الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: "في أن العشر لا زالت مشهورة من لدن قرئ بها إلى اليوم
لم ينكرها أحد من السلف ولا من الخلف"
هذا شيء لا يشك فيه أحد العلماء، وما زال المقرئون أحد رجلين: إما مقرئ بما زاد على السبعة بل والعشرة، وإما مقرئ بالسبعة فقط غير منكر على من أقرأ بالعشرة أو الثلاثة الزائدة عليها وهي قراءة الحسن البصري وابن محيصن المكي وسليمان الأعمش وقرأنا بذلك عن شيوخنا، وقرءوا كذلك على شيوخهم، ولم ينكر أحد علينا، وشهد في أجايزنا بها علماء الإسلام الأعلام لكن لا يرون الصلاة بهذه القراءات الثلاثة الزائدة على العشر لكثرة انفرادها عن الجادة مثل شيخنا العلامة المجتهد سراج الدين عمر البلقيني شيخ الإسلام، وشيخنا شيخ الفقهاء جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي الإمام وشيخنا الإمام لعلامة ضياء الدين القزويني مفتي الأنام، وشيخنا العلامة الحافظ الحجة إسماعيل بن كثير حافظ الإسلام، ومفتي الشام رحمهم الله تعالى، وضاعف رحمته ووالى. وأما العشر فأجمع الناس على تلقيها بالقبول لا ينازع في ذلك إلا جاهل.
وسئل الإمام أبو حيان محمد بن يوسف المقرئ النحوي، فقيل له صورته: ما يقول -الشيخ العلامة شيخ وقته وفريد دهره جامع أشتات الفضائل ترجمان القرآن حسنة الزمات أثير الدين أبو حيان فسح الله في مدته، ونفع المسلمين ببركته ومدته- فيما تضمنه التيسير والشاطبية هل حويا القراءات السبع التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم أم هي بعض من السبعة؟ وفي القراءات العشر هل تجوز قراءتها والإقراء بها أم لا يجوز؟ وهل قرئ بها في الأمصار، وتلقتها الأمة بالقبول أم لا؟ أجاب بما صورته، ومن خطه نقلت: الله الموفق؛ التيسير لأبي عمرو الداني والشاطبية لابن فبره لم يحويا جميع القراءات السبع، وإنما هي نزر يسير من القراءات السبع، ومن عني بفن القراءات، وطالع ما صنفه علماء الإسلام في القراءات على ذلك العلم اليقين، وذلك أن بلادنا جزيرة الأندلس لم تكن من قديم بلاد إقراء للسبع لبعدها عن بلاد الإسلام، وانقطاع المسلمين فيها ولأجل فرض
الحج رجل منها نويس فاجتازوا بديار مصر وتحفظوا ممن كان بها من المقرئين شيئا يسيرا من حروف القراءات السبع، وكان المقرئون الذين كانوا إذ ذاك بمصر لم يكن لهم روايات متسعة، ولا رحلة إلى غيرها من البلاد التي اتسعت فيها الروايات كأبي الطيب بن غلبون وابنه أبي الحسن طاهر وأبي الفتح فارس بن أحمد وابنه عبد الباقي وأبي العباس ابن نفيس، وكان بها أبو أحمد السامري وهو أعلاهم إسنادا.
وسبب قلة العلم والروايات بديار مصر ما كان غلب على أهلها من تغلب الإسماعيلية وقتل ملوكهم للعلماء، وكان من قدماء علمائنا من حج ورحل أبو عمرو الطلمنكي مصنف كتاب "الروضة" فأخذ بمصر شيئا يسيرا من القراءات السبع وكان قد رحل من القيروان للحج أبو محمد مكي بن أبي طالب، فأخذ عن ابن كدي وعن أبي الطيب بن غلبون أيضا يسيرا من حروف السبعة، ورحل أيضا أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن الخزرجي المعروف بالأستاذ مؤلف كتاب "القاصد" ثم رحل أبو عمرو عثمان بن سعيد القرطبي المعروف بالداني لطول إقامته بدانية، فأخذ عن ابن خاقان وفارس بن أحمد وطاهر بن غلبون وصنف كتاب "التيسير" وغير ذلك. وأقام الطلمنكي بغرب الأندلس يقرئ بتصنيفه كتاب "الروضة" وقدم مكي بن أبي طالب الأندلس وأقام بقرطبة يقرئ بكتاب "التبصرة" من تأليفه وأقام الداني بشرقي الأندلس يقرئ بكتاب "التيسير" وأقام صاحب "القاصد" بقرطبة يقرئ الناس بكتابه فقرأ الناس على هؤلاء ورحلوا إليهم إذ لم يكن ببلادهم من يضاهيهم -واشتهر هؤلاء بالأندلس وتصانيفهم هذه وفي بعضها ما يخالف بعضا ولم يقع أحد من العلماء ولا من قضاة الإسلام هنالك إنكار لشيء من ذلك بل رووا ما رووا من ذلك.
ثم تتابع الناس إلى الحاج منهم أبو عبد الله محمد بن شريح مؤلف كتاب "الكافي" وأبو الحسن يحيى بن أبي زيد المعروف بابن البيار وأبو بكر محمد بن المفرح الأنصاري وغيرهم فقرأوا بمصر، وأبو محمد عبد الوهاب صاحب كتاب "الفتاح". ودخل بعض هؤلاء الشام وأخذوا على الأهوازي، ورحل بعضهم إلى حران وبعضهم إلى بغداد فاتسعت رواياتهم قليلا. ورحل أيضا أبو القاسم يوسف بن جبارة الأندلسي فأبعد في المشقة، وجمع بين طرفي المغرب والمشرق، وصنف كتاب "الكامل" إلى أن قال: وقد أقرأ القرآن بقراءة يعقوب أبو عمرو الداني، وكان قد قرأ بها بمصر. ثم سرد بعض من أقرأ بغير السبع إلى أن قال: وتلخص من هذا كله اتساع روايات غير أهل بلادنا، وأن الذي تصمنه التيسير والتبصرة والكافي وغيرها من تأليف أهل بلادنا إنما هو قل من كثر
ونزر من بحر، وبيان ذلك أن في هذه الكتب مثلا قراءة نافع من رواية ورش وقالون، وقد روى الناس عن نافع غير ورش وقالون، منهم إسماعيل بن جعفر المدني وأبو خليد وابن جماز والأصمعي والمسيبي وغيرهم وفي هؤلاء من هو أعلم وأوثق من ورش وقالون، ثم روى أصحابنا رواية ورش عن أبي يعقوب عن الأزرق، ولم يتسع لهم أن يضمنوا كتبهم رواية يونس بن عبد الأعلى وداود بن أبي طيبة وأبي الأزهر قرءوا على ورش، وفيهم من هو أعلى وأوثق من ورش، وهذا أنموذج مما روى أصحابنا في كتبهم، وكذا العمل في كل قارئ قرأ وكل راوٍ روى من الأربعة عشر روايا الذين ضمنهم أصحابنا كتبهم.
وأما أن هذه القراءات السبع التي حواها التيسير لأبي عمرو الداني هي التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه أنه قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" 1 فليس كذلك، وتفسير الحديث بهذه القراءات السبع خطأ فاحش وجهل من قائله، ولم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها إلا في قرن الأربعمائة جمعها أبو بكر بن مجاهد، ولم يكن متسع الرواية والرحلة كغيره ممن هو أوسع رحلة وأجمع للروايات. وأما هل يجوز أن يقرأ القارئ بالقراءات العشر؟ وهل قرئ بها في أمصار المسلمين؟ نعم يجوز ذلك، وقرئ بها في أمصار المسلمين لا نعلم أحدا من المسلمين حظر القراءة بالثلاث الزائدة على السبع، وهي قراءة يعقوب واختيار خلف وقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع، فأما قراءة يعقوب فإنه قرأ بها على سلام الطويل وقرأ سلام على أبي عمرو بن العلاء، فسلام كواحد ممن قرأ على أبي عمرو وكأبي محمد اليزيدي وغيره. وقرأ سلام أيضا على عاصم بن أبي النجود فسلام كواحد ممن قرأ على عاصم كأبي بكر بن عياش وغيره، وأما اختيار خلف فهو وإن خالف حمزة فقد وافق واحدا من الستة القراء، وأما أبو جعفر يزيد بن القعقاع فروى عنه قراءته أحد القراء السبعة، وهو نافع بن عبد الرحمن وأقرأ بها القرآن، ورواها عنه جماعة منهم قالون، وكان أبو جعفر قد عرض القرآن على حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعرض عبد الله بن عباس على أبي بن كعب رضي الله عنه، وعرض أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم ورع المسلمين عبد
1 رواه البخاري في فضائل القرآن باب 5. ومسلم في المسافرين حديث 264، 270. وأبو داود في الوتر باب22 والترمذي في القرآن باب9. والموطأ في القرآن حديث 5 وأحمد في مسنده "1/ 24، 40، 43".
الله بن عمرو رضي الله عنهما أبا جعفر يزيد بن القعقاع يؤم الناس بالكعبة، وصلى ورواه عبد الله بن عمر؛ كتبه وقاله أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي.
قلت: وقد سأل الإمام أبو حيان هذا الإمام المجتهد أبا العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية عن هذه المسألة فقال في الجواب: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة فقط، بل أول من جمع قراءاتهم ابن مجاهد، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراق والشام واختيار القراء السبعة لا لاعتقاده أن قراءتهم هي الحروف السبعة المنزلة إلى أن قال: ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده كمن يكن في بلد بالمغرب أو غيره فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه، فإن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، ولكن ليس له أن ينكر على من علم مالم يعلمه من ذلك. وقال الحافظ مؤرخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله بن أحمد الذهبي في ترجمة ابن شنبوذ: وما رأينا أحدا أنكر الإقرار بمثل قراءة يعقوب وأبي جعفر، وإنما أنكر من أنكر القراءة بما ليس بين الدفتين.