المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني: "في القراءة المتواترة والصحيحة والشاذة - منجد المقرئين ومرشد الطالبين

[ابن الجزري]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المصنف:

- ‌الباب الأول: "في القراءات والمقرئ والقارئ وما يلزمهما وما يتعلق بذلك

- ‌الباب الثاني: "في القراءة المتواترة والصحيحة والشاذة

- ‌الباب الثالث: "في أن العشر لا زالت مشهورة من لدن قرئ بها إلى اليوم

- ‌الباب الرابع: في سرد مشاهير من قرأ بالعشرة

- ‌الطبقة الأولى

- ‌الطبقة الثانية:

- ‌الطبقة الثالثة:

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌الطبقة الخامسة:

- ‌الطبقة السادسة:

- ‌الطبعة السابعة

- ‌الطبقة الثامنة:

- ‌الطبقة التاسعة:

- ‌الطبقة العاشرة:

- ‌الطبقة الحادية عشر

- ‌الطبقة الثانية عشرة:

- ‌الطبقة الثالثة عشرة:

- ‌الطبقة الرابعة عشرة:

- ‌الطبقة الخامسة عشرة:

- ‌الطبقة السادسة عشرة:

- ‌الباب الخامس: "في حكاية ما وقفت عليه من أقوال العلماء فيها

- ‌الباب السادس: في أن العشرة بعض الأحرف السبعة وأنها متواترة

- ‌الفصل الأول: في أن العشرة بعض الأحرف السبعة

- ‌الفصل الثاني": "في أن القراءات العشر متواترة

- ‌الباب السابع: "في ذكر من كره من العلماء الاقتصار على القراءات السبع

- ‌فهرس المحتويات:

الفصل: ‌الباب الثاني: "في القراءة المتواترة والصحيحة والشاذة

‌الباب الثاني: "في القراءة المتواترة والصحيحة والشاذة

"

نقول: كل قراءة وافقت العربية مطلقا، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا وتواتر نقلها، هذه القراءة المتواترة المقطوع بها. ومعنى "العربية مطلقا" أي ولو بوجه من الإعراب نحو قراءة حمزة "وَالْأَرْحَامِ" [النساء: 1] بالجر وقراءة أبي جعفر "لِيَجْزِئ قَوْمًا"[الجاثية: 14] ومعنى أحد المصاحف العثمانية واحد من المصاحف التي وجهها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار. وكقراءة ابن كثير في التوبة "جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"[التوبة: 72] بزيادة "من" فإنها لا توجد إلا في مصحف مكة. ومعنى "ولو تقديرا" ما يحتمله رسم المصحف كقراءة من قرأ: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"[الفاتحة: 4] بالألف فإنها كتبت بغير ألف في جميع المصاحف، فاحتملت الكتابة أن تكون "مالك" وفعل بها كما فعل باسم الفاعل من قوله:"قادر" و"صالح" ونحو ذلك مما حذفت منه الألف للاختصار، فهو موافق للرسم تقديرا. ونعني بالتواتر ما وراه جماعة كذا إلى منتهاه يفيد العلم من غير تعيين عدد؛ هذا هو الصحيح، وقيل بالتعيين واختلفوا فيه فقيل ستة وقيل اثنا عشر وقيل: عشرون، وقيل: أربعون، وقيل: سبعون والذي جمع في زماننا هذه الأركان الثلاثة هو قراءة الأئمة العشرة التي أجمع الناس على تلقيها بالقبول وهم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، أخذها الخلف عن السلف إلى أن وصلت إلى زماننا، كما سنوضح ذلك، فقراءة أحدهم كقراءة الباقين في كونها مقطوعا بها كما سيجيء وقول من قال: إن القراءات المتواترة لا حد لها، إن أراد في زماننا فغير صحيح؛

لأنه لا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء العشر، وإن أراد في الصدر الأول فيحتمل إن شاء الله.

وأما القراءة الصحيحة فهي على قسمين: الأول ما صح سنده بنقل العدل الضابط عن الضابط كذا إلى منتهاه، ووافق العربية والرسم، وهذا على ضربين: ضرب استفاض

ص: 18

نقله وتلقاه الأئمة بالقبول كما انفرد به بعض الرواة، وبعض الكتب المعتبرة أو كمراتب القراء في المد ونحو ذلك، فهذا صحيح مقطوع به أنه منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرف السبعة كما نبين حكم المتلقي بالقبول، وهذا الضرب يلحق بالقراءة المتواترة، وإن لم يبلغ مبلغها كما سيجيء. وضرب لم تتلقه الأمة بالقبول ولم يستفض؛ فالذي يظهر من كلام كثير من العلماء جواز القراءة به والصلاة به، والذي نص عليه أبو عمرو بن الصلاح وغيره أن ما وراء العشرة ممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة كما سيأتي. وقال شيخنا قاضي القضاة أبو نصر عبد الوهاب بن السبكي في كتابه "جمع الجوامع" في الأصول: ولا تجوز القراءة بالشاذ، والصحيح أن ما وراء العشرة فهو شاذ، وفاقا للبغوي والشيخ الإمام. قلت: يعني بالشيخ والده مجتهد العصر أبا الحسن علي بن عبد الكافي السبكي.

والقسم الثاني من القراءة الصحيحة ما وافق العربية وصح سنده، وخالف الرسم كما ورد في صحيح من زيادة ونقص وإبدال كلمة بأخرى، ونحو ذلك مما جاء عن أبي الدرداء وعمر وابن مسعود وغيرهم، فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة؛ لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه، وإن كان إسنادها صحيحا فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة، ولا في غيرها. قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتابه "التمهيد": وقد قال مالك: إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصل وراءه، وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلا قوما شذوا لا يعرج عليهم. قلت: قال أصحابنا الشافعية وغيرهم: لو قرأ بالشاذ في الصلاة بطلت صلاته إن كان عالما، وإن كان جاهلا تبطل صلاته، ولم تحسب له تحسب له تلك القراءة، واتفق علماء بغداد على تأديب الإمام ابن شنبوذ، واستتابته على قراءته وإقرائه بالشاذ، وحكى الإمام أبو عمر بن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يجوز أن يصلي خلف من يقرأ بها. وأما ما وافق المعنى والرسم أو أحدهما من غير نقل، فلا تسمى شاذة بل مكذوبة يكفر متعمدها.

وأجاب الإمامان الحافظ أبو عمرو بن الصلاح وأبو عمرو بن الحاجب عن السؤال الذي ورد دمشق من العجم في حدود الأربعين وستمائة وهو: هل تجوز القراءة بالشاذ أو يجوز أن يقرأ القارئ عشرا كل آية بقراءة ورواية؟ قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: المجتهد المقيد في ذلك العصر ما صورته يشترط أن يكون المقروء به قد تواتر نقله عن

ص: 19

رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا، واستفاض نقله كذلك، وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع؛ لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول، فما لم يوجد فيه ذلك كما عدا السبع أو كما عدا العشر ففمنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة، وممنوع منه من عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك واجب على من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك وإنما نقلها من نقلها من العلماء لفوائد فيها تتعلق بعلم العربية لا للقراءة بها هذا طريق من استقام سبيله ثم قال: والقراءة الشاذة ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاضه متلقاة بالقبول من الأمة كما اشتمل عليه المحتسب لابن جني وغيره، وأما القراءة بالمعنى من غير أن ينقل قرآنا، فليس ذلك من القراءات الشاذة أصلاّ، والمجترئ على ذلك مجترئ على عظيم وضال ضلالا بعيدا فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه، ولا يخلى ذل ضلالة ولا يحل للمتمكن من ذلك إمهاله، ويجب منع القارئ بالشاذ وتأثيمه بعد تعريفه وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه. وإذا شرع القارئ بقراءة ينبغي أن لا يزال يقرأ بها ما بقى للكلام تعلق بما ابتدأ به، وما خالف هذا ففيه جائز وممتنع وعذر المرض مانع من بيانه بحقه والعلم عند الله تعالى.

وقال الشيخ الإمام شيخ المالكية أبو عمرو بن الحاجب: لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة، ولا غيرها عالما كان بالعربية أو جاهلا، وإذا قرأ بها قارئ، فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به، وأمر بتركها، وإن كان عالما أدب بشرطه، وإن أصر على ذلك أدب على إصراره وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك. وأما تبديل "آتنا" بـ"أعطنا" و"سولت" بـ"زينت" ونحوه فليس هذا من الشواذ، وهو أشد تحريما والتأديب عليه أبلغ والمنع منه أوجب انتهى.

فإن قيل: كيف يعرف الشاذ من غيره إذ لم يدع أحد الحصر؟ قلت: الكتب المؤلفة في هذا الفن في العشر والثمان وغير ذلك مؤلفوها على قسمين: منهم من اشترط الأشهر واختار ما قطع به عنده فتلقى الناس كتابه بالقبول وأجمعوا عليه من غير معارض كغايتي ابن مهران وأبي العلاء الهمداني، وسبعة ابن مجاهد، وإرشاد أبي العز القلانسي، وتيسير أبي عمرو الداني، وموجز أبي علي الأهوازي، وتبصرة ابن أبي طالب، وكافي ابن شريح، وتلخيص أبي معشر الطبري، وإعلان الصفراوي، وتجريد ابن الفحام، وحرز أبي القاسم الشاطبي وغيرها، فلا إشكال في أن ما تضمنته من

ص: 20

القراءات مقطوع به إلا أحرفا يسيرة يعرفها الحفاظ من الثقات، والأئمة النقاد. ومنهم من ذكر ما وصل إليه من القراءات كسبط الخياط، وأبي معشر في الجامع وأبي القاسم الهذلي وأبي الكرم الشهرزوري وأبي علي المالكي وابن فارس وأبي علي الأهوازي وغيرهم، فهؤلاء وأمثالهم لم يشترطوا شيئا وإنما ذكروا ما وصلهم فيرجع فيها إلى كتاب مقيد أو مقرئ مقلد.

فإن قلت: قد وجدنا في الكتب المشهورة المتلقاة بالقبول تباينا في بعض الأصول والفرش كما في الشاطبية نحو قراءة ابن ذكوان "تَتَّبِعَانَ"[يونس: 89] بتخفيف النون وقراءة هشام "أَفْئيدَةً"[الأنعام: 113] بياء بعد الهمزة وكقراءة قنبل "عَلَى سُوقِهِ"[الفتح: 29] بواو بعد الهمزة، وغير ذلك من التسهيلات، والإمالات التي لا توجد في غيرها من الكتب إلا في كتاب أو اثنين وهذا لا يثبت به تواتر. قلت: هذا وشبهه وإن لم يبلغ مبلغ التواتر صحيح مقطوع به نعتقد أنه من القرآن وأنه من الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها، والعدل الضابط إذا انفرد بشيء تحتمله العربية والرسم واستفاض وتلقي بالقبول قطع به وحصل به العلم، وهذا قاله الأئمة في الحديث المتلقي بالقبول أنه يفيد القطع وبحثه الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث وظن أن أحدا لم يسبقه إليه وقد قاله قبله الإمام أبو إسحق الشيرازي في كتابه "اللمع في أصول الفقه" ونقله الإمام الثقة مجتهد عصره أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية عن جماعة من الأئمة منهم القاضي عبد الوهاب المالكي والشيخ أبو حامد الإسفرايني والقاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحق الشيرازي من الشافعية وابن حامد وأبو يعلى بن الفراء وأبو الخطاب وابن الزغوني وأمثالهم من الحنابلة وشمس الأئمة السرخسي من الحنفي.

قال ابن يتيمة: وهو مذهب أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحق الإسفرايني وابن فورك. قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة. قلت: فثبت من ذلك أن خبر الواحد العدل الضابط إذا حفته قرائن يفيد العلم ونحن ما ندعي التواتر في كل فرد مما انفرد به بعض الرواة أو اختص ببعض الطرق لا يدعي ذلك إلا جاهلا لا يعرف ما التواتر وإنما المقروء به عن القراء العشرة على قسمين: متواتر وصحيح مستفاض متلقى بالقبول والقطع حاصل بهما.

وأما ما قاله الإمام أبو حيان، واستشكله حيث قال؛ وعلى ما ذكره هؤلاء من المتأخرين من تحريم القراءة الشاذة يكون عالم من الصحابة والناس من بعدهم إلى

ص: 21

زماننا قد ارتكبوا محرما فيسقط بذلك الاحتجاج بخبر من يرتكب المحرم دائما، وهم نقلة الشريعة فيسقط ما نقلوه فيفسد على قول هؤلاء نظام الإسلام والعياذ بالله تعالى من ذلك قال: ويلزم أيضا أن الذي قرءوا بالشواذ لم يصلوا قط لأن الواجب لا يتأدى بفعل المحرم قال: وقد كان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي -يعني ابن دقيق العيد. يستشكل هذه المسألة، ويستصعب الكلام فيها، وكان يقول؛ هذه الشواذ نقلت نقل آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بشاذ منها، وإن لم يعين كما أن حاتما نقلت عنه أخبار في الجود كلها آحاد ولكن حصل من مجموعها الحكم بسخائه وإن لم يتعين ما تسخى به، وإذا كان كذلك فقد تواترت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاذ، وإن لم يتعين بالشخص فكيف يسمى شاذًا والشاذ لا يكون متواترًا؟

قلت: فهذه ونحوها مباحث لا طائل تحتها إذ القول في القراءات الشاذة كالقول في الأحاديث الضعيفة المنقولة في كتب الأئمة، وغيرهم يعلم في الجملة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيئا منها، وإن لم نعرف عينه، فلا يقال لها ضعيفة على ما بحثناه، وأيضا فنحن نقطع بأن كثيرا من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقرءون بما خالف رسم المصحف العثماني قبل الإجماع عليه من زيادة كلمة وأكثر وإبدال أخرى بأخرى ونقص بعض الكلمات كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ونحن اليوم نمنع من يقرأ بها في الصلاة وغيرها منع تحريم لا منع كراهة، ولا إشكال في ذلك، ومن نظر أقوال الأولين علم حقيقة الأمر وذلك أن المصاحف العثمانية لم تكن محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أبيحت بها قراءة القرآن كما قال جماعة من أهل الكلام وغيرهم بناء منهم على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة، وعلى قول هؤلاء لا يجيء ما استشكله ابن دقيق العيد، وبحثه أبو حيان وغيرهما لأننا إذا قلنا إن المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم.

والحق ما تحرر من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي وابن يتمية وغيرهم، وذلك أن المصاحف التي كتبت في زمن أبي بكر رضي الله عنه كانت محتوية على جميع الأحرف السبعة، فلما كثر الاختلاف، وكاد المسلمون يكفر بعضهم بعضا

ص: 22

أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه، وعلى ما صح مستفاضا عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره إذ لك تكن الأحرف السبعة واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزا لهم مرخصا فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه. قالوا: فلما رأى الصحابة أن الأمة تتفرق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل محظور. قلت: فكتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واستفاض دون ما كان قبل ذلك مما كان بطريق الشذوذ والآحاد من زيادة، وإبدال وتقديم وتأخير وغير ذلك، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة كالإمالة والتفخيم والإدغام والهمز والحركات وأضداد ذلك مما هو في باقي الأحرف السبعة غير لغة قريش، وكالغيب والجمع والتثنية، وغير ذلك من أضداده مما تحتمله العرضة الأخيرة إذ هو موجودة في لغة قريش وفي غيرها، ووجهوا بها إلى الأمصار، فأجمع الناس عليها، وسيجيء في الباب السادس من كلام المهدوي، وغيره ما يحقق لك ذلك.

ثم كثر الاختلاف أيضا فيما يحتمله الرسم وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد المسلمين تلاوته فوضعوه من عند أنفسهم وفاقا لبدعتهم كما قال من المعتزلة: "وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا"[النساء: 164] بنصب الهاء، ومن الرافضة:"وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلَّينَ عَضُدًا"[الكهف: 51] بفتح اللام يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما وقع ذلك رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للقيام بالقرآن العظيم فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف أئمة مشهورين بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين، وكمال العلم أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء واشتهر أمرهم وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم فيما نقلوا وتوثيقهم فيما قرؤوا ورووا وعلمهم بما يقرئون، ولم تخرج قراءتهم عن خط مصحفهم، فمنهم بالمدينة أبو جعفر وشيبة ونافع، وبمكة عبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج وابن محيصن، وبالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وبالشام عبد الله بن عامر وعطية بن قيس الكلابي ويحيى بن الحارث الزماري، وبالبصرة عبد الله بن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي. ثم إن القراء بعد ذلك تفرقوا في البلاد وخلفهم أمم بعد

ص: 23

أمم وكثر بينهم الخلاف وقل الضبط واتسع الخرق فقام الأئمة الثقات النقاد وحرروا وضبطوا وجمعوا وألفوا على حسب ما وصل إليهم وصح لديهم كما تقدم، فالذي وصل إلينا اليوم متواترا وصحيحا مقطوعا به قراءات الأئمة العشرة ورواتهم المشهورين؛ هذا الذي تحرر من أقوال العلماء، وعليه الناس اليوم بالشام والعراق ومصر والحجاز، وأما بلاد المغرب والأندلس، فلا ندري ما حالها اليوم لكن بلغنا عنهم أنهم يقرءون بالسبع من طرق الرواة الأربعة عشر فقط، وربما يقرءون ليعقوب الحضرمي، فلو رحل إليهم أحد من بلادنا لأسدى إليهم معروفا عظيما.

فثبت من ذلك أن القراءة الشاذة ولو كانت صحيحة في نفس الأمر فإنها مما كان أذن في قراءته، ولم يتحقق إنزاله، وأن الناس كانوا مخيرين فيها في الصدر الأول، ثم أجمعت الأمة على تركها للمصلحة وليس في ذلك خطر ولا إشكال لأن الأمة معصومة من أن تجتمع على خطأ.

ص: 24