الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصارع المغرقين
حدَّث العالم الجليل ابن أبي ذئب بحديث (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين)(1) فقال له أبو حنيفة: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ قال: فضرب صدري وصاح بي صياحًا منكرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول اللَّه وتقول تأخذ به! وذلك الفرض علي وعلى من سمعه (2).
وسأل رجل الإمام الشافعي عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له السائل: يا أبا عبد اللَّه تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتقص فقال: يا هذا! أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به، نعم على السمع والبصر على السمع والبصر (3).
وقال: إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا فلم آخذ به فأنا أشهدكم أن
(1) أخرجه البخاري: 6/ 2522 برقم 6486، ومسلم: 2/ 988 برقم 1355.
(2)
انظر: الرسالة للإمام الشافعي، ص 452 - 454، الفقيه والتفقه للخطيب البغدادي، ص 222 - 223.
(3)
انظر: الفقيه والمتفقه، ص 300.
عقلي قد ذهب (1).
وقال وكيع بن الجراح لشخصٍ اعترض عليه بقول أحد التابعين: أقول لك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا (2).
وروعة هذه النماذج تغري الكاتب بالاسترسال وتشدُّ القارئ لطلب المزيد بما يقف القلم معه عاجزًا عن استقصاء أحوالها؛ لأنها نماذج رائعة مسطرة بمدادٍ من نور في سجل علماء الإسلام، تكشف خاصية التجرد والتسليم لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالآراء والاجتهادات تتوقف وتوضع جانبًا حين يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
لم يكن أحد من فقهاء الإسلام يرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا حتى يتوقف في ذلك لأي سبب كان، وكلُّ ما وقع من ترك أحدٍ من الفقهاء لبعض الأحاديث فإنما كان بسبب عذر خاص به ناشئٍ عن عدم بلوغ الحديث له أو كونه يتأوله بما يخالف ظاهره، وأما أن يكون أحد منهم قد ترك حديثًا واحدًا (تركًا غير جائز فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة)(3).
ولا عجب فالعلماء هم أعظم الناس خشية للَّه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ومن تمام هذه الخشية ولوازمها أن يسلم وينقاد لمن أمره اللَّه - تعالى- بطاعته والتسليم لكلامه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . [آل عمران: 31]
(1) انظر: الفقيه والمتفقه، ص 301.
(2)
انظر: الفقيه والمتفقه، ص 288.
(3)
رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 48.
هو منهج سار عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة الإسلام وفقهاء المذاهب، غير أنَّه ثمة منهج آخر ما زال في نفسه ضعف من كمال التسليم لسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع من الشروط والقيود على سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما في قلبه من مرض الشك وضعف الانقياد؛ فبعضهم يضعف في قلبه التسليم حتى ينعدم حين يلغي اعتبارَ السنة -إطلاقًا- من التشريع فلا يؤمن إلا بالقرآن فقط، وهي دعوى مخادعة؛ وإلا فلو آمن بالقرآن حقًا لآمن بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت بذلك نصوص القرآن، بل واقع الحال أنهم لا يؤمنون بقطعيات القرآن في القضايا التي تنافي الثقافة العَلمانية المعاصرة؛ فحقيقة الأمر أنه استثقال للتشريع ومحاولة للتخفف من جزء كبير منه.
وبعضهم يشترط في السنَّة أن تكون متواترة لا آحادًا، فيلغي أكثرية سنة النبي صلى الله عليه وسلم بتقسيمات محدَثَة لم يعرفها الصحابة والتابعون ولا مَن بعدهم.
وبعضهم يشترط في الآحاد التي يقبلها أن لا تكون في العقائد أو أن تكون في غير القضايا التشريعية المهمة كمسائل السياسة والحكم ونحوها.
والملفت للنظر أن هذه الشروط التي يضعون تتبخر حين يكون الحديث في هواهم؛ فتجد من يشترط التواتر يستدل بأحاديث الآحاد ويرد أحاديث المتواتر، ومن يشترط أن لا تكون في القضايا العقدية أو التشريعية المهمة يستدل ببعض الأحاديث حين تكون موافقة لهواه ويرد بعض الأحاديث المتواترة ولو كانت في هذه الأبواب المهمة.
وآخرون يشترطون في السنَّة أن تكون قطعية الدلالة أو قطعية الدلالة والثبوت
أو مُجمَع عليها بين العلماء أو لا تكون معارِضة للعقل أو المصلحة أو مقاصد الشريعة. . . وخذ ما شئت من هذه الشروط والقيود التي لا تنتهي ولا تتوقف عند حد، وكلما جاء حديث على خلاف ما تهوى النفوس جاءت هذه الشروط والقيود للتخلص منه، وهي صورة منافية للتسليم الذي كان عليه أئمة الإسلام وفقهاؤه الكبار.
إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم سياج واحد، واختراق حديث واحد وترك العمل به بلا سبب سيؤدي إلى مزيد من التهاون والتساهل بأجزاء أخرى من السنة يتسع تدريجيًا حتى يصل إلى تعطيل السنة كلها، وحين يعوِّد المسلم نفسه ويعتاد قلبه على وضع الشروط والقيود لما يقبله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون قد بدأ في شقِّ طريقٍ جديدة خارجًا به عن جادة أهل السنة والجماعة؛ فما يلبث أن يزداد انحرافه وشتاته إلى أن لا يبالي اللَّه به في أي أودية الضلالة هلك (ولهذا تجد من تعوَّد معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه إيمان)(1).
وتجد من يضع مثل هذه الشروط لا يجد نفرة أو غضاضة في قلبه من إنكار شيء من السنة ولو بلا سبب؛ لأن هذه الشروط لم تأتِ -أصلًا- إلا من حالة شك بأصل ثبوت السنَّة، فكان التهاون في حديث واحد نابعًا من مرض يثير التهاون في المزيد من السنة.
لقد كان علماء الإسلام مدركين تمامًا خطر التهاون ولو بحديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويستحضرون أن ترك حديث واحد بلا عذر خرق يغرق سفينة
(1) درء تعارض العقل والنقل: 1/ 197.
النجاة؛ لهذا قال نعيم بن حماد: من ترك حديثًا معروفًا فلم يعمل به وأراد له علَّة أن يطرحه فهو مبتدع (1).
إنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل سفينة نوح من ركبها نجا من الغرق ووصل إلى العافية والسلامة التي يريدها، ومن تركها وبحث عن النجاة بطرق أخرى فالغرق والهلاك لا بدَّ آتيه ولو بعد حين، ومن لا يقبل السنة إلا بشروط وقيود فقد ركب السفينة وهو يجتهد في شق خروق في أسفلها وأعلاها فما تبرح به السفينة حتى تغرق فلا ينفعه حينها نداء الناصحين له:(اركب معنا ولا تكن مع المغرقين).
(1) انظر: الفقيه والمتفقه، ص 299.