المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

1- ‌ ‌ الوسطية: من المعلوم أن أهل السنة والجماعة هو الوسط في - معالم في السلوك وتزكية النفوس

[عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف]

الفصل: 1- ‌ ‌ الوسطية: من المعلوم أن أهل السنة والجماعة هو الوسط في

1-

‌ الوسطية:

من المعلوم أن أهل السنة والجماعة هو الوسط في فرق الأمة، فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية، وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، كما أنهم وسط في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج (1) .

فإذا كان أهل السنة وسطاً في باب الاعتقاد، فكذلك هم وسط في باب السلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فدين اله بين الغالي فيه والجافي عنه.

إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية والوسطية بين الفرق، وكما قال ابن تيمية:

((وكذلك (أهل السنة) في سائر أبواب السنة هم وسط، لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون والأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)) (2)

ويقرر الشاطبي مفهوم الوسطية في هذا الدين فيقول:

((الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة

ص: 23

عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال.. فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى احد الطرفين، كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعدال فيه..

إلى أن قال:-

فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر.

فطرف التشديد – وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر – يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.

وطرف التخفيف – وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص – يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يرجع إليه.

وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المتبرعين في الدين من مال عن التوسط، فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى، وعليه يجري النظر في الورع والزهد، وأشباههما، وما قابلهما)) (1) . 1

والآن نورد أمثلة على وسطية أهل السنة في السلوك على النحو التالي:-

أ- أهل السنة والجماعة وسط في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الوعيدية والمرجئة، فالوعيدية من الخوارج والمعتزلة قد ينكرون المنكر، لكن بنوع من التعدي والإفراط، فجوزوا الخروج على أئمة الجور وقتالهم، مما ترتب عليه أنواع من الفساد والمنكرات أكثر مما أزالوه..

(1) الموافقات 2/163 -168 =باختصار.

ص: 24

وأما المرجئة فقد تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طناً أن ذلك من باب ترك الفتنة (1) . فأهل السنة يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، مع مراعاة مقاصد الشريعة، والحرص على لزوم الجماعة والائتلاف، والبعد عن الفرقةوالاختلاف.

يقول ابن تيمية:

((أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتال أئمة الجور، والخروج عليهم إذا فعلوا ماهو ظلم، أو ماظنوه هم ظلماً، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظناً أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك، ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي (2) .1 المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان)) (3) .

ويقول في موضع آخر:

((الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق

(1) يقول ابن تيمية عن هذا الصنف: ((وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا، وهم قد سقوط في الفتنة.. وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه)) . انتهى ملخصاً. انظر مجموع الفتاوى 28/167.

(2)

يظهر من مقالة أبي منصور الماتريدي – في تعريف الإيمان – نزعة إرجائية، حيث يقول: إن الإيمان هو ما في القلب، والقول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/51.، وشرح الطحاوية 2/459. ورسالة ((الماتريدية)) لأحمد الحربي ص 453.

(3)

الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 177.

(1)

مجموع الفتاوى 28/5.8.

ص: 25

الجهاد، كهؤلاء القوم المسئول عنهم ((التتار)) ، مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم، إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك، واجتناب إعانة الطائفة التي تغزو معها على كل شئ من معاصي الله، بل يطيعهم في طاعة الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديماً وحديثاً، وهي واجبة على كل مكلف، وهي متوسطة بين طرفي الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم، وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقاً وإن لم يكونوا أبراراً)) (1) .

ب- أهل السنة والجماعة وسط في باب الإخلاص بين المرائين والملامية.

فالمراؤن يعملون الصالحات بقصد رؤية الناس وطلب مدحهم وثنائهم، وأما الملامية فعلى النقيض من ذلك، فهم يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون نحن متبعون في الباطن (2) .

فأهل السنة يعملون الطاعات ابتغاء وجه الله تعالى، فإذا ألقى الله لهم الثناء الحسن في قلوب الناس بذلك، فتلك عاجل بشرى المؤمن، فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه، فقال ((تلك عاجل بشرى للمؤمن)) (3)

لقد جمع أهل السنة بين صحة اقصد والإرادة، وصلاح العمل وموافقته للشرع، تحقيقاً لقوله تعالى:

{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً

(1) مجموع الفتاوى 28/5.8.

(2)

انظر لمعرفة حال ((الملامية)) : تلبيس إبليس ص41.، ومجموع فتاوى ابن تيمية 35/164. ومدا رج السالكين 3/177، 178، وإغاثة اللهفان 1/178.

(3)

أخرجه مسلم ح (2642) ، وأحمد 5/156، وانظر تفصيل مسألة: سرور الإنسان بمعرفة طاعته في كل

من: تفسير ابن كثير 4/559 الآداب الشرعية لابن مفلح 1/148، وجامع العلوم والحكم 1/ 83.

ص: 26

صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (الكهف، آية 11.) .

ج – أهل السنة والجماعة وسط بين المشتغلين بالعبادات القلبية فقط – كالصوفية -، والمشتغلين بالعبادات الظاهرة فحسب – مثل بعض الفقهاء – فقام أهل السنة بالعبادات الظاهرة والباطنة معاً (1) . 1

يقول ابن تيمية: ((كثر في المتفقهة من ينحرف عن طاعات القلب وعباداته، من الإخلاص لله، والتوكل عليه، والمحبة له، والخشية منه، ونحو ذلك.

وكثر في المتفقرة والمتصوفة من ينحرف عن الطاعات الشرعية، فلا يسألوا إذا حصل لهم توحيد القلب وتأهله أن يكون ما أوجبه الله من الصلوات، وشرعه من أواع القراءة والذكر والدعوات أن يتناولوا ما حرم اله من المطاعم، وأن يتعبدوا بالعبادات البدعية من الرهبانية ونحوها، ويعتاضوا بسماع المكاء والتصدية عن سماع القرآن)) (2) .

ويقول ابن القيم: ((إن لله على العبد عبوديتين: عبودية باطنة، وعبودية ظاهرة فله على قلبه عبودية، وعلى لسانه وجوارحه عبودية، فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه، ولا يوجد له الثواب وقبول عمله.

ولما رأى بعض أرباب القلوب طريقة هؤلاء (الفقهاء) ، انحرف عنها هو إلى أن صرف همه إلى عبودية القلب، وعطل عبودية الجوارح، وقال المقصود

(1)

ففي العبادات الباطنة – مثلاً – نراهم قد قاموا بها جميعاً خلافاً للمبتدعة. وكما قال مكحول الدمشقي – رحمه الله: - ((من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد.

(2)

مجموع الفتاوى 2./72،73.

ص: 27

قيام القلب بحقيقة الخدمة والجوارح تبع.

والطائفتان متقابلتان أعظم تقابل، هؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم، ففسدت عبودية جوارحهم ن والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهراً وباطناً، وقدموا قلوبهم في الخدمة، وجعلوا الأعضاء تبعاً لها، فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود، وهذا هو حقيقة العبودية) (1) .

د- أهل السنة وسط بين من يريد من الله ولا يريد الله، وبين من يريد الله ولا يريد منه، فأهل السنة يريدون الله تعالى، ويريدون من الله خلقه، قال تعالى:{وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكن أجراً عظيماً} (الأحزاب آية 33) وأما الذين يريدون من الله ولا يريدون الله، فهؤلاء ليس في قلوبهم غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، كحال أكثر المتكلمين، المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر على وجهه في الآخرة، وهم عبيد الأجرة المحضة ن فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس، زمنهم من يصرح بأن إرادة الله تعالى محال (2) .

وأما الذين يريدون الله ولا يريدون منه، فكحال الصوفية..

ومنشأ اشتباه واضطراب كلا الفريقين أنهم ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس

ثم صاروا فريقين، أحدهما: أنكروا رؤية المؤمنين لربهم كالمتكلمين من المعتزلة والجهمية ونحوهم، والفريق الآخر أثبتوا الرؤية، لكن اخطؤا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجاً عن الجنة، فاسقطوا حرمة اسم الجنة (3)

(1) بدائع الفوائد 3 / 229، 23.، وانظر إغاثة اللهفان 1 / 187.

(2)

انظر تفصيل ذلك في مدا رج السالكين 2 /82.

(3)

انظر تفصيل ذلك في: مجموع الفتاوى لابن تيمية 1./694- 7..، ومدا رج السالكين 2/ 82، 83.

ص: 28