الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعيار المنكسر
حين يقول أحدهم: (الكتاب والسنة هما معيار وميزان الحقائق) ، فإن من الرائع حقًا أن يكون ثَم اتفاق قطعي علي هذه القاعدة؛ فهو كلام بدهي ضروري لا ينازع فيه أحد ذو بال؛ فكتاب اللَّه وسنة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم هما المعيار الذي توزن به الأمور وتقاس به المفاهيم، فنقبل الصحيح ونردُّ الباطل ونقيِّد المطلق ونفصل المجمل ونميِّز المشتبه، فلدينا معيار صحيح واضح نتمكن من خلاله من تمييز الأمور وفحصها:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].
لكن هذه القاعدة تبقي أحيانًا بديهة في الجانب النظري ويضعف أثرها في الميزان العملي؛ إذ إن هذا المعيار والميزان الشرعي ينكسر أحيانًا فلا يكون معيارًا، بل يبقي نورًا محجوبًا زاحمته معايير أُخرَي وشاركته في أحقية الوزن والقياس.
من الذى كسر هذا المعيار؟
التسليم للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ليس شأنًا معرفيًا محضًا يحسبه الشخص بدقة كما يحسب المسائل الرياضية، بل هو إيمان وطاعة وانقياد وخضوع لأمر اللَّه، فكلما ازداد إيمان المرء وعظم الشرع في قلبه كان أكثر التزامًا وتطبيقًا لهذه القاعدة، وحينها فإن ثَم عواملَ كثيرة تأتي على هذا المعيار فتضغط عليه وتضعفه حتى تكسره، فيضعف أثر هذه القاعدة عمليًا وإن كانت ما تزال ثابتة في المقياس النظري.
وهذه العوامل كثيرة، اكتفي منها بعاملين، وسأحصره في الأحكام الشرعية السياسية:
كاسر النسبية:
حين تقول: إن من بدهيات المفاهيم الشرعية الأصيلة التي من أجلها قامت الحركات الإسلامية هو إعادة الحكم للإسلام وشريعته، الحكم الشامل المحقق لسعادة الناس وصلاح دينهم ودنياهم، يأتيك الاعتراض المشهور: الشريعة على فهم من؟
وحين تقول: الحقوق والحريات والمصالح كلها مفاهيم رائعة ننطلق فيها من قيمنا وأصولنا الشرعية، فهذه كليات عامة تملؤها كل ثقافة بحسب قيمها ومعاييرها، يلاحقك ذات الاعتراض: الحقوق والحريات الشرعية فَهْم من؟
وحين يغار المصلحون على أحكام الشريعة فيرفضون أي تعدٍّ عليها أو ردٍّ لأحكامها يأتيك ذات الاعتراض: هذا التعدي على الشريعة بمفهوم من؟
وهكذا، يأتي (على فهم من؟) ليفكك المعيار الشرعي من قيمته، ويكسر الميزان الإسلامي من اعتباره، لتكون الشريعة بناء خاملًا خاويًا على عروشه، ليس له إلا القيمة الشكلية الروحية، لكنه معيار محايد لا يقيس ولا يوزن.
فلأننا لا ندري (على أي فهم تكون هذه الشريعة؟) نطالب بالحكم السياسي القائم على المساواة المطلَقَة وحكم الناس بما يشتهون، ويبقى الدين شأنًا خاصًا لا اعتبار له في حكم الناس لأننا لا ندري ما هو!
ولأننا لا ندري (على أي فهم تكون هذه الشريعة) تصبح مصمتة لا يُرجَع إليها في مفاهيم الحقوق والحريات والعدل والمصالح بل يكتفى بالمصالح الدنيوية البحتة التي يتفق عليها الجميع ولا اعتبار للدين الذي لا يدرى ما هو!
ولأننا لا ندري (على أي فهم تكون هذه الشريعة؟) نجعل العبرة هو اختيار الأكثرية؛ فما اختارته فهو المشروع وإلا فليس بمشروع، وليس لك أن تذكر الشريعة لأن الشريعة هذه على فهم من!
وهكذا، أخرجنا العلمانية من الباب ثم ذهبنا نجري خلفها؛ أُخرجت لأنها تعارض حكم الإسلام وترفض أصوله، وذهبنا إليها لأننا أصبحنا لا ندري ما هو الإسلام ولا على أي فهم تكون شريعته، فالنتيجة النهائية: تجاوز إشكالية رفض الدين إلى إشكالية القبول به هلاميًا لا يدرى ما هو!
(على أي فهم؟) هو سؤال النسبية الشهير، الذي ما زال يتكرر منذ قدماء الفلاسفة اليونان ومرَّ في طريقه فجرف من أهل الضلال والبدع والتحريف مَن جرف، وما يزال مسيره الجارف متواصل في إغراق القلوب بالشك والحيرة والتيه، حرمهم من حالة الطمأنينة التي يمنُّ اللَّه بها على من يشاء من عباده، وله
أثر عميق السوء في ترك بعض الناس لدينهم أو شكهم فيه أو إضعاف يقينهم وطمأنينة قلوبهم؛ وربما أدى ببعض الناس إلى حالة اللامبالاة فيمارس مع الشريعة حالة (الإعراض) من دون بحث عنها ولا رفض لها، وهي صفة أهل الكفر، الإعراض حين تيأس نفوسهم من الوصول إلى اليقين:{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3].
نعم، لو كان الأمر متعلقًا بمسائل ظنية أو أحكام اجتهادية أو في المساحة التي لا نصوص قطعية فيها أو كان من الوقائع المتجددة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد، ونحو هذا مما هو مندرج في مساحة الاجتهاد والتقدير التي يتطلب المسلم فيها أرجح ما يراه حقًا، فالخلاف هنا أهون بكثير، مع أن سؤال النسبية له تأثير سلبي هنا أيضًا، فبدلًا من أن يسير المسلم خلف (الأرجح دليلًا) يتوجه من حيث لا يشعر إلى حيث (الأيسر) حكمًا أو الأقرب للواقع.
الإشكالية أن يلاحقك سؤال النسبية في الأصول القطعية وفي النصوص الظاهرة وفي الأحكام المجمع عليها، وبدلًا من أن يقول المسلم فيها ما يجب عليه:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] أصبح البعض يسأل ما هي الشريعة التي تريدون؟ فكأن ثمَّ اشتراطًا مسبقًا في أن تكون الشريعة مَرْضية عنده قبل أن يسلِّم لها.
سؤال النسبية لا يتحرك إلا حيث يجب الإيمان، لا أحد يسأل في مجالات (الديمقراطية) أو (الحرية) أو (الحقوق) أو (العدالة) أو (الإنسانية) عن أي فهم تكون!
هذا هو كاسر النسبية، يأتي على معيار الاحتكام إلى الكتاب والسنة فيهشمه، وكلما ضعف التسليم في القلب زاد هذا المعيار في الانكسار.
هذا هو الكاسر الأول، فاما الكاسر الثاني فسيأتيك بعد متابعة هذه الأمثلة:
يرفض أن يقول بمشروعية جهاد الطلب؛ لأنك إذا شرعت لنفسك غزو الآخرين فإن هذا يعني مشروعية غزوهم وقتالهم لك.
ولا يجوز لك أن تقول بقتل المرتد؛ لأن هذا يشرع لهم أن يقتلوا الذين يدخلون في الإسلام في أوطانهم.
ولا يجوز أن تقول بمنع نشر الكفر والضلال؛ لأنك تشرع لهم أن يمنعوا نشر الخير والإسلام.
ولا يجوز أن تدعم إخوانك المسلمين المضطهدين؛ لأنك تشرع للآخرين أن يدعموا إخوانهم في أوطان المسلمين.
يتساءل بحرارة: كيف تجيز لنفسك جهاد الطلب وقتل المرتد ونشر الخير ودعم المضطهدين ولا تبيح للآخرين أن يفعلوا مثل ما تفعل؟
هذا هو الكاسر الثاني: مساواة الحق بالباطل، فللباطل من المشروعية مثل ما للحق سواء بسواء، فلا يجوز أن تفعل أمرًا مشروعًا مستمدًا من شريعتك لأن الآخرين سيفعلون مثله، فيجب ترك فعل الحق لأجل أن تكون عادلًا مع الباطل، فكما تمنع الباطل يجب أن تمنع الحق! وكما من حقك أن تفعل الحق فيجب أن تجعل للباطل مثله وإلا وقعت في الظلم!
غفل في غمراتِ وهمِ المساواة المطلقة بين الحق والباطل عن أمور عدة:
الأول: غفل عن المعيار البدهي والضروري؛ وهو أن منطلقه هو الكتاب والسنة، فمرجعيته في معرفة الحق هو الوحي وليس في مفتقدات الناس التي يفكرون من خلالها؛ فما قيمة معيارية الكتاب والسنة ما دام أنه سيأخذ بكل المعايير الأخرى؟
الثاني: أن الآخرين لا ينطلقون في تصوراتهم بناءً على مقارنتها بتصوراتنا، فهم ينطلقون بناء على ثقافتهم ومصالحهم؛ فمن الوهم الكبير أن يتخيل أحد أن الآخرين يكيِّفون حياتهم ونظمهم بحسب نظامنا، فإذا أبحنا لهم شيئًا أباحوا لنا مثله وإلا حرموه، لا أحد يفكر بهذه الطريقة، فهو خيال خاطئ رجع فأفسد وكسر المعيار.
الثالث: أنه لا وجود لمفاهيم كونية كلية متفَق عليها ينطلق منها الناس جميعًا؛ فحين تتحدث عن العدل والظلم والحق والخير والشر فكل له تفسيراته وتقديراته لهذه المفاهيم، وكل قول تراه حقًا يوجد في المقابل من يراه باطلًا، وكل أمانة يوجد من يراها خيانة، لا يمكن وضع قواعد كلية يتفق الجميع في النظر إليها فيتوحدون في حكمها على اختلاف زوايا نظرهم، وإن أمكن اتفاقهم في كثير من جزئياتها.
الرابع: أنه يساوي بين الحق والباطل، فيرى أن للباطل أن يفعل مثل ما يفعل الحق، وهذا مساواة بين أمرين قد فرق اللَّه بينهما {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8]، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36] فالحق يجب نشره وحفظه والدفاع عنه والباطل يجب ردعه؛ فلا يساوى أبدًا من يدعو لتوحيد اللَّه بمن يحاد اللَّه ويسعى لحرب دينه، هذه مساواة باطلة ومخالفة للعدل؛ فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وليس هو المساواة المطلقة
بين الأشياء ولو اختلفت، بل إن المساواة بين الحق والباطل ظلم محض، إذ قد فرق اللَّه بينهما {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]؟
وهكذا: تبقى قاعدة (الرجوع إلى الكتاب والسنة) ميزانًا ومعيارًا منكسرًا لا يؤدي غرضه في بعض القضايا؛ لأن المعيار العلماني القائم على تحييد الدين والمساواة التامة بين الحق والباطل كان مزاحمًا وحاضرًا، وربما يتبرأ كثير من الناس من هذه النتيجة لكن العبرة بالواقع لا بالدعوى؛ فالمعيار الشرعي حين يكون مستقيمًا فلا بد أن يكون له أثر في الوزن والقياس، أما حين يكون ساكنًا جامدًا فإنه معيار منكسر ما عاد معيارًا وإن كان ما زال يسمّى كذلك، وللمفاهيم الغربية معتمدة على قوتها السياسية والإعلامية أثر رهيب على عقول وقلوب بعض الناس، تمارس الضغط عليها حتى تضعف معيارية الشريعة لديها وربما تنكسر أو يكون أكثر اعتزازًا وثقة فلا تزيدها هذه الإشكالات إلا إيمانًا وتسليمًا.