الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وللتجلجل معان، منها: الذهاب في الأرض، والتضعضع، وشدة الصوت، والوعيد، والأخير هو أنسبها؛ فهُو في وعيده وعقابه إلى يوم القيامة، وهناك يعذب عذاب الكافرين حيث يخلد في النار.
ولم نجد أحدًا من المفسرين تحدث عن الأرض التي خسف به وبداره فيها، ويوجد في محافظة الفيوم بحيرة صغيرة تسمى (بركة قارون) فلعله وقومه كانوا يسكنون بهذه المنطقة، وأنه خرج على قومه في زينته بأرضها فغيبه الله وداره في جوفها، ونشأت بركة قارون بسبب هبوط الأرض هبوطًا شديدًا تحت مستوى المياه الجوفية، فسارعت المياه الجوفية فملأت مكان الخسف، ونشأت بذلك بركة نسبت إليه، لتكون آية على مكانه وشاهدا على عاقبة بغيه وكفره، ومعلوم أن بني إسرائيل قد كثروا بمصر حتى أصبحوا بها أمة، وقد أذلهم المصريون، واستخدموهم في بيوتهم وحقولهم، فلما جاء موسى برسالة إلى فرعون، وأظهره الله عليه استطاع أن يخفف عنهم ذل ألاسر والاستعباد فطلب إليهم أن ينفردوا ببيوت لهم يسكنونها مستقلين عن سادتهم من المصريين، وأن يكونوا مُتجاورين، وفي ذلك يقول لله - تعالى -:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
ولو صح استنباطنا من أنهم يسكنون بمنطقة الفيوم حيث بركة قارون، فإن ذلك لا يمنع من أن بيوتهم في مصر، فإن الفيوم إقليم مصري، ولعله كان له شأن في ذلك الزمان.
السبب المباشر للخسف بقارون وداره
يروى أنه كان كثير الإيذاء لموسى فصبر عليه؛ لأنه كان ابن عمه حتى اتهمه بالزنى في محضر من قومه فبرأه الله وحكَّمه فيه، وفي ذلك روى ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس "أن قارون كان ابن عم موسى عليه السلام وكان يتتبع العلم حتى جمع علمًا، فلم يزل في ذلك حتى بغى على موسى عليه السلام وحسده، فقال موسى: إن الله - تعالى - أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى، فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، أفتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى
بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، فنرسلها إليه فتتهمه بأنه أرادها على نفسمها، فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حُكْمك (1) على أن تشهدى على موسى أنه فجَر بكِ، فقالت: نعم، فجاءَ قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال: نعم، فجمعهم فقالوا: بِم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأَن تصلوا الرحم، وكذا وكذا، وقد أمرني الزاني إذا زنى وقد أُحصن أن يرجم، قالوا: وإن كنت أنت، قال: نعم، قالوا: فإنك زنيت، قال: أَنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءَت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام: أنشدك بالله إلَاّ ما صدقتِ فقالت: أما إذْ نشدتني (2) بالله - تعالى - فإنهم دعوني وجعلوا لي جُعْلًا (3) على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أَنك برئ وأنك رسول الله. فخر موسى ساجدًا يبكى، فأَوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأَرض فمُرها تطعك، فرفع رأْسه فقال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم .... الحديث".
وفي تبرئة الله لموسى ممَّا اتهموه به يقول الله - تعالى - في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (4). وهناك روايات أُخرى في سبب خسفه، وحسب القارئ ما تقدم.
المعنى الإجمالي للآية
فخرقنا بقارون وبداره الأرض وغيبناهما في جوفها، فما كان له من جماعة غير الله يدفعون عنه نقمة الله ونكاله، وما أغنى عنه ماله وخزائنه ولا حماه خدمه وحشمه وأنصاره، وما صح ولا استقام أن يكون من الممتنعين من بطش الله بأي سبب من أسباب الامتناع، فإنه لا بد واقع، ليس له من دافع.
82 -
(1) أي: ما تحكمين به من المال أجرًا على اتهامه بالزنى.
(2)
أي: سألتني.
(3)
أي: أجرًا.
(4)
الآية: 69.
{وَأَصْبَحَ} هنا بمعنى: وصار، و {بِالْأَمْسِ} بمعنى: منذ زمان قريب، واستعماله بهذا المعنى مجاز مشهور، ومن المفسرين من حملهما على معناهما الحقيقي، ونحن نوثر المعنى الأول في تأْويل الآية؛ لما فيه من الاحتياط في تأْويلها، ولشموله للمعنى الثاني أيضًا.
ومعنى الآية: وصار الذي تمنوا منذ زمان قريب مثل ما أُوتي قارون من السعة والغنى يقولون: نَعجب ممَّا حدث لقارون، ونندم على تمنينا مثل ما أُوتى حقًّا إن الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده لا لِكرَامَة تقتضى البسط، ويضيقه على من يشاء، لا لهوان يقتضي التضييق، فهو الحكيم في قضائه وقدره، لولا أن منَّ الله علينا فلم يعطنا ما تمنينا لخسف بنا كقارون؛ لأن المال يغوينا كما أغواه، ويدمرنا كما دمره، نعجب مرة أُخرى من هذا العقاب، ونندم على تمنينا مثل يساره الذي فتنه، إنه لا يفلح الكافرون بنعم الله، المؤثرون لدنياهم على دينهم، المكذبون برسلهم ووعْدِهِم ووعيدهم، فهم الخاسرون النادمون.
المفردات:
{عُلُوًّا} : استكبارًا. {وَالْعَاقِبَةُ} : الخاتمة الطيبة.
83 -
هذه الجنة العظيمة الموجودة في الآخرة بنعيمها الدائم، وجمالها الباسم نجعلها ثوابًا للمؤمنين الصالحين الذين لا يريدون بنعم الله عليهم تعالِيًا على الناس، وسلطانًا فوقهم،
ولا يريدون بها عدوانًا وظلما يفسد عليهم حياتهم، والعاقبة المحمودة في شرع الله وحكمه للذين يتقون غضبه فيطيعون أمره، ويجتنبون نهيه، ويسالمون عباده.
جاء في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأيها الناس إني أُوحي إليّ أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد الله إخوانًا" أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، ومن أحب أن يتجمل بين الناس بنعم الله عليه فلا يعد هذا تعاليًا ولا كبًرا، فقد صح أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني أُحب أَن يكون ردائي حسنًا ونعلى حسنة أفمن الكبر ذلك؟ فقال:"لا، إن الله جميل يحب الجمال" أخرجه الإِمام مسلم والإمام أحمد.
84 -
من جاء يوم الحساب والجزاء بالخصلة الحسنة عقيدة أو عملا، فله جزاء خير منها، حيث يضاعف الله ثوابها بحسب ما فيها من حسن النية والأداءِ، ومن جاء بالخصلة السيئة عقيدة أو عملا فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا بمثل ما كانوا يعملونه من السيئات دون زيادة عليهما، كما قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (1).
وإنما قال: من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة، ولم يقل: من عمل الحسنة ومن عمل السيئة للدلالة على أن استحقاق الثواب أو العقاب مستفاد من الخاتمة التي يجيء بها الإنسان لربه، لا من أول العمل، فمن أمضى عمره في الكفر ثم أسلم وحسن عمله فقد جاء ربَّهُ بالحسنة وله ثوابه، ومن أمضى عمره في الإيمان والعمل الصالح ثم كفر، فقد جاءَ ربه بالسيئة وله عقابه. نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
(1) سورة الأنبياء، الآية: 47
المفردات:
{فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} : أوجب عليك تبليغه، والعمل به.
{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي: لراجعك إلى مكان عظيم تعودته - وهو مكة -: من العادة، أو إلى مكان تعود إليه بعد الخروج منه: من العْودِ؟، وهو مكة أيضًا، وذلك في يوم فتحها سنة ثمان من الهجرة، وفيه معان أخرى، وما ذكرناه أولاها.
{ضَلَالٍ مُبِينٍ} : بعد عن الحق واضح، من (أَبانَ): اللازم، بمعنى اتضح.
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} : وما كنت تتوقع أن ينزل عليك القرآن.
{فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} : أي معينًا لهم بإجابتهم إلى طلبهم.
{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} : ولا يمنعك الكافرون عن العمل بآيات الله بعد وقت إنزالها إليك.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} : أي كل شيءٍ فإن إلا ذاته - تعالى - فالوجه مجاز عن الذات، وللكلام بقية في التفسير.
التفسير
85 -
ذكر الله - تعالى - في الآيات السابقة قصة موسى وقومه مع قارون وبغيه واستطالته عليهم، وهلاكه، ونصره أهل أهل الحق عليه، وجاءَ بهذه الآية مشيرة إلى قصة سيدنا محمَّد وأصحابه مع قومهم، واستطالتهم عليهم، وإخراجهم إياهم من بلدهم، ومبشرة بإعزازه صلى الله عليه وسلم ورده والمؤمنين المهاجرين إلى مكة وفتحهم إياها غالبين منصورين، ووسط بين القصتين ما هو مرتبط بهما من شئون الآخرة، للانتقال من قصة أُخرى، قال مُقاتل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلًا مهاجرًا إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها، فقال له جبريل: إن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} : أي مكة ظاهرًا عليها، قال ابن عباس: نزلت بالجحفة فليست مكية ولا مدنية.
وتفسير المعاد بمكة قول الأكثرين، وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم، وقال الضَّبِّي: معاد الرجل بلده؛ لأنه ينصرف منه ثم يعود إليه.
وفي المعاد أَقوال أُخرى، وما ذكرناه أولى منها بالقبول، لما ذكرناه من الربط بين القصتين.
ومعنى الآية: إن الله الذي فرض عليك - أيها الرسول - تبليغ القرآن والعمل به، لراجعك ظافرًا إلى مكة بلدتك التي تعودتها وقد أخرجوك منها فلن يكون خروجك منها أبديًا، قل لقومك: ربي أعلم بمحمد الذي جاءَ بالهدى من عنده فينصره ويرده إلى بلده وينشر هداه، وأعلم بمن هو في ضلال واضح من قومه فيخذله، ويذله.
86 -
هذه الآية مقررة لما جاء في الآية السابقة، من الوعد بإعادته إلى مكة التي أخرجوه منها ومؤَيدة لموقفه السلبي من دعوتهم إياه إلى العودة إلى ملة الشرك التي نشأُوا عليها، وتثبيت له عليه، قال مقاتل: دعا كفار مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه فذكره الله - تعالى - نعمه، ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
والواقع أن الرسول الأمين لا يتصور منه أن يكون ظهيرا للكافرين في دينهم، فهو بعيد عنه منذ صباه، وكان يعبد الله على ما بقى من دين إبراهيم، فالغرض من نهي الرسول عن أن يكون ظهيرًا لهم، إنما هو إقناطهم من استجابته إليهم مهما اشتدت قسوتهم، ببيان أن الأمر صدر له بمخالفتهم ممن أنزل عليه الكتاب رحمة به وبهم، فلا تطمعوا في مخالفته ما كلفه به ربه.
ومعنى الآية: وما كنت تتوقع أن يختارك الله رسولًا، وأن يُنزل عليك كتابًا تبلغه قومك ومَنْ وراءَهم، ولكن رحمة من ربك بعباده وبك، اختارك وأنزل عليك الكتاب فلا تكونن في يوم من الأيام معينًا للكافرين - وأنت من الله بهذه المكانة والمنزلة المقتضية لنصرك عليهم - بل دم على ما أنت عليه من مخالفتهم والاستمرار في دعوتهم إلى الحق مهما لقيت في سبيله فلسوف يعيدك ربك إلى بلدك مظفرًا منصورا.
87 -
ولا يمنعنك قومك بإعراضهم وعدائهم عن تبليغ آيات الله بعد إذ أنزلها الله إليك، فلا تتأثر لمخالفتهم وصدهم الناس عنك، وإيذائهم لك ولأتباعك، فإن الله سيعلي كلمتك، ويؤيد دينك، ويظهر ما أُرسلت به على سائر الأَديان، ودم على ما أنت عليه من الدعوة إلى إلى ربك وحده لا شريك له، ولا تكونن من زمرة المشركين بعد أن دعوك إليهم، فهم أهل الضلال، وأنت رسول الهدى، وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور.
والغرض من الآية: إقناط الكافرين من استجابة الرسول إليهم، كما تقدم في الآية السابقة، فإنه لا يتصور منه أن يكون من المشركين، قد اختاره رب العالمين، وكيف يتصور منه ذلك وهو الذي كان يقول:"والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته أو أهْلِك دونه".
88 -
هذه الآية كالآيتين قبلها لمزيد تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما هو مقيم عليه من الدعوة إلى توحيد الله، وقطع أطماع المشركين في استجابته إلى ما أرادوه منذ فجر الدعوة من تركه دعوة التوحيد وعودته إلى الوثنية دين الآباء والأجداد مهما بالغوا في إيذائه فاقرأ ما كتبناه عليهما قبلها، لتدرك مبلغ ترابطها.
ومعنى هذه الآية: والزم توحيد ربك الذي أنت مقيم على عبادته ولا تعبد مع الله إلها آخر. فإنه لا معبود بحق سواه، كل شيءٍ مصيره إلى الهلاك إلا ذاته - سبحانه - له القضاءُ النافذ في خلقه عابدين ومعبودين وسواهم، وإليه تُرجعون للحساب والجزاء، فكيف يُعبد سواه وقضاؤه نافذ في خلقه بالهلاك والفناء؟ قال صلى الله عليه وسلم:"أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل".
واعلم أن المراد من الشيءِ: الموجود، ولهذا استدل بالآية على إطلاق لفظ شيءٍ على الله - تعالى - وكأنه قيل: كل موجود في أي وقت هالك إلا ذاته فلا يلحقه هلاك سبحانه وتعالى. وقال مجاهد والثوري في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إلَاّ ما أُريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه، والمقصود من هذا الرأى أن الأعمال الصالحة التي يراد بها وجه الله - تعالى - تبقى ببقاء ثوابها، حيث يجدها صاحبها نعيمًا مقيمًا في جنة الرحمن الرحيم.