المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحلقة المفقودة في لقاء ثقافي عام قدَّم صاحب الورقة عددًا من - معركة النص - جـ ١

[فهد العجلان]

الفصل: ‌ ‌الحلقة المفقودة في لقاء ثقافي عام قدَّم صاحب الورقة عددًا من

‌الحلقة المفقودة

في لقاء ثقافي عام قدَّم صاحب الورقة عددًا من الأفكار والرؤى المتعلِّقة بالشأن العام، تحفَّظ بعضهم على بعض هذه الأفكار وطالب بأهمية أن تدرس لضمان التزامها بأحكام الإسلام؛ إذ رأى فيها تجاوزًا لبعض أحكامه، فما كان من مقدِّم الورقة إلا أن فتح فمه بحديث طويل ملأه بقائمة من الكلمات الآتية:

(هذه أحكام خلافية، قضايا ظنية غير قطعية، هو فهمك للنص، هذه متغيرات وليست ثوابت).

الذي لفت نظري في كلامه أنه لم يكن -كما يظهر- يعرف أساسًا بوجود إشكالات على تقريره، فلما نبه بها أخرج لها هذه المقطوعة المألوفة، وقد كان الموقفي السليم أن يوقف نفسه قليلًا ويقول: لعلي أتاكد أو أبحث أو أسال حتى أزيل هذا الإشكال.

مثل هذا الكلام يعني أن أحكام الإسلام ليست ملزِمة لأحد ولا حاكمة على

ص: 137

أحد، فاختر أي قول تراه ثم قل:(خلافيٌّ) و (ظنيٌّ) و (متغير) و (اختلاف في الفهم) وينتهي حينها الموضوع!

نعم، في الشريعة مساحة واسعة للقضايا الظنية، وفيها خلاف فقهي كبير، وتتضمن متغيرات عدَّة، ويقع فيها اختلاف في الفهم والتأويل وتحوي مدارس مختلفة فيه، لكن هذا لا يعني أن يتوقَّف التذكير بضوابط الشرعية ويتعطَّل الإلزام بها:

أولًا: لأن الشريعة ليست كلها ظنية وخلافية ومتغيرة، بل ثَمَّ مساحة للقطعيات والمتفق عليها في الشريعة، وحين يبادر الشخص فيتعلق بحبل الظنيات والخلافيات مباشرة لتجاوز أي إشكال يرد عليه فإنه سيتعلق به مرة أخرى في القطعيات والمجمَع عليها في ما بعد، حتى تلاحظ بجلاء أن كافة الرؤى المتضمنة انحرافًا صريحًا تقول دائمًا حين تذكَّر بالشريعة: هذه مساحة خلافية وظنية!

الثاني: أن وصف القضايا بكونها (ظنية) أو (خلافية) لا يعني أنها أصبحت مرسلة وفارغة وغير ملزمة، أو أنها مساحة اختيار من متعدد ينتقي منها الإنسان ما يشاء، أو يختار من واقعه وفكره ما يروق له ويصبح في حِل من نصوص الشريعة وأحكامها ما دام فيها خلاف أو ظن!

ليست هذه منهجية مقبولة في الشريعة، فإذا كان ثَمَّ خلاف وظن في كثير من أحكام الإسلام فإن ثَمَّ منهجًا قطعيًا مجمعًا عليه في كيفية التعامل معه، هو أن يبذل الإنسان جهده ويسعى للوصول لأرجح ما يعتقد من خلال منهجية علمية موضوعية تتقصَّد الكشف عن مراد اللَّه قَدْر الطاقة {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فالتنازع يذهب به إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هو إشارة

ص: 138

عفو أو إرشاد إلى الاختيار المفتوح.

فلا يكفي أن تأتي برأي ثم تقول: (ظني) أو (خلافي)، حدثنا كيف توصلت إلى هذا الرأي؟ ما المنهجية التي سلكتها لاختيار هذا القول؟ ما الطريقة والآلية المتبعة عندك في القضايا الحلافية والظنية؟ فالعلماء وطلاب العلم وعامة الناس لهم منهجية في التعامل مع المسائل الظنية والخلافية؛ فما هذه المنهجية التي يسلكها مثل هذا المتحدث؟

معرفة هده المنهجية تضع فى يدك فائدتين:

الفائدة الأولى: أن تعرف مدى موافقة هذه المنهجية للشريعة؛ فحين يقول أحد: إن منهجه هو الاجتهاد والموازنة بين الأدلة لكونه عالمًا ومجتهدًا فهذا منهج سليم ومنضبط، أو يقول: إن منهجه اتباع المذهب الفلاني الذي يثق فيه وفي اختياراته فهذا منهج سليم ومنضبط، أو يقول: أتبع علماء البلد الذي أنا فيه لكوني أراهم أوثق علمًا ودينًا فهذا منهج سليم ومنضبط. فمعرفة المنهج يخلِّص المنهج الشرعي من المناهج العبثية الفوضوية كمثل من يقول: منهجي أن اختار الأسهل! أو أن اختار ما أشاء! أو أختار ما هو أقرب للواقع وأكثر ملائمة له، أو ما يكون متوائمًا مع متطلبات الحداثة!

فالقضايا الظنية والخلافية هي الدائرة الأوسع في الشريعة الإسلامية ولا يمكن أن تكون قضايا مهملة يختار الشخص ما يشاء وينتقي ما يشاء؛ وإلا ما فائدة وجودها من الأساس؟ ولماذا أنفق العلماء أعمارهم في تحريرها وتفصيلها وبيان دلائلها ما دامت مجرد قائمة اختيارات متساوية يختار الشخص الأسهل والأجمل والأقرب؟

فهذه منهجيات مخالفة لقطعيات الشريعة، وتؤدي لتعطيل الشريعة وتجعل

ص: 139

نظر المسلم ليس إلى الشريعة بل إلى التخلُّص من قيودها، حتى ولو كانت في مسائل خلافية فالخلاف لا يلغي ضرورة اتباع الشرع.

الفائدة الثانية: أن نحاكم آراء هذا القائل إلى منهجه؛ فما دام أنه اختار منهجًا معينًا فيجب أن تكون آراؤه منطلقة منه، فلا بد أن تكون هذه الآراء مبنية على منهج صحيح وليست آراءً مشتتة مقطَّعة لا يجمعها أي جامع؛ وإنما يختار لاعتبارات غير شرعية ثم يظن أنها شرعية!

وثَمَّ فائدة أخرى تزيد على هاتين الفائدتين: هي أن يحفظ الإنسان أصوله القطعية وأحكامه المجمَع عليها؛ فالتهاون مع الظنيات سيضعف الثقة في القطعيات تدريجيًا؛ لأن الشخص حين يرتفع صوته دائمًا بـ (فيه خلاف)، فإن هذا الصوت لن ينقطع حين لا يكون في المسألة (خلافًا)، بل سيتردد الصوت ذاته في المسائل القطعية والمجمع عليها في ما بعد، ولن يبالي بذلك حينها لأنه عوَّد نفسه أن لا يلتفت إلى الأحكام الشرعية ما دام فيها خلاف، وحدود الخلاف ليست معلومة له دائمًا، فحين يعتاد أن لا ينظر في الشريعة إلا في ما بعد فإنها ستكون ثقيلة ومزعجة وسيجد أي تأويل لها مخرجًا مريحًا ومقبولًا؛ ولهذا -ومن واقع ملاحظة شخصية- وجدت أن كثيرًا ممن يقول:(فيه خلاف) وهذه مساحة (ظنية)، هو ذاته حين تأتي القضايا القطعية يقول لك:(كيف عرفت أنها قطعية؟) و (كلُّ يظن أن رأيه قطعي!) فيتهاون في المساحة الظنيه لأنه مستمسك بالقضايا القطعية، ثم صار يشك -أصلًا- في وجود القضايا القطعية التي هو مستمسك بها!

يأتي بعضهم فيقول: من الضروري مراعاة المتغيرات التي تؤثر في الأحكام الشرعية فليس كل ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكون ملزمًا لنا الآن لتغيُّر الحال.

ص: 140

فهذا كلام فيه حق، وفيه باطل كثير أيضًا، وهنا تأتي أهمية تحديد المنهج؛ فما المنهج لمعرفة المتغير والثابت في أحكام الإسلام؟ وما هو المتغير والثابت مما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهذا الكلام يقوله أشدُّ العلماء تمسُّكًا وتعظيمًا لأحكام الإسلام ويقوله أشدُّ العلمانيين تفلُّتًا وانحرافًا عن أحكام الإسلام.

ويأتي آخر فيقول: ليس كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم يكون تشريعًا فثم أمور ليست تشريعية.

لا بأس، السؤال المهم: ما الضابط لمعرفة التشريعي من غير التشريعي لديك؟ فهذا الكلام قد يكون كلامًا أصوليًا دقيقًا منضبطًا وقد يكون تحللًا وتفلتًا من قيود الشريعة، والفارق بينهما هو في معرفة المنهج الذي سيسلكه الشخص في معرفة السنة التشريعية من غير التشريعية.

تحديد المنهجية يفتح العين على ظاهرة فكرية شائعة في زمننا، ظاهرةِ من يأتي بالأقوال المنبتَّة التي ليس لها امتداد فقهي ولم تخرج من البيئة الشرعية فيتمسك بها بدعوى أن فيها خلافًا وأنها ضمن المساحة الخلافية أو المتغيرة، والحقيقة الظاهرة أن القول لم يأتِ من قراءة فقهية، بل من إسقاط خارجي على الفقه، حاول بعده أن يكسِّر في أبنية الفقه ومذاهبه وأقواله حتى يجد لهذا الدخيل مكانًا مناسبًا يجلس فيه فوقع بسببه في إشكالات أكبر.

مثلًا: ينفي وجود حدِّ الردة في الشريعة الإسلامية متأثرًا بضغط مفاهيم الحريات المعاصرة وأسئلتها فيحاول أن يبحث لها عن مذهب هنا أو قول هناك لكنه يصطدم بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينه فاقتلوه"(1) فيتملص منه بأنه

(1) أخرجه البخاري: 9/ 15، برقم 6922.

ص: 141

حديث آحاد، أو ليس سنة تشريعية، أو كان لظرف زمني معين. . . إلخ، وهكذا يدخل في منهجيات مضطربة حتى يستقيم له إسكان هذا الفرع الفقهي الدخيل؛ فهل من منهجك أن ترفض الحديث الآحاد؟ وما هي السنة التشريعية من غير التشريعية لديك؟ وما هي المتغيرات التي تؤثر في الحكم؟ إنها أسئلة منهجية لن تجد لها جوابًا محررًا لأن هذا القول لم يخرج من منهج فقهي أساسًا.

إنها (الحلقة المفقودة) في كثير من القضايا المعاصرة، تضع يدك عليها حين تبحث عن المنهج وآلية التفكير التي يسير عليه الإنسان في القضايا الخلافية والظنية، وفي منهجية ومستندات الأقوال التي يتبناها، وربما تُصدَم حين تجد الحلقة المفقودة التي وضعت يدك عليها هي المنهج ذاته؛ حيث إن الأمر كثيرًا ما يكون بمنهج مضطرب أو بلا منهج وطريق واضح من الأساس.

ص: 142