المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مصدر تلقي السلوك هو الكتاب والسنة - معالم في السلوك وتزكية النفوس

[عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف]

الفصل: ‌مصدر تلقي السلوك هو الكتاب والسنة

‌معالم في منهج السلوك

‌مصدر تلقي السلوك هو الكتاب والسنة

من خلال استقراء جملة من كتب السلف الصالح في السلوك والرقائق يمكن أن تستخلص المعالم التالي:

1-

إن مصدر تلقي السلوك (1) والأخلاق عند السلف الصالح هو الكتاب والسنة، فإنهم أهل أتباع، وأرباب طريقة أثرية 0

قال تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} (النحل، آية 99)

وقال سبحانه: {يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (النساء، آية 59)

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علماً)) (2)

(1) السلوك: لغة: مصدر سلك أي دخل،ويقال: سلكت الخيط في المخيط أي أدخلته فيه والمسلك: الطريق، وأمرهم سلكي: على طريقة واحدة (انظر: لسان العرب 10/ 442، 443 = باختصار) ،ويطلق السلوك على سيرة الإنسان ومذهبه واتجاه (انظر المعجم الوسيط 1/447) وأما تعريف السالك – عند الصوفية فهو السائر إلى الله، المتوسط بين المربد والمنتهي (انظر اصطلاحات الصوفية للكاشاني ص 155، والتعريفات للجرجاني ص116، والمقصود بالسلوك – ها هنا –ما يتعلق بالجانب العلمي من الأمور التعبدية والأخلاقية، والمقيدة بالهدي النبوي والسمت الشرعي – كما هو موضح في الصفحات التالية

(2)

أخرجه أحمد 5/153 0

ص: 15

يقول ابن تيمية: ((إن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لا بد للمؤمن منه.

ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة.

وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، ((فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة)) (1) . 1

ويقول أيضاً: ((المعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ن فمن بنى الكلام في العلم – الأصول والفروع – على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البد نية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريقة أئمة الهدى)) (2) .

وعندما ذكر الإمام الذهبي السلوك الصحيح، نجده لا يورد إلا ما دل عليه الدليل، كما هو ظاهر مقالته الآتية

((السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في النطق، وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة وكثرة البشر والإنفاق

(1) مجموع الفتاوى 19/273، 274- باختصار.

(2)

مجموع الفتاوى 1./362، 363 – باختصار يسير، وانظر 1. / 486.

ص: 16

مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالمعروف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين، أماتنا الله على محبتهم)) (1) .

ويقرر ابن القيم أن السلوك وتزكية النفوس لا يكون إلا عن طريق الرسل عليهم السلام فيقول: ((وتزكية النفوس مسلم إلى الرسل)) ، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليماً، وبياناً، فهم المبعثون لعلاج نفوس الأمم. قال الله تعالى} هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتهِ ويزكيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين { (الجمعة آية 2) .

وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد، والتسليم لهم، والله المستعان)) (2) . 1

وهذا السلوك الشرعي على مرتبتين كما قرره ابن تيمية بقوله: ((والسلوك سلوكان: سلوك الأبرار أهل اليمن، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهراً)) .

والثاني: سلوك المقربين السابقين وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا نهيتكم عن شئ

(1) سير أعلام النبلاء90/12،91

(2)

مدا رج السالكين 2/315.

ص: 17

فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (1)(2)

وإذا كان عامة من ضل في باب الاعتقاد بسبب الإعراض عن ما جاء به الرسول. (3) ، فكذلك الضلال في باب السلوك، إنما كان ناشئاً – في الجملة – بسبب الإعراض عن نصوص الوحيين، كما هو ظاهر في متأخري الصوفية، وأرباب الطرق المحدثة (4) .

قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى * ومن اعرض َ عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آيتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (طه: آية 123 – 126) .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل به، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية)) . (5)

بل إن البدع في باب السلوك أكثر من البدع الاعتقادية، كما بين ذلك ابن تيمية بقوله: ((ولا ريب أن البدع كثرت في باب العبادة والإرادة أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول، لأن الإرادة يشترك الناس فيها أكثر مما يشتركون في القول، فإن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان، وأما جنس الإرادة

(1) أخرجه البخاري ح (7288) ، ومسلم ح (1337) .

(2)

مجموع الفتاوى 1./463.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/54، 166،2.9، وجموع الفتاوى 3/314، وشرح الطحاوية 1/8.

(4)

مما يجدر ذكره أن المتقدمين من أرباب الزهد والتعبد كالفضيل، وإبراهيم بن أدهم، والجنيد، وسهل التستري، وسليمان الداراني وأمثالهم، كانوا من أحرص الناس على لزوم السنة والأتباع، والاعتصام 1/199 – 132، ومدا رج السالكين 2/464 – 468، 348.

(5)

أخرجه الحاكم في المستدرك 2/381، وصححه ووافقه الذهبي.

ص: 18

فهو مما يتصف به كل الحيوان فما من حيوان إلا وله إرادة)) (1) .

لقد صنف متأخرو الصوفية كتبًا كثيرة في السلوك، وغلب على تلك الكتب قلة العلم بالسنن والآثار، وكثرة الموضوعات، والتعويل على أخبار متأخري الزهاد، ومع ذلك فلا تخلو تلك الكتب من حق وصواب 1 (2) .

وسمى أرباب الطرق الصوفية ما أحدثوه من البدع ((حقيقة)) ، فطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه (3) ، بل قدموا أذواقهم ومواجيدهم وكشوفاتهم الباطلة على نصوص الوحيين (4) .

يقول ابن تيمية في هذا الصدد:

((من عارض كتاب الله وجادل فيه بما يسميه معقولات وبراهين وأقيسة، أو ما يسميه مكاشفات ومواجيد وأذواق، من غير أن يأتي على ما يقوله بكتاب منزل فقد جادل في آيات الله بغير سلطان، هذا حال الكفار الذين قال فيهم:} ايجادل في آيات الله إلا الذين كفروا { (غافر آية 4) فهذه حال من يجادل في آيات الله مطلقاً (5) .

وقال ابن القيم – مبيناً خطورة الابتداع في السلوك:

((وعامة من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم، وسيره على جادة الذوق والوجد، ذاهبة به الطريق كل مذهب فهذه فتنته ن والفتنة به شديدة)) (6) .

(1) مجموع الفتاوي 274/19،275.

(2)

انظر: تلبيس إبيلس لابن الجوزي ص 184 – 186، ومجموع الفتاوى 1./367، 551، 6.8،681،579،58. .

(3)

انظر: مجموع الفتاوى 1./169.

(4)

انظر: تفصيل ذلك في: مدا رج السالكين 2/7.،334،494 – 496، والصواعق المرسلة 3/1.51، وشرح الطحاوية 1/235.

(5)

الاستقامة 1/22.

(6)

مدا رج السالكين 1/158، وانظر إغاثة اللهفان 1/193.

ص: 19

وليس هذا فحسب، بل أغلوا في الانحراف والإعراض عن هدي الله تعالى، حتى قال قائلهم: حدثني قلبي عن ربي وقال بعضهم: نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت وأنتم تأخذونه من حي يموت، وقال الآخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل، وقال رابعهم: إذا رأيت الصوفي يشتغل بـ ((أخبرنا)) و ((حدثنا)) فأغسل يدك منه!! .

قال أبو الوفاء ابن عقيل (ت 513هـ) في نقد تلك الأقاويل:

(. فإذا قالوا (أي الصوفية) عن أصحاب الحديث قالوا: أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، فقد طعنوا في النبوات، وعولوا على الواقع، ومتى أزري على طريق، سقط الأخذ به ومن قال: حدثني قلبي عن ربي فقد صرح أنه غني عن الرسول، ومن صرح بذلك فقد كفر، فهذه كلمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ومن رأيناه يزري أن يكون من إلقاء الشياطين ن فقد قال الله عز وجل:{وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} (الأنعام آية 121) .

وهذا هو الظاهر، لأنه ترك الدليل المعصوم وعول على ما يلقى في قلبه الذي لم تثبت حراسته من الوساوس)) (1)1.

وقال ابن القيم معلقاً على تلك العبارات:

((ومن أحالك على غير ((اخبرنا)) و ((حدثنا)) فقد أحالك إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي، فليس بعد القرآن و ((ـخبرنا)) و ((حدثنا)) إلا شبهات المتكلمين، وآراء المنحرفين، وخيالات المتصوفين، وقياس المتفلسفين، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي طريق الجحيم والشيطان الرجيم)) (2) .

(1) تلبيس إبيلس لابن الجوزي ص 423، 424، وانظر الصواعق المرسلة 4/1342 – 135. .

(2)

مدا رج السالكين 2/468، 469.

ص: 20

فلما أعرض أهل التصوف عن الطريقة النبوية السلفية، تلاعب بهم الشيطان، فأوقعهم في الإفراط والتفريط، فتراهم أصحاب تشدد وتنطع ورهبانية محدثة، وحديث عن الدقائق من ((الوساوس)) و ((الخطرات)) (1) .

ثم في المقابل تجدهم أهل سماع بدعي، وأرباب رقص وغناء، ومصاحبة للأحداث، وعشق للصور المحرمة (2)

قال ابن رجب - في بيان حال القوم:-

((ومما أحدث من العلوم، الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك، بمجرد الرأي والذوق أو الكشف، وفيه خطر عظيم وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره.

(1) سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون وإنما ذم الإمام أحمد المتكلمين على الوساوس والخطرات حيث كان كلامهم لا يستند إلى دليل شرعي، بل إلى مجرد رأي وذوق (انظر: مسائل الإمام أحمد. جمع الأحمدي 2/279،وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص186، وجامع العلوم والحكم 2/1.4، والآداب الشرعية 2/88) ، وسئل أبو زرعة عن الحارث المحاسبي وكتبه،فقال للسائل: إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب.قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال:من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري، والاوزاعي، والأئمة المتقدمين، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء، هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتون مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع. (انظر: تاريخ بغداد 8/215،وتلبيس إبليس ص 186) .

وسئل ذو النون عن الخطرات والوساوس، فقال: أنا لا أتكلم في شئ من هذا محدث (انظر تلبيس إبيلس ص27) .

(2)

ومما يجدر ذكره هاهنا ما قاله ابن تيمية: ((ولقد حدثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس، قال لشيخ رآه قد جمع الناس على مثل هذا الاجتماع (رقص وغناء..) : يا شيخ إن كان هذا هو طريق الجنة، فأين طريق النار؟)) الاستقامة 1/317.

ص: 21

وقد اتسع الخرق في هذا الباب، ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة والنفاق، ودعوى أن أولياء الله أفضل من الأنبياء، أو أنهم مستغنون عنهم

وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شئ، فبعضها زعموا أنه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص، وبعضها زعموا أنه يراد لرياضة النفوس كعشق الصور المحرمة ونظرها، وبعضها زعموا أنه لكسر النفوس والتواضع كشهرة اللباس وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة، وبعضه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة والغناء والنظر المحرم، وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً) (1)1.

إذا تقرر ما سبق، وعرفنا اعتماد السلف الصالح على الكتاب والسنة، وأن طريقهتم في السلوك في غاية الإتباع، وأما أرباب الطرق الصوفية ففي منتهى الإحداث والابتداع. فها هنا سؤال يفرض نفسه وهو إذا لم يتيسر المسلك الشرعي الخالص إلا بنوع من الابتداع فما العمل؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – مجيبًا عن هذا السؤال: ((وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطرق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية..)) (2) .

(1) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص 149، 15. = باختصار، انظر جامع العلوم والحكم 2/133.

(2)

مجموع الفتاوى 1./364، وله كلام نفيس في مثل هذا المبحث – في اقتضاء الصراط المستقيم 2/616 –

ص: 22