الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن السلوك الصحيح وتزكية النفوس من أعظم أمور الدين، وأجل خصاله، حيث اهتم سلفنا الصالح بالسلوك الشرعي علماً وعملاً، فالسلوك الظاهر ملازم للإيمان الباطن، وصلاح الظاهر ناشئ عن صلاح الباطن، وكذا العكس.
ومع شدة الحاجة إلى فقه السلوك علماً وعملاً، فإننا قد لا نجد كتابات معاصرة تعالج الجانب السلوكي من خلال منهج أهل السنة، إضافة إلى كثرة المخالفات والانحرافات للسلوك السوي من قبل أعداد كبيرة من أهل السنة، فضلاً عن غيرهم.
ولأجل ذلك رغبت أن أسهم في خدمة هذا الجانب، فيسر الله تعالى بمنه وتوفيقه جمع هذا الكتاب وإعداده.
ويتضمن هذا الكتاب قسمين، أحدهما: معالم في السلوك وتزكية النفوس، وهو عبارة عن لمحات في منهج السلف في تقرير السلوك.
ولما كان السلوك – عند السلف – يعد إيماناً وديناً، فإننا نراهم يفردونه بكتب مستقلة، بل ويوردون الجوانب السلوكية ضمن كتب العقيدة، لأن السلوك وما يتعلق بالصفات الأخلاقية من شعب الإيمان وخصاله، فلا نتفك عنه.
لقد كان للنزعة الإرجائية الكلامية أثر ظاهر في إهمال موضوعات السلوك والأخلاق، فلما كان الإيمان – عندهم – تصديقاً فحسب، أهملوا أعمال القلوب والجوارح. ولما كان توحيدهم – فقط – هو توحيد اعتقاد الربوبية لله تعالى، أعرضوا عن توحيد العبادة والإرادة والطلب، ما يتبعه من الجوانب السلوكية والأخلاقية.
وأما القسم الآخر فهو نماذج مختارة لموضوعات سلوكية، وقد اقتصرت على خمسة موضوعات، وهي: أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، وتزكية النفوس، وأعمال القلوب، ومكايد الشيطان، والإخلاص والعجب.
وقد حرصت على الاختصار، مع التفصيل – أحياناً – لبعض المسائل التي قد تخفى على الكثير وأوردت في تلك الموضوعات أمثلة عملية وأقوالاً مأثورة من حياة السلف الصالح، وما كان عليه من سلوك صحيح، وإخلاص لله تعالى، وتحقيق العبودية التامة لله وحده لا شريك له
1 وعندما نورد تلك الأمثلة الواقعية من حياة السلف الصالح، فإننا ((نستغفر الله ن الكلام فيما لسنا بأهل له)) . (1)
وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – يسئل عن أخلاق الورعين، فيقول:((أسأل الله أن لا يمقتنا)) . (2)
فكيف بحالنا نحن الضعفاء المذنبين؟
لا تعرضن َّ لذكرنا في ذكرهم
…
ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعدِ
إن الكاتب في مثل تلك الموضوعات السلوكية قد يجد شيئاً من التردد والإحجام، ويخشى أن يُلبّس عليه الشيطان من خلال هذا الباب، فإن من كيد إبليس على المشتغلين والمتكلمين في الزهد والسلوك أن يلبِّس عليهم أنكم من جملة
(1) قالها ابن القيم في طريق الهجرتين ص 333.
(2)
سير أعلام النبلاء 11/ 226
الموصوفين بذلك، لأنك لم تقدر على الوصف حتى عرفتَ ما تصف وسلكت الطريق (1) .
ومع ذلك فلا يلزم - ضرورة – أن من وضح السلوك الصحيح أن يكون عاملاً به، لكن قد يكون وصفه وبيانه للسلوك الصحيح – وإن كان مقصراً في العمل – سبباً في الاستقامة على هذا السلوك، والاستحياء من الله عز وجل
فإن المتعين على الدعاة أن يبينوا الحق، ويدلوا الناس على السلوك الشرعي، وإن لم يحققوه عملاً، وكما قال سعيد بن جبير – رحمه الله:((لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ، ما أمر أحد بالمعروف، ولا نهى عن منكر)) (2) .
أسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يجعل عملنا خالصاً صواباً، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
(1) انظر تلبيس إبليس ص 136.
(2)
ذكر العلماء أنه ليس من شرط لآمر بالمعروف والناهي عن المنكر العصمة من الذنوب.. انظر:
تفسير ابن كثير 1 / 82، الإحياء للغزالي 2 / 172، تفسير القرطبي 1 / 366.
أهمية الموضوع:
تتجلى أهمية هذا الموضوع من خلال الأمور التالية:
1-
اهتم السلف الصالح بتزكية النفوس، واعتنوا بالجانب السلوكي والأخلاقي علماً وفقهاً، كما حققوه عملاً وهدياً، فأفردوا كتباً مستقلة في الزهد والرقائق ونحوهما بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة في ثنايا كتب العقيدة.
كما قال الإسماعيلي (ت 271هـ) في اعتقاد أهل السنة:
((ويرون مجانبة البدعة والآثام، والفخر ن والتكبر، والعجب، والخيانة، والدغل، والاغتيال، والسعاية.
ويرون كف الأذى، وترك الغيبة، إلا لمن أظهر بدعة وهوى يدعو إليهما، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم)) (1)
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني (ت 449هـ) في عقيدة السلف:
((ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتويات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات
ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه ويتقون الجدال في الله، والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات)) (2) .
(1) اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي ص 53.
(2)
عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص 97 – 99 باختصار يسير.
وقال قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصفهاني (ت 535هـ) :
((ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح، والتحرر من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحابّ في الله عز وجل، واتقاء الجدال والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم، والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات، وترك الزور، وقذف المحصنات، وإمساك اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم الغيظ والصفح عن زلل الإخوان، ومواساة الضعفاء، والنصيحة في الله والشفقة على خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة لقرآن، والبدار إلى أداء الصلوات)) (1) .
وذكر ابن تيمية – رحمه الله – جملة من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة، ومن ذلك قوله:
((يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (2) ، ويندبون أن 1تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن لجوار والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفا سفها)) (3) .
(1) الحجة في بيان الحجة 2 / 528.
(2)
أخرجه أحمد 2 / 472، والترمذي، ح (1162) .
(3)
العقيدة الواسطية (شرح محمد هراس) ص 172، 173. .
2-
هناك تلازم بين السلوك والاعتقاد، فالسلوك الظاهر مرتبط بالاعتقاد الباطن، ومن ثم فإن الانحراف الواقع في سلوكنا وأخلاقنا الظاهرة إنما هو ناشئ عن نقص في إيماننا الباطن.
يقول ابن تيمية موضحا ً هذا التلازم:
((إذا انقضت الأعمال الظاهرة الواجبة، كان ذلك نقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما لزم من نقص هذا نقص هذا، إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع)) (1) .
ويقول أيضاً: ((وإذا قام بالقلب التصديق به ن والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الباطنة، فما يظهر على البدن من الأقوال والعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه))
(2)
.
ويقول الشاطبي في هذه المسألة:
((الأعمال الظاهرة في الشرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً، حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه، وسائر الأحكام العاديات، والتجريبيات، بل الالتفات إليهما من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً)) . (3) .
(1) مجموع الفتاوي582/7،وأنظر 616/7،وشرح الأصفهانية ص142.
(2)
مجموع الفتاوي 541/7.
(3)
الموافقات233/1.
إضافة إلى ذلك، فإن الإيمان إذا جاء مطلقاً مجرداً ن فإنه يندرج فيه السلوك والأخلاق وسائر الأعمال الصالحة، كما في حديث الإيمان – مثلا – حيث قال صلى الله عليه وسلم:((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (1) .
وكما يقول ابن تيمية:
((اسم الإيمان يستعمل مطلقاً، ويستعمل مقيداً، وإذا استعمل مطلقاً فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال لعبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً
…
ودخل في ذلك ما قد يسمى مقاماً وحالاً، مثل الصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا، والخشية، والإنابة، والإخلاص، والتوحيد وغير ذلك)) (2)1.
3 -
يترتب على تحقيق الجانب الخلقي السلوكي الأجر الكثير والثواب الجزيل، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
فقد عد الله تعالى في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى، بل بدأ بذلك في قوله:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران، آية 133، 134) .
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الخلق أكمل خصال الإيمان فقال: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (3) .
(1) أخرجه البخاري، ك الإيمان، ح (9) ،ومسلم، ك الإيمان، ح (3)
(2)
مجموع الفتاوى 7/642، وانظر 7/515.
(3)
أخرجه أحمد 2/472، وأبو داود، ح (4682) ، والترمذي ح (1162) .
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم القائم فقال: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم)) (1) .
وجاء في أحاديث أخرى أن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان ن وأن صاحبه أحب الناس إلى الله وأقربهم من النبيين مجلساً.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من شئ يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق)) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ قالو ا: بلى: قال: أحسنكم خلقاً (3)) ) (4) .
قال ابن القيم رحمه الله: ((الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين)) (5) .
1 وقال ابن رجب رحمه الله عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وخالق الناس بخلق حسن)(6) .
((هذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما إفراده بالذكر الحاجة إلى بيانه، فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده ن فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكلية او التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً
(1) أخرجه أحمد 6/94، وأبو داود ح (4798) .
(2)
أخرجه احمد 6/442،وأبو داود ح (4799)، والترمذي ح (2..4) وقال:حسن صحيح.
(3)
أخرجه ابن حبان ح (478) .
(4)
انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/454 – 456) ، ومدارج السالكين (2/3.4 – 3.7) .
(5)
مدارج السالكين 2/3.7.
(6)
جزء من حديث أخرجه أحمد (5/153) ، والترمذي ح (1987) ، والدا رمي (2/323) .
لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين)) (1) .
4-
وإذا كان سلفنا الصالح قد اعتنوا كثيراً بالسلوك علماً وعملاً، لأهميته وقيام التلازم بين السلوك الظاهر والإيمان الباطن، إضافة إلى الوعد الكريم والأجر الكبير لأصحاب السلوك الشرعي.
مع ذلك كله فإن الناظر إلى واقع الكثير منا – معشر المنتسبين لأهل السنة – يرى تقصيراً وتهاوناً في هذا المجال، فأنت تشاهد تفرقاً وخصومة ن وجدلاً ومراءً، وأهواء وشهوات ولا حول ولا قوة إلا بالله.