الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع: "في ذكر من كره من العلماء الاقتصار على القراءات السبع
وأن ذلك سبب نسبتهم ابن مجاهد إلى التقصير"
اعلم أن العلماء إنما كرهوا ممن اقتصر على السبع من كان يعتقد أنها التي أردها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" وأنه يقول إن ما عداها شاذ وإلا لو اقتصر شخص على قراءة واحدة أو بعض قراءة غير معتقد بسببها اعتقادا خطأ يجوز له ذلك بلا خلاف بين العلماء من غير كراهة. قال الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي: فأما اقتصار أهل الأمصار في الأغلب على نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، فذهب إليه بعض المتأخرين اختصارا واختيارا فجعله عامة الناس كالفرض المحتم حتى إذا سمع ما يخالفنها خطأ وكفر وربما كانت أظهر وأشهر قال: ثم اقتصر من قلت عنايته على راويين لكل إمام منهم فصار إذا سمع قراءة راوٍ روى عنه غيرهما أبطلها وربما كانت أشهر قال: ولقد فعل مسبع هؤلاء ما لا ينبغي له أن يفعله وأشكل على العامة حتى جهلوا ما لا يسعهم جهله وأوهم كل من قل نظره أن هذه هي المذكورة في الخبر النبوي لا غير وأكدوهم السابق اللاحق. قال: وليته إذا اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل هذه الشبهة قلت: يعني ابن مجاهد ومن تبعه في الاقتصار على ذكر هؤلاء السبعة قال الجعبري في قصيدته نهج الدماثة:
وأغفل ذوا التسبيع مبهم قصده
…
فزل به الجم الغفير فجهلا
وناقضه فيه ولو صح لاقتدى
…
وكم حاذق قال المسبع أخطلا
قلت: يعني ابن مجاهد أيضا بكونه لم يعين مقصوده في جمع سبعة أئمة فتوهم الناس أنه جمع الأحرف السبعة التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم ولقد صدق الجعبري رحمه الله فإن هذه الشبهة قد استحكمت عند كثير من العوام حتى لو سمع أحد قراءة لغير هؤلاء الأئمة السبعة أو من غير هذين الراويين لسماها شاذة ولعلها تكون مثلها أو أقوى فقال في
شرحه: "وكم حاذق المسبع أخطلا" أي بعض المصنفين الحذاق قال: أخطأ الذي ابتدأ يجمع سبعة. قلت: والحق أنه لا ينبغي هذا القول وابن مجاهد اجتهد في جمعه فذكر ما وصله على قدر روايته فإنه رحمه الله لم تكن له رحلة واسعة كغيره ممن كان في عصره غير أنه رحمه الله ادعى ما ليس عنده فأخطأ بسبب ذلك الناس لأنه قال في ديباجة كتابه ومخبر عن القراءات التي عليها الناس بالحجاز والعراق والشام وليس كذلك بل ترك كثيرا مما كان عليه الناس في هذه الأمصار في زمانه كان الخلق إذ ذاك يقرؤن بقراءة أبي جعفر وشيبة وابن محيصن والأعرج والأعمش والحسن وأبي الرجاء وعطاء ومسلم بن جندب ويعقوب وعاصم الجحدري وغيرهم من الأئمة، وقد تقدم ذكر الذين كانوا يقرؤن زمن مشيخته بقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف نحو خمسين شيخا فكيف يقول: إنه مخبر عن القراءات التي عليها الناس بهذه الأمصار، وقد قال أبو علي الأهوازي، وغيره: هو الذي أخرج يعقوب من السبعة وجعل مكانه الكسائي؟ قيل: لأن يعقوب لم يقع إسناده له إلا نازلا، وأما جعفر فلم تقع له روايته وإلا فهو قد ذكر لأبي جعفر في كتابه السبعة من المناقب ما لم يذكره لغيره.
قلت فكان ينبغي أن يفصح بذلك أو يأتي بعبارة تدل عليه، وهو أن يقول مما عليه الناس أو الذي وصلني أو اخترت أو نحو ذلك لئلا يقع مقلدوه فيما لا يجوز على أنه خطأ في زعم أن ابن مجاهد أراد بهذه السبعة السبعة التي في الحديث حاشا ابن مجاهد من ذلك.
قال تلميذه الإمام أبو طاهر بن أبي هاشم: رام هذا الغافل مطعنا في شيخنا أبي بكر فلم يجده فحمله ذلك على أن قوله قولا لم يقله هو ولا غيره ليجد مساغا إلى ثلبه فحكى عنه أنه اعتقد أن تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" هو قراءات القراء السبعة الذين ائتم أهل الأمصار بهم فقال: على الرجل إفكا واحتقب عارا ولم يحظ من أكذوبته بطائل. وذلك أن أبا بكر كان أيقظ من أن يقلد مذهبا لم يقلد به أحد قبله ثم ذكر الحديث وذكر معناه على أنه سبع لغات وأخذ في تقرير ذلك. قلت: والذي قاله الأئمة أن ابن مجاهد لم يجعل القراء الذين في كتابه سبعة دون أن لا كانوا أكثر أو أقل إلا تأسيا بعدة المصاحف التي وجهت إلى الأمصار من عثمان رضي الله عنه وتبركا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف".
وقال الإمام شيخ الإسلام المجمع على علمه وفضله وولايته أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي رحمه الله في كتابه الذي ألفه في معاني حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف""فصل": ومن ذهب إلى أن الأحرف السبعة تغاير الألفاظ السبعة على
اختلاف حالاتها إنما في الأحرف المضافة إلى الأئمة السبعة الذين جمعهم ابن مجاهد فمن بعده من المؤلفين في كتب القراءات، وأن كل حرف من الأحرف المنزلة هو ما أخذ به واحد منهم، وهذا مذهب دون الوسط من المأثور والمشهور قائم به أهل مصر منها بواحد منهم في القراءة لكن كل من رضيه أهل مصر دينا وعلما واختيارا في القراءة تعلق به قوم أغبياء القراء والعوام قد قام ذلك في نفوسهم، وأولعوا به حتى إنهم ينكرون اختيار من تقدمهم في القراءة والحروف أو تأخر عنهم أو قارنهم ويشذذون حرف من عداهم، وإنما أتوا من حيث سبع أحرف عددا على ما جاء في لفظ الخبر وقد يجد فيهم من يتوهم أن تضاف، وقد ورد عليهم في جمعهم حروف القرآن كما لا يجوز بعد أن تضاف الحروف أو شيء منها إلى غيرهم، وقد كان الأئمة السبعة الأعلام الذين مضى ذكرهم من الدين والعلم بمكان علي ورتبة رفيعة غير أنه لا خلاف فيما بين من ينعقد بهم إجماع الأمة من العلماء أن المسلمين عن آخرهم على اختلاف الأعصار وتباين الديار كواحد منهم في القرآن بأحرفه السبعة وسائر مناهج الدين كلها تصريفا وتكليفا لأحدهم بالمسألة منها، وعليه ما على شكله إلا من خص من ذلك بشيء أو نص عليه وقام فيه دليل واضح، وحجة فاصلة نحو من أبيح له التختم بالذهب من الرجال أو رخص له لبس الحرير أو ضحى بجذعة من المعز فقيل له:"تجزئ عنك ولا تجزئ أحدا بعدك" 1 في غير ذلك مما يكثر تعداده، فلما لم يرد نص في ذلك بالأئمة السبعة ولم يكونوا مما اجتمعت على أن لا يجوز الاتحاد بحروف غيرهم
دل ذلك على عناق من ذهب إلى ما قدمناه من المذهب.
فإن قيل: فقد اجتمعت على الائتمام بهم وقبول اختياراتهم، فالجواب أن الأمر على ذلك أو قريب منه وهذه سنة الله في خلقه من أهله والعلماء من خواصه من حملة كتابه حفظا مع العلم به أن يجعلهم عليه من غير نزاع دون غيرهم من علماء الشرع لكن قبول هؤلاء السبعة لم يدل على رد غيرهم الإجماع دون اقترانهم وهذا بعد أن مضت برهة في الإسلام، ولم يكن يعرف فيها عدد من الرجال في اختيار حروف القرآن، ولم يكن المعتبر فيها عددا من الرجال إلى أن نشأت بدعة الخمسة في الأمصار ذا اختلافا للتابعين، وإن كان بعضهم شذ منهم وجمعوا الحروف
1 رواه أحمد في مسنده "4/ 282، 298، 303".
واختاروها رضيه1 الأمصار الأخر من غير أن عرف فرد اختيار أحد الخمسة في عصره في مصره أو غير مصره فوافق ذلك رضا المسلمين كافة لما كان أهل الأمصار الخمسة أمهات أمصار المسلمين وكانت علماؤها رؤساء سائر ذوي العلم في الإسلام، فهذا كان وجه قبول الخمسة أولا من جهة السبعة، وصار بذلك قبول اختياراتهم على صورة الإجماع على أن الناس قد كانوا يؤلفون في القراءات فيما بعد الأئمة الخمسة فيقدمون فيها ما يشاءون عددا من الأئمة الخمسة وغيرهم، ولم يكونوا ممن يعرفون التسبيع بحال بل لو كانت الأئمة الخمسة شعارهم في مؤلفاتهم وذكروا من أحبوا من الأئمة ممن كان على منهاجهم زيادة على عدد من اتحدوا بحروفه على نحو ما تجده في كتاب أبي حاتم وأبي عبيد وغيرهما فإنك تجد في كل واحد عددا كثيرا من الأئمة وحروفهم تجاوز الخمسة والسبعة والعشرة والعشرين إلى أن نشأ بعدهما ابن مجاهد من الدين لأنه لم يكن ممن لحق أبا حاتم ولا أبا عبيد بل نقل عن أصحابها فأضاف في تأليفه حمزة بن حبيب الزيات وعلي بن حمزة الأسدي لفضل عنايتهما بالقرآن وعلمهما، وآثارهما في ذمتهما وصحتهما في روايتهما، ولكن جزأيهما مما وقع إتلاف بأستاذ وقته فلذلك ألحقهما بالخمسة سبع كتابه بهما، وهذا بعد أن تربص مدة من الدهر بتأليف كتاب السبع يترجح فيما بين تقديم علي بن حمزة الأسدي وبين يعقوب بن إسحاق فيه إلى رأي من أحب أن يقدم عليا على يعقوب كذلك، فلما تبع الأئمة الخمسة في كتابه لحمزة وعلى وقع ما تقدم في هذا الفصل من الشبهة ما بين العوام فتوهم بعضهم أن الأحرف السبعة ما اختاره من الحروف هؤلاء السبعة الذين جمعهم ابن مجاهد في كتابه فمن بعده من المؤلفين إلى أن رأى أولو البصائر أن يزيدوا على الأنفس السبعة من المختارين لإزالة تلك الشبهة عن القلوب العوام، ولم يزيدوا من الأئمة السبعة إلى الأئمة الخمسة الذين كانوا في الأصل لأن ذلك تهما لحمزة وعلي بعد أن ألحقهما ابن مجاهد ومن ألف بعد بالخمسة، فلما لم يمكنهم ذلك ورأوا أن العوام قد ينكرون ما جاوز اختيارات السبعة زادوا في العدد على ما نجده من الثمانية فصاعدا، وهذا الذي زدته عمن زاد الأئمة على السبعة مع العلة الآتي ذكرها الموجبة ذلك على التخمين قلته لا عن سماع سمعته لكني لم أقف إبراهيم تثمينا في التصنيف أو تعشيرا أو تفردا لإزالة ولو اجتمع عدد لا يحصى
1 كذلك العبارة وهنا بياض يسير في الأصل لعله "رضيه أهل الأمصار" على ما يبدو للأستاذ الشيخ أحمد شاكر.
من الأمة فاختار كل منهم حروفا بخلاف صاحبه وجدد طريقا في القراءة على ضده في أي مكان كان وفي أي زمان أراد بعد الأئمة الماضين في ذلك يعدان ذلك المختار بما اختاره من الحروف لسرعة الاختيار بما كان بذلك خارجا عن الأحرف السبعة المنزلة بل فيها متسع وإلى يوم القراءة. انتهى كلام الإمام الرازي وهو كما ترى في غاية الإنصاف والمتانة.
فهذه معاشر الإخوان بغيتنا قد سطرناها لينظر فيها المنصف ويعتمد على ما يقع له أنه الحق جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن الذين أقاموا حروفه وفهموا معانيه بالتدبر والتفكير، رزقنا الله العمل بمقتضاه والوقوف عند حدوده والقيام بحقوقه والتحلي بثمرة خشية الله من حسن تلاوته وقد قيل في قول الله عز وجل:
{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] إن الظاهرة تلاوة القرآن ومعرفة قراءته، والباطنة معرفته وفهمه.
قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "تلاوة القرآن": حق تلاوته أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب الانزجار والاتعاظ والتأثر بالائتمار. فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ. وجاء رجل إلى أبي الدرداء بابنه فقال: يا أبا الدرداء إن ابني هذا قد جمع القرآن، فقال: اللهم غفرا إنما جمع القرآن من سمع له وأطاعه. وعن الشعبي في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] قال: أما أنه كان بين يديهم ولكن نبذوا العمل به. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كنا جلوسا نقرأ القرآن فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا فقال: "اقرءوا القرآن يوشك أن يأتي قوم يقرؤنه يقومون حروفه كما يقوم السهم لا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه" 1 وقال: "رب تالٍ للقرآن، والقرآن يلعنه".
اللهم اجعل القرآن حجة لنا ولا تجعله حجة علينا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على النحو الذي يرضيك عنا. اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا. اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. اللهم اجعل قلبي خزانة من خزائن توحيدك، وجوارحي من خدم طاعتك، ونفسي مطمئنة بقضائك وقدرك، وعملي عملا صالحا.
1 رواه البخاري في المناقب باب 25، والتوحيد باب 23، ومسلم في المسافرين حديث 275. وأبو داود في السنة باب 28، والترمذي في الفتن باب 24، والنسائي في الزكاة باب 79، والموطأ في القرآن حديث 10.
متقبلا لديك، وسيأتي مغفورة عندك، مستورة بحلمك، فكن لي عزيزا بالذل عندك، غنيا بالفقر إليك، آمنا بالخوف منك، منشرحا بالرضا بقسمتك، منعما بالنظر إلى وجهك الكريم في الدار الآخرة إنك على كل شيء قدير. اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء. اللهم ارزقنا فهما لشريعتك وحفظا لكتابك وقياما به عملا وعلما وتلاوة وجمعية عليك متصلة بالموت وذرية صالحة برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال المصنف: فرغت من تأليفه آخر نهار الأحد خامس عشري رجب الفرد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمنزلي بدرب هريرة داخل دمشق المحروسة وأجزت لجميع المسلمين روايته عني وجميع ما يجوز لي روايته. قاله وكتبه محمد بن محمد بن محمد بن الجزري الشافعي. قال المؤلف: إنني آخر ليلة فرغت من هذا التأليف رأيت وقت الصبح، وأنا بين النائم واليقظان كأني أتكلم مع شخص في تواتر العشر غير متواتر، فإن التواتر قد يكون عند قوم دون قوم، ولم اطلع على بلاد الهند والمطايا، وأقصى المشرق وغيره فيحتمل أنها تكون عندهم متواترة إذ لم يصلنا خبرهم، وألهمت أن ألحق ذلك الكتاب وهذا عجيب والله تعالى أعلم. كتبه محمد بن محمد بن محمد بن الجزري.
الحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلاته وسلامه الأتمان الأكملان على أشرف المرسلين وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين ورسول رب العالمين سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
ووافق الفراغ من تعليقه في يوم الجمعة المبارك ثالث رمضان المبارك من شهور سنة ثمان وثلاثين وألف من الهجرة النبوية على مشرفها أفضل الصلاة والسلام على يد أقل العبيد وأفقرهم وأحوجهم إلى مولاه محمد بن علي بن علي بن علي السنجيدي الأحمدي غفر الله له ولوالديه ولطف به ونفعه ببركة مؤلفه وذلك بالجامع الأزهر المبارك سنة تاريخه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله وحده.