الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[خامسا تنبيهات حول الجهاد اليوم]
[الخوض في وجوب الجهاد وعدمه عند المستجدات كلام في حكم الله]
خامسا: تنبيهات حول الجهاد اليوم: ينبغي لمن أراد الله والدار الآخرة أن يتأمل فيما شرعه الله ولا يأخذ الأمور باستعجال أو غيرة مجردة عن العلم المحكم لأننا مأمورون أن نعبد الله جل وعلا كما يريد لا كما نريد.
ولذا فثم تنبيهات تهم المسلم في هذا الزمان بثها أهل العلم في كتبهم وسطروها في فتن مشابهة لحالنا اليوم.
1 -
الخوض في وجوب الجهاد وعدمه عند المستجدات كلام في حكم الله وهذا إنما يكون لخاصة الناس وهم أهل العلم الراسخون والفقهاء المتمكنون. قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ولما ذكر شيخ الإسلام أمر قتال أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمرتدين ولمسيلمة الكذاب ثم تعرض لقتال البغاة والخوارج وما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قال "وفي الجملة البحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم (1) .
وشتان بين تقرير مسائل الجهاد نظريا وبين تطبيقها عمليا، فهذا مما تختلف فيه أنظار الناس، ومن أجل ذلك أطبق علماء المسلمين على قاعدة
(1) منهاج السنة (4 / 504) .
متينة عظيمة وهي:
أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أسهل لذلك ويجعل إلى أهله ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ (1) .
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسير هذه الآية: "فيه نهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، وفيه الأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه أم لا فيحجم "، وقال: " ينبغي للعباد إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها.
(1) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي الجزء الثاني ص 55، 54 ط: السلفية 1375 هـ.
فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة، أو فيه مصلحة لكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه (1) .
ومن أجل ذلك قرر أئمة أهل السنة والجماعة أن الجهاد من صلاحيات الإمام ومسئولياته وليس لأحاد الناس واجتهاداتهم.
روى ابن عبد البر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا فاسق بين فسقه، ولكن أخاف عليها رجلا قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه تأوله على غير تأويله (2) .
وكان أصحاب معاوية رضي الله عنه جلوسا عنده فقال: "إن أغرى الضلالة لرجل قرأ القرآن فلا يفقه فيه فيعلمه الصبي والعبد والمرأة والأمة فيجادلون به أهل العلم (3) وإذا اشتبهت هذه المسائل عند من يؤمن بالله ويريد رضاه فعليه بالاقتداء بفعل العلماء الراسخين الذين شهد لفهم عموم الناس بذلك، ولا ينزل الجهلة منزلة العلماء.
(1) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي الجزء الثاني ص 55، 54 ط: السلفية 1375 هـ.
(2)
جامع بيان العلم وفضله ص 568.
(3)
جامع بيان العلم وفضله ص 567.
وإن من أهم الصفات التي لا بد من توفرها لدى من يسأل عن مثل هذه العظائم أن يكون ملما بمقاصد الشريعة مدركا لها قال الشاطبي في الموافقات: " أول شرط لبلوغ درجة الاجتهاد هو فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والشرط الثاني والأخير هو التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (1) .
وتكلم ابن السبكي عن من يجوز تقليده فصرح بأن العالم إذا تحققت له رتبة الاجتهاد، ولها الاطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها، جاز تقليده كما قلد الشافعي وغيره من الأئمة (2) .
وإذا تكلمنا عن النظر إلى مقاصد الشريعة هنا فليس في هذا انحراف عن جادة الحق بل هو لزوم لها، قال الشاطبي: " فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله (3) .
(1) الموافقات (4 / 106، 105) .
(2)
شرحه للمنهاج (1 / 55) .
(3)
(4 / 107، 106) .
وقال: " فمنزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه (1) .
وقال: "الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها - أي دليل كان - وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل فإنما هو توهمي لا حقيقي (2) .
وقال: "فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا"، وقال: "وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما - أي دليل كان - عفوا وأخذا أوليا وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي (3) .
لأجل مقاصد الشريعة أوقف عمر رضي الله عنه حد السرقة عام المجاعة، وفي مثل ما حصل في زماننا، نقول ما قال الشاطبي رحمه الله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت تلك الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو
(1) الموافقات (4 / 170) .
(2)
الاعتصام (2 / 245) .
(3)
الاعتصام (2 / 245) .
بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل (1) .
ولأجل هذه المعاني التي لا يدركها كثير من الناس اليوم قرر العلماء أن الفتوى تقدر زمانا ومكانا وشخصا، ولا يحصل هذا التقدير إلا باعتبار المآلات والآثار، ولذا عقد ابن القيم فصلا في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان في كتابه "إعلام الموقعين "، ويشهد لهذه المعاني التي لا يدركها كل أحد امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع أنه يعلم كثيرا منهم ويعلم استحقاقهم للقتل، وكان يقول:" «أخاف أن يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه» "، وترك هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها:" «لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم. . .» " وجاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه ما فقال: ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ قال: " لا إلا النار" فلما ذهب السائل قيل لابن عباس: أهكذا تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة. قال: " إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا " فلما تبعوه وحققوا في الأمر وجدوه كذلك (2) .
(1) الموافقات (4 / 162) .
(2)
تفسير القرطبي (4 / 97) .
ومن تحققت فيه هذه الصفات العزيزة نسميه كما سماه الشاطبي ربانيا وراسخا في العلم وعاقلا فقيها لأنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، وغيره يجيب عن السؤال ولا يبالي بالمآل (1) .
هذا وإن من أعظم المقاصد في الشريعة: الجماعة وإعزاز الدين وتقوية المسلمين، كما أن من المآلات الوخيمة: الفرقة وتوهين المسلمين.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى: "ومن عرف القواعد الشرعية عرف ضرورة الناس وحاجتهم في أمر دينهم ودنياهم إلى الإمامة والجماعة (2) .
والعمل لا يحصل معه إعزاز للدين إلا إذا كان متابعا للسنة مقتفيا فعل السلف ومبنيا على كلام الراسخين الربانيين الذين نظروا في المآلات قبل الجواب عن السؤالات.
ولأجل عظمة سؤال العلماء حقا وأهل الفقه صدقا تأمل كلام ابن مسعود رضي لله عنه: " لا يزالا الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من
(1)(4 / 232) الموافقات.
(2)
الدرر السنية (9 / 19) .
أصحاب محمد ومن أكابرهم فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا (1) .
ويعد بيان هذا الأمر احذر من الوقوع فيما حذر منه عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث قال: إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة (2) .
وإذا التبست عليك الأمور في أي مسألة وبدا لك أن الناس تفرقوا، ولم تدر أين الصواب فعليك بالعتيق، وعليك بالجماعة قبل أن تفسد، كما قال جمع من السلف، نقل ابن القيم عن نعيم بن حماد قوله: "إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ (3) .
ولقد كنا قبل سنين على قول واحد في مسألة الجهاد، وأنه فرض كفاية مع أن إخواننا المسلمين في فلسطين يقتلون ويشردون، وكل يوم نسمع ونشاهد شيئا من مآسيهم، ولم يصدر عن أحد من أهل العلم أن الجهاد في فلسطين فرض عين على جميع المسلمين مع أن حال المسلمين هناك
(1) الطبراني (9 / 8589) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ص (248) وغيرهما.
(2)
رواه الإمام أحمد في الزهد ص 48 والدارمي (1 / 347) .
(3)
إعلام الموقعين (3 / 397) .
أشد من حال غيرهم مما حصل بعدهم، وقد كان الناس من أيام مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله على هذا واستمروا عليه بعده ، فما الذي تغير؟ .
هل ما حصل من الأحداث والحروب بعد فلسطين أخرج حقا وصوابا مختفيا مع بقاء اليهود في القدس منذ زمن يفعلون الأفاعيل؟ .
بل ويتهم من خالف هذا القول الجديد بالاتهامات الباطلة؟ ولما جاءت أحداث البوسنة والهرسك ثم أحداث الشيشان سئل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى - عن وضع المسلمين في البوسنة والهرسك وما يمرون به من تدمير يقصد به استئصال شأفة المسلمين في أوربا، فهل بعد ذلك التدمير والإبادة وهتك الأعراض نشك أن الجهاد في تلك الأرض هو فرض عين؟ .
فأجاب -رحمه الله تعالى-: " سبق أن بينا أكثر من مرة أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين "(1) .
وقال الشيخ صالح الفوزان: "وكون الجهاد فرضا [على الأعيان](2) إذا
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18 / 312) .
(2)
ما بين معكوفتين ليست في المكتوب من فتاوى الشيخ صالح الفوزان وإنما زادها بيده حفظه الله تعالى مع قراءته لهذا البحث.