المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ولا تهنوا. . . في طريق المطالبة بتحكيم الشريعة - معركة النص - جـ ١

[فهد العجلان]

الفصل: ‌ولا تهنوا. . . في طريق المطالبة بتحكيم الشريعة

‌ولا تهنوا. . . في طريق المطالبة بتحكيم الشريعة

يميل بعض الإسلاميين الفضلاء إلى تصوير (تطبيق الشريعة) في النظام الإسلامي بما يتوافق مع كيفية تطبيق القوانين في النظم السياسية المعاصرة؛ وذلك من خلال أن يتفق الناس باختيارهم على دستور للحكم هذا الدستور بما يكفل عدم مخالفة أي قانون داخلي لنظام هذا الدستور.

ولو وقف الأمر عند هذا الحد لأمكن إيجاد مخرجٍ لهذا التخريج يهوَّن فيه من أمر هذا الخلاف؛ غير أن محاولة تكييف تطبيق الشريعة بما يتلاءم مع النظام الديمقراطي المعاصر جعل تطبيق الشريعة ليس إلا مادة من موادِّ الدستور يجري عليها ما يجري علي أي مادة أخرى من إمكانية الحذف والتعديل والتقييد، ومن كون المشروعية والقوة فيها تعتمد على كونها رغبة الناس وإرادتهم لا كونها شريعة من رب العالمين، وأن الشريعة لا يمكن أن تُحكَم إلا بعد تعاقد الناس ورضاهم لأن الإرادة للأمة فلا تُكرَه على شيء لا تريده.

ص: 32

من الصراحة المهمة أن نقول: إن مثل هذا التخريج هو من قبيل لَيِّ الشريعة وتطويع أحكامها بما يجعلها متلائمة مع الثقافة الغربية المعاصرة، ولئن كان التطويع في زمن مضى حاضرًا بقوة في قضايا (المعجزات) و (الأمور الغيبية) لتعارُضها مع المنهج المادِّي الغربي فإن أعراض هذا الوهن قد انتقلت إلى جهة أخرى، من خلال تطويع الأحكام الشرعية بل والشريعة كلها بما يتوافق مع سطوة الثقافة الغربية المعاصرة في قضايا الحقوق والحريات المدنية.

إن هذا التفسير وإن أغتر به بعض الإِسلاميين إلا أنه مناقض للشريعة ومعارض لأصولها؛ فليس لنا خيار في تطبيق الإِسلام حتى ننتظر به رأي أقليَّة أو أكثرية؛ فمن يرفض الإِسلام هو خارج عن دائرته فلن تكون أحكام ديننا متوقفة على إرادته، وقد بذل الصحابة مُهَجَهُم ودماءهم في سبيل فتح البلاد لنشر الإِسلام ولم تتوقف الفتوحات في يوم من الدهر لمعرفة رأي الناس وهل يقبلون بدخول جيوش الإِسلام أم لا؟ بل إن علماء الإِسلام متفقون على أن الطائفة التي تمتنع عن حكم شرعي واحد فإنها تقاتَل حتى تلتزم بالإِسلام، (1) فلم يكن لأي طائفة خيار على ترك حكم شرعي واحد ولو اتفقت عليه كلها، وسياق الدلائل الشرعية في بطلان هذا التصور يطول.

إنَّ مثل هذا التخريج وإن بدا متلائمًا بعض الوقت ومقنعًا لبعض المخالفين إلا أن له أثرًا سلبيًا بالغ السوء في إثخانه بالأحكام الشرعية وتهوين قدرها في قلوب المسلمين، وذلك من جهات كثيرة، من أبرزها:

(1) قد حكى الإجماع في هذا شيخُ الإِسلام ابن تيمية في مواضع متفرقة من الفتاوى، انظر: 28/ 356 و 468 و 510 و 545 و 557.

ص: 33

أولًا: أن الشريعة حين تحكم الناس (على هذا التفسير) فليس لكونها شريعة من رب العالمين وإرادة من الحي القيوم؛ وإنما مستنَد ذلك كونها رغبة الناس وإرادتهم؛ فالواجبات الشرعية من إقامة الشعائر ورفض الخمور والفواحش والربا. . . لا تستمد سلطتها من كونها أمرًا شرعيًّا، بل تستمد شرعيتها من خلال رضا الناس ورغبتهم، وهذا هو تفسير آلية عمل الدستور في النظم السياسية المعاصرة، وفي هذا من تهوين الأحكام ما يهزُّ ضمير أي معظِّم لنصوص الشريعة.

ثانيًا: وإذا كانت الشريعة إنما تحكم لإرادة أكثرية في الدستور، فبإمكانهم أن يرفضوها من خلال الطريقة نفسها؛ فالدستور ليس شأنًا جامدًا لا يتغير، بل هو قابل للتغيير والتعديل، وحينئذٍ سيكون بقاء الشريعة في النظام الإِسلامي مرتبطًا برضا وإرادة الأكثرية من الناس وليست أمرًا ثابتًا وضروريًّا، وهذه ثغرة مهولة في أساس هذا التفسير ولازم شنيع، وقد دافع عنها أصحابها بأنَّ إجراءات تعديل الدستور تبدو معقَّدة وطويلة بعض الشيء ولا يمكن للناس أن يتفقوا على تغيير مادة تطبيق الشريعة. . . إلخ، والجواب عنه أن يقال: إن مجرد القول بأن حكم الشريعة مما يمكن أن يعاد النظر فيه هو جريمة لا تحتمل، فليس لمسلم في الشريعة أن يختار في أي حكم شرعي {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فلا خيار للمؤمن في أي حكم شرعي؛ فكيف يكون له الخيار في ترك الشريعة بأكملها؟ فليس لأي مؤمن أحقية اختيار الحكم الشرعي حتى ولو كان سيختار الإِسلام؛ لأن إيمانه باللَّه يجعله منقادًا ومختارًا لأوامر اللَّه؛ فالميثاق بهذه الطريقة قائم على (إقرار) بجواز تغيير الشريعة إن أراد الناس ذلك، وهذا شرط باطل وشنيع، وحتى لو كان مثل هذا بعيدًا، فالدخول في العقود الدنيوية المحرَّمة باطل لتضمُّنه رضًا بمحرم؛

ص: 34

فكيف حين يكون العقد مجيزًا لتعطيل الشريعة بأكملها!

ثالثًا: وحين ترفض الأكثرية تطبيق حكم الإِسلام فإن هذا التفسير يحترم لهذه الأكثرية إرادتها ويسلِّم لها ما تريد، وهذا لازم شنيع يتحاشى كثيرًا الحديث عنه، وإن كان قد التزم به آخرون، فجعلوا النظام السياسي الإِسلامي بهذا يقوم على اعتبار أقوام قد حكم اللَّه على من فعل دون فعلهم بالكفر، فمن يستنكف عن التحاكم إلى الشريعة كافر بنص القرآن؛ فكيف بمن يرفض الشريعة كلها {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]؟

وقد يقال هنا بأن الأكثرية إذا رفضت الحكم بالشريعة فلا يكون بإمكانك أن تحكم بالشريعة؟ وجوابه: أن الواجب متعلق بالقدرة والاستطاعة، فإذا لم يتمكن المسلمون من الحكم بالشريعة فهم معذورون، وهو شيء خارج عن موضوعنا. غير أنَّ أصحاب هذا التفسير يرفضون الحكم بالشريعة على خلاف رغبة الأكثرية لأنَّ هذا ينافي حريَّة الاعتقاد وحق الاختيار ويؤسس للنزاع والخلاف، وهو ما يعني أن حديثهم متجه إلى تطبيق الشريعة في وضع الاستطاعة والقدرة، فلما اعترض عليهم بخطورة مثل هذا الرأي استدلوا بوضع الضرورة!

وهاهنا مغالطة كبيرة لابد من الوقوف عندها قليلًا، وهي تصوير التصويت الذي يجري في النظام الديمقراطي حين يغلب طرف طرفًا وكأن الطرف الغالب هو رأي الأكثرية التي لا يمكن إكراهها أو فرض ما يخالفها إلا بحرب وفتنة، وأنهم حين يرفضون الإِسلام فالأولى دعوتهم للإسلام لأن المشكلة حينئذٍ من الناس؛ فالمغالطة هنا ظاهرة لأن سقوط الشريعة في التصويت لا يعني رفض الناس للشريعة، بل إن في الدستور من الصياغات القانونية ما لا يفقهه أكثر الناس

ص: 35

فحين تسقط الشريعة في التصويت فليس معناه أنك أمام شعب يرفض الإِسلام، كما أن هذا التصويت يتأثر بشكل كبير جدًا بالحملات الإعلامية التي تشوِّه الصورة وتلبِّس على الناس، كما أن الأكثرية لا تعني أن أكثرية الشعب يرفض هذا، بل هي أكثرية المشاركين في العملية الانتخابية وهم في الغالب لا يشكِّلون أي أكثرية على الحقيقة.

ستعرف فداحة هذا الرأي على الشريعة حين تأتي بمثله في موضوع الحريات مثلًا، ما رأيهم لو أن مجتمعًا مَّا رأت الأكثرية فيه أن تنتهك حقوق الأقلية، وأن تضيِّق عليهم في حقوق المواطنة، وأن تجعلهم طبقة مختلفة عن الأكثرية، هل يجعلون مثل هذا قابلًا للتصويت؟ لماذا يتفقون على أن هذه القضايا خارجة عن التصويت ويدعمون أي رأي يحفظها من التصويت ولو كان من فرد ما دام أنه يحفظ الحقوق؟ فلماذا تكون الشريعة دون هذه الحريات؟

رابعا: أن أحكام الشريعة وأصولها تكون محترمة على هذا لمجيئها في الدستور؛ فاحترامها وتقديرها من احترام وتقدير الدستور، فهي من جنس المواد والقوانين المنصوص عليها في الدساتير مما هو من شؤون الإدارة والمعيشة الحياتية، فليس لها من القوَّة والخصوص شيء يذكر، والحديث عن مكانتها وقدرها إنما يكون بناء على تعظيمنا للدستور؛ فعظمة الشريعة تابعة لعظمة الدستور لا العكس.

خامسا: وإذا كان تطبيق الشريعة راجعًا لإرادة الناس، فبالإمكان تصير الشريعة والتخفُّف من بعض أحكامها مراعاة لإرادة الناس التي كانت السبب في الحكم بالشريعة، فترك بعض أحكام الشريعة والتخفُّف من قوانينها التي

ص: 36

تصادم شهوات الناس هو من استلهام روح الدستور، وحينها فلن يتعرَّض لأصل الشريعة بالتغيير؛ وإنما سينال التغيير جزءًا كبيرًا من أحكامها لتتلاءم مع الذائقة المعاصرة في حريات الاعتقاد والدعوة وإقامة الشعائر والمساواة المطلقة والتخفُّف من أحكام الإلزام والمنع.

سادسا: أن النظم السياسية المعاصرة لم تجعل للأكثرية إرادة مطلقة؛ لأن استبداد الأكثرية أشد عنفًا وطغيانًا من استبداد الفرد الذي يحاربونه؛ ولهذا قيَّدوا إرادة الأكثرية بجملة من الحقوق التي لا يجوز للأكثرية أن تمسَّها ولا أن تسنَّ فيها قوانين تنافيها؛ فالحريات والمساواة وحقوق الأقلية والمواطنة وغيرها حدود مُحكَمَة لا يمكن لإرادة الأكثرية أن تتجاوزها؛ إذن فإرادة الأكثرية لا تعمل في فضاء مطلق، بل هي مقيَّدة بأصول فكرية محددة؛ فعجبًا لماذا يضعف بعض الإسلاميين عن المطالبة بأن تكون الشريعة من الحدود التي لا يجوز المساس بها؟

لماذا لا يطالبون -على أقل الأحوال- بتحكيم الشريعة من خلال إرادة الأمة، فيقررون أن الأمة دينها الإِسلام ولن تختار غير الإِسلام فيطالبوا باختيار الناس وأن الإِسلام هو خيارهم بلازم كونهم مسلمين، ما حاجتهم لأن يعتقنوا مثل هذه التأصيلات المضللة؟ لماذا يتصور البعض أنه لابد أولًا من إعطاء الناس الخيار المطلق ثم بعد ذلك المطالبة بتطبيق الشريعة؟

سابعا: أن القول بأن المجتمعات المسلمة ستختار الإسلام لا يساوي القول بأن الشريعة هي الحاكمة ابتداء كما سبق من الأوجه، وفيها أيضًا إشكالية أخرى، وهي أن مجرد الاعتراض على الشريعة وحكمها هو فعل مجرم في النظام السياسي

ص: 37

الإِسلامي، وهي ورطة لا يمكن أن يتخلص منها من خلال هذه الديمقراطية الملفقة، فإذا استطعت أن تصل إلى حكم الإِسلام من خلال الديمقراطية فإنك لن تستطيع أن تمنع الآخرين من رفض الإِسلام ونقد حكمه، أو المطالبة بإزالة مادته من الدستور، فوجود المادة في الدستور لا يمنع من نقدها وأحقية المطالبة بإزالتها وهو حق تكفله النظم المعاصرة لكونه ينسجم مع ثقافتها لكنه لا يمكن أن يكون مقبولًا في النظام السياسي الإسلامي.

ثامنا: إذا كانت الديمقراطية ليست سوى وسائل إجرائية لحفظ الحقوق وتقييد صلاحية السلطة ومراقبة أدائها، فإن القول بأن الأكثرية حين تريد غير حكم الشريعة فلها الحق في ذلك يشكك في الموضوع برمَّته؛ فالتمسك برأي الأكثرية حتى ولو رفضت الإِسلام يجعل الموضوع ليس إجرائيًا فحسب، بل فلسفة عميقة تقوم على مبادئ ومنطلقات منافية للشريعة، فالنشاط الفكري الذي يسعى إلى (أسلمة) الديمقراطية بجعلها مجرد أشكال إجرائية يسقط في الامتحان سريعًا حين يتمسَّك برأي الأكثرية حتى ولو خالفت الشريعة؛ فهذا لا يمكن أن يكون مجرد إجراء.

تاسعا: حقيقة الإشكال ليست مع المشاركة في العملية الديمقراطية لتحقيق أرجح المصلحتين ودرء أشد المفسدتين؛ فهذه حالة اجتهادية تقديرية يُسلَك فيها ما يكون أنفع للإسلام والمسلمين، إنما الإشكال هو في التصور الفاسد الذي سبق الحديث عنه وهو أمر خارج عن المشاركة ومختلف عن ظروف الحاجة؛ فالضرورة والحاجة لا تدفع المسلم إلى الرجوع للمفاهيم بالتحريف والتأويل لأن لها أحكامها الخاصة.

ص: 38

قد كان الواجب أن يكون تعظيمهم للشريعة وتطبيق أحكامها أعظم في نفوسهم من ضمان مجيء الحكم بالإِسلام على وَفْقِ النظريات السياسية الغربية، وبإمكانهم أن يقرروا التحاكم إلى الدساتير مع جعل الشريعة سلطة عليا فوق الدساتير، فيكون لإرادة الناس وضع ما يريدون في الدساتير، وتكون الشريعة وأحكامها فوق هذه الدساتير وحاكمة عليها، وهي سياسة موجودة حتى في النظم السياسية المعاصرة التي تقرر حق الأغلبية في اختيار النظام السياسي الذي يريدون، وتقرر في الوقت نفسه أن ثَمَّ أصولًا ومبادئ في تفاصيل حقوق الإنسان وحرياته ترفض أن يقوم أي دستور على معارضته، فمن المرفوض تمامًا في الثقافة الديمقراطية المعاصرة أن يقوم دستور على انتهاك أي حقٍّ من حقوق الإنسان أو حرياته على وَفْقِ المعيار الغربي، أيكون قدر الإِسلام في قلوب أتباعه دون قدر حقوق الإنسان لدى أولئك الغربيين!

ص: 39