الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاشتغال بقتلها انقطع، ول يمنه السفر قط، ولتكن همتك المسير، والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امض على سيرك.
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جداً، وأثنى على قائله " (1) .
كما أن الاشتغال بتلك الدقائق ينبغي أن يكون مسبوقاً بما هو آكد فرضاً من فعل الواجبات الظاهرة وترك المحرمات الظاهرة.
ولذا يقول ابن رجب – رحمه الله:-
" وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شئ من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل يُنكر عليه، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألوني عن دم العوض، وقد قتلوا الحسين "(2)
(1) مدا رج السالكين 2/ 313، 314.
(2)
جامع العلوم والحكم 1/283.
(3)
سير أعلام النبلاء 8/114.
مراعات قدرات الناس في فعل الطاعات
…
5-
ومن معالم السلوك الشرعي: مراعاة تفاوت قدرات الناس في فعل الطالعات، وذلك بسبب اختلاف استعداداتهم، وتنوع مواهبهم وميولهم.
وقد قرر الإمام مالك بن انس – رحمه الله – هذا المعْلَم وذلك لما كتب عبد الله العُمري العابد إلى مالك يحضّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشْر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر (3) .
(3) سير أعلام النبلاء 8/114.
ولما سئل ابن تيمية – رحمه الله – عن الأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل.. هل يبدأ بالزهد؟ أو بالعلم؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته؟
أجاب بقوله: " الناس يتفاضلون في هذا الباب، فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه ن ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن، آية 16) .
وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقاً، إذا كان متعذراً في حقه أو متعسراً يفوته ما هو أفضل له وأنفع كمن يقرأ القرآن فيتدبره وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه، ولا ينتفع منها بعمل أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة، فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، يفوته ما هو أنفع له " (1) .
وقال – في موضع آخر:-
"وأما ما سألت عنه أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد....."(2) .
وتحدث ابن القيم عن هذا المعلم فكان مما قاله:
" والمقصود أن الطريق إلى الله واحد، فإنه الحق المبين، والحق واحد، مرجعه على واحد. وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق
(1) مجموع الفتاوى 7/ 651، 652.
(2)
مجموع الفتاوى 1./66.، وانظر مجموع الفتاوى 24/246.
إلى الباطل فهو باطل. فالباطل متعدد، وطرقه متعددة، وأما ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق على الله متعددة متنوعة، جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلاً ، فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من حدة الطريق.
وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي الله، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، كلها طرق مرضاته، فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جداً لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم.
وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، وقد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك إلى الله، ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته
…
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى انه قد غبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها ومضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره.
ومن الناس من يكون كريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله تعالى في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة ونصب عينه يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك، إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين..يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربُها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت " (1) .1
وهذا الصنف الأخير- الذي ذكره ابن القيم آنفاً. هم الصد يقون. سلكوا كل أبواب الخير، وحققوا جميع خصال البر وأعماله (2) ،
وخير مثال على الصديقين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه والذي كان له السبق في جميع القربات والصالحات.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم اليوم صائماً: قال أبو بكر رضي اله عنه: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟. قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟
(1) طريق الهجرتين ص 178، 179 – باختصار، وانظر مدا رج السالكين 3/17، والفوائد ص 38.
(2)
انظر تفصيل ذلك في مدا رج السالكين 2/275، ومقدمة المجموع للنووي.
قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة " (1) . 1
كما أن هذا الصنف الكريم هم أصحاب التعبد المطلق ن فليس لهم غرض في تعبد بعينه يؤثر على غيره، بل غرضهم تتبع مرضاة الرب تعالى في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته (2) .
هذا ما تيسر جمعه والإطلاع عليه من تلك المعالم والله المستعان.
(1) أخرجه مسلم ك الزكاة 2/713 ح (1.28) .
(2)
انظر توضيح ذلك في مدا رج السالكين 1/88.