المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المخالفون لأهل السنة في القرآن سبع طوائف - معارج القبول بشرح سلم الوصول - جـ ١

[حافظ بن أحمد حكمي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق:

- ‌ترجمة المؤلف:

- ‌الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ:

- ‌خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ:

- ‌الْقَوْلُ فِي حَمْدِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ:

- ‌الْقَوْلُ فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ:

- ‌الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّعْرِيفُ بِالْآَلِ وَالْأَصْحَابِ:

- ‌[[الفصل الأول توحيد المعرفة والإثبات]]

- ‌أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى:

- ‌[أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ]

- ‌إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ

- ‌الْقَدِيرُ" الَّذِي لَهُ مُطْلَقُ الْقُدْرَةِ وَكَمَالُهَا وَتَمَامُهَا

- ‌ التَّصْرِيحُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ

- ‌ الرَّفْعُ وَالصُّعُودُ وَالْعُرُوجُ إِلَيْهِ

- ‌طَبَقَةٌ أُخْرَى مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءِ السُّنَّةِ

- ‌[انْفِرَادُهُ عز وجل بِالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ] :

- ‌[إِثْبَاتُ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ لِلَّهِ عز وجل] :

- ‌[كَلَامُ اللَّهِ عز وجل] :

- ‌أَصْلُ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ:

- ‌ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَحُكْمِ الْجَهْمِيَّةِ:

- ‌رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:

- ‌ الْمَنْقُولِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ

- ‌الْمَلَاحِدَةُ خَمْسُ طَوَائِفَ فِي تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ:

- ‌الْأُولَى سَلْبِيَّةٌ مَحْضًا يُثْبِتُونَ إِثْبَاتًا هُوَ عَيْنُ النَّفْيِ

- ‌الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: الْحُلُولِيَّةُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ

- ‌الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ: نُفَاةُ الْقَدَرِ وَهُمْ فِرْقَتَانِ:

- ‌الْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ سَبْعُ طَوَائِفَ

الفصل: ‌المخالفون لأهل السنة في القرآن سبع طوائف

لِكُلِّ عَاقِلٍ فَإِنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ وَالْقَوْلَ إِلَى مَنْ قَالَهُ وَكَذَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُهَا مُحَالٌ أَنْ تُضَافَ إِلَى غَيْرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ وَمُحَالٌ أَنَّ يُسَمَّى فَاعِلًا بِدُونِ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ، وَلَوْ ذَهَبْنَا نَعُدُّ تَشَعُّبَ الْفِرَقِ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ وَلَوَازِمَ كُلِّ قَوْلٍ مِمَّا انْتَحَلُوهُ لَاحْتَاجَ إِلَى كِتَابٍ مُفْرَدٍ، وَقَدْ أَفْرَدَ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْبَعْضَ مِنْ ذَلِكَ وَذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مِنْ تَحْرِيفِهِمُ النُّصُوصَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَعَلَى نُفَاةِ الْقَدَرِ وَالْغُلَاةِ فِيهِ فِي بَابِ الْقَدَرِ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ فِي بَابِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ، وَالْكَلَامُ عَلَى الرَّوَافِضِ وَالنَّوَاصِبِ فِي بَابِ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ. وَهَذِهِ الطَّوَائِفُ الَّتِي خَالَفَتْ فِي تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ مَرْجِعُهَا إِلَى ثَلَاثٍ: فَالْحُلُولِيَّةُ وَالِاتَّحَادِيَّةُ وَالسَّلْبِيَّةُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مَرْجِعُهُمْ إِلَى الطَّبَائِعِيَّةِ الدَّهْرِيَّةِ، وَالْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ بِجَمِيعِ فِرَقِهِمْ مَرْجِعُهُمْ إِلَى الْمَجُوسِ الثَّنَوِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةُ الْغُلَاةُ مَرْجِعُهُمْ إِلَى النَّزْعَةِ الْجَهْمِيَّةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مَبْسُوطًا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

فصل:

وَ‌

‌الْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ سَبْعُ طَوَائِفَ

ذَكَرَهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمِنْهَاجِ1 وَابْنُ الْقَيِّمِ فِي الصَّوَاعِقِ وَهَذَا نَصُّهُ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

"فصل2. اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَهَبَ "الِاتِّحَادِيَّةُ" الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُ اللَّهِ نَظْمَهُ وَنَثْرَهُ وَحَقَّهُ وَبَاطِلَهُ سِحْرَهُ وَكُفْرَهُ، وَالسَّبَّ وَالشَّتْمَ وَالْهَجْرَ وَالْفُحْشَ وَأَضْدَادَهُ كُلُّهُ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمِ بِهِ كَمَا قَالَ عَارِفُهُمْ:

وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ

سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ

وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِمُ الَّذِي أَصَّلُوهُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ عَيْنُ هَذَا الْوُجُودِ، فَصِفَاتُهُ هِيَ صِفَاتُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ

1 أي: منهاج السنة النبوية.

2 مختصر الصواعق المرسلة "من 2/ ص287".

ص: 373

إِنْكَارُ مَسْأَلَةِ الْمُبَايَنَةِ وَالْعُلُوِّ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَصَّلُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُبَايِنٍ لِهَذَا الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ صَارُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِلَّا الْمُكَابَرَةُ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَعْدُومٌ لَا وُجُودَ لَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ إِمَّا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَإِمَّا خَارِجًا عَنْهُ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ أَوْ مُحَايِثًا لَهُ إِمَّا دَاخِلًا فِيهِ وَإِمَّا خَارِجًا عَنْهُ. الْأَمْرُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ هُوَ عَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا حَالًّا فِيهِ، إِذْ هُوَ عَيْنُهُ، وَالشَّيْءُ لَا يُبَايِنُ نَفْسَهُ وَلَا يُحَايِثُهَا، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ إِنْكَارِ وَجُودِهِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَعْدُومٌ، وَرَأَوْا أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ هَذَا إِلَى إِثْبَاتِ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا دَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَلَا مُبَايِنٍ لَهُ وَلَا مُحَايِثٍ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا خَلْفَهُ ولا أمامه فرارا إِلَى مَا لَا يُسِيغُهُ عَقْلٌ وَلَا تَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ وَلَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّ بِرَبٍّ هَذَا شَأْنُهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ سَارِيًا فِيهِ حَالًّا فِيهِ فَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْجَهْمِيَّةِ الْأَقْدَمِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ سُبْحَانَهُ وُجُودًا عَقْلِيًّا إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ لَكَانَ إِمَّا عَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَكَانَ إِمَّا بَائِنًا عَنْهُ أَوْ حَالًّا فِيهِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ عَيْنُ هَذَا الْعَالَمِ فَلَهُ حِينَئِذٍ كُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَكُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ وَنَقْصٍ وَكُلُّ كَلَامٍ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي مَذْهَبُ "الْفَلَاسِفَةِ" الْمُتَأَخِّرِينَ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو، وَهُمُ الَّذِينَ يَحْكِي ابْنُ سِينَا وَالْفَارَابِيُّ وَالطُّوسِيُّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَيْضٌ فَاضَ مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى النُّفُوسِ الْفَاضِلَةِ الزَّكِيَّةِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا، فَأَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ الْفَيْضُ تَصَوُّرَاتٍ وَتَصْدِيقَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَبِلَتْهُ مِنْهُ. وَلِهَذِهِ النُّفُوسِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ قُوَى: قُوَّةُ التَّصَوُّرِ، وَقُوَّةُ التَّخَيُّلِ، وَقُوَّةُ التَّعْبِيرِ. فَتُدْرِكُ بِقُوَّةِ تَصَوُّرِهَا مِنَ الْمَعَانِي مَا يَعْجِزُ عَنْ غَيْرِهَا، وَتُدْرِكُ بِقُوَّةِ تَخَيُّلِهَا شَكْلَ الْمَعْقُولِ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ، فَتَتَصَوَّرُ الْمَعْقُولَ صُوَرًا نُورَانِيَّةً تُخَاطِبُهَا وَتُكَلِّمُهَا بِكَلَامٍ تَسْمَعُهُ الْآذَانُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْقُوَّةِ الْخَيَالِيَّةِ الْوَهْمِيَّةِ قَالُوا

ص: 374

وَرُبَّمَا قَوِيَتْ هَذِهِ الْقُوَّةُ عَلَى إِسْمَاعِ ذَلِكَ الْخِطَابِ لِغَيْرِهَا، وَتَشْكِيلِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْعَقْلِيَّةِ لِعَيْنِ الرَّائِي، فَيَرَى الْمَلَائِكَةَ وَيَسْمَعُ خِطَابَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ لَا فِي الْخَارِجِ. فَهَذَا أَصْلُ هَؤُلَاءِ فِي إِثْبَاتِ كَلَامِ الرَّبِّ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَادَهُمْ إِلَى هَذَا عَدَمُ الْإِقْرَارِ بِالرَّبِّ الَّذِي عَرَّفَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَدَعَتْ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُبَايِنُ لِخَلْقِهِ العالي فوق سمواته فَوْقَ عَرْشِهِ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ كُلَّهُ.

الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ مَذْهَبُ "الْجَهْمِيَّةِ" النُّفَاةُ لِصِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى الْقَائِلِينَ: إِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ وَمِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي فُرُوعِهِ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ1: اخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَوْ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَفِي خَلْقِهِ عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ: فَالْفِرْقَةُ الْأُولَى مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ جِسْمٌ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا جِسْمٌ. وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ الْخَلْقِ عَرَضٌ وَهُوَ حَرَكَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عَرَضَ عِنْدَهُمْ إِلَّا الْحَرَكَةُ، وَأَنَّ كَلَامَ الْخَالِقِ جِسْمٌ وَأَنَّ ذَلِكَ الْجِسْمَ صَوْتٌ مُنْقَطِعٌ مُؤَلَّفٌ مَسْمُوعٌ وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ وَأَصْحَابِهِ. وَأَحَالَ النَّظَّامُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ أَوْ مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ. وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ تَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَأَنَّهُ عَرَضٌ وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إِذَا تَلَاهُ تَالٍ فَهُوَ يُوجَدُ مَعَ تِلَاوَتِهِ، وَإِذَا كَتَبَهُ وُجِدَ مَعَ كِتَابَتِهِ، وَإِذَا حَفِظَهُ وُجِدَ مَعَ حِفْظِهِ، وَهُوَ يُوجَدُ فِي الْأَمَاكِنِ بِالتِّلَاوَةِ وَالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَالزَّوَالُ. وَالْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عز وجل عَرَضٌ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَأَحَالُوا أَنْ يُوجَدَ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مُحَالٌ انْتِقَالُهُ وَزَوَالُهُ مِنْهُ وَوُجُودُهُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ. الْفِرْقَةُ الْخَامِسَةُ أَصْحَابُ مَعْمَرٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَضٌ، وَالْأَعْرَاضُ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ:

1 المقالات "ص588 وما بعدها".

ص: 375

قِسْمٌ مِنْهُمَا يَفْعَلُهُ الْأَحْيَاءُ، وَقِسْمٌ مِنْهُمَا يَفْعَلُهُ الْأَمْوَاتُ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْأَمْوَاتُ فِعْلًا لِلْأَحْيَاءِ، وَالْقُرْآنُ مَفْعُولٌ وَهُوَ عَرَضٌ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَعَلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ أَنْ تَكُونَ الْأَعْرَاضُ فِعْلًا لِلَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرَآنَ فِعْلٌ لِلْمَحَلِّ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْهُ إِذَا سُمِعَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَهُوَ فِعْلٌ لَهَا، وَحَيْثُ سُمِعَ فَهُوَ فِعْلُ الْمَحَلِّ الَّذِي حَلَّ فِيهِ. الْفِرْقَةُ السَّادِسَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَرَضٌ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا قَوْلُ. الْإِسْكَافِيِّ. وَاخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ هَلْ يَبْقَى؟ فقالت فرقة منه: يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: لَا يَبْقَى، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ ثُمَّ يُعْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ مِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ جَحْدِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَتَعْطِيلِ حَقَائِقِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنَفْيِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ بِهِ، فَلَمَّا أَصَّلُوا أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ وَصْفٌ وَلَا فِعْلٌ كَانَ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَطَرْدُ ذَلِكَ إِنْكَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَإِنَّ رُبُوبِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِكَوْنِهِ فَعَّالًا مُدَبِّرًا مُتَصَرِّفًا فِي خَلْقِهِ يَعْلَمُ وَيُقَرِّرُ وَيُرِيدُ وَيَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، فَإِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ صِفَةُ الْكَلَامِ انْتَفَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَوَازِمُهُمَا وَذَلِكَ يَنْفِي حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ، فَطَرَدَ مَا أَصَّلُوهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا إِلَهٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ.

الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ مَذْهَبُ "الْكُلَّابِيَّةِ" أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ، وَأَنَّهُ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ حِكَايَةٌ لَهُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ مَعَانِيَ فِي نَفْسِهِ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ. فَهِيَ أَنْوَاعٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الَّذِي لَا يُسْمَعُ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ هِيَ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَوَّلُ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَالَ بِهِ ابْنُ كُلَّابٍ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الرَّبِّ، وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

ص: 376

الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ مَذْهَبُ "الْأَشْعَرِيِّ" وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا لَهُ أَبْعَاضٌ وَلَا لَهُ أَجْزَاءٌ وَهُوَ عَيْنُ الْأَمْرِ وَعَيْنُ النَّهْيِ وَعَيْنُ الْخَبَرِ وَعَيْنُ الِاسْتِخْبَارِ، الْكُلُّ وَاحِدٌ، وَهُوَ عَيْنُ التَّوْرَاةِ وَعَيْنُ الْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَالزَّبُورِ، وَكَوْنُهُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا صِفَاتٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لَا أَنْوَاعَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ بِنَوْعٍ وَلَا جُزْءٍ وَكَوْنُهُ قُرْآنًا وَتَوْرَاةً وَإِنْجِيلًا تَقْسِيمٌ لِلْعِبَارَاتِ عَنْهُ لَا لِذَاتِهِ، بَلْ إِذَا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إِنْجِيلًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَلَا يُسَمِّيهَا حِكَايَةً، وَهِيَ خَلْقٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَعِنْدَهُ لَمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَلَا سُمِعَ مِنَ اللَّهِ، وَعِنْدَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى سُمِعَ مِنَ اللَّهِ حَقِيقَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُرَى وَيُشَمَّ وَيُذَاقَ وَيُلْمَسَ وَيُدْرَكَ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، إِذِ الْمُصَحِّحُ عِنْدَهُ لِإِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ هُوَ الْوُجُودُ، فَكُلُّ وُجُودٍ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِدْرَاكَاتِ كُلِّهَا بِهِ كَمَا قَرَّرَهُ فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ مَنْ لَيْسَ فِي جِهَةِ الرَّائِي وَأَنَّهُ يُرَى حَقِيقَةً وَلَيْسَ مُقَابِلًا لِلرَّائِي. هَذَا قَوْلُهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْكَلَامِ. وَالْبَلِيَّةُ الْعُظْمَى نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ جَاءَ بِهَذَا وَدَعَا إِلَيْهِ الْأُمَّةَ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنْ عَدَاهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ تَصَوُّرَ هَذَا الْمَذْهَبِ كَافٍ فِي الْجَزْمِ بِبُطْلَانِهِ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا كَمَا تُتَصَوَّرُ الْمُسْتَحِيلَاتُ الْمُمْتَنِعَاتُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ إِنْكَارِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ وَالْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَيُسَمُّونَهَا مَسْأَلَةَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ وَحَقِيقَتُهَا إِنْكَارُ أَفْعَالِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ غَيْرُ الْأَشْعَرِيِّ:

وَأَقُولُ وَالْحَقُّ يُقَالُ: لَا نَشُكُّ أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ هَذَا وَشَيْخَهُ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَعْلَمِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَأَدْرَاهُمْ بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَأَبْصَرِهِمْ بِرَدِّ الْبَاطِلِ مِنْهَا وَإِدْحَاضِهِ وَأَوْفَاهُمْ تَقْرِيرًا لِمَذْهَبِ السَّلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَشَدِّهِمْ تَمَسُّكًا بِهِ وَنُصْرَةً لَهُ وَأَكْمَلِهِمْ تَحْرِيرًا لِبَرَاهِينِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَأَكْثَرِهِمُ اشْتِغَالًا بِهَذَا الْبَابِ وَتَنْقِيبًا عَنْ عَامِلِ الْبِدَعِ فِيهِ وَاجْتِثَاثًا

ص: 377

لِأُصُولِهَا، وَلَكِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ هُوَ الَّذِي وَجَدْنَاهُ عَمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ وَيُقِرُّونَ ذَلِكَ وَيُكَرِّرُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَيُنَاظِرُونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالَّذِي قَرَّرَهُ فِي كِتَابِهِ "الْإِبَانَةِ" الَّذِي هُوَ مِنْ آخِرِ مَا صَنَّفَ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ سَاقَهُ بِحُرُوفِهِ وَجَاءَ بِهِ بِرُمَّتِهِ وَاحْتَجَّ فِيهِ بِبَرَاهِينِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، ثُمَّ نَقَلَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْحَمَّادَيْنِ وُالسَّفْيَانَيْنِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَهِشَامٍ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَسَعْدِ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَوَكِيعٍ وَأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ وَسَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَعَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ وَأَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ عُقْبَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ، وَلَوْلَا خَوْفُ الإطالة لسقنا فصول كلامه بِحُرُوفِهِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَأَجْمَلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِهِ الِاسْتِوَاءَ وَالنُّزُولَ وَالرُّؤْيَةَ وَالْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ وَالْغَضَبَ وَالرِّضَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَقَالَاتِهِ بِأَنَّهُ قَائِلٌ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مُعْتَقِدٌ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُثْبِتٌ لِمَا أَثْبَتُوهُ مُحَرِّمٌ مَا أَحْدَثَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ بَوْنٌ بَعِيدٌ بَلْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ، وَالْمَوْعِدُ اللَّهُ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَذْهَبُ السَّادِسُ مَذْهَبُ "الْكَرَّامِيَّةِ" وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَسْمُوعَةٌ، وَهُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُتَكَلِّمٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ متكلما، كما يقوله سائر فرق المتكلمين أنه فعل بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن فَاعِلًا، كَمَا أَلْزَمُوا بِهِ الْكَرَّامِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفِعْلِ، وَالْكَرَّامِيَّةُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا كَلَامًا وَفِعْلًا حَقِيقَةً قَائِمَيْنِ بِذَاتِ

ص: 378

الْمُتَكَلِّمِ الْفَاعِلِ، وَجَعَلُوا لَهَا أَوَّلًا فِرَارًا مِنَ الْقَوْلِ بِحَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَمُنَازِعُوهُمْ أَبْطَلُوا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ وَقَالُوا لَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ وَلَا كَلَامٌ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ مِنْهُمْ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ فَلَوْ كَانَ مَا أَثْبَتَهُ مَفْعُولًا لَكَانَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا خَارِجًا عَنْهُمَا، فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ كَلَامًا وَلَا فِعْلًا، وَأَمَّا الْكَرَّامِيَّةُ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَمَا جَعَلَهُ خُصُومُهُمْ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا.

الْمَذْهَبُ السَّابِعُ مَذْهَبُ "السَّالِمِيَّةِ" وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَسُوَرٌ وَآيَاتٌ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْهُ وَسَمِعَهُ مُوسَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَيُسْمِعُهُ سُبْحَانَهُ مَنْ يَشَاءُ. وَإِسْمَاعُهُ نَوْعَانِ: بِوَاسِطَةٍ وَبِلَا وَاسِطَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَحُرُوفُهُ وَكَلِمَاتُهُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا بَلْ هِيَ مُقْتَرِنَةٌ الْبَاءُ مَعَ السِّينِ مَعَ الْمِيمِ فِي آنٍ وَاحِدٍ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ مَعْدُومَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا تُعْدَمُ بَلْ لَمْ تَزَلْ قَائِمَةً بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ قِيَامَ صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ قَالُوا: إِنَّ تَصَوُّرَ هَذَا الْمَذْهَبِ كَافٍ فِي الْجَزْمِ بِبُطْلَانِهِ، وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ شَاهِدَةٌ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا وَأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ. وَالْعَجَبُ أَنَّهَا هِيَ الدَّائِرَةُ بَيْنَ فُضَلَاءِ الْعَالَمِ لَا يَكَادُونَ يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَأَطَالَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ مَسْأَلَةَ تَكَلُّمِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَسَاقَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ، وَفِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَئِمَّةِ تَوْضِيحًا وَتَفْصِيلًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْمِحْنَةِ فِي شَأْنِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْكَلَامَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَسَاقَ فِيهِ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ اللَّفْظِيَّةَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ وَالْوَاقِفَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ فَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ لَهُ فِي الرَّقِّ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ فَصْلًا فِي السَّمَاعِ، ثُمَّ فَصْلًا مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَظْهَرَ إِنْكَارَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ في أثناء المائة الثَّالِثَةِ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي غُضُونِ هَذِهِ الفصول أبحاث نفسية لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فَلْتُرَاجِعْ مِنْهُ1.

1 انظره في مختصر الصواعق "من 2/ 293-2/ 329".

ص: 379

ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فصل1. مَنْشَأُ النِّزَاعِ بَيْنَ الطَّوَائِفِ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ أَمْ كَلَامُهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَلَامُهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. ثُمَّ انْقَسَمَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعَ فِرَقٍ. قَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ فَيْضٌ فَاضَ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى نَفْسٍ شَرِيفَةٍ فَتَكَلَّمَتْ بِهِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى أَرِسْطُو. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ بِهِ مُتَكَلِّمٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُلَّابِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَانْقَسَمَ هَؤُلَاءِ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ قَالَتْ هُوَ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فِي أَنْفُسِهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ، وَمَعْنًى جَامِعٌ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: كَلَامُهُ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ خَلَقَهَا خَارِجَةً عَنْ ذَاتِهِ فَصَارَ بِهَا مُتَكَلِّمًا، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ أَهْلُ الِاعْتِزَالِ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَقُومُ بِهِ سَائِرُ أَفْعَالِهِ لَكِنَّهُ حَادِثُ النَّوْعِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَمَا قَالَهُ مَنْ لَمْ نَصِفْهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا. فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ فِي الْفِعْلِ الْمُتَّصِلِ كَقَوْلِ أُولَئِكَ فِي الْفِعْلِ الْمُنْفَصِلِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ، وَكَلَامُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاسُ كُلُّهُ حَقُّهُ وَبَاطِلُهُ وَصِدْقُهُ وَكَذِبُهُ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ وَيَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَمْ تَتَحَدَّدْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ بَلْ كَوْنُهُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَهُوَ بَائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ لَيْسَ مُتَّحِدًا بِهِمْ وَلَا حَالًّا فِيهِمْ. وَاخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ هَلْ يُسْمَعُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؟ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا يُسْمَعُ كَلَامُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا تُسْمَعُ حِكَايَتُهُ وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْكُلَّابِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَقَالَتْ بَقِيَّةُ الطَّوَائِفِ: بَلْ يُسْمَعُ كَلَامُهُ حَقِيقَةً. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا قَوْلُ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ لَا يُسْمَعُ إِلَّا مِنْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ، فَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: يُسْمَعُ

1 مختصر الصواعق من "2/ 329".

ص: 380

كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ تَارَةً بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى وَجِبْرِيلُ وَغَيْرُهُمَا، وَكَمَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُكَلِّمُ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَيُكَلِّمُ الْأَنْبِيَاءَ فِي الموقف، ويسمع من الْمُبَلِّغُ عَنْهُ كَمَا سَمِعَ الْأَنْبِيَاءُ الْوَحْيَ مِنْ جِبْرِيلَ تَبْلِيغًا عَنْهُ وَكَمَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ، وَكَذَلِكَ نَسْمَعُ نَحْنُ بِوَاسِطَةِ التَّالِي. فَإِذَا قِيلَ: الْمَسْمُوعُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قِيلَ: إِنْ أَرَدْتَ الْمَسْمُوعَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْمُبَلِّغِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ؛ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ الصَّوْتِ الَّذِي رُوِيَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَإِنْ سَأَلْتَ عَنِ الْكَلَامِ الْمُؤَدَّى بِذَلِكَ الصَّوْتِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ أَرْبَعُ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ قَدِيمٍ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَهُمُ السَّالِمِيَّةُ وَالِاقْتِرَانِيَّةُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ حَادِثٍ فِي ذَاتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُمُ الْكَرَّامِيَّةُ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِصَوْتٍ إِذَا شَاءَ. وَالَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ فِرْقَتَانِ: أَصْحَابُ الْفَيْضِ، وَالْقَائِلُونَ إِنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ1. انْتَهَى مَا أَرَدْنَا إِيرَادَهُ مِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَوْدَعَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَغَيْرَهَا فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا فِي نُونِيَّتِهِ الشَّافِيَةِ الْكَافِيَةِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ فَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ الشِّفَاءَ الْكَافِيَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ سَلَفِ الْأُمَّةِ بِمَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

1 مختصر الصواعق: "2/ 331".

ص: 381