الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النمل
مكية وآيتها ثلاث وتسعون
مقاصدها:
بينت هذه السورة أَن القرآن هدى وبشرى للمؤمنين، وأَن الذين لا يؤمنون بالآخرة معذبون أَسوأَ العذاب وهم الأَخسرون يوم الدين.
وتحدثت عن قصة موسى وأَهله عند رجوعه من مدين إِلى مصر بعد هجرته إِليها، فذكرت أَنه رأَى نارًا وأَنه ذهب إِليها ليأَتيهم بقبس منها يستدفئون به، فلما وصل إِلى مكان النار سمع نداءً يقول:{بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
ثم تحدثت عما جرى بينه وبين فرعون وقومه على سبيل الإِجمال، حيث ذكرت أَنهم جحدوا بآياته وزعموها سحرًا، فساءَت عاقبتهم بسبب كفرهم.
وتحدثت عن داود وسليمان بأَن الله آتاهما علمًا فضلهما به على كثير من عباده المؤمنين، وأَن سليمان خلف أَباه داود في النبوة والملك، وأَن الله - تعالى - علمه وأَباه منطق الطير وأَعطاهما طرفا من كل شيءٍ.
وذكرت أَنه - تعالى - جمع لسلمان جنودًا من الجن والإنس والطير، فلما أَتوا على وادي النمل قالت نملة لجماعتها آمرة ومحذرة:{ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} فضحك سليمان لقولها هذا، ودعا ربه أَن يعينه على شكر نعمته التي أَنعمها عليه وعلى والديه، ويوفقه لصالح العمل الذي يرضيه وأَن يدخله برحمته في عباده الصالحين.
وذكرت أَنه تفقد الطير التي جعلها الله من جنوده، فلم يجد الهدهد، فعجب لتخلفه عن موقعه، وتوعده بالتأْديب الشديد، ما لم يأْته بسبب مقبول يقتضي تخلفه، فلم يطل غيابه، بل حضر إِليه وأَخبره بخبر عجيب، إِذ قال: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ
…
} الآيات.
فلما فرغ من حديثه العجيب قال له سليمان: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وبعث معه رسالة إِلى ملكة سبأ، وأَمره بمراقبتها بعد وصول خطابه إِليها، ليعلم منه كيف تتصرف عندما يحدق بها الخطر، فحمل كتابه وأَلقاه إِليها، فجمعت أَشراف قومها قائلة:{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} وطلبت منهم الِإفتاءَ وبذل المشورة في هذا الأَمر الخطير، إذ قالت:{أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} ، فردوا قائلين:{نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} فلما أَحست منهم الميل إِلى القتال دفاعًا عن البلاد قالت: {إنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً .... } ورأَت المصالحة بإرسال هدية إِلى سليمان عليه السلام لترى أثرها عنده، فلما وصل الرسول بهديتها ردها سليمان إليها، وأخبرها بأَن الله أَعطاه خيرًا مما أَعطاها، ولم يقبل منها سوى الاستسلام، حتى لا يأْتيهم بجنود لا قبل لهم بها، فيخرجوا من بلادهم أذلة صاغرين.
ثم طلب من جلسائه أَن يحضروا لها عرشها قبل أن تأْتيه مسلمة، فكان أسرعهم مَنْ عنده علم من الكتاب، حيث جاء به قبل أَن يرتد إليه طرف فشكر الله - تعالى - على تلك النعمة، وطلب من أتباعه أن يُنَكِّروه لها لتغيير هيئته ليعرف مقدار فطنتها {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} ، ثم قيل لها: ادخلي القصر، فلما دخلته رأَت صَحْنه كأَنه ماءٌ، فكشفت عن ساقيها، فقال: إِن ما تظنينه ماء هو صرح أَملس من
زجاج، وحينئذ قالت معترفة بخطئها في عبادة الشمس:{إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْماَنَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ثم حكت السورة قصة هود مع نبيهم صالح وكفرهم
…
وتآمرهم على قتله وأَن الله عاقبهم على مكرهم بإِهلاكهم أَجمعين وأَنجى صالحا ومن معه من المؤمنين.
وذكرت قصة قوم لوط، وقد جاء فيها لومه إياهم على إتيانهم الرجال شهوة من دون النساء:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} : أَي يتنزهون عن أَفعالنا ولا يرضونها لأَنفسهم، فأَنجاه الله وأَهله المؤمنين، وأهلك سواهم من الكافرين وفيهم امرأَته.
ثم ناقشت المشركين وقارنت بين معبوداتهم الضعيفة وبين الله الواحد القهار، وبدأت المناقشة بقوله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} وبينت آثار قدرة الله ونعمه: فذكرت أَنه خلق السموات والأرض وأَنزل من السماء ماءً فأَنبت به حدائق ذات بهجة، وأَنه جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أَنهارًا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزًا دون أَن يكون مع الله إله في خلق هذه الكائنات والنعم العظيمة.
ثم عقبت ذلك ببيان كثير من النعم الجليلة التي لم ينعم بها سوى الله، وساءَلتهم في كل ذلك منكرة عليهم شركهم:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} .
ثم عابت عليهم شكهم في الآخرة وقولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} وزعمهم أَن أَمر الآخرة من أَساطير الَأولين، وردت عليهم بقوله تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ودعت نبيه صلى الله عليه وسلم إِلى عدم الاهمام بإِعراضهم، فذكرت قول الله - تعالى -:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} وتوعدتهم بقوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} وبقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
ثم بينت أَن هذا القرآن يقص علي بني إِسرائيل أَكثر الذي هم فيه مختلفون، وأمرت النبي بالتوكل على الله بقوله - تعالى -:{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} وبينت
أَن خصومه يشبهون الصم العمى، فما هو بمسمعهم ولا هاديهم:{وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .
وذكرت أَنه إذا قرب وقوع القول عليهم - وهو ما وعدوه من البعث والعذاب - أَخرج الله دابة من الأَرض تكلمهم، وتكون حجة عليهم؛ لأَن الناس صاروا بآيات الله لا يوقنون، وسيأَتي بسط الحديث في شأْنها في موضعها من السورة.
ثم بينت أَنه يوم ينفخ في الصور يفزع أَهل السموات والأرض إلَّا من شاء الله كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ممن يثبتهم الله يومئذ، وأَن الجبال في هذا اليوم تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، وأَن أصحاب الحسنات يجازون يومئذ بخير منها، وأَصحاب السيئات من الكفار يكبون على وجوههم في النار.
ثم ختمت السورة ببيأَن أَن الله - تعالى - أَمر نبيه أَن يعبد رب هذه البلدة التي حرمها وهي مكة، وله كل شيء، وأَمره أَن يكون من المسلمين وأَن يتلو القرآن، وأَن يقول لقومه:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
(تِلْكَ): إِشارة إِلى السورة. {آيَاتُ الْقُرْآنِ} : أي آيات من القرآن، فالإضافة على معنى مِنْ. (مُبِينٍ): موضح للأحكام والأخلاق والعظات، من: أبان غيره: أَي أَوضحه، أَو الواضح بإعجازه ومعانيه، من: أبأَن اللازم بمعنى اتضح. (يَعْمَهُونَ): يتحيرون ويترددون.
التفسير
1 -
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} :
"طس" اسماَن لحرفين من حروف المعجم، هما الطاءُ والسين، وقد مضى الكلام بشأَن مثلهما في أَوائل سور: البقرة وآل عمران ويونس وهود وغيرها، فارجع إليها إِن شئت، ونزيد على ذلك أَن بعض المعنِيِّين بإعجاز القرآن الكريم أثبتوا بالآلات الحاسبة:(الكمبيوتر) أَن كل سورة بدئت بمثل هذه الفواتح، تغلب فيها الحروف التي بدئت بها على سائر الحروف التي تكونت منها كلمات السورة، وبما أَن محمدا صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ لا يقرأُ ولا يكتب فذلك شاهد على أَن القرآن ليس من تأْليفه - كما زعم أعداءُ الحق - بل هو من عند الله العزيز الحكيم.
والمراد بقوله: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} القرآن نفسه، وتنكيره للتعظيم والتفخيم، وقد وصف به على سبيل العطف للإيذاَن بأَنه جامع بين صفتين: إِحداهما، أَنه معجزة مقروءَة على الدوام، وثاَنيتهما: أَنه كتاب مبين لما اشتمل عليه من الحِكم والأَحكام، وأَحوال القرون الأُولى والمعجزات الكونية، وأَحوال الآخرة، والعقائد النظيفة التي لا تناقض فيها ولا استحالة، وكما أَنه موضح لما ذكر فهو واضح لكل قارئ ولكل سامع، فلا يصعب فهمه على أَحد، أُميا كان أَو قارئا.
وقد فاقت معجزة القرآن سائر المعجزات السابقة؛ لأَنها لا وجود لها الآن، فأَين عصا موسى، وناقة صالح، وإبراءُ الأَكمه والَأبرص، وإِحياءُ: الموتى من عيسى بإذن الله؟ لقد ذهبت كلها وأَصبحت خبرًا بعد عين، ولولا أَن القرآن أَيدها لكانت موضعًا لا شك والريبة. أَما معجزة القرآن فهي باقية ما بقى الزمان، واضحة الإعجاز والبيأَن، لأن شريعته التي جاءَ بها هي الشريعة العامة لبشرية، الخاتمة لجميع الشرائع، فلذلك جعله الله آية باقية مقروءَة مكتوبة، بينة مبينة محفوظة من التغرير والتبديل، بكفالة العزيز الحكيم:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . (1)
ومعنى الآية: طس: تلك السورة آيات وعلامات من القرآن وكتاب مبين للعقائد الصحيحة، والأحكام السديدة، والأخلاق الرشيدة، والغيبيات على ما هي عليه، والكونيات وما ترشد إليه.
2، 3 - {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}:
أَي هذا القرآن عظيم الهداية والبشارة للمصدقين، الذين يضمون إِلى تصديقهم به إقامتهم الصلاة في مواقيتها، وإيتاءهم الزكاة لمن يستحقها، وهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب مصدقون، لا يشكون ولا يمارون ولا يجادلون بل يعملون لها مخلصين، فإن إيمانهم بها يحملهم على صدق النية وإخلاص العمل، خوفًا من العقاب، ورغبة في جميل الثواب.
(1) سورة الحجر، الآية: 9
والمراد من الزكاة هنا: مطلق الصدقة؛ فإِن الزكاة بمعناها المعروف فرضت بعد الهجرة في حين أَن هذه السورة مكية.
4 -
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} :
في هذه الآية والتي بعدها بياَن لحال الكفرة ومآلهم بعد بيان أحوال المؤمنين وعاقبتهم.
ومعلوم أَن الشيطان هو الذي يزين القبائح والمعاصي لأصحابها فيقبلون عليها كما قال - تعالى - في سورة النحل: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية 63.
وإسناد التزيين هنا إِلى الله تعالى مجاز عن تخليه عن معونتهم وتركهم لشياطينهم وغرائزهم الشريرة، التي تزين الكفر والمعاصي إِلى نفوسهم، بسبب إصرارهم على الكفر بالآخرة.
والمعنى: إِن الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وجزاءٍ، وظنوا أَن الحياة هي الحياة الدنيا فأَنصرفوا إليها، ولم ينفعهم نصح أَنبيائهم، فهؤلاءِ تخلينا عن معونتهم على الهدى، وتركناهم لشهواتهم وشياطينهم، لتزين لهم ما هم فيه، فهم في غيهم يتحيرون ويترددون، والعمى صفة البصر، والعمه صفة البصيرة، فبصيرتهم في ظلام الضلال، لا تدرك ما ينفعها ولا ما يضرها.
5 -
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} :
أي؛ أُولئك الذين كفروا بالآخرة وتركناهم في ضلالهم، قضينا عليهم بالعذاب السيء في الدنيا بالقتل والأَسر وغير ذلك من محن الحياة الدنيا، وهم في الآخرة هم الأشد خسرانًا منهم في الدنيا، حيث يخلدون في النار وبئس القرار، ولا توجد خسارة أَفدح من هذه الخسارة.
ويصح أَن تكون كلها في عذاب الآخرة، على معنى أَن لهم العذاب السىء فيها، وهم أَشد الناس خسارة حينئذ، لحرماَنهم من الثواب، واستمرارهم في العقاب، بخلاف عصاة المؤمنين.
المفردات:
(مِنْ لَدُنْ): من عند. (حَكِيمٍ): عظيم الحكمة، والحكمة: إتقان الأُمور.
(آنَسْتُ): أَبصرت. (بِشِهَابٍ قَبَسٍ): بشعلة نار مقبوسة ومأخوذة من النار التي أبصرها. (تَصْطَلُونَ): تستدفئون. (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا): جعلت البركة لمن في البقعة التي فيها النار، ولمن في الأماكن التي حولها.
(الْعَزِيزُ): القوى الذي يَقْهرُ وَلَا يُقْهَر.
التفسير
6 -
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} :
بينت الآيات السابقة بعض شئون القرآن، وجاءَت هذه الآية تمهيدًا لما يليها من القصص التي اشتملت عليها، وهي مستأْنفة لهَذا الغرض، وليست معطوفة على ما قبلها، وَالذى يُلْقى القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الحكيم العلم هو الروح الأمين جبريل عليه السلام قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . (1)
(1) سورة الشعراء، الآيات: 193 - 195
وقد تضمنت الآية تحقيقًا لنزوله من عند الله وتأكيدًا لذلك وتفخيمًا لشأْنه، فالآية واضحة الإِشارة إِلى أَن هذا القرآن مشتمل على حكم عظيمة، وعلم غزير، لا يمكن أَن يصدرا عن البشر، وإِنما يصدراَن عن إله حكيم عليم، ولذلك صُدِّرَتْ بإِنَّ واللام في قوله:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} وهما للتأْكيد، وجمع بين الحكمة والعلم؛ لأَن فيه ما هو من قبيل الحكمة كالعقائد الصحيحة والأحكام الشرعية الصالحة لكل زمان ومكان، وما هو من قبيل العلم المطلق مثل القصص والأَخبار الغيبية.
والواقع أَن العلم يعم الحكمة وسواها، ولكنه جمع بينهما للإيذان باشتمال القرآن عليهما جميعا على أكمل وجه.
ومعنى الآية: وإنك - أَيها الرسول - ليلقى إليك القرآن من عند حكيم عظيم الحكمة وإِصابة الحق، عليم واسع الإِحاطة بالأُمور ما وجد منها وما سوف يوجد، لأَنه فوق مستوى قدرة البشر:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1).
7 -
كان موسى عليه السلام قد خرج من مصر حين علم أَن الملأ من قومها يأتمرون به ليقتلوه قصاصًا منه لقتله القبطي الذي اعتدى على رجل من بني إِسرائيل، فخرج إِلى سيناء وانتهى في رحلته إلى مدين، حيث عمل أَجيرًا عند شعيب في مقابل تزويجه إِحدى ابنتيه، فلما قضى المدة المتفق عليها، حنَّ للرجوع إِلى مصر ومعه أهله، فسار بأَهله فأَدركها المخاض عند الطور، فوضعت في ليلة شاتية باردة، وكان قد حاد عن الطريق لأمر شاءَه الله - تعالى - وقد أصبح بحاجة إِلى أمرين: أحدهما: أَن يوقد نارًا ليستدفئ بها أَهله، وثانيهما: أَن يهتدى إِلى الطريق الموصل إِلى مصر بعد أَن حاد عنه، وقد أدركته عناية الله وهو في حيرته هذه، حيث أظهر له نارًا على بعد قليل من الطور كما قال - تعالى - في سورة القصص:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} (2).
(1) سورة النساء، من الآية: 82
(2)
سورة القصص من الآية: 29
وحينئذ قال لأهله: إني أبصرت نارًا سأتيكم منها بخبر عن الطريق الذي نصل منه إِلى مصر بسؤال من أوقدوا هذه النار، أَو آتيكم بشعلة مقتبسة ومأْخوذة من هذه النار التي أراها، لعلكم (1) بهذه الشعلة المقبوسة تستدفئون إذا جعلتها داخل حطب وأوقدته بها.
وإِدخال السين على الفعل في قوله: "سآتيكم" لتأْكيد الوعد وتحقيقه - كما قال الزمخشرى - ولإِفادة مجيئه عن قرب حتى لا يستوحش أَهله لتركه إِياهم في هذا المكان.
8 -
في الكلام مضاف مقدر، أَي: فلما جاءَها بورك مَن في مكان النار ومَنْ حول مكانها، والمراد من مكان النار: البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (2) والمراد ممن في بقعة النار ومن حولها: كل من في هذا الوادى وحواليه من أَرض الشام التي باركها الله بمبعث الأَنبياء ودفنهم بها، ولا سيما تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وقيل: من في بقعة النار: موسى عليه السلام ومن حولها: الملائكة، وقيل: العكس.
وقد نبه الله على جلال المقام، وتنزهه - تعالى - عن الحلول وعن صفات البشر، بأَن ختم الآية بقوله سبحانه وتعالى:{وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
والنار التي رآها موسى عليه السلام لم تكن نارًا حقيقية، فقد كانت نورًا كما روى عن ابن عباس:(لم تكن نارًا، إنما كانت نورًا يتوهج)، وهذا النور من نور الله تعالى - كما روى عنه.
ونقل القرطبي عن ابن عباس والحسن أَن المعنى: قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى عنى به نفسه (3) تقدس وتعالى، ثم عقبه بقوله: قال ابن عباس ومحمد بن كعب:
(1) تستعمل "لعل" للرجاء، وللتعليل، وهي هنا صالحة لكليهما.
(2)
سورة القصص، من الآية: 30
(3)
أَنكر الإِمام هذه الرواية وقال إنها موضوعة، وقال أبو حيان: إذا ثبتت هذه الرواية عن ابن عباس وغيره، كان معناها بورك من قدرته وسلطانه في النار ومن حولها. وقد شرحها القرطبي على هذا النحو حذرًا من فكرة الحلول التي يأباها الإِسلام، وينزه عنها ابن عباس وأعلام الصحابة والتابعين، وقد نقلنا ما قاله القرطبي في ذلك، وستراه بعد قليل.
النار: نور الله عز وجل نادى الله موسى، وهو في النور - قال القرطبي - وتأويل ذلك: أَن موسى عليه السلام رأَى نورًا عظيمًا فظنه نارًا، وهذا لأَن الله - تعالى - ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار، لا أَنه يتحيز في جهة، ومثله كمثل قوله - تعالى -:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (1) فإنه سبحانه وتعالى لا يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به الفاعل، وعلى هذا يكون {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} بمعنى قُدِّسَ مَنْ فِي النار سلطانه وقدرته وكلامه: انتهى بتصرف يسير.
ثم نقل القرطبى عن سعيد بن جبير كلامًا يشبه كلام ابن عباس وابن كعب، إِذ قال: كانت النار بعينها فأَسمعه الله كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها، قال القرطبي: وهو كما روى أنه مكتوب في التوراة: (جاءَ الله من سيناءَ وأَشرف من ساعير، واستعلى من جبال فاران)(2) فمجيئه من سيناء بَعْثُه موسى، وإِشرافه من ساعير بَعْثُه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم وفاران (مكة) وسيأتى في القصص زيادة بيان في سماع الله كلامه موسى: انتهى بتصرف يسير.
وإليكم تفسير الآية على أَن منْ في النار ومَنْ حولها هو موسى والملائكة فما يلي:
فلما وصل موسى إِلى النار التي رآها وهو بجانب الطور، نودى نداءً إلهيًّا منبعثًا من الشجرة بأَنه بورك موسى الذي في بقعة النار، وبورك مَنْ حولها من الملائكة، وقيل لموسى: سبحان الله رب العالمين، تنزيهًا له - تعالى - عن أَنْ يشبهه شيءٌ من مخلوقاته، أَو يحيط به شيء من مصنوعاته فلا تكتنفه أرض ولا سماء، ولما وقف موسى مبهورًا متعجبًا من صدور الكلام عن النار، أَعلمه الله أَنه - سبحانه - هو المتكلم فقال:
9 -
{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
الضمير في "إنَّهُ" للشأْن، والعزيز الحكيم وصفان للفظ الجلالة، ممهدان لما أُريد إِظهاره على يد موسى عليه السلام من المعجزة.
(1) سورة الأَنعام، من الآية: 3
(2)
جاء في كتاب (محمد نبى الإسلام في التوراة والإنجيل والقران) للمستشار محمَّد عزت الطهطاوى منقولا عن الإصحاح 23 عدد 2 من سفر التثنية على لسان موسى عليه السلام بلفظ: (جاء الرب من سيناء، وأشرف من ساعير، واستعلى من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سنة من نار، أحب الشعوب جميع الأطهار بيده) انظره وشرحه في ص 9 من هذا الكتاب، والمقصود من عبارة (بيده سنة من نار) شريعة الجهاد. التي جاء بها رسوله المبعوث من جبال فاران، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: يا موسى إِن الأمر والشأْن أَنا الله القوى القادر على ما لَا يقدر عليه غيرى من الأمور العظام التي من جملتها ما سوف أُوْيدك به من المعجزات، الحكيم الذي تصدر أَحكامه وأَفعاله بغاية الإحكام والسداد.
المفردات:
{تَهْتَزُّ} : تتحرك باضطراب. {كَأَنَّهَا جَانٌّ} : الحية الخفيفة السريعة.
{وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} : انصرف راجعًا إِلى الخلف ولم يَعُدْ، من: عَقَّب المقاتل، إذا كَرَّ بعد الفرار. {جَيْبِكَ}: الجيب؛ فتحة القميص من أَعلاه إِلى الصدر، ليدخل منه الرأْس، واستعماله في الفتحة التي يوضع فيها كيس الدراهم ونحوه مُوَلَّدٌ.
{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} : أَي؛ آية معدودة من جملة تسع آيات. {مُبْصِرَةً} : بينة واضحة، من أَبصر، بمعنى وضح مجازًا، أَو مُعينَة على البصر، أَي: على التبَصُّر، من أَبصر غيره، أي: جعله يبصر بقلبه ويهتدى.
التفسير
10 -
{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
…
} الآية.
هذه الآية من جملة ما كلم الله به موسى من الشجرة، وقد تضمنت أَنه - تعالى - أَمره أَن يلقى عصاه من يده، ليرية آية على أن الذي يكلمه هو الفاعل المختار القادر على كل شيءٍ، وقد شبهت العصا بعد تحولها بالجان، وهي ضرب من الحيَّات أَكثرها حركة وأَسرعها اضطرابًا، مع صغر في الحجم، وقد جاء تشبيها بثعبان مبين في قوله تعالى:{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (1) والثعبان أكبر حجمًا من الجان، فهي في حجم الثعبان جسمًا، وفي صورة الجان حركة واضطرابًا سريعًا، فلذا عبر عنها بالكلمتين في موضعين مختلفين من السور.
والمعنى: ونادى الله موسى: ألق عصاك الخشبية من يدك، فأَلقاها فأَنقلبت حية، فلما رآها تتحرك بشدة واضطراب كأنها جان في سرعتها وخفتها، انصرف عنها مدبرًا خوفًا منها، ولم يرجع إِلى المكان الذي كان فيه حين ألقى عصاه فناداه ربه مطمئنًا بقوله:
{يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} : يا موسى لا تخف من هذه الحية التي آلت إليها العصا، ولا من غيرها فإِنه لا يخاف في حضرتي المرسلون؛ لأَننى أَحميهم وأحْفظهم من كل شيءٍ.
وفي هذه الآية بشارة له بأنه سيكون من رسل الله سبحانه وتعالى وتعليم له بأنه لا ينبغي لمن يرسلهم الله إِلى خلقه لهدايتهم، أَن يخافوا أَو يخطر الخوف ببالهم عند الوحى إِليهم وإِن وُجِدَ ما يخاف منه، لاستغراقهم في تلقي أَوامر الله، وانجذاب أَرواحهم إِلى عالم الملكوت، والتقييد بكلمة {لَدَيَّ} لأن المرسلين يغلب الخوف عليهم في غير هذه الحالة، فهم في سائر أَحيانهم أَخوف الناس من الله عز وجل فقد قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) ولا أعلم منهم باللهِ - تعالى -.
(1) سورة الأعراف، الآية: 107
(2)
سورة فاطر، من الآية: 28
هذا في الدنيا، أَما في الآخرة وهم في حضرته - تعالى - فإنهم لا يخافونه خوف عقاب وإن خافوه خوف إجلال؛ لأنهم صفرة عباده وأَحرصهم على تقواه.
وبعد أَن بين الله أَن المرسلين لا يخافون في حضرته - تعالى - عقب ببشارة عامة لكل من أَحسن بعد الإساءَة من عباد الله - تعالى - فقال - سبحانه -:
11 -
{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
ولفظ: "إلاّ" هنا بمعنى (لكن) وهو ما يسمى في عرف النحاة بالاستثناء المنقطع، والمعنى: لكن من ظلم نفسه بارتكاب عمل سىء، ثم بدل فأَتى بعمل حسن بعد عمله السىء تائبًا إِلى ربه، فلا يخاف، فإِنى عظيم الغفران واسع الرحمة.
وهذه الرحمة بالتائبين مقررة في آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1)، وقوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (3).
12 -
بينت الآية السابقة أن الله - تعالى - أَرى موسى كيف يحول العصا الخشبية إِلى حية تسعى، وجاءَت هذه الآية لتبين معجزة أُخرى ودليلًا باهرًا على قدرة الله - تعالى - وأَنها مع سابقتها يؤيده الله بهما في رسالته إِلى فرعون وقومه في ضمن تسع آيات تشهد برسالته، وتقوم بها حجة الله عليهم إِن لم يستجيبوا له، إِذ يعاقبهم على كفرهم أَشد العقاب.
والآيات التسع التي أَشارت إِليها الآية هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب.
(1) سورة طه، الآية: 82
(2)
سورة النساء، الآية: 110
(3)
سورة طه، الآية: 112
والطمسة: جعل أبواب رزقهم حجارة، والجيب: فتحة القميص من جهة الصدر وهي مدخل الرأْس فيه، كما تقدم في بيان المفردات.
ومعنى الآية: وأدخل يدك في فتحة قميصك من جهة الصدر، وأَخرجها تخرج بيضاءَ ساطعة تتلألأ كأنها قطعة من القمر من غير سوءٍ حل بها، وهاتان الآيتان في جملة تسع آيات واضحات أُؤيِّدك بهن وأَجعلهن براهين على صدقك في دعواك الرسالة عنا إِلى فرعون وقومه، فإِنهم كانوا قومًا فاسقين خارجين عن طاعتنا والإيمان بنا، مع أن يوسف قد دعاهم إِلى الحق من قبلك، ولهم عقول لو فكروا بها في آياتنا لهدتهم سواءَ السبيل.
13 -
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} :
أَي: فلما جاءَهم موسى مؤَيَّدًا بآياتنا المعينة على التبصر والهدى، قالوا - معرضين عن التأمل والانتفاع بها -: هذا الذي جئتنا به سحر واضح.
ولما كان الذي قالوه مخالفًا لما وقر في نفوسهم، عقب الله مقالتهم هذه بقوله:
14 -
أَي وكذب قوم موسى بالآيات التي أَيده الله بها مع تمام وضوحها، وقد استيقنتها أنفسهم وآمنت بها قلوبهم، وكان إنكارها بألسنتهم ظلما منهم للحق ولأنفسهم، وتعاليًا عليه وعلى من جاءهم به من عند ربه، فانظر - أَيها المتأمل - كيف انتهت إِليه عاقبة المفسدين حيث أغراهم الله بالدخول في الطرق التي شقها لبني إِسرائيل في البحر، وأغرقهم جميعًا فيه بعد انتهاءِ عبور بني إِسرائيل، فبئس مصير المتجبرين.
المفردات:
{عِلْمًا} : إِدراكًا لعلوم الدين وأُصول الحكم وغيرها.
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} : ورثه في النبوة والملك.
{عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} : منطق الطير، ما تعبر به عن حاجاتها وشئونها من أصوات أو حركات.
{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مما يحتاج إليه الملك.
التفسير
15 -
شروع في بيان قصة داود وسليمان - عيهما السلام - بعد إجمال الحديث بشأْن موسى مع فرعون وقومه، لتقرير ما تقدم ذكره، من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن من لدن حكيم عليم.
والمراد بالعلم الذي أَعطاهما الله إِياه: هو علم شريعة الله وسياسة الملك وما يختص به كل منهما من العلوم.
وكان الظاهر أَن يقال: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} بالفاءِ دون الواو، كما تقول: أَعطيته فشكر، ولكن التعبير بالواو هنا أبلغ، لما فيه من الإِشعار بأَن ما قاله داود وسليمان بعض آثار إِيتائهما العلم، فأُضمرت تلك الآثار وعطف عليها الحمد، فكأَنه قيل: ولقد آتيناهما
علمًا فعملا به وعرفا حق النعمة فيه، وقالا: الحمد الله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (1).
وفي الآية دليل على أن العلم من أجل النعم، حيث شكرا الله على إيتائهما إياه، ولم يذكرا معه سواه من سائر النعم التي أنعم الله بها عليهما من الملك وغيره، فإن العلم هو أَساس جميع النعم، وفيها حث للعالم على شكر الله، وأَن لا يتكبر بما أُوتيه من العلم وآثاره على الناس، فيقول ما قاله قارون:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (2)، كما فيها حث له على أن يعلم أنه وإِن أُعطى من العلم ما يفضل به كثيرًا من الناس، فقد فضل الله به غيره عليه، فإن العلم لا غاية له.
ومعنى الآية: ولقد أعطينا داود وابنه سليمان علمًا بشئون الدين والدنيا يناسب ما أَعطينا كليهما من النبوة والملك، وقال كل منهما: الحمد لله الذي فضلنا بهذا العلم على كثير من عباده المؤمنين الذين لم يعطوا منه مثل ما أعطينا.
16 -
المراد من ميراث سليمان داود: أنه صار نبيًّا وملكًا بعده، فوراثته إِياه مجاز عن ذلك، ولم يرث عنه المال، قال صلى الله عليه وسلم:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث". رواه أبو بكر وعمر أمام جمع من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد، وهم الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وأَخرج أبو داود والترمذي عن أبي الدرداءِ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِن العلماءَ ورثة الأَنبياءِ، وإِن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ولكن وَرَّثُوا العلم، فمن أَخذه أخذ بحظ وافر".
والمراد من الناس: أَهل مملكته، ومن منطق الطير: لغته التي يتخاطب بها بصوت أَو بإشارة، وكان يعرف لغة الحيوانات والحشرات، ومن ذلك ما روته هذه السورة من قصة الهدهد والنملة.
(1) هذه خلاصة ما قاله الزمخشرى في التعبير بالواو دون الفاء.
(2)
سورة القصص: من الآية: 78
وقد عرض بعض المفسرين لذكر قصص عن طيور مختلفة فهم لغتها وأَصواتها، ولا تعدو هذه القصص أن تكون مجرد حكايات لم ترد عن الصادق المصدوق، فلهذا لم نذكرها هنا، التزاما بما التزمنا به من الاقتصار في التفسير على المعنى اللغوى أَو المأْثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو ما قاله السلف مما يتفق مع القواعد الشرعية والمعنى اللغوى، وحسبنا أن الله - تعالى - أطلق تعليم سليمان منطق الطير، وهذا يتناول فهمه للغته ومراداته منها على أوسع نطاق، هذا أَمر خص الله به نبيه سليمان، وليس من باب الفراسة ولا مجرد الذكاء، وإِنما هو بتعليم الله إياه ذلك، كما هو صريح الآية الكريمة ليكون ذلك من المعجزات التي أَيد الله بها رسالته.
ومعنى الآية: وقام سليمان بعد أَبيه مقامه في النبوة بوحى من الله، وفي الملك برضا أُمته، وقال تَحَدُّثًا بنعمة الله، وإِعظاما لقدرها، ودعوة للناس أن يصدقوه في نبوته بذكر المعجزة التي أَيده الله بها - قال -: يا أَيها الناس علمنا الله - تعالى - لغة الطير التي يتخاطب بها، وأُوتينا من كل شيء يحتاج إِليه الملك وتؤيد به النبوة، كتسخير الشياطين والريح، وغير ذلك من أُمور الدنيا والآخرة، إِن إيتاءَ العلم والإعطاء من كل شئٍ لهو الإحسان الواضح من الله رب العالمين، المقتضى لجزيل الشكر ممن أُنْعِم به عليه.
واعلم أن قولًا - تعالى -: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} إِما أَن يكون من كلام الله - تعالى - تعظيمًا للفضل الذي أَنعم به على داود وسليمان عليهما السلام وإِما أَن يكون حكايته لكلامهما على سبيل الشكر والاعتراف منهما بعظيم فضل الله عليهما، لا على سبيل الفخر والمباهاة، ومثل ذلك كمثل قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر".
المفردات:
{وَحُشِرَ} : الحشر؛ الجمع. {يُوزَعُونَ} أَي: يحبسون ويمنعون من المضى حتى يتلاحقوا ويجتمعوا، والإيزاع: الحث على الوزع، وهو الكف والمنع (1).
{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} : لا يهلكنكم، وأَصل الحطم: التكسير. {أَوْزِعْنِي} : ألهمنى، وأصله: من الإِيزاع، وهو الحث على الكف والمنع كما تقدم، فكأَنه قال: حُثِّنِى وَأَعِنِّى على كف نفسى عن التقصير في شكر نعمتك.
التفسير
17 -
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} :
بين الله في هذه الآية أَن سليمان عليه السلام كان له جنود من أَصناف ثلاثة: الجن، والإنس، والطير، وهذا شيءٌ خصه الله - سبحانه - به، استجابة لدعائه الذي حكاه الله بقوله في سورة (ص): {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ
(1) ومنه قول عثمان رضي الله عنه: (ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن)، وقول الشاعر:
وَمَنْ لَمْ يَزعْهُ لُبُّهُ وَحَيَاؤُه
…
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازِعُ
وقد أَضافت هذه الآيات من سورة (ص) الريح إِلى جنوده المسخرين له في هذه السورة، وبهذا اكتمل له عِزٌّ وجاه ليس لأَحد من العالمين، لِحِكَمٍ سنعرض لها - إِن شاء الله - عند الكلام على تفسيرها في سورة (ص).
وقد بينت الآية هنا أَنه حشر له جنود من الأَصناف الثلاثة، ولم تبين الغرض الذي جمعت له، ولهذا اختلف العلماء في بيانه، فقال قائل: إنهم جمعوا ليقاتل بهم من لم يدخلوا في طاعته، وقال آخر: بل جمعوا ليذهب بهم إِلى مكة، ليشكر الله - تعالى - على ما وفقه له من بناءِ بيت المقدس، والأَول هو الظاهر من المقام، أَما الثاني فلا دليل عليه.
وجمع هذه الأَصناف مع كفاية الِإنس أَو الجن، لإِظهار نعمة الله وأُبهة الملك وبث الرعب في قلوب الأَعداء.
والظاهر أَن المراد من جمعها جمع طائفة من كل نوع، لا جمعها كلها؛ لأن الذين يخرجون للقتال عادة وسياسة هم بعض الجنود لا كلهم، ويترك الباقون لحفظ البلاد من الأعداءِ المتربصين.
والظاهر أَن الحاشر لكل نوع من الثلاثة أفراد منهم معدون لمثل ذلك، ولا غرابة في أَن يكون للطير لغة تتخاطب بها، وإدراك يعي هذا الخطاب، فالآية صريحة في أن للطير منطقا علمه الله سليمان عليه السلام.
بل لقد أثبت القرآن ذلك بما لا يدع مجالًا للشك في جميع الحيوانات، وذلك في قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (2) فقد أثبتت الآية أن كل الدواب على الأرض والطيور في جو السماء، أُمم لها خصائص تماثلنا، وإن اختلفت في كيفية هذه الخصائص ومستواها، والقرآن الكريم لم يقتصر على بيان
(1) الآيات: 35 - 38
(2)
سورة الأنعام، من الآية: 38
كونها أُممًا أَمثالنا، بل بين أَن فيها قادة ينذرونها ويرشدونها، فقد قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (1) وقد ضرب الله مثلًا لهذا النذير ووظيفته بقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} (2).
وقد سبق القرآن الكريم بذلك جميع الكشوف العلمية، وأيدته المشاهدة، فالنحل له ملكة تدبر أَمره، وتسوسه، وبلغ من دقة إِدراكه أَنه يصنع بيوتًا مسدسة الأَضلاع لتجميع عسله فيها؛ بمقاييس في غاية الدقة، واختيار المسدس دون غيره؛ لأَنه هو الشكل الوحيد الذي لا توجد فرج بين وحداته داخل الِإطار.
وبالجملة فدراسة مملكة النحل وأُمته تحير الأفكار، ومثلها النمل وجميع الكائنات الحية.
ومن أغرب ما نشاهده في موسم الشتاء بمصر، تلك الطيور التي تفد علينا من المناطق الشديدة البرودة، طلبًا للدفء والرزق في بلادنا، وفي مقدمة كل طائفة نذيرها ومرشدها وهي تطير على هدى إدراك داخلي أَقوى من (الرادار) في حين أَنها لم يسبق لها الحضور إِلى بلادنا.
وكثير من الحيوانات يدرك مجىءَ الزلازل قبل حضورها، وتكون له حركات تشنجية منذرة بها، في حين أن الإنسان لا يستطيع أن يدركها بحسه قبل أن تفاجئه.
وقد أَيدت الكشوف والدراسات العلمية ما صرح به القرآن العظيم منذ أَكثر من أربعة عشر قرنًا، فما أعظم القرآن، وصدق الله إذ يقول فيه:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (3).
ومن أغرب الكشوف العلمية، أن للنيات إِحساسًا وإدراكًا لما يحدث فيه أَو حوله، فقد صنعت آله تسجيل على أَعلى مستوى من الدقة، وسجلت أَنين الشجرة إِذا قطع منها غصن، أَو نقلت شجرة مجاورة لها إِلى جهة أُخرى.
(1) سورة فاطر، من الآية: 24
(2)
سورة النمل، من الآية: 18
(3)
سورة فصلت، من الآية: 41، والآية: 42
ولا نذهب بعيدا في هذا الشأْن، فإِن النبات المعروف في مصر باسم (عباد الشمس) تدور زهرته مع الشمس أَينما دارت، وهناك من النبات ما لو لمست ورقة منه أَو نفخت فيها انكمشت، حتى أَطلق البستانيون عليها اسم: المُسْتَحِيَة، كأَنها تستحى عند لمسها أَو نفخها فتجمع أَوراقها وتضم وبعضها إِلى بعض:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1).
ومعنى الآية: وجُمِع لسليمان جيشُه وعساكره من أَماكنها المختلفة، وكان جيشه مؤلفًا من الجن والإِنس والطير، تعظيمًا لمقامه وإرهابًا لعدوه، فهم يؤمرون بالكف عن السير حتى يجتمعوا، فتنتظم صفوفهم وألويتهم طبقًا للنظم العسكرية ثم يؤمرون بالسير.
18 -
{حَتَّى} : ابتدائية، وفيها معنى الغاية لما يفهم من الكلام قبلها، كأَنه قيل: فلما اجتمعوا ونُظِّمُوا وأُمروا بالمسير، فساروا حتى أَتوا على وادى النمل
…
إلخ.
ووادى النمل: واد بأَرض الشام تكثر فية النمل - كما روى عن قتادة ومقاتل - وقيل: واد باليمن معروف عند العرب ومذكور في أَشعارهم. ولفظ (أتَى) في قوله تعالى: {أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} يتعدى بنفسه، فيقال: أتى وادىَ النملِ، أَو بإِلى، كقولك: أَتى إِلى وادى النمل - وإِنما عُبِّر (بعلى) في الآية الكريمة، إما لأن إتيانهم إليه كان من مكان عاد، أَو لأَن المراد من إِتيانهم عليه قطعه كله وبلوغ آخره، والإِتيان بهذا المعنى مجاز عن القرب، من: قطعه، ولَمَّا يقطعوه بَعْدُ، ولهذا حذرت النملة أُمتها قبل مجىء سليمان إِلى مكانها من الوادى ونهتهم بقولها:{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} ، فقولها هذا: نهى مؤكد بالنون لجماعتها من النمل عن التعرض لتحطيمها من سليمان وجنوده إِن لم تدخل مساكنها في وادى النمل قبل مجيئهم، وقد أدركت بإِلهام الله لها أنهم لو حطموها وهي في طريقهم فإنما يفعلون ذلك لا عن شعور بها، كأنها أدركت عصمة الأنبياء عن الظلم بإبادتها، وذلك منها أدب
(1) سورة المؤمنون، من الآية: 14
(2)
يرى القارئ الكريم أن الآية استعملت مع النمل ضمائر العقلاء، تنزيلا لها منزلتهم لفطنتها.
كريم في حق سلمان وجنوده، فلعل الناس يتعلمون حسن الظن بأَهل التقوى والأَدب معهم كما فعلت هذه النملة.
ومعنى الآية: فسار سليمان وجنوده حتى إذا أتوا على وادٍ يكثر فيه النمل ويعرف به، قالت رائدته لفصيلتها: يا أَيها النمل ادخلوا مساكنكم في جحوركم، لا تتعرضُنَّ بالبقاء فوق ظهر الأَرض لأن يهلككم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بإهلاكهم إياكم.
هذا وننقل فيما يلي (المسألة السادسة) من تعليق القرطبى على هذه الآية الكريمة، لأهميته فما ذهبنا إليه من أن للحيوانات إدراكات عالية.
قال القرطبي: السادسة - لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول، وقد قال الشافعي: الحمائم أَعقل الطير، وقال ابن عطية: والنمل حيوان فَطِنٌ شمام جدًّا يدَّخر ويتخذ القُرى، ويشقُّ الحب قطعتين حتى لا تنبت، ويشق الكزبرة أَربع قطع، لأَنها تنبت إذا قسمت شقين، ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقى سائره (1) عُدَّةً، وقال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أَدركتها النمل بخلق الله لها، قال الأُستاذ أبو المظفر شاه نور الإسفراييني: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات ووحدانية الإِله، ولكنا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا
…
إِلخ.
ولعل الأُستاذ الإسفرايينى ذهب إِلى ذلك استنباطًا من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (2). ونحو ذلك مما جاء في القرآن في هذا المعنى.
19 -
نقل الآلوسى في تفسيره لهذه الآية عن ابن حجر أنه قال: التبسم: مبدأ الضحك من غير صوت، والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفى، فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة.
(1) أي: باقيه.
(2)
سورة الإسراء، من الآية: 44
وعلى هذا يكون المعنى: فتبسم بادئًا في الضحك، ومن اللغويين من قال: التبسم: ابتداءُ الضحك، والضحك يشمل الابتداءَ والانتهاءَ، ومنهم من قال: هما سواء، وعلى الرأيين الأخيرين يكون لفظ (ضاحكًا) حالًا مؤكدة، والراجح الفرق بين التبسم، والضحك: والمَبْسِمُ: الثغر، وهو مقدم الأسنان (1) والتبسم: ضحك الأَنبياء في غالب أَمرهم، وفي الصحيح عن جابر بن سمرة - وقيل له -: أَكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيرًا، كان لا يقوم من مُصَلَّاهُ الذي يصلى فيه الصبح - أَو قال: الغداة - حتى تطلع الشمس، فإِذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأْخذون في أَمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم.
وقد وردت أَحاديث تفيد أَن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضحك أحيانًا، والذي يؤْخذ من مجموع ألاحاديث أَن تبسمه كان أَكثر من ضحكه، وأَنه ربما ضحك حتى تبدو نواجذه، لكن من غير قهقهة، وفي كون التبسم غالب أحواله عند السرور يقول البوصيرى مادحًا:
سَيِّدٌ ضَحِكُهُ التَّبَسُّمُ وَالْمَشْـ
…
ـيُ الْهُوَيْنَا وَنَوْمُهُ الْإِغْفَاءُ
ومعنى الآية: فتبسم سليمان عليه السلام من أَجل قولها، سرورًا بما أَلهمها الله إياه من حسن حاله وحال جنوده، وابتهاجًا بما خصه الله به من سماع قولها وإدراك مقصدها منه، وتعجبًا من حذرها وتحذيرها جماعتها وإِدراكها مصالحها، وقال: يا ربي أَلهمنى أَن أَشكر ما أَنعمت به عَليَّ وعلى والديَّ من جلائل النعي الدينية والدنيوية، واكفُفْنى عن التقصير في شكرها، ووفقنى إِلى أَن أَعمل صالحًا ترضاه من مثلى، وأَدخلنى برحمتك في جملة عبادك الصالحين الذين هم أهل لرضوانك والفوز بجناتك، يقول. ذلك هضمًا لنفسه ووالديه واعتبارهم مقصرين عن درجة الصالحين مع أَنه وأَباه داود عليه السلام من خيرة المرسلين، وأُمه زوجة نبي وأُم نبي، فكيف لا يكونون في قمة الصالحين، ولكنه تواضع الكاملين عليه السلام.
(1) وفعله بسم يبسم كجلس يجلس، وأطلق التبسم على أول الضحك؛ لأنه يبدو فيه ما تقدم من الأَسنان.
المفردات:
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} : تعرف موجوده من مفقوده.
{الْهُدْهُدَ} : طائر معروف، ويكنى بأَبي الأخبار.
{بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} : بحجة واضحة تبين عذره.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} : فلبث زمانًا غير مديد.
{بِنَبَإٍ يَقِينٍ} : بخبر حقيقي.
التفسير
20 -
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} :
أصل التفقد: التعرف على المفقود، والمراد منه هنا: استعراضه الطير والنظر إليها ليعرف موجودها من مفقودها، والطير: اسم جمع يطلق على الواحد والمتعدد، والمراد هنا: جنس الطير وأنواعه، وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، ولذا استعرضها ونظر إليها، ليتعرف أحوالها.
ونقل ابن كثير عن ابن إسحاق: أَن سليمان عليه السلام كان إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير، وكان - فيما يزعمون - يأْتيه من كل صنف من الطير طائر كل يوم، فنظر فرأى من أصناف الطير ما حضر، إلَاّ الهدهد، فقال:{فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أَخطأَه بصرى بين الطير، أم غاب فلم يحضر؟: اهـ
ونقل الآلوسى عن عبد الله بن سلام أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماءَ فيها، وكان الهدهد يرى الماءَ في باطن الأَرض فيخبر سليمان بذلك، فيأْمر الجن فتكشف الأرض عن الماء، فاحتاجوا إلى الماء فتفقد الطير لذلك فلم ير الهدهد فسأَل عنه.
ونقل القرطبي عن أبي مجلز أَن ابن عباس قال لعبد الده بن سلام: أريد أن أَسأَلك عن ثلاث مسائل، قال: أَتسأَلنى وأنت تقرأُ القرآن؟ قال: نعم - ثلاث مرات - فقال: لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه، وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير. وقد أخذ ابن عباس بما قال ابن سلام. قال مجاهد: قيل لابن عباس: كيف تفقد الهدهد من الطير؟ فقال: نزل منزلًا ولم يدر ما بُعدُ الماءِ، وكان الهدهد مهتديًا إليه، فأراد أَن يسأله. قال مجاهد: "فقلت: كيف يهتدى والصبى يضع له الحبالة فيصيده؟ فقال: إذا جاءَ القدر عمى البصر. قال ابن العربى: ولا يقدر على هذا الجواب إلَاّ عالمُ القرآن.
ونحن نقول: إن صَحَّت هذه الفراسة عن الهدهد، فذاك شأْن آخر يختلف عن وقوعه حبيسًا في الفخ، فإن فراسته بحسب تكوين الله لا تمتد لإِدراك الغيب الذي كتبه الله عليه، فإنه مستقبل، أَما الماءُ فهو موجود تحت الأرض وإن كان خفيًّا، والموجود يدرك بالإِحساس الداخلي لبعض الحيوانات، كالكلاب تدرك الزلازل بأَسباب تحسها داخليًّا، ولكنها لا تدري أن الطعام الذي قدمه الصياد لها مسموم ليقتلها به، وبالجملة فمناهج التكوين الإِلهي لخليقته عجيبة، فسبحان الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى.
ومعنى الآية: ونظر سليمان عليه السلام إلى جنوده من الطير، ليتعرف ما حضر منها وما غاب دون استئذان منه، فلم ير الهدهد في جملة الطير التي تظله وتعلوه، فقال: ما الذي جعلني لا آراه؟ أهو موجود بين أنواع الطير ولكنى لا أراه؟ ثم لاح له أَنه غائب فقال متسائلا: بل أكان من الغائبين، ولما تحقق له غيابه توعده. قائلا:
21 -
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :
أي: لأُعذبنه على غيابه دون استئذان مني عذابًا شديدًا، بنحو نتف ريشه وتجويعه، أَو لأَذبحنه أو ليأْتينى بحجة قوية مبينة لعذره في تغيبه عن مكانه بين سائر أنواع الطير.
وإتيانه بسلطان مبين ليس من جملة المحلوف عليه، فقد حلف على عقابه بالتعذيب أو الذبح، أما قوله: أو ليأْتينى بسلطان مبين، فهو في قوة الاستثناء، فكأَنه قال: إلَاّ أَن يأْتينى بسلطان مبين فلا أُعذبه ولا أَذبحه؛ لأن سليمان لا يقسم على فعل الهدهد، قال الآلوسى: إن هذا الشق ليس مقسمًا عليه في الحقيقة، وإنما المقسم عليه الأَولان، وأُدخل هذا في سلكهما للتقابل، وهذا - كما في الكشف - نوع من التَّغْليب لطيف المسلك، ومآل كلامه عليه السلام: ليكونن أَحد الأُمور الثلاثة: على معنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أَحدهما، فأَوْفى الموضعين للترديد: انتهى كلام الآلوسى.
22 -
{سَبَإٍ} قرأه الجمهور مصروفًا - أي: منونًا - على أنه اسم لِحيٍّ من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {مِنْ سَبَإٍ} - بفتح الهمزة غير مصروف - على أنه اسم للقبيلة، ثم أُطلق على الإقليم أو البقعة التي يعيشون فيها بأَرض اليمن.
ومعنى الآية: فمكث الهدهد زمانًا غير بعيد خوفًا من سليمان عليه السلام ثم عاد وقال لسليمان عليه السلام مبينًا سبب تخلفه عن مكانه بين الطير: اطلعت على ما لم تطلع عليه أَنت ولا جنودك، وجئتك من سبأ بخبر حقيقى لا ريب فيه.
واختار الهدهد هذا الأُسلوب في ابتداءِ كلامه، لترغيبه في الإصغاءِ إلى اعتذاره، واستمالة قلبه نحو قبوله، فإن النفس يشتد إقبالها على تلقى ما لم تعلم، وتميل إلى قبول عذر من أَتاها به بعد غياب دون إذن.
وقال الإمام البيضاوى: وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه على أن في خلق الله - تعالى - من أَحاط علمًا بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر لديه علمه.
ويقول البيضاوى في سبب غياب الهدهد: روى أنه - عليه السملام - لما أَتم بناء بيت المقدس تجهز للحج، فوافى الحرم، وأَقام به ما شاء، ثم توجه إلى اليمن، فخرج من
مكة صباحًا فوافى صنعاءَ ظهيرة، فأَعجبته نزاهة أرضها، فنزل بها فلم يجد الماء، وكان الهدهد رائده؛ لأَنه يحسن طلب الماء، فتفقده لذلك فلم يجده، إذ حَلَّق حين نزل سلمان، فرأَى هدهدًا واقعًا فانحط إليه، فتواصفا وطار معه لينظر ما وصَفَ له، ثم رجع بعد العصر، وحكى ما حكى اهـ.
ونحن نقول: الله أعلم بحال تلك الرواية، أَلها أَصل أَم هي من الحكايات التي ليس لها دليل؟
المفردات:
{عَرْشٌ عَظِيمٌ} : العرش؛ سرير الملك. {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} : أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله. {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} : الخبء؛ ما خفى في غيره، وإخراجه: إظهاره.
التفسير
23 -
{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} :
بعد أن شوق الهدهد سليمانَ إلى معرفة السر الذي غاب عن مجلسه من أَجله بقوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} بعد أن شوقه إلى ذلك عقبه ببيان هذا السر الذي حكته هذه الآية.
والمرأة التي كانت تملك سبأَ اسمها (بلقيس بنت شراحيل) كما يقول المؤرخون والمفسرون، فقد كانت ملكة عليهم وحاكمة لهم في إقليم مأْرب، وقد كانت المسافة بين معسكر سليمان في صنعاء، وبين مأْرب مسيرة ثلاث ليال - كما ذكره القرطبي - فكيف خفى أَمرها على سليمان وجنوده من الإنس والجن؟ والجواب: أن الله أخفى أَمرها لمصلحة ستُعرف من قصتها، كما أخفى أمر يوسف على يعقوب ليجده في النهاية حاكم مصر وسيدها المطاع.
والمراد من إيتائها من كل شيءٍ: أن الله - تعالى - أَعطاها من أسباب قوة الملك ما جعل لها سلطانًا قويًّا على قومها وبين جيرانها.
وقد ذكر المفسرون في وصف طول عرشها وعرضه وارتفاعه وجواهره أمورًا عجيبة لم نجد لها أصلًا فتركنا ما قالوه اكتفاءً بوصفه في الآية بأنه عظيم، والله أعلم بعظمته كيف كانت.
ومعنى الآية: إنِّي وجدت امرأة عظيمة العقل والجاه تملك قومها سبأَ وقد أَعطاها الله من كل شيء يحقق لها السيطرة على قومها، والعزة والجاه فيما حولها، ولها سرير عظيم تجلس عليه في أبهة الملك، حينما يلقاها عظماءُ قومها أو سواهم.
وقدر أثار المفسرون لهذه الآية مسأَلة حكم المرأَة وقضائها في كتب التفسير الموسعة، وبخاصة التي تعنى بالأحكام الفقهية، وانتهوا إلى أنها لا تلي شيئًا من ذلك، مستندين إلى ما رواه البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بلغه أن أهل فارس قد ملَّكوا بنت كسرى قال:"لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة".
24، 25 - {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}:
تحكى الآية السابقة بأُسلوب الاستئناف، وهاتان الآيتان بعدها بقية ما رواه الهدهد لسليمان عليه السلام عن مملكة سبأَ.
والمعنى: وجدت هذه الملكة وقومها يسجدون للشمس عابدين لها، متجاوزين عبادة الله معرضين عنه، وقد زين لهم الشيطان أَعمالهم المجافية للحق في العقائد والسلوك، فصرفهم عن السبيل الموصلة إليه، فهم لأَجل ذلك لا يهتدون إلى الصواب - صرفهم - لئلا يسجدوا لله الذي يظهر الخفى في السموات، فيجعل الكواكب إلى أخفاها النهار تبدو في الليل، والشمس التي أخفاها الليل تبدو بالنهار، والأَمطار المحبوسة في الفضاء تبدو بهطولها، وغير ذلك مما يكشفه الله من أسرارها، ويظهر ما اختبأَ في الأرض من الكنوز التي لا تحصى أنواعها، والنبات الذي لا تعد أجناسه وخصائصه وغير ذلك مما يكشفه لنا من خباياها، ويعلم ما يخفيه هؤلاء الذين يعبدون الشممس وما يظهرونه، وليس للشمس شيءُ من ذلك، فهي مسخرة لله تعالى، فكيف ينصرفون عن عبادته إلى عبادتها؟
26 -
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} :
هذه الآية تحكى آخر ما ذكره الهدهد لسليمان بشأْن غيابه عنه دون إذن، وهي - كالتعليل لوصفه الله عز وجل بالقدرة على إخراجه الخبءَ في السموات والأرض، وعلمه بأَحوال من يعبدون الشمس من دونه.
والمعنى: الله لا معبود بحق إلَّا هو، رب العرش العظيم الذي لا حد لعظمته، فكيف تركوا عبادته لعبادة الشمس التي هي من مقدوراته ومخلوقاته؟
والعظيم - بالجر - وصف للعرش، ويكفى في الدلالة على عظمته، أن الكرسى الذي وسع السموات والأرض بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، كما ورد في السنة - فأين عظمة عرش ملكة سبأَ من عظمة عرش الرحمن سبحانه وتعالى؟
بعد، فإن الإنسان ليقف مبهورًا أمام قصة هذا الهدهد، كيف استطاع أن يتعرف على أحوال مملكة سبأَ وعقائدها بهذه الدقة، وأن يلومهم على تركهم عبادة الله إلى عبادة الشمس، مع أنها وعابديها تحت سلطانه وعلمه - جل وعلا -.
وإن المرءَ ليعجب من وصول الطير في العلم باللهِ إلى هذه الدرجة، في حين أن بعض البشر لم يصلوا إلى مثلها، ولا نجد شيئًا نقوله أمام هذه العجائب خيرا من قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1).
(1) سورة الإسراء، من الآية:44.
المفردات:
{سَنَنْظُرُ} : من النظر؛ بمعنى التأَمل، أي: سنتحرّى ونتحقق.
{أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} : ادفعه إليهم وأوصله لهم. {تَوَلَّ عَنْهُم} : توَارَ وتَنَحَّ إلى مكان تغيب فيه عن أبصارهم. {فَانْظُرْ} : فانتظر أو تعرَّف.
{مَاذَا يَرْجِعُونَ} : أي؛ بماذا يجيبون، ويرد بعضهم على بعض في شأْن الكتاب.
التفسير
27 -
{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
…
} الآية.
كلام مستأْنف وقع جوابًا عن سؤال نشأ من حكايته كلام الهدهد.
كأَنه قيل: فماذا فعل سليمان عليه السلام بعد اعتذار الهدهد؟
فقيل: قال: سننظر.
والمعنى: قال سليمان عليه السلام ردًّا على الهدهد فيما اعتذر به عن غيابه عن مكانه بين الطير بغير إذنه - قال -: سنتحرى ونعرف أصدقت فما قلت؟ أم أَنك كنت من جملة أهل الكذب الممعنين فيه؟ والعدول عن التعبير بقوله: أصدقت أَم كذبت إلى قوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} للإيذان بأَن كذبه بهذا الأُسلوب المنسق، ومع نبى الله سليمان يقتضي إيغاله في الكذب، وانتظامه في سلك المتعمقين فيه إن لم يكن له ما يصدقه.
وفي هذا الأُسلوب دليل على أَن الإِمام يجب عليه أن يتحرى عند الاعتذار قبل أَن ينزل العقوبة بمن ظاهره الخطأ، فربَّما كان صادقًا في اعتذاره، وفي الصحيح:"لا أحد أحب إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل".
28 -
{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا
…
} الآية.
الأمر بالذهاب للهدهد، واختصه به لأَنه صاحب العذر. وقوله:{بِكِتَابِي هَذَا} يدل على أن سليمان عليه السلام أعدّ الكتاب بعد أن أَخبره الهدهد بقصة أهل سبأ.
والمعنى: توجه بكتابي هذا الحاضر بين يديّ إلى الملكة بلقيس ومن هم على دينها من قومها فأَلقه إليهم، وادفعه لهم، ثم تنَحَّ عنهم إلى مكان تختفى فيه عن أَبصارهم وتسمع كلامهم، ثم انظر وتعرف ما يجيبون، وما يرد بعضهم به على بعض، وما يجرى بينهم من مراجعة وحوار حول مضمون هذا الكتاب.
وقد جرى الأُسلوب بضمير الجمع لأَن مضمون الكتاب دعوتهم جميعًا إلى الإِسلام وفي قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} توجيه إلى الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه الرسل في معاملة الملوك، مع تنبيههم إلى اليقظة، وحدة الانتباه.
المفردات:
{الْمَلَأُ} : أشراف القوم وأَصحاب الرأى فيهم.
{كَرِيمٌ} : لكرم مضمونه، أَو لشرف مرسله. {تَعْلُوا عَلَيَّ}: تتكبروا وتتجبروا.
{مُسْلِمِينَ} : مؤمنين، أو منقادين طائعين.
التفسير
29 -
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} :
روى أن سلمان عليه السلام كتب كتابًا، وختمه بخاتمه، ودفعه إلى الهدهد ليحمله إلى بلقيس، فطار به إليها، وألقاه من كوة في بيتها، فقرأته ولم تذكر
هذه التفاصيل، جريًا على عادة القرآن من الاقتصار على الضرورى للعبرة، وترك ما هو بدهى، وللإيذان بكمال مسارعة الهدهد إلى تحقيق ما أمر به.
والمعنى الإجمالي: قالت الملكة لأشراف قومها، بعد أن أخذت الكتاب وقرأته، ورأت ما رأت من أمر الهدهد في دخوله وإلقائه الكتاب إليها وتنحيه، وغير ذلك مما يعرب عن عظمة مرسله، قالت: يا أيها الأشراف من قومي إنِّي ألقى إلي كتاب كريم في شرفه وشرف مرسله وعلو مكانه.
وفسر ابن عباس وغيره الكريم هنا بالمختوم، وهو معنى لغوى، فكرمُ الكتاب ختمه.
وفي شرح أدب الكاتب لابن المقفع يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم، إذا ختمه وقال ابن المقفع:"من كتب إلى أخيه كتابًا، ولم يختمه فقد استخف به".
30، 31 - {إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}:
أي: إن هذا الكتاب من سليمان نبي الله، وإن مفتتحه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولم يسبق بها كتاب قبله، وإن مضمونه ألَاّ تعلوا على وائتونى خاضعين ولا تتكبروا وتتجبروا وتأْخذكم العزة بالإثم فتجنحُوا إلى العصيان والتمرد، أو ائتونى مسلمين، مؤمنين بدعوتى طائعين منقادين لرسالتى، ففي هذا أَمنكم، وأَمانكم، وسلامة دنياكم وسعادة آخرتكم.
وجاءَ الكلام في هذه الآية مؤكدًا (بإِنَّ) كما جاء مؤكدًا قبل ذلك بها في قوله:
{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ} - اعتناء بشأْن الكتاب، واهتمامًا بسموّ مضمونه.
المفردات:
{أَفْتُونِي} : أشيروا على بما عندكم من الرأي. {قَاطِعَةً} : قاضية وفاصلة.
{تَشْهَدُونِ} : تحضرونني وتدلون بآرائكم. {أُولُو قُوَّةٍ} : وفرة في العدد.
{وَأُولُو بَأْسٍ} : نجدة مفرطة، وبلاء في الحرب.
{وَالْأَمْرُ إِلَيْك} : والرأى في بتِّ الأُمور إليك موكول.
التفسير
32 -
قالت بلقيس للملأ من قومها وأشرافهم وهم شهود في مجلسها: يا أيها الملأ أفتوني وأشيروا عليّ بما عندكم من الرأي في هذا الأمر الخطير الذي جاءَ برسالة سليمان، وقد اعتدت أن أسمع رأيكم، وأنتفع بمشورتكم في كل ما يحدث لي، ويجدّ في ملكى، ما كنت أقطع في أمر ولا أقضى فيه حتى تحضروا وتشيروا فيه برأيكم، وتكرر نداؤها للملإ من قومها مع وحدة الموضوع، اهتمامًا بالأَمر، وجذبًا لانتباههم وإثارة لأفكارهم.
33 -
أي: قال الملأ من قومها، وقد فهموا أنها تهدف من كلامها إلى الاستيثاق من تأْييدهم والاطمئنان على مدى استعدادهم لنصرتها، والوقوف إلى نجانبها إذا رأَت عصيان الدعوة ومقاومتها.
قالوا: نحن أصحاب قوة فائقة، في العَدَدِ والعُدَد، وأصحاب شدة وبلاءٍ في الحروب لا ترهبنا قوة، ولا ينهنهنا وعيد، وهذا دورنا وهذه مهمتنا، وأَما البت
في الأُمور فهو موكول إليك تقضين فيه بما تشائين سلمًا وحربًا، ولك علينا الطاعة في كل ما تريدين، وما تأْمرين، فانظرى أي شيء ترينه وتأْمرين به نكن في طاعتك.
المفردات:
{إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} : أي دخلوها محاربين. {أَفْسَدُوهَا} : خربوها وقلبوا أوضاعها واتلفوا عمرانها. {أَذِلَّةً} : مُهَانينَ بالقتل، والأسر، والإجلاءِ عنها، جمع ذليل.
{هَدِيَّةٍ} : عطية عظيمة، والهدية: اسم لما يهدى، كالعطية: اسم لما يعطى.
التفسير
34 -
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا
…
} الآية.
قالت بلقيس - تعليقًا على ما قاله الملأَ من قومها وقد أَحست من لحن قولهم وفحواه الميل إلى الحرب، والعدول عن سَنَن الصواب، فأَرادت ردهم إلى الرشاد - قالت: إِن شأْن الملوك وسلوكهم إذا فتحوا قرية - أية قرية - وغلبوا أهلها - خربوها، وأتلفوا ما فيها من أَموال، ونكسوا أحوالها، وجعلوا أعزة أهلها وسادتها أذلة مُهَانين بالقتل، والأسر والإِجلاءِ وغير ذلك من صنوف الإهانة والإذلال.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يحتمل أن يكون من كلام بلقيس تدعيمًا لرأيها، وتأكيدًا لما وصفته من حال الملوك الفاتحين، وتقريرا بأَن ذلك من سياستهم المستمرة وسلوكهم الدائم. ويحتمل أن يكون من جهته عز وجل تصديقًا لقولها على ما أَخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
35 -
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ
…
} الآية.
هذه الآية تتميم لكلامها مع الملأ من قومها الذي أرادت به أن تنبئهم بما استقر في ذهنها من أمر سليمان عليه السلام الذي سخر الله له الجن، والطير يرسلها إلى ما يشاءُ، وأَنه من القوة بحيث يغلبهم على أَمرهم إذا قاتلوه، فيفسد القرى، ويدل الأعزة وختمت رأْيها بقولها:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} عظيمة حافلة تليق بالملوك، تشبع نهمهم وتطفيء نار حقدهم، وتطمعهم في الصداقة، وتغريهم بالمودة، روى أنها قالت لقوْمهَا: إن كان ملكا دنيويًّا أرضاه المال، وعملنا له بحسب ذلك، وإن كان نبيًّا لم يرضه المال وينبغى أَن نتبعه على دينه. اهـ وجاء في ابن كثير عن ابن عباس وغير واحد أنها قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
وقوله تعالى حكايته عنها: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} معناه: فمنتظرة بعد وصول الهدية إليهم، واطلاعهم عليها - بأَي شيء يرجع إليّ المرسلون بالهدية فأعمل بما يقتضيه الأمر، نقل ابن كثير عن قتادة أنه قال: ما كان أَعقلها في إسلامها وشركها.
المفردات:
{أَتُمِدُّونَنِ} : تساعدونني: {لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} لا طاقة لهم بلقائها، وأصل القِبَل: المقابلة، ثم جعل في الطاقة. (صَاغرون): مهانون أذلة.
التفسير
36 -
أي: فلما جاء الرسولُ سليمانَ عليه السلام بالهدية قال - موجهًا الكلام إليه وإلى من معه وإلى المُرْسِل إنكارًا عليهم، وتوبيخا لهم -: أتعطوننى مالًا وعندى منه ومن غيره كثير، فما أعطانى الله من الملك والمال والنبوة خير مما أَعطاكم، فلا أَطمع في مال ولا أفرح به، بل أنتم الذين تفرحون بالمال الذي يهدى إليكم وتحرصون عليه، وتطيب نفوسكم به لقصر همتكم على الدنيا، وحبكم الزيادة فيها، والمكاثرة والمفاخرة بها.
37 -
من جملة كلام سليمان عليه السلام لرسول بلقيس، وأفرده بالذكر لاختصاصه بالرجوع.
دون من كان معه من المرسلين.
والمعنى: ارجع - أيها الرسول - إلى بلقيس، وقومها بالهدية، وبلغهم مقالتى بشأْنها، ووجوب استسلامهم إلينا، فإِن لم يأْتوا مسلمين فوالله لنأْتينهم، ولندفعن إليهم بجنود لا طاقة لهم بلقائها ولا قوة لهم على قتالها، وليكونن لنا الغلب عليهم، ولنخرجنهم من مملكتهم سبأ أَذلة مهزومين وهم صاغرون أسارى مستعبدون.
(1) قرأ هكذا حفص بحذف ياء المتكلم تخفيفا.
المفردات:
{عِفْرِيتٌ} : مارد خبيث، ويقال له: عِفْرية وعِفْر. {لَقَوِيٌّ} : لقادر لا يثقلنى حمله.
{أَمِينٌ} : لا اختلس ولا أُغيّر فيه. {مِنْ مَقَامِكَ} : من مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء، أو من جلستك {لِيَبْلُوَنِي}: ليختبرنى.
التفسير
38 -
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} :
هذا القول يقتضي قولًا آخر يرشد إليه سياق القصة؛ أي: فرجع الرسول بالهدية لي بلقيس، وأَخبرها بما أقسم عليه سليمان فعرفت أنه نبى لا طاقة بها بقتاله، وتجهزت للمسير إليه، وعلم سليمان بخروجها إليه فقال:{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} أي: يحضره عندي على حاله التي هو عليها قبل أن تأْتينى هي وقومها منقادين طائعين؟
وإِنما طلب سليمان عليه السلام إحضار العرش قبل أن يأْتوه مسلمين ليريها القدرة التي مكن الله - تعالى - له فيها، والآيات التي أيده بها، فأراد أن يُغْرب عليها، ويريها بذلك بعض ما يخصه الله به من إجراء العجائب على يده.
وقيل: أراد عليه السلام من إحضار العرش أن يختبر عقلها، ودقة إدراكها للأُمور فيعرضه عليها بعد أن يغير من معالمه، ويُبَدِّل في أَوضاعه، فيرى أتعرفه أم تنكره؟ وما قيل من أنه عليه السلام أَراد أن يتملكه قبل أن يعصم الإِسلام أنفسهم، وأَموالهم، لا يناسب مقام النبوة، ولا يتواءَم مع موقفه من الهدية، والتحدث بنعمة الله - تعالى - عليه.
39 -
أي: قال خبيث مارد من الجن مجيبًا سليمان عليه السلام: أنا أحضره لك قبل أن ينفض مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء من أول النهار إلى الظهر، كما قيل، أو قبْل أن تنهض من جلستك هذه التي تجلسها، وإني على إحضاره لك لقوى متمكن لا يثقلنى حمله، أمين لا أَختلس منه ولا أغير فيه.
40 -
أي: قال الذي عنده علم من الكتاب، بعد أن سمع مقالة العفريت، وكأنه رأى أن التوقيت الذي وقَّته بعيد بالنسبة لما يُحسُّه في نفس سلمان عليه السلام قال: أنا آتيك به قبل أَن يرجع إليك بصرك الذي تمدّه في الفضاءِ لتنظر شيئًا بعيدًا أمامك.
والذي عنده علم من الكتاب قيل: هو آصف بن برخيا وزير سليمان، وقيل: الخضر عليه السلام وقيل: جبريل عليه السلام أو ملك أيده الله به.
وقال الجبائى: الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان نفسه، وكان التعبير بهذا الأُسلوب للدلالة على شرف العلم، وأن هذه الكرامة كانت بسببه، ويكون الخطاب في قوله:{أَنَا آتِيكَ بِهِ} للعفريت لأنه تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بين الحاضرين، وإنما لم يأْت سليمان بالعرش ابتداءً، بل استفهم، ثم قال ما قال وأَتى به ليريهم أنه يتأَتى له ما لا يتهيأُ لعفاريت الجن، فضلًا عن غيرهم، وقد استظهر هذا القول لوجوه:
أولًا: أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب، وهذا هو سليمان عليه السلام.
ثانيًا: إحضار العرش في تلك اللحظة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأَحد من أمته دونه لاقتضى تفضيله على سليمان، وهذا غير جائز.
ثالثا: لو افتقر سليمان في إحضاره إلى أحد من أُمته لاقتضى قصورَ حَاله في أَعين الناس.
رابعًا: وأَخبرا أن قوله عليه السلام: "هذا من فضل ربي" يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله بدعائه عليه السلام.
وسواءٌ أكان الذي عنده علم من الكتاب سليمان أَم غيره، فإحضار العرش على هذه الصورة مثل عال لقدرة الله - تعالى - أَظهره إمَّا معجزة لنبى، أَو كرامة لولي وهذا فضل الله يؤتيه من يشاءُ.
وقوله تعالى {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} : معناه؛ فلما رأى سليمان عليه السلام العرش حاضرًا أمامه، قارًّا في موضعه حيث أراد، قال: هذا النصر والتمكين مما تفضل به عليَّ ربي ليتعبدنى ويختبرنى أَأَشكر نعمته علي أم أكفرها، ومن شكر فإِنما يشكر لنفسه؛ لأن نفع ذلك يعود عليه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد منها؛ قوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} والشكر قيد النعمة الوجودة، وصيد للنغمة المفقودة، ومن كفر فلم يشكر النعمة، وأَبطرته، فإن الله غنى عن شكره، كريم في تفضله على خلقه، يرزق البار والفاجر والشاكر والكافر، وحسابهم يوم تبلى السرائر.
المفردات:
{نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} : غيروا هيئته، وبدِّلُوا أوضاعه. {وَصَدَّهَا}: منعها وردها.
{نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} : نعرف من أمرها وحالها أتهتدى إليه؟
التفسير
41 -
{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} :
قال سليمان عليه السلام بعد أن رأى العرش مستقرا ثابتًا أَمامه - قال - لمن حوله من الجنود والأتباع: غيروا لبلقيس معالم عرشها، وبدلوا أوضاعه بحيث تختلف فيه الرؤية، ويختلط النظر لنعرف ونعلم من حالها، أتهتدى إلى أنه عرشها، ولم يضللها التنكير والتبديل؟ {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}: أي أم تكون من ضعف الملاحظة، ودقة الإدراك بحيث لا تعرفه، فتكون من جملة الذين لا يهتدون إلى الجواب الصواب، وإدراك دقائق الأُمور، روى عن ابن عباس وغيره أن تنكيره كان بالزيادة والنقص فيه، وقيل: بغير ذلك.
42 -
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} :
أي: فلما جاءت بلقيس سليمان عليه السلام ومثلت عنده، والعرش مستقربين يديه قد جرى فيه من التنكير والتغيير ما أمر به، قيل لها على سبيل الاختبار:{أَهَكَذَا عَرْشُكِ} ؟ أي: انتبهى ودققى النظر، أمثل هذا عرشك الذي تركته ببلادك، وتحفظت عليه بكل أساليب التحفظ؟
ولم يكن السؤال: أهذا عرشك بغير كاف التشبيه، زيادة في إبهام أَمره عليها، ولم يصرح بالقائل لها لأَنه لا يتعلق بذكره غرض، ولأَن السؤال سؤال تعمية وتلبيس لا يجمل معه ذكر السائل، وكان جوابها:{كَأَنَّهُ هُوَ} غاية في دقة الفكر، وكمال رجاحة العقل، حيث لم تقطع بأَنه هو، أو ليس هو، فضلًا عمَّا فيه من مواءَمة ما في السؤال من الإبهام والإعجام.
وقوله تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} : يحتمل أن يكون من كلام بلقيس على ما اختاره جمع من المفسرين، كأَنها استشعرت من سؤالها اختيارهم لها فأَجابت بما يفيد أنها أُوتيت قبل هذه المعجزة أو هذه الحالة العلم بكمال قدرة الله تعالى، وصدق نبوة سليمان بما شاهدت من أمر الهدهد، وما سمعت من أخبار رسلها، وكانت مؤمنة بهذه الرسالة منذ ذلك الوقت، وقيل: إن الكلام من قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} إلى قوله: {مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} مقول على لسان سليمان وقومه، كأنهم لمَّا سمعوا جوابها:{كَأَنَّهُ هُوَ} استحسنوه، وقالوا: أصابت، وعلمت قدرة الله، وصحة نبوة سليمان وقد أوتينا العلم بذلك من قبلها وكُنَّا به مسلمين، كما قالوا ما تضمنته الآية التالية، والأول هو الظاهر.
43 -
{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} :
أي: وصد بلقيس عن تعجيل إظهار إسلامها وتصديقها برسالة سليمان ما كانت تدين به من عبادة في الكفر، متأصلة في الوثنية، فلما حضرت إلى سليمان، وأمنت بطش قومها أَعلنت إسلامها، وأَظهرت ما كانت تضمره منذ ظهرت لها المعجزات.
المفردات:
{الصَّرْحَ} : القصر، وكل بناءٍ عال، ومنه: ابْن لي صرحًا، وقيل: صحن الدار.
{لُجَّةً} : ماء كثيرا غامرًا. {مُمَرَّدٌ} : مُملَّسٌ. {قَوَارِيرَ} : زجاج، جمع قارورة.
التفسير
441 -
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} :
كلام مستأْنف بعد الفراغ من امتحانها السابق. كأَنه قيل: فماذا كان بعد امتحانها؟ وطوى ذكر القائل على حد طيه في قوله: {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} .
والمعنى: قيل لبلقيس بعد أن أدت الامتحان الذي أُريد لها، وظهرت رجاحة عقلها ودقة إدراكها للأمور - قيل لها -: ادخلى القصر.
وقد قيل: إن سليمان عليه السلام كان قد أمر الجن قدومها فبنوا لها قصرًا على طريقها من زجاج أبيض أَملس، وأجرى من تحته الماء، وألقى في الماءِ ما يكون فيه عادة من حيتان وأصداف، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه، ليزيدها استعظامًا لأَمره، وتحققًا من نبوته، وثباتًا على الدين، وما قيل من أنه ذكرت عنده بأنها شعْراءُ (1) فأَراد بذلك تعرف حالها، يجافى مقام النبوة وقداسة الأنبياء، وقوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} معناه: فلما رأَت القصر، وعاينت هيئته وأَحواله ظنته ماءً غمْرًا فكشفت عن ساقيها، فعل من يريد خوض
(1) أي: في ساقيها شعر.
الماءِ حذرًا من أَن يبتل طرف ثوبها، ورأَى سليمان منها ذلك، وأَحس دهشتها وحذرها وقال لها: إنه صرح مملس من زجاج أَبيض صاف، فلا تحذرى ولا تخافى بللًا. قالت بلقيس وقد رأت هذه القدرة الفائقة، والنعمة السابغة على سليمان - قالت -:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} : بقيامى على عبادة الشمس، وتأخير إسلامى، وأسلمت لله رب العالمين مع سليمان متابعة له.
وفي التعبير بقوله: {للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} حسب ما يقتضيه سياق الأُسلوب، التفاتٌ إلى الاسم الجليل، ووصفه بربوبيته العالمين لإظهار ما تم لها من كمال معرفتها الأُلوهية، واعتزازها بربوبيته، وتأْكيدًا لاستحقاقه التوحيد والعبادة.
المفردات:
{بِالسَّيِّئَةِ} : المراد بها: التكذيب، أو العقوبة التي تسيءُ.
{الْحَسَنَةِ} : التصديق، أو التوبة.
{اطَّيَّرْنَا} : تشاءَمنا، وأصله: تطيَّرنا، قلبت التاءُ طاءً وأُدغمت في الطاء، ثم اجتلبت همزة الوصل للتوصل بها للنطق بالساكن.
{طَائِرُكُمْ} : سبب شؤمكم. {تُفْتَنُونَ} : تختبرون.
التفسير
45 -
شروع في قصة صالح عليه السلام بعد الفراغ من قصة سليمان، وقوله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ} معطوف على قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} في صدر قصة سليمان، وكلتا القصتين وغيرهما برهان على صحة ما جاءَ في أول السورة من قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} لأن الحديث عن أحوال الأولين وأخبار الأنبياء السابقين ليس مما يعرفه سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ولا عهد له به.
ومعنى الآية: والله لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا يدعوهم إلى توحيد الله، وعبادته ونبذ عبادة ما عداه.
وبدأت بالقسم اعتناء بشأن ما اشتملت عليه من أَخبار، وما احتوته من أحوال.
وقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} معناه: فتعجلوا العصيان وجنحوا إلى الخلاف والفرقة وفاجئوا بالانقسام إلى فريقين يختصمون: فريق مؤمن مصدق وفريق كافر عاص مما جاءَ تفصيله في آيات كثيرة في سور أُخرى، منها ما جاء في سورة الأعراف من قوله تعالى:
والضمير في "يختصمون" للفريقين: المؤمن والكافر؛ لأنهما شريكان في الاختصام، والاختصام وقع بعد الدعوة، وظهور الآيات وإيمان فريق منهم.
والفاءُ للترتيب والتعقيب، وهو في كل شيءٍ بحسبه حتى تتأتى المفاجأَة بالتفرق والاختصام.
46 -
{قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} :
قال صالح عليه السلام متلطفا مع قومه، مستميلا لقلوبهم: يا قوم لِم تباكرون وتستعجلون بالمعصية، التكذيب، أو طلب العقوبة المسيئة لكم قبل التصديق والطاعة،
أو قبل التوبة التي تعصمكم من العذاب والعقوبة؟ هلا تبادرون بالاستغفار رجاءَ أَن تنالكم رحمة الله بقبوله توبتكم، فإن سنته - تعالى - عدم قبول التوبة عند نزول العذاب:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ثم قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} وكانوا لجهلهم، وفرط غوايتهم يقولون: إن وقع وعيده تُبْنا، وإلا فنحن على ما كنا عليه.
47 -
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} :
قال الفريق الكافر ردًّا على دعوة صالح لهم: تشاءَمنَا بك وبالذين اتبعوك، وكانوا معك، فمذقمتَ بدعوتك أَصابنا القحط، وشاعت فينا الفرقة، واستشرى الخلاف، قال صالح لهم: سبب شؤْمكم ومصائبكم عند الله وبقَدَره، أو كفركم وعنادكم وسوء أعمالكم المكتوبة عنده.
وأصل التطير: أنه كان من عادتهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه. فإن طار إلى اليمين تيمنوا ومضوا، وإن مرَّ بارِحا إلى اليسار تشاءَموا ورجعوا.
وقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} : تعقيب بالحكم عليهم بالعذاب الذي ابتلاهم الله به، بسبب كفرهم ومعاصيهم، أي: بل أنتم محكوم عليكم بالفتنة، أي: العذاب.
المفردات:
(رهط): أي؛ رجال، ولهذا وقع تمييزًا لتسعة فإنها يتميز بالجمع المجرور، وأصل
الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أما النفر: فمن الثلاثة إلى التسعة (1).
(تَقَاسَمُوا): فعل أمر بمعنى احلفوا، أو فعل ماض بمعنى: تحالفوا.
(لنُتَيَّتنَّهُ): لنهلكنه ليلًا. {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} : أي، هلاك أهله، أو موضع هلاكهم.
التفسير
48 -
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} :
استمرار في عرض القصة، والمعنى: وكان في مدينة ثمود وهي في الحجر - كان فيها - تسعة رجال من أشراف قومها - وسادتها، وقيل: كانوا رؤساءَ وراءَ كل واحد منهم جنوده وأتباعه، منهم قدار بن سالف عاقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وقادة الشر فيهم، يفسدون في الأرض، ويأمرون بالإفساد فيها، ويتتبعون عوْرات الناس ومعايبهم، يظلمون الناس، ولا يمنعون الظالم عن ظلمه، ولا يعملون صالحا، ولا يدعون إليه، ولا يعرفون طريقه - فعادتهم الدائمة المستمرة الإفساد البحت الذي لا يخالطه شىءٌ من الصلاح في عمل أو قول.
49 -
استئناف مبين بعض ما فعلوا من الفساد، والمعنى: ومن جملة شرهم: أنهم قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أَمر صالح عليه السلام: احلفوا وأقسموا وأكدوا قسمكم لنبيتن صالحا وأهله، أي: لنهلكنه وأهله بياتا وليلا حتى نتخلصن متاعبه، أو قالوا - حالفين متقاسمين - هذا القول، ثم لنقولن لوليه الذي يتولى طلب دمه إذا سأَلنا - نقول له -: ما شهدنا هلاكه وأهله فضلا عن عدم مباشرتنا إهلاكهم، ونحلف وإنا لصادقون في حلفنا حيث لم نباشر إهلاكهم بأنفسنا ولم نشاهده، أو أَنهم باشروه وشاهدوه، ولكنهم حلفوا أنهم صادقون في تبرئة أنفسهم، غير مكترثين بحلفهم وهم في الحقيقة كاذبون، والشيء من معدنه لا يستغرب.
(1) انظر تفسير أبي السعود.
المفردات:
{وَمَكَرُوا مَكْرًا} : دبروا أمرا في احتيال وخديعة خفاءً، وهو إهلاك صالح وقومه.
{وَمَكَرْنَا مَكْرًا} : جازيناهم بمكرهم من حيث لا يتوقعون.
{دَمَّرْنَاهُمْ} : أهلكناهم. {خَاوِيَةً} : خالية من السكان والأهل، أو متداعية مهدمة.
التفسير
50 -
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :
مكرهم: ما أَخفوه من تدبير الفتك بصالح وأَهله، ومكر الله: مجازاتهم وإهلاكهم، وسميت المجازاة مكرا للمشاكلة، كما في قوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وكما في قوله: {ومَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالهلاك خلال ثلاث ليال أهلكهم الله فيها بالصيحة فأصبحوا جاثمين، ونجى الله صالحا ومن آمن معه.
والمعنى: ومكر قوم صالح فدبروا في خفاءٍ إهلاكه وأهله ليلا، وعلم الله مكرهم فقدر إهلاكهم من حيث لا يشعرون أن الله عالم بتدبيرهم، ومجازيهم، ولا يحتسبون وقوع الهلاك بهم.
51 -
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِين} :
أي: فتعرَّف وتأَمل أَحوالهم، وكيف كانت عاقبة ظلمهم وفسادهم وإفسادهم، لقد
كانت عاقبة ذلك أنا أهلكناهم جميعًا تابعين ومتبوعين، لم يشذ عن إهلاكهم أحد، ولم ينج فيهم تابع ولا متبوع.
والأمر في قوله تعالى: {فَانْظُرْ} لرسول الله، أو لكل من يتأتى منه النظر ليعتبر بالحال العجيب التي انتهت إليها عاقبة مكرهم وفسادهم وإفسادهم.
52 -
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :
والمعنى: إذا أردت مزيدا من التصديق والاستيقان فتلك بيوتهم ومساكنهم أَمامك خالية من الأهل والسكان، متداعية متهالكة بسبب ظلمهم وإفسادهم، وسوء تدبيرهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي حل بهم، وجرى عليهم من سخط وعذاب لعظة وعبرة لقوم أهلًا علم وفهم، أو يعلمون عاقبة الظلم والعصيان.
روى عن ابن عباس أنه قال: أجد في كتاب الله - تعالى - أن الظلم يخرب البيوت.
وتلا هذه الآية، وفي التوراة:"ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك" وهذا مشاهد كثيرا في كل عصر، وحجة الله على الظالمين في كل جيل.
53 -
{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} : أي وأنجينا صالحا والذين صدقوه وكانوا يتقون المعاصي ويقيمون على الطاعات. - أنجيناهم - من العذاب الذي حل بالكافرين منهم.
روى أن الذين آمنوا بصالح كانوا أربعة آلاف، خرج بهم إلى "حضر موت" وحين دخلها مات فسميت بهذا الاسم، وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها:(حاضورا) والله أعلم بصحة ذلك.
المفرادت:
{الْفَاحِشَةَ} : الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح.
{تُبْصِرُونَ} : تعلمون عاقبة فعلها، أو يبصر بعضكم بعضا علانية أَثناءَ الفاحشة.
التفسير
54 -
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} :
انتقال من قصة قوم صالح إلى أخبار قوم لوط عليه السلام (ولوطا) منصوب بمضمر معطوف على (أَرسلنا) في صدر قصة صالح عليه السلام داخل معه في حيز القسم أَي: وأرسلنا لوطا، وقيل: إن (لوطا) منصوب بـ (اذكر) محذوفا.
وقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرف للإرسال، على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال.
والمعنى: وأَرسلنا لوطا إلى قومه لائما موبخا حين قال لهم: أتأْتون هذه الفعلة النكراء المتناهية في القبح والشناعة، وأنتم تعلمون مبلغ قبحها وشناعة جرمها وارتكابها؟ أَو وأنتم تعلمون عاقبة العصاة. ونهاية أمرهم؟ وقيل: تبصرون من الإبصار، بمعنى النظر بالعيون، والمعنى: تفعلونها جهارا علانية وأنتم ينظر بعضكم إلى بعض، والمراد بالاستفهام في قوله:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} استبعاد فعلها، واستنكار ارتكابها.
55 -
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} : تكرار للكلام عن فاحشتهم لمزيد الإنكار، وبيان حقيقتها بطريق التصريح بعد الإبهام، وتصدير الجملة بحرفي التأكيد للإيذان بأَن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد؛ لكمال شناعته وفظاعة مجانته، فلهذا احتاج إلى تأْكيد وقوعه، وإعادة همزة الاستفهام الإِنكارى معه.
والتعبير بالرجال دون الذكور لمزيد التقبيح، والإشعار بقلب الحقيقة، وتنكيس الطبيعة، وتعليل الإتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح، وتقريع على تحكم الشهوة، وبهيمية الطبع، وقوله تعالى:{مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} تنبيه إلى مجاوزة الجنس المخصص للشهوة، المخلوق للاستمتاع، انقيادًا للنزعات الفاسدة، وقوله تعالى:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} : معناه؛ بل أنتم قوم تفعلون فعل الجهلاءِ الذين لا يقدرون العاقبة، والسفهاء الممعنين في الفحش والمجانة، وفيه مزيد من التوبيخ بالإضراب الذي يدل على أنهم أهل جهل يعيشون فيه أيامهم ويتجدد معهم حياتهم.
المفردات:
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} : المراد بهم لوط وأهله؛ كما يراد من بني آدم؛ آدم وبنوه.
{مِنْ قَرْيَتِكُمْ} : هي سدوم وما حولها، ويطلق عليها القرى المؤتفكات.
{أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} : أي جماعة يتنزهون من صنيعهم.
{قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} : أي قدر الله بقاءَها في العذاب مع الباقين فيه، والغاير: الباقي.
يقال: غبر الشيء، يغبُرُ، غُبُورًا: بقى.
التفسير
لما أنذر لوط عليه السلام قومه نقمة ربهم وعذابه على أفعالهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين سخروا وَهَزِئوا به، وأجمعوا أمرهم على إيذائه، وإيذاء من معه بإخراجهم من وطنهم كما قال - تعالى - حكايته لما وقع من هؤلاء السفهاء:
56 -
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا
…
} الآية.
أي: فما كان لهم جواب عن تحذيرهم مما هم فيه من القبائح إلَاّ قولهم: أخرجوا لوطًا ومن انتسبوا إليه ولاذوا به من المؤمنين - أخرجوهم (من قرْيتكُم) وهي سدوم وما حولها من القرى (1) وهي قرية من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها، ويرون آثار العذاب الذي نزل بها.
(1) هاجر لوط وعمه إبراهيم عليه السلام من أرض بابل فنزل إبراهيم فلسطين، ونزل لوط الأردن. اهـ. البحر المحيط لأبي حيان، وذكر صاحب القاموس أن الصواب سذوم - بالذال المعجمة - وذكر شارحه أنه مضبوط بالوجهين وأن المشهور فيه إهمال الدال، وصوبه شيخه في شرح الدر.
ولم يَجِدْ هؤلاءِ المجرمون ما يتذرعون به لإخراج آل لوط من ديارهم إلَاّ قولهم: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} فهو تعليل لجريمة إخراجهم على وجه يتضمن الاستهزاءَ بهم كما قال ابن عباس، أي: إنهم قوم يتنزهون ويتبرأون ممَّا نأْتيه، ويعدونه سفهًا وقذًرا لا ينبغي اقترافه، قال قتادة: عابوهم - والله - بغير عَيْبٍ، بأنهم يتطهرون، وقيل: يتطهرون بمعنى يتكلَّفون الطهر من أَفعالنا رياءً وتظاهرًا فحسب.
ولتهوين أمر إخراجهم من القرية وما حولها أضافوها إليهم على طريق الخطاب للإشعار بأَن لهم السلطان فيها والتصرف في شأْنها، والتحكم في أَهلها من غير معارض يحول بينهم وبين ما يبتغون.
والظاهر أن هذا الجواب صدر عن قوم لوط بعد المرة الأخيرة من مرات مواعظ لوط عليه السلام التي أمرهم فيها بالطاعة ونهاهم بها عن المعصية، لا أَنه لم يصدر عنه وعنهم كلام آخر غيره.
57 -
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} :
أي: فأَنجينا لوطا وأهله، وهم ابنتاه ومن تبعه من المؤمنين، وقيل: لم يكن معه إلَاّ ابنتاه، كما قال تعالى:{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1). أما امرأته فكانت من الهالكين كما قال - تعالى -: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين في العذاب لكفرها وموالاتها لمن ضل وغوى، كما قال - تعالى -:{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} (2).
58 -
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} :
أي: وأمطر الله - سبحانه - على هؤلاء الفاسقين مطر عذاب ونقمة فكان سيئًا لم يعهدوا له مثيلًا، فهو من حجارة قوية صلبة متتابعة النزول معْلَمة بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض، كما قال تعالى -:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} (3).
(1) الآية 36 من سورة الذاريات.
(2)
الآيتان: 170، 171 من سورة الشعراء.
(3)
من الآيتين: 82، 83 من سورة هود.
المفردات:
{الَّذِينَ اصْطَفَى} : أي اختار لرسالته وهم الأنبياءُ عليهم السلام.
{حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} : أي بساتين ذات حُسْن، كل بستان عليه حائط، مِنْ: أَحدق بالشيء، إذا أحاط به، ثم توسع فيها فاستعملت في كل بستان وإن لم يكن محوطًا بحائط.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} : عن التوحيد إلى الشرك، أَو يساوون بالله غيره من آلهتهم، من: العِدْل بمعنى المثل والنظير. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} : جبالًا ثوابت.
{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} : أي مانعًا بين العذب والملح حتى لا يبغي أحدهما على الآخر.
التفسير
59 -
بعد ما قص - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم القصص الدالة على كمال قدرته، وعظيم شأْنه، وما خص به رسله من الآيات "الكبرى" والمعجزات الباهرة، أمره صلى الله عليه وسلم بحمده - تعالى - على ما أفاض عليه من نعم عظيمة لا مطمح، راءَها لطامح؛ حيث علمه ما لم يعلم من أخبار أنبيائه السابقين مع أُممهم واجتهادهم في الدين، وقد بين على أَلسنتهم صحة التوحيد
وبطلان الكفر والإشراك، كما أمره أن يسلم على المختارين من عباده، ويراد بهم كافة الأنبياء والمرسلين لدلالة المقام ولقوله - تعالى - في آية أخرى:{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (1) ومن جملتهم الذين قص القرآن أخبارهم، عرفانًا بفضلهم وأداءً لحق تقدمهم، وقيل: هذا أَمر له صلى الله عليه وسلم بحمده - تعالى - على هلاك من هلك من كفرة الأُمم، والسلام على الأنبياءِ وأتباعهم الذين اتقوا ربهم اقتداءً برسلهم فكانوا من الناجين ..
ويرى ابن عباس أَن المراد من عباده المصطفين أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم لنبيه رضي الله عنهم أخرجه عَبْدُ ابن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم.
والسلام على غير الأنبياء مما لا خلاف في جوازه إن كان تابعًا للأنبياء، وقال الحنابلة وغيرهم بجوازه استقلالًا، وهذا ظاهر قول ابن عباس.
وقال الزمخشرى: أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين الدالة على وحدانيته - تعالى - وكمال قدرته، وإن يستفتح بحمده والتسليم على أنبيائه والمصطفين من عباده، وفيه تعليم حسن لكل متكم في أَمر ذى بال أن يتبرك بهما وأَن يستظهر بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، وتوقيف على أدب جميل يحمل على التواضع والإخلاص، ولقد توارث العلماء والخطباءُ كابرًا عن كابر، هذه السنة الحميدة اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى باختصار.
{آللَّهُ خَيْرٌ (2) أَمَّا يُشْرِكُونَ} : إنكار على المشركين وتوبيخ لهم أن يعبدوا غير الله.
أي: أيهما خير؟ آلله الذي ذكرت شئونه العظيمة أم الذي يشركونه به من الأصنام؟ ومرجع ترديد السؤال بينهما في الخيرية إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته تعالى، وتسفيه آرائهم والتهكم بهم، وذلك لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئًا على شيءٍ إلَاّ لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة.
(1) الآية 181 من سورة الصافات.
(2)
قال أبو حيان: "كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل (خير) حيث يعلم ويتحقق أنه لا شريك هناك وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ، ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر" انتهى: من تفسير الآلوسي.
ومن البين أنه ليس فيما أشركوه به - تعالى - شائبة خير حتى يوازن بينه وبين من لا خير إلَاّ خيره، ومع علمهم بذلك فقد دفعهم الجهل المفرط إلى إيثاره هوى وعبئًا وإمعانًا في الخطأ والضلال.
60 -
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
…
} الآية.
عدد الله - سبحانه - بهذه الآية والآيات الأربع التالية الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، وأشار بها إلى أدلة انفراده - سبحانه - بالخلق والرزق والتصرف والتدبير وبكل خواص الأُلوهية إبرازًا لكمال قدرته، حيث قال - سبحانه -:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إضراب انتقاليٌّ عن سؤالهم سؤال تقرير عمن هو خير، أهو الله القادر أم آلهتهم المزعومة، إلى إثبات الخيرية لله وحده، أي: بل من قدر على خلق السموات والأرض خير من جماد لا يقدر على شيءٍ، ولا خير فيه أصلًا يرجع إلى إرادته.
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} : خطاب للكفرة لتشديد التبكيت لهم والإلزام، أي: أنزل - سبحانه - لأجلكم من السماء نوعًا من الماء وهو المطر، جعل فيه حياتكم وحياة أرضكم وزروعكم ودوابكم، كما جعل ممَّا ينبت به ما يكون متاعًا لأنفسكم، وراحة لقلوبكم، وزينة لأَبصاركم فأَنبت به - بعظيم قدرته وعجيب صنعه - بساتين ذات حسن ورونق جميل يبتهج بها الناظر إليها، ويسر بمختلف ألوانها وأشكالها وروائحها، وطعومها، مع أنها تسقى بماءٍ واحد، مما لا يقدر عليه إلَاّ من تفرد بالخلق والإبداع جل وعلا، ويشير إلى ذلك قوله - تعالى -:{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي: ما أمكنكم، وما استطعتم - مهما بذلتم من جهد وأُوتيتم من فكر - إنبات شجرها، فضلا عن ثمرها، وسائر صفاتها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقل بالملك المتفرد به دون سواه، والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله:{فَأَنْبَتْنَا} لتأكيد اختصاص الفضل بذاته - تعالى - وعجز قوى البشر عن مثله.
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} : أي أإله آخر مع الله في خواص الأُلوهية التي لا يقدر غيره عليها حتى يتوهم جعله شريكًا له في العبادة، وهذا تبكيت لهم على اتخاذهم آلهة عاجزة مع الله صاحب القوى والقَدَر التي لا تتناهى.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} : انتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى تبكيتهم بطريق الغيبة لبيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم؛ ليعرف أنهم قوم عادتهم الانحراف عن الحق، والعدول عن الاستقامة في كل أمر من الأُمور، حتى كان من شأْنهم ترك التوحيد وهو الحق الواضح، والعكوف على الباطل الظاهر وهو الإشراك بالله سبحانه.
61 -
{أمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ
…
} الآية.
انتقال من تبكيت المشركين بآية من آيات قدرته إلى تبكيتهم بآية أُخرى من آياتها العظيمة حيث بسط الأرض وسواها؛ ليتسنى للإنسان والحيوان الاستقرار عليها، وارتياد أماكنها، وجعل خلالها وفي أوساطها أنهارًا جارية ينتفع كل بها كل قاطنيها في شئون حياتهم، وأقام عليها جبالًا ثوابت تمنعها من أن تضطرب بأَهلها، فيختل توازنها ويكون سببًا في فناءٍ من عليها، كما أن لتلك الجبال فوائدها العديدة ومنافعها الكثيرة.
وجعل - سبحانه - بقدرته مانعًا ببن الماء العذب والملح حتى لا يبغى أحدهما على الآخر.
قال ابن عباس: جعل بينهما سلطانًا من قدرته، فلا هذا يغيِّر ذاك، ولا ذاك يغيِّر هذا (1).
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} : أي ليس هناك اله مع الله فهو المختص وحده بالإيجاد والإتقان لهذه البدائع التي أوجدها وهي من لوازم الأُلوهية التي لا يقدر عليها سواه.
وإذ ثبت أن ذلك ليس في مقدور آلهتهم، فلماذا يشركونها به في العبادة؟ وهي عاجزة لا تملك لنفسها نفعًا ولا خيرا؟ إنَّ صنيعهم هذا عناد وحماقة؛ لأن أكثرهم يجهلون الحق مع وضوح آباته، ولو علموه لتبين لهم بما لا يدع مجالًا للشك بطلان ما هم عليه من الشرك، أو أن أكثرهم لا يعلمون شيئًا من الأشياء معتًّدا به فهم لذلك لا يعلمون ما يتحتم عليهم معرفته من العلم الحق الذي يوجب عليهم إخلاص عبوديتهم له - سبحانه - وحده.
(1) راجع ما كتبناه تفصيلًا على ذلك في قوله - تعالى - في سورة الفرقان: "وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا"53.
المفرادت:
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} : المضطر، هو ذو الحاجة المجهود.
{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} : أي يرفع عنه الظلم والضر. {خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} : هم الذين يرثون سكناها والتصرف فيها. {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : أي يرشدكم بالنجوم ونحوها من العلامات. {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} : أي مبشرات قدام المطر بنزوله.
{تَعَالَى اللَّهُ} : أي تنزه عن شركائهم.
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : أي حجتكم على أن له شريكًا.
التفسير
62 -
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ
…
} الآية.
يقرر الله المشركين بذلك على أنه هو المدعو منهم عند الشدائد المرجو عند النوازل، وأنه يجيب دعوة المضطر؛ لما عرفوه من أنه - سبحانه - يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء، ويوبخهم به على أنهم في حالة رخائهم وزوال الضرورة عنهم يعودون إلى شركهم.
وكما يجيب سبحانه وتعالى دعاء المضطر إذا دعاه، فإنه وحده يدفع عنهم ما يعتريهم من مكاره وما يتنزل بهم من خطوب، ويجعلهم خلفاءَ الأرض لمن سبقهم يتوارثون سكناها
وينعمون بخيراتها، والتصرف فيها قومًا بعد قوم، وجيلًا بعد جيل، ولو أبقى الله الناس جميعًا ولم يجعل بعضهم خلفاءَ بعض فإن الأرض تضيق بالخلائق ويحصل لهم فيها من المشقة والعنت ما لا قبل لهم باحتماله.
ثم وبخهم على شركهم بقوله - سبحانه -: {أإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فإذا لم يكن معه إله في تلك النعم فلماذا أعرضتم عنه - تعالى - بعد كل ذلك وعبدتم غيره وأنتم تعلمون أنه ليس هناك إله غير الله الخالق المنعم، قلما تتعظون لقلة تذكركم هذه النعم المذكورة في الرخاء، قلة تصل إلى العدم وتجرى مجراه في عدم الجدوى، فلو ذكرتموها في الرخاء لاهتديتم لأنها من الوضوح والظهور بحيث لا يتوقف تذكرها إلا على التوجه إليها ليعلم أنها من خصائص الأُلوهية التي لا يقدر على الاتصاف بها سواه.
63 -
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} :
أي: إن الله وحده هو الذي يرشدكم إلى الطريق في ظلمات البر والبحر إذا سافرتم ليلًا حيث جعل لكم النجوم وعلامات الأرض لتهتدوا بها ليلًا، وهداكم إلى علامات بالأَرض إذا اشتبه عليكم الطريق، كما قال تعالى:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} (1).
ويجوز أن يراد من ظلمات البر والبحر ما يحدث فيها من التباس السبيل على المسافرين ليلًا أو نهارًا، بأَن تجعل مفاوز الأرض التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات الليل؛ لأنها تشبهها في إيجاد الحيرة والتردد لعدم وجود ما يهتدى به في أرجائها.
{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} : أي: أنه - سبحانه - هو الذي يبعث لكم الرياح أمام السحب الممطرة مبشرات بنزول المطر رحمة منه بعباده ليغيثهم به من الجفاف والجدب، وذلك بإروائهم، وإحياءِ الأرض بعد موتها بمائها لتنبت من كل زوج بهيج، كما قال - سبحانه -:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (2).
(1) الآية 16 من سورة النحل.
(2)
من الآية 5 من سورة الحج.
وليس مع الله إله يصنع ذلك، فقد تنزه عن الشريك والنظير بذاته المتفردة بكل خواص الأُلوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال والجلال، المقتضية لكون المخلوقات جميعها مقهورة تحت سلطانه، وفي ذلك ما فيه من التحقيق والتقرير وقوة الاستدلال على نفى أن يكون معه - سبحانه - الله آخر.
64 -
{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
…
} الآية.
كان هؤلاء للشركون يقرون أنه - سبحانه - يبدأُ الخلق ويتكفل بالرزق، وينكرون مع ذلك البعث بعد الموت، فألزمهم - تعالت أسماؤه - الإقرار بالبعث الذي ينكرونه؛ لأنه من قدر على الفعل بدءًا كانت الإعادة عليه أَهون، أي: لا أحد سواه يقدر على أن يبدأ الخلق من عدم ثم يعيده بالبعث، وخوطب به المشركون مع إنكارهم للبعث؛ لأنه لما وضحت براهينه وتمكنوا من إدراكها جُعِلوا كأنهم معترفون بوقوعه فم يبق لهم عذر في الإنكار.
وهو - سبحانه - القادر وحده على أن يرزقكم من السماء والأرض بأسباب سماوية وأرضية رتبها وفق ما اقتضته حكمته ممَّا يدل على أنه ليس هناك - كما يزعمون - إله آخر موجود مع الله يقدر على فعل شيء يذكر.
فإن تمسك أُولئك المشركون بعد هذا بدعواهم فقل لهم - أيها النبي موبخًا لهم ومنكرًا عليهم -: أقيموا لنا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا على صحة ما تدَّعُون إن كنتم صادقين، ولن يتأَتى لهم الإتيان به مهما حاولوا، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (1).
(1) من الآية 117 من سورة المؤمنون.
المفردات:
{الْغَيْبَ} : كل ما غاب عنك، وجمعه: غيوب.
{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} : أي لا يعلمون الوقت الذي فيه يبعثون، يقال: شعر بالشيء من بابى: نَصَرَ وكَرُمَ، شعرا مثله، وشعورًا: علم به وفطن له.
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} : أي تتابع علمهم بها عن طريق الأدلة، وقيل: معناه اضمحل علمهم بالآخرة، من التدارك وهو التتابع في الفناء. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا}: أي في تردد من تحقق الآخرة نفسها. {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} : أي لا يدركون دلائلها مع وضوحها، كأَنهم فقدوا أبصارهم، ومفرده: عَمٍ.
التفسير
65 -
بعد أن أثبت الله تفرده - سبحانه - بالأُلوهية، وبين الأدلة الواضحة التي تفيد اختصاصه بالقدرة الكاملة، والحكمة التامة في الخلق والتكوين، وإسداء النعم الجزيلة منة منه وتفضلًا على عباده عقبه بذكر ما لا ينفك عن أن يكون من شأنه وحده، وهو اختصاصه بعلم الغيب تكميلا لما قبله مما انفرد به، وتمهيدا لما بعده من أمر البعث.
وقيل: إن هذه الآية نزلت لما سأل الكفار الرسول صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة التي وعدوها وألحوا عليه - كما في البحر -.
(1) لفظ: (إلا) في قوله: (إلا الله) بمعنى (لكن) أي: لكن الله يسلم الغيب دون من في السموات والأرض.
والمعنى: قل لهم - أيها النبي -: لا يعلم أحد ممن في السموات والأرض الغيب إلاّ الله فهو وحده الذي ثبت له علم الغيب على جهة اللزوم والاختصاص، وانتفى عمن سواه حتى الأنبياء.
ويؤيد ذلك ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بما يكون في غد، وفي بعض الروايات: يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفِريَة، والله تعالى يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ
…
} الآية.
وعلم الغيب المنفى عن غيره - جل وعلا - هو ما كان للشخص لذات في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل كونه لأَحد من أهل السموات والأَرض، وما وقع لبعض الخواص من الإخبار ببعض الغيب فلا يقال: إنهم علموه بقدراتهم الذاتية، ومن قال ذلك كفر قطعا، وإنما يقال: أُظْهرُوا على الغيب وأُطْلِعُوا عليه، ويؤيده أن نسبة علم الغيب إلى غيره - تعالى - لم تجىء في القرآن الكريم، وإنما جاءَ الأظهار على الغيب لمن ارتضى - سبحانه - من رسول كما قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (1).
أمَّا ظن الغيب بأمارات فهو ممكن لعباده فلا يكفَّر ولا يفَسَّق مدعيه، كما يحصل من علماء الفلك من الراصدين لحركات الرياح والشمس والقمر والكواكب، حين يخبرون بهبوب الرياح شديدة أو معتدلة، وبكسوف الشمس، وخسوف والقمر، وبنزول المطر وارتفاع درجة الحرارة أو اعتدالها أو نحو ذلك، فيقع الأمر كما قالوا، فليس ذلك من علم الغيب المنفي؛ لكونه بأَسباب وأمارات، فهو في واقعه ليس علمًا حقيقًّا بما سيحدث وإنما هو ظن وتخمين بأَمارات اقتضته، وقد تتخلف.
أما العراف الذي يتحدث عن المستقبل ادعاءً بأَنه على علم بالغيب كقوله لمن يستخبره عن مستقبله: ستكسب مبلغ كذا، أو ستتزوج فلانة، أو تفْقِد كذا في سفرك، أو نحو ذلك فهو كافر - كما قال القرطبى -.
(1) الآية: 21، 27 من سورة الجن.
والمؤمنون منهيون عن إتيان العرافين، فقد جاء في صحيح مسلم:"من أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} : أي ما يعلم كل من في المسوات والأرض أي وقت يبعثون فيه بعد موتهم؛ لأن وقت البعث والنشور من جملة الغيب الذي اختص الله - سبحانه - بعلمه، فلا يحق لهؤلاءِ المشركين أن يطالبوا نبيهم صلى الله عليه وسلم من آن لآخر ببيان وقته بمثل قولهم:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) كما لا يحق لهم أن يستنكروه بمثل قولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (2).
66 -
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} :
بين الله في الآية السابقة أن الغيب مما استأثر الله - تعالى - بعلمه، وفي جملته وقت البعث بعد الموت، فإنه من الغيوب التي اختص بعلمها العليم الخبير.
وجاءَت هذه الآية لتبين أن المشركين وإن لم يؤمنوا بالبعث للحساب والجزاءِ، فقد تدارك علمهم بأن لهم آخرة ينتهون إليها، وتتابع وعيهم بأَنهم يبعثون على لسان الصادق المصدوق المؤيد بالمعجزات صلى الله عليه وسلم ودلت الأَمارات على إمكانه، فإنه من قدر على البدءِ فهو قادر على الإِعادة من باب أَولى، كما شهد العقل بمجيئه ولا بد، فإِنه لا يعقل أَن تزول الحياة الدنيا ولا تعقبها آخرة يجزى فيها المحسن على إِحسانه، والمسىءُ على إساءَته، فإن عدالة الله تأْبى ذلك.
فهؤلاءِ المشركون تدارك علمهم وتتابع على هذا النحو، وكان عليهم أن يؤمنوا بها، ولكنهم لم يفعلوا، بل هم في شك من مجيئها، مترددون في أَمرها، بل هم من ناحيتها عُمْيٌ عن أدلتها، وكان عليهم أن يطمئنوا إلى مجيئها بقيام الأدلة عليها، وأن يعملوا لها.
ومن المفسرين من فسر تدارك علمهم بالآخرة بفناء علمهم بها، كما يقال: تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك، وعلى هذا يكون معنى الآية: بل فنى علمهم بشئون الآخرة، مع توافر أسبابه ودواعيه بقيام الأدلة الواضحة على مجيئها، قال صاحب القاموس: بل ادارك علمهم في الآخرة: جهلوا علمها ولا علم لهم بشيءٍ من أمرها. اهـ
(1) من الآية 48 من سورة يونس.
(2)
سورة الإسراء، من الآية 98.
ولهذا ختم الله الآية بقوله: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} حيث قصروا تقصيرًا فاحًشا بتركهم النظر في أماراتها وتعاميهم عن أدلتها، مع أنها لا تخفى على ذوى البصائر وأولى الألباب.
وحاصل معنى الآية: أن علمهم بشئون الآخرة ومنها البعث انقطع وانتهى في الدنيا، حتى لم يبق لهم علم بشيءٍ من شئونها، مع توافر الأسباب الواضحة الدلالة عليها.
المفرادت:
{أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} : إنكار لإِخراجهم من قبورهم أَحياءً.
{إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : أَي أَباطيل الذين سبقوهم، وهي جمع إسطار - بكسر الهمزة - وأسطورة - بضمها.
{وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} : أي لا يكن صدرك ضيقًا بمكرهم.
التفسير
67 -
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} :
بيان لجهل الكافرين بالآخرة وعَمَاهم عنها بحكاية إنكارهم لليعث، والمراد بهم: مشركو قريثس فقد أَنكروا إخراجهم من قبورهم أحياء إنكارا شديدًا متكررًا مبالغًا فيه.
وتقييد الإخراج بوقت كوْنهم ترابًا ليس لتخصيص الإِنكار الواقع منهم بالإِخراج في هذا الوقت فقط، فإنهم منكرون للإِحياء بعد الموت مطلقًا، وإن كان الجسد على حاله،
وإنما ذكر لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له في زعمهم، وهي كونهم ترابًا، وكما أنكروا إخراجهم فقد أنكروا كذلك إخراج آبائهم.
68 -
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :
استئناف مسوق لتقرير الإِنكار، وصُدِّر بالقسم لزيادة التأْكيد، أي: والله لقد وعدنا هذا الإخراج نحن وآباؤنا من قبل أن يعدنا به محمَّد ولم نر له حقيقة ولم نعلم له وقوعًا فيما مضى، ذلك لأن هذا الوعد ما هو إلَاّ أباطيل الأَولين حكاها محمد عنهم، وليس له حقيقة، وقد رد الله عليهم بقوله:
69 -
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} :
أي: قل - يا محمد - لهؤلاءِ المكذبين: سيروا في الأرض فانظُرُوا بإمْعانٍ وتفكروا كيف كان عاقبة المكذبين للرسل عليهم السلام فيما جاءُوا به من الإيمان بالله وحده، وبالمعاد الذي تنكرونه، فإن مشاهدة عاقبتهم، وآثار ما حل بهم من العذاب والنكال اللذين لم يَنْج منهما سوى الرسل عليهم السلام ومن اتبعهم من المؤمنين يكفى أن يكون عظة وعبرة لذوى البصائر وأولى الألباب، ودلالة واضحة على صدق ما جاءَت به الرسل وصحته، وفيه تهديد لهم على التكذيب، وتخويف بأَن ينزل بههم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم.
70 -
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} :
تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أي: ولا تأْسف على المكذبين لإصرارهم على الكفر، وتذهب نفسك عليهم حسرات، ويكون صدرك حرجًا من كيدهم وإنكارهم ما جئت به فإن الله مؤيدك وناصرك عليهم، ومظهر دينك في المشارق والمغارب على من خالفه وعانده:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1).
(1) من الآية 30 من سورة الأنفال.
المفردات
{رَدِفَ لَكُمْ} : أي لحق بكم، ويتعدى بنفسه وباللام.
{مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} : أي ما تخفيه من الأَسرار، تقول: أكننت الشيءَ إذا أخفيته في نفسك.
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} : الغائبة؛ جميع ما أخفاه الله وغيبه عن خلقه. وتاؤه للمبالغة في الغيبوبة، كراوية.
{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} : المراد به؛ اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد، وهو بيِّنٌ واضح، أو مُبَيِّنٌ ما فيه لمن يشاءُ من ملائكته:
التفسير
71 -
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} :
يسأَل الكفار عن وقت العذاب العاجل الموعود به، سخرية به، وإنكارًا له قائلين: متى يحين وقت العذاب الذي وعدتم بأن ينزل بنا إن كنتم صادقين في إخباركم بأنه آت إلينا، وواقع علينا؟ فهموا الوعد بالعذاب من أمرهم بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبين والجمع في قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} باعتبار شركة المؤمنين للرسول في الإِخبار بذلك.
72 -
{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} :
أي: قل لهم - أيها النبي -: عسى أن يكون قد اقترب منكم بعض الذي تستعجلون حلوله، وتطلبون وقوعه من العذاب، وكان ذلك عذاب بدر، أو عذاب القبر، وهذا المعنى قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك.
وعسى هنا لتحقق الوقوع لما وعدوا به.
قال الزمخشرى: إن عسى ولعل سوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأَمر وجده وأنه لا مجال للشك فيه، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم، فعلى ذاك جرى وعد الله تعالى ووعيده.
وقيل: إن عسى على معناها، والترجى المفهوم منها قيل: راجع للعباد.
73 -
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} :
أَي: وإن ربك - جل شأْنه - لذو إنعام كثير فاضل على كافة الناس مع ظلمهم لأنفسهم، ومن جملة ذلك ترك المعاجلة بالعذاب لهؤلاء المكذبين مع ما يقترفونه من ذنوب وآثام، وكان على المنْعَمِ عليهم أن يقوموا جميعًا بشكر ربهم على تفضله عليهم، ولكن أكثرهم أعرضوا عمَّا يطلب منهم من شكر وعرفان جحدًا لفضل خالقهم الذي أسداه إليهم، ومنهم أولئك المستعجلون للعذاب.
74 -
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} :
أي: ساق ربك - جل شأْنه - ليعلم ما تخفى صدورهم من الأَسرار ومنها عداوتك، ويعلم ما يظهرون من القول بلا تفرقة بينهما في إحاطة علمه بهما كما قال تعالى:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} (1).
(1) الآية 10 من سورة الرعد.
فليس تأْخير العذاب عنهم لخفاء حالهم عليه تعالى، وإنما لأن له وقتًا محددًا لا يتعداه بتقديره - جل شأنه - وعلم الله بما تخفيه صدورهم، وبما تظهره أقوالهم، فيه إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكى عنهم.
75 -
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} :
أَي: وما من خصلة شديدة الغيبوبة في السماءِ والأرض إلَاّ علمها الله، وأحاط بها، وأثبتها عنده في أم الكتاب، ذلك الكتاب الواضح البين في نفسه المبين ما فيه لكل من يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم السلام وهو اللوح المحفوظ، وقيل: المراد به علم الله - تعالى -، فهو المبين لكل معلوم، وقيل: المراد به القرآن الكريم، فقد أشار إلى كل غائبة في السموات والأرض، وبين دلالتها على خالقها سبحانه وتعالى.
المفردات:
{عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} : المراد بهم؛ اليهود والنصارى، وإسرائيل: يعقوب عليه السلام.
{عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} : الواضح البين، أو الفاصل بين الحق والباطل.
{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ} : أي ولا تسمع من بطل سمعه وذهب لسبب من الأسباب، وفعله من
باب علم. فالمذكر أصم، والأُنثى صماء، والجمع صُمٌّ، مثل أحمر وحمراءَ وحُمْر، ويتعدى بالهمزة فيقال: أصمه الله.
{بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} : أي عن كفرهم، يقال: ضل يَضل ضلالًا وضلالة: مال عن الطريق فلم يهتد.
التفسير
76 -
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :
لما ذكر - سبحانه - ما يتعلق ببدء الخلق، وإعادة المخلوقات بعد الموت بالبعث، ذكر ما يتعلق بالنبوة، ولكون القرآن الكريم أعظم ما تثبت به نبوة نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم. أنزل فيه - سبحانه - ما يقص به علي بني إسرائيل - اليهود والنصارى - أكثر ما اختلفوا فيه، بإظهار حقيقة أمره في وضوح وجلاء، ممَّا يدعوهم إلى الإِسلام لو تأَملوا وأَنصفوا، وأخذوا به، ولكنهم أعرضوا وكابروا مثلكم أيها المشركون. وتحزبوا أحزابًا كثيرة، ولعن بعضهم بعضًا، ووقع بينهم الجدال والتناكر.
ومن جملة ما اختلفوا فيه اختلافًا كثيرا أمر عيسى عليه السلام فاليهود افتروا ونسبوا إلى مريم ما هي منزهة عنه، وكذبوا عيسى عليه السلام والنصارى تغالوا، فمن قائل: بأَنه إله، ومن قائل: بأنه ابن الله، ومن قائل: بأَنه ثالث ثلاثة إلى غير ذلك.
كما اختلفوا في أمر النبي المبشر به، فمن قائل: هو يوشع، ومن قائل: هو عيسى، ومن قائل: إنه لم يأْت إلى الآن، وسيأتي آخر الزمان، كما اختلفوا في شأن الخنزير، فقال اليهود بحرمة أكله، وقالت النصارى بحله، إلى غير ذلك من أُمور.
فجاء القرآن بالقول الوسط، قول الحق والعدل، حيث بين أن عيسى عبد من عباد الله وأَنبيائه، ورسله الكرام كما قال تعالى حكاية عنه:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (1). وبين أن النبي المبشر به هو محمَّد صلى الله عليه وسلم وأن أكل لحم الخنزير حرام.
وبين كذلك أكثر الأُمور التي وقع بينهم الخلاف فيها بيانًا شافيًا يقطع كل ريبة وخلاف، فكان هدى ورحمة لمن أقبل عليه كما قال تعالى:
(1) الآية 30 من سورة مريم.
77 -
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} :
أي: وإن هذا القرآن لهدى ورحمة لمن أنصف من اليهود والنصارى، فآمن به، واهتدى بهديه، واتبع سببله، أو هو هدى ورحمة لكل من آمن به على الإِطلاق، ويدخل فيهم من آمن من اليهود والنصارى دخولًا أوليًّا.
وخص - سبحانه - المؤمنين بالذكر، مع أنه هدى ورحمة للعالمين؛ لأنهم المنتفعون به، أو المراد بهم المستعدون للإيمان بفطرهم النظيفة.
78 -
{إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} :
الذي: إن ربك - سبحانه - يقضى في الآخرة بين اليهود والنصارى، فيحازى بحكمه المحق الذي آمن بالقرآن، والمبطل الذي كفر به، ويراد بالحكم ما يحكم به، وهو الحق والعدل، ولا يقضي - سبحانه - إلا به فسمى المحكوم به حكمًا.
أو يحكم بينهم بحكمته بوضع الأُمور في نصابها، وإعطائها ما تستحق من جزاءٍ، ويدل على هذا الوجه قراءَة من قرأ {بِحُكْمِهِ} جمع حِكْمَة، كنِعَم جمع نعمة.
وقيل: يقضى بينهم في الدنيا بإظهار ما حرفوه، وبيان الحق فيما اختلفوا فيه وهو سبحانه "العزيز" أي: الغالب الذي لا يرد أمْرُه، ولا يعارَضُ قضاؤه "العليم" بكل شيءٍ من الأشياء لا تخفى عليه خافية، أو هو العزيز في انتقامه من المبْطلين، العلم بما بينهم وبين المحقين.
79 -
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} :
أمرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه - جل شأْنه - مرتَّبٌ على ما ذكر من شئونه - تعالى - فإنها موجبة للتوكل عليه وداعية إلى الإنابة إليه، أي: فتوكَّل على الله الذي عصمك من كيد الكائدين، وأمدك بتأييده ونصرته على أَعدائك، وإن خالفك من خالفك ممن كتبت عليهم الشقاوة وحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون؛ لأنك على الحق البيِّن، وهو الدين القيِّم الذي تنزه عن كل شك أو شبهة، وفي ذلك بيان بأَن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته لا محالة.
80 -
{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} :
أي: إنك - أيها النبي - لا تستطيع هداية هؤلاءِ الكافرين إلى شيء ينفعهم لأَنهم كالموتى، حيث إنهم فقدوا الحس والعقل والإدراك فلا يَعُون شيئًا ممَّا يسمعون، ولا ينتفعون بما يتلى عليهم من القوارع والزواجر، شأْنهم في ذلك وهم أحياءٌ شأن الموتى في القبور الذين يستحيل عليك إسماعهم (1) أي شيءٍ ينفعهم، وذلك موجب لقطع الطمع في هدايتهم، وداع إلى تفويض الأَمر إلى الله والتوكل عليه.
وهم كالصم الذين فقدوا أَداة السمع يصيح بهم الداعى إلى الحق فلا يسمعون النداءَ مع أَنهم صحاح الحواس، ذلك لأَن شأْن الأَصم عدم السماع ولو كان الداعى أَمامه، وبمقابلة صماخه فكيف يكون حال هؤلاءِ الصم إذا ابتعدوا عن الداعى وتولوا عنه مدبرين؟ لا شك أن عدم سماعهم للدعاءِ يكون أشد وأقوى، فإنهم مع صممهم معرضون عن الداعى، وفي ذلك من التأكيد والمبالغة في عدم السماع لدعوة الحق ما فيه مما لا يخفى، وإطلاق الإسماع بعدم ذكر المسموع لبيان عدم سماعهم لشيءٍ من المسموعات.
81 -
أَي: ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وصرفهم عما هم فيه، وهدايتهم هداية موصلة إلى المطلوب؛ لأنهم كالعمى يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويجعلهم مهديين بُصَراءَ إلَاّ الله تعالى.
{إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} : ما يجدى إسماعك إلَاّ مَنْ علم الله أنهم يؤمنون بآياته ويصدقون بها، وهم الذين ليسوا موتى ولا صمًّا ولا عميًا.
(1) قد احتجت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر، فنظرت إلى الأمر بقياس عقلى ووقفت مع هذه الآية.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أنتم بأسمع منهم. قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرقة عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن الله رد إليهم إدراكا سمعوا به مقاله، ولولا إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداء إياهم على معنى التوبيخ لمن بقى من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين. اهـ من تفسير القرطبي. ومن أراد الاستزادة فليرجع إليه وإلى غيرة في تفسير هذه الآية، والآية 52 من سورة الروم.
وجوز أن يراد بالآيات المعجزات التي أَظهرها الله - تعالى - على يديه صلى الله عليه وسلم الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية، وأَن يراد بها الآيات التكوينية فقط، والإيمان بها: التصديق بكونها آيات الله - تعالى - وليست من السحر وغيره.
{فَهُمْ مُسْلِمُونَ} : تعليل لإيمانهم بالآيات، أي: فإنهم مطيعون منقادون إلى الحق بسلوك طريقه السَّويّ وفق إرشاد آياته.
وقيل: فهم مخلصون لله - تعالى - من: الإِسلام بمعنى الإخلاص، كقوله تعالى:"بلى مَنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لله وهو محْسِنٌ"(1) أي: أخلص.
المفردات:
{وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} : قرب وقوع ما وعدوا به من العذاب بعد البعث.
{دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} : هي دابة كبيرة يخرجها الله قرب قيام الساعة تكلم الناس
(1) من الآية 112 من سورة البقرة.
- من الكلام - وقرأَ الكوفيون: {تُكَلِّمُهُمْ} - بفتح التاء وسكون الكاف وكسر اللام - من: الكلْم وهو الجرح، وسيأْتي بيان ذلك في الشرح. {فَوْجًا} أي: جماعة.
{مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} المراد بالآيات: إما القرآن، أو ما يعمه وسائر الآيات، ممَّا أقامه الله في الأنفس والآفاق.
{أفهُمْ يُوزَعُونَ} أي: فهم يحبس أَولهم على آخرهم ويكفون، ليتلاحقوا، يقال: وزعه، أي: كفه، وهو من باب وَضع يضع، وفسره ابن عباس بقوله: فهم يدفعون، وفسره ابن زيد بقوله: فهم يساقون، وهي معان متقاربة.
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} أي: حل بهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم.
التفسير
82 -
بين الله في الآيات السابقة إنكار قريش للبعث بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) وذكر أنه - تعالى - سوف يقضى بينهم بحكمه، وسلَّى نبيه عن تكذيبهم إياه، بأنه صلى الله عليه وسلم لا يُسْمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء إذا ولَّوا مدبرين، وأنه لا يهدى هؤلاء العمى عن ضلالتهم، وجاءَت هذه الآية والآيات التي بعدها لتأكيد مجىء الساعة وقضاءِ الله عليهم بما يستحقون من العذاب الهون.
والمزاد بوقوع القول عليهم: قرب نزول العذاب الموعود بهم في نحو قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) وذلك عندما يصير الناس إلى حد لا تقبل توبتهم، ولا يولد لهم ولد مؤمن، فحينئذ تقوم الساعة - كما ذكره الإِمام القشيري - وفي معناه ما روى عن حفصة بنت سيرين أنها قال: سألت أبا العالية عن قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ
…
} الآية، فقال: أوحى الله إلى نوح أنه: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} قالت حفصة: وكأنما كان على وجهي غطاءٌ فكشف،
(1) من الآية 71
(2)
سورة السجدة: 13
قال النحاس: وهذا من حسن الجواب؛ لأَن الناس ممتحنون ومؤخرون، لأَن فيهم مؤمنين وصالحين ومَنْ قد علم الله أنه سيؤمن ويتوب، فلهذا أُمهلوا .. ثم قال: فإذا زال هذا وجب القول عليهم فصاروا كقوم نوح، حين قال الله تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} (1) انتهى كلامه.
والدليل على أن ذلك يكون قرب قيام الساعة: أن الآية ختمت بقوله تعالى: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} وتلاها قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} كما يدل عليه ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجالٌ، ودابة الأرض"(2).
والدابة: اسم للحيوان الذي يدب ويتحرك، .. والكلام: ما يحصل به التخاطب والتفاهم، فماذا عسى أن تكون هذه الدابة التي تكلم الناس بما يفهمونه منها، ويكون ظهورها من علامات الساعة الكبرى؟ لا بد أن تكون دابة عظيمة في جسمها وفي تكوينها وفيما يصدر عنها؛ لتكون آية مقارنة لطلوع الشمس من مغربها، كما جاء في صحيح مسلم (3) بسنده عن عبد الله بن عمر أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأُخرى على إثرها قريبًا".
ويقول السدى في كلام الدابة: إنها تكلمهم ببطلان الأَديان سوى دين الإِسلام، وقيل: تكلمهم بما يسوءُهم.
وقال عطاءٌ الخراسانى: تكلمهم فتقول: أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
قال القرطبي - شارحًا لهذا القول -: تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه مَنْ قرب ومن بعُد: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، أي: بخروجى، لأن خروجها من الآيات.
(1) سورة هود: 36
(2)
ذكره القرطبي في تفسير الآية.
(3)
كتاب الفتن فيه.
أما على قراءة تكلمهم فهي من: الكَلْم بمعنى الجَرْح، ولا منافاة بينها وبين قراءة جمهور القراء، فإنها تكلِّمهم بما يسوءُهم ويجرحهم، لانغماس معظم الناس في الضلال في آخر الزمان.
وقد جاء في وصف هذه الدابة آثار متباينة، فلهذا أمسكنا عن ذكرها، وحسب القارئ أن يعلم أنها من علامات الساعة، فلابد أنها شيء هائل يفوق الوصف، وأنها تخرج لإِقامة الحجة على الكافرين، وتثبيت المؤمنين، وإغلاق باب التوبة أمام الملحدين.
ومعنى الآية:
وإذا قرب وقوع ما قلناه على الكافرين من قيام الساعة وعقابهم على كفرهم، أَخرجنا لهم من الأرض دابة عظيمة هائلة، تكلمهم بما يفهمونه عنها، فتوبخهم على كفرهم وتنعى عليهم أنهم قبل خروجها كانوا بآيات الله وبراهينه لا يصدقون ولا يستيقنون، وأنه قد حان ميقات فنائهم وقيامهم لرب العالمين". لحسابهم وعقابهم على ما كانوا يعملون.
83، 84 {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ (1) يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}:
هاتان الآيتان للتذكير بما يحدث للكافرين بعد حشرهم من التوبيخ على كفرهم بآيات الله، قبل الحكم عليهم بالعذاب المقيم، والمراد من الحشر هنا: هو الحشر يوم القيامة. والمعنى: واذكروا يوم نجمع من كل أُمةِ نبيٍّ جماعةً كثيرة هم الذين يكذبون بآياتنا، فهم يدفعون ويساقون إلى المحشر الذي يجتمع فيه الخلائق، ويحبس أول الكافرين على آخرهم، حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمساءلة من المحشر، حتى إذا جاءُوه قال الله تعالى - موبخًا لهم -: أكذبتم بآياتى التشريعية، والتكوينية بادئ الرأى، غير ناظرين فيها نظرًا يجعلكم تحيطون بها علمًا ويدفعكم إلى الإيمان بربوبيتى ووحدانيتي، أَم ماذا كنتم تعملون بعقولكم في هذه الآيات البينات، حتى وصل بكم التفكير فيها إلى هذا التكذيب الذي أبعدكم عن الحق المبين؟
(1) مَنْ في قوله: "ممن" بيانية، أي: هم من يكذب بآياتنا.
ولما كان كلا الأَمرين لا يستوجب تكذيبهم لوضوح تقصيرهم فيهما، فلهذا لم يستطيعوا أن يجيبوا ربهم بما يخفف عنهم مسؤليتهم فيها فقال الله - تعالى - عقب هذه المساءَلة:
85 -
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} :
أي: ووجب عليهم العذاب الذي قلناه لهم على ألسنة رسلنا إن استمروا على تكذيبهم بآياتنا فهم لا يستطيعون النطق بما يدفع حجتنا عليهم.
واعلم أن الحشر يوم القيامة لجميع الخلائق مؤمنهم وكافرهم ولكن هذه الآيات اختصت ببيان حشر المكذبين بآيات الله ومساءلتهم ومصيرهم؛ لأن السياق واللحاق يقتضي ذلك الاختصاص.
ويرى الشيعة الإمامية أن لفظ (منْ) في قوله تعالى: {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} للتبعيض وليس للبيان، وأن الآية أفادت أن بعض المكذبين بآيات الله يحشرون، وليس ذلك صفة الحشر يوم القيامة؛ إذ يقول الله في شأنه:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} وهذا يدل على أن هذا الحشر الجزئى يكون في الدنيا لبعض أعداءِ الله من الكافرين، لينتقم منهم على أيدى أوليائه وشيعته عند ظهور المهدي آخر الزمان إذ يرجع معه جماعة من أئمة أهل البيت، ليعاقبوهم بالإذلال والتوبيخ والقتل، ليفوزوا بثواب نصرة الله، ويفرحوا بظهور دولته، وبالجملة فهذه الآية من أشهر ما استدل به الشيعة الإمامية على رجعة أئمتهم، كما استدلوا بأحاديث رووها بهذا الصدد.
والحق أن ما ذهب إليه الشيعة من رجعة أئمتهم أمر خيالي محض، والاستدلال عليه بالآية رأى فاسد؛ فإن الآية ليس فيها عنهم قليل ولا كثير لا في الرجعة ولا في غيرها، والحشر في لسان الشرع، هو حشر يوم القيامة، وهو في الآية للكافرين جميعًا، ولفظ (من) في قوله تعالى:{مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} كما يحتمل أن يكون للتبعيض، يحتمل أيضًا أن يكون لبيان الفوج الذين يناقشهم الله، ويوبخهم ويعاقبهم بعد الحشر، والحق أَن هذه الآيات الثلاث (1) مسوقة لبيان حال المكذبين لرسل الله يوم القيامة كما يقتضيه السياق،
(1) وهي قوله تعالى: "ويوم نحشر
…
" إلى قوله تعالى: "ووقع القول عليهم" وأرقامها: 83، 84، 85.
ولا أدل على ذلك من أن الذي يوبخهم ويعاقبهم هو الله - تعالى - وليسوا أئمة الشيعة كما يزعمون، إذ يقول - سبحانه -:{حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} والرجعة التي قال بها الشيعة الإمامية لا يقول بها الشيعة الزيدية بل ينكرونها إنكارًا شديدًا، وقد ردُّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضًا تعارض روايات الإمامية (1)، فليرجع إلى كتبهم من أراد المزيد من العلم بفساد رأى هؤلاء الإمامية، والله ولى التوفيق.
86 -
هذه الآية جاءَت لتوجيه نظر المشركين وعقولهم إلى بعض آيات الله الكونية الشاهدة بوحدانيته، وقدرته على البعث والحشر والحساب التي أنكروها، والمراد من الرؤية هنا: الرؤية القلبية فإنها هي التي توصلهم إلى الإيمان.
والمعنى: ألم يعلم هؤلاء المشركون أنا جعلنا الليل مظلمًا ليسكنوا فيه بالقرار والنوم بعد الحركة التي أجهدوا فيها أجسادهم وأرواحهم وعقولهم نهارا، وجعلنا النهار مضيئًا ليبصروا في ضوئه طرق التقلب في أُمور معاشهم، أن في ذلك التدبير المحكم لأمارات لقوم يريدون الإيمان، فإنه يشهد بأن الذي دبر هذا التدبير العجيب هو إله واحد قادر على بعث العباد وحشرهم وحسابهم، فإن من قدر على إبدال الظلمة بالنور، فإنه يقدر على إبدال الموت بالحياة. وَوَصْفُ النهار بالإبصار بدل الإضاءَة، للمبالغة في إضاءَته وبلوغها من القوة إلى درجة جَعْل الإبصار من صفاته، وذلك على سبيل المجاز.
(1) راجع ما كتبه الآلوسي في شأن هذه الرجعة إن شئت، فقد أسهب فيها وأفاض.
المفردات:
{الصُّورِ} : البوق، أَو جمع صُورة. {فَفَزِعَ} أي: خاف، وعبر عنه بالماضى لتحققه.
{أَتَوْهُ} أي: جاءوه، وعبر عنه بالماضى لتحققه. {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}: تظنها ثابتة في أماكنها.
{دَاخِرِينَ} : صاغرين.
{وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} : تسرع سرعته.
التفسير
87 -
هذه الآية والتي بعدها مسوقتان لإنذار المكذبين بالبعث وتخويفهم من لقاء رب العالمين، وللعلماء في تفسير الصور والنفخ فيه ثلاثة أقوال:
(أحدها): أنه قَرْنٌ يشبه البوق، والنفخ فيه على الحقيقة، وسندهم في ذلك ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جاءَ أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصُّور؟ قال: "قرنٌ ينفخ فيه" والمشهور عند أصحاب هذا القول أن صاحب الصور الذي ينفخ فيه هو إسرافيل عليه السلام.
(وثانيها): أن الصور -بإسكان الواو-: جمع صورة كالصُّور - بفتحها - والمراد بها: صور الخلائق، والنفخ في هذا القول كالذى قبله على حقيقته.
(وثالثها): أَن النفخ في الصور على حقيقته، وإنما هو صورة بلاغية بطريق الاستعارة التمثيلية، شبه فيها حال انبعاث الموتى وقيامهم من قبورهم وسيرهم إلى المحشر تلبية لنداء الله لهم - شبه حالهم ذلك - بحال قيام جيش نفخ لهم في البوق المعهود، وسيرهم إلى موضع عُيِّنَ لهم، وتعقيبا على هذا الخلاف يقول الآلوسى ما خلاصته: أن الأول في قول الأكثرين وعليه المعول؛ لأن قوله - تعالى - في آية أخرى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} ظاهر في أن الصور مفرد مذكر وليس جمع صورة وإلا لقال - سبحانه -: ثم نفخ فيها أخرى بتأْنيث الضمير الراجع إليها، وجَعْلُ الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، فيه إنكار لوجود صور حقيقى ينفخ فيه، وذلك مخالف لما نطقت به الأحاديث الصحاح .. هذه هي خلاصه تعقيب الآلوسى على الخلاف في حقيقة النفخ في الصور.
والذي نراه: أن الذي يجب اعتقاده هو أن النفخ في الصور سوف يكون قطعا، أما شكل الصور وحقيقته وكيفية النفخ فيه فذلك من الغيبيات التي يوكل علمها إلى علام الغيوب سبحانه.
والراجح أن النفخ في الصور سوف يكون مرتين، إحداهما يموت عندها الخلائق، والثانية نفخة البعث التي يقوم الناس عندها لرب العالمين للحساب والجزاء، كما في قوله - تعالى -:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} (1).
واختلف فيما جاء بهذه الآية، أهي النفخة الثانية، أم هي النفخة الأُولى؟ وممن ذهب إلى ترجيح أنها النفخة الثانية الإمام أبو السعود، وقال في ترجيحه: إنه هو الذي يستدعيه سباق النظم الكريم وسياقه، وأن المراد بالفزع في قوله - سبحان -:{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ما يعترى الكل عند البعث والنشور. من الرعب والتهيب الضروريين الجِبِليَّيْن بمشاهدة الأُمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق. ثم قال: وقيل: المراد بالنفخ هنا: هو النفخة الأُولى، وبالفزع: الخوف الذي ينتهى إلى الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
(1) الآية 51 من سورة يس.
الْأَرْضِ} فيختص أثرها بمن كان حيا عند وقوعها، دون من مات قيل ذلك من الأُمم.
إلى آخر ما قال.
ورجح العلامة الطيبى أنها النفخة الأولى، وقوله تعالى الآتى:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} إشارة إلى النفخة الثانية.
ونحن نختار ما رجحه العلامه أبو السعود من أن المراد بنفخة الفزع هنا نفخة البعث مراعاة للمقام، وفيما يلى تفسيرها على هنا الوجه:
المعنى الإجمالي للآية السابقة:
واذكروا - أيها المنكرون للبعث - يوم ينفخ في الصور، ليقوم الناس من قبورهم مُتَّجهين إلى المحشر، ليحاسبهم الديان على ما كانوا يعملون - اذكروا ما يحدث من الهول والكرب يومئذ فيفزع له أهل السموات وأهل الأرض، ويشتد خوفهم واضطرابهم إلا من شاءَ الله أن يطمئن، وهم الشهداءُ كما جاء في حديث صحيح، ولأنهم عند ربهم يرزقون، وضم بعض المفسرين إليهم حملة العرش ورؤساء الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحور العين وخزنة الجنة (1) وكل هؤلاء المبعوثين الفزعين عند هذه النفخة - كل هؤلاء - يحضرون الموقف بين يدي رب العالمين صاغرين.
88 -
نقل القرطبي عن الإِمام القشيرى أنه قال: وهذا يوم القيامة، ثم قال: أي: تمر مرّ السحاب، حتى لا يبق منها شيءٌ:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (2) أهـ،
ونحن نوافقه على ذلك مراعاة للسياق.
وإلى هذا الرأى مال صاحب إرشاد العقل السليم فقد قال: إنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق، يبدل الله - تعالى شأنه - الأرض غير الأرض
(1) ولكننا لم نجد في هؤلاء خبرا صحيحا.
(2)
سورة النبأ، الآية:20.
ويغير هيئتها، ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر.
وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى، لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} (1).
وقوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (2) فإن اتباع الداعى الذي هو إسرافيل، وبروز الخلق الله - تعالى - لا يكون إلا عند النفخة الثانية.
ونقل الآلوسى عن بعض المفسرين أن ذلك مما يقع عند النفخة الأولى، وعقب عليه بما يرجح كونه بعد النفخة الثانية، والله - تعالى - أعلم.
ويُعقِّبُ الله ذلك التغيير الكونى الخطير بقوله - سبحانه -: {صُنْعَ (3) اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أي: ما تقدم من النفخ في الصور وما ترتب عليه من فزع أهل السموات والأرض إلا من شاء، ومجيء الخلائق جميعا تلببة لنداء البعث والحشر، وتحويل الجبال إلى ما يشبه العهن المنفوش (4)، ومرورها مر السحاب في طريقها إلى الزوال، كل ذلك صنعه الله الذي أتقن كل شيء، وبناه على الحكم المستتبعة للغايات الجليلة، وليس ذلك من باب الإخلال والإفساد دون حكمة.
وقد ختمت الآية بقوله - تعالى -: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} وهو تعليل لما تقدم من النفخ في الصور وفزع أهل السموات والأرض ومجيئهم إليه صاغرين للحساب، وقد اعترض بينهما بذكر تحويل الجبال إلى عهن منفوش يسير سير السحاب في طريقه إلى الزوال بعد أن كانت جامدة، توفية لمقام الحديث عن الأهوال التي تحيط بيوم الحساب والجزاء.
(1) سورة طه 105: 108
(2)
سورة إبراهيم: 48
(3)
قال الآلوسى: (صنع الله) مصدر مؤكد لما قبله، وعقبه بكلام جيد خلاصته ما كتبناه في تفسير هذه الجملة والله الموفق.
(4)
أي: الصوف المنشور.
وقال العلامة الطيبى (1): قوله: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} إلخ.
استئناف وقع جوابا لقول من يسأل فماذا يكون بعد هذه القوارع؟ فقيل: إن الله خبير بعمل العاملين، فيجازيهم على أَعمالهم، وفضل ذلك بقوله - سبحانه -: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا
…
} إلخ.
وهذا الذي قاله الطيبي قريب مما اخترناه في موقع الجملة وربما قبلها، وربما كان الذي قلناه أقرب وأولى، والله أعلم.
المعنى الإجمالي للآية: وترى الجبال - أيها الإنسان وأنت في الموقف بعيد عنها - تظنها جامدة ثابتة في مكانها، ولكنها قد سُحِقتْ وأَصبحت كالعهن المنفوش، وقد سيَّرها الله - سبحانه - فوق سطح الأرض وجعلها تمر فوقها في طريقها إلى الزوال، لتبرز الأَرض التي كانت تواريها، وهي في سرعتها تمرُّ كما يمر السحاب في طريقها إلى الزوال، لتبرز السماء التي كانت تحجبها، صنع ذلك الصُّنعَ العجيب الله الذي أتقن كل شيءٍ بناءً وإزالة لحكم يعلمها، ومنها: أن يرى الظالمون عظيم جبروته الذي لم يكترثوا به في دنياهم، وأَن يحاسبهم على أرض جديدة تحقيقا لوعيده:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) ولن يصعب عليه حساب عباده، فإنه خبير بما كانوا يفعلونه في دنياهم.
(1) نقله الآلوسى في تفسيره لقوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها).
(2)
سورة إبراهيم: 48 - 51.
المفردات:
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ): بالفعلة المستحسنة شرعًا. {مِنْ فَزَعٍ} الفزع: الخوف.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} المراد بها هنا: الشرك، كما سيأتي بيانه.
{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} : الوجوه المعروفة، أو هي كناية عن الأنفس، وكبُّها: إلقاؤها، وسيأتي مزيد بيان لذلك.
التفسير
89 -
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)} :
لما ذكر الله - سبحانه - في الآية السابقة أنه عليم بما يفعله عباده جاء بهذه الآية والتى تليها لبيان ما يترتب على علمه بها من جزائِهم عليها .. وفسر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من السلف - فسروا - الحسنة بشهادة التوحيد، بناء على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسيره إياها بذلك، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم فسرها بأكملها، وهذا لا ينافى أن كل حسنة من الأفعال لها جزاءٌ في الآخرة خير منها، والمراد من الفزع الذي يأمنه أصحاب الحسنات: الخوف من العقاب بالنار، وهو ما جاء في قوله تعالى:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وحكى عن الحسن أن ذاك حين يؤمر بالعبد إلى النار، وهذا لا ينافى ما يحدث لجميع المكلفين عند البعث بعد النفخة الثانية، فإنه عام لجميع من في السموات والأرض كما جاء في قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} فلا فرق بين أهل الحسنات وأهل السيئات في الشعور بالفزع والتهيب والرعب عندما يرون أهوال يوم القيامة عقب البعث، فإن ذلك أمر جبلي لا يكاد يخلو منه أحد.
ومعنى الآية: من جاء بالفعله الحسنة من توحيد وصلاة وصيام وزكاة وغيرها، فله جزاءً أعظم منها، حيث يجزى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، جزاءً دائِما جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وهؤلاء المتقون المحسنون آمنون من خوف العذاب يومئذ مطمئنون، وثوقا بوعد الله الذي لا سبيل إلى الخلف فيه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} .
95 -
المراد بالسيئة هنا: الشرك، وغلبة السيئات على الحسنات، ويبقى كل منهما في النار على حسب حاله، فالكافر خالد فيها أبدا كما جاء في وعيده في القرآن والسنة، والمؤمن الفاسق يخرج منها بعد أن ينال نصيبه من العقاب فيها، فإنه لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، كما جاء في صحاح السنة، ولهذا ختمت الآية بقوله - سبحانه -:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: لا يجزون إلا على حسب أعمالهم.
ومعنى الآية: ومن جاء بسيئة الشرك أو طغت سيئاته على حسناته، فألقوا في النار على وجوههم (1) قيل لهم: هل تجزون إلا بعقاب مماثل لما كنتم تعملونه من السيئات؟
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} .
(1) ويجوز أن يكون المعنى: فألقيت نفوسهم في النار بإطلاق الوجه على النفس مجازًا، كما أطلقت الأيدي عليها مجازًا في قوله - تعالى - "
…
فبما كسبت أيديكم" وقوله: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
المفردات:
{هَذِهِ الْبَلْدَةِ} المراد بها: مكة. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : من المنقادين لملة التوحيد.
{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} : سيجعلكم تشاهدون أمارات سلطانه في الدنيا والآخرة.
التفسير
91 -
بينت الآيات السابقة أحداث الشفاعة وأحوالها وفزع أهل السموات والأرض عندما يفاجأون بها إلا من شاء الله، ومجيئهم جميعًا لحساب ربهم صاغرين، وأن من جاء بالحسنة فله ثواب خير منها، ومن جاء بالسيئة عوقب بها جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا.
وجاءت هذه الآية وما بعدها في ختام السورة لتقرر آمر التوحيد والبعث اللذين دار عليها الحوار بين النبيين وأممهم في ثناياها.
ومعنى هذه الآية: إن الله - تعالى - ما أمر نبية محمدا صلى الله عليه وسلم به من عنده، إلا بأن يعبد الله رب هذه البلدة - مكة - التي جعلها الله حرما آمنا منذ عهد إبراهيم عليه السلام وله وحده كل شيءٍ، فلا يصح أن يعبد معه سواه، وما أمره الله سبحانه إلا بأن يكون من المسلمين المنقادين لشريعة الإسلام، فلا سبيل له ولا لغيره أن يحيدوا عن توحيد الله، ولا أن ينصرفوا عن دين الإِسلام.
92 -
وكما أمر الله نبيه بذلك أمره بتلاوة القرآن وتكرار الإرشاد به، لتنكشف للناس الحقائق المخزونة في آياته، فإن المواظبة على قراءته والوعظ به، من أسباب انكشاف الفيوضات الإلهية والأسرار القدسية، فمن اهتدى بما يسمعه من عظات القرآن ونصائحه، وبتلاوته من آن لآخر - كما يفعله الرسول - فمن اهتدى بذلك فما تعود منفعة اهتدائه
إلا على نفسه، ومن ضل عن الحق بمخالفته في هذه النصيحة، فوبال ضلاله مختص به، ثم أمره أن يقول لهم: ما أُمرت في شأنكم وفي شأن غيركم إلا بالإنذار والتخويف من عقوبة الخلاف، أما استجابتكم لدعوتي فليست من شأني بل هي من شأنكم وشأن الله معكم، فما عليّ إلا البلاغ وقد فعلت.
93 -
وقيل - أيها الرسول - لقومك: الحمد لله على نعمائه، حيث أعاننى على تبليغ رسالته إليكم، وتلاوة القرآن دائما عليكم، ومتابعة الإنذار لكم، وإقامة الحجة عليكم، مع شدة معارضتكم ومخاصمتكم، سيريكم الله آياته في دنياكم وأخراكم، فتعرفون أنها برهان الحق ودليل الصدق، وما ربك - يا محمد - بغافل عما تعملون - أيها المشركون - فسوف تكون آيات عذابه حزاء وفاقا لأعمالكم.
وقد حقق الله وعيده لمشركى قريش في دنياهم، بما حدث لهم في غزوة بدر الكبرى، وسائر انتصارات رسوله عليهم، وحصول القحط لهم بدعائه صلى الله عليه وسلم حيث قال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم جوع عنيف اضطرهم إلى أكل الكلاب والجيف والعلهز (1) وسوف يرى أشد منه في أُخراه من مات منهم على كفره {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
(1) يطلق العلهز على القراد الضخم، وعلى طعام من الدم والوبر يؤكل في المجاعة، وعلى نبات ينبت ببلاد بنى سليم. اهـ: من القاموس.