المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خلاصة هذه السورة - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌خلاصة هذه السورة

بسم الله الرحمن الرحيم

‌سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية - قيل: هي آخر ما نزل بمكة - فيكون ذكر شيءٍ عن المنافقين فيها من باب الإخبار بالمغيبات عن مجتمع المدينة، وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها: أن الله - تعالى - أخبر في سورة القصص، التي قبلها بما كان من فرعون واستعلائه على قومه، وجعلهم شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءَهم ويستحيى نساءَهم، ويسومهم سوءَ العذاب فافتتحت سورة العنكبوت بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار، وعذبوهم بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل تسلية لهم بذكر ما وقع بمن قبلهم، وحثًا لهم على الصبر وتحمل الأذى، كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى -:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم} . كما أن من المناسبة أيضًا ما أشارت إليه الآيات في خاتمة سورة القصص، من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى -:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} على بعض الأقوال، وما أَشارت إليه سورة العنكبوت من هجرة المؤمنين في قوله - تعالى -:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} ، هذا، وقد ختمت سورة القصص بما يفيد هلاك جميع المخلوقات، ورجوعهم إلى الله، فكان من جميل النسق أن تبدأَ سورة العنكبوت بعدها بتوجيه المؤمنين إلى الصبر على ما يتعرضون له من الأذى، وما يُفتنون به من بلاء المشركين، ليكون لهم جزاءُ الصابرين، وعقبى المتقين.

‌خلاصة هذه السورة

بدأت السورة بذكر ما يتعرض له المؤمنون من الفتن، وما يواجههم من عنت وإرهاق وتعرض لفتن كثيرة جرت عليها سنة من قبلهم من المؤمنين حيث أُوذوا من الكافرين برسلهم ليتبين الذين صدقوا، ويُعلَم الكاذبون، ثم حثت الآيات على التمسك بالعقيدة، والعمل الصالح استعدادًا للقاءِ الله، ونبهت إلى جميل الجزاء، وحسن الثواب لمن أقام على عمل الصالحات التي من جملتها الإحسان إلى الوالدين، واصطناع المعروف معهما مهما كان شأْنهما، وحذرت من ضعفا الإيمان ضعفًا تهزه الحوادث، ويذهب به التعرض للأذى والفتن.

ثم انتقلت الآيات إلى طرف من قصص نوح وإبراهيم ولوط مع قومهم في بيان يطول ويقصر، حتى انتهت إلى قصة شعيب عليه السلام مع أَهل مدين.

ص: 1822

ثم انتقلت من هذا إلى تهوين أمر المشركين والكافرين مهما بلغت قواهم، وظهر أمرهم، فإن هذا كله لا يلبث أن يزول، وينتهى بهم إلى أشد العقاب، ولا تنفعهم معبوداتهم؛ فهم كمثل العنكبوت اتخذت بيتا {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .

ثم دعت الآيات إلى حسن المجادلة مع أهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة حسبما يرشد إلى ذلك الكتاب الكريم الذي أُنزل على النبي الأُمي الذي لم تسبق له قراءَة ولم يجلس إلى معلم: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} : وتأكدت هذه المعاني كلها بآيات بعد ذلك ترد شبههم، وتنعى عليهم استعجالهم العذاب الذي لن يفوتهم إن كان مقدرًا عليهم، وسيغشاهم من فوقهم، ومن تحت أرجلهم إذا حان حينه، وجاء أوانه.

ثم اتجهت الآيات في ختام السورة إلى دعوة المؤمنين إلى التماس عزتهم وقوتهم في أرض الله الواسعة، فستكون لهم العاقبة الحسنى في الدار الآخرة التي هي الحيوان لو كانوا يعقلون.

وبمقدار ما عابت الآيات أحوال الكافرين، وأنكرت عليهم تكذيبهم للحق حين جاءَهم، بشرت المجاهدين في سبيل الله بالهداية إلى سبيل الرشاد في الدارين:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .

وسميت السورة سورة العنكبوت لذكره فيها.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الم (1)}

بدئت هذه السورة بسرد حروف من حروف المعجم كغيرها من كثير من السور، والكلام في ذلك مثل الكلام في نظائره من هذه الفواتح الكريمة السابقة، فارجع إلى مثله في أوائل القرآن إن شئت.

ومما تجدر الإشارة إليه أن السور التي بدئت بسرد حروف من المعجم أتبعت هذا الابتداء بالحديث عن القرآن الكريم بصور مختلفة، وأساليب متعددة، إلا ثلاث سور هذه إحداها

ص: 1823

وسورة الروم، وسورة مريم، وهذا يدلنا على أن في هذا الكتاب العزيز أسرارا لا يزال العقل البشري في عجز عن إدراكها، ومعرفة الحكمة فيها ومنها، مهما تكلف في توجيه ذلك المتكلفون.

على أن ذكر هذه الحروف في مفتتح هذه السور وغيرها أُسلوب من أساليب إثارة الانتباه والتيقظ لما يذكر بعدها من أغراض وأهداف.

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}

المفردات:

{أَحَسِبَ} : أظَنّ، والحسبان كالظن: ترجيح أحد النقيضين على الآخر.

{لَا يُفْتَنُونَ} : لا يختبرون ولا يمتحنون، من قولهم: فَتن الذهب، إذا أدخله النار ليختبر جودته.

{صَدَقُوا} : آمنوا عن عقيدة وإخلاص.

{الْكَاذِبِينَ} : المنافقين في إيمانهم.

{أَنْ يَسْبِقُونَا} : أن يفوتونا ويعجزونا فلا يلاقوا جزاءَ أعمالهم.

التفسير

2 -

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} :

(الحُسْبَانُ): ترجيح أحد النقيضين على الآخر كالظن. بخلاف الشك، فهو: التردد بينهما، وبخلاف العلم، فهو: القطع بأَحدهما، ولا يتعلق الحسبان بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجُمل، ولذلك يقتضي مفعولين أَصلهما المبتدأُ والخبر، أو ما يسد مسدَّهما كما هنا.

ص: 1824

والمعنى: أظَنَّ الناس تركهم غير مفتونين لمجرد إيمانهم أو نطقهم بالشهادتين دون أن يتعرضوا للفتن في دينهم، والامتحان بمشاق التكاليف من المهاجرة والمجاهدة، والصبر على فعل الطاعات، واحتمال أنواع المصائب في الأموال والأنفس والثمرات؛ ليتميز المخلص في إيمانه من المنافق، والراسخ في الدين من المتزلزل فيه، فيلاقى كل واحد جزاءَه بما يقتضيه عمله كما في قوله - تعالى -:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (1).

رُوي أنها نزلت في أُناس من المسلمين الأَوائل كان المشركون من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، كسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار ابن ياسر، وأبيه ياسر، وأُمه سمية، وغيرهم. فكانت صدورهم تضيق لذلك، فنزلت هذه الآيات تسلية لهم وإعلامًا بأَن هذه هي سنة الله في خلقه اختبارا لهم وتمحيصًا.

وهذه الآيات وإن نزلت في هُؤلاء فهي باقية في أُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم أبد الدهر.

وقيل: نزلت في "مهجع" مولى عمر بن الخطاب أول من قُتِل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله فجزع عليه أبواه، وامرأته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سيد الشهداءِ مهجع، وأول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأُمة".

3 -

{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} :

هذه الآية تتصل بالآية قبلها، توضح أن ابتلاء الأمم سنة قديمة مبنية على الحِكم البالغة، جارية بين الأُمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافها.

والمعنى: ولقد اختبرنا الأمم قبلكم، وابتليناهم بأنواع من البلاء، وضروب من الفتن والمحن أشد مما أصابكم، فمنهم من صبروا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا ومنهم من ارتدَّ عن دينه، وهؤُلاء وأولئك معلومون لله مجزيون على أعمالهم، كما قال سبحانه:{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا .... } أي: فوالله ليعلمن الله الصادقين الذين

(1) الآية 142 من سورة آل عمران.

ص: 1825

صبروا لهذا الامتحان يعلمهم علمًا تنجيزيًا، بعد أن علمهم قبل أن يكونوا، وليعلمن الكاذبين في إيمانهم كذلك، فيجزى كلًّا جزاءه الذي يناسب حاله (1).

4 -

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} :

هذه الآية انتقال من إنكار حسبان الناس أن يتركوا لمجرد الإيمان دون أن يفتننوا.

إلى إنكار حسبان الذين يعملون السيئات أن لا نجازيهم على سيئاتهم وهو أبطل من الحسبان الأَول، وقد عمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي. وتكون الآية على هذا في المشركين وعصاة المؤمنين، وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه - تعالى - ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نُزِّل جريهم على غير موجب العلم بالجزاءِ من الغفلة وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء.

والمفهوم من السياق، ومن سبب النزول: أن الحسبان الأول كان من المؤمنين، وهذا الحسبان من الكافرين، وبهذا أخذ ابن عباس رضي الله عنهما. فقد روى أنه قال: يريد - سبحانه - بالذين يعملون السيئات الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاص ابن هشام، وشيبة وعتبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط. وحنظلة ابن وائل، وأنظارهم من صناديد قريش.

وهذا لا يمنع أن الآية تعم جميع من يعمل السيئات؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

والمعنى الإجمالي للآية: أظنَّ الذين يرتكبون السيئات من الكفر والمعاصي أن يفوتونا، ويهربوا من حسابنا فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم، لقد ظنوا كذبا، وحسبوا باطلا، وحكموا فاسدًا {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: أي بئس الحكم الذي يحكمونه هذا الحكم.

(1) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد كان من كان قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه".

ص: 1826

{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)}

المفردات:

{يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} : يتوقع ملاقاة جزائه، أو يخاف.

{أَجَلَ اللَّهِ} الوقت الذي حدده وعينه. {جَاهَدَ} : غالب نفسه وقهرها على الطاعة.

التفسير

5 -

{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

المعنى: من كان يتوقع ملاقاة جزائه ثوابًا أو عقابًا: فليبادر إلى ما يحقق رجاءه، ويؤمن خوفه، وليختر من الأعمال ما يؤدي إلى حسن الثواب، وجميل العاقبة، وليحْذر ما يسوقه إلى سوء العاقبة كقوله - تعالى -:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1).

وقوله - تعالى -: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} معناه: فإن الوقت الذي حدده وعينه لذلك لآت وواقع لا محالة عن غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، فليستعد لذلك ويقدم له. وقيل: المقصود برجائه لقاء الله: أمَلُه بلقائه في الجنة.

ومعنى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} : هو السميع لأَقوال عباده في جهرهم وسرهم، وخلواتهم وجلواتهم، العليم بجميع أحوالهم وشئونهم لا يغيب عنه من ذلك شيء، ولا يخفى عليه أمر.

(1) الآية 110 من سورة الكهف.

ص: 1827

ويجازي كلا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر تصديقًا لقوله - تعالى -:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (1).

6 -

{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} :

ذكرت الآيات السابقة ابتلاءَ الله عباده واختبارهم ليمحص الذين آمنوا فيجزل لهم الثواب، ويعظم الأجر، ثم جاءت هذه الآية تحفز هممهم إلى الاستزادة من عمل الصالحات. وكثرة الطاعات، فقال - تعالى - ما معناه: ومن جاهد نفسه بالصبر على طاعة الله، أو دفع وساوس الشيطان فإنما يجاهد لنفسه لعود منفعته إليها، إن الله لغنى عن العالمين فلا حاجة له إلى طاعتهم، وإنما أَمرهم - سبحانه - بها ليثابوا عليها بموجب رحمته وحكمته.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)}

المفردات:

{لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} : لنسقطنَّ عنهم عقاب سيئاتهم.

{أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} : أي أحسن جزاء أعمالهم، بأن تجازي الحسنة الواحدة بعشر أمثالها فأكثر، أما الجزاء الحسن فإنه يكون بمجازاة الحسنة بحسنة مثلها فقط.

التفسير

7 -

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

قررت الآية السابقة أن من جاهد فإنما يجاهد لنفسه، وهذه الآية تؤكد هذا المعنى وتزيد

(1) الآية 31 من سورة النجم.

ص: 1828

عليه أن فضل الله - تعالى - لا يقف عند الجزاء بالمثل، بل فضله أعظم، ورحمته أوسع وأشمل، فهي تشير إلى أن الله - تعالى - يسقط عذاب الكافرين بإسلامهم، ويتجاوز عن عقاب العصاة لفعل الطاعات، ثم تتجلى وحمة الله وواسع فضله بقوله - تعالى:

{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أي: لنثيبنهم أحسن ثواب أعمالهم، فنجازى على الحسنة بعشر أمثالها وأكثر. ولا نقف على الجزاء الحسن فنثيب على الحسنة حسنة فقط.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

المفردات:

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} : أمرناه، و (وصَّى) يجرى مجرى الأمر معْنًى، فكأنه قيل: وأمرنا الإنسان، ويستعمل فيما كان في المأمور به نفع عائد على المأمور غيره.

{جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} : بَالَغَا في حملك على الشرك.

{مَرْجِعُكُمْ} : عودتكم بالموت.

{أُنَبِّئُكُمْ} : أُخبركم.

التفسير

8 -

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} :

جاءَت هذه الآية في معرض الحديث عن الإيمان وعمل الصالحات تُوجِّه إلى منهل من

ص: 1829

أثْرى مناهل الرحمة وهو بر الوالدين والإحسان إليهما، وقد نزلت هذه الآية في سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه بعد إسلامه حيث حلفت أُمّه "حمنة (1) " بنت أبي سفيان أَلَاّ تنتقل من الضِّح (2) إلى الظل، ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد، فلبثت ثلاثة أيام، فجاءَ سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه فنزلت هذه الآية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها بالإحسان.

وقيل: نزلت في عباس بن أبي ربيعة وقد فعلت أُمه مثل هذا الفعل، وسواء أكان نزولها في هذا أَم ذاك، فهي لجميع الأمة؛ لأن الإحسان إلى الوالدين مطلوب من كل مسلم.

ومعنى الآية: أمرنا الإنسان بإِيتاء والديه، وإيلائهما كل فعل ذي حسْن يرضيهما ويوفر راحتهما، ويحقق البر بهما ما دام في كل هذا طاعة الله، فإن ذلك يحقق له الثواب وعظيم الأجر، ويعود على الوالدين بالخير والراحة والإحسان، فإن ابتغى الوالدان أو أحدهما من الولد شيئًا فيه معصية، أو جاهداه وحملاه حملًا على أن يشرك بالله ما ليس له علم بأُلوهيته وإنما يعلم بطلانه، فلا يطعهما؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن مع التلطف في معاملتهما، والصبر على ابتلائه بهما؛ فإنه لا يصبر على بلاءِ الله إلَاّ صديق.

وقوله - تعالى -: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : معناه؛ إليَّ وحدي نهايتكم جميعًا منْ آمن منكم ومن أشرك، ومن برَّ والديه ومن عقهما، فأكشف لكم عن هذا كله، وأُجازي كلاًّ بعمله، الخير بالخير، والشر بالشر.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}

(1) جاء في الإصابة ج 4 ص 160 رقم 3187 في ترجمة سعد بن أبي وقاص أن اسم أمه: حمنة بنت سفيان بن أمية بنت عم أبي سفيان بن حرب.

(2)

الضح: نور الشمس.

ص: 1830

المفردات:

{فِي الصَّالِحِينَ} : الصلاح؛ ضد الفساد، وهو أبلغ صفات المؤمنين.

التفسير

9 -

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} :

الدخول في الصالحين مطلب من أجلِّ المطالب التي تستشرف إليها نفوس خاصة المؤمنين بلْه الأنبياء والمرسلين، وهذا سليمان عليه السلام مع ما أعطاه الله من الرسالة والملك، وتسخير كثير من الأكوان يقول:{بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (1).

والمعنى: والذين آمنوا بالله، وصدقوا بوحدانيته، وأخلصوا في عبادته بعمل الصالحات، والإكثار من الطاعات، لندخلنهم ونحشرنهم يوم القيامة في زمرة الراسخين في الصلاح الذي هو منتهى درجات المؤمنين، وغاية ما امتدح الله به الأنبياء والمرسلين، قال - تعالى - في شأن إبراهيم عليه السلام:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (2). وقيل: المراد لندخلنهم مدخل الصالحين وهو الجنة، والمؤدَّي واحد في كلا المعنيين.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}

(1) جزء الآية 19 من سورة النمل.

(2)

جزء الآية 122 عن سورة النحل.

ص: 1831

المفردات:

{أُوذِيَ فِي اللَّهِ} : عُذِّب من الكافرين بسبب إسلامه.

{فِتْنَةَ النَّاسِ} : ما يلحقه من أذاهم.

{كَعَذَابِ اللَّهِ} : مثل عذاب الله الذي ينتظر العصاة في الآخرة.

{نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} : فتح وغنيمة.

{إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} : كنَّا مشايعين ومناصرين لكم في الدين.

{الْمُنَافِقِينَ} : الذين يظهرون الإِسلام ويخفون الشرك.

التفسير

10 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ

} الآية.

نزلت هذه الآية في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم، وكانوا يكتمون ذلك على المسلمين، وقيل: إنها نزلت في المنافقين.

والمعنى: ومن بين المسلمين ناس ضعاف الإيمان يقولون: آمنا بأَلسنتهم، ولم يتغلغل الإيمان في قلوبهم، ولم يتعمق في ضمائرهم، فإذا مسهم أذى من الكفار والمشركين بسبب إيمانهم خافوا هذا الأذى ولم يصبروا عليه، ووافقوهم على شركهم وأظهروا لهم ولاءَهم معادلين هذا العذاب لعذاب الله - تعالى - في الآخرة، ومُنزليه منزلته في الشدة والهول.

{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} : وحصل للمؤمنين فتح أو غنيمة رجعوا إلى المؤمنين، وأكدوا لهم إيمانهم بقولهم: إنا كنا مشايعين لكم في الدين، مناصرين لكم في بلائكم، فأَشركونا معكم في الغنيمة، ويردّ القرآن عليهم هذا الادعاءَ الكاذب بقوله:

{أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} : أي إن الله - تعالى - أعلم بما في صدور العالمين من أنفسهم به، فلا يخفى ذلك على الله، بل لا يخفى على المتفرسين الذين ينظرون بنور الله - تعالى - أحوالهم من رقة الإيمان أو من النفاق.

11 -

{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} :

تؤكد هذه الآية ختام الآية السابقة، فتقرر على سبيل التأكيد أن الله - تعالى - يعلم

ص: 1832

الذين آمنوا عن صدق وإخلاص ويعلم المنافقين أو الضعفاء الإيمان الذين يعبدون الله على حرف فيهز إيمانهم الأذى، وتزلزله فتن الكفار، وليختبرنَّ إيمانهم بالأمن والخوف والسراء والضراء فيجازي كل واحد بعمله.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} المفردات:

{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} : اسلكوا طريقنا التي نسلكها في الدين.

{خَطَايَاكُمْ} : أَوزاركم وسيئاتكم.

{أَثْقَالَهُمْ} : خطاياهم وذنوبهم الفادحة.

{يَفْتَرُونَ} : يختلقون في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل.

التفسير.

12 -

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} :

نزلت هذه الآية في كفار قريش على ما أخرجه جماعة عن مجاهد، قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليم شيءٌ التزمنا حمله، وهو بيان لأُسلوب آخر من أَساليب الكفار في استمالة المسلمين، وإغرائهم بالكفر، وحملهم بهذا الأسلوب على الإشراك بعد حملهم علبه بالإيذاء والوعيد والتهديد.

ص: 1833

والمعنى: وقال الكفار من مشركي مكة للمسلمين الذين اتبعوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:

اتبعوا سبيلنا، واسلكوا طريقتنا التي نسلكها في ديننا، ولنحمل عنكم ذنوبكم وآثامكم إن صح أن هناك بعثًا وجزاءً، أو إن كان في اتباعكم لنا خطيئة يؤاخذ عليها عند البعث - كما تقولون - وقد ردَّ الله عليهم بقوله - تعالى -:{وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} : أي: وما أولئك المشركون بحاملين من شيء من خطاياهم التي التزموا أن يحملوها لهم إن واقفوهم، وإن هؤلاء المشركين لكاذبون في دعواهم القدرة على حمل خطايا المسلمين؛ لأنهم يقولون ما لا يقدرون عليه، ولا يملكون أداءَه.

13 -

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

هذه الآية استمرار في تسفيه المشركين، ودرء أباطيلهم ببيان ما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا.

والمعنى: وليحملنَّ هؤلاء المشركون في الآخرة آثامهم الفادحة، وأوزارهم الثقيلة {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أي: وأوزارا وآثاما أُخَر مع أثقال أنفسهم وهي أثقال من تسببوا في إضلالهم وحملهم على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص ذلك من أثقال من أضلوهم شيئًا أصلا.

والتعبير بالأثقال عن الخطايا والذنوب للإيذان بخطورتها كأنها عبءٌ ثقيل تنوءُ به الكواهل، وهذا كما في قوله - تعالى -:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) - وكما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما داع دعا إلى هدى فاتُّبع عليه وعُمِل به فله مثل أُجور الذين اتبعوه، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتُّبع عليها وعُمِل بها، فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه، ولا ينقُصُ ذلك من أوزارهم شيئًا".

(1) من الآية 25 من سورة النحل.

ص: 1834

{وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : المقصود من سؤالهم: تبكيتُهم وتوبيخهم، لا الاستعلام عن افترائِهم، فالله به عليم.

والمعنى: وليسألن الله - تعالى - هؤلاء المشركين يوم القيامة سؤال تقريع وتبكيت عما كانوا يفترونه، ويختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها أكاذيبهم هذه.

وقد اتضح مما تقدم أن هذه السورة الكريمة قد صنفت الناس إلى مؤمنين خُلَّص صدقوا في إيمانهم، وأخلصوا في أعمالهم، وإلى مؤمنين ضعاف الإيمان يعبدون الله على حرف فيهتز إيمانهم أمام الفتن، ويتزلزل لما يلحقهم من إيذاء، وإلى مشركين ممعنين في الكفر والضلال والإضلال.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}

المفردات:

{فَلَبِثَ فِيهِمْ} : مكث في دعوتهم إلى التوحيد.

{الطُّوفَانُ} : الماءُ الكثير الغالب الذي يغشى كل شيء، وقد يطلق على كل ما يحيط ويطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والمطر والظلام.

{وَجَعَلْنَاهَا} : أي السفينة، أو الحادثة والقصة.

{آيَةً} : عظة وعبرة.

ص: 1835

التفسير

14 -

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} :

هذا شروع في عرض شيء من قصص الأنبياء تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه ببيان ما عاناه الأنبياءُ عليهم السلام قبله مع أُممهم، إثر بيان افتتان بعض المؤمنين بأذية الكفار والمشركين، وتأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا لمجرد أن يقولوا: آمنا. وتثبيتا للرسول صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه من الصبر على أذى الكفار والمشركين.

ومعنى الآية: ولقد أرسلنا رسولنا نوحا عليه السلام إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله، وعبادته والتزام طاعته، فلبث فيهم ومكث يدعوهم إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يجد منهم إلا إصرارا على الكفر، وإمعانا في العناد، ومعارضة لدعوته حتى استحقوا العقاب، وعرضوا أنفسم لانتقام الله منهم، فأخذهم الطوفان، وغمرهم الماءُ من كل ناحية وجانب عقب تمام المدة التي مكث يدعوهم فيها {وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي: مستمرون على الظلم، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام والتعبير بقوله:{إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} بدلًا من أن يقال: إلا خمسين سنة للبعد عن التكرار.

15 -

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} :

أي: فأنجينا نوحا من الغرق، وأنجينا معه جماعة المؤمنين الذين صحبوه في السفينة التي صنعها بوحي من الله وتحت حفظه ورعايته، وكان الذين معه من أولاده وأتباعه ثمانين، وقيل: ثمان وسبعون، نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، منهم أولاد نوح سام، وحام، ويافث، ونساؤُهم، وقيل في عددهم غير ذلك، والله أعلم بحقيقة عددهم، ويكفى في قلتهم أنهم ركاب سفينة واحدة مع ما حمله فيها من كل حيوان زوجين اثنين.

ص: 1836

أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم - وصححه - عن ابن عباس قال: بعث الله - تعالى - نوحا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله - تعالى - وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وذكروا أن مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء، وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عمرا، أخرج ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتا له بابان، فقال وسطَ الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر (1).

ومعنى قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} : جعلنا السفينة عظة وعبرة حيث بقيت على الجودي زمانا طويلًا، قيل: إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل: جعلنا الحادثة والقصة المفهومة من السياق عظة وعبرة للعالمين، لاشتهارها فيما بينهم.

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}

المفردات:

{اتَّقُوهُ} : اتقوا أن تشركوا به شيئًا.

(1) قال: بمعنى نام نصف النهار، ومصدره: القيل والقائلة والقيلولة.

ص: 1837

{أَوْثَانًا} : أصناما منوعة، جمع وثن، قال أبو عبيدة: الصنم: ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن: ما يتخذ من جص أو حجارة.

{إِفْكًا} : كذبا. {فَابْتَغُوا} : فاطلبوا.

التفسير

16 -

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} :

أي: واذكر إبراهيم حين قال لقومه: اعبدوا الله وحده واتقوه فلا تشركوا به أحدًا ذلكم الذي آمركم به وأدعوكم إليه من العبادة والتوحيد، وما يتبع ذلك من عمل الطاعات خير لكم من كل خير، ومما أنتم عليه من الوثنية التي لا خير فيها {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر، أو كنتم من أهل العلم بوجه من الوجوه تبين لكم أن الخير كله في عبادة الله وحده لا شريك له.

17 -

{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

هذه الآية استمرار في تسفيههم وبيان بطلان دينهم، وكونه شرا في نفسه بعد بيان أنه شر بالنسبة للدين الحق.

والمعنى: إنكم بعبادتكم هذه ما تعبدون من دون الله إلا أصناما هي في نفسها تماثيل مصنوعة ليس لها وصف غير ذلك، وما تخلقون إلَاّ كذبا حين تسمونها آلهة، وتدَّعون أنها شفعاؤكم عند الله، أو معنى:{تَخْلُقُونَ إِفْكًا} : أي تعملون هذه الأصنام، وتنحتونها بأيديكم لتكون العاقبة من خلقها الإفك والكذب. إن هذه الأصنام التي تتخذونها وتعبدونها من دون الله لا تقدر على نفعكم، ولا تملك لكم رزقا أيَّ رزقٍ: قليلا أو كثيرا. فابتغوا عند الله واطلبوا الرزق الكامل كله، فإن الله وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، واعبدوه وحده واشكروا له على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته وشكره تستكثروا من خيره وفضله.

ص: 1838

وقوله - تعالى -: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} - معناه: إلى الله - وحده لا إلى غيره - تعودون وترجعون بالموت والبعث، فافعلوا ما تؤمرون به واستعدوا للقائه.

{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}

المفردات:

{الْمُبِينُ} : الواضح البيِّن في نفسه، أو المبين لغيره الموضح له.

التفسير

18 -

{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} :

هذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله - تعالى -: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} يحتمل أن تكون من كلام سيدنا إبراهيم لقومه منتظمة في سياق القصة، وأن تكون وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش، بين أول قصة إبراهيم وآخرها قصد بها التنفيس عنه صلى الله عليه وسلم ومسلاة له بأن أباه إبراهيم عليه السلام كان مبتلى من قومه بمثل ما ابتلى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، وسواء أكان هذا أم ذاك فإن المعنى: وإن تكذبوني في دعوتي فلن تضروني بتكذيبكم؛ فما على الرسول إلا البلاغ والتبعة في التكذيب على المكذبين لا على رسلهم، وقد كذبت الأمم قبلكم - أنبياءهم مثل: شيث وإدريس وإبراهيم ونوح وغيرهم فما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم حيث حل بهم العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم، وأما الرسل فقد تم أمرهم، واستكملوا واجبهم في التبليغ الواضح الذي لا يبقى معه شك.

ص: 1839

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}

المفردات:

{أَوَلَمْ يَرَوْا} : المراد من الرؤية هنا: العلم، أي: أولم يعلموا علمًا يشبه المشاهدة بالبصر.

{يُبْدِئُ الْخَلْقَ} : يوجده ابتداءً من مادة ومن غير مادة على غير مثال.

{يُعِيدُهُ} : يحييه بعد موته وتحلل أجزائه، بل وتلاشيها.

التفسير

19 -

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} :

كلام مستأنف مسوق للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دلائله. والمعنى: أغفلوا وجهلوا، ولم يعلموا - علمًا تؤكده الرؤية وتؤيده المشاهدة - كيفية خلق الله - تعالى - الخلق ابتداءً من مادة ومن غير مادة على غير مثال سابق، وكل ما في هذا الكون يوحى بذلك، ويفرض العلم به، ولا ينكره إلا مكابر معاند، ثم الله سبحانه وتعالى يعيد خلقه بالبعث بعد فنائه؛ لأن القادر على خلقه ابتداءً لا يعجزه إعادة خلقه كما تقرر هذا في قوله:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (1).

(1) الآية 27 من سورة الروم.

ص: 1840

{إنَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : أي؛ إن أمر إعادة الخلق بعد الفناء يسير على الله سهل لا يفتقر إلى شيء أصلا، وإنما يقول الله - تعالى - له:(كن فيكون).

ويجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من البدء والإعادة.

20 -

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} :

أنكرت الآيات السابقة على الخلق غفلتهم وتعطيلهم العقل بعدم تدبرهم في قدرة الله - تعالى - الواضحة في بدء الخلق تدبرا يصل بهم إلى اليقين بقدرته على البعث وإعادة الخلق، وهذه الآية تأمرهم بالسير في الأرض لينظروا فيها كيفية بدء الخلق الدالة على قدرته - تعالى - على النشأة الآخرة.

والأمر في قوله - تعالى -: {قُلْ سِيرُوا} يحتمل أن يكون لسيدنا محمَّد إذا كانت هذه الآيات معترضة في قصة إبراهيم عليه السلام لتسلية الرسول، وأن يكون لسيدنا إبراهيم عليه السلام إذا كانت هذه الآية والتي قبلها وبعدها متصلة بقصته.

والمعنى: قل - يا أيها الرسول - لقومك سيروا في الأرض، وتقلبوا في جوانبها ومناكبها، فانظروا كيف بدأ الله الخلق على أطوار مختلفة، وطبائع متغيرة.

{ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} : أي؛ ثم الله الذي أنشأ النشأة الأولى قادر أن يعيد خلقهم في الآخرة مثل النشأة الأولى التي شاهدوها، وعاينوا آثارها وأطوارها.

والتعبير عن الإعادة بالنشأة الآخرة يشعر بأن النشأتين شأن واحد من شئون الله - تعالى - من حيث إن كلا منهما إخراج من العدم إلى الوجود، لا فرق بينهما إلا بالأولية والآخرية.

وإظهار اسم الله في قوله - تعالى -: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} مع إضماره في قوله - سبحانه -: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة، كما أن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق في أقطارها

ص: 1841

ومما ينبغي الالتفات إليه في هذه القضية ما يتعاقب من النبات والثمار فيكون في كل سنة على مثل ما كان عليه في السنة السابقة، فهذا مما يستدل به على صحة البعث كما أشار إليه العلامة أبو السعود، ونزيد عليه: أن الأمر كذلك في مختلف أنواع الحيوانات والطيور والأسماك.

وقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : تذييل لتحقيق ما قبله؛ لأن من علم قدرة الله - تعالى - على جميع الأشياء لا يتصور أن يعجز عن إعادة الخلائق بعد فنائهم.

{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)}

المفردات:

{تُقْلَبُونَ} : تردُّون وترجعون.

{بِمُعْجِزِينَ} : بفائتين ولا هاربين من عذاب الله.

{وَلِيٍّ} : معين وناصر يمنعكم من العذاب.

التفسير

21 -

{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وإليه تقلبون} .

جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة الآخرة.

والمعنى: يعذب بعد النشأة الأُخرى من يشاء بعدله، وهم المنكرون المصرون على الكفر. {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} بفضله، وهم المؤمنون المصدقون، وتقديم التعذيب على الرحمة لأن المقام مقام ترهيب وتخويف.

ص: 1842

وقوله - تعالى -: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} معناه؛ إلى الله وحده تردون وترجعون، فتلاقون جزاءكم من التعذيب والرحمة.

22 -

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير} :

هذه الآية من تمام الوعيد في الآية السابقة.

والمعنى: وما أنتم - أيها الخلق - على كثرتكم، واختلاف أحوالكم بفائتين من حساب ربكم، ولا هاربين من جزائه بالتوارى في الأرض الفسيحة، أو الهبوط في مهاويها. أو التخفي في مناكبها، ولا بالتحصن بالسماء التي هي أمنع من الأرض إذا استطعم الصعود إليها.

وقيل: وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا من في السماء.

{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير} : أي؛ ليس لكم من الله من أحد يحرسكم مما يصيبكم من بلاءٍ أرضي أو سماوي، ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذابه وبلاءه إذا شاء.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

المفردات:

{يَئِسُوا} : انقطع رجاؤهم وقنطوا. {رَحْمَتِي} : جنتي.

ص: 1843

التفسير

23 -

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

أي والذين كفروا بآيات الله التكوينية والتنزيلية وكفروا بلقاء الله الذي تنطق به آياته، أولئك يائسون من رحمته، قانطون من دخول جنته يوم القيامة، وأولئك لهم عذاب موجع مؤلم في الآخرة.

وفي تكرار الإشارة والإسناد وتنكير العذاب، ووصفه بالإِيلام، وفي وصفهم باليأس من رحمته - تعالى - مع شدة حاجتهم إليها يؤمئذ - وذلك كله - ما يؤذن بسوء حالهم وفظاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}

التفسير

24 -

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

يتشوف السامع إلى السؤال عن حال قوم إبراهيم عليه السلام بعد أن دعاهم إلى توحيد الله وعبادته وأمرهم بالسير في الأرض والتدبر في أحوالها وتقلباتها ليعلموا كيفية قدرة الله - تعالى - على بدءِ خلقه فيعلموا من هذه المشاهدات والأحوال كيفية قدرته على إعادة الخلق بالبعث بعد الفناء، فتكون هذه الآية هي الإجابة على هذا السؤال، ويتسق بذلك السياق في أحكم نظام وأدقه.

ص: 1844

والمعنى: فما كان جواب قوم إبراهيم على دعوته إياهم إلَاّ أن قالوا: اقتلوه بأداة قتل أو حرقوه بنار لتستريحوا منه، وتستأصلوا شره، ثم انتهوا من هذا الترديد إلى إحراقه، فجمعوا أحطابا كثيرة، ثم أضرموا فيها النار حتى ارتفع لهيبها، وحميت جذوتها، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فأوثقوه وقذفوا به فيها، فأمرها الله أن تكون بردا وسلامًا على إبراهيم ففقدت خاصيتها، ثم خرج منها سالمًا مُعافًى بفضل الله بعد ما مكث فيها.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : إن في ذلك الإنجاء من النار بعد أن بذلوا فيها جهودهم وما تبع ذلك من بردها على إبراهيم، وخيبة أملهم فيها - إن في ذلك - لمعجزات عجيبة، وآيات واضحة الدلالة لقوم مستعدين لتقبل الهداية، واستجابة الدعوة، فأما غيرهم فهم غافلون عن اجتلائها. محرومون من الفوز بمغانمها، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أمر الإحراق فقط دون القتل كما في هذه الآية، ولعل الآيات الأخرى اكتفت بما انتهوا إليه، وقد جاءت قصته عليه السلام في أكثر من سورة من القرآن مع تفاصيل أخرى.

{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}

المفردات:

{أَوْثَانًا} : أصنامًا تعبدونها من دون الله.

{مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} : سببًا في تواصلكم واجتماعكم على عبادتها.

{وَمَأْوَاكُمُ} : منزلكم الذي تأوون إليه خالدين فيه أبدا.

ص: 1845

التفسير

25 -

{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} :

لم يخرج إبراهيم من النار خائر العزم، واهن القوة وإنما خرج في مثل حاله الأولى من القوة والتصميم ماضيًا في تسفيه قومه، وتسخيف عقولهم حيث قال لهم: إنما اتخذتم من دون الله آلهة زائفة، وأصنامًا من صنعكم لا نفع لها، ولا غناء فيها جمعتكم على عبادتها، وأوجدت بينكم المودة والتآلف لنصرتها ولن يكون لكم ذلك إلا في الدنيا، ثم يوم القيامة تنقلب الأُمور، ويتبدل التواد تباغضا، والتلاطف تلاعنا حيث يكفر بكم أتباعكم، ويلعن كل فريق منكم الفريق الآخر.

كما في قوله - تعالى -: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (1).

ومأواكم ومسكنكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه النار، ومالكم من دون الله من ناصرين يخلصونكم من عذابها كما خلص الله إبراهيم من ناركم، وعصمه ونصره من سوء صنيعكم.

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}

(1) الآية 166 من سورة البقرة.

ص: 1846

المفردات:

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} : أي آمن بإبراهيم وأسلم له قياده.

{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} : أي وقال ذلك إبراهيم عليه السلام والهجرة: مفارقة بلد إلى بلد آخر، فإن كانت قربة إلى الله فهي الهجرة الشرعية، وهي اسم من: هاجر مهاجرة كما في القاموس.

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} : أي منَّ الله - سبحانه على إبراهيم بالذرية، فوهب له إسحاق ابنًا ويعقوب ابن ابن.

{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} : فلم يبعث الله نبيًا بعده إلا من صلبه، ولم تنزل الكتب السماوية إلَاّ عليهم.

التفسير

26 -

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

أي: إن لوطا صدق إبراهيم عليه السلام في جميع مقالاته، أو صدق بنبوته حين ادّعاها. لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد؛ فإن لوطا عليه السلام كان مؤمنًا باللهِ.

ولوط: ابن أخي إبراهيم عليه السلام وهو المشهور عند جمهور المفسرين، وذكر بعضهم أنه ابن أُخته، نقل ذلك الآلوسى في تفسيره.

وهو أول من أمن بإبراهيم، وأجاب دعوته إلى الحق، وكان إبراهم يسكن كُوثى - بالضم - قرية بالعراق (1) وهي من سواد الكوفة، هاجر منها إلى حرَّان ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارح، وامرأته سارة، ثم أُرسل لوط في حياة إبراهيم عليه السلام إلى أهل سدوم وإقليمها، وكان من أمرهم ما تقدم في الأعراف وهود والنمل.

(1) انظر القاموس.

ص: 1847

وإبراهيم عليه السلام أول من هاجر من أرض الكفر كما قال الكلبي، وقال مقاتل: هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقال حين ترك قومه مهاجرا:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} أي: إلى الجهَة التي أمرني ربي بالهجرة إليها، أو من أجل ربي، حيث لا أُمنَعُ عبادته وإظهار دينه، وقيل المعنى: إنِّي مهاجر من خالفني من قومي متقربًا إلى ربي {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : أي: الغالب على أمره الذي يمنعنى من أعدائى، ولا يأمر - لعظيم حكمته - إلَاّ بما فيه الخير والمصلحة.

27 -

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} :

أي: لما فارق قومه أقر الله عينه بولد صالح نبى وهو إسحاق، وبولَد ولَدٍ وهو يعقوب ولد إسحاق، وذلك في حياة جده، كانت هذه الهبة العظيمة التي لا يُقَادرُ قدرها حين أيس من الذرية من امرأته سارة وهي عجوز عقيم.

ولم يذكر هنا إسماعيل عليه السلام لأنه ولد له قبل ذلك من أم شابة ولم تكن عجوزا عقيمًا، وفي هاجر، أما إسحاق فولد بعده من سارة العجوز العقيم، ومن ورائه يعقوب ابن إسحاق.

وقال الزمخشري: إن إسماعيل ذكر ضمنًا وتلويحًا بقوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} ولم يصرح به لشهرة أمره، وعلو قدره، هذا مع أن المخاطب به نبينا صلى الله عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به: اهـ.

وقد خص الله - سبحانه - إبراهيم عليه السلام بقوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} تكريمًا له؛ حيث إنه لم يبعث بعده نبي قط إلا من صلبه وقد أوتوا الكتب المنزلة، وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وآتاه - سبحانه - أجره في الدنيا بانتماء أهل الملل إليه، والثناء عليه، وإعطاء الولد والذرية الطيبة، واستمرار النبوة فيهم، والصلاة عليه إلى آخر الدهر، وسعة الرزق {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: أي جمع الله له

ص: 1848

بين سعادة الدنيا الموصولة، وسعادة الآخرة، فوفقه إلى القيام بجميع ما أُمر به من عمل دائب لمحاربة الشرك، وإعلاء التوحيد، والطاعة له وحده، كما قال - تعالى -:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (1)

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)}

المفردات:

{لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} : أي؛ الفعلة الشنيعة، وهي إتيان الرجال.

{وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} : أي الطريق، وكلتاهما تذكر وتؤنث.

{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} : أي تقترفون في ناديكم الأمر القبيح الذي ينكره الدين والخلق.

التفسير

28 -

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} :

أي؛ واذكر - أيها الرسول - لوطا إذ قال لقومه أهل سدوم موبخا ومحذرا لهم من الأعمال القبيحة التي أقبلوا عليها وتمسكوا بها، قال لهم، إنكم لتأتون الفعلة البالغة الغاية

(1) سورة النجم، الآية:37.

ص: 1849

في الفحش، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء. وقرأ الجمهور: أئنكم على الاستفهام الإنكاري.

وقوله - تعالى -: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} حكايته لقول لوط عليه السلام مسوق لتقرير كمال قبحها، ببيان إجماع جميع العالمين قبلهم على التحاشي عنها لكونها ممَّا تشمئز منه النفوس، وتنفر من شناعته الطباع، وأنها جريمة نكراءُ، ابتدعوها ولم يُسبقوا إليها من أحد من بني الإنسان.

29 -

{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} الآية.

أي: إنكم لتنكحون الرجال انتهاكًا لحرمات الله، وتقطعون الطريق بسبب حمْلِ الغرباء والمارة على تلك الفعلة الشنعاء، وإتيانهم كرهًا، أو: وتقطعون طريق النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث، أو: وتقفون في طريق الناس تقتلونهم، وتأخذون أموالهم وقد بلغ بهم التمادى في اقتراف كل قبيح أنهم كانوا يأتون في مجتمعهم كل أنواع المنكر، من اللواط وغيره.

أخرج أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أُم هانيء بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله - تعالى -: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} فقال: "كانوا يجلسون في الطريق فيقذفون أبناء السبيل، ويسخرون منهم"، وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمَّد وقتادة وابن زيد: هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا.

ولما وقفهم لوط عليه السلام على قبائحهم أجابوه بما حكاه الله عنهم بقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : أي فيما تعدُنَا به من نزول العذاب، تكذيبًا له وسخرية به فيما نهاهم عنه وأوعدهم بنزوله.

وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مراتب تبليغ لوط عليه السلام وما في سورة الأعراف المذكور في قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} (1)، وما في سورة النمل المذكور في قوله - تعالى -: " {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُم} .. (2)، فقد صدر بعد هذه المرة، وذلك لأن

(1) من الآية: 82.

(2)

من الآية: 56.

ص: 1850

قولهم: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} من باب التكذيب والسخرية، وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات، أما قولهم:{أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} ، وقولهم:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} فمن باب العقاب والانتقام، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي منهم بما يؤذيهم، ويُبعدهم عن ديارهم. اهـ: بتصرف من الآلوسي.

وقيل: إن ما هنا جواب قومه عليه السلام له إذ نصحهم، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره.

30 -

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} :

لجأ نبي الله لوط إلى ربه متضرعًا: ملتمسًا أن ينزل العذاب الموعود على هؤلاء المفسدين الذين فعلوا الفاحشة وتمسكوا بها وأصروا عليها، واستعجلوا العذاب الذي أوعدهم به سخرية منه حينما دعاهم إلى ما فيه صلاح حالهم، واستقامة أمرهم.

ووصفهم بالمفسدين مبالغة في استحقاقهم استنزال العذاب بهم لأنهم فسدوا وأفسدوا.

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}

ص: 1851

المفردات:

{بِالْبُشْرَى} : بالبشارة بالولد ونصرة لوط.

{هَذِهِ الْقَرْيَةِ} : هي سدوم كما سبق.

{كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} : الباقين في العذاب.

{سِيءَ بِهِمْ} : اعترته المساءة خوفًا عليهم من قومه.

{رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} : أي عذابًا من السماء يزعجهم، من: ارتجز، أي: ارتجس، واضطرب.

{آيَةً بَيِّنَةً} : هي آثار القرية الخربة التي تدل على قصتها العجيبة.

{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار.

التفسير

31 -

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} :

لما استنصر لوط عليه السلام ربه على قومه بعث الله لنصرته ملائكة فمروا بإبراهيم عليه السلام في هيئة أضياف كما تقدم في سورة هود، والحجر، ولما أوجس منهم خيفة شرعوا يؤنسونه، ويبشرونه بأنهم أُرْسِلُوا له بالبشارة بالولد والنافلة (1) من امرأته سارة، وأخبروه بأنهم أُرسلوا كذلك لإهلاك قوم لوط كما حكاه قوله - سبحانه -:{قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وهم أهل قرية سدوم لإصرارهم على الفاحشة، وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي.

32 -

{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} :

(1) أي: ولد الولد، والمراد بهما إسحاق وابنه يعقوب عليهما السلام.

ص: 1852

أي: قال لهم - على سبيل التفجع والتحزن -: أتلكونها وفيها من هو برئ من الظلم؟!.

فكان ردهم عليه بأنهم غير غافلين عن مكان لوط فيها وأتباعه من المؤمنين.

وقيل: يجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام اعتقد عدم تناول إهلاك أهل القرية للوط عليه السلام لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه، وحبه له.

وقوله - سبحانه - حكاية عنهم: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} يشعر بأنهم معنيون بلوط وأهله أتم عناية؛ لتأكيد وعدهم بالتنجية بالقسم، أما امرأته فلأنها كانت تماليء قومها على كفرهم وبغيهم، فكانت من الباقين في العذاب وقد مر الكلام عن ذلك في سورة النمل.

33 -

{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} الآية.

بعد مفارقة الرسل لإبراهيم عليه السلام ساروا إلى لوط عليه السلام في سورة شبان حسان، فلما رآهم كذلك اعترته المساءة والحيرة، وعجزت طاقته عن تدبير أمرهم. وعن الحيلة لإنجائهم، وكان لا يعلم أمرهم في الساعة الراهنة التي رآهم فيها.

ولما شاهدوا فيه مخايل الضمير من جهتهم، وعاينوا ما يشير إلى أنه عاجز عن مدافعة قومه، طمأنوه.

{وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} :

أي لا تخف من قومك علينا وعليك ولا تحزن بما نفعله بقومك، ولن يصيبك وأهلك أذى إلَاّ امرأتك فهي من الهالكين الباقين في العذاب.

34 -

{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} :

بيان لما أشار إليه قوله - سبحانه -: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} من نزول العذاب على أهل قرية سدوم، أكبر قرى قوم لوط، وفيها بدأت الفاحشة كما قيل، ولذا خصت بالذكر وقد استأصل العذاب أهلها وقطع دابرهم.

قال ابن كثير: إن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذابًا إلى يوم المعاد. اهـ

ص: 1853

{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} : أي بسبب فسقهم المعهود المستمر حل بهم عذاب الإبادة والاستئصال.

35 -

{وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :

أي: ولقد أهلك الله هذه القرية وترك منها آية واضحة تدل على ما فعله الله بهم لتكون عبرة وعظة لقوم يحكمون عقولهم، ويستعملونها في الاستبصار والانتفاع بما شاهدوه من كمال قدرة الله، وقوة سلطانه.

وفي الآيات من الدلالة على ذم اللياطة وقبحها ما لا يخفى؛ فهي كبيرة بالإجماع، وأشد حرمة من الزنى.

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)}

المفردات:

{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، أي لا تحدثوا فيها الفساد بكفركم، فإنه أصل كل فساد، والعثُوُّ، والعِثِيُّ: أشد الفساد.

{الرَّجْفَةُ} : الزلزلة الشديدة، أو صيحة جبريل عليه السلام.

{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} : أي باركين على الركب ميتين.

التفسير

36 -

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} :

ص: 1854

يخبر - سبحانه - عن عبده ونبيه شعيب أنه خاطب أهل مدين، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك ده، وأن يخافوا يوم القيامة، حيث قال لهم:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} : أي خافوا ما ينزل بكم فيه من فنون الأهوال والشدائد، واعملوا اليوم الأعمال التي تؤمنكم غائلته وقسوته، قال يونس النحوي وأبو عبيدة: الرجاء هنا بمعنى الخوف والخشية، أي: اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال.

ثم نهاهم - سبحانه - عن العثو في الأرض قاصدين الفساد ظلما وبغيًا على أهلها، وكانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، مع كفرهم بالله ورسوله، وذلك أشد الفساد وأبشعه، فقال لهم:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ولما لم يعد لتهديده أثر حيث استمروا مندفعين في اقتراف آثامهم، نزل بهم من العذاب ما حكاه الله بقوله:

37 -

{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} :

أي: أصابتهم زلزلة شديدة دمرت عليهم ديارهم وأرضهم، وقيل، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة أحدثت الرجفة بسبب تحريكها للهواء، فأصبحوا بسبب ذلك باركين على ركبهم ميتين (1).

{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}

(1) وقد مضت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف، وهود، والشعراء.

ص: 1855

المفردات:

{مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} : بالأحقاف.

{فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} : أي الطريق الحق.

{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} : أي عقلاء ذوي بصائر ولكنها لم تنفعهم.

{ومَا كَانُوا سَابِقِينَ} : أي فائتين، بل أدركهم أمر الله، أو: وما كانوا سابقين في الكفر، بل سبقتهم أُمم كثيرة.

{حَاصِبًا} : سحابًا أو ريحًا يحصبهم بالحجارة.

{الصَّيْحَةُ} : تَمَوُّجٌ شديد في الهواء يحدث هزة عنيفة مهلكة.

{خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} : أي غيبناه في جوفها، يقال: خسف المكان خسْفًا، من باب ضرب، وخسوفًا: ذهب في الأرض، وخَسَفَ الله به الأرض، أي: أدخله فيها وخرقها به.

التفسير

38 -

{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ .. } الآية:

أي: واذكر عادا إذ أرسلنا إليهم هودا فكذبوه فأهلكناهم، وثمود إذ أرسلنا إليهم صالحًا فكذبوه فأهلكناهم، وقد ظهر لكم يا أهل مكة أتم ظهور ما نَزل بهم فيما حدث بمساكنهم عند مروركم عليها في أسفاركم، وكانت العرب وبخاصة أهل مكة تعرف مساكنهم جيدًا، وتمر عليها كثيرًا في أسفارهم فيبصرونها، ويشاهدون في غدوهم ورواحهم آثار ماحل بها من دمار وهلاك، وكانت عاد تسكن الأحقاف وهي قريبة من حضرموت باليمن، وثمود تسكن الحجر قريبًا من وادى القرى.

وقد زين الشيطان لعاد وثمود الكفر والعصيان بوسوسته وإغوائه، فصرفهم بذلك عن الطريق السوى الموصل إلى الحق. {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} بواسطة الرسل، فقد أَوضحوا لهم السبيل، فلا عذر لهم في ضلالهم عنه، ولا حجة لهم في اختيار الغي والضلال،

ص: 1856

أو: كانوا عقلاء ذوى بصائر يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالنظر والاستدلال لوضوح الأدلة وظهور البراهين ولكنهم أعرضوا ولم يعتبروا، قال الفراءُ: كانوا عقلاء ذوى بصائر يعرفون الحق، ولكنهم أهملوه كفرا وعنادًا وجحودًا، وقال مجاهد: وكانوا مستبصرين في الضلال.

39 -

{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ .. } الآية:

أي: واذكر - أيها الرسول - لهؤلاء المغترين بأموالهم وسلطانهم مصرع قارون، وفرعون، وهامان.

وقارون (1) كان من قوم موسى عليه السلام وقُدِّم ذكره على فرعون وهامان؛ لأن المقصود تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما لقى من قومه لحسدهم له، فقارون مع أنه كان من قوم موسى قد لقى منه موسى ما لقى، روى أنه كان يؤذيه في كل وقت ويحسده وهو يداريه لقرابته.

أو قدِّم لأنه أشرف من فرعون وهامان لإيمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة، وكونه ذا قرابة من موسى عليه السلام أو: قدم لأن هلاكه قبل هلاكهما، فتقديمه يكون على وفق الواقع، وفرعون ملك مصر، وهامان وزيره، وكانا رأس الكفر بالله ورسوله تزعما قومهما في الكفر بموسى، وأنزلا ببنى إسرائيل أشد العذاب وأقساه.

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} :

أي: لما جاءهم موسى بالحجج الواضحة على نبوته، ودعاهم إلى الإذعان واتباع الحق استكبروا في الأرض عن الإيمان بالله والطاعة له، وهذا يشعر بقلة عقولهم وضعف إدراكهم لأن من في الأرض محياهم ومماتهم لا ينبغي لهم أن يستكبروا على القوى القاهر الذي يملك السموات والأرض وما فيهما كما أنهم لا يفوتون أمر الله - تعالى - بل يدركهم وينزل بهم الدمار والهلاك، فلا يفلت منهم أحد.

(1) تقدم الحديث عنه في سورة القصص.

ص: 1857

وقال أبو حيان: المعنى: وما كانوا سابقين الأُمم إلى الكفر بل قد سبقهم إلى الكفر قرون كثيرة، فأهلكناهم، أي: تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم السلام.

40 -

{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :

أي: فكل واحد من المذكورين الذين كذبوا رسلهم، عاقبناه بما اقترف من ظلم وفساد، وكان أخذ كل منهم وفق ما أراده الله، فمنهم من أهلكناه بالريح العاصفة التي تحمل الحصباء - وهي صغار الحصى - وهم قوم لوط.

وقال ابن عطية: يشبه أن يدخل عاد في ذلك، لأن ما أُهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو من الحصب بأمور مؤذية.

ومنهم من أخذته الصيحة المدوية المهلكة، كمدين وثمود ومنهم من خسفنا به الأرض فغارت به، وغيبته في جوفها كقارون.

ومنهم من أغرقناه في اليم كفرعون، وهامان وجنوده أجمعين {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}: بأن يعاقبهم من غير جرم؛ فإن ذلك محال من جهته - تعالى - وليس من سنته عز وجل {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : أي إنما فعل بهم ذلك جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم حيث استمروا على ما يوجب عقابهم من الكفر والمعاصي باختيارهم.

{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}

ص: 1858

المفردات:

{الْعَنْكَبُوتِ} : دويبة تنسج نسجًا رقيقًا واهيًا، والمراد: النوع الذي يبنى بيته في الهواء، وتطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، والغالب في استعمالها التأنيث، وجمعها: عناكب وعناكيب.

{أوْهَنَ الْبُيُوتِ} : أشدها ضعفًا وعجزًا عن دفع أي أذى.

التفسير

41 -

{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا .. } الآية:

هذا مثل ضربه الله - سبحانه - للمشركين الذين اتخذوا آلهة من دون الله يرجون نصرها ورزقها ويتمسكون في الشدائد بها مع ما هي عليه من عجز وعدم غناء، ضربه - جل وعلا - ليبين به أن شأنهم في الضعف والوهن، والاعتماد على غير معتمد كشأن العنكبوت اتخذت مما نسجته بيتا تحتمي به من البرد والحر وغيرهما، وبيتها من اوهى البيوت وأبعدها عن الصلاحية للاحتماء.

فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه، بل إن آلهتهم أوهن من بيت العنكبوت إذ له حقيقة وانتفاع في الجملة، أما هي فلا.

وقيل: المعنى؛ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحِّد الذي عبد الله - تعالى - كمثل عنكبوت اتخذت بيتًا بالإضافة إلى رجل بنى بيتًا من آجر وحجر أو نحته من صخر، وكما أن أضعف البيوت إذا استوعبناها بيتًا بيتًا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقرأناها دينًا دينًا عبادة الأوثان، وهو وجه حسن ذكره الزمخشرى في الآية ونقله الآلوسي. وقوله - تعالى -:{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} وقع تذييلا لتقرير الغرض من التشبيه وهو أن أمر دينهم بلغ الغاية التي لا غاية بعدها في الضعف والوهن، حيث لا يرى شيء يدانى بيت العنكبوت في ذلك، ثم أكد ذلك بتجهيلهم بقوله - سبحانه -:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا يعلمون شيئًا من العلم لما اتخذوا هذه الآلهة أولياء من دون الله، ولعلموا أن هذا مثلهم، وأن أمر دينهم لا وزن له، ولا بقاء،

ص: 1859

وقيل: لو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت لما عبدوها، وقد جهَّلهم - سبحانه - في الاتخاذ، ثم زادهم - جل وعلا - تجهيلا بأنهم لا يعلمون هذا الجهل الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل.

42 -

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

أي: قل لهم - أيها الرسول -: إن الله لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم أي شيء يدعونه إلها من دونه فقد بلغ من الحقارة حدًا لا غاية له، وإنهم لفي جهل بيّن حيث تركوا عبادة الله - تعالى - وعبدوا غيره مع أنه شيء لا يعبأ به.

ويجوز أن يكون المعنى أن الله يعلم أنكم لستم (1) تدعون من دون الله شيئًا؛ لأن ما تدعوته لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئًا.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : أي الغالب الذي لا شريك له {الْحَكِيمُ} في ترك المعاجلة بالعقوبة، وهو تجهيل لهم وتقريع حيث عبدوا - من فرط الغباوة - جمادا لا علم له ولا قدرة وهو بالإضافة إلى العزيز القاهر القادر على كل شيء الحكيم البالغ في العلم، وإتقان العمل ما لا غاية وراءه - فهو بالنسبة إلى العزيز الحكيم - كالمعدوم البحت، وإن من هذا شأنه - جل وعلا - من الغلبة والحكمة قادر على مجازاتهم.

43 -

{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} :

هذا المثل والأمثال الكثيرة التي ذكرها القرآن في سوره يضربها - سبحانه - للناس تقريبا لِفَهم ما ضُرِبت له، وإدراك معناه، وإظهارا للمعاني المستورة وتوضيحًا، وكان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون: إن رب محمَّد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلهذا قال - سبحانه -:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} : أي لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا الراسخون في العلم المتدبرون للأشياء على ما ينبغي، روى محيي السنة في مسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {أتِلْكَ الْأَمْثَالُ}

الآية، فقال:"العالم: من عقل عن الله - تعالى - فعمل بطاعته واجتنب سخطه".

(1) على أن (ما) نافية؛ أي: ما يدعون من دونه شيئا؛ لأن الآلهة لحقارتها ليست شيئًا موجودا.

ص: 1860

{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}

المفردات:

{بِالْحَقِّ} : أي بالعدل والقِسط، أو بحكمته وقدرته المنزهة عن العبث.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} : أي علامة ودلالة.

{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} : أمر للرسول بتلاوة القرآن وبرواية قراءته وإبلاغه للناس.

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} أدِّها في أوقاتها وبأركانها وشروطها.

{تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} : أي تنهى عن القبيح السيء الذي ينكره الشرع والعقل.

التفسير

44 -

{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} :

أي: خلقها محقًّا بخلقها مراعيًا للحكم والمنافع المنزهة عن العبث حيث تتعلق بهما شئون عباده، ويستدل بما فيهما من آيات بينات، ودلائل واضحات على كمال قدرته - تعالى - وبديع صنعته، ويشير إلى ذلك قوله - سبحانه -:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لآية دالة على أنه - تعالى - المنفرد بالخلق والتدبير والألوهية، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أن الهداية والإرشاد لجميع المخلوقين، لأنهم المنتفعون بذلك.

ويصح أن يكون المراد من المؤمنين: الذين يريدون الإيمان.

ص: 1861

45 -

{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} :

أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن والمداومة عليها تقربًا إلى الله - تعالى - بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني، وتذكيرا للناس وحملا لهم على قراءته والعمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق. {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وإقامة الصلاة: أداؤها في وقتها بأركانها وجميع شروطها، ويراد بها الصلاة المكتوبة المؤداة بالجماعة، وهي الصلوات الخمس التي تكفر ما بينها من الذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام:(أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا) خرَّجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال فذلك: حديث حسن صحيح.

ولما كان أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالصلاة منتظمًا لأمر الأُمة بها علّل بقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} : كأنه قيل: وصلِّ بهم لأن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، أي: أنها سبب للانتهاء عنهما، وذلك لتضمنها صنوف العبادة، والوقوف بين يدي الله في غاية الخضوع والتعظيم، كأنها تقول لمن يأتي بها: لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعصي ربّاً هو أهل لما أتيت به من مناجاة له، وإقبال عليه، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل بما تكون به كالمتناقض في أفعاله. أهـ: بتصرف من الآلوسى.

ولا شك أن المصلى الصادق في مناجاته ينتهي بصلاته عن المعاصي صغيرها وكبيرها، وينعم برعاية الله ويفوز برضاه حيث خشع لها قلبه، ورغبت فيها نفسه، وظهرت على جوارحه هيبتها، حتى إذا قاربه الفتور أظلته صلاة أُخرى يترجع فيها إلى أفضل حاله.

وإذا كنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك فهذا ليس ناشئًا عن الصلاة، بل عن غفلة المصلى عن حقوق الصلاة، فمن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تفكُّر ولا فضائل، فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان في طريقه معاص تبعده من الله - تعالى - تركته يتمادى في بعده، بمعنى أنها لا تقربه

ص: 1862

إلى الله، حيث لم تنهه عنها، وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس وهو:"في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى الله - تعالى - فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلَاّ بعدا".

وقيل لابن مسعود: إن فلانا كثير الصلاة. فقال: (إنها لا تنفع إلَاّ من أطاعها، وطاعة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وكأنه أراد بالصلاة التي تطاع وتنهى عن ذلك الصلاة الخاشعة المقبولة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن عن عمران بن حصين قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله - تعالى -: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" بمعنى: أنها لم تؤت ثمرتها، كما في الصلاة التي تؤدي مع الغفلة التامة، والإخلال بما يليق بها، وهذه الصلاة تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له: ضيعك الله كما ضيعتنى، كما جاء في السنة.

وبالجملة، فإن الصلاة تنهى من واظب عليها، وأقبل بقلبه فيها على ربه، فإنها تنتهى بصاحبها إلى صلاح الحال وحسن المآل، ويشير إلى هذا ما أخرج أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلى بالليل، فإذا أصبح سرق، قال:"سينهاه ما تقول".

{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} : أي والصلاة أكبر من سائر الطاعات في أثرها وثمرتها؛ لأن ما فيها من ذكر الله هو العمدة في الأمر بالحسنات والنهي عن السيئات، ويشير إلى ذلك قوله - تعالى -:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} بمعنى: امشوا إلى الخطبة والصلاة.

وقيل: ولذكر الْعبْدِ الله - تعالى - أكبر من سائر أعماله، فهو تعميم بعد تخصيص.

أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء قال: ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها

ص: 1863

إلى مليككم، وأسماها في درجاتكم، وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم؟ قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال: ذكره - تعالى - وروى عن جماعة من السلف ما يقتضيه، أخرجه أحمد في الزهد، وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: ما عمل ابن آدم عملًا أنجى له من عذاب الله - تعالى - من ذكره - تعالى - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع؛ لأن الله - تعالى - يقول -: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} ، وقال أبو حيان:{يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} من الخير والشر، فيجازيكم بحسبه، ففيه وعد ووعيد، وحث على مراقبة الله - جل وعلا -.

ص: 1864