الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: "أَمْسِك"، فإذا عيناه تَذْرِفان] (1).
ورواه الترمذي وفي آخره: [فَرَأيْتُ عَيْنَي النبي صلى الله عليه وسلم تهملان].
الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن عبد الله قال: [أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ عليه، وهو على المنبر، فقرأت عليه من سورة النساء، حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] غمزني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فنظرت إليه وعيناه تدمعان] (2).
موضوع السورة
العلاقات الأسرية وبر الوالدين وصلة الأرحام، والأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء، وتشريعات خاصة في الصلاة والجهاد ومنهاج الولاء والبراء.
-
منهاج السورة
-
1 -
أَمْرُ الله تعالى عباده بالتقوى وصلة الأرحام، فهو سبحانه الرقيب علهم، ويحصي أعمالهم.
2 -
تنبيه الولي إن أراد نكاح يتيمته أن يعطيها مهر مثلها ولا يبخس حقها.
3 -
وجوب العدل بين الزوجات، ولا زواج فوق أربع، وتحريم أكل المهور.
4 -
النهي عن جعل الأموال بيد السفهاء يفسدون فيها. والسفهاء هم المجانين والصغار وقليلو الدين والجهلة بمواضع المصالح والمضار.
5 -
ولي اليتيم الغني، والفقير يأكل بالمعروف.
6 -
إبطال عادات الجاهلية بعدم توريث النساء والأطفال والأمر بتوريثهم.
7 -
أقصى الوصية الثلث، وآكل مال اليتيم ظلمًا إنما يأكل نارًا.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخارى (4382) - كتاب التفسير - سورة النساء، آية (41). وانظر صحيح سنن الترمذي عقب الحديث (2421) - سورة النساء، آية (41).
(2)
صحيح الإسناد. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2421)، سورة النساء، آية (41).
8 -
القسمة الشرعية للميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين، والنساء فوق اثنتين لهن الثلثان، وإن واحدة فلها النصف، وللرجال نصف ما ترك أزواجهم إن لم يكن لهن ولد وإلا فالربع. وللنساء الربع مما ترك الأزواج إن لم يكن لهم ولد وإلا فالثمن، والدَّين مقدم على الوصية.
9 -
مفهوم الكلالة، ولا وصية لوارث، والإضرار بالوصية من الكبائر.
10 -
حد الزنا كان الحبس في البيوت، فنسخ إلى الجلد أو الرجم.
11 -
حد عمل قوم لوط: قتل الفاعل والمفعول به.
12 -
لا توبة عند الغرغرة، ومن مات على كفره لا ينفعه ندم ولا توبة.
13 -
النهي عن استرداد المهر بعد المفارقة، والنهي عن نكاح ما نكح الآباء، وعن الجمع بين الأختين، والتحذير من الاقتراب من مدارج الزنى.
14 -
الرضاعة المحرّمة: خمس رضعات، وهي تحرم ما يحرّم النسب والولادة.
15 -
الربيبة حرام، وزوجات الأبناء من الأصلاب حرام، وذوات الأزواج محرمات، إلا السبايا فحلال بعد الاستبراء.
16 -
الحلال من النساء، ما وراء ما ذكر من المحرمات.
17 -
تخفيف الله عنا بإباحة نكاح الإماء لضعفنا، ونكاح الأمة بإذن سيدها، وحدّ المملوك نصف حد الحر ولا رجم عليه.
18 -
النهي عن أكل الأموال بالحيلة والمكر، والنهي عن ضرب النفس بحديدة أو تحسي السّم انتحارًا أو تدجيلًا، واجتناب الكبائر يكفر الصغائر.
19 -
النهي عن تمني ما بيد الآخرين من النعم، والترغيىب بسؤال الله من فضله وعطائه.
20 -
نسخ توارث المهاجري الأنصاري والحليف حليفه، إلى التوارث بالقرابة.
21 -
التدرج في معالجة نشوز الزوجة: الوعظ، والهجر، والضرب غير المبرح.
22 -
تنفيذ الحكمين ما يريانه من المصلحة توفيقًا أو تفريقًا.
23 -
الترغيب ببر الوالدين، والإحسان إلى الجار، والتحذير من البخل وقطيعة الرحم، والله يضاعف الحسنات، ويهلك الكفار يوم القيامة بالحسرات والسيئات.
24 -
النهي عن اقتراب السكران الصلاة، تمهيد لتحريم الخمر.
25 -
جواز مرور الجنب والحائض في المسجد عبور سبيل.
26 -
إباحة التيمم لفقدان الماء في الحضر والسفر، ولخوف ازدياد المرض.
27 -
المقصود من {لامستم النساء} الجماع، ولمس الأجنبية لا ينقض الوضوء.
28 -
اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتلاعبون بالألفاظ ويقصدون غير ما يتلفظون.
29 -
الشرك أعظم الظلم، والله لا يغفر الشرك وقد يغفر ما دون ذلك.
30 -
الطاغوت ما عبد من دون الله برضاه، واليهود يحسدون العرب على النعمة العظمى - نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الرسول العربي -، والكفار تبدل وجوههم في النار كلما نضجت.
31 -
الأمر بأداء الأمانات إلى أصحابها والحكم في الناس بالعدل، والرسول يرد مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة.
32 -
الطاعة في المعروف، وأما المعصية فلا سمع ولا طاعة، ووجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة، وجزاء من بطع الله ورسوله مرافقة الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء في الجنة.
33 -
القتال شرع بالمدينة وقد كانوا يتمنونه أيام الضعف في مكة، فلما كتب عليهم وجد بعض المؤمنين جزعًا فثبتهم الله وأعانهم.
34 -
طاعة رسول الله طاعة لله، ومعصيته معصية لله.
35 -
أمْرُ الله رسوله بتحريض المؤمنين على الجهاد ليكف بأس الكافرين.
36 -
رد السلام على المؤمنين فريضة، وإفشاء السلام دليل المحبة.
37 -
النهي عن اتخاذ المنافقين أولياء، والاستنصار بهم على الأعداء.
38 -
قتل الخطأ فيه تحرير رقبة مؤمنة ودية إلى أهله.
39 -
تفصيل أحكام الديات: المسلم، الكافر، قتل العمد، الكفارة. وأولياء الدم مخيرون بين القتل والعفو والدية.
40 -
إظهار الإيمان يمنع من المسارعة بالقتل، أو الاتهام بالكذب.
41 -
معذرة أولى الضرر عن الجهاد، وفضيلة المجاهدين على القاعدين.
42 -
النهي عن مساكنة المشركين، والأمر بالهجرة إلى دار الإسلام، واستثناء المستضعفين، وأجرهم إن ماتوا حسب نياتهم.
43 -
تشريع قصر الصلاة في السفر، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
44 -
تشريع صلاة الخوف: للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.
45 -
وقت الصلاة كوقت الحج، لا تجوز بعد فواته، فويل لمؤخريها.
46 -
الرسول لا يعلم ما في القلوب، بل يحكم بالظاهر، والله يطلع على القلوب، ويغفر الذنوب، فمن تاب تابَ الله عليه، ومن يقترف خطيئة ثم يرم بها بريئًا فله عذاب أليم.
47 -
ترك سنة الرسول ومنهاج المؤمنين، مآل أهله إلى الجحيم.
48 -
المشركون جعلوا لله البنات وعبدوها لتقربهم إليه زلفى، واستحسنوا ما زينه لهم الشيطان.
49 -
الدعوى لا تحق حقًّا ولا تبطل باطلًا إلا ببرهان من الله.
50 -
كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها.
51 -
إبراهيم عليه السلام بلغ مرتبة الخلة، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصلها، وقد وفّى.
52 -
النهي عن عضل اليتامى اللاتي في حجور المؤمنين، فإما الزواج بهن أو تزويجهن.
53 -
خوف المرأةِ نشوز زوجها فلا جناح عليها أن تسقط عن حقها.
54 -
الأمر بالعدل بين النساء في المعاملة، وأما ميل القلب فيعفى عنه.
55 -
وصية الله بالتوحيد للأولين والآخرين، والأمر بشهادة الحق ولو على النفس والوالدين والأقربين، والموت على الكفر بعد التردد بين الإيمان والكفر مآل صاحبه إلى الجحيم.
56 -
النهي عن الجلوس في مجلس يُستهزأ فيه بآيات الله، ومن فعل ذلك فهو مثل المستهزئين، والله سيجمع في العذاب بين المنافقين والكافرين، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا، وما يفعل الله بعذاب عباده إن صدقوه الإيمان والإصلاح والعمل.
57 -
لا يجوز الجهر بالسوء من القول، أو دعاء أحد على أحد، إلا من ظلم، والعفو خير.
58 -
الكفر بنبيٍّ واحد كفر بجميع الأنبياء.
59 -
اليهود سألوا رسول الله نزول كتاب من السماء كما نزلت التوراة، واحتالوا دومًا على ارتكاب ما حرم الله، وقذفوا العذراء، وكفروا بالمسيح، وسعوا ليقتلوه، وارتكبوا كل منكر في الأرض.
60 -
الحواريون شاهدوا رفع المسيح عليه السلام إلى السماء حيًّا منزهًا مكرمًا، وفداه أحدهم بنفسه ممن شبهه فصلب مكانه، وسينزل عيسى من السماء إلى الأرض في دمشق وسيحكم بالإسلام، ويقتل المسيح الكاذب الأعور الدجال، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
61 -
الله يشهد وملائكته بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والزبور نزل على داود صلى الله عليه وسلم.
62 -
النصارى غلوا في عيسى حتى عَبَدُوه، واعتقدوا في أتباعه العصمة.
63 -
عيسى صلى الله عليه وسلم خُلِق بكلمة "كن"، وهو عبد الله ورسوله، والله تعالى واحد لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد.
6 -
المسيح نفسه لن يستنكف أن يكون عبدًا لله فما بال هؤلاء يؤلهونه؟ ! والقرآن هو الدليل القاطع للعذر، والحجة الخالدة المزيلة للشبه المبين الذي يضيء كل ما ظلم.
6 -
الكلالة من ليس له ولد ولا والد، وقد فصل الله حكم ذلك آخر السورة.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1.
في هذه الآية: يأمر الله سبحانه عباده بالتقوى ويفتتح بذلك كلامه في هذه السورة، كما اختتمه في سورة آل عمران قبلها، حيث ختم كلامه بالأمر بالتقوى فإن فلاح العبد في الدنيا والآخرة منوط بها. ثم ينبه سبحانه على قدرته العجيبة في الخلق إذ خلق العباد كلهم من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام، وخلق حواء من ضلع منه، ثم بث منهما الذرية رجالًا ونساءً، ثم يؤكد سبحانه مرة أخرى على التقوى التي فيها سِرّ نجاة الخلق، وعلى صلة الأرحام التي تحمل الرزق والسعادة للعباد، والله على كل شيء رقيب.
فعن قتادة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، يعني آدم صلى الله عليه).
وقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . قال مجاهد: (حواء، من قُصيرى (1) آدم وهو نائم، فاستيقظ فقال:"أثا" - بالنبطية، امرأة).
وقال قتادة: (يعني حواء، خلقت من آدم، من ضِلَع من أضلاعه).
وروى ابن أبي حاتم عن قتادة عن ابن عباس قال: (خلقت المرأة من الرجل، فجعلت نَهمَتُها في الرجل وخُلِقَ الرجل من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم).
(1) القُصيرى والقُصرى: أسفل الأضلاع، أو هي الضلع التي تلي الشاكلة بين الجنب والبطن.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن المرأة خُلِقَتْ من ضِلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها، وبها عِوَجٌ، وإن ذهبتَ. تُقيمُها كَسَرْتَها، وكَسْرُها طلاقُها](1).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [استوصُوا بالنِّساء، فإن المرأة خلقت من ضِلَعٍ، وإن أعوجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإن ذهبت تقيمُه كسَرْتَه، وإن تركتَه لم يزلْ أعوجَ، فاستوصوا بالنساء](2).
وقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} يعني: ونشر منهما - من آدم وزوجته حواء - ذرية رجالًا كثيرًا ونساءً على اختلاف أقطارهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، وأبو داود في السنن، بسند صحيح، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى خلقَ آدم من قُبْضَةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمرُ، والأبيضُ، والأسودُ، وبين ذلك، والسَّهْلُ والحزْنُ، والخبيث والطيب، وبين ذلك](3).
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} . قال الضحاك: (يقول: اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به). وقال ابن عباس: (تعاطفون به).
وقوله: {وَالْأَرْحَامَ} . قال مجاهد: (يقول: أسألك بالله وبالرحم). يعني قول الرجل يسأل بالله وبالرحم. ومنه قول أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنشُدُك الله والرحم فقد أكلنا العلهز - يعني الوبر والدم]، ليدعو لهم ويستسقي لهم حين أصابهم ما أصابهم بعد حصار الشعب فأكلوا الجلود والميتة والجيف.
وقال السدي: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ، يقول: اتقوا الله، واتقوا الأرحام لا تقطعوها).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (3643) طبعة دار السلام - الرياض، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء. من حديث أبي هريرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3331)، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريّته، وأخرجه مسلم (1466) من حديث أبي هريرة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2955). انظر صحيح سنن الترمذي (2355). ورواه أحمد. انظر تخريج المشكاة (100)، وصحيح الجامع الصغير (1755).
والمعنى الراجح لهذه الآية: اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها. أخرج ابن عساكر بسند حسن عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الله، وصلوا أرحامكم](1).
ورواه الطبراني عن جابر وزاد: [فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة الرحم].
ورواه ابن جرير عن قتادة وزاد: [فإنه أبقى لكم في الدنيا، وخير لكم في الآخرة].
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة، من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابًا لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا](2).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . قال مجاهد: (حفيظًا). وقال ابن زيد: (رقيبًا: على أعمالكم، يعلمها ويعرفها). وفي التنزيل: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
وفي حديث الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإحسان؟ قال: [أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك](3).
قال ابن القيم رحمه الله: (المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. قال: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور. يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول)(4).
(1) حديث حسن. أخرجه ابن عساكر (16/ 74/ 2)، وانظر السلسلة الصحيحة (869) وله شواهد، وهو يصلح تفسيرًا مباشرًا لهذه الآية - آية النساء (1).
(2)
حديث صحيح. وأخرجه ابن حبان (2038)، وبنحوه عند أبي داود (2/ 301)، وأحمد (5/ 36)، وابن ماجة (2/ 552)، وانظر السلسلة الصحيحة (917).
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 30)، وانظر مختصر صحيح مسلم (2) من حديث أبي هريرة بلفظ مشابه، ورواه ابن ماجة بلفظ مقارب، وهو جزء من حديث طويل.
(4)
انظر كتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1/ 280).
وقيل: (علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله).
وقيل: (من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه).
وقيل: (المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل.
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عباس، قال:[كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: يا غلام إني أعَلِّمُكَ كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْهُ تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، .. ] الحديث (1).
والخلاصة: فالمراقبة حالة في القلب المؤمن بأسماء الله وصفاته، تحمله على تعظيم أوامره وحرماته واجتناب معاصيه ومسخطاته، وإيثار رضاه على هوى نفسه وشهواته، وخوفٌ سببه يقينه باطلاعه سبحانه على تصرفاته، يدفعه إلى سياسة عمله بالعلم الذي يوصل إلى مرضاته.
ومن هنا قول بعض الصالحين: (إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب).
وقول أبي حفص لأبي عثمان النيسابوري: (إذا جلست للناس فكن واعظًا لقلبك ونفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك واللِّه يراقب باطنك).
قلت: وهذه الآية قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها في خطبة الحاجة أو خطبة النكاح. ففي صحيح مسلم من حديث المنذر بن جرير، عن أبيه قال: [كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدْرِ النّهار، فجاءه قومٌ حفاةٌ عُراةٌ مجتابي النِّمار (2) أو العَباء، متقلدي السيوف. عامّتُهم من مُضَرَ، بل كُلُّهُمْ من مُضَرَ، فتَمَعَّرَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى بهم من الفاقَةِ، فدخل ثم خرج، فأمَرَ بلالًا فأذّن وأقام، فصلّى ثم خطب فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
…
} إلى آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ، .. ] الحديث (3). ثم حضّهم على الصدقة.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2516). انظر صحيح سنن الترمذي (2043). وانظر تخريج المشكاة (5302)، والمرجع السابق (1/ 281) لتفصيل مفهومه.
(2)
أي خارقي أوساطها.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1017)، كتاب الزكاة، في الحث على الصدقة.
2 -
4. قوله تعالن: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}.
في هذه الآيات: أمر من الله بدفع الأموال المستحقة للأيتام إذا بلغوا الرشد، وتحذير من الاستهتار بها أو ضمها أو التلاعب بها، وترهيب من الوقوع في ظلم اليتامى من النساء بنكاحهن دون القسط في مهورهن، فإن الله أباح غيرهن مثنى وثلاث ورباع، وَرَغَّبَ في الاكتفاء بواحدة خشية الظلم، وأمَرَ بدفع المهور للزجات فما سامَحْنَ به فكلوه هنيئًا مريئًا.
فقوله: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} . قال مجاهد: (الحلال بالحرام). وقال إبراهيم: (لا تعط زيفًا وتأخذ جيدا]. وقال الضحاك: (لا تعط فاسدًا، وتأخذ جيدًا].
وقد جاء تفسير آخر عن مجاهد: (لا تعجِّل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدِّر لك). والأول أرجح واختاره ابن جرير. فالمعنى: لا تستبدلوا أموالهم الحرامَ عليكم بأموالكم الحلال لكم. فقد كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيِّد من ماله ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس.
وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} . قال مجاهد: (لا تأكلوا أموالكم وأموالهم، تخلطوها فتأكلوها جميعًا). يعني لا تخلطوا أموالهم بأموالكم فتأكلوها مع أموالكم.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} . قال ابن عباس: (إثمًا عظيمًا). وقال قتادة: (ظلمًا كبيرًا). يعني خلط أموال اليتامى مع أموال الأوصياء إثم كبير.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: [أن رجلًا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عِذْقٌ، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: {وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} - أحسبه - شك من هشام بن يوسف - قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله] (1).
وفي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة: عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ، قالت:[يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حِجْر وليِّها، تَشْرَكُه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وَليّها أن يتزوّجها بغير أن يُقْسِطَ في صَدَاقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهُنَّ إلَّا أن يُقْسِطوا إليهن، ويبلُغوا بهنَّ أعلى سُنَّتِهنَّ في الصداق، وأمِروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهُنّ. قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127]. قال عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهُوا أن ينكحُوا مَنْ رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كُنَّ قليلات المال والجمال] (2).
وقوله: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . أي: انكحوا ما شئتم من النساء سواهن ولا تقعوا في الظلم، ولكم أن ينكح أحدكم إن شاء ثنتين وإن شاء ثلاثًا وإن شاء أربعًا.
أخرج البيهقي بسند حسن عن ابن عمر: [أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلَمْنَ معه ما فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعًا](3).
قال الشافعي: (وقد دلّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبيِّنَة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة).
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال ابن كثير: (أي: فإن خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة، أو
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4573). والعِذْق: النخلة. ورواه مسلم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4574)، وأخرجه مسلم (3018)، والنسائي في "التفسير"(110). من حديث عروة بن الزبير عن خالته عائشة رضي الله عنها.
(3)
حديث حسن. أخرجه البيهقي (7/ 183)، ورجال إسناده ثقات. وأخرجه الدارقطني (3/ 271)، وله شواهد، عند النسائي وأحمد وابن حبان.
على الجواري السراري، فإنه لا يجب قَسْمٌ بينهن، ولكن يُستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حَرَج).
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . قال مجاهد: (يقول: لا تميلوا). وقال الحسن: (العَوْل الميل في النساء). والمعنى: ألا تجوروا وتظلموا.
وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . قال ابن عباس: (يعني بـ "النحلة"، المهر). وقال ابن جريج: ({وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}: فريضة مسماة).
والمعنى كما قال ابن جرير: (وأعطوا النساء مهورهن عطيّة واجبة، وفريضة لازمة).
وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . قال ابن زيد: (بعد أن توجبوه لهنّ وتُحلُّوه)، يعني المهر. والمقصود: إن وهب لكم - أيها الرجال - نساؤكم شيئًا من مهورهن بعد أن عُيِّنَ ذلك لهن، طيبة بذلك نفوسهن، {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. قال قتادة:(ما طابت به نفسًا في غير كَرْه أو هوان، فقد أحَلَّ الله لك ذلك أن تأكله هنيئًا مريئًا).
ومعنى {هَنِيئًا مَرِيئًا} أي: دواء شافيًا. من: "هنأت البعير بالقطِران" إذا جَرِب فعُولج به. والعرب تقول: أمرأني الطعام أي: انهضم. وقوله: {هَنِيئًا مَرِيئًا} منصوب على الحال من الهاء في {فَكُلُوهُ} .
5 -
6. قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}.
في هذه الآيات: نَهْيٌ من الله سبحانه عن تعريض الأموال للتلف والتصرف السيِّئ الهزيل بوضعها تحت تصرف السفهاء، وأمْرٌ باختبار اليتامى قبل دفع أموالهم إليهم عند من الرشد، وأنّ على ولي اليتيم الغني أن يستعفف، وللفقير أن يأكل بالمعروف، وأنه لابد من الإشهاد عند دفع الأموال إليهم لئلا يقع التجاحد يومًا ويدخل الشيطان.
فقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ} ، المعني بالسفهاء عند المفسرين على أقوال:
1 -
قال سعيد بن جبير: (اليتامى والنساء). وقال الحسن: (لا تعطوا الصغار والنساء).
2 -
قال مجاهد: (النساء والولدان). وقال قتادة: (أمر الله بهذا المال أن يخزن فتُحسن خِزانته، ولا يملكه المرأة السفيهة والغلامُ السفيه).
3 -
وقال مجاهد: (نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم، وهنّ سفهاء مَنْ كُنَّ أزواجًا أو أمهات أو بنات).
4 -
قال أبو هريرة: (هم الخدم، وهم شياطين الإنس) رواه ابن أبي حاتم عن معاوية بن قرّة عنه.
قلت: والسفيه هنا الضعيف التصرف، المستحق الحجرَ بتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره، ويشمل كل من كانت هذه صفته.
أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة يدعون الله عز وجل فلا يُستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخُلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه، ورجل آتى سفيهًا ماله، وقال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ}](1).
وقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . قال ابن عباس: (بمعنى: قوامكم في معايشكم). وقال الحسن: (قيام عيشك). وقال السدي: (فإن المال هو قيام الناس، قِوام معايشهم. يقول: كن أنت قيم أهلك، فلا تعط امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك).
وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} . قال مجاهد: (أمروا أن يرزقوا سفهاءهم - من أزواجهم وأمهاتهم وبناتهم - من أموالهم). وقال ابن عباس: (أنفقوا عليهم). وقال السدي: (يقول: أطعمهم من مالك واكسهم).
وقوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال مجاهد: (أمروا أن يقولوا لهم قولًا معروفًا في البر والصلة). وقال ابن جريج: (عِدَة تعدهم) يعني نحو قولك لهم: إن صلحتم ورشدتم سلمنا لكم أموالكم لتديروها بأنفسكم.
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 302)، وابن جرير في "التفسير"(8346). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1803)، وصحيح الجامع الصغير (3070)، وله طرق.
وقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالهُمْ} . قال ابن زيد: (اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو. إذا عُرف أنه قد أُنِسَ منه رُشد، دفع إليه ماله. قال: وذلك بعد الاحتلام).
وقال ابن عباس: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ، قال: عند الحلم).
وقال الحسن: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} قال: رشدًا في الدين، وصلاحًا، وحفظًا للمال). وقال مجاهد:(العقل). وقال ابن جريج: (صلاحًا وعلمًا بما يصلحه).
والخلاصة: سن البلوغ يكون عند الحلم -كما ذهب الجمهور من العلماء- وبه ينتهي اليتم وسن الطفولة.
أخرج أبو داود بسند حسن عن علي قال: [حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صُمَاتَ يوم إلى الليل](1).
ويعرف الحُلُم بالاحتلام - وهو أن يرى في منامه الماء الدافق الذي يكون منه الولد -، كما يعرف بالشعر الخشن ينبت حول الفَرْج، كما يعرف بسن الخامسة عشرة.
وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: [عُرِضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد وأنا ابن أربع عشرة فلم يُجِزْني، وعُرضتُ عليه يومَ الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني](2).
قال عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث -: (إن هذا الفرق بين الصغير والكبير).
وفي لفظ ابن ماجة: (هذا فصل ما بين الصغير والكبير).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن عن عَطِيَّة القُرَظيِّ قال: [عُرِضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قُريظة، فأمر من ينظر من أنبت، فكَان من أنْبَتَ قُتِل، ومن
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2873) في السنن. انظر صحيح أبي داود (2497).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2664)، ومسلم (1868)، وأبو داود (4406)، وغيرهم.
لم يُنْبِتْ خُلِّيَ سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فَخُلِّي سبيلي] (1).
الحديث الثالث: أخرج أحمد وأبو داود والنسائي بسند جيد عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -[رفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم - أو يستكمل خمس عشرة سنة - وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفِيقَ] (2).
وفي الأثر عند أبي عُبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن إسماعيل بن أميَّة، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن عمر:(أن غلامًا ابتهرَ جارية في شِعْرِه، فقال عمر رضي الله عنه: انظروا إليه. فلم يُوجَد أنْبَت، فدَرَأَ عنه الحدَّ. قال أبو عُبيد: ابتهَرَها أي: قذفها، والابتهار أن يقول: فعلت بها، وهو كاذب، فإن كان صادقًا فهو الابتيار" (3).
وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} . قال ابن عباس: (يعني: أكل مال اليتيم مبادرًا أن يبلغ، فيحول بينه وبين ماله). والتقدير: لا تأكلوها مبادرة كِبرهم، فأنْ في محل نصب. والآية تنهى عن المبادرة بأكل أموال اليتامى قبل بلوغهم للاستفادة منها ومنعهم من ذلك.
وقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .
أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: [في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أنها نزلت في مال اليتيم إذا كان فقيرًا فإنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف](4).
وفي لفظ مسلم: [أنزلت في والي مال اليتيم الذي يقوم عليه ويُصلحه، إذا كان محتاجًا أن يأكل منه].
وله شاهد عند الإمام أحمد بسند جيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: [أن رجلًا سأل رسول الله فقال: ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال: كُلْ من مال يتيمك غير
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (4404)، والترمذي (1584)، والنسائي (6/ 155) وابن ماجة (2541). وعطية صحابي صغير. وكان ذلك لما حكم فيهم سعد بن معاذ بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات.
(2)
حديث إسناده جيد. أخرجه أبو داود (4398)، والنسائي (6/ 156)، وأحمد (6/ 144).
(3)
انظر تفسير ابن كثير - سورة النساء، آية (6). وعزاه لأبي عبيد في كتاب الغريب.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4575) - كتاب التفسير - وأخرجه مسلم (3019) فيه.
مُسْرف ولا مُبَذِّر ولا مُتَأَثِّل مالًا، ومن غير أن تَقِيَ مالك - أو قال: تَفْدِي مالك - بماله] (1).
وشاهد آخر عند أبي داود والنسائي عنه بلفظ: [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي يتيمًا له مال وليس لي مال، آكل من ماله؟ قال: كُلْ بالمعروف عْير مُسرف](2).
وقوله: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} : أي: فأشهدوا على الأيتام دفعكم إليهم أموالهم واستيفاءهم ذلك منكم. وهو أمر من الله سبحانه لئلا يقع التجاحد يومًا ويدخل الشيطان.
قال ابن عباس: (إذا دفع إلى اليتيم ماله، فليدفعه إليه بالشهود، كما أمره الله تعالى).
وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} . قال السدي: (شهيدًا].
قال ابن كثير: (أي: وكفى بالله محاسبًا وشهيدًا ورقيبًا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال، هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مَبْخوسة مدخلة مُرَوَّج حسابها مُدَلَّس أمورها؟ الله عالم بذلك كله.
ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أُحبُّ لنفسي، لا تأمَّرَنَ على اثنين، ولا تَلِيَنَ مال يتيم"(3)).
7 -
10. قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
(1) إسناده جيد. أخرجه أحمد في المسند (2/ 186)، وله شواهد، وانظر ما بعده.
(2)
إسناده قوي. أخرجه أبو داود في السنن (2872)، والنسائي (6/ 256)، ورواه أحمد (2/ 215).
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1826)، وأبو داود (2868)، والنسائي (6/ 255).
قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى أن للذكور من أولاد الرجل إذا مات حصة من ميراثه، وكذلك للإناث حصة منه، من قليل ما خلّف بعده ووكثيره، وهي حصة مفروضة واجبة معلومة. وإذا حضر هذه القسمة الفقراء ممن لا يرث من القرابة، واليتامى والمساكين، فإن إكرامهم أمر يحبه الله ويجزي به. ثم ليتق الله كل من يوصي أن يضرّ بأحد من الورثة أو بأموال اليتامى فإنه كما يحب لذريته من بعده، كذلك عليه أن يحسن في معاملة من وَليَ أَمْرَه. إن الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم النار مقابل استهتارهم والعياذ بالله.
فعن قتادة، قال:(كانوا لا يُوَرِّثون النساء، فنزلت: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}). وقال سعيد بن جبير: (كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورِّثون النساء ولا الأطفال شيئًا، فأنزل الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
…
}
…
الآية).
وقوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} . قال الفراء: (هو كقولك: قسمًا واجبًا، وحقًّا لازمًا، فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب). وقال الزجاج: (انتصب على الحال).
وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} .
المعنى -كما قال الحافظ ابن كثير-: (أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون، واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوقُ إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يُعطونه، فأمر الله تعالى، وهو الرؤوف الرحيم: أن يُرْضَخَ لهم شيءٌ من الوسَط يكون برًا بهم وصدقة عليهم، وإحسانًا إليهم، وجَبْرًا لكسرهم).
قلت: وقد خاض الناس فيما سبق في هذه الآية: مِنْ قائل إنها منسوخة بآية المواريث، ومن قائل: إنها محكمة. والصواب ما ذكر البخاري عن عكرمة، عن ابن عباس:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} . قال: هي محكمة، وليست بمنسوخة). وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال:(هي قائمة يعمل بها). وقال مجاهد: (هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم).
قلت: والآية تشبه قوله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. فهذه أيضًا ليست بمنسوخة، إنما الواجب على الموصي أن يترك شيئًا من الثلث لفقراء أرحامه وأقاربه الذين لا يرثون.
أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند حسن، عن سلمان بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة](1).
فيه تفسيران: الأول - أن يخاف من يحضر الميت أن يأمره بتفريق ماله فيمن لا يرثه وحرمان مستحقه.
قال ابن عباس: (هذا في الرجل يَحْضُرُه الموت، فَيَسْمَعُهُ رجل يوصي بوصية تضرّ بورثته، فأمر الله تعالى الذي يَسْمَعُه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيعة). وهو قول مجاهد واختيار شيخ المفسرين.
أخرج البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: [كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمرضت مرضًا أشفيت منه على الموت، فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن لي مالًا كثيرًا، وليس يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: ". قلت: بشطر مالي؟ قال: لا. قلت: فثلث مالي؟ قال: الثلث، والثلث كثير. إنك يا سعد! أن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس](2).
وأخرج الإمام أحمد والشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الثلث كثير](3).
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (5/ 92)، وابن ماجة (1844)، وابن خزيمة (2385)، ورواه أحمد (4/ 17) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3344) والحاكم. انظر صحيح الجامع (3752).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 132)، ومسلم (1628)، وأصحاب (1524)، وأصحاب السنن. من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2029) ، (2076)، والشيخان، والبيهقي (6/ 269) وغيرهم.
الثاني - قيل المراد بالآية: فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى ولا يأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا. حكاه ابن جرير عن العوفي عن ابن عباس.
والمقصود هنا أنه كما تحب لذريتك من بعدك، كذلك فعامل الناس في ذريتهم إذا وليتهم. وهذا تفسير حسن أيضًا، وخاصة أنه مؤيد بالآية التي بعده: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} .
قال الجمهور: (إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم) ذكره القرطبي. وقال ابن زيد: (نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورّثون النساء ولا الصغار).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات](1).
11.
في هذه الآية: ذكرُ الله تعالى تفصيل القسمة الشرعية في المواريث، وذلك بعد أداء الديون عن الميت، فريضة من الله على عباده لا تجوز مخالفتها، والله هو العليم الحكيم.
أخرج البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: [عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رشَّ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2766)، و (5764)، وأخرجه مسلم برقم (89)، ورواه بعض أهل السنن.
عليَّ، فأفقت فقلت ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ] (1).
وأخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: [جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا. فقال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية المواريث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَمِّهِما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأُمَّهُما الثمن وما بقي فهو لك](2).
والآية أمر من الله بالعدل في القسمة للمواريث، فقد كان أهل الجاهلية يجعلون الميراث للذكور ويحرمون منه الإناث، فعاب الله عليهم هذا الظلم، وبيّن سبحانه القسمة الشرعية العادلة، فقال سبحانه:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . قال البخاري: عن ابن عباس قال: (كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع).
فجعل للذكر ضعف ما للأنثى لاحتياج الرجل إلى المال أكثر من الأنثى، أثناء معاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، وتكلف المؤونة وما يقوم به أمر الأسرة.
وقوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} .
المقصود: إن ترك الميت من البنات أكثر من اثنتين فلبناته الثلثان من التركة، دون سائر ورثته، إذا لم يكن الميت خلّف ولدًا ذكرًا معهن.
وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} .
المعنى: إن كانت المتروكة ابنة واحدة ليس معها غيرها من ولد الميت ذكر ولا أنثى، فإنها تستحق نصف الميراث.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4577)، ومسلم (1616)، وأخرجه ابن جرير (8733).
(2)
حديث صحيح لغيره. أخرجه أبو داود (2891)، والترمذي (2092)، وابن ماجة (2720)، وأحمد (3/ 352). وأخرجه الحاكم (4/ 334) وصححه ووافقه الذهبي.
وقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} .
المقصود: إن ترك الميت أولادًا، ذكورأ أو إناثًا، واحدًا أو جماعة، فإنه يعطى كل من والدي الميت السدس من تركته وما خلّف من ماله، سواءٌ فيه الوالدة والوالد، لا يزداد أحد منهما على السدس.
وقد فصّل هنا الفقهاء في أحوال الأبوين في الميراث:
1 -
أن يجتمعا مع الأولاد، فيفرض لكل واحد منهما السدس، فإن لم يكن للميت إلا بنتٌ واحدة، فرض لها النصف، ولكل واحد من الأبوين السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب.
أولاد + أبوان
أم: السدس
أب: السدس
الباقي للأولاد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بنت واحدة + أبوان
أم: السدس
أب: السدس + السدس
البنت: النصف
2 -
أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض.
أبوان فقط
الأم: الثلث
الأب: الثلثان
فلو كان معهما زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع. وتأخذ الأم ثلث الباقي والأب يأخذ ثلثي الباقي. كما يوضح الجدول الآتي أ - ب.
زوج + أبوان
الزوج: النصف
الأم: السدس = الثلث × النصف
الأب: الثلث = الثلثان × النصف
زوجة + أبوان
الزوجة: الربع
الأم: الربع = الثلث × الثلاثة أرباع
الأب: النصف = الثلثان × الثلاثة أرباع
وهذا قول عمر وعثمان وأصح الروايتين عن علي. وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور العلماء رحمهم الله: أن الأم تأخذ ثلث الباقي في الحالتين (أ، ب). ويأخذ الأب ثلثيه.
3 -
اجتماع الأبوين مع الإخوة، وسواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم. فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيُفْرَض لها مع وجودهم السدس. فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب. أخذ الأب الباقي. وحكم الأخوين كحكم الإخوة عند الجمهور.
إخوة + أبوان
الأم = السدس
الأب: الباقي
وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} . قال قتادة: (أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الاخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك. وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث لأن أباهم يلي نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم).
قال ابن جرير: (لا خلاف بين الجميع: أنْ لا ميراث لأخي ميت مع والده).
وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . قال مجاهد: (يبدأ بالدين قبل الوصية).
أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن سعد بن الأطول: [أن أخاه مات وترك ثلاث مئة درهم. وترك عيالًا. فأردت أن أنفقها على عياله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أخاك مُحْتبَسٌ بِدَيْنِهِ. فاقض عنه. فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه إلا دينارين، ادعتهما امرأة وليس لها بينة. قال: فأعطها فإنها مُحِقّة](1).
وأخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن عن علي قال: [قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدَّين قبل الوصية. وأنتم تقرؤونها: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. وإن أعيان بني الأم ليتوارثون دون بني العَلَّات](2).
وقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} . قال مجاهد: (في الدنيا).
وقال ابن زيد: (أيهم خيرٌ لكم في الدين والدنيا، الوالد أو الولدُ الذين يرثونكم، لم يدخل عليكم غيرهم، فرضَ لهم المواريث، لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم).
قال القاسمي في التفسير: (أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم. والمعنى: فرض الله الفرائض، على ما هو، على حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم. فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع. وأنتم لا تدرون تفاوتها. فتولى الله ذلك فضلًا منه. ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير).
وقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} . يعني ما ذكر من تفصيل المواريث هو فرض الله الذي حكم به وقضى بينكم. ونصب {فريضة} على المصدر المؤكد. إذ معنى {يوصيكم} يَفْرض عليكم. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} : أي: بكل شيء، من قسمة المواريث وغيرها، {حكيمًا} في قسمته وتقديره وشرعه. والخبر منه سبحانه بالماضي كالخبر
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (2433). باب أداء الدين عن الميت. انظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (1973).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (2122)، وابن ماجة (2715). باب الدين قبل الوصية. وأحمد (1/ 131)، والحاكم (4/ 336)، والبيهقي (6/ 267). وانظر صحيح ابن ماجة (2195). وقوله:"بالدين" أي: بأدائه قبل إخراج الوصية، و"أعيان بني الأم" - الأعيان: الإخوة لأب واحد وأم واحدة. مأخوذ من عين الشيء وهو النفيس منه. و"بني العلات" الإخوة لأب، من أمهات شتى.
منه بالاستقبال. قال سيبويه: (إن الله عز وجل كان كذلك لم يزل على ما رأيتم) - أي: من الحكمة والعلم.
12.
في هذه الآية: الخطاب للرجال أن لهم نصف ما ترك أزواجهم بعد وفاتهن عن غير ولد، فإن كان لهنَّ ولد ذكر أو أنثى يوم يحدث بهن الموت فللرجال الربع مما تركن من مال وميراث، وذلك بعد قضاء الديون، وبعد إنفاذ وصاياهن الجائزة إن كن أوصين بها. وكذلك فإن للنساء الربع مما ترك الرجال إن لم يكن لهم ولد وإلا فالثمن، وذلك بعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا. وإن كان المتوفى لا ولد له ولا والد وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك اشتركوا في الثلث، وذلك بعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا، وصية الله لكم معشر المؤمنين والله عليم حكيم.
فائدة: سواء في الربع أو الثمن فإن الزوجة والزوجتين والثلاث والأربع يشتركن فيه.
فقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . قال مجاهد: (يبدأ بالدين قبل الوصية).
أخرج الترمذي بسند حسن عن علي أنه قال: [إنكم تقرؤون هذه الآية: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأن
أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه] (1).
وكذلك روى الترمذي في الباب عن علي قال: [قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات](2).
قال أبو عيسى: (والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم).
و"أعيان بني الأم" - مأخوذ من عين الشيء وهو النفيس منه. والأعيان: الإخوة لأب واحد وأم واحدة، بخلاف "بني العلات" الإخوة لأب، من أمهات شتى.
وقوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَوِ امْرَأَةٌ} . - الكلالة: من لا ولد له ولا والد.
والكلالة: مشتقة من الإكْليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، قال ابن كثير:(والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق، أنه سئل عن الكلالة، فقال: أقول فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشميطان، والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما وَلي عمر قال: إني لأسْتَحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. كذا رواه ابن جرير وغيره).
ثم ذكر رواية ابن أبي حاتم في تفسيره عن طاووس قال: سمعت ابن عباس يقول: (كنت آخر الناس عهدًا بعُمر، فسمعته يقول: القولُ ما قلت، وما قلتُ، وما قلتُ. قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد). وبه يقول علي، وابن مسعود وقتادة وأهل المدينة والكوفة والبصرة والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف.
وقوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} . قال قتادة: (فهؤلاء الإخوة من الأم: إن كان واحدًا فله السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء).
وقال أيضًا: (والكلالة الذي لا ولد له ولا والد، لا أب ولا جد، ولا ابن ولا ابنة، فهؤلاء الإخوة من الأم). وكان سعد بن أبي وقاص يقرؤها: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ "من أمه"} ذكره ابن جرير.
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في أبواب الفرائض. انظر صحيح سنن الترمذي (1073) - باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم -، ورواه بنحوه ابن ماجة (2715).
(2)
حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (1704) - الباب السابق، وإسناده حسن.
يروي ابن أبي حاتم بسنده عن الزهري قال: (قضى عمر أن ميراث الإخوة من الأم بينهم، للذكر مثل الأنثى. قال: ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله الآية التي قال الله تعالى فيها: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}).
فائدة (1): إخوة الأم لهم اختلاف عن بقية الورثة من وجوه:
1 -
أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم.
2 -
ذكورهم وإناثهم في القسمة سواء.
3 -
لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة، فلا يرثون مع أب ولا جدّ، ولا ولدٍ ولا ولد ابن.
4 -
لا يأخذون أكثر من الثلث مهما كثر عدد ذكورهم وإناثهم.
فائدة (2): (المسألة المشتركة: زوج، وأم أو جَدّة، واثنان من ولد الأم، وواحد أو أكثر من ولد الأبوين).
مذهب الجمهور: الزوج: النصف
الأم أو الجدة: السدس
ولد الأم: الثلث
ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوة الأم. وهو مذهب عمر وعثمان ومالك والشافعي.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} .
قال ابن عباس: (الإضرار في الوصية من الكبائر)(1).
وقوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} . يعني: عهدًا من الله إليكم، وهو العليم بمصالح خلقه، الحليم في ترك معاجلته عقوبتهم إذا ظلموا في القسمة لمواريثهم.
(1) أخرجه الدارقطني (4/ 151). وهو موقوف على ابن عباس، ولا يصح رفعه.
13 -
14. قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}.
في هذه الآيات: بيان من الله أن تلك الأحكام هي حدود الله الواجب تعظيمها، فطاعته تعالى تورث الجنان، ومعصيته وتجاوز حدوده يورث العذاب في النيران.
فعن ابن عباس: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني: طاعة الله، يعني المواريث التي سمى الله).
وقال قتادة: ({تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}، التي حدّ لخلقه، وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة، فانتهوا إليها ولا تعدَّوها إلى غيرها).
فإن من أقامها كما أمر الله تعالى وقسم، أدخله بساتين النعيم يوم القيامة تجري تحتها الأنهار فيكون بذلك قد حظي بالفوز العظيم الذي ليس يشبهه فوز ونعيم، وإن عصى أمر الله ورسوله وخالف القسمة الشرعية عرّض نفسه لنار الجحيم والعذاب المهين.
15 -
16. قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}.
في هذه الآيات: كانت عقوبة الزنا -الثابت بالبينة التامة- أولى الإسلام حبس المرأة في بيت فلا تمكن من الخروج إلى أن تموت، حتى نسخ الله ذلك بالجلد أو الرجم. وكذلك كانت عقوبة اللواط الإيذاء باللسان والضرب حتى نسخ ذلك بالقتل.
فعن ابن عباس: ({وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} قال: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد أو الرجم).
وقال الضحاك بن مزاحم: ({أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}، قال: الحدّ، نسخ الحدّ: هذه الآية).
أخرج الإمام مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خذوا عني، خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، البكرُ بالبكرِ جَلْدُ مئة ونفي سنة، والثيِّبُ بالثيِّبِ، جَلْدُ مئةٍ والرجم](1).
وفي لفظ عند الإمام أحمد - قال عبادة بن الصامت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثَر عليه وكُرِبَ لذلك وتَرَبَّد وجهه، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سُرِّيَ عنه قال: خذوا عني، قد جعل الله لهنَّ سبيلًا، الثيِّبُ بالثيِّب، والبكرُ بالبِكْر، والثيبُ جلد مئة، ورَجْمٌ بالحجارة، والبِكرُ جلد مئة، ثم نفي سنة](2).
وقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} .
قال مجاهد: (نزلت في الرجلين إذا فعلا، لا يَكْني، وكأنه يريد اللواط).
وقال عكرمة وعطاء: (نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا).
وقال السدي: (نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا).
ووجه الجمع بين لفظي {واللاتي} ، {واللذان} كما قال مجاهد:(الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة). فعقوبة النساء الحبسُ، وعقوبة الرجال الأذى. قال قتادة:(كانت الحرأة تحبس ويؤذيان جميعًا، وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب).
والإيذاء كما قال ابن عباس: (النيل باللسان والضرب بالنعال). وقال السدي: (معناه التوبيخ والتعيير). قال ابن كثير: (وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم).
قلت: ولا شك أن الآية تشمل الزنا واللواط. ويؤيد ذلك اللفظ، قوله في الأولى:
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1690) كتاب الحدود، باب حد الزنى. وأخرجه أبو داود (4415)، والترمذي (1434)، والنسائي في "الكبرى"(7142)، وأحمد (5/ 313)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 318) من طريق محمد بن جعفر به. وله شواهد.
{مِنْ نِسَائِكُمْ} ، وفي الثانية {منكم}. قال السدي وقتادة وغيرهما:(الأولى في النساء المحصنات. يريد: ودخل معهنّ من أحصِن من الرجال بالمعنى. والثاني في الرجل والمرأة البِكرين). وقال مجاهد: (الرجلان الفاعلان، لا يَكْني).
أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من رأيتموه يعملُ عملَ قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به](1).
وفي لفظ: (من وجدتموه) بدل: (من رأيتموه).
وقوله: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} . أي: إن تابا من الفاحشة التي سقطا في حبائلها وشباكها وراجعا طاعة الله سبحانه وأصلحا دينهما فاصفحوا عنهما وكفوا عنهما الأذى الذي أمرتم به قبل، فلا تعنفوهما بكلام قبيح بعد التوبة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} يحب التوبة لعباده إذا رجعوا إليه فيغفر لهم ما مضى وهو ذو رحمة ورأفة بهم.
قلت: ولا شك أن هذا إنما كان قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا زنت الأمةُ فتبيَّن زناها فليجلدها ولا يُثَرِّب
…
] الحديث (2).
17 -
18. قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}.
في هذه الآيات: لا يزال الله يغفر للعبد المنيب ما دامت روحه في جسده، فإذا بلغت الحلقوم ولم يتب فقد فات الأوان. وكذلك الذين يموتون وهم كفار، فإن وراءهم العذاب والخذلان.
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجة (2561).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2152)، كتاب البيوع، باب بيع العبد الزاني، وانظر (2555).
أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغرغِرْ](1).
وفي المسند وصحيح الحاكم عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أُغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني](2).
وقد سمى الله تعالى الوقوع بالذنب جهالة. قال مجاهد: (كل من عصى الله خطأ أو عمدًا فهو جاهل حتى يَنزع عن الذنب). وقال ابن عباس: (من جهالته عمل السوء).
وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} . قال ابن عباس: (ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت).
وقال الضحاك: (ما كان دون الموت فهو قريب). وقال قتادة: (ما دام في صحته).
وقال الحسن: (ما لم يغرغر). وقال عكرمة: (الدنيا كلها قريب).
فإنه إذا حشرج العبد بنفسه وعاين ملائكة ربه أقبلوا لقبض روحه، وبلغت الروح الحلقوم وضاق بها الصدر، فلا تقبل التوبة عندها فقد فات أوانها.
وفي التنزيل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} - وذلك لأهل الأرض إذا عاينوا طلوع الشمس من مغربها.
وقوله: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} . قال ابن عباس: (أولئك أبعدُ من التوبة).
وقوله: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . أي: أعددنا لهم عذابًا مؤلمًا موجعًا.
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3537)، وابن ماجة (4253)، وأحمد (2/ 132).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 261)، والبيهقي في "الأسماء" ص (134)، وأحمد (3/ 29) نحوه. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (104).
19 -
22. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}.
في هذه الآيات: نهي الله المؤمنين عن توارث النساء عند موت أزواجهن، أو الإضرار بهن إلا إن أتين بفاحشة فهناك السبل الشرعية، والأمر بحسن المعاشرة وعدم مكارهة الزوجة لتفتدي بما آتاها إن أراد طلاقها، وتحريم نكاح ما نكح الآباء، فإن ذلك كان فاحشة وساء سبيلًا.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: [{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك](1).
وعن ابن عباس قال: (كانت المرأة في الجاهلية إذا توفى عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا كان أحق بها، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} (2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4579) ، (6948)، وأبو داود (2089)، والنسائي في "التفسير" (114). وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي. النساء (19).
(2)
رواه وكيع عن سفيان عن علي بن بَذِيمَة عن مِقْسَم عن ابن عباس. أورده ابن كثير في التفسير، ورجاله رجال الصحيح. وانظر المرجع السابق. سورة النساء - آية (19).
وأخرج الطبري بسند حسن عن أبي أمامة قال: [لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فنزلت](1).
وقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} . قال ابن عباس: (ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}، يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مَهْر فَيُضرّها لتفتدي). فهو نهي عن الإضرار في عشرة المرأة ومكارهتها حتى تتنازل عن حقوقها وصداقها.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . فيه تأويلان:
1 -
قال ابن مسعود: (يعني بذلك الزنا). والمقصود: يحق للزوج إن زنت الزوجة أن يسترجع منها الصداق الذي أعطاها، وأن يضاجرها ويكارهها حتى تترك ذلك له وتخالعه. قال أبو قلابة:(إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة، فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه). وقال السدي: ({إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، وهو الزنا، فإذا فعلق ذلك فخذوا مهورهن).
2 -
قال ابن عباس والضحاك: (الفاحشة المُبَيِّنَة: النشوز والعصيان).
وقال ابن عباس: ({إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، وهو البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حلّ له منها الفدية). وقال الضحاك: (فإذا نشزت حل له أن يأخذ خُلْعها منها). وقال: (عدل ربنا تبارك وتعالى في القضاء، فرجع إلى النساء فقال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، و {الفاحشة}: العصيان والنشوز. فإذا كان ذلك من قِبَلها، فإن الله أمره أن يضربها، وأمره بالهجر. فإن لم تدع العصيان والنشوز، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية).
واختار شيخ المفسرين - الإمام ابن جرير - أنه يعمّ ذلك كله: الزنا، والعصيان والنشوز، وبذاء اللسان، وغير ذلك. وقال ابن كثير:(يعني أن هذا كلّه يبيح مضاجَرَتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها، وهذا جيد، والله أعلم).
قلت: وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير وابن كثير قوي طيب، وفيه معالجة لكثير من مشاكل التمرد من بعض نساء هذا الزمان لمكارهة الزوج على الطلاق بالإخلال بالطاعة، وهو مذهب الإمام مالك. قال مالك: (للزوج أن يأخذ من الناشز جميع
(1) إسناده حسن. كما قال الحافظ في الفتح، والسيوطي في اللباب. وانظر المرجع السابق.
ما تملك). وقيده بعض أهل العلم بأن لا يتجاوز ما أعطاها ركونًا لقوله تعالى: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} . ذكره القرطبي.
قلت: ولفظ الفاحشة وإن كان الأشهر أنه الزنا، إلا أنه يتناول أمورًا مؤذية أخرى. قال ابن عبد البر:(الفاحشة قد تكون البذاء والأذى، ومنه قيل للبذيّ: فاحش ومتفحِّش).
وقد ثبت ذلك فيما أخرجه الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللّعان، ولا الفاحش، ولا البذيّ](1).
وأخرج العقيلي بإسناد حسن عن عائشة مرفوعًا: [يا عائشة إياك والفحش إياك والفحش، فإن الفحش لو كان رجلًا لكان رجل سوء](2).
وقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . أَمْرٌ بحسن الصحبة والعشرة. قال السدي: (يقول: وخالطوهن). وقال محمد بن الحسين: (وهي المصاحبة).
وتشمل المعاشرة التلطف لهن بالقول والهيئة والفعل كما يحب ذلك له منها. قال بعضهم: (هو أن يتصنّع لها كما تتصنّع له). وقال ابن عباس رضي الله عنه: (إني أحِبُّ أن أتزينَ لامرأتي كما أحِبُ أن تتزين لي). وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: (أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في مِلْحَفَةٍ حمراءَ ولحيتُه تَقْطُر من الغالية (3)، فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطِّيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن).
قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بحسن العشرة والمصاحبة للزوجة، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. ومن الأحاديث في ذلك:
الحديث الأول: أخرج الترمذي والدارمي بسند صحيح عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خَيْرُكُمْ خيرُكُم لأهله، وأنا خيركُم لأهلي](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (1978)، وأحمد في المسند (3839)، والحاكم (1/ 12).
(2)
حديث صحيح. أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(259)، وحسنه الألباني. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (537)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 282) لتفصيل البحث.
(3)
هو نوع من الطيب مركب من عود ومسك وعنبر ودهن.
(4)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3895)، والدارمي (2/ 159)، وابن حبان (4177).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة والترمذي بسند صحيح من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في خطبة حجة الوداع -:[ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة (1) فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا، ألا إن لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخيارهم خيارهم لنسائهم](3).
الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: [قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لُعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه](4).
الحديث الخامس: وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح عنها: [أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهي جارية. قال: لم أحمل اللحم ولم أُبَدِّنْ. فقال لأصحابه: تقدموا، فتقدموا. ثم قال: تعالى أسابقك، فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعد، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال:
(1) قال السندي في حاشيته: (والمراد النشوز وشكاسة الخلق، وإيذاء الزوج وأهله باللسان واليد، لا الزنا، إذ لا يناسب قوله: "ضربًا غير مبرح"، وهذا هو الملائم لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} الآية، فالحديث على هذا كالتفسير لها، فإن المراد بالضرب فيها هو الضرب المتوسط لا الشديد). انظر آداب الزفاف - ص (151) - الألباني.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 204) وقال؛ "حديث حسن صحيح". وأخرجه ابن ماجة (1/ 568 - 569). وله شاهد في المسند (5/ 72). انظر آداب الزفاف ص (156).
(3)
حديث حسن الإسناد. أخرجه الترمذي (2/ 204)، وأحمد (2/ 250) ، (2/ 472).
(4)
إسناده صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 305)، وأخرجه النسائي في "عشرة النساء"(75/ 1).
تعالى أسابقك، ونسيت الذي كان، وقد حملت اللحم، وبدنت، فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال؟ فقال: لتفعلن، فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك، وقال: هذه بتلك السبقة] (1).
فهذه بعض الروائع من جمال عشرته عليه الصلاة والسلام مع زوجاته، وكان يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء أحيانًا، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان دائم التلطف معهن، دائم البِشْر، وهو الأسوة لكل مؤمن إلى يوم القيامة.
وقوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . قال ابن عباس: (والخير الكثير: أن يعطف عليها، فيرزق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا].
أخرج الإمام مسلم في صححيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر](2).
وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} . القنطار: المال الكثير. والآية نهي عن الإضرار بالزوجة لتفتدي بما آتاها من أجل إرادته استبدالها بزوجة أخرى، حتى ولو كان آتاها قنطارًا من مال.
قال مجاهد: ({وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ}: طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر).
وقوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . أي: أتأخذونه ظلمًا بغير حق، وإثمًا واضح الإثم.
وقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال ابن عباس: (الإفضاء المباشرة، ولكن الله كريم يَكْني عما يشاء). وقال: (الإفضاء هو الجماع). وقال مجاهد: (مجامعة النساء).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 264)، والنسائي في "عشرة النساء"(2/ 74) والسياق له، وأخرجه أبو داود (1/ 403)، وابن ماجة (1/ 610) مختصرًا.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (4/ 178 - 179)، وقوله:"لا يفرك" أي: لا يبغض.
وقوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} - فيه أقوال:
1 -
الميثاق الغليظ: [ن يقال للناكح: آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان. قال قتادة: (والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم: "آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان").
2 -
الميثاق الغليظ: هو كلمة النكاح التي استحلّ بها الفرج.
قال مجاهد: (كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن).
3 -
الميثاق الغليظ: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
قال الربيع: (والميثاق الغليظ: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
قلت: والتأويل الثالث أقرب، لما روى مسلم في صحيحه عن جابر - في خطبة حجة الوداع - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها:[واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستَحْلَلْتُم فروجهن بكلمة الله](1).
وقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} .
أخرج ابن جرير ورجاله رجال الصحيح - إلا محمد بن عبد الله المخرمي وهو ثقة - عن عكرمة عن ابن عباس قال: [كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. قال: فأنزل الله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}](2).
وقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} - فيه أقوال:
1 -
قيل معناه: لكن ما قد سلف فدعوه. قال القاسمي في التفسير: (أي سوى ما قد مضى في الجاهلية فإنه معفو لكم ولا تؤاخذون به).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجة (3074)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن جرير في "التفسير" -حديث رقم- (8939). وانظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول". سورة النساء، آية (22).
2 -
قيل بل المعنى: ولا تنكحوا نكاح آبائكم - يعني في الجاهلية - إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح، لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفو لكم عنه. ذكره ابن جرير في التفسير. ويدل عليه ذكر "ما" في قوله:{مَا نَكَحَ} فإن "مَنْ" لبني آدم، و"ما" لغيرهم. والتقدير: لا تنكحوا مناكح آبائكم في الجاهلية.
3 -
قيل بل المعنى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم إلا ما قد سلف منهم من وجوه بالزنا عندهم، فإن نكاحهن لكم حلال، لأنهن لم يكن لهم حلائل. وإنما كان ما كان من آبائكم ومنهن من ذلك فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا. قال ابن زيد:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} الآية، قال: الزنا).
قلت: وجميعها أقوال يحتملها السياق.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} . المقت: البغض، وهذا يشير إلى ما يحصل من مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فغالب من يتزوج بامرأة يمقت من سبقه بزواج إليها. ومنه كان تحريم أمهات المؤمنين على الأمة إضافة إلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم وحقه ومكانته. قال عطاء:({وَمَقْتًا}: أي: يمقت الله عليه).
وقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} . قال ابن كثير: (أي: وبئس طريقًا من سلكه من الناس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل ويصير ماله فيئًا لبيت المال. كما رواهُ الإمام أحمد وأهل السنن من طرق، عن البراء بن عازب، عن خاله أبي بردة - وفي رواية: الحارث بن عمرو، وفي رواية: عن عمه -[أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله] (1)).
23 -
24. قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا
(1) حديث قوي بطرقه. أخرجه أحمد في المسند (4/ 297)، وأبو داود في السنن (4457). وأورده ابن كثير في التفسير. سورة النساء، آية (22). ورواه النسائي (6/ 109 - 110).