المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة - معركة النص - جـ ١

[فهد العجلان]

الفصل: ‌جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة

‌جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة

هلع وارتباك وتحفّز يصيب كثيرًا من المؤلفين المعاصرين في موضوعات النظام السياسي حين يمر على بحث (حد الردة) في الإِسلام؛ فهو يشكل إحراجًا لا يطاق أمام ضغط الثقافة الغربية المعاصرة التي تضع (الحرية الدينية) في قمة هرم الحقوق والحريات المدنية التي تحتضنها، وتقاتل في سبيل التزام جميع الأمم والحضارات بها على وَفْق التفسير والمعيار الغربي.

فتوالت البحوث والدراسات التي تبحث في الدلائل الشرعية عما يخفف من شدة نكير الأصوات المستغربة ليصلوا بيهذا الحكم الشرير إلى (النفي) أو (التأويل) أو (التكييف) الذي يجعله متلائمًا مع الحالة المعاصرة.

وهذا ما يفسر لك أن البحث في إشكالية الردة وإثارة الخلاف حول حكم المرتد لم يكن له أي حضور في المذاهب الفقهية السالفة؛ فمع أن الفقهاء يختلفون في كثيرٍ من المسائل، ويتنازعون حتى في المسائل التي وردت نصوص صريحة فيها إلا أن إقامة الحد على الرجل المرتد لم يكن مجال خلافٍ بينهم؛ فقد أجمع عليه الفقهاء كافة،

ص: 40

وحكى الإجماع عليه عشرات من الفقهاء من مختلف الأزمان (1)، بينما تجد هذا الحكم حاضرًا ومشكلًا في الدراسات المعاصرة، وهو ما يدلل على أن العامل المؤثر فيها ليس هو النظر في الاجتهاد الفقهي بقدر ما هو تأثر بروح الثقافة الغربية.

الملفت للانتباه أن التخلُّص من هذا الحكم الشرعي لم يسر على طريقة واحدة؛ فلئن اتفقت كلمة كثير من المعاصرين على ضرورة الانفكاك من تبعات هذا الحكم، إلا أن وسيلة تنفيذ ذلك قد تعدَّدت في ما بينهم، فاجتمعت علينا طرائق كثيرة نستخلص من كل واحدة منها منزعًا من منازع الانحراف الفكري، تتباين في ما بينها تباينًا كبيرًا إلا أنها تجتمع على وصف الحال بأنه (إشكالية حد الردة).

فبعضهم: ينكر هذا الحكم لعدم ذكره في القرآن الكريم، فينظر في الآيات القرآنية التي تخاطب الكفار وتحكي مقولاتهم فلا يجد فيها أي عقوبة لهم في الدنيا، وهو ما يعني أن الشريعة لا ترتب أي عقابٍ دنيوي على من يمارس حريته الدينية في الدنيا، وهذا التفسير يستبطن الانحراف القائم على (إنكار) سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورفض الإيمان بها؛ لأن حد الردة لم يثبت إلا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالمطالبة بأن يُذكر الحكم في القرآن يعني أن السنة غير كافية في هذا الباب.

ولا يصل الأمر بآخرين إلى هذا الحد؛ فهو يثبت السنة النبوية لكنه يحكم على حديث "من بدَّل دينه فاقتلوه"(2) بأنه من قبيل أحاديث (الآحاد) ولا يستقيم

(1) منهم -على سبيل المثال-: ابن المنذر في الإجماع ص 76، والبغوي في شرح السنة: 5/ 431، والنووي في شرح صحيح مسلم: 12/ 208، وابن قدامة في المغني: 12/ 264، وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: 1/ 355، والسبكي في السيف المسلول ص 119 وغيرهم.

(2)

أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: 9/ 15 برقم (622).

ص: 41

العمل بها لأنها ظنية، وهذا انحراف في إنكار شيء من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يشكل أكثر أحاديثه، عليه الصلاة والسلام.

وآخرون لا ينكرون العمل بخبر الآحاد لكنهم لا يرون العمل به في المجالات المهمة كمجال التشريع، وهذا انحراف في وضع شرائط معاصرة حاكمة على السنَّة النبوية؛ وكأن موضوعات التشريع هي المهمة دون موضوعات العبادة أو الاعتقاد أو الأخلاق.

ويأتي الحديث عند الفئة الرابعة: في تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، وعلى سوء فهمهم لهذا التقسيم، إلا أن الإشكال الأبرز هنا أن المعيار لمعرفة التشريعي في السنة من غير التشريعي معيار مضطرب وغير محدَّد؛ وإنما يستخدم عند كثيرين لإزاحة بعض الأحكام.

ويأتي بعضهم بذريعة (الخلاف الفقهي) ليزيح حضور الحاكم عن طريقه، مع أن المسألة ليس فيها خلاف أصلًا (1)، ولو كان ثمَّ خلاف بين الفقهاء في أي حكم

(1) ينسب كثيرون إلى الفقيهين الكبيرين (إبراهيم النخعي) و (سفيان الثوري) -رحمهما اللَّه- أنهما ينكران حدَّ الردَّة، والحقيقة أن خلاف هذين الإمامين إنما هو في (استتابة) المرتد وليس في حكم قتله، فقد كانا يقولان: يستتاب أبدًا كما رواه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 166)، وقولهما هذا إنما هو في معرض حكم الاستتابة وليس في محلِّ الحكم الأصلي، وقد روى عبد الرزاق في مصنَّفه (6/ 105) عن الثوري: أن المرتد إذا قتل فماله لورثته، وذكر عنه أيضًا (9/ 418): أن من قتل مرتدًا قبل أن يرفع إلى السلطان فليس على قاتله شيء، وهو ما يدل على أن الثوري لا يخالف في هذه المسألة، وهذا ما فهمه الفقهاء في كتب المذاهب؛ حيث يذكرون كلام هذين الإمامين في خلاف الفقهاء في حكم (الاستتابة) وليس في عقوبة المرتد، انظر -على سبيل الثال-: المغني لابن قدامة (10/ 72) مغني المحتاج للشربيني (4/ 140) وعلى التسليم بأن النخعي والثوري ينكران حد الردة فإنهما يطالبان بالاستتابة الدائمة، وليس بالحرية الدينية للمرتد، ومن ثمَّ فالإشكال الذي يلاحق حد الردة سيأتي هنا، فإذا كان القتل مرفوضًا في الحرية الدينية المعاصرة فالملاحقة والاستتابة والسجن مرفوضة كذلك.

ص: 42

شرعي فالخلاف لا يلغي العمل، وليس من شرط العمل بالأحكام الشرعية أن يتم الاتفاق عليها.

وسادس هذه الانحرافات: من يفسِّر حد الردة بأنه (الخروج) على الدولة ونظامها مما يطلق عليه في النظم المعاصرة (الخيانة العظمى) وتبيح التعامل معه بالقتل، وهذا التفسير جميل متلائم مع الفكر السياسي المعاصر لكنه بعيد عن دلائل الشريعة وكلام الفقهاء، وهو من قبيل تطويع الشريعة لتستقيم مع الثقافية المعاصرة، ويبدو مقنعًا لكثير من الغربيين والمستغربين لكن أصحاب هذا التفسير سيقعون في ورطة مع عقلاء الغربيين وأتباعهم الذين يدركون حقيقة هذا الحكم الشرعي، وسيكون مثل هذا التفسير سبيلًا للاستطالة على الشريعة من جهة أن هذا التفسير يتضمَّن اعترافًا من أصحابه بأن الحكم الشرعي على التفسير الفقهي المعروف مرفوض عقلًا.

وسابع الانحرافات: الاستمساك بالمصلحة في كافَّة صورها لتعطيل العمل بالنص، وموضع الانحراف هنا ليس في ترك العمل بالحكم الشرعي في حال وجود مصلحة معتبرة من ضرورة أو حاجة ماسة، بل هذا اجتهاد شرعي وإن حصل اختلاف في تطبيقاته؛ وإنما الإشكال أن يعطَّل الحكم بكليَّته بدعوى المصلحة، وأن تكون المصلحة حاضرة عند النظر في ثبوت الحكم الشرعي ابتداءً؛ فبدلًا من تقرير ثبوت هذا الحكم مع عدم إمكانية تطبيقه أو وجود ضرر أو غياب مصالح معتبرة عند العمل به، يأتي صاحب المصلحة لينفي هذا الحكم من أساسه بدعوى المصلحة، وهذا خلل؛ لأن المصلحة (بشروطها) قد توقف العمل بالحكم الشرعي؛ غير أنها لا تزيل وصف الشرعية عن الحكم تمامًا.

ص: 43

وثامنهم وهو من ذرية السابع: من يتحدث عن ضرورة تقديم صورة حسنة للغربيين، وأن الحديث عن حد للمرتد في زمان شيوع ثقافة الحريات الدينية وقيام النظم السياسية الغربية على حمايتها يقدم صورة مشوهة عن الإِسلام. . . إلخ. هذا الكلام الذي يقال في كثيرٍ من أحكامنا الشرعية، ومع ذلك ما تزال دعوة الإِسلام تنتشر في الأوساط الغربية بشكل مذهل، وهو ما يعني أن وَهْم التشويه الذي يتحدث عنه هؤلاء الناس محض خيالٍ علمي، وهو قائم على تصوُّر (غارق في الوهم) بأن تحسين صورة الإِسلام ولو بإخفاء وتغيير الحقيقة سيكفُّ خصوم الإِسلام عن مواصلة التشويه.

والتاسع: يشيع الرعب والذعر من أن تقرير مثل هذا الحكم سيكون سببًا لاستغلال بعض النظم السياسية له في سبيل القضاء على مخالفيهم وتسويغ جرائمهم؛ فحين يأتي بعض الناس فيسيء تطبيق حكمٍ شرعي ما، فالحل في هذا النظر العقلي أن يلغى الحكم الشرعي كله!

ويأتي بعضهم: فينفي هذا الحكم لمعارضته لأصل قطعي محكم هو (الحريات) وهذا الانحراف مركب من وجهين: فوجهه الأول أنه يضرب بالأصول الكلية على هامة الأحكام الفرعية، مع أن الأصول إنما تثبت من خلال اجتماع الفروع، وإلا فعلى هذه العقلية من التفكير يمكن أن ننفي حكم الربا لأنه معارض لأصل قطعي هو (حلُّ البيع)! وننفي حرمة شرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير لأنه معارض لأصل قطعي هو (حلُّ الطعام)! والوجه الثاني: أنه جاء بمفهوم غربي بتفسيره المعاصر (الحريات) ليجعله أصلًا شرعيًّا، بل وقطعيًا أيضًا.

تلك عشرة كاملة، هي أبرز وسائل البحوث المعاصرة (للتخلَّص) من هذا

ص: 44

الحكم الشرعي، قد اجتمعت فيه منابت الانحراف المعاصرة من جذورِ بقاعٍ شتَّى، حضر فيها (منكر) السنَّة و (مضيِّق) العمل بها و (مقطَّع أوصالها)، ومن يعطِّل الأحكام الشرعية بدعوى (الخلاف) أو (المصلحة)، ومن يعارض الأحكام الشرعية بأصول فكرية محدثة، ومن (يخاف) من الحكم الشرعي أو (يخاف عليه)، فأصبح النظر إلى هذا الحكم (جامعًا) للانحرافات الفكرية المعاصرة، وحين يأتي المسلم فيقرر هذا الحكم كما جاء في النصوص الشرعية وبما نقله كافة الفقهاء، فإنه يسجل شهادة خير لنفسه -ليحمد اللَّه عليها- بسلامته وبعده عن مثل هذه الانحرافات التي كثر الافتتان بها.

ص: 45