المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌البقع السوداء لن يجد القارئ للانحرافات الفكرية المعاصرة عناءً في إدراك - معركة النص - جـ ١

[فهد العجلان]

الفصل: ‌ ‌البقع السوداء لن يجد القارئ للانحرافات الفكرية المعاصرة عناءً في إدراك

‌البقع السوداء

لن يجد القارئ للانحرافات الفكرية المعاصرة عناءً في إدراك طريقة تسويق كثير من الانحرافات المعاصرة من خلال رفعها على منصة الخلاف الفقهي؛ إذ أصبح الاستناد إلى خلاف الفقهاء غالبًا على كثيرٍ من تلك الدراسات والمقالات، ومع أنَّ الانحراف الفكري يستند إلى الخلاف الفقهي إلا أن طبيعة الخلاف الفقهي وسموَّ مرجعيته وشخصية أهله تجعله غير قابل للتقليد، فينكشف سريعًا كلُّ من يحاول أن يغطي انحرافه بستار الخلاف الفقهي، وتبدو البقع السوداء واضحة عن يمينه وشماله كاشفةً للبصير براءة هذا الانحراف عن الخلاف الفقهي.

ولعلِّي هنا أضرب مثالًا للبقع السوداء التي تلازم الانحراف الفكري حين يتستر بالخلاف الفقهي بمسألة (حدود الحجاب الشرعي) الذي يرضاه اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أن ثمَّ مسألة فقهية يعرف الناس الخلاف فيها كهذه المسألة، وكثيرًا ما يتكئ (المنحرف) عن النص على آرائك تبرير التبرُّج والتعرِّي من خلال إشاعة هذا

ص: 13

الخلاف الفقهي وإثارته وترجيح قول على قول، وفي حسبانه أن رأيه في اختيار (جواز كشف المرأة المسلمة لوجهها وكفَّيها) سيكون مألوفًا هادئًا لأنه من جنس كلام الفقهاء، غير أنه لم يفطن للبقع السوداء التي تطفو على سطح قلمه تكشف للناس عمق الظلمة والسواد الذي ينضح من هذا الخلاف، وأن العاقل البصير حين يرى هذه البقع سيعرف أنه أمام انحراف فكري يفسد المرأة المسلمة ويتعدى على أحكام الشريعة وليس أمام خلاف فقهي فرعي؛ وإن كان (الانحراف الفكري) و (الخلاف الفقهي) كلاهما يتحدثان عن كشف الوجه.

• الانحراف الفكري يتحدث في حجاب الوجه، فيثني على السفور ويبدي محاسنه وفضائله وكيف أنه يحقق للمرأة ثقة وراحة لا يؤديها الغطاء الذي يعرقل مسيرتها ويثير الغرائز نحوها، ويفيض الانحراف الفكري على هذا النحو بشيء من السخرية أحيانًا، وهم يجهلون أن الحجاب باتفاق جميع الفقهاء هو من الأمور المشروعة المتفق على أنها من شريعة الإِسلام، فتفضيل السفور على الحجاب والطعن في الحجاب بهذه الطريقة هو في حقيقته إساءةٌ إلى شرع وطعنٌ في سنَّة وتعدٍّ على حكم شرعي على أي قول فقهي كان، ولم يكن الخلاف الفقهي في يوم من الأيام يسير في هذه المسألة على خطِّ الإشادة بالسفور والطعن في الحجاب؛ لأن هذا من العدوان على السنن، وهم من أشد الناس انتصارًا لها. أترون أن خلاف الفقهاء في سنية صلاة الجماعة في المساجد -مثلًا- يبيح لأحد أن يطعن في مرتادي المساجد ويتهمهم بالتخلُّف والجمود في مقابل من يصلي في بيته من المتحضرين والمعتدلين! فهل يخرج مثل هذا من منبع فقهي صافٍ؟

• يغطي المنحرف حقيقة فكره في منبع هذا الخلاف الفقهي فيدعو إلى (منع)

ص: 14

حجاب الوجه ومحاصرته، ويسعى لمحاربته وسن القوانين المجرِّمة له، وتضيق نفسه ذرعًا واشمئزازًا من رؤية المنتقبات، ويستغرب -بعد كلِّ هذا- من تشنيع الناس عليه في هذه الممارسة وهو يظن أنه يسبح في المحيط المائي للخلاف الفقهي، وما شعر ببقعة السواد الضخمة التي تحيط بما حوله تكشف عن حجم الجراثيم التي يحملها حين يدعو إلى تجريم الشريعة والتبرُّم منها ومن القائمين بها كراهيةً، يخشى أن يكون معها ممن قال المولى فيهم:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].

• يرى (المنحرف) بعيني رأسه التهاون الكبير في أمر الحجاب، وتمر عليه يوميًا صور التفسخ والتعري في القنوات والصحف والأماكن التي يعمل أو يدرس فيها، فلا ينبس فيها بحرف ولا يتحرك فيه شيء، بينما يسطِّر المقالات والدراسات التي يرجح فيها القول الفقهي بجواز كشف المرأة لوجهها وكفيها بناء على الأدلة الشرعية كما يعتقد؛ فهل غدا (الفقيه) متحمِّسًا لنشر رأي فقهي أكثر من حماسته لإنكار المنكرات المجمَع عليها وتصحيح المفاهيم القطعية التي كثر التهاون فيها، أم أنَّها بقعة سوداء!

• تتفجَّر ينابيع الحماسة في أنامل هذا المنحرف على إشهار القول الفقهي بأن وجه المرأة وكفيها ليس بعورة، بينما لا يفكر أن يذكر اتفاق الفقهاء على أن ما عداهما فهو عورة وواجب الستر بالقطع واليقين، ولا يريد أن يجهد فكره ليعلم أن وجود خلاف في كشف الوجه والكفين لا يسوغ أن يقف مبررًا للفساد والانحراف الذي تجاوز هذا بكثير، ولا يستوعب العقل الفقهي أن يفهم حالة من

ص: 15

يقف في وجه إنكار التكشُّف والتبرُّج الفاضح بدعوى جواز كشف الوجه!

• عاش الفقهاء رحمهم الله قرونًا وهم يتداولون هذه المسألة الخلافية، في جوٍّ معظِّم للحجاب ولمقاصده، داعٍ للحفاظ عليه وسدِّ الذرائع الممزقة له، مشيعٍ لأحكام الشريعة المتعلقة بصيانة المرأة من تحريم الخلوة والاختلاط ووجوب الحجاب وغضِّ البصر والنهي عن التزيُّن والخضوع في القول والأمر بالقرار في البيت، وعاشت هذه المسألة في قلوب حيَّة تألم من أي انحراف أو فساد يصيب بعض نساء زمنهم، غير أن هذا كله تبخَّر ولم يبق منه على السطح إلا (كشف المرأة لوجهها وكفيها) فجاء بها من أقصى الخلاف الفقهي يسعى فرحًا بضالته.

ومهما حاول المنحرف أن يبدي الوجه الفقهي المشرق في عرضه لهذه القضية فإن بشرة الانحراف الداكنة لابد وأن يعلوها تلك الندبات السوداء التي لا تصبر طويلًا أمام أشعة الشمس الطاهرة.

هذا مجرد مثال، ولست بحاجة في خاتمته أن أشدد التأكيد على أن مقصود الحديث فيه هو تسليط الإضاءة النقدية على ممارسات المنحرفين في التستر خلف بعض الاختيارات الفقهية، وليس غضًّا من قولٍ فقهي، ولا طعنًا في فقهاء أجلَّاء أو لمزًا لمن يختار هذا القول الفقهي أو ذاك لاجتهاد يثاب عليه في كل حال.

وهكذا، اختبر كلَّ خلاف فقهي يسوقه (منحرف فكري) في أي مسألة كانت، وستجد البقع السوداء طافية على سطحه، ومهما حاول أن يسترها بكلِّ ما أوتي من براعة وسلاسة لفظية واحترازية فإن هذه البقع السوداء تأبى إلا الظهور؛ ليعلم المسلم أنه أمام خلل فكري وليس خلافًا فقهيًا.

ص: 16