قويب من كلام الشافعي رحمه الله.
أما قول مالك وأحمد مما يصح الصلاة فيه، فإن الصلاة تصح بما يغطي العورة - بين السرة والركبة - ولا شيء على بقيَّة الجسد، ولكن هذا ليس كسوة.
وقوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .
قال ابن جرير: (أو فك عبد من أسر العبودة وذلها). واختار الشافعي رحمه الله تقييدها بالإيمان. وقال: (لا بد أن تكون مؤمنة). قال ابن كثير: (وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل، لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب. ومن حديث معاوية بن الحكم السّلمي الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم: أنَّه ذكر أن عليه عِتْقَ رقبة، وجاء معه بجارية سوداء، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
(1) الدرع: قميص المرأة. والملحفة: لباس فوق سائر اللباس من دِثار البرد ونحوه.
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} .
أي يبدأ بالإطعام وهو الأسهل الذي اختاره الله سبحانه، ثم الكسوة التي هي أيسر من العتق، فرُقيَ بالكفارة من الأدنى إلى الأعلى، فإن تعذر ذلك مما سبق كفَّر عن يمينه بصيام ثلاثة أيام، ولا يلزمه أن يصومها متتابعات، فإن السياق يدل على ذلك - كما قال تعالى في قضاء صوم رمضان في حق المريض والمسافر:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} - وهو أحد قولي الشافعي وإليه ذهب الإمام مالك.
وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} .
أي: الإطعام أو الكسوة أو العتق فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام - وهي الكفارة الشرعية التي شرعها الله تعالى عند الحنث في اليمين.
وقوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} .
أي: بتعظيم أمر الحلف وعدم الخوض والإقحام له في كل شأن. ثم يتناول الحفظ أيضًا المبادرة إلى التكفير دون تأخير.
قال القرطبي: ({وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}. أي: بالبِدار إلى ما لزمكم من الكفّارة إذا حَنِثتم. وقيل: أي بترك الحَلِف، فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات).
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} .
قال ابن جرير: (كما يبيّن لكم كفارة أيمانكم، كذلك يبين الله لكم جميع آياته - يعني أعلام دينه فيوضِّحُها لكم - لئلا يقول المضيع المفرِّط فيما ألزمه الله: "لم أعلم حكم الله في ذلك! " {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يقول: لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم).
90 -
93. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}.
في هذه الآياتِ: أَمْرُ الله سبحانه عباده المؤمنين باجتناب الخمر والقمار والأنصاب التي يُذبح عندها والأزلام التي يستقسم بها في الجاهلية إذا ما أرادوا الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. ثم تَوْضِيحٌ لمحاولات الشيطان استخدام تلك المسكرات وألوان القمار للصد عن الذكر والصلاة وضياع الدين. ثم أَمْر منه جل ذكره بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتَحْذِيرٌ من مغبة المخالفة وركوب الأهواء. ثم بَيانُ عفو الله عما مضى من التعاطي من تلك المحرمات إذا ما حصل الانتهاء والتماس التقوى والعمل الصالح والله يحب المحسنين.
أخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال: [نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا حتى إذا ثملوا عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}. فقال ناس من المتكلفين: هى رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وقتل فلان يوم أحد، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية](1).
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: [كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ (2)، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}](3).
الخمر: هو الشراب الذي خامر العقل أي خالطه فستره. ذكره القاسمي. وهو يطلق
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 141 - 142)، والبيهقي (8/ 285 - 286)، وأخرجه الطبراني كما ذكر الهيثمي في "المجمع" (7/ 18) وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(2)
وفي رواية: وما شرابُهم إلا الفضيخ: البسرُ والتمر.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2464)، (4620)، ومسلم (1980)، وأحمد (3/ 227)، وغيرهم. من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
على كل مسكر، فكل مسكر خمر، وكل خمر حرام.
وأما الميسر فهو: القمار. وهو يضيع المال، كما يضيع الخمر العقل، فجاء تحريمهما. والأنصاب: حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها. وقيل هي الأصنام المنصوبة للعبادة. والأزلام: قِداحٌ كانوا يستقسمون بها، وهي من أمر الجاهلية، وتنافي الإيمان بالقدر.
قلت: والعطف بين هذه الأمور في التحريم يقتضي أن النجاسة في كل منها معنوية لا حسية، فالأنصاب حجارة، والأزلام قداح، فدَلَّ هذا أن نجاسة الخمر والميسر نجاسة معنوية.
قال ابن عباس: ({رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، يقول: سَخَط). وقال ابن زيد: (الرجس: الشر).
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سليمانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدَشِير، فكأنما صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خنزيرٍ ودمِه](1).
قال العلماء: النردشير هو النرد. فالنرد عجميّ معرّب، وشير معناه حلو.
وأخرج أحمد وأبو داود بسند حسن عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لعب بالنَّرْدِ فقد عصى الله ورسوله](2).
فعطف التحريم على التحريم، لا التحريم على النجاسة، فإنه لا يُعطف التحريم على النجاسة، أي تحريم النرد على تحريم أكل لحم الخنزير أو بيعه، وكنّى عن ذلك بصبغ الرجل يده في لحم الخنزير ودمه.
وقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} .
قال ابن جرير: (يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه).
وقال القرطبي: (يريد أبعدوه واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر). ثم قال: (قوله: {فَاجْتَنِبُوُهُ} يقتضي الاجتناب المطلق
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2260)، كتاب الشعر. باب تحريم اللعب بالنردشير.
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 397)، وأبو داود (4938)، وأبو يعلى (7290)، وغيرهم.
الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك).
قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث تبيّن مفاسد الخمر كما تبين تحريم الانتفاع بها.
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: [إنَّ رَجُلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راويةَ خَمْرٍ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عَلِمْتَ أنَّ الله تعالى قَدْ حَرَّمَها؟ قال: لا، فَسَارَّ إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بِمَ سارَرْتَهُ؟ فقال: أمَرْتُهُ ببَيْعِها، فقال: إنَّ الذي حَرَّمَ شُرْبَها حَرَّمَ بَيْعَها. قال: فَفَتَحَ المَزَادَةَ حتى ذهب ما فيها](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، والطبراني في المعجم، والبيهقي في "شعب الإيمان" بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومستقيها](2).
الحديث الثالث: أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الخمر أم الخبائث، فمن شربها لم تُقْبَل صلاتُه أربعين يومًا، فإن مات وهي في بطنه مات ميتةً جاهلية](3).
الحديث الرابع: أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، مَنْ شَربَها وقع على أمه وخالته وعمته](4).
الحديث الخامس: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن](5).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1579) - كتاب المساقاة. باب تحريم بيع الخمر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 316)، والحاكم في المستدرك (4/ 145)، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 150/ 1).
(3)
حديث حسن. رواه الطبراني في "الأوسط"(3810)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1854).
(4)
حديث حسن. رواه الطبراني (رقم 11372 - 11498)، وفي "الأوسط"(3285).
(5)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 272)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (677).
قلت: ووجه الارتباط بين الخمر والشرك: أنَّ المشرك يعبد حجرًا أو صنمًا، وشارب الخمر المدمن عليه يعبد كأسًا، وكلاهما يصرف العبادة والخضوع لغير الله.
الحديث السادس: أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجَنَّة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم](1).
فقرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر وقطيعة الرحم، فنعوذ بالله من هذا الشراب الخبيث، ومن مجالسة أهله وعشاقه، الذين استذلتهم الكأس حتى ذهبت عقولهم وهانت عليهم المعصية.
أخرج البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على مِنْبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس، إنه نزل تحريمُ الخَمْرِ وهي من خمسة: من العِنَب، والتَّمر، والعَسَل، والحِنْطَةِ، والعثمعير. والخمرُ ما خامر العقل](2).
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فعلّق الفلاح باجتناب تلك المحرمات.
تَحْذيرٌ من مسلك الشيطان في تحبيب شرب الخمر والمياسرة بالقداح وتحسين ذلك حتى يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ويصدهم بسكرهم ولهوهم عن ذكر الله الذي فيه سعادة دنياهم وأخراهم، وكذلك عن الصلاة الواجبة عليهم التي فيها صلتهم بربهم ومناجاتهم له، فهل أنتم منتهون - أيها المؤمنون - عن هذا الشراب الخبيث وذلك القمار المشين، ومقبلون على ما فيه صلاح دنياكم وأخراكم.
أخرج الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: [نزلت فيَّ آيات من القرآن. وفيه قال: وأتيت على نفر من الأنصار، فقالوا: تعال نُطْعِمك ونسقيك خمرًا، وذلك فبل أن تُحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حَشٍّ - والحَشُّ البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزقٌ من خمر. قال: فأكلتُ وشربتُ معهم، قال: فذكرت
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في صحيحه - برقم (1381) - وانظر المرجع السابق (678).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5581)، (5588)، ومسلم (3032)، وأبو داود (3669)، والترمذي (1874)، والنسائي (8/ 295)، وابن حبان (5353).
الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خيرٌ من الأنصار، قال: فأخذ رجل لَحْيَي جمل فضربني به فجرح أنفي (وفي رواية: ففزره وكان أنف سعد مفزورًا) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله تعالى فيّ - يعني نفسه شأن الخمر - {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} ] (1).
وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} .
قال القرطبي: (تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للأمر، وكف عن المنهيّ عنه).
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} .
أي: إن أعرضتم عن الامتثال وركبتم المخالفة فقد قامت عليكم الحجة، وانتهت الأعذار، ولم يبق إلا العقاب ونزول العذاب.
المعنى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات حرج فيما شربوا قبل التحريم إذا ما اتقى الله الأحياء منهم فخافوه وامتثلوا أمره في اجتناب ما حرّم عليهم، وصدقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم واكتسبوا من الأعمال الصالحة التي ترضيه سبحانه. {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} أي: ثم خافوا الله وثبتوا على الإيمان واجتناب ما حرّم عليهم ولم يغيروا ولم يبدلوا، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} أي تابعوا الترقي في منهاج التقوى والخوف من الله حتى بلغوا أعلى المراتب في ذلك وهي مرتبة الإحسان: وهي أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، والله يحب المحسنين.
قال ابن جرير: (فالاتقاء الأول: هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق، والدينونة به والعمل. والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير. والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال).
قال مجاهد: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ، لمن كان يشرب الخمر ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدر وأحد).
(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1748)(34)، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (2/ 827) لتفصيل نزول تحريم الخمر.
وقال ابن عباس: (ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرمها، إذا كانوا محسنين متقين، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}). وقد مضى ذكر أسباب نزول هذه الآية في ذلك بالأسانيد الصحيحة.
94 -
95. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَال أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}.
في هذه الآياتِ: اختبارُ الله للمؤمنين ببعض الصيد حالة إحرامهم ليعلم أهل طاعته والإيمان به والمعظمين لحدوده وشعائره، وَتَوَعُّدٌ للمخالفين بعذاب موجع مؤلم. ثم نَهْيٌ صريح عن قتل صيد البر حالة الإحرام، وإعلامٌ من الله تعالى ذكره عبادَه حكم القاتل من المحرمين الصيد الذي نهاه عن قتله متعمدًا.
قال ابن عباس: (هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا نالوه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقربوه).
وقال مجاهد: (النَّبْل، {رماحكم}، تنال كبير الصيد، {أَيْدِيكُمْ} تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض). وقال: (الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفرّ).
وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} .
قال ابن كثير: (يعني: أنَّه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكّنون من أخذه بالأيدي والرماح سِرًّا وجهرًا، لتظهر طاعةُ من يُطيع منهم في سرّه وجَهْره. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك]).
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال السدي: (يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم).
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} .
خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى.
قال القرطبي: (وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية).
وهناك استثناء من السنة الصحيحة لعموم هذه الآية، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[خَمْسُ فواسِق يُقْتَلْنَ في الحلِّ والحَرَم: الغُراب، والحِدَأةُ، والعقرب، والفأرة، والكلبُ العقور](1).
ورواه النسائي من طريق أيوب، وأخرجه أبو يعلى من طريهق جرير عن نافع عن ابن عمر وفيه:(قال جرير: وقال لي أيوب: قلت لنافع: فالحيةُ؟ قال: تلك لا يختلف فيها اثنان).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم والنسائي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خمسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِم: الحَيَّةُ، والفأرة، والحِدَأةُ، والغراب الأبقعُ، والكلب العقور](2).
والغراب الأبقع: هو الذي في بطنه وظهره بياض، دون الأدْرَع وهو الأسود، والأعصم هو الأبيض. والكلب العقور هو الجارح المفترس. وأما الحدأة فهي أخس الطيور، تخطف أطعمة الناس من أيديهم.
قال الإمام مالك: (لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه).
وألحق الإمام مالك وأحمد بالكلب العقور الذئبَ، والسبع، والنَّمِر، والفهد لأنها أشدّ ضررًا منه. قال القاضي إسماعيل:(الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس. قال: ومن ذلك الحية والعقرب؟ لأنه يخاف منهما، وكذلك الحِدَأة والغراب، لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1829)، (3314)، ومسلم (1198)، والنسائي (5/ 208)، ومالك (1/ 357)، وأخرجه أحمد في المسند (6/ 122)، (6/ 261) من حديث عائشة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1198) ح (67)، وأخرجه النسائي (5/ 186 - 188). من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
وقال ابن بُكير: (إنما أُذِنَ في قتل العقرب لأنَّها ذات حُمَة (1)، وفي الفأرة لقرضها السِّقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر. وفي الغراب لوقوعه على الظهر (2) ونَقْبه عن لحومها).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: [أنبأنا صعب بن جَثَّامَةَ قال: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالأبواء أو بوَدّان. فأهديت له حمار وحش. فرده عليّ. فلما رأى في وجهي الكراهية قال: إنه ليس بنا ردٌّ عليك. ولكنّا حُرُمٌ](3).
الحديث الرابع: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن علي بن أبي طالب، قال:[أتي النبي صلى الله عليه وسلم لحم صيد، وهو مُحْرِمٌ، فلم يأكله](4).
وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .
فيه وجوب الجزاء على فاعل ذلك من مثل ما قتله ذلك المحرم.
قال القرطبي رحمه الله: (ما يُجْزِئ من الصيد شيئان: دوابٌ وطيرٌ، فيُجْزِئ ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النّعامة بَدَنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، وبه قال الشافعي. وأقل ما يجزئ عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية، وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام).
قلت: والمِثْل يقتضي حسب ظاهر النص المثل الخِلْقي الصوري، ويدل عليه قوله:{من النّعم} ، فبَيّنَ بذلك سبحانه جنس المثل. وقد قضى الصحابة في النعامة ببدَنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بِعَنزٍ، ونحو ذلك.
أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن جابر، فال:[جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع، يصيبه المحرم، كبشًا. وجعله من الصيد](5).
(1) الحمة: السم أو الإبرة تضرب بها العقرب والزنبور ونحو ذلك.
(2)
أي على الابل التي يحمل عليها ويركب.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1825) - كتاب جزاء الصيد. وكذلك (2573)، ورواه مسلم، ورواه ابن ماجة (3090) - باب ما ينهى عنه المحرم من الصيد. وانظر ما بعده.
(4)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3091) - الباب السابق. صحيح ابن ماجة (2508).
(5)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3015) - باب جزاء الصيد يصحبه المحرم. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (2504). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.
وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
قال ابن كثير: (يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل، أو القيمة في غير المثل، عدلان من المسلمين).
وقال ابن جرير: حدّثنا ابن وكيع، حدثنا ابن عيينة، عن مُخارق، عن طارق قال:(أَوْطأ أربدُ ظَبيًا فقتله وهو مُحْرِم، فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي. فحكما فيه جَدْيًا، قد جَمَعَ الماء والشجر. ثم قال عمر: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}).
وفي هذا الأثر دلالة عند الشافعي وأحمد على جواز كون القاتل أحد الحكمين.
وفي أثر عنه مشابه قال عمر: (ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. قال: فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليَّ بِتيسٍ أعفر) رواه ابن جرير.
وقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} .
أي: يصل إلى الكعبة ليُذبح هناك ويوزع على مساكين وفقراء الحرم.
وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} .
قال ابن عباس: (إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلًا أو نحوه فعليه بقرة. فإن لم يجدها أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بَدَنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام مدٌّ مدٌّ، شِبَعَهم) ذكره بسنده ابن جرير.
قال ابن كثير: (إذا لم يجد المحرمُ مثل ما قتل من النعَم، أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قولُ مالك، وأبي حنيفةَ، وأبي يوسفَ، ومحمد بن الحسن، وأحدِ قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد رحمهم الله لظاهر الآية {أو} فإنها للتخيير. والقول الآخر أنَّها على الترتيب. فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوّم الصيد المقتول عند مالك، وأبي حنيفة وأصحابه، وحماد، وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا، ثم يشترى به طعام ويتصدَّق به، فيصرف لكل مسكين مُدٌّ منه عند الشافعي، ومالك، وفقهاء الحجاز، واختاره ابنُ جرير. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: يُطعم كلَّ مسكين مُدَّين، وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مُدٌّ من حنطة، أو مُدَّان من غيره. فإن لم يجد، أو قلنا بالتخيير، صام عن إطعام كل مسكين يومًا).
قلت: ويبدو من الآية أنه عند تعذر وجُود مثل ما قتل من النعم، فالكفارة إطعام مساكين بقدر قيمة الصيد المقتول يَتصدق به على الفقراء، يُفرق بما يطعم كل فقير أو مسكين على حدة، فإن لم يجد أو ذهبنا إلى التخيير صام عن إطعام كل مسكين يومًا.
وقوله: {لِيَذُوقَ وَبَال أَمْرِهِ} .
أي: مغبة المخالفة والعصيان لأمر الله.
وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} .
أي: مما كان من قتل الصيد في الجاهلية - قاله عطاء. أو قبل نزول الكفارة. قاله آخرون.
وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} .
قال سعيد بن جبير: (معناه فينتقم الله منه بالكفارة). وقال ابن عباس: (من قتل شيئًا من الصيد خطأ وهو محرم، يحكم عليه فيه كلما قتله، وإن قتله عمدًا يحكم عليه فيه مرّة واحدة، فإن عاد يقال له: "ينتقم الله منك" كما قال الله عز وجل. وقال عطاء: (من عاد في الإسلام، فينتقم الله منه وعليه مع ذلك الكفارة).
قلت: ويبدو أن هذا الوعيد ترهيب من التهاون في تعظيم حرمات الله وشعائره، فإنه لا يعني وجود الكفارة التهاون أبدًا، ولذلك هدّد سبحانه وتوعّد من سلك سبيل التهاون، وهذا ينطبق على كل أمر شرعي وعلى كل مخالفة - والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} .
أي: منيع في ملكه، له الكبرياء والجبروت وهو الواحد القهار، ولو شاء انتقم ممن عصاه أو أعطاه فرصة ليستعتب، فليتنبه المؤمن من ذلك إلى وجوب تعظيم حرمات الله وأوامره وشرعه.
96 -
99. قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)}.
في هذه الآياتِ: حِلُّ صيد البحر وطعامه، وتَحْرِيمُ صيد البر على المُحْرِمِ، وَأَمْرٌ بالتقوى والاستعداد للقاء الله تعاالى. ثم بيان أن الكعبة صيّرها الله قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، وكذا الشهر الحرام والهدي والقلائد يحجز الله بكل واحد من ذلك الناس بعضهم عن بعض، وهي معالم لدينهم، ومصالح أمورهم، والله عليم بكل ما يجري في هذا الكون، شديد العقاب لمن عاند أمره، غفور رحيم لمن استعتب واستغفر من إساءته، وقد أرسل رسوله بالبلاغ المبين، وهو سبحانه يعلم ما تبدون وما تكتمون.
فقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} .
قال ابن عباس: (صيده، ما صيد منه). وقال: (صيده، الطريّ). وقال سعيد بن جبير: (السمك الطري). وقال السدي: (أما {صيد البحر} فهو السمك الطري، هي الحيتان). قالت مجاهد: (يصطاد المحرم والمحلُّ من البحر، ويأكل من صيده). وقال ابن عباس: (طعامه ما قذف). أو قال: (كل ما ألقاه البحر). أو قال: (ما لفظ من ميتتة). وقال أيضًا: (ما وجد على الساحل ميتًا).
أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح عن أبي هريرة قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول صلى الله عليه وسلم إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا. أفنتوضأ من البحْر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطَّهورُ ماؤه، الحِلُّ مَيْتَتُه](1).
وأخرج ابن ماجة بسند جيد عن ابن الفِرَاسِيِّ، قال: [كنت أصيد وكانت لي قِرْبَةٌ
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 237)، وأبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 50)، وابن ماجة (386). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أجعل فيها ماء، وإني توضأت بماء البحر، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو الطَّهُورُ ماؤه، الحِلُّ مَيْتَتُه] (1).
وله شاهد عنده من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر، فقال:[هو الطَّهُور ماؤه، الحِلُّ مَيتَتُهُ](2).
وقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} .
أي: منفعة للمقيمين وللسائرين المسافرين.
قال عكرمة: {مَتَاعًا لَكُمْ} لمن كان بحضرة البحر" {وَلِلسَّيَّارَةِ} ، السَّفر).
وقال مجاهد: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} ، قال: أهل القرى، {وَلِلسَّيَّارَةِ} ، وأهل الأمصار). والسيّارة جمع سيّار. والمقصود: منفعة لمن كان مقيمًا حاضرًا في بلده، ومنفعة أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: [بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثًا قِبَلَ الساحل، فأَمَّرَ أبا عُبيدة بنَ الجَرَّاح وهم ثلاثُ مئةٍ وأنا فيهم، فخرجْنا حتى إذا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّريق فَنِيَ الزَّادُ، فأمَرَ أبو عُبيدة بأزوادِ ذلك الجيش فَجُمِعَ ذلك كُلُّهُ، فكان مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فكان يُقَوِّتُنَا كُلَّ يومٍ قليلًا قليلًا حتى فَنِيَ، فلِم يكن يُصيبُنا إلا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فقلت: وما تغني تَمْرَةٌ؟ فقال: لقد وَجَدْنا فَقْدَها حين فنِيَتْ، قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حُوتٌ مثلُ الظَّرْبِ فأكل منه ذلك الجيشِ ثمانيَ عَشْرَة لَيْلَة، ثم أمر أبو عبيدة بِضِلْعَينِ من أضلاعِهِ فَنُصِبا، ثم أَمَرَ براحلةٍ فَرُحِلتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُما فلم تُصِبْهُما](3).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر قال: [بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) صحيح بما قبله. أخرجه ابن ماجة في السنن (387)، باب الوضوء بماء البحر. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (310). من حديث ابن الفِراسِيّ.
(2)
حسن صحيح. أخرجه ابن ماجة في سننه (388) - الباب السابق - وانظر صحيح سنن ابن ماجة (311). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2483) - كتاب الشركة، وكذلك (4360)، وأخرجه مسلم (1935) ح (21)، وأخرجه مالك (2/ 930)، والبيهقي (9/ 252)، والنسائي (7/ 207)، وأحمد (3/ 308). من حديث جابر رضي الله عنه.
وأمَّرَ علينا أبا عُبيدة، نَتَلَقَّى عِيرًا (1) لقريش، وَزَوّدَنا جِرابًا مِنْ تَمْرٍ لم يَجِدْ لنا غَيْرَه، فكان أبو عُبيدة يعطينا تَمْرَةً تَمْرةً، قال: فقلت: كيف كُنْتُم تَصْنَعون بها؟ قال: نَمَصُّها كما يَمَصُّ الصَّبي، ثم نَشْربُ عليها من الماء، فَتَكْفِينا يَوْمَنَا إلى الليل، وكنا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الخَبَطَ، ثم نَبُلُّهُ بالماء فنأكُلُه، قال: وانطلقنا على ساحل البحر، فَرُفِعَ لنا على ساحلِ البحر كهيئة الكثيب الضَّخم، فأتيناهُ فإذا هي دابَّةٌ تُدعى العَنْبَرَ. قال: قال أبو عبيدة: مَيْتَةٌ، ثم قال: لا، بل نحن رُسُلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضْطُرِرْتُم فكلوا، قال: فأقَمْنا عليه شهرًا، ونحن ثلاثُ مئةٍ حتى سَمِنَّا، قال: ولقد رأيْتُنا نَغْتَرِفُ من وَقْبِ عَيْنِهِ، بالقلال (2)، الدُّهْنَ، ونَقْتَطِعُ مِنْهُ الفِدَرَ كالثَّورِ - أي: كَقَدْرِ الثَّوْر - فلقد أخذَ منا أبو عبيدة ثلاثة عشرَ رجلًا، فأقْعَدَهُم في وَقْبِ عينه، وأخذ ضِلْعًا من أضلاعه، فأقامها، ثم رَحَلَ أعظم بعير مَعَنا فَمَرَّ من تحتِها، فتزوَّدْنا من لحمه وَشَايِقَ (3)، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَذكَرْنا ذلك له، فقال: هو رِزْقٌ أخرجَهُ الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فَتُطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْه، فأكَلَهُ] (4).
الحديث الثالث: أخرج أحمد وابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدَّمان فالكبدُ والطِّحال](5).
ويستثنى الضفدع، فقد ورد النهي عن قتله، مع أنه يعيش في الماء. فقد أخرج أبو داود والنسائي بسند جيد عن عبد الرحمن بن عثمان التَّيمي:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قَتْلِ الضِفْدع](6).
(1) العير: هي الإبل التي تحمل الطعام وغيره. وفي رواية أنه بعثهم صلى الله عليه وسلم إلى سيف البحر لذلك.
(2)
القلال: جمع قلة، وهي الجرة الكبيرة التي يقلها الرجل بين يديه أي يحملها.
(3)
قال أبو عبيد: هو اللحم يؤخذ فيُغلى إغلاء، ولا ينضج، ويحمل في الأسفار. يقال: وشقت اللحم فاتشق، والواحدة منه: الوشيقة.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1935) - كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ميتات البحر.
(5)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 97)، وابن ماجة (3314)، والبيهقي (1/ 254)، والحاكم، وغيرهم. من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(6)
حديث إسناده جيد. أخرجه أبو داود (3871)، (5269)، والنسائي (7/ 210)، والحاكم (4/ 410). من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي مرفوعًا.
وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} .
أي: ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم، فإن صيد البر يَحْرُمُ عليكم.
فائدة (1): لو اصطاد الحلال من أجل المحرم لم يجز للمحرم أكله.
فقد أخرج البخاري عن الصَّعْبِ بن جَثامَةَ اللَّيثي: [أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حِمارًا وَحْشِيًّا وهو بالأبواء أو بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نَرُدَّه إلا أنا حُرُمٌ](1).
وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق - في رواية - قالوا: إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد، لم يجز للمحرم أكله، للحديث السابق.
فائدة (2): لو لم يقصد الحلال المحرم بالاصطياد، ولا أشار إليه، ولا أعانه، جاز له أن يأكل من ذلك الصيد.
فقد أخرج البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه: [أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له مُحْرِمين وهو غيرُ مُحْرِم، فرأى حمارًا وَحْشيًا فاستوى على فرسه، فسأل أصحابه أن يُناولوه سَوْطه فأبوا، فسألهم رُمْحَهُ فأبوا، فأخذه ثم شدَّ على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبى بعضٌ، فلما أدركوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك؟ قال: إنما هي طُعْمَةٌ أطعمكموها الله](2).
وفي رواية: (قال: هل معكم من لحمه شيء).
وقد أورد البخاري رواية أخرى فيها تفصيل أكبر لما جرى، من حديث عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجًّا فخرجوا معه فصرف طائفةً منهم فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحلَ البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحلَ البحر، فلما انصرفوا أحْرَمُوا كُلُّهم إلا أبو قتادةَ لم يُحْرمْ، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُرَ وَحْشٍ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1825) - كتاب جزاء الصيد. باب: إذا أَهْدَى للمحرم حمارًا وحشيًا حَيًّا لم يقبل. وأخرجه مسلم (1193)، والنسائي (5/ 183)، ومالك (1/ 353)، وأحمد (4/ 72). من حديث الصعب بن جثامة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1821 - 1822) - كتاب جزاء الصيد. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (2/ 980)، (2/ 985)، لتفصيل هذه الأحكام.
فحمل أبو قتادة على الحُمُرِ فَعَقَر منها أتانًا فنَزَلوا فأكلوا من لَحْمِها وقالوا: أنأكل لحم صَيْدٍ ونحن محرمون! فَحَمَلْنا ما بقي مِنْ لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنا كنا أحْرَمنا وقد كان أبو قتادة لم يُحْرِم، فرأينا حُمُرَ وَحْشٍ فحمل عليها أبو قتادة فعَقَر منها أتانًا فنزَلْنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحْمَ صيدٍ ونحن محرمون، فحملنا ما بقي من لحمها. قال: أمِنْكم أحدٌ أمَرَهُ أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها] (1).
فالذى أشكل على الصحابة أنهم حرم وقد اصطاد لهم أبو قتادة حمارًا وحشيًا فأكل بعضهم وامتنع بعض، فلما التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في موضع يُقال له (السقيا) على مئة وثمانين كيلًا من المدينة، سألوه فأذن لهم بأكله ما داموا لم يشتركوا في صيده ولم يشيروا أو يعينوا عليه.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
قال القرطبي: (تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير).
وفيه أقوال متكاملة:
1 -
قال ابن عباس: (قيامها، أن يأمن من توجّه إليها). وقال: (يعني قيامًا لدينهم، ومعالم لحجهم).
2 -
وقال مجاهد: (إنما سميت {الْكَعْبَةَ} لأنَّها مربعة، {قِيَامًا لِلنَّاسِ} قال: قوامًا للناس). وقال: (حين لا يَرْجون جنة ولا يخافون نارًا، فشدّد الله ذلك بالإسلام).
3 -
وقال قتادة: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} : حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (1824) - كتاب جزاء الصيد. وأخرجه مسلم برقم (1196)، ووراه أحمد في المسند (5/ 302).
الناس. وكان إذا نفر تقلّدَ قلادة من الإِذْخِر أو من لِحاء السمُر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، حواجِزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية).
4 -
وقال ابن عباس: (كان ناس يتقلّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ، فيعرفون بذلك).
5 -
وقال ابن زيد: (كان الناس كلهم فيهم ملوك تدفع بعضهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى ذكره لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفَعُ بعصهم عن بعض به، والشهر الحرام كذلك، يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرام، والقلائد. قال: ويلقى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسخ).
قال ابن جرير: (يعني تعالى ذكره بقوله {ذَلِكَ}، تصييره الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيّرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم، علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السماوات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شيء {عَلِيمٌ}، لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم، وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته).
وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
تخويف وترجية، ترهيب وترغيب، لا صلاح للعبد بدونهما، فهو بحاجة للخوف من الله ومن عقابه وعذابه، وللثقة بمغفرته وعفوه، حتى يستقيم توجهه إليه.
وقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} .
أي: ليس للرسول إلا البلاغ فأمر الهداية والتوفيق والعفو والثواب بيد الله سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فهو الذي يطلع على القلوب ويعلم ما تخفونه من الكفر والنفاق، أو من الصدق والإيمان.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله لا ينظرُ إلى أجسامكم، ولا إلى صُوَركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم](1). وفي لفظ: [إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم].
100 -
102. قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}.
في هذه الآياتِ: خِطابٌ من الله لعباده: لا يستوي الحلال الطيب القليل مع الحرام المخادع الكثير، فاتقوا الله يا أهل العقول لعلكم تنالون رضاه وتوفيقه. ثم تَأدِيبٌ من الله سبحانه لعباده المؤمنين، وارتقاءٌ بهم عن الخوض فيما لا فائدة منه من السؤال والبحث، فلربما ظهر جواب ذلك فيما يشق عليهم وتكرهه نفوسهم، فقد حصل ذلك لأقوام مضوا فأصبحوا بذلك كافرين.
ففي قوله: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .
قال السدي: ({الْخَبِيثُ}، هم المشركون، {وَالطَّيِّبُ}، هم المؤمنون).
وقال ابن جرير: (قل يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}، يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله، ولو كثر أهل المعاصي فعجبت من كثرتهم، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته، وإن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2564)(33)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا (34) - باللفظ الذي بعده.
ولا شك أن الآية تعم كل قليل طيب مبارك، وكل كثير خبيث فاتن، سواء كان من الناس ومعادنهم، أو كان من متاع هذه الحياة الدنيا.
أخرج أبو يعلى في المسند، والبيهقي في "الشعب"، بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ما قل وكفى خير مما كثر وألهى](1).
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} .
وَصِيَّةٌ بالتقوى من الله سبحانه، فهي سرّ سعادة الدنيا وسرّ النجاة يوم القيامة.
أخرج الإمام أحمد في المسند، بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، أن رجلًا جاءه فقال: أوصني، فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك: [أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فإنه رَوْحُكَ في السماء وذكرك في الأرض](2).
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . الآية.
فإن فيها ثلاث أسباب صحيحة للنزول:
السبب الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: [خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا. قال: فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان. فنزلت هذه الآية: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (3).
السبب الثاني: أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حتى فرغ من الآية كلها](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو يعلى (1053)، والبيهقي في "الشعب"(10730)، وانظر صحيح الجامع (5529). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 82)، وأخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"(ص 197).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4621)، ومسلم (2359)، وأحمد (3/ 210)، والترمذي (3058)، وأخرجه الطيالسي (2/ 60)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - (4622) - كتاب التفسير، عند هذه الآية.
السبب الثالث: أخرج الطبري عن أبي هريرة - بسند رجاله ثقات - قال: [خطبنا رسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج. فقام محصن الأسدي فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما أني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكنوا عن ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} إلى آخر الآية](1).
فهذه ثلاثة أسباب للنزول مسندة صحيحة، والحاصل أنَّها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء والامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.
وقوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} .
قال ابن عباس: (يقول: لا تسألوا عن أشياء إن نُزِّل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه).
وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن أعظم المسلمين جُرْمًا مَنْ سأل عَنْ شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّمَ من أجل مسالته](2).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: [سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرِهَها، فلمّا أكثروا عليه المسألة غضب وقال:"سلوني" فقال رجل فقال: يا رسول الله، مَنْ أبي؟ قال: أبوك حُذافَةُ. ثم قام آَخرُ فقال: يا رسول الله، مَنْ أبي؟ فقال: أبوك سالِمٌ مولى شَيْبَةَ. فلما رأى عُمَرُ ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب قال: إنا نتوب إلى الله عز وجل" (3).
الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: [أن
(1) حديث حسن أخرجه ابن جرير (ج 7 (ص (82) بسند رجاله رجال الصحيح إلا محمد بن علي شيخ ابن جرير، وهو ثقة، وروى نحوه الطبراني من حديث أبي أمامة. والدارقطني (2/ 282).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7289) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. وأخرجه مسلم برقم (2358)، ورواه أحمد (1/ 176).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7291) - الكتاب السابق. باب ما يُكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه.
النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصَلَّى الظُّهْرَ، فلما سَلَّم قام علي المِنْبَرِ فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورًا عِظامًا، ثم قال: مَنْ أَحْبَّ أن يسأل عن شيء فليسألْ عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكُمْ به ما دُمْتُ في مقامي هذا، قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول:"سلوني"، فقال أنس: فقام إليه رجل فقال: أين مَدْخَلِي يا رسول الله؟ قال: "النار"، فقال عبد الله بن حُذافة فقال: مَنْ أَبي يا رسول الله؟ قال: "أبوك حُذافَة". قال: ثم أكثر أن يقول: "سلوني سلوني"، فَبَرَك عُمَر على رُكْبَتَيْهِ فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عُمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَوْلى، والذي نفسي بيده لقد عُرِضَتْ عليَّ الجنَّةِ والنار آنفًا في عُرْضِ هذا الحائط وأنا أصلي، فلم أرَ كاليوم في الخير والشَّرِ" (1).
الحديث الرابع: أخرج البخاري من حديث أبي عَوَانَةَ: حدَّثنا عبدُ الملك عن وَرَّادٍ كاتب المغيرة قال: كتَب معاوية إلى المغيرة: اكتبْ إليَّ ما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكتبَ إليه: إن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دُبُر كل صلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مَانِعَ لما أعطيت، ولا مُعْطِيَ لما مَنَعْتَ، ولا يَنفَعُ ذا الجدِّ مِنكَ الجَدُّ" وكتب إليه: إنه كان ينهى عَنْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَة السُّؤَالِ، وإضاعة المال، وكان ينهى عن: عقوق الأمَّهات، وَوَأد البناتِ، ومَنْعٍ وهَاتِ" (2).
الحديث الخامس: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [دعوني ما تركتكم، فإنما هَلكَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ سُؤَالهُمْ واخْتِلافُهُم على أنبيائِهمْ، فإذا نَهْيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم](3).
الحديث السادس: أخرج الدارقطني بسند جيد عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله فَرَضَ فرائضَ فلا تُضَيِّعُوهَا، وحَرَّمَ حُرُمات فلا تَنْتَهكوها،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7294) - الكتاب السابق، الباب السابق، وانظر حديث (93) منه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7292) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. الباب السابق. وانظر (844) منه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (7288) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وحَدَّ حُدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها] (1).
وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
أي: عفا الله عما كان منكم من ذلك، وهو سبحانه الغفور لِزَلَّاتِكُم، الحليم بعباده وما يصدر عنهم.
وقوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} .
قال ابن عباس: (نهاهم أن يسالوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك).
وقال السدي: (قد سأل الآيات قوم من قبلكم، وذلك حين قيل له: غيِّر لنا الصفا ذهبًا! ).
قال ابن جرير: (قد سأل الآيات قوم من قبلكم، فلما آتاهموها الله أصبحوا بها جاحدين).
103 -
104. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}.
في هذه الآيات: ما بَحَرَ الله بحيرة، ولا سيّب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حاميًا، بل هي من صنع المشركين الذين حرموا ما لم ينزل الله به سلطانًا، وافتروا على الله الكذب، وجعلوا بعض هذه الأنعام وقفًا على الأوثان والأصنام، وأكثرهم لا يعقلون. وإذا رُدّوا إلى التحاكم لله ولرسوله اعتزوا بآبائيتهم وجاهليتهم حتى ولو كانت مهترئة فاسدة عفنة.
فقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} .
البحيرة: الفعيلة، من بَحَرْت أذن الناقة أي: شققتها. وهي: الناقة تُشَقّ أذنها
(1) أخرجه الدارقطني (ص 502)، وكذلك أورده صاحب مشكاة المصابيح (197)، وسنده جيد.
وتُخَلّى للطواغيت، فكانت العرب في الجاهلية إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر شقوا أذنها وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تمنع عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المَعْيِيُّ المنقطع به لم يركبها.
قال ابن عباس: (هي الناقة إذا نُتِجَت خمس أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرًا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء. وإن كان أنثى جدعوا آذانها، فقالوا: هذه بحيرة).
وقال سعيد بن المسيب: (البحيرة: التي يُمْنَعُ دَرُّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس) ذكره البخاري.
وأما السائبة: فهي الناقة تُسَيَّبُ للأصنام لنحو بُرْءٍ من مرضٍ أو نجاة في حرب، فلا يحمل عليها ولا تحبس عن مرعى ولا ماء.
قال مجاهد: (هي من الغنم نحو ما فُسِّرَ من البحيرة، إلا أنَّها ما ولدت من وَلَدٍ بينها وبينه ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت السابعَ ذكرًا أو ذكرين ذَبَحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم).
وقال محمد بن إسحاق: (السائبة هي الناقة إذا ولدت عَشْرَ إناثٍ من الولد ليس بينهنَّ ذكر، سُيِّبت فلم تُرْكَب، ولم يُجَزّ وَبَرُها، ولم يَحْلِب لبنَها إلا الضيف).
وقال أبو رَوْقٍ: (السائبة: كان الرجل إذا خَرَجَ فَقُضِيَتْ حاجتُه، سَيَّبَ من ماله ناقةً أو غيرها، فجعلها للطواغيت. فما ولدت من شيء كان لها).
وقال السُّدي: (كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته أو عُوفِي من مرض أَوْ كَثُرَ ماله سيَّبَ شيئًا من ماله للأوثان، فمن عَرَض له من الناس عُوقِبَ بعقوبة في الدنيا).
وأما الوصيلة: فهي الناقة تترك للطواغيت إذا بَكَّرت بأنثى ثم ثَنَّتْ بأنثى. يقال: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر.
قال ابن عباس: (هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا السابع، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن استحيوهما وقالوا: وَصَلته أختُ فحرَّمته علينا) رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
وقال محمد بن إسحاق: (الوصيلةُ من الغنم إذا ولدت عَشْر إناث في خمسة أبطن،
توأمين في كل بطن، سُمِّيَت الوصيلةَ وتُركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى، جُعِلت للذكور دون الإناث، وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.
وقال سعيد بن المسيب: (فالوصيلةُ من الإبل، كانت الناقة تَبْتَكِرُ بأنثى، ثم تُثَني بأنثى، فيسمُّونها الوصيلة، ويقولون وصلت اثنين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدّعونها لطواغيتهم) رواه عبد الرزاق، ورُوي نحوه عن الإمام مالك.
وأما الحام: فهو الفَحْلُ لا يُرْكَبُ ولا يُحْمَلُ عليه إذا ضربَ عشرة أبطن.
قال ابن عباس: (كان الرحلُ إذا لقح فحلُه عَشْرًا، قيل: حامٍ، فاتركوه).
وقال أيضًا: (وأما الحام فالفحلُ من الإبل، إذا ولد لولده قالوا، حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئًا، ولا يجزون له وبرًا، ولا يمنعونَه من حمَى رَعْيٍ، ومن حَوْضٍ يُشْرَبُ منه، وإن كان الحوضْ لغير صاحبه).
وقال ابن وَهْبٍ: سمعت مالكًا يقول: (أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضِرَابُه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيَّبُوه) ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذه المعاني، في أحاديث صحيحة:
الحديث الأول: قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب قال:[البحيرة: التى يُمْنَعُ دَرُّهَا للطواغيت، فلا يَحْلبها أحد من الناس. والسائبة: كانوا يُسَيِّبُونها لآلهتهم، لا يُحْمَلُ عليها شئ -قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت عَمْرو بن عامر الخزاعيَّ يجرُّ قُصْبَهُ (1) في النار، كان أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السوائب"- وَالْوَصِيلَةُ: الناقةُ الْبِكْرُ، تُبَكِّر في أول نتاج الإبل، ثُمَّ تُثَنِّي بعد بأنثى، وكانوا يُسَيِّبُونها لطواغيتهم، إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذَكَرٌ، والحام: فحْلُ الإبل يَضرب الضِّرَابَ المعدود، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوهُ للطواغيت، وأعفوه عن الحَمْل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسَمَّوْهُ الْحَامِيَ](2).
(1) قصبه: أمعاءه. قال أبو عبيد: الأقصاب: الأمعاء.
(2)
حديث صحيح: أخرجه البخاري (4623)، ومسلم (2856) ح (51) وأحمد (2/ 275)، وكذلك (2/ 266)، وابن حبان (6260)، والطبري (12819)، والبيهقي (10/ 109)، وغيرهم.
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رأيت جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، ورأيت عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ، وهو أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السوائِب](1).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند حسن في الشواهد، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ أوَّلَ من سَيِّبَ السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيتُه يَجُرُّ أمعاءه في النار](2).
الحديث الرابع: أخرج ابن جرير بسند صحيح عن أبي هريرة قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثَمَ بن الجون يا أكثمُ، رأيتُ عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمَعَةَ بن خِندِفٍ يجر قُصْبه في النار. فما رأيت رجلا أشبه برجلٍ منكَ به، ولا بِه منك. فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ (وفي لفظ ابن إسحاق: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أوَّلُ من غيَّرَ دين إبراهيم، وبَحَر البحيرة، وسيَّبَ السائبة، وحَمى الحَامي](3).
الحديث الخامس: أخرج أحمد في المسند، وابن جرير في التفسير، والبيهقي في "الأسماء والصفات" بسند قوي عن أبي الأحوص الجُشَمي، عن أبيه مالك بن نَضْلَة قال:[أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقَانٍ من الثياب، فقال لي: هل لك من مال؟ قلت: نعم. قال: من أيِّ المالِ؟ قال: فقلت: من كُلِّ المال، من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: إذا أتاك الله مالًا فَلْيُرَ عليك. ثم قال: تُنْتَجُ إِبلُكَ وافيةً آذانُها؟ قال: قلت: نعم، وهل تُنْتَجُ الإبل إلا كذلك؟ قال: فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بُحُرٌ، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه حُرُمٌ؟ قلت: نعم. قال: فلا تفعل، إن كل مال أتاك الله لك حِلٌّ، ثم قال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}](4).
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري (4624) -كتاب التفسير- عند هذه الآية من سورة المائدة.
(2)
حديث حسن لشواهده أخرجه أحمد (1/ 446)، وابن أبي عاصم في "الأوائل"(129)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1677)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (2020).
(3)
حديث صحيح، أخرجه الطبري في "التفسير " -حديث رقم- (12820)، وأبو يعلى (6121)، وابن حبان (7490)، ولمسلم نحوه. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
إسناده قوي، أخرجه أحمد (3/ 473)، والطبري (12829)، (12830)، وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(2/ 76)، وكرره أحمد (15457)، والطبراني في "الصغير"(489).
وقوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} .
قال ابن كثير: (أي: ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة، ولكن المشركون افتروا ذلك، وجعلوه شرعًا لهم وقربة يَتَقَرَّبُون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وَبَالٌ عليهم).
قال ابن جرير: (ويقولون: نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، قد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل).
وفي التنزيل: {بَلْ قَالوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22). فأعمتهم الآبائية المظلمة عن إبصار نور الحق، وكان تقليدها الأعمى سبب هلاك لهم. ولذلك قال تعالى:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} .
أي: كيف يتبعونهم ولم يكونوا أهل علم أو صلاح أو اتباع لمنهج الرسل، بل كانت الجاهلية بأعرافها هي التي تحكمهم، وهي التي يعظمونها من دون شرع الله عز وجل! أَمَا وآباؤهم ليسوا أهل علم وهداية وطريق مستقيم فلا يصلحون للاتباع.
105.
في هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالاهتمام بإصلاح نفوسهم ودينهم، وأن يبذلوا وسعهم في ذلك، ثم لا يضرهم من اختار الضلال إذا جهدوا في إقامة الدين في خاصتهم مع ما قدروا عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمآل إلى الله سبحانه، وهناك يخبر تعالى عباده بأعمالهم ويثيبهم عليها عدل الجزاء.
فقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} .
نصب على الإغراء. والتقدير: احفظوا أنفسكم من الزلل والاثام.
وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق ومعاني هذه الآية، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن قيس، قال: قال
أبو بكر، بعد أن حمد الله وأثنى عليه:[يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يَعُمَّهُم الله بعقاب. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما مِنْ قوم يُعْمَلُ فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب](1).
قال سعيد بن المسيب: ({لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند حسن عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما مِنْ رَجُلٍ يكون في قوم يَعمَلُ فيهم بالمعاصي يَقدرون على أن يغيّروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [كيف بكم وبزمان - أو يوشك أن يأتي زمان يُغربَلُ الناسُ فيه غَربلةً تبقى حُثَالةٌ مِنَ الناس، قَدْ مَرجتْ عُهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، فقالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصّتكم، وتذرون أمر عامّتِكم" (3).
106 -
108. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 5)، وأبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وابن ماجة (4005)، وغيرهم. من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (4339)، وابن ماجة (4009)، وانظر صحيح سنن أبي داود (3646) بإسناد حسن، من حديث جرير رضي الله عنه مرفوعًا.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4342)، وأخرجه ابن ماجة (3957)، وانظر صحيح سنن أبي داود (3648). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}
في هذه الآيات: يا أيها الذين آمنوا ليشهد بينكم وقت الوصية عند الموت اثنان ذوا رشد وعقل من المسلمين أو آخران من غير أهل ملتكم - من أهل الكتاب - إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض فنزل بكم الموت فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة، فيحلفان بالله - إن اتهمتموهما بخيانة - لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا، فلا نحلف كاذبين لجحد حق أو مال، ولو كان الذي نقسم له ذا قرابة منا. فإن ظهر منهما خيانة أنهما كذبا أو كتما فيقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، فيحلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، أو أن شهادة الكافرين باطلة، وما اعتدينا إنا إذن لمن الظالمين. وهذا الفعل، إن فعلتم بهم، أقرب لهم أن يتصدقوا ولا يخونوا، خشية الفضيحة وحذرًا أن ترد الإيمان إلى أولياء الميت فيكشف صنيعهم، فخافوا الله أيها الناس واسمعوا والله لا يوفق مَنْ فَسَقَ عن أمر ربه وخان الأمانة.
أخرج البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رجلٌ من بني سهمٍ مع تميم الداري وعدي بن بدَّاءٍ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدمابتركته فقدوا جامًا (1) من فضة مُخَوَّصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا: ابتعثه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ] (2).
قال النسفي: (ارتفع اثنان لأنه خبرُ المبتدأ وهو شهادة، بتقدير: شهادة بينكم شهادة اثنين، أو لأنه فاعل "بينكم"، أي: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان. واتسع في
(1) الجام: الإناء.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2780)، وأبو داود (3606)، والترمذي (3060)، وغيرهم.
بين فأضيف إليه المصدر، وإذا حضر ظرف للشهادة، وحين الوصية بدل منه. وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية، لأن حضور الموت من الأمور الكائنة، وحين الوصية بدل منه، فيدل على وجود الوصية، ولو وجدت بدول الاختيار لسقط الابتلاء، فنقل إلى الوجوب، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل).
وقوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
فيه أقوال:
1 -
قال ابن عباس: (ذوا عدل من أهل الإسلام). وقال سعيد بن المسيب: (اثنان من أهل دينكم). وقال عبيدة: (من المئة). أو قال: (من أهل الملة).
2 -
قال عكرمة: (ذوا عدل من حي الموصي).
3 -
قال النسفي: ({ذَوَا عَدْلٍ} صفة لاثنين {مِنْكُمْ} من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت).
قلت: والراجح أن المقصود من المسلمين. وهو مذهب الجمهور. فإن كانوا كذلك من قرابته أو من أهل حيّه فهذا أفضل لعلمهم بأحوال الميت وأهله.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}
قال ابن عباس: (من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب) - رواه ابن أبي حاتم بسنده عنه.
وقال عكرمة: (أي: من غير قبيلة الموصي) - ذكره ابن جرير. والأول أصح ويدل عليه السياق.
وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: سافرتم. {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} .
قال القرطبي: (وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم، ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما، وادّعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة، أي: تستوثقوا منهما. وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة. قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى،
فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر).
وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} .
صفة لآخران. واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ} . وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه.
قال الخطابي: (الحبس على ضربين: حبس عقوبة، وحبس استظهار. فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ماكان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه).
وعن ابن سيرين قال: (كان شُريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم، فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن) رواه معمر عن أيوب عنه.
قال القرطبي: (والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجّلًا، ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجَّلًا، فإن خُلّي مَنْ عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوِي (1) فلم يكن بدّ من التوثق منه، فإما بعِوض عن الحق وهو المسمى رهنًا، وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحمِيل (2)، وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره، ولكن لا يمكن أكثر من هذا، فإن تعذرا جميعًا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق، أو تبيّن عسرته.
قال: فإن كان الحق بَدَنِيًّا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجّلًا، لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه، ولأجل هذه الحكمة شرع السجن، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بَهْزِ بن حكيم عن أبيه عن جده:[أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة](3). وروى أبو داود عن عمرو بن الشَّريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) توى المال: ذهب فلم يرج.
(2)
الحميل: هو الكفيل.
(3)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (3630)، والترمذي (1417)، وانظر صحيح سنن الترمذي (1450). من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا.
قال: [ليُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبتَه](1). قال ابن المبارك: يُحِلُّ عِرضَه يُغَلّظ له، وعقوبته يُحبَس له).
وقوله: {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} .
فيه أقوال:
1 -
قال العوفي عن ابن عباس: (يعني صلاة العصر). وقال الحسن: (صلاة الظهر).
2 -
قال الزهري: (يعني صلاة المسلمين).
3 -
وقال السدي: (يعني صلاة أهل دينهما) - يعني إن كانا من غير المسلمين.
4 -
وقال القرطبي: (يريد صلاة العصر، قاله الأكثر من العلماء، لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة).
5 -
وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيمًا للوقت، وإرهابًا به، لشهود الملائكة ذلك الوقت.
قلت: والراجح إطلاق لفظ الصلاة كما أطلقها الله تعالى، فالمراد اجتماع الناس وشهود الأمر بين المتخاصمين، كما قال ابن كثير رحمه الله:(والمقصود: أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم).
وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} .
أي: فيحلفان بالله.
وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} .
أي: إن شككتم في أمانتهما، أو ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا}. قال ابن زيد:(نأخذ به رشوة).
أي: لا نشتري بقسمنا عوضًا نأخذه - بدلًا مما أوصى به - من عرض هذه الدنيا الفانية.
(1) إسناده قوي. أخرجه أبو داود في السنن (3628). انظر صحيح سنن أبي داود (3086). ورواه ابن ماجة (2427). ورواه أحمد والنسائي والحاكم. انظر تخريج المشكاة (2919)، وصحيح الجامع (5363). من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه مرفوعًا.
وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}
قال النسفي: (أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريباً منا)
وقوله: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}
قال ابن كثير: (أضافها إلى الله تشريفا لها، وتعظيما لأمرها.)
وقوله: {إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ}
أي: إن كتمنا أو حرفنا الشهادة أو [. . . . .][*] قال القاسمي: (أي: المعدودين من المستقرين في الإثم.)
أخرج أبو داود بسند صحيح عن الشعبيّ: أن رجلا من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقاء (1)، قال: فحضرته الوفاة- ولم يجد أحدا من المصلين يشهده على وصيّته- فأشهده رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه فأخبراه. وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعريّ: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيرا، وإنّها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما] (2).
قال قتادة: (أي: اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما)
وقال ابن عباس: (فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى من الفريضة يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} من أولياء الميت، فيحلفان بالله: «ما كان صاحبنا ليوصي بهذا، أو: إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما»). والقراءة المشهورة «الأوليان» وهي قراءة الجمهور، فيكون المعنى عندئذ كما قال ابن كثير: (أي: متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما، فليقم
(1) دقوقاء: بلد بين بغداد وإربل، تقصر وتمد
(2)
صحيح الإسناد - إن كان الشعبي سمعه من أبي موسى-. أخرجه أبو داود في السنن (3605)، باب شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر. وانظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3071)
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: موضع لم نتبينه في مصورة المطبوعة
اثنان من الورثة المستحقين للتركة، وليكونا من أوّلي من يرث ذلك المال، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ، أي: لقولنا إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة {وَمَا اعْتَدَيْنَا} ، أي: فيما قلنا من الخيانة {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} ، أي: إن كنا قد كذبنا عليهما).
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} .
قال قتادة: (ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم، وأن يخافوا العَقِب (1)).
وقال ابن كثير: (أي: شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضيِّ، من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما، أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي).
وقوله: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} .
فيه تخويف لهم من الفضيحة بين الناس إذا رُدَّت اليمين على الورثة.
قال ابن زيد: (فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمانُ هؤلاء).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} .
أي: خافوا الله أيها الناس حق مخافته وأطيعوا أمره وأدوا الأمانات إلى أهلها.
وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
أي: الخارجين عن طاعة لله والخوف منه، والمستحلين لأنفسهم الحلف الكاذب وأكل أموال الناس بالباطل. قال ابن زيد:({وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، الكاذبين، يحلفون على الكذب)، ولكن الآية عامة في كل فاسق، فتشمل كل أنواع الفسق. كما اختار ذلك شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله.
109 -
في هذه الآية: إخبار عن خطاب الله سبحانه يوم القيامة المرسلين بماذا أجيبوا من
(1) العقب: العاقبة.
أقوامهم وأممهم حين دعوهم إلى التوحيد وإفراد الله سبحانه بالتعظيم، فقالوا لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا.
فقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} .
كقوله في سورة الأعراف: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} .
وكقوله في سورة الحجر: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} .
وقوله: {قَالوا لَا عِلْمَ لَنَا} .
قال مجاهد: (إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم).
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} .
قال ابن جريج: (معنى قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} ماذا عملوا بعدكم؟ قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}).
قال أبو عبيد: (ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يرد عليّ أقوام الحوض فيختلجون فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك").
قلت: وهذا في الصحيح. فقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لَيَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ مِنْ أصحابي الحوضَ حتى إذا عرفْتُهُمُ اخْتُلِجوا دوني فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بَعْدَك](1).
وكذلك أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه كان يُحَدِّثُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَرِدُ عَلَيَّ يوم القيامة رَهْطٌ من أصحابي، فَيُجْلَوْنَ عَنِ الحَوضِ فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنك لا عِلْمَ لك بما أحْدَثُوا بَعْدَك، إنهم ارتدُّوا على أدْبارهم القَهْقَرى](2).
قال الماورديّ: (فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعنه جوابان: أحدهما - أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم.
الثاني - أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد ليكون ذلك نوعًا من العقوبة لهم).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (6582) - كتاب الرقاق - باب: في الحوض.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (6585) - كتاب الرقاق - باب: في الحوض.
110 -
111. قوله تعالى: {إِذْ قَال اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلَا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}.
في هذه الآيات: إذ قال الله سبحانه يا عيسى اذكر أياديّ عندك وعند والدتك، إذ قويتك برُوح القدس وأعنتك به صغيرًا في المهد وكهلًا، وكذلك اذكر نعمتي عليك إذ علمتك الخط والفهم لمعاني التنزيل، وكذلك إذ تعمل وتصلح من الطين كصورة الطير بعوني على ذلك، فتنفخ في الهيئة، فتكون طيرًا بإذني، وتشفي الأعمى والأبرص بإذني، وإذ تخرج الموتى بإذني، واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفّي عنك من همّ بقتلك من بني إسرائيل حين جئتهم بالأدلة المعجزة المثبتة لنبوتك فقال الذين تمرّدوا كبرًا وجحدوا نبوتك وكذبوك إن هذا إلا سحر مبين. ثم اذكر كذلك إذ ألقيت إلى الحواريين أن صدقوا بي وبرسولي عيسى فقالوا آمنا وصدقنا واشهد علينا بأننا سامعون مطيعون نازلون عند أمرك، مستسلمون لقضائك.
قال ابن كثير: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} أي: في خلقي إياك من أمٍّ بلا ذَكَرٍ، وجعلي إياك آية ودلالةً قاطعة على كمال قُدرتي على الأشياء، {وَعَلَى وَالِدَتِكَ} ، حيث جَعَلْتُك لها برهانًا على براءتها مما نَسَبَهُ الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة، {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، وهو جبريل عليه السلام وجعلتُكَ نبيًّا داعيًا إلى الله في صِغَرِكَ وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيرًا، فَشَهدْتَ ببراءة أمِّكَ من كُلِّ عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتِكَ إلى عبادتي، ولهذا قال
تعالى: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} أي: تدعو إلى الله الناس في صِغَرِكَ وكِبَرِكَ. وضُمِّنَ {تُكَلِّمُ} تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب).
وقوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} .
أي: الخط والفهم.
قال ابن جرير: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} وهو الخط، {وَالْحِكْمَةَ} ، وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك، وهو الإنجيل).
وقوله: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} .
أي: الكتاب الذي أنزل على موسى، والكتاب الذي أنزل عليك.
وقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} .
أي: تجعل من الطير على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك التشكيل والتصوير.
وقوله: {فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} .
أي: ثم تنفخ في ما شكَّلت من تلك الصورة فإذا بها طائر له روح، يتحرك ويطير بإذن الله أحسن الخالقين.
وقوله: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} .
أي: وتشفي {الْأَكْمَهَ} وهو الأعمى الذي لا يبصر، كما تعالج الأبرص فيشفى بإذن الله تعالى.
وقوله: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} .
قال ابن كثير: (أي: تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته، وإرادته ومشيئته.
قال القرطبي: ({كَفَفْتُ} معناه دفعت وصرفت {بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ} حيث هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: الدلالات والمعجزات، وهي المذكورة في الآية.
{فَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوّتك. {إن هذا} أي: المعجزات. {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ).
وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} .
الوحي أقسام: وحي التنزيل، ووحي الإلهام، ووحي الإعلام.
1 -
فوحي التنزيل: هو الوحي من الله تعالى بإرسال جبريل إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
2 -
ووحي الإلهام: هو إفهام الله تعالى بعض عباده بأمر يريده أو يحبه، كما في هذه الآية.
3 -
وحي الإعلام: ويكون في اليقظة والمنام. قال أبو عبيدة: (أوحيت بمعنى أموت). وفي التنزيل قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 5].
أما في لغة العرب: الوحي معناه الإلهام. وهو المعنى المراد هنا بهذه الآية، وهو القسم الثاني من أقسام مفهوم الوحي في الكتاب والسنة.
فيكون المعنى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} أي: ألهمتهم وأفهمتهم وقذفت في قلوبهم {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} . قال السدي: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} ، يقول: قذفت في قلوبهم)، وقال الحسن البصري:(ألهمهم الله عز وجل ذلك)، فصدقوا وآمنوا وامتثلوا ما أمروا به من الله تعالى.
قال ابن كثير: (ويُحْتَمل أن يكون المرادُ: وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتُهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك، فقالوا: {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}).
112 -
115. قوله تعالى: {إِذْ قَال الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَال اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً
مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَال اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالمِينَ (115)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ قصة المائدة التي بها تسمى هذه السورة، يقول تعالى: واذكر يا عيسى كذلك من جملة نعمي عليك، حين أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قالوا لعيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء، فأجابهم عيسى عليه الصلاة والسلام مستعظمًا لما قالوه: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وأمرهم بالتوبة والاستغفار من مغبة ما قالوا. فأجابوه أنهم قالوا ذلك رغبة في الأكل من تلك المائدة ليزدادوا يقينًا وإيمانًا بالله وقدرته وجبروته. فهنالك دعا عيسى ربه وسأله مائدة تنزل عليهم من السماء فيكون ذلك اليوم يومًا عظيمًا في حياتهم وحياة من بعدهم يتذكرون به صفات الله وكرمه عليهم وأياديه الحسنى فيزدادون بذلك عبادة له وتعظيمًا. فاستجاب الله تعالى دعاء نبته عليه السلام وأنزل المائدة وتوعّد من كفر بعد هذه الآية العظيمة عذابًا ما عاقبه أحد قبل ذلك.
فلقد سأل الحواريون عيسى بن مريم -جهلًا منهم- بقولهم ذلك وآفاق مدلولاته، فهم بلفظهم الذي اختاروه كأنهم يجهلون أن الله على كل شيء قدير، ومن كذّب بقدرة الله فهو كافر، ولكن الجهل كان عذرًا لهم عند الله ورسوله عليه السلام.
قال ابن جرير: (قال عيسى للحواريين: راقبوا الله، أيها القوم، وخافوه، أن يَنْزِلَ بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده. وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به، فاتقوا الله أن يُنْزِل بكم نقمته).
قلت: وهذه الآية دليل صريح أن الجاهل معذور بجهله. فإن من ثبتَ له الإسلام لا يُنْزَعُ منه إلا بما ينقُضُ الإسلام، ومن ثم فإن القصد والنية شرط صحة الأعمال، فالجاهل الذي صدر منه ما ينقض إيمانه ولم يقصد ذلك معذور إلى أن يحصل له العلم والبيان.
تأكيدُ أنَّ ما قالوه أرادوا به زيادة الإيمان والثبات على الصدق، والإخلاص بمتابعة عيسى عليه السلام. فقالوا:{نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} : أي: لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها. وهذا تفسير أقرب من التفسير الذي ذهب إليه آخرون أنهم قالوا ذلك لحاجتهم إلى الأكل منها.
وقوله: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} .
أي: إذا شاهدنا نزولها، وتمتعنا بهذا الرزق المباشر من الله تعالى من السماء.
وذكر الماورديّ أن تأويل ذلك يحتمل ثلاثة أوجه:
1 -
تطمئن قلوبنا إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبيًّا.
2 -
تطمئن قلوبنا إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا.
3 -
تطمئن قلوبنا إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألناه.
وقال الثعلبي: (نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا).
وقال المهدويّ: (أي: تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا) ذكره القرطبي.
قلت: وكل ما سبق يدخل في آفاق قوله تعالى عنهم: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} ، فإن طمأنينة القلب بالإيمان وبرضى الرحمان هي غاية سعادة العبد في الدنيا قبل الآخرة. قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
قال قتادة: (يقول: سكنت إلى ذكر الله واستأنست به). وقال ابن جرير: (ألا بذكر الله تسكن وتستأنس قلوبُ المؤمنين).
أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح، عن أبي ثعلبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[البِرُّ ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون](1).
(1) حديث صحيح. رواه أحمد بسند صحيح من حديث أبي ثعلبة. انظر تخريج المشكاة (2774)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم (2878).
قال ابن القيم: (فإنه إذا اطمأن إلى حكمه الديني علم إنه دينه الحق وهو صراطه المستقيم. وهو ناصره وناصر أهاه وكافيهم ووليهم).
وقوله: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} .
أي: بأنك رسول الله. قال ابن كثير: (أي: ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك).
وقوله {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)} .
أي: لله بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة، فنثبت بذلك على الإيمان بعد رؤية ومعاينة هذه الآية العظيمة.
فيه أقوال متقاربة متكاملة:
1 -
قال السدي: (أي: نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظمه نحن ومَنْ بعدنا).
2 -
قال سفيان الثوري: (يعني يومًا نصلي فيه).
3 -
قال قتادة: (أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم).
4 -
وعن سليمان الفارسي: (عِظةً لنا ولمن بعدنا). وقيل: (كافية لأولنا وآخرنا)، ذكره ابن كثير.
وقوله: {وَآيَةً مِنْكَ} .
يعني: دليلًا على قدرتك، وإجابتك الدعاء، وحجة لنا لمتابعة الطريق في الإيمان والدعوة والجهاد.
وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
أي: نسألك رزقًا من عندك، فأنت خير من أعطى وكفى، ورزق وبارك وعافى.
أي: استجاب الله ذلك الدعاء، وتوعّد من كذب بها بعد ذلك أشدَّ العذاب.
قال القرطبي: (هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى
إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمرو: إن أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون).
116 -
118. قوله تعالى: {وَإِذْ قَال اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَال سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}.
في هذه الآيات: خِطابٌ من الله سبحانه لنبيّه عيسى عليه السلام يوم القيامة أمام من اتخذه وأمه إلهين من دون الله: أأنت قلت للناس أو أمرتهم ليتخذوك وأمك إلهين من دوني؟ فأجاب بقوله: سبحانك، هذا أمر لا ينبغي أن يصدر من مثلي، فلو كنت قلته لقد علمته، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما أحد من خلقك يعلم ما في نفسك، بل أنت علام الغيوب. كُلُّ ما أمرتهم أن اعبدوا الله ربي وربكم وأفردوه بالعبادة والخضوع والتعظيم، وكنت قائمًا على حفظ ذلك حياتي فيهما، فلما غادرتهم إليك كنت أعلم بهم مني وأنت على كل شيء شهيد. فإن عذبتهم فالأمر لك وهم عبادك، وإن غفرت لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
تهديد ووعيد للنصارى، وتوبيخ وتقريع لهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فإن عيسى عليه الصلاة والسلام سيتبرأ اليوم من شركهم أمام بارئهم عز وجل. واختار ابن جرير أن ذلك كان حين رفعه الله، ولكن السياق يدل أن ذلك يوم القيامة، وكما ستدل عليه نصوص الأحاديث القادمة إن شاء الله.
قال ابن جريج: ({وَإِذْ قَال اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، وأقَرَّ له بالعبودية على
نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول: أنه إنما كان يقول باطلًا).
وقوله: {قَال سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} .
قال القرطبي: (وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين، أحدهما -تنزيهًا له عما أضيف إليه الثاني- خضوعًا لعزته، وخوفًا من سَطْوتِه. ثم قال: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}: أي: أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود).
ثم قال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} .
قال النسفي: (إن صح أني قلته فيما مضى فقد علمته، والمعنى أني لا أحتاج إلى الاعتذار لأنك تعلم أني لم أقله، ولو قلته لعلمته لأنك {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ذاتي {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ذاتك).
ولا شك أن الله سبحانه أراد بذلك السؤال تنزيه نبيِّه عيسى عليه الصلاة والسلام أمام الخلائق يوم القيامة مما نسب إليه المدعون الانتساب إليه من أهل الكتاب، وليكون ذلك تقريعًا بالحجة والبرهان من كلام عيسى صلى الله عليه وسلم لمن ارتضى واتخذه إلهًا من دون الله تعالى.
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} .
أي: ما كان وما يكون، وما لم يكن، وما هو كائن، وما لن يكون، ولكن إن قُدّر له أن يكون كيف سوف يكون.
وقد بسطت القول في ذلك في أبحاث القدر ضمن كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلله الحمد والمنة.
وقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .
أي: ما دعوتهم إلا إلى توحيدك وتعظيمك وإفرادك بالطاعة والعبادة والحاكمية والتشريع، فزَلّ قوم منهم بعدي واتبعوا سبل الشياطين فصدوهم عن سبيلك وهديك.
أخرج البخاري ومسلم وبعض أصحاب السنن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
[يا أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حُفَاةً عُراةً غُرْلًا (1) {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} ألا وإن أول الخلائق يُكْسَى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم](2).
وفي ختم الآيات بقوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . نكتة بديعة:
قال القرطبي: (ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شِرْكه وهذا مستحيل، فالتقدير: إنْ تُبْقِهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تَهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله، تضل من تشاء وتهدي من تشاء).
119 -
120. قوله تعالى: {قَال اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}.
في هذه الآيات: خَتْمُ الله الكلام بعد سماع تبري نبيّه عيسى عليه الصلاة والسلام يوم القيامة من النصارى الملحدين الذين أشركوا به ونسبوا لعبده المسيح عليه السلام الألوهية كذبًا وافتراء -بقوله جل ذكره: هذا يوم ينفع أهل الصدق في عبادة الله صدقهم في توحيد الله وتعظيمه واتباع رسله دون تأليههم، وقد أعدّ الله جلت عظمته لهم أشرف استقبال ومقام في جنات تجري تحتها الأنهار وقد حظوا برضوان الله أبدًا وذلك الفوز العظيم. فسبحان من له ملك السماوات والأرض وما فيهن من خلائق وعوالم وهو
(1) غُرْلًا: أي دون ختان، كما خلقهم ربهم تعالى أول مرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4625)، (4740)، ومسلم (2860)، وانظر مختصر صحيح مسلم (2151)، وأخرجه الترمذي (1423)، والنسائي (4/ 114)، وأخرجه أحمد (1/ 229).
القوي المهيمن الجبار الأحد الصمد القدير. لا يعجزه شيء في هذا الكون الفسيح، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
ففوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} .
قال ابن عباس: (يوم ينفع الموحدين توحيدهم).
قال القرطبي: (أي صدقهم في الدنيا، فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق). وأواد بذلك صدق العمل لله وتصديق الرسل. وقال غيره: (المراد صدقهم في الآخرة، وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ، وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم، ويكون وجه النفع فيه أن يُكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة، فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم).
قلت: والآية تدل من السياق على أن الصدق المنجي للعبد يوم القيامة هو صدق التوحيد لله سبحانه وصدق إخلاص العمل لوجهه واتباع منهاج رسله، وإن كانت بعض المواقف يفيد فيها النطق بالحق يوم القيامة، كالشهادة للرسل بالبلاغ، وكقصة أصحاب الأعراف، ولكن هذا لا يكفي وحده للنجاة يوم الحساب ما لم يكن يسبقه صدق الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله.
أخرج أبو يعلى والبزار بسند صحيح في الشواهِد، عن أنس قال:[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: يا فلان! فعلت كذا؟ قال: لا والذي لا إله إلا هو! والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه قد فعله، فقال له: إنّ الله قد غفر لك كَذِبَكَ بتصديقك بـ "لا إله إلا الله"](1).
وروى أحمد وأبو داود نحوه، وفي لفظه:[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلت، ولكن غُفِرَ لك بإخلاصك قول: لا إله إلا الله](2).
وأصل معناه في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) حديث صحيح في الشواهد. أخرجه البزار (4/ 7/ 3068)، وأبو يعلى في "مسنده"(6/ 104/ 3368)، والبيهقي في "السنن"(10/ 37)، وانظر مسند أحمد (2/ 68)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (3064).
(2)
صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (1/ 253)، (1/ 289)، (2/ 70)، وأخرجه أبو داود (3275) من حديث ابن عباس، وكذلك أخرجه أبو داود (3620) عن أبي الأحوص -مختصرًا-.
[أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما إلا دخل الجنة. (وفي رواية: فيحجبَ عن الجنة)](1).
وله شاهد عند أبي يعلى من حديث عمر بلفظ: [أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يأتي بهما عبدٌ مُحِقٌّ إلا وقاه الله حرَّ النار](2).
وقرأ نافع وبعض أهل الحجاز والمدينة {يَوْمُ يَنْفَعُ} بنصب {يَوْمُ} على الظرفية أو غير ذلك. ورفع الباقون، ومنهم قراء العراق:{يَوْمُ يَنْفَعُ} أي: خبر لهذا. وهناك قراءة ثالثة: {يَوْمُ يَنْفَعُ} وهي قراءة الأعمش. والقراءتان الأولى والثانية مشهورتان أكثر.
وقوله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
أي: من تحت غرفها وأشجارها، وقد بشرهم الله بالخلود في هذا النعيم، فهو لا يزول عنهم ولا يوالون عنه.
وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
أي: هذا هو سبب ذلك النعيم وهذا الخلود، حصول الرضا من الله عنهم، بعد أن رضوا بالله ربًا وبنبيه رسولًا، وبالإسلام دينًا.
وقوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
أي: الظفر الكبير والغنيمة العظمى، فلا شيء في هذا الوجود أجل من رضوان الله، ولا شيء أجمل من جنة الله التي تتألف من جنان ثمان، تعلوها جنة الفردوس.
أخرج ابن حبان في صحيحه، بسَند على شرط الشيخين، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: هل تشتهون شيئًا فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا وما فوق ما أعطيتنا؟ قال: فيقول: رضواني أكبر](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 42). انظر مختصر صحيح مسلم (10) ص (10) كتاب الإيمان. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(2)
صحيح لشواهده. أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1/ 199 - 200/ 230) -والسياق له-، وأخرجه البزار (1/ 13/ 11) -مختصرًا-. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم (3221).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (2647)، والحاكم (1/ 82)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1336)، ورواه ابن جرير (6/ 262/ 6751)، وأبو نعيم في "صفة الجنة"(2/ 141/ 1)، وغيرهم.
وقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} .
المعنى: لله سلطان السماوات والأرض وما فيهن دون عيسى ودون أمه ودون جميع خلقه، فهو المالك القهار لا يحتاج إلى خلقه، يدبر الأمر من فوق عرشه، والكل مفتقر إلى رحمته ومغفرته، وهو على كل شيء قدير.
قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
وقال جلَّ ثناؤه: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54].
وقال جل ثناؤه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27].
أخرج الترمذي بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير](1).
تم تفسير سورة المائدة بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنِّه وكرمه
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3837). وانظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2837).
باب في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1503).