الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
…
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(المعروف) : اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والِإحسان إلى الناس، وكل ماندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسنات والمقبحات.
وهو من الصفات الغالبة: أي أمر معروف بين الناس، إذا رأوه لاينكرونه (1) . (والمنكر: ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهومنكر (2) .
ومن خلال هذا التعريف للمعروف والمنكر يتضح للناظر شمولية كل من المعروف والمنكر للشرع كله: أمره ونهيه، بمعنى أن المعروف يشمل كل ما أمر به الشارع، والمنكر يشمل كل مانهى عنه الشارع، وعلى هذا، فإن أل التعريف تفيد الاستغراق الذي يفيد العموم (3) . وباب الأمر والنهى لايختصان بجانب واحد من الحياة بل يعمان جميع جوانب الحياة كلها (4) . وقد فهم السلف الصالح رحمهم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك يقول ابن جرير:
"وأصل المعروف كل ماكان معروفا فعلا، جميلا مستحسنا غيرمستقبح في أهل الِإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله معروفا، لأنها مما يعرفه أهل الِإيمان، ولا يستنكرون فعله.
وأصل المنكر ما أنكره الله، ورأوه قبيحا فعله، ولذلك سميت معصية الله منكرا،
لأن أهل الِإيمان بالله يستنكرون ويستعظمون ركوبها (5) .
ويقول عند تفسيره لقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف) آل عمران 104.
يقول: (ولتكن منكم) أيها المؤمنون (وأمة) يقول جماعة، (ويدعون) الناس (إلى الخير) ويعني الِإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، (ويأمرون بالمعروف)
(1) النهاية في غريب الحديث (3/ 216) .
(2)
المرجع السابق (5/ 115) .
(3)
التنوير والتحرير (4/ 40) .
(4)
انظر الأمر بالمعروف والهي عن المنكر للعمري ص 52. (5) تفسير الطبري (7/ 105) شاكر.
ويقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ودينه الذي جاء به من عند الله، (وينهون عن المنكر) يعني عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد عنه وبما جاء به من عند الله بجهادهم بالأيدي والجوارح حتى ينقادوا لكم بالطاعة (1) .
وقال في تفسير قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف) آل عمران 109.
وأما قوله: (تأمرون بالمعروف) فإنه يعني: تأمرون بالإِيمان بالله ورسوله والعمل بشرائعه
…
، (وتنهون عن المنكر) ويعني وتنهون عن الشرك بالله وتكذيب رسوله، وعن العمل بمانهى عنه (2) .
وعن أبي العالية الرياحي قال: كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإِسلام، والنهي عن المنكر هو عبادة الأوثان (3) .
وقال الجصاص:
المعروف هو أمر الله
…
والمنكر هو مانهى الله عنه (4) .
وقال أبو حيان:
فسر بعضهم المعروف بالتوحيد، والمنكر بالكفر، ولاشك أن التوحيد رأس المعروف، والكفررأس المنكر، ولكن الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع، وفي كل منهي عنه في الشرع (ْ5)
وقال ابن حجر الهيثمي:
المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بواجبات الشرع والنهي عن محرماته (6) .
(1) تفسير الطبري (7/ 90، 91) شاكر.
(2)
تفسير الطبري (7/ 105) .
(3)
فتح القدير (1/ 270) ، وتفسير الطبري (1 1/ 39) . (4) أحكام القرآن (2/ 41) .
(5)
البحر المحيط (3/ 20) .
(6)
1 لزوا جر (2/ 146) .
وقال الألوسي: والمتبادر من المعروف الطاعات، ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع (1) .
ويقول ابن تيميه:
ويدخل في المعروف كل واجب، وفي المنكركل قبيح، والقبائح هي السيئات وهي المحظورات كالشرك والكذب والظلم والفواحش (2) .
وقال أيضا:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، وهو من الدين، فإن رسالة الله إما اخبار وإما إنشاء: فالاخبار عن نفسه عز وجل، وعن خلقه، مثل: التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد، والانشاء: الأمر والنهي والاباحة (3) .
ويقول عبد القادر عودة:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه الأمر بكل ما أوجبت الشريعة عمله، وأوجبت للناس فعله من صلاة وصيام وحد وتوحيد وغيرذلك، والنهي عن كل ماخالف الشريعة من أفعال وعقائد، فيدخل فيه النهي عن التثليث وعن القول بصلب المسيح وقتله، ويدخل فيه النهي عن الترهيب، وعن شرب الخمر، وعن أكل لحم الخنزير، وغير ذلك مما خالف فيه الشريعة الِإسلامية الأديان الأخرى (4) .
فهذا هو فهم بعض السلف الصالح لبعض نصوص الكتاب والسنة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي نصوص مطلقة في هذا بحيث لايصح لانسان حصرها في مفهوم معين كما هومعروف في هذا الزمان لدى طلاب العلم وغيرهم من أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محصور في الوعظ والِإرشاد فقط (ْ5)
(1) روح المعا ني (4/ 28) .
(2)
العقيدة الأصفهانية ص 121.
(3)
رسالة الأمر بالمعروف والخهي عن المنكرص 9. (4) التشريع الجنائي (497/1) .
(5)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للعمري ص 51.
عناية القرآن الكريم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أولا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا على الأمم المتقدمة.
قال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) آل عمران 21.
قال القرطبي في تفسيىه:
دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة، وخلافة النبوة (1) .
قال تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) البقرة 44.
وهذه الَاية نزلت يأ اليهود، وبالأخص منهم العلماء:
قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته، ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل - يريدون محمدا صلى الله عليه وسلم فإن أمره حق، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولايفعلونه (2) .
قال تعالى: (يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) لقمان 17.
يقول القرطبي:
وصى ابنه بعظم الطاعات، وهي الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه ويزدجرعن المنكر، وهذه هي الطاعات والفضائل أجمع.
وقال تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) آل عمران 13 ا-114.
(1) تفسيرالقرطبي (47/4، 68) . (2) تفسيرالقرطبي (365/5) .
ثانيا: أن الله سبحانه أوجب اللعنة على بعض تلك الأمم لتركها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون) المائدة 78، 79.
قال ابن كثير:
"أي كان لاينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبته، فقال: لبئس ماكانوا يفعلون (1) .
وأخرج الِإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو اسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم.
قال يزيد: أحسبه قال: في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم (وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) ، وكان رسول الله علييه متكئا فجلس، وقال: لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً (2) .
ثالثا: الايجاب والتأكيد على الأمة المحمدية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران 104.
ذكر القرطبي أن (من) تحتمل أمرين:
الأول: أنها تبعيضية.
الثاني: أنها لبيان الجنس.
والفرق بين الأمرين:
أن المعنى على القول الأول: أن الأمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماءبل بعضهم.
1 تفسير القرآن العظيم 2/618
2 انظر المسند 1/391.
وعلى الثاني فالمعنى: لتكونوا كلكم كذلك.
قال القرطبي: قلت: القول الأول أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله:(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة..) الَاية. وليس كل الناس مكنوا أهـ (1) .
وقال الشوكاني في تفسيى هذه الآية:
وفي الَاية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها وبه يكمل نظمها ويرتفع سنامها. أهـ (2) .
وقال ابن كثير: والمقصود من هذه الَاية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من هذه الأمة بحسبه (3) .
وهذا هو الذي يظهر لي، وأنه واجب على كل فرد مسلم كل بحسبه وطاقته وأنه على مراتب، ولايمنع هذا من تكليف فرقة من الأفةِ بالقيام بهذا الركن العظيم.
رابعا: إن الله سبحانه رتب على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخير والصلاخ، وأن هذه الأمة استحقت الخيرية لقيامها بهذا الأمر العظيم:
قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
…
) آية عمران: 115.
قال مجاهد: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) على الشرائط المذكورة فى الآية (4) .
قال القرطبي: وعلى قول مجاهد: كنتم خيرأمة إذا كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر (5) .
(1) تفسيرالقرطبي (4 م/165) .
(2)
فتح القدير (1/ 369) .
(3)
تفسير القرآن العظيم (2/ 86) .
(4)
تفسيرالقرطبي (170/4) .
(5)
تفسيرالقرطبي (4/ 171)
وهذه الَاية الكريمة نص عزيز في مدح هذه الأمة المحمدية لقيامها بهذا الشأن العظيم، ولقد تبوأت منزلة عظيمة في الحياة الدنيا عندما قامت به، وسفلت عندما تركته وضيعته فسامها العدوسوء العذاب فكان من شأنها ضعف في الإِيمان، وتعد لحدود الله، وانتهاك للحرمات وتشريد من الديار، وتعلق بغير الله، ولجوء إلى غيره، حتى وصل بها الحال إلى تحكيم غيرشرع الله، والرضا به، والدفاع عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقول القرطبي عند تفسيرهذه الَاية:
مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك، واتصفوا به، فإذا تركوأ التغييروتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان سببا لهلاكهم (1) .
خامسا: إن الله سبحانه علق الفلاح، بل حصره وقصره في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران: 104.
يقول ابن عاشور رحمه الله:
وجملة (أولئك هم المفلحون) : معطوفة على صفات (أمة) وهي التي تضمنتها جمل: (يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، والتقدير: وهم مفلحون، لأن الفلاح لما كان مسببا على تلك الصفات الثلاث، جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوزجعل جملة (أولئك هم المفلحون) حالا من (أمة) ، والوأو للحال
…
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهوإما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه، وإما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاخ غيرهم، وهو معنى قصر الدلالة على معنى الكمال (2) أهـ.
سادسا: إن الله سبحانه جعل القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة من صفات المؤمنين:
(1) تفسيرالقرطبي (173/4) .
(2)
التنوير والتحرير (4/ 42) .
قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) التوبة: 71.
وقال تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) التوبة: 112.
وقال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودله عاقبة الأمور) الحج: 41.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: فينا نزلت (الذين إن مكناهم ذأ الأرض. .. الَاية) ، فأخرجنا من ديارنا بغيرحق، إلا أن قلنا ربنا الله، ثم مكنا في الأرض، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهى لي وللأصحابي (1) .
سابعا: آن الله سبحانه جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرينا للصلاة والزكاة:
قال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) الحج: 41.
وهذا فيه دلالة على عظم أمره وعلو شأنه، حيث قرن بركنين عظيمين من أركان الِإسلام، وهما الصلاة والزكاة.
ثامنا: إن الله سبحانه أخبر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه من خير الكلام:
قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروت أو إصلاح بين الناس) النساء: 114.
تاسعا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علامة ما بين المؤمن والمنافق:
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 650) .
قال تعالى: (والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
…
) التوبة: 71.
وقال تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقن هم الفاسقون) التوبة: 67. قال القرطبي:
"أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد، وفيما يجب عليهم من حق لما (1) .
عاشرا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان والعلماء:
قال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) الحج: 41.
ورد فى معنى الَاية أقوال متعددة، ومنها قول سهل بن عبد الله قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه، وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم عليه، واجب عليه، ولا يأمروا العلماء، فإن الحجة قد وجبت عليهم (2) . أهـ.
وهذا القول يتفق معه، أو يشهد له الخبى صنفان إذا صلحا صلح المجتمع واذا فسدا فسد المجتمع: الأمراء والعلماء.
أما الأمراء، فلأن بأيديهم السلطة، وأما العلماء، فلأن بأيديهم التوجيه والِإرشاد، وبيان الحلال من الحرام، والتمكين الحاصل للأمراء بالولاية، وللعلماء بالعلم. الحادي عشر: إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في نجاة صاحبه من الوقوع في الماَثم والعذاب الأليم.
الثاني عشر: إن القيام بهذا الركن العظيم فيه إظهار للحق ورفعة لأهله، ودفع للباطل وذلة لأهله، فإذا تساهل أهل الحق في القيام به انعكست عليهم الحال، وما نراه ونشاهده اليوم فى بلاد المسلمين لأكبرشاهد على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1) تفسيرالقرطبي (199/8) . (2) تفسيرالقرطبي (73/12) .
معاني الأمر بالمعروف في القران الكريم
أولا: دلالة المعروف المعرف بأل
أولا: معاني المعروف في القرآن الكريم:
المعروف من المعاني القرآنية الشاملة لكل ما أمر الشرع به، وقد وردت في القرآن الكريم على صيغتين:
إحداهما: معرفة بالألف واللام الدالة على الشمول والاستغراق.
والثانية: مجردة عنهما. ولكل من هاتين الصيغتين دلالة ومعنى.
أما كلمة "المعروف" المعرفة بالألف واللام فقد وردت في القرآن الكريم في مواطن عدة ولها معان متنوعة. وسأذكر الموطن الذي ذكرت فيه والمعنى المراد منها.
الموطن الأول: وردت في قضية الحدود وفيما يخص القصاص في القتل:
وقد فسرأهل العلم المعروف ههنا بأن على العافي أن يحسن الطلب، وعلى المعفى عنه أن يحسن الأداء.
قال ابن كثير: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية.
{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني من القاتل من غيرضرر ولامعْك يعنى المدافعة1.
الموطن الثاني: فيما يتعلق بالوصية للأقارب عند الممات من غيرتقتير ولا إسراف، والمطلوب العدل من الموصي فيما أوصى به.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} البقرة: 180.
وهذه الآية الكريمة أوجبت الوصية لصنفين من الناس للوالدين والأقربين.
1 تفسير القرآن العظيم 1/ 370، وانظرتفسير ابن جرير (07/2 ا-. 11) .
أما الوالدان فأوجب الله تعالى لهما الميراث الشرعي، ونسخ الوصية في حقهم، وأما الأقارب فبقي في حقهم الوصية، دون إجحاف بغيرهم، والنصوص الشرعية في البر بهم والإحسان إليهم كثيرة.
فالمراد بالمعروف في الآية العدل في الوصية بعيداً عن الوكس والشطط1.
وخوفاً من الحيف أو الجنف تولى الشرع الحنيف تعيين المقدار الموصى به من المال وهو الثلث. والثلث كثير.
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجرمنها قال: "يرحم الله ابن عفراء". قلت: يارسول الله أوصى بمالي كلّه؟ قال: "لا". قلت: فالشطر؟ قال: "لا". قلت: الثلث؟ قال: "فالثلث. والثلث كثير" 2 الحديث.
قال القرطبي: "وحكم النبي- صلى الله عليه وسلم بأن الثلث كثير هو حكم بما أنزل الله فمن تجاوز ما حدّه رسول الله-صلى الله عليه وسلم وزاد على الثلث فقد أتى على ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وكان بفعله ذلك عاصياً إذا كان بحكم رسول الله عالماً لما"3.
الموطن الثالث: ورد فيما يتعلق بأداء الحقوق بين الزوجن بالمعروف والحقوق بينهما قد تكون قبل الدخول، وقد تكون بعد الدخول وقد تكون بعد الفراق.
وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف
…
} إلى قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} البقرة: 233.
وقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ
1 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 266 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 374) .
2 رواه البخاري في الوصايا باب أن يترك ورثته أغنياء287/3 ومسلم.
3 الجامع لأحكام القرآن 267/2.
فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} البقرة: 236.
وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} البقرة: 241.
والمعروف في هذه الآيات متنوع ومختلف عن الَاخر، ففي قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} يراد به الحق الذي لهن على أزواجهن من حسن الصحبة وطيب العشرة والتجمل والتزين لهن وعدم المضارة بهن1 وتطييب القول وتحسين الفعل وتزين الهيئة والبعد عن التضييق عليهن من الإِسلام، والقدوة في ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم – القائل:"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" 2 الحديث "وكان من أخلاقه – صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهن، ويوسعهم نفقته، يضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله-صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملتُ اللحم فسبقني فقال: "هذه بتلك"، ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع على كتفيه الرداء، وينام بالإِزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك- صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 3.
أما المعروف المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
1 انظر تفسير ابن جرير (2/453 و4/312) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 480، 2/ 229) ، وتفسير البغوي 1/ 409 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي3/123، 124 و5/97.
2 حديث صحيح انظرسلسلة الأحاديث الصحيحة1/169.
3 تفسير القرآن العظيم (2/ 229) . ط دار الفكر.
فالمراد به ما تعارف عليه أهل البلد، وجرت به العادة في الكسوة والنفقة شرعاً، من غير إسراف ولا تقتير.
قال ابن كثير: "وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف. أي بما جرت به عادة أمثالهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} 1 وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "فاتقوا الله في النساء
…
ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" 2. وأما المعروف في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ففسره الحافظ ابن جرير: "بالإجمال والإحسان وترك البغض والظلم فيما وجمب للمراضع"3.
وقال ابن كثير: "إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليه"4.
وأما المعروف في قوله تعالى: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} فهويتعلق بحق المرأة المطلقة التي لم يُدخل بها، ولم يفرض لها صداق، فلها المتعة من زوجها تعويضاً لها عما فاتها منه وذلك بحسب حاله كما في قوله تعالى:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه} وفسر المعروف "بما عرف في الشرع من الاقتصاد"5 وأن يتناسب مع حال الزوج، وأن يدفع إليها بغير ظلم ولا مدافعة6.
وأما المعروف المذكور في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فهو يتعلق بشأن المتعة للمطلقة عموماً سواء كانت مدخولا بها أو لا وسواء كانت مفروضاً لها أو
1 تفسير القرآن العظيم (1/503) . ط دار الفكر، وانظر زاد السير 1/272، وتفسير البغوي 1/212، والقرطبي (3/163) .
2 رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.
3 تفسير ابن جرير (2/ 510) .
4 هكذا في الأصل ولعل المراد "عليها".
5 الجامع لأحكام القران 203/3.
6 انظر تفسير ابن جرير (2/538) .
مفوضة1 وإن كان هناك قول لبعض أهل العلم أن المراد بالمطلقة في هذه الآية المدخول بها، وأن المراد بالمتعة لها، ما تستمتع به من ثياب وكسوة ونفقة أو خادم وغير ذلك مما يستمتع به2.
الموطن الرابع: ورد في قضية المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً وانقضت عدتها ولم يراجعها زوجها، إلا أنه حنّ إليها وحنت إليه، فأبى وليها إرجاعها.
ورد في سبب نزول الَاية أن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها ثم جئت تخطبها والله لا ترجع إليك أبدا- وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية. قال: ففيّ نزلت هذه الآية فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه3.
وقد فسر المعروف بالعقد المستأنف والمهر الجائز المماثل لسواها4.
الموطن الخامسِ: ورد في شأن المرأة التي انقضت عدتها سواء من طلاق أو وفاة، وإن كانت الآية نصاَ في المتوفى عنها زوجها قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} البقرة: 234.
واختلف أهل العلم في تفسير المعروف المذكور في الآية وهو اختلاف تنوع فابن عباس رضي الله عنهما فسره بأنه التزين والتصنع والتعرض للزواج5، ومجاهد فسره بأنه
1 انظر تفسير ابن جرير (2/ 584) .
2 تفسير ابن جرير (2/583) .
3 رواه الترمذي في التفسير. باب تفسيرسورة البقرة 8/ 170 وأصله في البخاري.
4 انظرتفسير البغوي 1/112 وزاد المسير 1/269 وتفسير ابن جرير 2/488، والنسفي1/117.
5 تفسير القرآن العظيم (1/507) . ط دار الفكر.
النكاح الحلال الطيب1. ونسبه ابن كثير إلى جمع من السلف2. وذهب ابن جرير إلى أن المراد به "ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن"3. وهذا يشمل الأقوال السابقة، والله أعلم.
الموطن السادس: ورد في شأن الدعوة إلى الإسلام، وامتثال شرائعه والنهي عن الكفر وطرائقه.
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران: 154.
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران: 110.
وقال تعالى: {
…
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} آل عمران: 114.
والخير في الآية الأولى فسر "بالإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده"4. وما بعده معطوف عليه "من باب عطف الخاص على العام"5.
وفسر هذا الخاص بأمر الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ولا شك أن هذا داخل في الخير العام.
وقد ذكر في الآيات عموماً أمران متقابلان، المعروف والمنكر، وفسر المنكر بالكفر والشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم6 وهذا تفسير عام فكذلك المعروف عام وإنما خص بالذكر لأهميته وشرفه وعلو منزلته، ولذا فسره عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، والمقاتلة عليه "7.
1 تفسير القرآن العظيم (1/507) . ط دار الفكر.
2 تفسير القرآن العظيم (1/507) . ط دار الفكر.
3 تفسير ابن جرير (2/516) ، وانظر الجامع لأحكام القرآن3/187.
4 تفسير ابن جرير (4/38) .
5 فتح القدير1/369.
6 انظر تفسير ابن جرير (4/ 45) ، وتفسير النسفي (1/157) .
7 انظر تفسير ابن جرير (4/ 45) .
المعنى السابع: ورد في معالجة مالك اليتيم عند وليّه وعدم الأكل منه إلا لحاجة قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} النساء:6.
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أنها نزلت في مال اليتيم وفي رواية: في والي اليتيم. إذا كان فقيراً أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف1.
وقد فسر المعروف في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الإِسراء: 34.
قال ابن كثير: "أي لا تقربو إلا مصلحين له، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف"2.
والنصوص الشرعية دالة على إباحة الأكل لولي اليتيم من مال يتيمه بقدر الحاجة إذا كان فقيرا.
وأخرج أهل السنن وغيرهم ماعدا الترمذي عنِ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن عندي يتيماَ له مال وليس عندي شيء أفآكل من ماله؟ قال: "بالمعروف " قال ابن حجر: وإسناده قوي3.
قلت: هكذا ذكر ابن حجر لفظه في الفتح إلا أنه في السنن: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم، قال: "كل من مال يتيمك غيرمسرف ولا مباذر ولا متأثل" هكذا عند النسائي وأبى داود، أما ابن ماجه فبنحوه4.
فالمعروف هو الحاجة والأكل بالتي هي أحسن، واختلف أهل العلم هل على الولي
1 رواه البخاري في التفسير باب ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف 8/ 241.
2 تفسير القرآن العظيم (2/ 190) . ط الشعب.
3 فتح الباري 8/ 241.
4 أخرجه أبوداود في الوصايا باب ما جاء في مالِ ولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم 3/292والنسائي في الوصايا باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه 6/256 وابن ماجه في الوصايا باب قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 2/ 907.
القضاء إذا أيسر أم لا؟ على قولين1؟ وليس هذا موضع بسط القول فيهما.
ثانيا: دلالة المعروف المجرد عن أل
ثانيا: وردت كلمة (المعروف) مجردة عن الألف واللام في عدة مواضع في كتاب الله عز وجل، واختلف في المعنى المراد منها:
ا- المعنى الأول: قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف
…
} البقرة: 231.
قيل المراد به: الإِشهاد على الرجعة، وذلك قبل انقضاء العدة، وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة2، وأخذ به ابن جرير والبغوي وابن كثير3. وقيل المراد به: القيام بحقوقها الواجبة على زوجها، وسطر هذا القول الطبري وابن الجوزي4.
2-
المعنى الثاني: قال تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} البقرة: 231.
قيل المراد به: عدم الإضرار بها، أو أن لا يقصد الإضرار بها، سواء في عدتها، أو فيما لها من الحقوق والواجبات5.
3-
المعنى الثالث: قال تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً
…
} البقرة: 235.
قيل إن المراد به: التعريض لها.
وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن زيد، والثوري، والسدي، والقاسم بن محمد، والشعبي، وقتادة، وإبرا هيم6.
وذكر ابن الجوزي قولا آخر في هذه الآية، وهو أن المراد به: إعلام وليها برغبته فيها، ونسبه إلى عبيدة7.
1 انظر تفسير ابن جرير (4/ 255) ، وتفسير ابن كثير (2/ 189) .الشعب.
2 زاد المسير (1/267) .
3 جامع البيان (2/ 480) ، تفسير البغوي (1/210) ، تفسير القرآن العظيم (1/498) .
4 تفسير الطبري (2/ 480) ، وزاد المسير (1/ 267) .
5 الطبري (2/ 480) ، والبغوي (1/210) ، وابن الجوزي (1/ 267) ، وابن كثير (1/ 498) .
6 الطبري (2/526) وزاد المسير (1/ 278) وابن كثير (1/509) وغيرها.
7 زاد المسير (1/ 278) .
وقد ذكر هذا أيضا ابن كثير، وأسنده إلى ابن أبى حاتم من طريق محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة: ما معنى قوله: {إِلَاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} ؟ قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها، يعني: لا تزوجها حتى تعلمني1. وهذا أيضا من التعريض.
المعنى الرابع: قال تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة: 24.
قيل المراد به: التزين والتشوف للنكاح بما يوافق الشرع2.
وقيل المراد به: ترك الحداد، وهذا قول ابن جرير3.
قلت: ويلزم من ترك الحداد: التزين والتطيب والتشوف، فيكون هذا موافقا لما سبقه، وقد بين ابن جرير ذلك4.
وقيل المراد به: الخروج من المنزل الذي اعتدت فيه.
وهذا القول ذكره ابن كثير، وقال عنه: وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة، ومنهم الإِمام أبو العباس ابن تيمية5.
5-
المعنى الخامس: قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} البقرة: 263.
المراد به: الكلمة الطيبة والدعاء الحسن6 ومنه الحديث الصحيح: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ولوأن تلقى أخا لك بوجه طلق" رواه مسلم7.
1 تفسير ابن كثير (1/ 509) .
2 تفسير البغوي 1/ 222، وزاد المسير 1/ 286 وتفسير القرطبي 3/328.
3 تفسير ابن جرير (2/583) .
4 انظر تفسير ابن جرير (2/583) .
5 تفسير ابن كثير (1/527) .
6 تفسير ابن جرير (3/ 64) ، وتفسير ابن كثير (1/ 564) ، والبغوي (1/ 250) والقرطبي (3/ 309) ، وابن الجوزي (1/ 318) .
7 انظر صحيح مسلم كتاب البر والصلة 4/2026رقم 44 1 ومسند أحمد 5/173 من حديث أبي ذر وهوعند أحمد في المسند 3/344، 360 والترمذي في البر والصلة باب ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر 6/196من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا بلفظ:"كل معروف صدقة وإن من المعروف الخ " وفيه زيادة. وقال عنه الترمذي: حسن صحيح.
ومثل هذا قوله سبحانه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} النساء 51.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} النساء 8.
6-
المعنى السادس: قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} النساء: 114.
قيل المراد به: أفعال البر عموما2.
7-
المعنى السابع: قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} لقمان: 15.
المراد به: المعاملة الحسنة قولا وفعلا3.
8-
المعنى الثامن: قال تعالى: {إِلَاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} الأحزاب: 6.
المراد به: الإحسان والوصية، الإحسان في حالة الحياة والوصية عند الممات4.
وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة5.
9-
المعنى التاسع: قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} الأحزاب: 32.
المراد به: القول الصحيح العفيف الذي لا يطمع الفاجر6.
1 تفسير ابن جرير (4/250) وابن الجوزي (2/ 13) . والبغوي (1/ 393) 0 القرطبي (5/ 33) .
2 انظر تفسير البغوي (1/ 479) وتفسير القرطبي (5/ 383) وزاد المسير (2/200) .
3 الطبري (21/ 71) ، البغوي (3/ 491) ، القرطبي (14/ 65) ، زاد المسير (6/ 320) ، ابن كثير (5/ 383) .
4 الطبري (21/123، 124) ، البغوي (3/508) ، ابن كثير (5/ 427) ، القرطبي (14/ 26) وزاد المسير (6/354) .
5 تفسير البغوي (3/ 508) .
6 تفسير الطبري (3/22) ، والبغوي (3/528) ، والقرطبي (14/178) ، وزاد المسير (6/ 379) ، وتفسير ابن كثير (5/ 451) .