الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: "في حكاية ما وقفت عليه من أقوال العلماء فيها
"
قال الإمام محيي السنة وخير الأمة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في أول كتابه "معالم التنزيل": ثم إن الناس كما أنهم متعبدون باتباع أحكام القرآن وحفظ حدودية فهم متعبدون بتلاوته وحفظ وحروفه على سنن خط المصحف الإمام الذي اتفقت الصحابة عليه رضي الله عنهم وأن لا يجاوزوا فيما وافق الخط ما قرأته القراء المعروفون الذين خلفوا الصحابة والتابعين واتفقت الأمة على اختيارهم، وقد ذكرت في هذا الكتاب قراءة من اشتهر منهم بالقراءة واختياراتهم. وعد التسعة ولم يذكر خلفا. قلت: وحسبك بهذا الإمام إذا حكى اتفاق الأمة عليها وكونه لم يذكر خلفا لأنه لا يخالف في حرف فقراءته مندرجة معهم. ونقل الجعبري عن الإمام مهران أنه قال عنها: كلها حق وليس أحدهما أولى من الآخر.
وقال الإمام حافظ المشرق المجمع على فضله أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني في أول كتابه الذي سماه "غاية الاختصار في قراءة العشرة أئمة الأمصار": أما بعد فهذه تذكرة في اختلاف القراء العشرة الذين اقتدى الناس بقراءاتهم وتمسكوا فيها بمذاهبهم من أهل الحجاز والعراق والشام واقتصرت فيها على الأشهر من الطرق والروايات وأرجأت وحشيها ونادرها ومنكرها ونافرها وقدم على الجميع أبا جعفر ويعقوب على الكوفيين وأجرى الثلاثة مجرى السبعة. وتقدم قول الحافظ المجتهد أبي عمرو بن الصلاح في الباب الثاني وهو يشترط أن يكون المقروء به قد تواتر نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا واستفاض نقله كذلك وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول فما لم يوجد فيه ذلك كما عدا السبع أو كما عدا العشر فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة.
قلت: وهذا نص على تواتر القراءات العشر. وقال إمام المغرب أبو بكر بن العربي في كتابه "المقتبس" بعد أن ذكر القراءات السبع: وليست هذه الروايات بأصل
للتعيين بل ربما خرج عنها ما هو مثلها أو فوقها كحروف أبي جعفر المدني وغيره. وقال الإمام الحافظ مجتهد العصر أبو العباس أحمد بن تيمية في الجواب المتقدم في الباب الثالث قال بعض أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانة يعقوب إلى أن قال ابن تيمية: ولم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة يعني السبع بل من ثبتت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة أو قراءة يعقوب ونحوهما كما ثبتت عنده قراءة حمزة والكسائي قله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين، بل كثير من الأئمة الذين أدركوا حمزة كابن عيينة والإمام أحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم يختارون قراءة أبي جعفر وشيبة بن نصاح وقراءة البصريين على قراءة حمزة والكسائي إلى أن قال: ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشر ولكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده كمن يكون في بلد بالمغرب فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه فإن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول ولكن ليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك. وللشيخ برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري رحمه الله رسالة ذكر فيها أن القرآن وصل إلينا متواترا بأحرفه السبعة التي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا عجب منه مع جلالة قدره ولو كان هذا الكلام من غيره لقلنا عنه إما أن يكون ما يدري الأحرف السبعة ما هي أو ما يدري التواتر ما هو وحاشاه من ذلك. ثم إنه ذكر فيها أنه لا فرق بين قراءات الأئمة السبعة وبين قراءة أحد الثلاثة. قال في كتاب "خلاصة الأبحاث في شرح القراءات الثلاث" بعد أن سمى الثلاثة وبعض رواتهم؛ فهذه كلها من جملة الأحرف السبعة المذكورة في الحديث وقد صرح بهذا جماعة، ثم نقل كلام الحافظ أبي العلاء المتقدم ثم قال: فقراءة هذه الثلاثة من جملة العشر التي تمسك بها وهي أشهر من غيرها، ولقد كان نقلة وجوه القراءات خلقا يعسر حصرهم كشيبة بن نصاح وابن جندب وابن هرمز وابن محيصن والأعمش وعاصم الجحدري وأمثالهم، فلما طالت المدة وقصرت الهمم اقتصر على بعضهم وكان هؤلاء إما لتصديهم للاشتغال أو لأنهم شيوخ المقتصر ولو عين غيرهم لجاز أو غير هؤلاء الرواة عنهم جاز. قال: وخفي هذا الأمر على أكثر المقرئين حتى لو نسبت قراءة أحد هؤلاء إلى من هو في سلسلة السند بعد أو قبل لقال شاذة، فإذا عزيت إلى أحدهم قال مشهورة. قلت: هذا كلام صحيح لا مرية فيه. وقال الإمام مجتهد عصره أبو الحسن السبكي في كتابه "شرح المنهاج" في صفة الصلاة في الركن الرابع فرع قالوا: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبع ولا تجوز بالشاذ. وظاهر هذا الكلام يوهم أن
غير السبع المشهورة من الشواذ وقد نقل البغوي في أول تفسيره الاتفاق على القراءة بقراءة يعقوب وأبي جعفر مع السبع المشهورة قال: وهذا القول هو الصواب.
واعلم أن الخارج عن السبع المشهورة على قسمين: منه ما يخالف رسم المصحف فهذا لا شك في أنه لا تجوز القراءة به لا في الصلاة ولا في غيرها، ومنه ما لا يخالف رسم المصحف ولم تشتهر القراءة به وإنما ورد من طرق غريبة لا يعول عليها وهذا يظهر لمنع من القراءة به أيضا، ومنه ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن قراءة به قديما وحديثا فهذا لا وجه للمنع منه، ومن ذلك قراءة يعقوب وغيره. قال البغوي: أولى من يعتمد عليه في ذلك فإنه مقرئ فقيه جامع للعلوم. قال: وهكذا التفصيل في شواذ السبع فإن عنهم شيئا كثيرا شاذا. قلت: هذا الكلام هو الصحيح الذي لا محيد عنه فدونك من هذا الإمام عض عليه بالنواجذ. وسئل ولده شيخنا الإمام قاضي القضاة عبد الوهاب عن قوله في كتابه "جمع الجوامع في الأصول": والسبع متواترة مع قوله والصحيح أن ما وراء العشرة فهو شاذ إذا كانت العشر متواترة فلم لا قلتم والعشر متواترة بدل قولكم والسبع؟ فأجاب: أما كوننا لم نذكر العشر بدل السبع مع ادعائنا تواترها فلأن السبع لم يختلف في تواترها وقد ذكرنا أولا موضع الإجماع ثم عطفنا عليه بموضع الخلاف على أن القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط ولا يصح القول به ممن يعتبر قوله في الدين وهي -أعني القراءات الثلاث- قراءة يعقوب وخلف وأبي جعفر بن القعقاع لا تخالف رسم المصاحف.
ثم قال: سمعت الشيخ الإمام -يعني والده مجتهد العصر أبا الحسن السبكي- يشدد النكير على بعض القضاة وقد بلغه عنه أنه منع القراءة بها واستأذنه بعض أصحابنا في إقراء السبع فقال: أذنت لك أن تقرئ العشر. قلت: نقلته من كتابه "منع الموانع على سؤالات جمع الجوامع" وقد جرى بيني وبينه رحمه الله في ذلك كلام كثير وقلت له ما معناه: كان ينبغي أن تقول والعشر ولا بد. فقال لي: أردنا التنبيه على الخلاف فقلت: يا سيدي وأين الخلاف وأين القائل بالخلاف ومن نص من الأئمة أو غيرهم على أن قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف غير متواترة؟ فقال: يفهم من قول ابن الحاجب والسبع متواترة. فقلت: أي سبع وعلى تقدير أن يقول هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي مع أن كلام ابن الحاجب ما يدل على ذلك فقراءة خلف لا تخرج عن قراءة أحد منهم أبدا بل ولا عن قراءة عاصم وحمزة والكسائي في حرف واحد، فكيف يقول أحد بعدم تواترها مع ادعائه تواتر السبع؟ وأيضا فلو قلنا إن
مراده قراءة هؤلاء السبعة فمن أي رواية ومن أي طريق ومن أي كتاب؟ فالتخصيص لم يدعه ابن الحاجب ولو ادعاه لما سلم إليه ولا يقدر عليه بقي الإطلاق وهو كل ما جاء عن السبعة فقراءة يعقوب وأبي جعفر فيما انفردا به جاءت عن السبعة. فقال لي رحمه الله. فمن أجل هذا قلت: والصحيح أن ما وراء العشرة فهو شاذ ما يقابل الصحيح إلا فاسد، وظهر منه في تلك الحالة أنه بدا له تغيير السبع بالعشر فلم يمهل وانتقل إلى رحمة الله تعالى. وأنشدته يوما من أول قصيدتي هداية المهرة في تتمة العشرة:
وبعد فإني ناظم الأحرف الثلا
…
ثة الغر نظما موجزا ومفصلا
لمن أتقن السبع القراءات وهو يط
…
لب العشر والطرق العوالي مكملا
فكم من إمام قال فيها تواترت
…
وإجماع أهل العصر في ذا تنزلا
وذا الحق وهو الاعتقاد بلا مرا
…
فتتلو بها في الفرض مع غيره كلا
فاستحسنها كثيرا ثم سألته أن يكتب لي شيئا في هذا المعنى يشفي القلب فقال لي: اكتب لي فتوى أكتب لك عليها فكتبت له ما صورته:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في القراءات العشر التي يقرأ بها اليوم، هل هي متواترة أو غير متواترة؟ وهل كل ما انفرد به واحد من الأئمة العشرة بحرف من الحروف متواتر أم لا؟ وإذا كانت متواترة فماذا يجب على من جحددها أو حرفا منها؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم أجمعين. فأجابني ما صورته ومن خطه نقلت: الحمد لله؛ القراءات العشر -السبع التي اقتصر عليها الشاطبي والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف- متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة متواتر معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكابر في ذلك إلا جاهل، وليس التواتر في شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات بل هي متواترة عند كل مسلم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ولو كان مع ذلك عاميا جلفا لا يحفظ من القرآن حرفا، ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لا تسع هذه الورقة شرحه وحظ كل مسلم وحقه أن يدين الله تعالى ويجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر معلوم باليقين لا تتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه والله تعالى أعلم؛ كتبه عبد الوهاب السبكي الشافعي.
قلت: ولو عاش رحمه الله حتى وقف على هذا المؤلف لأنصف ولكتب عليه كما كان يتفضل في غيره من تآليفي رحمه الله تعالى.
وأما قول الشيخ علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي في آخر كتابه
"جمال القراء": واعلم أن أئمة الدين وعلماء المسلمين أجمعوا على قراءات السبعة حين اعتبروا قراءاتهم وتدبروا روايتهم وعلموا ثقتهم وعدالتهم وإنما سلكوا المحجة ونكبوا عن بنيات الطرق ورفضوا الشاذ واعتمدوا على الأثر وهجروا من خالف ذلك ولم يأخذوا عنه وتركوا قراءة من كان يرى جواز القراءة بما يجوز في العربية وإن لم يرجع إلى آثار مروية عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"1. ا. هـ. فقد يتشبث به من لا تحقيق عنده ولا إنصاف. واعلم أنه صريح في عدم صحة قراءات الثلاثة أو غيرها مما عدا السبعة، وغاية ما يدل هو عليه أن الأئمة أجمعوا على قراءات السبعة ونحن نقول بذلك ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون ما عدا السبعة ليس بصحيح وهذا بعينه كقول الإمام محيي السنة البغوي المتقدم في أول هذا الباب حيث حكى اتفاق الأمة على قراءاتهم بل هو أبلغ، ولا يلزم أيضا أن يكون ما وراء العشرة غير صحيح. وأما قول السخاوي وتركوا قراءة من كان يرى جواز القراءة بما يجوز من العربية ولم يرجع إلى آثار مروية فإنه لا يريد بذلك أحدا من الأئمة الثلاثة ولا من رواتهم، وإنما عبر بذلك أبو بكر بن مقسم فإنه كان يرى ذلك وقد أنكر عليه أئمة زمانه ذلك فأحضر واستتيب وكتب عليه محضر بذلك وبرجوعه كما أثبتنا ذلك في كتابنا المسمى بتاريخ القراء وغيره.
ومما يوضح أن السخاوي رحمه الله لم يرد أن قراءة الثلاثة غير صحيحة ولا أنها شاذة ولا أنها لا تجوز التلاوة بها أنه قرأ القرآن كله بالقراءات العشر وما زاد عليها على شيخه الإمام العلامة أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي بدمشق. وقرأ أيضا بالقراءات العشر على الشيخ أبي الفضل الغزنوي بمصر، وقرأ أيضا بعدة كتب في القراءات سوى الشاطبية والتيسير على الشيخ أبي الجود غياث بن فارس بمصر أيضا، وذلك كله بعد قراءته على الشاطبي رحمه الله. وروى كتاب المصباح في القراءات العشر والروايات الكثيرة لأبي الكرم الشهرزوري عن داود بن ملاعب، ونقل منه ما نقل من الغرائب في كتاب "جمال القراء" ولكنه رحمه الله كان مشغوفا بالشاطبية معنيا بشهرتها معتقدا في شأن مؤلفها وناظمها رحمه الله تعالى، ولهذا اعتنى بشرحها فكان أول من شرحها وهو الذي قام بشرحها بدمشق وطال عمره واشتهرت فضائله فقصده الناس من الأقطار فاشتهرت الشاطبية بسببه وإلا فما كان قبله تعرف الشاطبية ولا تحفظها. وكان أهل مصر
1 رواه ابن ماجه في المقدمة باب 7. والنسائي في العيدين باب 22.
أكثر ما يحفظون العنوان لأبي الطائف مع مخالفته لكثير مما تضمنته الشاطبيه، وكان أهل العراق لا يحفظون سوى "الإرشاد" لأبي العز ولهذا نظمه كثير من الواسطيين والبغداديين، ولولا ما وقع من فتنة هؤلاء بالعراق وفتنة الجنكزخانيين، ببلاد العجم وما وراء النهر وقتل من قتل من أهل القراءات وغيرهم لما اشتهر فيها الشاطبية ولا التيسير كما هو معلوم عند العلماء المحققين الذين تعتبر أقوالهم ولهم على أكفا اطلاع يحصر.
وأما قول الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في كتاب "التبيان" مما يفهم رد ما زاد على العشرة فقد أباه الأئمة المحققون والفقهاء المدققون كما تقدم الإشارة إليه من كلام السلف والخلف وغيرهم إذ مدار صحة القراءة على الأركان الثلاثة المتقدمة فهو الحق الذي لا محيد عنه والحق أحق أن يتبع والله الولي الموفق.