الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقض دعاوى من استدل بيُسر الشريعة على التيسير في الفتاوى
للدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب
الطبعة الأولى
1423 للهجرة - 2002 للميلاد
تقديم
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وبعد:
ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء، عمَد بعض الميسِّرين إلى تكلّف إيجاد مرجعيّة شرعيّة، وتأصيل منهجيّة فقهيّة فجّةٍ، تعمَد إلى ما في نصوص الوحيين، وكلام السابقين، من أدلّة على أنّ الدين يُسرٌ لا مشقّةَ فيه، وتتذرّع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب، والإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة، إلى حدٍّ يبلغ حافّة الإفراط، ويخشى على من وَقَعَ فيها أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها، أو القول على الله بغير علم، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله ورسوله.
وقد تأمّلت أدلّة القوم النقليّة، فإذا هي آيات مُحكمات، وأخبار صحيحة ثابتة، غير أنّي لم أجد فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه، بل بعضها يدلّ على خلاف مذهبهم، ورأيت من المناسب بيان ما بدا لي في هذا الباب على عُجالةٍ، في هذه المقالة الوجيزة، من خلال مقصِدَين وخاتمة.
المقصد الأوّل
نصوص التيسير من الكتاب والسنّة
استدل دعاةُ التيسير بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير ورَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي، كقوله تعالى:
(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185].
وغفلوا عن الآية التي قَبلَها، وفيها رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم، وهو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها:) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ([البقرة: 184].
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر ويَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.
قلتُ: وهذا من قبيل النسخ بالأشد، وهو من التشديد وليس من التيسير، في شيءٍ، فتأمّل!
ومثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، متغافلين عن صدر الآية ذاتها، وهو قوله تعالى:) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ (مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد والتكليف به، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه، لا بآراء المُيَسّرين.
ومن هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأبو داود في سننه ، وأحمد في مسنده، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها، قَالَتْ:(مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَاّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ).
وما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه، ومسلم في الجهاد والسير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يَسِّرُوا ولَا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولَا تُنَفِّرُوا» .
وفي روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب: «يَسِّرُوا ولَا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولَا تُنَفِّرُوا» .
وروى مسلم وأبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: «بَشِّرُوا ولَا تُنَفِّرُوا ويَسِّرُوا ولَا تُعَسِّرُوا» .
قلتُ: جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين، وكثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر ونفي الضرر، ورفع الحَرَج، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه، وحمّلوه ما لا يحتمل، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً، وفيما يلي نقضُ غَزلهم، وكشف شبههم إن شاء الله:
أوّلاً: ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر والتيسير، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة، ومقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب والسنّة، وأنزله النبيّ صلى الله عليه وسلم والسلفُ الصالحُ منزلَتَه، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر، ويعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً، وهذا مَوطِنُ الخَلل.
ثانياً: إن اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ:
النكتة الأولى: أنَّ الاختيار واقع منه صلى الله عليه وسلم فيما خُيّر فيه، وليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به، هو أو أمّته، ومثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان، وتكبيرات العيد، وما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما.
والثانيّة: تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً، ولا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح، أو تعطيل (ومن باب أولى رد) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء.
والثالثةُ: أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين، وهذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا، وقدّ أمِرنا بالردّ إليهم، ومنهم الحافظ ابن حجر، حيث قال رحمه الله في الفتح: (قولُه بين أمرين: أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها
…
ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح، وأمَّا من قبل الله ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين) [فتح الباري: 6/ 713].
والنكتة الرابعة والأخيرة: أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم الأشقَّ على نفسه، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال الحافظ في الفتح:(لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً، وبين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له)[فتح الباري: 6/ 713].
ثالثاً: لا تكليف بدون مشقّة، وإن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه، وهي متفاوتة، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة
قال الشاطبي رحمه الله: (المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً)[الموافقات: 2/ 128].
وقال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله: (لو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية)[إعلام الموقعين 2/ 130].
وقال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر: (إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها، فإن كانت مشقة مرض وألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر والصلاة قاعداً أو على جنب، وذلك نظير قصر العدد، وإن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا والآخرة منوطةٌ بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومَنِّه)[إعلام الموقعين 2/ 131].
قلتُ: فمن آثر الراحة والدعةَ في مقام الجدّ والنصَب، فقد خالف الصواب، وغَفَل عمّا أريد منه، وما أنيط به، ولو كان في البعد عن الجدّ والجَهد في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار، لما قال تعالى لخير خلقه، وأحبّهم إليه:(فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ)[الانشراح: 7].
رابعاً: ما ورد في التحذير والتنفير من التشديد والتعسير والمشاقّة والتنطّع، والتعمّق - وما إلى ذلك - على النفس والغير، لا يدلُّ على التخيير (أو التخيُّر) في الأحكام الشرعيّة، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في مواضع كثيرة، ولأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق، فضلاً عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع ونحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع، كالوصال في الصيام، فهو ممّا نُهي عنه، وإن كان مقدوراً عليه بدون مشقّة، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى وإن ثبتت مشقّته، ما دام مقدوراً عليه، وقد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ الأصل في التكليف، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: (التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، ولا مستحب، بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارةً باتخاذ ما ليس بمُحرَّم، ولا مكروه، بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وعُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شَدَّد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، وإن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك، متأولين معذورين، أو غير متأولين ولا معذورين)[اقتضاء الصراط: 1/ 103].
وقال ابن القيّم رحمه الله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقدر، وإمَّا بالشَرْع؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم، فشُدِّدَ عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفةً لازمة لهم)[إغاثة اللهفان: 1/ 132].
ولا يقال: إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر، ولا من الأيسر إلى الأشد، باضطراد، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً، وهذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول، والأمثلة عليها كثيرة من الكتاب والسنّة، ومن استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ، وهو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما ذهَب إليه دعاة التيسير، ومؤصّلوه في هذا الزمان.
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه.
ونحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد، حيث كان مباحاً على الأصل، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه على نفعه، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب، وحدُّ شاربه في السنّة.
وكذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان واليد، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً، ثمّ الجلد للبكر (والتغريب في بعض المذاهب)، والرجم للمحصن.
ونحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر، ثمّ الإذن فيه، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة.
والأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من الأيسر إلى الأشدّ كثيرة، ولو أردنا تتبُّعَها، وذِكرَ أدلّتها وما يتفرّع عنها من مسائل وأحكام، لطال بنا المقام، قبل أن نصير إلى التمام (1).
وهذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون، يسَّر الله لنا ولهم سُبُلَ الهدى، ووقانا مضلات الهوى وموارد الردى.
فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير، ظهر لنا الحق الصريح، وهو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح، ووجوب الردّ إلى الله تعالى ورسوله على وجه التسليم والقبول، والله أعلَم وأحكَم.
المقصِد الثاني
أقوال السلف في اختيار أيسَر المذاهب
تذرّع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف والأئمة المتّبعين بإحسان، من استحباب الأخذ بالرُخص.
ومن ذلك، قول قتادة رحمه الله:(ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم)[انظره في: تحفة المولود، ص: 8].
وقول سفيان الثوري رحمه الله: (إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التشديد فيُحسنه كل أحد)[آداب الفتوى للنووي، ص: 37].
وقول شيخ الإسلام ابن تيميّة: (إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك)[مجموع الفتاوى: 7/ 48].
وقول ابن القيّم: (الرخص في العبادات أفضل من الشدائد)[شرح العمدة: 2/ 541].
وقول الكمال بن الهمّام في التحرير: (إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء، وإن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل.
وكون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمّه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ ما خفّف عن أمّته).
وقول الشاطبي: (المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف، الحملُ على التوسط من غير إفراطٍ ولا تفريطٍ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين)[الموافقات: 4/ 285].
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به، أو غاب عنهم فأغفلوه.
ولو تأمّلنا ما أوردناه (ولا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة، فيقول:(ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم)(ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم)(ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم)، ولا يقول: رخِّصوا باستحسانكم، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم.
(1) كان التدرّج في التشريع في زمن الوحي، وانقطع بانقطاعه، حيث أكمَلَّ الله دينه، وأتمّ على عباده نعمته، فقال:(اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فليس لأحد بعد ذلك أن يجاري الشارع الحكيم سبحانه في التدرّج في تبليغ حكم الله تعالى، وحُكمِ رسولِه لحديثي العهد بالإسلام أو التوبة، إذ إنّ الأحكام قد استقرّت على ما قضى الله ورسوله، وبالله العصمة.
وابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام، وليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة، وإن ضَعُفَت حُجّته، ووَهت شُبهته.
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات، وهذا لا خلاف فيه، خلافاً لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام، ونفي الكراهة عن المكروه، وشتّان ما بين المذهبين.
وما يُروى عن سفيان رحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب، أو تحليل المحرّم، ولكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه، لا ليُسقِطه عنه، وذلك كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات، وأداء النذور ونحوها.
وما روي عن ابن عيينة، قال به غيره، ولكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره بالتمثيل له.
قال النووي: (وأما من صحَّ قصدُه ، فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها ، لتخليصٍ من ورطة يمينٍ ونحوها ، فذلك حسن جميل، وعليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا ، كقول سفيان: إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التشديد فيُحسنه كل أحد)[آداب الفتوى للنووي، ص: 37].
وننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح، في الحث على التمسّك بالعزائم، والتحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل، أضعاف ما روي عنهم في التيسير والترخيص، والعدل أن يُجمَع بين أقوالهم، لا أن يُسقَط بعضها، أو يُضرَبَ بعضُها ببَعضٍ.
وربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد والتيسير على النفس والغير، ومن أبرز تلك المعالم:
أوّلاً: تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره.
ولهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة، حيث أرشَد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ الناسَ في الصلاة، ويقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً، كما في الصحيحين وغيرهما.
ثانياً: عُرِف عن السلف الصالح، من الصحابةِ الكرام ومن بَعدَهُم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه، وهذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر، من التيسير فيما كثُر وقوع الناس فيه.
ومن ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه: (فلو أمضيناه عليهم) حينما حكمَ بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً، وأمضاه على الناس، لأنّهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة.
وكذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع، بعد أن فسدت الذمم وتغيرت النفوس.
ألا ترى أنّ عمرَ وعليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين، استحساناً، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً للتيسير، ومستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع، ورفعاً للحَرَج عن الناس.
ثالثاً: أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى، أو يقضي بالقضاء، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلاً وأقوَم سبيلاً، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند الله، وثبت عن رسول الله، وليس بالتيسير أو التشديد.
أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل: رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس: من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له، فقال: أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال:) وَأَتِمُّوُا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله ([البقرة: 196]، وأن تأخذ بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يحل حتى نحر الهدي).
والأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرزَ السابقين، وينحو نحوَهُم، فيقف عند الدليل، ويرجع إليه إن بلغه، ولو بعد حين، ولا يجد غضاضةً في أن يقول:(تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي)؟
رابعاً: كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ، فمنهم الميسِّر ومنهم المشدد، ولكن عن علم وبصيرة ودليل.
وكلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِسٌ
…
غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ
وإن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر، ولكنّ الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ الهُدى صلى الله عليه وسلم.
ويحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان: عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فقد كان (أحدهما يميل إلى التشديد والآخر إلى الترخيص وذلك في غير مسألة، وعبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك، وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد، وكان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وابن عباس كان يدخل الحمام، وكان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه، وضربةٍ لليدين إلى المرفقين، ولا يقتصر على ضربة واحدة، ولا على الكفين، وكان ابن عباس يخالفه، ويقول: التيمم ضربةٌ للوجه، والكفين، وكان ابن عمر يتوضأ من قُبلةِ امرأتِه، ويُفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً، وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يُتِمَّها، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها
…
والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط) [زاد المعاد: 2/ 47 و 48].
قلتُ: ومع كلِّ ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من التشديد ولزوم الأحوَط، لم يغمز قناته أحدٌ من السلف أو الخلف، ولم يصمه أحدٌ بوصمة التعسير، على وجه التخطئة والتنفير، بل غاية ما ذَهَبَ إليه مخالفوه هو عدَم موافقته في تشديداته، مع اعتبارها أمارةً على وَرَعه وحُسن اتّباعه، وعُذر مَن ذهبَ مذهبَه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مدارَه.
ولم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلاً عن تبريره أو تسويغ القول والعمل به.
قال أبو عبد الله الزركشي [في المنثور: 1/ 20، 21] وهو يُعدِّدُ أنواع التمني ويعرض حكم الشرع في كلٍّ منها: السابع: تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي
…
قال الإمام الشافعي في (الأم) وقد روى عن عمر: (لا يُسترق عربي) قال الشافعي رحمه الله: لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا، وكأنه أراد تغير الأحكام ولم يرد أن التمني كله حرام).
قلت: فلله درّهم ما أبرَّهم، وما أنبلهم حيث لا يسوّغون مجرّد كون الحرام حلالاً، فضلاً عن تسويغه، والإفتاء بحلّه، ولو كان بليّ أعناق النصوص، وحشد الشواهد والشواذ من كلّ رطبٍ ويابِسٍ، من زلاّت المتقدّمين، وهفولت المتأخّرين، وسقطات المُتابِعين.
إنّها والله الخشية من العَبدِ للمعبود، فمن أو تِيَها فقد أوتِيَ خيراً كثيراً، وهل العِلمُ إلاّ الخشية، وما مثل من كثر عِلمُه وقلّت خشيته إلا كمثل التاجر المدين، تكثر بين يديه العروض، ليس له منها شيء.
خاتمة
وبعد، فقد آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية، وهي جماع صفاة العالم الرباني، تسوقه إلى الحقّ، وتأطُرُه عليه أطراً.
قال صاحب الآداب الشرعيّة: (ونقل المروزي عن أحمد أنه قيل له: لمن نسأل بعدك؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق، فقيل إنه ضيق العلم فقال: رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق .... وقال الأوزاعي كنا نمزح ونضحك، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم
…
وروى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: إن الفقه ليس بسعة الهذر وكثرة الرواية إنما الفقه خشية الله
…
وقال الأوزاعي: بلغني أنه يقال: ويل للمتفقهين لغير العبادة ، والمستحلين المحرمات بالشبهات
…
وقال الشافعي رضي الله عنه: زينة العلم الورع والحلم، وقال أيضا لا يجْمُل العلم، ولا يحسن إلا بثلاث خلال: تقوى الله ، وإصابة السنة ، والخشية).
فما أحرى العاملين للإسلام؛ دعاةً وفقهاء ومُفتين إن يقفوا على الحقّ، ويقولوا به، ويردّوا عِلمَ ما اختُلِفَ فيه إلى عالمه.
لتكون السبيل محجّةً بيضاء؛ كتاباً وسنةً، مع سلامةٍ في الصدر والمنهج.
ففي ذلك السلامة، والنجاة من الندامة، وهذا غاية ما أردت بيانه في رسالتي هذه، باذلاً في طلب الحق وتقريبه للخلق وسعي، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإن أخطأتُ فمِن نفسي ومن الشيطان، واللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي، ويقيل عثرتي.
وأفوّض أمري إلى الله، إنّ الله بصير بالعباد
والحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وآله، وصحبه أجمعين
وكتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
(الملقّب بالشريف)
دَبْلِن (إيرلندا) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة
الموافق العاشر من يوليو (تمّوز) عام 2002 للميلاد